البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [مقدمة
المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه
وسلم
الحمد لله الكبير المتعال ، العزيز المهيمن ذي
العظمة والجلال، المنفرد بصفات الكمال، المنزه
عما نحله أهل الزيغ والضلال، المعبود بكل
مكان، والمسبح بكل لسان، في كل حين وأوان،
مصرف الأزمنة والدهور، وجاعل الظلمات والنور،
وباعث من في القبور يوم النشور، ليجازي المحسن
بإحسانه الذي هداه إليه، ويعاقب المسيء على
إساءته التي قدرها عليه، بإرادته السابقة،
وحكمته البالغة، لا لنفع يصل إليه بطاعة
المطيعين، ولا لضر يلحقه بعصيان العاصين ،
تعالى الله عن ذلك أعدل الحاكمين، خلق الإنسان
من سلالة من طين، ثم جعله نطفة من ماء مهين،
في قرار مكين، ثم نفخ فيه من روحه وأنشأه
خلقاً آخر في أحسن تقويم، وهدى بفضله من شاء
منهم إلى الصراط المستقيم، ووفقه لما ارتضاه
من الدين القويم، الذي جعله طريقاً إلى ما
أعده لأوليائه من الكرامة في جنات النعيم،
ورفع فيها درجات من أراد به خيراً ففقهه في
الدين، وجعله مقتفياً لآثار من سلف من الأئمة
المهتدين، حمداً يقتضي رضاه، ويوجب المزيد من
زلفاه. وصلى الله على محمد نبي الرحمة،
[والداعي وصلى الله على محمد نبي الرحمة،
[والداعي إلى ربه] وهادي الأمة، وخاتم
النبيين، وسيد المرسلين ، ورسول رب العالمين،
إلى الخلق أجمعين، الشافع في
(1/25)
المذنبين، [
وقائد الغر المحجلين، يوم الجزاء بالدين، إلى
دار المحسنين المطيعين، ومأوى الأولياء
المقربين] ، وعلى أزواجه وذريته وأهل بيته
وجميع صحبه البررة الراشدين المهديين، الذين
ارتضاهم الله لصحبته، واختارهم لنصرته، فنصروه
في حياته، وقاموا بإحياء الدين بعد وفاته،
فبلغوا السنن والآثار، وما جاء به من تبيين
مجمل القرآن، ونهجوا طرق الأحكام، والفصل بين
الحلال والحرام، صلاة تشرفه [بها] في القيامة،
وتوجب له الحظوة والكرامة، وتوصله إلى ما وعده
به من الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة،
برحمته إنه منعم كريم.
[ قال محمد بن رشدي : أما بعد ما تقدم من حمد
الله عز وجل، والثناء عليه مبا هو أهله ،
والصلاة على نبيه المصطفى، وأهل بيته المرتضى،
فإن من أسباب الخير التي يسرها الله [تبارك
وتعالى] من فضله ، وسببها بمنه وطوله، أن دخل
علي في صدر سنة ست وخمسمائة بعض الأصحاب من
أهل جيان، وبعض الطلبة من أهل شلب يقرأ علي في
كتبا الاستلحاق من العتبية، فمر في قراءته علي
بحضرته بأول مسألة من سماع أشهب، وهي من
المسائل المشكلة، لأنه قال فيها: سألنا مالكاً
أترى العمل على الحديث الذي جاء في القافة
أيؤخذ بقولهم اليوم ويصدقون؟ فقال: أما فيما
تلحقه من الولد فنعم، وأما بقايا [أهل]
الجاهلية فلا أرى أن يؤخذ بقولهم ويصدقوا، ولا
يكون ذلك إلا في ولادة الجاهلية. ووقع في بعض
الكتب:
(1/26)
وأما باقيا [
أهل ] الجاهلية فلا ، وأرى أن يؤخذ بقولهم؛
وفي بعضها: ولا يكون ذلك في ولادة الجاهلية.
فأشكلت على القارئ المسألة ، كما اشكلت على من
سواه وحق لها أن تشكل عليهم لما ذكرناه من
اختلاف الألفاظ فيها مع تقديم وتأخير وقع في
سياقتها. وسألني أن أبينها عليه ففعلت وكان
مما بينت عليه من أمرها أن الاختلاف الذي وقع
فيها في الكتب يرجع إلى روايتين مستقيمتين،
ففي الرواية الواحدة بثبت الواو في وأرى وثبت
إلا في قوله ولا يكون ذلك إلا في ولادة
الجاهلية[وفي الرواية الأخرى بسقط الواو من
وأرى، وسقط إلا من قوله ولا يكون ذلك إلا في
ولادة الجاهلية] . وبسطت له القول في ذلك
وبينت عليه وجه كل رواية منهما وما يستقيم به
معناهما، فسر بذلك أثراً جميلاً يبقى عليك
ذكره، ويعود عليك ما بقيت الدنيا أجره. فقلت
لهم: وأي المسائل هي المسائل المشكلات منها
المفتقرة إلى الشرح والبيان، من الجليات غير
المشكلات التي لا تفتقر إلى كلام ولا تحتاج
إلى شرح وبيان ؟! فقل مسألة منها وإن كانت
جلية في ظاهرها، إلا وهي مفتقرة إلى التكلم
على ما يخفى من باطنها.
ابدأ من أول مسألة من كتاب الوضوء: سمعت
مالكاً قال لا أرى لأحد أن يتوضأ بفضل وضوء
النصراني، فأم بسؤره من الشراب فلا أرى بذلك
بأساً. قال ابن القاسم: وقد كرهه غير مرة،
وقال سحنون: إذا أمنت أن يشرب خمراً أو يأكل
خنزيراً فلا بأس أن يتوضأ به، كان لضرورة أو
لغير
(1/27)
ضرورة. فهذه
مسألة جلية في ظاهرها، مفتقرة إلى التكلم على
ما يخفى من باطنها، لأنه قال إنه لا يتوضأ
بفضل وضوء النصراني، ولم يبين فضل وضوئه ما
هو؟ إذ ليس من أهل الوضوء، ولا بين العلة في
الامتناع عن الوضوء منه ما هي؟ ولا هل يمتنع
من الوضوء منه مع وجود غيره؟ أو على كل حال
وجد غيره أو لم يجد؟ ولا ما يجب عليه إن توضأ
به وصلى في الوجهين جميعاً؟ ولا هل له أن
ينتقل إلى التيمم إن لم يجد سواه أم لا ؟
والعلة في جواز ذلك إن جاز والمنع منه إن لم
يجز ما هي؟ وما يكون الحكم إن انتقل إلى
التيمم على القول بأنه لا ينتقل إليه ، وإن لم
ينتقل إليه على القول بأنه ينتقل إليه؟ ولا
بين العلة في الفرق بين سؤره وفضل وضوئه ما
هي؟ ولا هل يستوي ذلك عنده على القول بأنه كره
سؤره في جميع الأحوال أم لا؟ فهل هذا كله إلا
مما يحتاج إلى بيانه؟ وكذلك يحتاج إلى معرفة
قول سحنون في تفرقته التي فرق في سؤر النصراني
بين أن يؤمن أن يكون قد أكل خنزيراً أو شرب
خمراً، أو لا يؤمن ذلك، هل هي خلاف لقولي مالك
جميعاً؟ أو لأحدهما؟ أو تفسير لهما؟ فإذا كان
الأمر على هذا أو قريب منه في أكثر المسائل،
فقصد القاصد إلى التكلم على بعضها تعب وعناء
بغير كبير فائدة, إذا قد لا يشكل على كثير من
الناس ما يظنه هو مشكلاً فيتكلم عليه [ويشكل
عليهم ما يظنه هو جلياً فيهمل التكلم عليه] .
وإنما كانت عليه [ويشكل عليهم ما يظنه هو
جلياً فيهمل التكلم عليه] . وإنما كانت تكون
الفائدة التامة التي يعظم النفع بها، ويستسهل
العناء فيها، أن يتكلم على جميع الديوان كله
مسألة مسألة على الولاء، كي لا يشكل على [أحد
مني الناس معنى في مسألة منها إلا ويجد التكلم
عليها، والشفاء مما هو في نفسه منها، لأنه
ديوان لم يعن به أحد ممن تقدم كما عنوا
بالمدونة التي قد كثرت الشروح لها؛ على أنه
كتاب
(1/28)
قد عول عليه
الشيوخ المتقدمون من القرويين والأندلسيين،
واعتقدوا أن من لم يحفظه ولا تفقه فيه كحفظه
للمدونة وتفقهه فيها، بعد معرفة الأصول، وحفظه
لسنن الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس من
الراسخين في العلم ، ولا من المعدودين فيمن
يشار إليه من أهل الفقه .
فلما سمعوا ذلك من قولي تنبهوا له وشرهوا إليه
وحرصوا عليه، ورغبوا إلي فيه في غير ما موطن
آحاداً مفترقين، وجماعة مجتمعين، فتوقفت عن
ذلك مدة مخافة العجز عن بلوغ الغرض والبغية
فيه بتمامه، بقاطع يحول دون إكماله. ثم إن
الله تعالى شرح صدري للشروع فيه، بعد أن خلصت
النية في ذلك لله عز وجل رجاء الأجر على ذلك
من الله عز وجل والمثوبة، ودعوت ضارعاً في
التوفيق والمعونة، ورجوت أن يجازي الله على
النية في تمامه إن حال قاطع دون ذلك، فشرعت
فيه وبدأت بكتاب الوضوء من أول الديوان مسألة
مسألة على الولاء، أذكر المسألة على نصها، ثم
أشرح من ألفاظها ما يفتقر إلى شرحه، وأبين من
معانيها بالبسط لها ما يحتاج إلى بيانه وبسطه،
وأحصل من أقاويل العلماء فيها ما يحتاج إلى
تحصيله ، إذ قد تتشعب كثير من المسائل وتفترق
شعبها في مواضع، وتختلف الأجوبة في بعضها
لافتراق معانيها، وفي بعضها باختلاف القول
فيها، فأبين موضع الوفاق منها من موضع الخلاف،
وأحصل الخلاف في الموضع الذي فيه منها الخلاف،
وأذكر المعاني الموجبة لاختلاف الأجوبة فيما
ليس باختلاف، وأوجه منها ما يحتاج إلى توجيه
بالنظر الصحيح والرد إلى الأصول والقياس
عليها، فإن تكررت المسألة في موضع آخر دون
زيادة عليها ذكرتها في موضعها على نصها، وأحلت
على التكلم عليها في الموضع الأول؛ وإن تكررت
في موضع آخر بمعنى زائد يحتاج إلى بيانه
والتكلم عليه كتبتها أيضاً على نصها وتكلمت
على المعنى الزائد فيها وأحلت في بقية القول
فيها على الموضع الذي تكلمت على المعنى الزائد
فيها وأحلت في بقية القول فيها على الموضع
الذي تكلمت عليها فيه من الرسم والسماع الذي
وقع الكلام فيه عليها، ليكون كل من أشكل عليه
معنى من المعاني في أي مسألة كانت من
(1/29)
مسائل الكتاب
طلبها في موضعها من الكتاب، فإما أن يجد
التكلم عليها فيه مستوفى، وإما أن يجد الإحالة
على موضعه حيث تقدم.
ولما كمل كتاب الوضوء على هذه الصفة من
استيعاب جميع مسائله على نصوصها، والتكلم على
كل مسألة منها صغرت أو كبرت بما تفتقر إليه
وتكمل به، سررت بما أبان لي من عظيم الفائدة
فيه، أنه احتوى مع استيعاب شرح مسائله على شرح
عامة مسائل المدونة وتحصيل كثير من أمهاتها
لتعلقها بها بما لا مزيد عليه ولا غاية وراءه،
وعلمت أنه إن كمل شرح جميع الديوان على هذا
الترتيب والنظام ، لم يحتج الطالب النبيه فيه
إلى شيخ يفتح عليه معنى من معانيه، لأني
اعتمدت في كل ما تكلمت عليه ، بيان كل ما
تفتقر المسألة إليه، بكلام مبسوط واضح موجز
يسبق إلى الفهم بأيسر تأمل وأدنى تدبر ورجوت
على ذلك المثوبة من الله عز وجل، فأجهدت نفسي
في التمادي على شرح بقيته حرصاً وإقبالاً،
فتماديت لا آوى إلى راحة متى ما تفرغت من ليل
أو نهار، فكلما أكملت منه كتاباً ازددت من
التمادي على بقيته حرصاً وإقبالاً، فتماديت
إلى أن أكملت رزمة الصلاة، ورزمة النكاح،
ورزمة البيوع، وشرعت في رزمة الأقضية، امتحنت
بتولي القضاء، وذلك في جمادي الأولى من سنة
إحدى عشرة وخمسمائة، فشغلتني أمور المسلمين
عما كنت بسبيله من ذلك، ولم أقدر من التفرغ
إليه على أكثر من يوم واحد في الجمعة اعتزلت
فيه عن الناس إلا فيما لم يكن منه بد، فما كمل
لي على هذا منه في مدة تولية القضاء، وذلك
أربعة أعوام غير أيام، إلا نحو أربعة كتب أو
خمسة، فأيست من تمامه في بقية عمري، إلا أن
يريحني الله عز وجل من ولاية القضاء، وكنت من
ذلك تحت إشفاق وكرب عظيم، وذكرت ذلك لأمير
المسلمين [وناصر الدين] أبي الحسن علي بن يوسف
(1/30)
ابن تاشفين ـ
أدام الله تأييده وتوفيقه ـ في جملة الأعذار
التي استعفيت بسببها، وغبطته بالأجر على
تفريغي لتمامه ، فقبل الرغبة في ذلك لرغبته
فيما رغبته فيه من الثواب، وأسعف الطلبة فيه
لما رجاه بأن تثقل بذلك موازينه يوم الحساب،
والله يدخر له هذه الحسنة ويبؤئه منها منن
درجات الجنة أعلى درجة برحمته؛ فواليت من
حينئذ في إكمال الكتاب إلى أن كمل بحمد الله
تعالى وعونه في مستهل شهر ربيع الآخر من سنة
سبع عشرة وخمسمائة. والله أسال المجازاة على
ذلك برحمته.
وقد كان بعض الأصحاب سألني أن أمهد في أول كل
كتاب منه مقدمة تنبئ عليه مسائله من الكتاب
والسنة، وترد إليها بالقياس عليها مع الربط
لها بالتقسيم والتحصيل لمعانيها، فرأيت أن
أختصر ذلك في كتب هذا الديوان، اكتفاء بما
اعتمدته منه في كتب المدونة، وذلك أني جمعت
جملاً وافرة مما كنت أورده في كل كتاب منها
على الأصحاب المجتمعين إلى المذاكرة فيها
والمناظرة، وأقدمه وأمهده من معنى اسمه
واشتقاق لفظه وتبيين أصله من الكتاب والسنة،
وما اتفق عليه أهل العلم من ذلك أو اختلفوا
فيه، ووجه بناء مسائله عليه وردها إليه ،
بالتقسيم لها والتحصيل لمعانيها ، جرياً على
سنن شيخنا الفقيه أبي جعفر بن رزق ـ رحمه الله
ـ وطريقته في ذلك، واقتفاء لأثره فيه، وإن كنت
أكثر احتفالاً منه في ذلك ، لا سيما في أول
كتاب الوضوء، فإني كنت أشبع القول فيه ببنائي
إياه على مقدمات من الاعتقادات في أصول
الديانات، وأصول الفقه في الأحكام الشرعيات،
لا يسع جهلها، ولا يستقيم التفقه في حكم من
أحكام الشرع قبلها ، فله الفضل في التقدم
والسبق ، فإنه نهج الطريق وأوضح السبيل ودل
عليه بما كان يعتمده من ذلك مما لم يسبقه من
تقدم من شيوخه إليه، وليس ذلك بغريب، فرب حامل
فقه إلى من هو أفقه منه، ومبلغ حديث إلى من هو
أوعى له منه، والتوفيق بيد
(1/31)
الله يؤتيه من
يشاء. ووصلت ما جمعت من ذلك ببعض ما استطرد
القول فيه من أعيان مسائل وقعت في المدونة
ناقصة مفترقة ، فذكرتها مجموعة ملخصة مشروحة
بعللها، فاجتمع من ذلك تأليف مفيد ينتهي أزيد
من خمسة وعشرين جزءاً، سميته بكتاب المقدمات
الممهدات لبناء ما اقتضه رسوم المدونة من
الأحكام الشرعيات، والتحصيلات المحكمات لأمهات
مسائلها المشكلات، إلا أنه كتاب لم يتخلص بعد،
فإذا تخلص بعون الله تعالى ونقل من مسودته إن
شاء الله تعالى، وجمعه الطالب إلى هذا الكتاب،
حصل على معرفة ما لا يسع جهله من أصول
الديانات وأصول الفقه، وعرف العلم من طريقه،
وأخذه من بابه وسبيله، وأحكم رد الفرع إلى
أصله، واستغنى بمعرفة ذلك كله عن الشيوخ في
المشكلات، وحصل في درجة من يجب تقليده في
النوازل المعضلات، ودخل في زمرة العلماء الذين
أثنى الله تعالى عليهم في غير ما آية من كتابه
ووعدهم فيه بترفيع الدرجات. والله تعالى أسأله
التوفيق برحمته.
(1/32)
|