البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

بسم الله الرحمن الرحيم ،
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد
كتاب الوضوء
من كتاب القبلة من سماع ابن القاسم من مالك
قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال سمعت مالكاً قال: لا أرى لأحد أن يتوضأ بفضل وضوء النصراني، فأما بسؤره من الشراب فلا أرى بذلك بأساً. قال ابن القاسم: وقد كرهه غير مرة. قال سحنون: وإذا أمنت أن يشرب خمراً أو يأكل خنزيراً فلا بأس أن يتوضأ به، كان لضرورة أو لغير ضرورة.
قال محمد بن رشد: يريد مالك ـ رحمه الله ـ بفضل وضوء النصراني ما بقي من الماء الذي غسل به يديه أو سائر جسده تنظفاً أو تبرداً، لأن غسل اليد يسمى وضوءاً في اللسان، إذ هو مشتق من الوضاءة والنظافة. ومنه الحديث: ((الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم)) ، روي ذلك عن الحسن ومثله لا يكون إلا توقيفاً عن النبي، عليه السلام ،

(1/33)


وقد روي عنه نصاً، وإنما قال مالك رحمه الله إنه لا يتوضأ به لأجل أنه أدخل يده فيه، وهو قوله في المدونة لا يتوضأ بسؤر النصراني ولا بما أدخل يده فيه، يريد أنه لا يتوضأ به وجد غيره أو لم يجده، ويتيمم إن لم يجد سواه؛ فإن توضأ به في الوجهين أعاد في الوقت. ويحتمل أن يريد أنه لا يتوضأ به مع وجود غيره، فإن توضأ به مع وجود غيره أعاد في الوقت، وإن لم يجد غيره توضأ به على كل حال ولم يتيمم. والتأويل الأول أولى وأظهر على مذهبه في رواية ابن القاسم عنه. ووجهه أنه حمل يده على النجاسة إذ الأغلب منها أنها لا تنفك عن النجاسة لأنها تجول على جسده وفيه النجاسة، ويباشر أيضاً [بها] سائر النجاسات التي لا يتوقى منها، فكان كأنه قد أيقن بنجاستها. ووجه التأويل الثاني أنه [لما] لم يوقن بنجاسة يده وجب أن لا يتوضأ به مع وجود غيره احتياطاً، وأن لا ينتقل عن الوضوء المفروض عليه مع وجوده إلى التيمم إلا بيقين على الأصل في أنه لا تأثير للشك في اليقين. وإلى هذا التأويل ذهب ابن حبيب، ولم ير عليه إعادة إن توضأ به وهو يجد غيره. وأما سؤره من الشراب فمرة قال لا بأس به، أي لا كراهية في الوضوء به إذا لم يجد غيره، بل واجب عليه أن يتوضأ به ولا يتركه ويتيمم، ولا إعادة عليه إن توضأ به وهو يجد غيره، وهو قول ابن عبد الحكم، ومرة كرهه، أي كره الوضوء به إن وجد سواه، فإن توضأ به وهو يجد سواه أعاد في الوقت؛ وإن لم يجد سواه توضأ به ولم يتيمم. وعلى مذهبه في المدونة في مساواته بينه وبين ما أدخل فيه يده لا يتوضأ به، وجد سواه أو لم يجد، ويتيمم إن لم يجد سواه، فإن توضأ به في الوجهين أعاد في الوقت، وهو قول سحنون، لأن في قوله إذا أمنت أن يشرب خمراً أو يأكل خنزيراً فلا بأس أن يتوضأ به كان لضرورة أو لغير ضرورة، دليلاً على أنه إذا لم يأمن ذلك فلا يتوضأ به كان

(1/34)


لضرورة أو لغير ضرورة. ويبين ذلك من مذهبه قوله في نوازله من هذا الكتاب إنه كالكلب المخلى على القذر والنجاسة، فيتيمم ولا يتوضأ بسؤره. ووجه القول الأول أنه لما كانت النجاسة إن كان قد تناولها بفيه لا تثبت فيه ويزيل عنها منه الريق حمله على الطهارة حتى يوقن فيه بالنجاسة، ولم يحمله في القول الثاني على الطهارة ولا على النجاسة، فكره الوضوء به مع وجود سواه، ولم ير أن ينتقل عنه إلى التيمم إن لم يجد سواه، وهو على مذهبه في المدونة محمول على النجاسة مثل قول سحنون، لأنه لما كان لا يرع عنها صار عنده كالكلب المخلى عليها.
فصل
فإن تحققت طهارة يده وفمه جاز استعمال سؤره وما أدخل فيه يده وإن وجد غيره، وإن تيقنت نجاستهما لم يجز استعمال شيء من ذلك وإن لم يجد غيره؛ وإنما الاختلاف إذا لم يعلم طهارتهما من نجاستهما، فقيل إنهما يحملان على الطهارة، وقيل إنهما يحملان على النجاسة، وقيل إنه يحمل سؤره على الطهارة، وما أدخل فيه يده على النجاسة، وقيل في سؤره إنه يكره ولا يحمل على طهارة ولا على نجاسة. وهذا كله على مذهب ابن القاسم ورواية المصريين عن مالك في أن الماء اليسير تفسده النجاسة اليسيرة وإن لم تغير وصفاً من أوصافه، وأما على رواية المدنيين عن مالك في أن الماء قل أو كثر لا تفسده النجاسة إلا أن تغير وصفاً من أوصافه فسؤر النصراني وما أدخل فيه يده وإن أيقن بنجاسة يده وفمه، مكروه مع وجود غيره ابتداءً مراعاةً للخلاف، واجب استعماله مع عدم سواه في الطهارة والتطهير، فالذي يتحصل في سؤر النصراني وما أدخل يده فيه من الخلاف

(1/35)


أنه توضأ به وهو يجد غيره ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا إعادة عليه لصلاته، ويعيد وضوءه لما يستقبل؛ والثاني أنه يعيد وضوءه وصلاته في الوقت، والثالث الفرق بين سؤره وما أدخل فيه يده، فيعيد صلاته في الوقت إن توضأ بما أدخل فيه يده، ولا يعيد إن توضأ بسؤره إلا وضوءه لما يستقبل. وأما إن لم يجد غيره ففي ذلك قولان: أحدهما أنه يتوضأ به ولا يتيمم، فإن تركه وتيمم أعاد أبداً ؛ والثاني أنه يتيمم ويتركه، فإن توضأ به أعاد في الوقت خاصة و [قيل] لا إعادة عليه، وقيل يعيد مما أدخل يده فيه ولا يعيد من سؤره، وبالله التوفيق.
مسألة
قال مالك في رجل نزل في بئر معين فاغتسل فيه وهو جنب إن ذلك لا يفسده على أهله ولا أرى بمائها بأساً ولا أرى أن ينزف.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح لا اختلاف فيه في المذهب أن الماء الكثير لا ينجسه ما حل فيه من النجاسة إلا أن يغير أحد أوصافه، إلا رواية شاذة رواها ابن نافع عن مالك نحا بها مذهب أهل العراق. والدليل على ما عليه عمدة المذهب ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من الأقذار والنجاسات فقال: ((الماء طهور ولا ينجسه شيء)) ، يريد إلا ما تغير أحد أوصافه، وذلك مذكور في بعض الآثار.

(1/36)


وإنما اختلف في جواز الاغتسال فيه ابتداءً دون أن يغسل ما به من الأذى، فكرهه مالك للنهي الوارد عن الغسل في الماء الدايم، وأجازه ابن القاسم إذا كان الماء يحمل ما به من الأذى، وذلك قائم من المدونة ومنصوص عليه في رسم البير من هذا السماع، وفي رسم العتق من سماع عيسى من هذا الكتاب. وفرقوا بين حلول النجاسة المائعة في الماء الكثير الدائم وبين موت الدابة فيه حية فأخرجت قبل أن تموت. وقد سئل سعيد بن نمر عن فارة وقعت في قصرية شراب فقع فأخرجت حية فقال إنه يهراق ولا يوكل، وحكى غيره أن في سماع ابن وهب عن مالك مثله، وهو بعيد وشذوذ لا وجه له، فالله أعلم بصحته.

مسألة
[في حلول النجاسة في الماء والطعام]
وقال مالك في الماء الكثير تقع فيه القطرة من البول أو الخمر إن ذلك لا ينجسه ولا يحرمه على من أراد أكله أو شربه أو الوضوء منه، والطعام والودك كذلك إلا أن يكون شيئاً يسيراً.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن النجاسة اليسيرة لا تفسد الطعام الكثير ولا تنجسه، كما لا تفسد الماء الكثير ولا تنجسه، وهذا مما لا يقوله إلا داوود القياسي ومن شذ عن الجمهور وخالف الأصول، لأن

(1/37)


الله تعالى خلق الماء طهوراً فهو يحمل ما غلب عليه من النجاسات، بخلاف ما عداه من الأطعمة والأدم المائعات. والفرق بينهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ما بير بضاعة وما يلقى فيا من الأقذار والنجاسات فقال: ((خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته))، وسئل عن الفارة تقع في السمن فقال: ((انزعوها وما حولها فاطرحوه وإن كان مائعاً فلا تقربوه))، وهذا ما لا خلاف فيه بين فقهاء الأمصار، وإنما اختلفوا في جوازه للانتفاع به وبيعه، فمنهم من لم يجز شيئاً من ذلك وهو مذهب ابن الماجشون من أصحابنا، ومنهم من أجاز جميع ذلك وهو مذهب ابن وهب من أصحابنا. ودليل رواية ابن القاسم عن مالك في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من كتاب الصلاة في مسألة الصابون، ووقعت أيضاً في سماع ابن القاسم من هذا الكتاب في بعض الروايات. ودليل رواية أشهب أيضاً في كتاب الضحايا من العتبية. ومنهم من أجاز الانتفاع به ولم يجز بيعه، وهو مذهب ابن القاسم وأكثر أصحاب مالك ، فوجب أن لا تحمل الرواية على ظاهرها وأن تتأول على ما ذهب إليه الجمهور مما يطابق الأصول، فنقول إن معنى قوله والطعام والودك كذلك أي أن القطرة [من الطعام] والودك إذا وقعت أيضاً في الماء الكثير لم تؤثر فيه ولا أخرجته عن حكمه من التطهير كما لم تخرج القطرة من البول أو الخمر الماء الكثير عن حكمه من الطهارة والتطهير. وقوله: إلا أن يكون يسيراً معناه إلا أن يكون الماء الذي وقع فيه شيء من ذلك يسيراً يتغير من ذلك بعض أوصافه فينجس بالنجاسة وينضاف بالطعام. فهذا تأويل سائغ تصح به الرواية على الأصول وما عليه الجمهور. وقد روي أنه سئل علماء البيرة عن فارة انطحنت مع قمح في رحى الماء، فقالوا يغربل الدقيق ويؤكل، فبلغ ذلك سعيد بن نمر من قولهم فقال عليهم بمحرز العجول، لا يؤكل على حال.

(1/38)


قال محمد بن رشد: وهو الصحيح. وإنما غلط علما البيرة في هذه المسألة من هذه الرواية بحملها على ظاهرها والله أعلم.
مسألة
وقد سئل سحنون عن الدواب تدرس الزرع فتبول فيه، فخففه للضرورة، كالذي يكون في أرض العدو فلا يجد بداً من أن يمسك عنان فرسه وهو قصير فيبول فيصيبه بوله.
قال محمد بن رشد: وإنما خفف ذلك مع الضرورة للاختلاف في نجاسته كما خفف المشي عن عن أرواث الدواب وأبوالها في الطرقات مع الضرورة إلى ذلك من أجل الاختلاف في نجاستها. وأما ما لا اختلاف في نجاسته فلا يخفف مع الضرورة.
وقد روى سليمان بن سالم الكندي من أصحاب سحنون أنه كان يقول: إذا وقعت القملة في الدقيق ولم تخرج في الغربال لم يؤكل الخبز، وإن ماتت في شيء جامد طرحت كالفارة. وقاله غيره في البرغوث أيضاً، وفرق غيره بينهما فقال إن البرغوث كالذباب الذي يتناول الدم، وأما القملة فهي من الإنسان كدمه.
قال محمد بن رشد: وهذا إغراق إذا كثر العجين، لأن القملة لا تنماع في جملة العجين فتنجسه، وإنما تختص بموضعها منه، فإذاً تحرم اللقمة التي هي فيها، فلما لم تعرف بعينها لم يجب أن يحرم أكل اليسير منه إذا كثر، كما لو أن رجلاً يعلم أن له أختاً ببلدة من البلاد لا يعرف عينها، لم يحرم عليه أن يتزوج من نساء تلك البلدة، بخلاف اختلاطها بالعدد

(1/39)


اليسير من النسوة، فإذا خففنا تناول شيء منه لاحتمال أن تكون القملة فيما بقي، خففنا تناول البقية أيضاً لاحتمال أن تكون القملة فيما تناول والله أعلم.
ومن كتاب أوله شك في طوافه
مسألة
وقال سحنون إذا توضأ رجل بماء قد تغير مما وقع فيه تغييراً شديداً فصلى بذلك الوضوء ثم علم أن عليه الإعادة في الوقت [وبعد الوقت] ، قال وهذه الرواية أحب إلى من رواية ابن القاسم، لأنه إذا غلبت عليه النجاسة خرج عن حد الماء وصار كالمصلي بغير وضوء.
قال محمد بن رشد: التغير الشديد هو أن يتغير الماء عن لونه أو طعمه أو تشتد تغير رائحته وإن لم يتغير لونه ولا طعمه، والتغير الذي ليس بشديد هو أن يتبين تغيير رائحته من غير أن يشتد التغير مع أن لا يحول عن لونه ولا عن طعمه، لأن ابن الماجشون لا يراعي تغير الرائحة جملة، فأراه نحا إلى قوله في اشتراطه شدة التغير، وقد اشترطه مالك أيضاً في آخر سماعه من هذا الكتاب، وسنتكلم عليه في موضعه إذا مررنا به إن شاء الله. وقوله: وهذه الرواية، إشارة منه إلى رواية لم يذكرها قد جرى ذكرها في المجلس كرواية علي بن زياد عن مالك في المدونة، أو ما كان في معناها مما وقع في مختصر ابن عبد الحكم وغيره. ولم يذكر أيضاً رواية ابن القاسم التي استحب الرواية التي أشار إليها [عليها] فيحتمل أن يكون أراد رواية ابن القاسم

(1/40)


عن مالك الواقعة في هذا الرسم بعد هذه المسألة بمسألة، فإن كان أرادها فإنما اختار الرواية التي أشار غليها عليها لما فيها من الإجمال والاحتمال. ويحتمل أن يكون أراد أيضاً إطلاقه عنه أن من توضأ بماء نجس أعاد في الوقت، لأن وصفه بالنجس يقتضي تغير أحد أوصافه من النجاسة، وهو لا يقول إنه يعيد في الوقت إلا في الماء اليسير الذي لم يتغير أحد أئوصافه بما حل فيه من النجاسة. فإن كان أراد هذه الرواية فإنما اختار الرواية التي أشار إليها عليها لفسادها في الظاهر ولأنها أبين منها وأفسر، إذ لا يقول ابن القاسم ولا أحد من أهل العلم إن من توضأ بماء قد غلبت عليه النجاسة وتغير منها تغيراً شديداً أنه لا يعيد أبداً ، وهذا حفظنا عن شيوخنا في تأويل قول سحنون هذا وتصحيحه، والله أعلم بحقيقة الصواب في ذلك.
مسألة
روى عيسى في كتاب القطعان عن ابن وهب في الرجل يصلي بثوب فيه نجاسة، قال يعيد تلك الصلاة متى ما ذكرها في الوقت وبعده.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لابن وهب أيضاً في سماع عبد الملك من كتاب الصلاة، ومذهبه أن رفع النجاسات من الثياب والأبدان من فرائض الصلاة، فسواء عن مذهبه صلى بثوب فيه نجاسة ناسياً أو متعمداً أو جاهلاً بالنجاسة أو بوجوب رفعها في حال الصلاة أو مضطراً إلى الصلاة فيه لعدم سواه، يعيد أبداً في الوقت وغيره. وإنما يقول إنه يعيد أبداً في الوقت وغيره إذا كانت النجاسة متفقاً عليها كبول بني آدم والرجيع والاحتلام ودم الحيضة والميتة وما أشبه ذلك، كذا روى أبو الطاهر عنه، وذلك مفسد لهذه الرواية. والمشهور في المذهب قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن رفع النجاسات

(1/41)


من الثياب والأبدان سنة لا فريضة، فمن صلى بثوب نجس على مذهبهم ناسياً أو جاهلاً بنجاسته أو مضطراً إلى الصلاة فيه أعاد في الوقت. واختلف في الوقت الذي يعيد فيه على ثلاثة أقوال: أحدها الاصفرار، والثاني الغروب، والثالث أنه الغروب في المضطر والاصفرار فيما سواه. وإن صلى به عالماً غير مضطر أو متعمداً أو جاهلاً أعاد أبداً لتركه السنة عامداً. ومن أصحابنا من قال إن رفع النجاسات عن الثياب والأبدان فرض بالذكر يسقط بالنسيان، كالكلام في الصلاة، وليس ذلك عندي بصحيح، لأنه ينتقض بالذى يصلي فيه مضطراً إلى الصلاة به لأنه ذاكر ولا يعيد إلا في الوقت. وقال بعضهم فرض مع الذكر والقدرة تحرزاً من هذا الاعتراض.
مسألة
[في الفارة تموت في البئر]
وقال مالك في ثياب أصابها ماء بئر وقعت فيه فارة فماتت وتسلخت ، قال أرى أن يغسل ما أصابه من الثياب، وأما الصلاة فلا يعيد إلا ما أدرك وقته.
قال محمد بن رشد: لم يبين في هذه الرواية إن كان الماء تغير من ذلك أو لم يتغير، وتأويلها يتخرج على الوجهين، فإن كان أراد أن الماء تغير من ذلك فيحمل قوله أرى أن يغسل ما أصابه من الثياب على الوجوب، ويحمل قوله على أن الصلاة لا يعيد منها إلا ما أدرك وقته على أنه لم يتوضأ من ذلك الماء وإنما صلى بما أصابه ذلك الماء من الثياب، إذ لو توضأ من ذلك الماء وقد تغير لوجب أن يعيد الصلاة أبداً. وقد وقع ذلك من رواية ابن القاسم في هذا السماع في بعض الروايات، ونص ذلك: قال ابن القاسم عن مالك إذا تغير لون الماء وطعمه أعاد أبداً، وهذا ما لا اختلاف فيه، وإنما

(1/42)


الاختلاف في تغير رائحته خاصة. وإن كان أراد أن الماء لم يتغير من ذلك فيحمل قوله إن الثياب تغسل من ذلك على الاستحباب فيما لا يفسده الغسل كما قال ابن حبيب، وإعادة الصلاة من ذلك في الوقت صحيح كما قال على أصولهم، توضأ بذلك الماء أو صلى بالثياب التي أصابها ذلك الماء ولم يتوضأ به. وفرق في آخر سماع أشهب من هذا الكتاب بين أن يكون الماء فاسداً منتناً أو يكون ذلك فيه شيئاً خفيفاً. وسنتكلم على معنى ذلك إذا مررنا به إن شاء الله .
مسألة
[في مس القرآن على غير طهارة]
وسئل مالك عن اللوح فيه القرآن أيمس على غير وضوء؟ فقال: أما الصبيان الذين يتعلمون فلا أرى بذلك بأساً. فقيل له: فالرجل يتعلم فيه؟ قال أرجو أن يكون خفيفاً. فقيل لابن القاسم: فالمعلم يشكل ألواح الصبيان وهو على غير وضوء؟ قال أرى ذلك خفيفاً.
قال محمد بن رشد: إنما خفف مالك، رحمه الله، للرجل الذي يتعلم القرآن أن يمس اللوح فيه القرآن، وخفف ذلك ابن القاسم أيضاً للمعلم يشكل ألواح الصبيان، لأن النهي إنما ورد أن لا يمس القرآن إلا طاهر وحقيقة لفظ القرآن إذا أطلق أن يقع على جملته، وإن كان قد يطلق ويراد به بعضه على ضرب من التجوز، فتقول سمعت فلاناً يقرأ القرآن وإن كنت لم تسمعه يقرأ منه إلا سورة واحدة أو آية واحدة فتكون صادقاً في قولك. فلما كان لفظ القرآن يقع على كله وقد يقع على بعضه لم يتحقق ورود النهي

(1/43)


في مس بعضه على غير طهارة، فمن أجل ذلك خفف للذي يتعلم القرآن أو يشكل ألواح الصبيان أن يمس اللوح فيه القرآن على غير وضوء لما يلحقه من المشقة في أن يتوضأ كلما أحدث، ولعل ذلك يكون في الأحيان التي يثقل فيها مس الماء فيكون ذلك سبباً إلى المنع من تعلمه، وهذه هي العلة في تخفيف ذلك للصبيان، لأنهم وإن كانوا غير متعبدين، فآباؤهم فيهم متعبدون بمنعهم مما لا يحل كشرب الخمر وأكل [لحم] الخنزير وما أشبه ذلك. ألا ترى أنه خفف لهم التضاريس يتعلمون فيها في الكتاب، وكره أن يمسوا فيها المصحف الجامع للقرآن إلا على وضوء. ومن الدليل على ما قلناه من الفرق بين جملة القرآن وبعضه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، وكتب إلى هرقل عظيم الروم بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم وأسلم يوتك الله عز وجل أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. ويأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلى قوله فإنا مسلمون. ولهذا جاز للرجل أن يكتب في الكتاب الآية والآيتين على غير وضوء في سماع أشهب من كتاب الصلاة. ومن هذا الكتاب في بعض الروايات أن الرجل لا يمس اللوح إذا قرأ فيه على غير وضوء، فإن لم يكن معناه على غير التعلم فهو معارض لهذه الرواية، فتأمل ذلك تجده صحيحاً والله أعلم.
مسألة
[في الوضوء بسؤر الهر]
وسئل عن الهر يلغ في إناء رجل لوضوئه، أيتوضأ به؟ قال: نعم، وذلك يذكر.

(1/44)


قال محمد بن رشد: قوله وذلك يذكر، يريد يذكر في السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ((إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات)) . فالهر على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك بهذا الحديث محمول على الطهارة حتى يرى في فمه نجاسة، بخلاف غيره من السباع والدجاج المخلاة، إلا في الماء الكثير لقول عمر بن الخطاب: لا تخبرنا يا صاحب الحوض، فإنا نرد على السباع وترد علينا، وإلا في الطعام فإنه لم ير في المدونة أن يطرح إلا بيقين لحرمته.
مسألة
[في سؤال الماء للوضوء]
سئل ابن القاسم عن الرجل يكون في السفر يعجز ماؤه ومع أصحابه ماء، أترى أن يسألهم لوضوئه أم يتيمم؟ قال أم المكان الكثير الماء فلا أرى بذلك بأسا، وأما الموضع الذي يتعذر فيه فأرجو أن يكون واسعاً.
قال محمد بن رشد: واجب على الرجل أن يطلب الماء لوضوئه إذا عدمه ولم يجد ممن يشتريه وهو واجد بما يشبه من الثمن على ما في المدونة ممن يليه ويظن أنه لا يمنعه ويعطيه لما قال في سماع أشهب من هذا الكتاب وليس في قوله في هذه الرواية فلا أرى بذلك بأساً دليل على أن له أن يترك الطلب في المكان الكثير الماء الذي يقع في نفسه أنه لا يبخل فيه به عليه،

(1/45)


لأن المعنى في سؤال السائل يكره له سؤال الماء من ناحية أن المسألة مكروهة، فأخبر أنه لا كراهية في السؤال في هذا الكتاب، وإذا انتفت عنه الكراهة تعلق به الوجوب لما يلزمه من الطهارة للصلاة. وقوله في آخر المسألة: وأرجو أن يكون ترك السؤال واسعاً في الموضع الذي يتعذر فيه الماء يدل على أنه لا سعة له عنده في ترك السؤال في الموضع الذي يكثر فيه الماء بيان ما قلناه. وفي سماع أشهب من معنى هذه المسألة ما فيه بيان لها وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة
مسألة
[في حد التيمم في اليدين]
وسئل مالك عمن أفتي بأن التيمم إلى الكفين فتيمم وصلى، ثم أخبر بعد ذلك أن التيمم إلى المرفقين، ما ترى أن يصنع؟ قال أرأيت لو صلى منذ عشرين سنة أي شيء كنت آمره به؟ ثم قال أرى أن يعيد ما دام في الوقت. قال مالك: لقد سمعت رجلاً عظيماً من أهل العلم يقول إلى المنكبين، واعجبا كيف قاله! فقيل له إنه تأول هذه الآية ((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) ، فقال أين هو من آية الوضوء فيأخذ بهذا ويترك هذا؟ فيا عجباً مما يقوله!
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أن مالكاً، رحمه الله، إنما تعجب ممن يقول إلى الكفين [وجعل قوله إغراقاً في الخطأ إذ من أهل العلم من يقول على المنكبين، فقيل له إنه قال إلى الكفين] متأولاً لآية السرقة

(1/46)


فقال أين هو من آية الوضوء؟ يريد أن رد الأيدي المطلقة في التيمم إلى الأيدي المقيدة في الوضوء بالمرفقين، إذ هو بدل منه أولى من ردها إلى الأيدي المطلقة في السرقة، لأن المعنى في ذلك مختلف، وذلك بين. ولا دليل في قول مالك وأين هو من آية الوضوء؟ على أن الحكم عنده أن ترد آية التيمم إليها، إذ لو كان الحكم عنده أن ترد إليها لأوجب على من تيمم إلى الكوعين الإعادة أبداً، وإنما أراد أن حمل آية التيمم على آية الوضوء أولى من حملها على آية السرقة [وإن كان هو لا يرى حملها على واحدة منهما، إذ لو حملها على آية السرقة] لأمر المتيمم بالتيمم إلى الكوعين ابتداء، ولو حملها على آية الوضوء لأوجب الإعادة أبداً على من تيمم إلى الكوعين، فالآية عنده على إطلاقها غير مقيدة بآية الوضوء ولا بآية السرقة. فمن تيمم عنده إلى الكوعين أجزأه وإن كان لا يأمره بذلك ابتداء، ويرى عليه الإعادة في الوقت إن فعل مراعاةً لقول من يرى آية التيمم محمولة على آية الوضوء، فيوجب التيمم إلى المرفقين على أصله في مراعاة الخلاف، ولم يراع قول من أوجب التيمم إلى المنكبين لشذوذه وبعده من النظر، لأن الآية إذا حملت على إطلاقها وجب أن يجزئ التيمم إلى الكوعين لوقوع اسم اليد على الكف إلى الكوع وألا يجب إلى المنكبين، وأن تناول ذلك اسم اليد عند العرب، لأن الأصل براءة الذمة من العبادات، فلا يجب منها شيء على أحد إلا بيقين. وقوله فيمن يتيمم إلى الكوعين إنه يعيد في الوقت، مثله في المدونة وفي سماع محمد بن خالد من هذا الكتاب. وقال أصبغ في مختصر ابن أبي زيد: والوقت في ذلك وقت الصلاة المفروضة، وقال ابن نافع ومحمد بن عبد الحكم يعيد أبداً، وقولهما على قياس القول بأن آية التيمم محمولة على آية الوضوء. ولابن لبابة في هذه المسألة اختيار

(1/47)


غريب، وهو أن الجنب يتيمم إلى الكعبين وإن المحدث حدث الوضوء يتيمم إلى المنكبين، اتبع في ذلك ظواهر آثار جلبها فانظر ذلك وتدبره.
مسألة
[في صفة تيمم الأقطع]
وسئل مالك أيتيمم الأقطع للصلاة؟ قال نعم، فقيل له: وكيف يتيمم؟ فقال: كيف يتوضأ، فقيل له يوضئه غيره، قال كما يتوضأ كذلك يتيمم، فقلت له : هو مثله؟ قال نعم، التيمم مثل الوضوء.
قال محمد بن رشد: أما وجهه فلا كلام عليه في أنه يتيمم كما يتوضأ، وكذلك يداه على مذهب مالك ييمم ما بقي منهما إلى المرافق، ويسقط عنه التيمم فيهما على مذهب من يرى أن التيمم إلى الكوعين، وبالله التوفيق.
مسألة
[في وضوء الجماعة من إناء واحد]
وحدثني ابن القاسم عن مالك عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص أنه كان لهم مركن يسكب فيه الماء فيتوضأ منه أبوها وأهل البيت.

(1/48)


قال محمد بن رشد: المركن الإجانة التي تغسل فيها الثياب، قاله الهروي. وفائدة هذا الحديث إجازة وضوء المرأة بفضل الرجل ووضوء الرجل بفضل المرأة، لأنه الظاهر منه، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم في ذلك. ومن الحجة لهم قول عبد الله بن عمر في الموطأ إن كان الرجال والنساء ليتوضؤون جميعاً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه مسألة لأهل العلم فيها خمسة أقوال: أحدها قول مالك هذا وجميع أصحابه، والثاني أنه لا يتوضأ واحد منهما بفضل صاحبه شرعا معاً أو غاب أحدهما عن الوضوء، والثالث أنه تتوضأ المرأة بفضل الرجل ولا يتوضأ الرجل بفضل المرأة، والرابع أنه يتوضأ كل واحد منهما بفضل صاحبه إذا شرعا معاً. بخلاف إذا غاب أحدهما على الوضوء، والخامس أنه لا بأس أن يتوضأ كل واحد منهما بفضل صاحبه ما لم يكن الرجل جنباً أو المرأة حائضاً أو جنباً. وقد قيل إن عائشة هذه صحابية، وإن مالكاً ، رحمه الله، أدركها فهو بذلك من التابعين. والصحيح أنها ليست صحابية لأن الكلا باذي ذكرها في التابعات ولم يذكرها ابن عبد البر في الصحابيات، فانظر ذلك وبالله التوفيق.
مسألة
[في تدلك المغتسل]
قيل لسحنون: أرأيت قول مالك لا يجزئ الجنب الغسل حتى يمر يديه على جميع جسده كله ويتدلك، أرأيت لو أن رجلاً بادناً لا يقدر أن يعم بيديه جميع جسده، قال فليوكل رجلاً أو امرأة تجري يدهما على ما قصر عنه يد المغتسل. قيل له فإن كان في سفر وليس معه أحد؟ قال فليأخذ ثوباً وليبله ويمره على المواضع التي لا يبلغها بيده.

(1/49)


قال محمد بن رشد: المشهور من قول مالك في المدونة وغيرها أن الغسل لا يجزئ الجنب حتى يمر بيده على جميع جسده ويتدلك [قياساً على الوضوء أنه لا يجزئ فيه صب الماء دون إمرار اليد. وقد روى مروان بن محمد الطاطري الشامي عن مالك أن الجنب يجزئه الغسل وإن لم يتدلك] وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم، لما في الحديث من قوله: ((ثم اغتسل وأفاض عليه الماء))، ولم يذكر عركاً ولا دلكاً. وقد قال أبو الفرج : إنما قال مالك لا يجزئ الجنب الغسل إلا أن يتدلك مخافة أن ينبو الماء عن بعض جسده، ولو أطال البقاء في الماء حتى يوقن بوصول الماء إلى جميع جسده لأجزأه الغسل على مذهبه وإن لم يتدلك. وهذا من التأويل البعيد، والصواب أن ذلك اختلاف من قوله. فإذا لم يدرك الجنب جميع جسده فالصواب ما ذهب إليه ابن حبيب من أنه يمر يديه على كل ما أدركه من جسده ويوالي صب الماء على ما لم يدركه منه، ويجزيه غسله مراعاة للاختلاف في ذلك، ولأنه أشبه بيسر الدين، وبالله التوفيق.
مسألة
[في لباس ما لبس النصراني أو نسج]
وسئل عن الرجل يشتري من النصراني الخفين أيلبسهما؟ قال لا، فقيل فثوبه؟ قال الذي يلبسه؟ قال نعم، نعم قال لا حتى يغسله. قيل له فما ينسجون فإنهم يبلون الخمر ويحركونه بأيديهم ويسقون به الثياب قبل أن تنسج وهم أهل نجاسة؟ قال لا بأس بذلك، ولم يزل الناس يلبسونها قديماً .

(1/50)


قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة، وهو كما قال، ولا فرق في القياس بين ما نسجوا ولبسوا، وإنما هو الاتباع وقد أجاز محمد بن عبد الحكم أن يصلي فيما لبس النصراني. ووجه قوله أنه حمله على الطهارة حتى يوقن فيه بالنجاسة خلاف مذهب مالك، ومعنى ذلك عندي فيما لم يطل مغيبه عليه ولباسه إياه، لأنه إذا طال مغيبه عليه ولباسه إياه لم يصح أن يحمل على الطهارة، لأن الظن يغلب على أنه لم يسلم من النجاسة. وقد اختلف إذا أسلم هل يصلي في ثيابه التي كان يلبسها قبل أن يغسلها، فوقع لزياد بن عبد الرحمن في سماع موسى من هذا الكتاب أنه لا يغسل منها إلا ما علم فيه نجاسة. وروى أشهب عن مالك في رسم الصلاة الثاني من سماعه من كتاب الصلاة أنه لا يصلي فيها حتى يغسلها. وإذا أيقن بطهارتها من النجاسة فالاختلاف في وجوب غسلها يجري على اختلافهم في طهارة عرق النصراني والمخمور، وبالله التوفيق.
مسألة
[في غسل النجاسة]
وسئل عن قطيفة كان ينام عليها رجل فوجد في وسعها وزغة قد ماتت كأنه بات عليها ولم يجد فيها الدم، قال يغسلها، يريد بذلك الموضع.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن ما تعلق بالقطيفة من الوزغة الميتة نجس وإن لم يكن دماً لأنه ميتة. وقوله يريد بذلك الموضع صحيح، إذ ليس عليه أن يغسل القطيفة كلها، وإنما عليه أن يغسل الأثر الذي رأى فيها، ولا شيء عليه في سائرها إلا أن يشك فيه فينضحه والأصل في ذلك

(1/51)


حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: ((إذا وجد الاحتلام في ثوبه فغسل ما رأى ونضح ما لم ير)).
مسألة
[في الاستبراء من البول]
وسئل عما يعمل الناس عند البول من أن يبول الرجل ثم يقوم فيقعد ثم يكثر السلت، قال ليس ذلك بصواب، وقد كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن به حرارة شديدة وإن كان ليقوم في الشيء القريب مراراً فيبول مراراً ويتوضأ ويرجع مكانه، فما رأيت أحداً كان أسرع رجوعاً منه ولا أخف وضوءاً، فذكر ذلك لابن هرمز فقال إنه فقيه ، وأعجبه ذلك منه، فقال له الرجل إني أجد الشيء يخرج مني بعدما أبول فلا تطيب نفسي، فقال إنما ذلك من الشيطان، وكره ذلك.
قال محمد بن رشد: قد تكرر هذا المعنى في رسم الوضوء والجهاد بأوعب من هذا، وليس فيه ما يشكل فيتكلم عليه، لأنه من فعل الشيطان ووسوسته التي أقدره الله عليها ومكنه منها ابتلاء لعباده، ليجزي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بعصيانه، فهو يلبس على الناس ويفسد عليهم طاعتهم بما يلقي في نفوسهم من التقصير فيها، فالذي يومر به من اعتراه شيء من ذلك أن يضرب عنه ولا يلتفت إليه، فإن ذلك يقطعه بفضل الله ورحمته. وقد سئل ربيعة عن الرجل يمسح ذكره من البول ثم يتوضأ فيجد البلل فقال لا بأس به، فقد بلغ محنته وأدى فريضته.

(1/52)


مسألة
[في قدر ما يتوضأ به الماء]
وقال مالك قد رأيت عياش بن عبد الله بن معبد، وكان رجلاً صالحاً من أهل الفقه والفضل، يأخذ القدح فيجعل فيه قدر ثلث المد ماءً بمد هشام، فيتوضأ به ويفضل منه، ثم يقوم فيصلي بالناس وهو إمام، وأعجب مالكاً ذلك من فعله.
قال محمد بن رشد: إنما أعجب مالكاً فعله واستحبه لأن السنة في الغسل والوضوء إحكام الغسل مع قلة الماء، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ بمد وتطهر بصاع وهو أربعة أمداد. وروي عنه أنه توضأ بنصف المد وذلك لا يقدر عليه إلا العالم السالم من وسوسة الشيطان. وإلى فعل عياش هذا أشار مالك في المدونة بقوله: وقد كان بعض من مضى يتوضأ بثلث المد، يريد مد هشام، لأن ثلث مد النبي صلى الله عليه وسلم يسير جداً لا يمكن إحكام الوضوء به والله أعلم وبالله التوفيق.
مسالة
[في نقل المتوضئ الماء إلى أعضائه]
وسئل مالك عن الرجل يأخذ الماء لوضوئه، فإذا حمل الماء نفض يديه من الماء، قال لا خير فيه وكرهه.
قال محمد بن رشد: إنما قال لا خير فيه لأن الغسل إنما يكون بنقل الماء إلى العضو المغسول، فإذا نفض يديه من الماء ورفعهما إلى وجهه

(1/53)


مبلولتين فليس بغاسل وجهه وإنما هو ماسح، فلا يجزئه ذلك إلا فيما يمسح لا فيما يغسل. وليس في قوله وكرهه دليل على أنه إن فعله أجزأه، لأنه قد يطلق هذا اللفظ كثيراً فيما لا يجوز سواه، من ذلك قوله في المدونة لا يتوضأ بشيء من الأنبذة ولا العسل الممزوج بالماء، والتيمم أحب إلي من ذلك، وهو الواجب الذي لا يجوز سواه، فكذلك هذا، والله أعلم وبه التوفيق.
ومن كتاب أوله سن رسول الله صلى الله عليه وسلم

[مسألة في الاكتفاء في الاستنجاء بالأحجار]
وسئل مالك عن رجل استنجى بأحجار ثم توضأ ولم يستنج بالماء ثم صلى، أيعيد؟ قال مالك: لا يعيد شيئاً مما صلى به، لا في وقت ولا في غيره.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله استنجى بأحجار أي بثلاثة أحجار، لأنه المستحب في الاستنجاء، لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الاستطابة، فقال أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار، فإن أنقى بحجر أو حجرين اكتفى به أو بهما. وقيل يمسح بتمام الثلاثة الأحجار، فإن اكتفى بالحجر أو الحجرين فلا إعادة عليه ، قاله في رسم أسلم من سماع عيسى. وفي سماع أبي زيد: وكذلك إن اكتفى بمدرة فلا إعادة عليه، قاله في رسم المحرم بعد هذا من هذا السماع. زاد في المدونة: وليغسل ما هنالك بالماء لما يستقبل. وهذا كله ما لم يعد ذلك المخرج، فإن عدا المخرج بكثير أعاد

(1/54)


في الوقت، واختلف إن عداه إلى ما لابد منه، فقيل لا إعادة عليه، وقيل يعيد في الوقت، والماء أطهر وأطيب، ومن قدر على الجمع بين الأحجار والماء فهو أولى وأحسن. وقد كان أهل قباء يفعلون ذلك، فنزلت فيهم: ((فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين))، وقال ابن حبيب لا نبيح اليوم الاستنجاء بالأحجار إلا لمن لم يجد الماء، لأنه أمر قد ترك وجرى العمل بخلافه وبالله التوفيق.
مسألة
[في المسح على الحائل للضرورة]
قال مالك: في الرجل يشتكي أصابع يده فتنكسر أظافره فيجعل عليها علكاً لأن تنبت ويحسن نباتها ويتوضأ على العلك، قال أرجو إذا كان بهذه الحال أن يكون [خفيفاً وهو] في سعة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأنه مما تدعوا إليه الضرورة، فيمسح عليها كالجبيرة.
مسألة
[فيما يكره الاستنجاء به]
وسمعت مالكاً يكره أن يستنجي بالعظم والروث.
قال محمد رشد: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بالعظم والجلد والبعرة والروثة والحممة، فكره من ذلك مالك في هذه

(1/55)


الرواية العظم والروث، وخفف العظم في رواية أشهب من هذا الكتاب، والروث في المجموعة. قال ابن حبيب واتباع النهي في تجنب ذلك كله أحب إلي. وقد اختلف إن استنجى بشيء مما نهي عن الاستنجاء به، فقيل إنه لا إعادة عليه وهو قول ابن حبيب، وقيل إنه يعيد في الوقت، والوقت في ذلك وقت الصلاة المفروضة، روي ذلك عن أصبغ، وكذلك عنده من استنجى بعود أو خرق أو خزف. فوجه القول الأول أن الاستنجاء إنما هو لعلة إزالة الأذى عن المخرجين، فإذا أزال الأذى بما عدا الأحجار ارتفع الحكم كما لو زال بالأحجار. ووجه القول الثاني أن إزالة الأذى عن المخرجين مخصوص بالأحجار لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار)) ولقوله ((من استجمر فليوتر))، فلا يجزي فيه ما عداها إلا الماء، لقوله ((إنه أطهر وأطيب)). ومما أجمعوا أنه لا يجوز الاستنجاء به كل ما له حرمة من الأطعمة، وكل ما فيه رطوبة من النجاسات، فإن استنجى بشيء مما له حرمة أعاد في الوقت عند أصبغ، وإن استنجى بما فيه رطوبة من النجاسات أعاد في الوقت قولاً واحداً.
مسألة
[في المسافر وصاحب الشجة يريد أحدهما إصابة أهله]
وسئل مالك عن الرجل تصيبه الشجة أو تنكسر يده فيربط عليها عصايب، فيريد أن يصيب أهله وهو بتلك الحال، فقال مالك أرجو أن لا يكون بذلك بأس، ولعل ذلك يطول عليه وهو محتاج

(1/56)


إلى أهله فلا أرى بذلك بأساً، ولا يشبه المسافر الذي لا يجد الماء، فإذا برأ غسل الموضع.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وإنما افترق حكم المسافر من صاحب الشجة لأن صاحب الشجة يطول أمره إلى برء شجته في أغلب الأحوال، والمسافر يجد الماء عن قرب في أغلب الأحوال. ولو كان المسافر في موضع يعلم أنه لا يجد الماء إلا بعد طول لكان له أن يطأ أهله إذا أضر به طول الانتظار. وقد حكى ذلك ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وحكى فيه حديثاً. ولو كان صاحب الشجة تبرأ شجته عن قريب لما كان له أن يبطأ حتى تبرأ شجته، فيمكنه غسل ذلك الموضع في غسله. وهذا بين، لأن الأحكام إنما تتعلق بالمعاني لا بالأسماء إلا فيما قرر الشرع أن الحكم يتعلق بها. وهذا كله في الاختيار وما يستحب له أن يفعل. وأما أن يكون على واحد منها التربص واجباً فلا. وقد روى ابن وهب عن الليث بن سعد أن للمسافر أن يطأ أهله، وإن لم يكن عنده ماء تيمم وصلى، واختاره ابن وهب وقال الصعيد الطيب يقوم مقام الماء، لقوله تعالى: ((فلم تجدوا ماءً فتيمموا)) الآية وبالله التوفيق.
مسألة
[في غسل الجنابة يوم الجمعة هل يجزي أحدهما عن الآخر؟]
وسئل مالك عن رجل قام من الليل فاحتلم فأصبح ولم يشعر، وكانت ليلة جمعة، فحضرت الصلاة فاغتسل للجمعة ثم راح وصلى، ثم علم بذلك فوجده في ثوبه، فقال أرى

(1/57)


أن يغتسل الثانية ويعيد الصلاة ظهراً أربعاً . فقيل له ألا ترى غسل الجمعة يكفيه؟ قال لا إنما الأعمال بالنية. قال ابن القاسم: قال لي مالك يجزئ غسل الجمعة عن غسل الجنابة إذا نوى به. قال ابن القاسم: ويجزيه عن غسل الجنابة من غسل الجمعة إذا كان عند الرواح.
قال محمد بن رشد: قوله إن غسل الجمعة لا يجزئ من غسل الجنابة هو مثل ما في المدونة، وحكاه ابن حبيب أيضاً عن مالك من رواية ابن القاسم وعن ابن عبد الحكم وأصبغ، وحكى خلاف ذلك عن مالك أنه يجزيه من رواية مطرف وابن الماجشون وابن نافع وأشهب وابن كنانة وابن وهب. قال وليس غسل الجمعة كمن اغتسل تبرداً، وإنما هو كمن توضأ للنافلة أو للنوم فإنه يصلي به الفريضة عند مالك وجميع أصحابه ابن القاسم وغيره. والقول الأول أظهر، لأن الذي اغتسل للجمعة وهو لا يعلم بالجنابة لم يقصد إلى رفع حدث الجنابة، إذ لم يعلم بها، وإنما اغتسل للجمعة غسل سنة لا لرفع حدث إذ قد يجوز له شهود الجمعة بغير غسل، فوجب أن لا يرتفع عنه الحدث به، وليس ذلك كالذي يتوضأ للنوم، لأن الذي يتوضأ للنوم وإن كان الوضوء له استحباباً إذ يجوز له النوم بغير وضوء، فقد قصد به إلى رفع الحدث إذا كان محدثاً قد علم بحدثه. وأما الذي يتوضأ للنافلة فلا إشكال في الفرق بينه وبين الذي اغتسل للجمعة ناسياً للجنابة لأن النافلة لا تجوز إلا بوضوء والجمعة تجوز بغير غسل. ووجه القول الأول ظاهر لقول النبي، عليه السلام: ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن

(1/58)


اغتسل فالغسل أفضل)) ووجه الدليل منه أنه قال: ((ومن اغتسل فالغسل أفضل))، فجعل الغسل الذي هو سنة يجزئ عن الوضوء الذي هو فرض، فوجب على قياس ذلك أن يجزئ عن الغسل للجنابة الذي هو فرض. وقوله إن غسل الجمعة يجزيه عن غسل الجنابة إذا نوى به صحيح، مثل ما في الصلاة الثاني من المدونة. وقد روى أبو حامد الأسفراييني عن مالك أن الغسل لا يجزيه إذا نوى به الجنابة والجمعة جميعاً، وهو بعيد شاذ. وأما قوله إنه يجزئ غسل الجنابة من غسل الجمعة إذا كان عند الرواح فهو صحيح، لأن غسل الجمعة ليس لرفع حدث، وإنما هو لما شرع لها من التنظف وقد حصل التنظف لها بالغسل للجنابة، واقتضت نية الغسل للجنابة نية الغسل للجمعة لأنها أوجب منها فاستغرقتها، وقد حكى ابن حبيب أن ذلك يجزئ، وهذا أصح لما بيناه والله أعلم وبه التوفيق.
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمراً
مسألة في تخليل اللحية في غسل الجنابة
وسئل مالك عن الجنب إذا اغتسل أيخلل لحيته؟ قال ليس ذلك عليه، قوال أشهب عن مالك إن عليه تخليل اللحية من الجنابة. ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل أصول شعر رأسه من الجنابة.

(1/59)


قال محمد بن رشد: وجه رواية ابن القاسم عن مالك بإسقاط وجوب تخليل اللحية في الغسل من الجنابة أن الأصل كان ألا يجب تخليل شعر الرأس واللحية لأنه من أصل الخلقة، فإذا كشف صار ما تحته من البواطن وانتقل فرض الغسل إليه، فخرج من ذلك تخليل شعر الرأس بما ثبت في الحديث من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل شعر رأسه من الجنابة، وبقي شعر اللحية على الأصل. ووجه رواية أشهب بإيجاب تخليلها بالقياس على شعر الرأس وما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغسلوا الشعر وانقوا البشر فإن تحت كل شعرة جنابة))، فعم ولم يخص وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع والحيوان المضمون
مسألة في البير تقع فيها الفارة
فيصرف ماؤها في طعام يصنع به
وسئل مالك عن بئر وقعت فيه فارة فبلوا بمائها قمحاً فقلوه، أترى أن يؤكل؟ فقال مالك: لا يأكلون الميتة.
قال محمد بن رشد: شدد مالك، رحمه الله، في هذه الرواية في أكل القمح المبلول بالماء الذي ماتت فيه الفارة وجعل ذلك كالميتة، فإن كان فهم من سؤال السائل أن الماء كان قد تغير لونه أو طعمه من ذلك أو رائحته على الاختلاف في مراعاة تغير الرائحة فلا إشكال ولا اختلاف في أنه كالميتة لا يحل منه إلا ما يحل من الميتة؛ وإن كان أجاب على أنه لم يتغير من ذلك فوجه قوله أنه حمله على النجاسة في المنع من أكله ابتداء على سبيل التوقي والتحرز من المتشابه، كما منع من الوضوء به ابتداء وقال إنه يتيمم ويتركه،

(1/60)


وإن كان لا يراه نجساً على الحقيقة، كأنه يقول إن توضأ به وصلى لا يعيد إلا في الوقت. وفي رسم النذر والجنائز والذبائح ورسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب، وفي سماع موسى بن معاوية في الخبز المعجون بمثل هذا الماء أنه لا يؤكل، وهذا وجه القول فيه. وفي غسل اللحم المطبوخ به اختلاف من رواية أشهب ورواية موسى عن ابن القاسم، وسنتكلم على ذلك إذا مررنا به إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.
مسألة
[في الغسل في القضاء]
وسئل مالك عن الغسل في الفضاء، فقال لا بأس بذلك. فقيل له يا أبا عبد الله إن فيه حديثاً، فأنكر ذلك وقال تعجباً: ألا يغسل الرجل في الفضاء، ورأيته يتعجب من الحديث إنكاراً له.
قال محمد بن رشد: وجه إجازة مالك، رحمه الله، للرجل أن يغتسل في الفضاء إذا أمن أن يمر به أحد هو أن الشرع إنما قرر وجوب ستر العورة عن المخلوقين من بني آدم دون من سواهم من الملائكة، إذ لا تفارقه الحفظة الموكلون عليه منهم في حال من الأحوال. قال الله عز وجل: ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد))، وقال: ((إن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون)). ولهذا قال مالك تعجباً: ألا يغتسل الرجل في الفضاء؟ إذ لا فرق في حق الملائكة بين الفضاء وغيره، وأنكر الحديث لما كان مخالفاً للأصول، لأن الحديث إذا كان مخالفاً للأصول فإنكاره واجب إلا أن يرد من وجه صحيح لا مطعن فيه فيرد إليها بالتأويل الصحيح. وقد روي عن

(1/61)


أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حدثتم عني حديثاً تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف)). ويكره التجرد لغير ضرورة ولا حاجة في الفضاء وغير الفضاء، ففي رسالة مالك إلى هارون: إياك والتجرد خالياً فإنه ينبغي لك أن تستحي من الله إذا خلوت، وذكر في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً .
مسألة
[في حكم طهارة الأزقة والطرق]
وسئل عن طين المطر والماء الذي لا يستطاع أن يتخلص من أذاه يصيب الثياب من مشي الدابة أو غيرها، قال أرى أن يكون الناس من ذلك في سعة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة، وزاد فيها: وإن كان فيه أبوال الدواب وأرواثها، يريد ما لم يكن غالباً أو عيناً قائمة، وهو كما قال رحمه الله، لأن الله قد وسع على هذه الأمة ورفع عنهم الحرج في دينهم، فقال تعالى: ((وما جعل عليكم في الدين من حرج))، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه))، ومثل هذا المعنى في الآثار كثير وبالله التوفيق.

(1/62)


مسألة
[في مسح الرأس بفضل ماء اللحية أو الذراعين]
وسئل مالك عمن يمسح رأسه بفضل ذراعيه، فقال: لا أحب ذلك. قيل لابن القاسم: فلو مسح بفضل ذراعيه وبفضل لحيته ثم صلى فلم يذكر حتى خرج الوقت، قال يعيد وإن ذهب الوقت، وليس هذا بمسح.
قال محمد بن رشد: أما مسح الرجل رأسه بفضل ذراعيه فلا يجوز لأنه لا يمكن أن يتعلق بذراعيه من الماء ما يمكنه به المسح ويكفيه له. وليس في قول مالك لا أحب ذلك دليل على أنه إن فعله أجزأه، لأنه قد يقول لا أحب تجوزاً فيما لا يجوز عنده بوجه، فقد كان العلماء يكرهون أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام فيما طريقه الاجتهاد، ويكتفون بأن يقولوا أكره هذا ولا أحب هذا ولا بأس بهذا وما أشبه هذا من الألفاظ، فيجتزى بذلك من قولهم ويكتفي به. وكذلك فضل اللحية إذا لم يتعلق بها من الماء ما فيه كفاية للمسح، وعلى هذا تكلم ابن القاسم في هذه الرواية بدليل قوله وليس هذا بمسح، وقد اختلف إذا عظمت فكان فيما يتعلق بها من الماء ما فيه كفاية للمسح وفضل بين، فأجاز ابن الماجشون لمن ذكر مسح رأسه وقد بعد عنه الماء أن يمسح بذلك البلل، ومنع مالك من ذلك في المدونة، وهذا الاختلاف جار على اختلافهم في إجازة الوضوء بالماء المستعمل عند الضرورة، فظاهر قول مالك في المدونة أن ذلك لا يجوز مثل المعلوم من قول أصبغ خلاف قول ابن القاسم، وبالله التوفيق.

(1/63)


ومن كتاب أوله تأخير العشاء في الحرس
[مسألة في الخف يصيبه الروث]
وسئل عن الخفين يلبسهما الرجل فيأتي المسجد فيصيبهما الروث الرطب فيخلعهما فيصلي ثم يخرج يمشي بهما فيكثر ذلك عليه، أترى أن يمسحهما ويصلي بهما؟ [قال إن أصابهما روث رطب فلا يصلي بهما] حتى يغسلهما أو يخلعهما. قال ابن القاسم: قد خففه مالك بعد ذلك إذا كان غالباً.
قال محمد بن رشد : هذا المعنى من اختلاف قول مالك متكرر في رسم المحرم والرسم الذي بعده، وزاد في رسم المحرم وأما العذرة وبول الناس وخرو الكلاب وما أشبهها فلا يجزئ فيها إلا الغسل، وهو كله معنى ما في المدونة وعند مالك رحمه الله وجميع أصحابه أن النجاسات كلها لا يطهرها إلا الماء وإن زال العين بغير الماء فالحكم باق لأنه خفف في أحد قوليه أن يمسح الخفين من أرواث الدواب الرطبة وأبوالها ويصلي فيها دون أن يغسل للمشقة التي تلحق الناس في خلعهما أو غسلهما لكثرة تكرر ذلك عيهم كلما أقبلوا أو أدبروا، والطرقات لا تنفك عنها ولا يمكن التوقي منها، فخص الخف بالمسح من أبوال الدواب وأرواثها الطريقة لهذه العلة، كما خص المخرج بالمسح بالأحجار لتكرر الأذى عليه ومشقة غسله أبداً كلما تكرر عليه الأذى، وكما جوز لمن يكثر الترداد إلى مكة من الحطابين وغيرهم أن يدخلوها بغير إحرام، ومثل هذا كثير. وقال ابن حبيب: إن النعل والقدم

(1/64)


لا يجزئ فيهما المسح، إذ لا مؤنة في نزع النعل ولا في غسل القدم، وفي المدونة دليل ضعيف على أن النعل بمنزلة الخف يجزئ فيه المسح من أرواث الدواب وأبوالها، بخلاف الدم والعذرة. وقد أعمله أبو إسحاق التونسي على ضعفه بحكم منه على مساواته بين النعل والخف. قال إذ قد يحتاج الرجل أن يصلي في نعليه كما يحتاج أن يصلي بخفيه، وإن غسلهما كلما احتاج إلى الصلاة بهما أفسدهما الغسل. ولما قاله أبو إسحاق وجه إذا احتاج إلى الصلاة بهما لشدة حر الأرض أو بردها، وأما إذا لم يحتج إلى ذلك فما قاله ابن حبيب أظهر، إذ لا مؤنة في خلعهما. وقد جاء ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما انصرف قال لهم خلعتم نعالكم فقالوا رأيناك خلعت فخلعنا، فقال إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قدراً)). وفي هذا دليل إذ خلعهما ولم يكتف بمسحهما. والخفاف الذي عندنا والشمشكات تجري مجرى النعال. وأما القدم فقياسه على الخفين في جواز مسحه لمشقة غسله كلما أراد الصلاة أولى من قياسه على النعلين، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق فيه وبالله التوفيق.
واختلف في وجه تفرقته بين أرواث الدواب وأبوالها وبين العذرة والدم وخرو الكلاب وما أشبه ذلك، فقيل إنما فرق بين ذلك مراعاة للاختلاف في نجاسة أرواث الدواب وأبوالها، وقيل إنما فرق بين ذلك لأن الطرقات لا تنفك من أرواث الدواب وأبوالها غالباً، وهي تنفك مما سوى ذلك من النجاسات، والأول أظهر والله أعلم وبه التوفيق.

(1/65)


مسألة
[في وضوء الجنب إذا أراد النوم]
وسئل مالك عن الرجل تصيبه الجنابة نهاراً وهو يريد أن يقيل، أيتوضأ وضوء الصلاة مثل الليل؟ قال نعم لا ينام حتى يتوضأ.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة سواء، وإنما سأله عن نوم النهار، لأن السنة إنما جاءت في نوم الليل. ذكر مالك في موطأه عن عبد الله بن عمر أنه قال: ((ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ واغسل ذكرك ثم نم))، فقاس مالك رحمه الله نوم النهار على نوم الليل في ذلك إذ لا فرق بينهما في المعنى، مع أنه ظاهر قول عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها كانت تقول: ((إذا أصاب أحدكم المرأة ثم أراد أن ينام قبل أن يغتسل فلا ينم حتى يتوضأ وضوءه للصلاة)) فوضوء الجنب قبل أن ينام من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير خطيئة، بدليل ما روي عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما نام وهو جنب لهيئته لا يمس

(1/66)


ماءً))، وإن كان قد قال ابن حبيب إن محمل ذلك على أنه يتيمم إذ لم يحضره الماء، وقال إن الوضوء للجنب لازم لا يسع أحداً تركه، وما قلناه هو الظاهر والله أعلم. ومما يدل على التوسعة في ذلك أن ابن عمر كان لا يغسل رجليه في وضوئه له، وقد اختلف في معنى أمره بالوضوء فقيل إنما أمر بذلك لعله ينشط فيغسل، وقيل إنما أمر بذلك مخافة أن يتوفى في منامه فيكون على أدنى الطهارتين، والأول أظهر والله أعلم، لن الوضوء لا يرفع حدث الجنابة. ألا ترى أن الحائض لا تؤمر بذلك إذ لا تملك تعجيل طهرها، وهذا بين، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله رجل كتب عليه ذكر حق
مسألة
[في غسل المستيقظ من النوم يده قبل أن يدخلها في إنائه]
وسئل عن الرجل يستيقظ من النوم فيدخل يده في إنائه، قال لا بأس بذلك، وإنما مثله في ذلك الجرة تكون في البيت فيستيقظ أهل البيت فيغرفون منها فيدخلون أيديهم فيها فلا يكون بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: قوله لا بأس بذلك أي لا بأس بالماء إن فعل ذلك ما لم يعلم بيده نجاسة. ولا ينبغي له إذا استيقظ من نومه أن يدخل

(1/67)


يده في وضوئه قبل أن يغسلها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري ِأين باتت يده))، فإن فعل ذلك وهو موقن بطهارة يده فالماء طاهر، وإن فعله وهو موقن بنجاستها فالماء نجس على مذهب ابن القاسم يتيمم ويتركه، فإن توضأ به أعاد في الوقت مراعاةً للخلاف، وإن فعله وهو لا يعلم طهارة يده من نجاستها فهي محمولة على الطهارة حتى يوقن بنجاستها، وسواء أصبح جنباً أو غير جنب على المشهور في المذهب. وقال ابن حبيب إن كان بات جنباً أنجس ذلك الماء وهو معنى الحديث، وحكي ذلك عن الحسن البصري. فإن كان الإناء مثل المهراس والغدير الذي لا يقدر على أن يغسل يده منه إلا بإدخالها فيه أدخل يده فيه إن لم يعلم بها دنساً، ولا يأخذ الماء بفيه ليغسلها، إذ ليس ذلك من عمل الناس، قاله في آخر سماع أشهب. وأما إن كانت يده قذرة فلا يدخلها فيه حتى يغسلها، وليحتل في ذلك بأن يأخذ الماء بفيه أو بثوب أو بما يقدر عليه، قاله في سماع موسى بن معاوية الصمادحي بعد هذا من هذا الكتاب وبالله التوفيق.
مسألة
[في المسافرين ينزلون دون المنهل بموضع لا ماء فيه]
وسئل مالك عن قوم كانوا في سفر وليس معهم ماء فأرادوا أن ينزلوا من الليل دون المنهل بثلاثة أميال خوفاً إذا أتوا المنهل من الليل أن يذهب بعض متاعهم أو يسرقوا في ظلمة الليل ويتيممون

(1/68)


للصلاة إذا أصبحوا، فكره وقال لا يعجبني إلا أن يرسلوا أحداً يأتيهم بماء.
قال محمد بن رشد: فإن فعلوا فقد قال ابن عبد الحكم لا إعادة عليهم، وهو ظاهر الرواية، وقال أصبغ يعيدون في الوقت، وقال ابن القاسم يعيدون في الوقت وبعده، وقع هذا الاختلاف في المبسوطة، والقول الأول أظهر والله أعلم، لأنهم فعلوا ما يجوز لهم من النزول دون المنهل بثلاثة أميال للعلة التي خافوها من ذهاب متاعهم. والدليل على جواز ذلك لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أقام على التماس عقد عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حتى أصبح الناس على غير ماء)) فلا وجه لمن قال من الشيوخ إن الخوف على ذهاب المال لا يمنع من الفرض بخلاف الخوف على النفس مع السنة الثابتة في هذا. وإذا كان لا يلزمه أن يشتري الماء لغسله ووضوئه بما لا يشبه من الثمن إذا رفعوا عليه فيه وكان له أن ينتقل إلى التيمم ويحوط ماله من أن يشتري الماء بأكثر من ثمنه على ما قال في المدونة، فأحرى أن يكون له أن ينتقل ها هنا إلى التيمم بالنزول دون المنهل حياطة على ماله خوف السرقة عليه، مع أن طلب الماء لا يلزمه إلا بعد دخول وقت الصلاة، لقول الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة)) الآية وبالله التوفيق.

(1/69)


ومن كتاب أوله الشريكين يكون لهما مال
مسألة
وقال مالك في تفسير هذه الآية: ((وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه))، أن ذلك في المريض الذي لا يستطيع أن ينهض إلى الماء ولا يجد من يناوله إياه، فإذا كان كذلك يتيمم المسافر إذا لم يجد الماء.
قال محمد بن رشد: ليس هذا نص التلاوة في الآية ، وإنما ساقها على معنى من قدر فيها تقديماً وتأخيراً، فأعاد شرط عدم الماء السفر والمرض، فقال إن المريض الذي يتيمم هو الذي لا يستطيع أن ينهض إلى الماء ولا يجد من يناوله إياه، فلم يجعل المريض الذي لا يقدر على مس الماء إن كان واجداً له من أهل التيمم، وكذلك الحاضر العادم للماء على قياس هذه الرواية ليس من أهل التيمم. ومن حمل الآية على ظاهرها ولم يقدر فيها تقديماً ولا تأخيراً جعلهما جميعاً من أهل التيمم، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، لأن تأويل الآية على هذا: وإن كنتم مرضى لا تقدرون على مس الماء ولا تجدون من يناولكم إياه، أو على سفر غير واجدين للماء، فاكتفى بذكر المرض عن ذكر عدم الماء وعدم القدرة على مسه وبذكر السفر عن ذكر عدم الماء لما كان ذلك الأغلب من أحوالهما، وفهم ذلك من مراد الله عز وجل كما فهم من مراده عز وجل ((فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر)) أن معنى ذلك فأفطر

(1/70)


فعدة من أيام ولما كان الحاضر واجداً للماء في أغلب الأحوال صرح في الآية بشرط عدمه فقال ((أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً)). والتيمم: القصد، والصعيد: وجه الأرض وهو ما صعد من أي ارتفع، والطيب الطاهر، وبالله التوفيق.
مسألة
وقال مالك في السيف يقاتل به الرجل في سبيل الله فيكون فيه الدم، هل ترى أ، يغسل؟ قال ليس ذلك على الناس.
قال محمد بن رشد: قال عيسى وكذلك الذي شأنه الصيد، وهو كما قال لأنه أمر قد مضى الناس على إجازته وتخفيفه. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون بأسيافهم وفيها الدم ولا يبالون بذلك، ولو كانوا يغسلون أسيافهم في غزواتهم لصلواتهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده لنقل ذلك وعرف، والله أعلم وبه التوفيق.
مسألة
قال: وسألت مالكاً عن لبس الخاتم فيه ذكر الله، أيلبس في الشمال وهو يستنجى به؟ قال مالك أرجوا أن يكون خفيفاً.
قال محمد بن رشد: قوله أرجو أن يكون خفيفاً يدل على أنه عنده مكروه وأن نزعه أحسن، وكذلك قال فيما يأتي في هذا السماع في رسم مساجد القبائل، وفي رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب، ومثله لابن حبيب في الواضحة. ووجه الكراهية في ذلك بينة، لأن ما كتب فيه اسم الله تعالى فمن الحق أن يجعل له حرمته. وقد قال مالك رحمه الله في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة: إني لأعظم أن يعمد إلى دراهم فيها ذكر الله وكتابه فيعطاها نجساً، وأعظم ذلك إعظاماً شديداً وكرهه. وقول ابن

(1/71)


القاسم في رسم مساجد القبائل: وأن استنجي بخاتمي وفيه ذكر الله ليس بحسن من فعله، ويحتمل أن يكون إنما يفعله لأن الخاتم قد عض بإصبعه، فيشق عليه تحويله إلى اليد الأخرى كلما دخل الخلاء واحتاج إلى الاستنجاء فيكون إنما تسامح في ذلك لهذا المعنى، فهو أشبه بورعه وفضله، والله أعلم وبه التوفيق.
مسألة
وسئل عن المرأة ترى الدم عند وضوئها، فإذا قامت ذهب ذلك عنها. قال مالك: أرى ألا تترك الصلاة إلا أن ترى دماً تنكره، ولتشد ذلك بشيء.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة أيضاً في رسم يوصى من سماع عيسى، وزاد فيها من قول مالك: وليس عليها غسل، وهو تفسير لهذه الرواية. ووجه ذلك أن الدم لما كان يتكرر عليها عند كل وضوء دون سائر الأوقات لم يجعل ذلك حيضاً، ورآها مستنكحة بذلك من الشيطان، فأمرها بالصلاة لوم ير عليها غسلاً، كما فعل عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ في المرأة التي استفتته في نحو هذا، ذكره مالك في كتاب الحج من الموطأ، عن أبي الزبير المكي، أن أبا عامر الأسلمي عبد الله بن سفيان أخبره أنه كان جالساً مع عبد الله بن عمر، فجاءته امرأة تستفتيه فقالت: إن أقبلت أريد أن أطوف بالبيت، حتى إذا كنت عند باب المسجد هرقت الدماء، فرجعت حتى ذهب ذلك [عني ثم أقبلت حتى إذا كنت عند باب المسجد هرقت الدماء فرجعت حتى ذهب ذلك عني]، ثم أقبلت حتى إذا كنت عند باب المسجد هرقت الدماء، فقال عبد الله بن عمر: نما ذلك ركضة من الشيطان فاغتسلي ثم استتري بثوب ثم طوفي. وقد قال ابن أبي زيد: معنى ما أراد مالك أنها

(1/72)


تغتسل منه وإن تمادي عند كل وضوء حتى تجاوز أيامها والاستظهار، ثم هي مستحاضة. ومالك أولى بتبيين ما أراد، وقد بينه في رسم يوصي من سماع عيس على ما ذكرناه وبينا هناك وجهه ومعناه.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يكون في السفر فتحضره الصلاة والماء منه على ميل ونصف ميل، فيريد أن يذهب إليه وهو يتخوف عناء ذلك أو يتخوف منه أن ينفرد إما من سلابة وإما من السباع، قال لا أرى عليه أن يذهب إليه وهو يتخوف.
قال محمد بن رشد: رضي الله عنه: وسواء تخوف على نفسه أو على ماله دون نفسه ليس عليه أن يذهب وهو يتخوف على شيء من ذلك على ما صححناه في مسألة رسم كتب عليه ذكر حق قبل هذا. ودليل هذه الرواية أنه إن لم يتخوف شيئاً فعليه أن يذهب إليه على الميل والنصف ميل. وفي النوادر إن كانت عليه في ذلك مشقة فليتمم.
قال محمد بن رشد: وذلك على قدر ما يجد من الجلد والقوة، وذلك مفسر في رسم البز بعد هذا. وأما الميلان فهو كثير ليس عليه في سفر ولا حضر أن يعدل عن طريقه ميلين لأن ذلك مما يشق، قاله سحنون في نوازله من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية
مسألة
وقال مالك في الرجل يسلس بوله فلا ينقطع عنه، قال: أرى أن يتوضأ لكل صلاة، ولو كان الشتاء واشتد عليه الوضوء ثم فرق بين الصلاتين لم أر بذلك بأساً.

(1/73)


قال محمد بن رشد: حكى عبد الحق عن بعض البغداديين أن الذي يسلس بوله أو مذيه من ابردة، إنما يستحب له الوضوء لكل صلاة إذا كان ينقطع المذي أو البول ثم يعود. وأما إن لم ينقطع ذلك البتة فلا معنى لاستحباب الوضوء لكل صلاة، وهو معنى صحيح ينبغي أن يحمل على التفسير لجميع الروايات، فنقول إن معنى قوله في هذه الرواية فلا ينقطع عنه أي لا يكاد ينقطع، لا أنه يسيل أبداً لا ينقطع، وهذا جائز أن يسمى الشيء باسم ما قرب منه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه)). وقد اختلف إن صلى صلاتين بوضوء واحد من غير ضرورة ولا مشقة تلحقه، فقيل يعيد الأخرى في الوقت، وقيل لا إعادة عليه، حكى ابن المواز القولين جميعاً عن مالك في المستحاضة، وهذا مثله، لأن ساوى بينهما على ظاهر قوله في المدونة، وكذلك قال ابن المواز وإن ذلك كالذي يسلس منه البول. وقد يحتمل أن يفرق بينهما للاختلاف في المستحاضة، فقد قيل عليها الغسل لكل صلاة، وقيل عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً وتتوضأ لكل صلاة وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يمرض فتغمز امرأته رجليه ورأسه، قال لا ينقض ذلك وضوءها، والرجل مثل ذلك لامرأته، وإنما ينقض الوضوء ما كان من ذلك للذة. فأما الرجل تناوله امرأته الشيء أو يناولها، فتمسه أو يمسها فليس عليه شيء، وإنما الذي عليه من

(1/74)


ذلك الذي هو للذة. وقال مالك في الجسة من فوق الثوب أو من تحته إذا كان على وجه اللذة فأرى عليه الوضوء. وقال سحنون: كان علي بن زياد يروي إن كانت الجسة من فوق ثوب كثيف لا يصل بجسه إلى جسدها فلا شيء عليه. وإن كان ثوباً خفيفاً يصل في جسه إلى جسدها فحينئذ يكون عليه الوضوء.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن اللمس مع القصد إلى الالتذاذ يوجب الوضوء وإن لم يلتذ، وهو ظاهر ما في المدونة أيضاً، ونص رواية عيسى عن ابن القاسم في رسم أوصى من هذا الكتاب خلاف ما في سماع أشهب، وسواء كانت الملامسة من فوق الثوب أو من تحته، إلا أن يكون الثوب كثيفاً على ما في رواية علي بن زياد، لأنها تحمل على التفسير. وتحصيل هذه المسألة أن من التذ باللمس فلا خلاف في أن الوضوء واجب عليه سواء قصد إلى الالتذاذ به أو لم يقصد. واختلف إذا قصد الالتذاذ به فلم يلتذ على قولين، وأما إن لم يقصد الالتذاذ بذلك ولا التذ به فلا خلاف في أنه لا وضوء عليه، وبالله التوفيق.
مسألة
قال مالك: ليس على المرأة أن تقوم قبل الفجر فتنظر في طهرها، وليس هذا من عمل الناس، ولم يكن للناس ذلك الزمان مصابيح.
قال محمد بن رشد: كان القياس أن يجب عليها أن تنظر قبل الفجر بقدر ما يمكنها إن رأت الطهر أن تغتسل وتصلي المغرب والعشاء قبل طلوع الفجر، إذ لا اختلاف في أن الصلاة تتعين في آخر الوقت على من لم يصلها في سعة من الوقت، فسقط ذلك عنها في الاتساع ومن ناحية المشقة

(1/75)


التي تدركها في القيام من الليل، فخفف ذلك عنها بأن تنظر عند رادة النوم، فإن استيقظت عند الفجر وهي طاهر فلم تدر لعل طهرها كان من الليل حملت في الصلاة على ما نامت عليه ولم يجب عليها قضاء صلاة الليل حتى توقن أنها طهرت من قبل الفجر، وأمرت في رمضان بصيام ذلك اليوم وأن تقضيه احتياطاً. فيجب على المرأة أن تنظر عند النوم للعلة التي ذكرنا، وعند أوقات الصلوات، ويجب ذلك عليها في أوائلها وجوباً موسعاً، ويتعين في آخرها بقدر ما يمكنها أن تغتسل وتصلي قبل خروج الوقت. والأصل في هذه المسألة قول الله عز وجل ((يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة)) الآية . لأنها دالة على أن التأهب لها بالغسل والوضوء لا يجب إلا عند إرادة فعلها بدخول وقتها، وهو بين، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن رجل خرج من منزله وهو على غير وضوء وهو يريد منزلاً آخر قريباً منه، وهو يرى أنه سيأتيه قبل غروب الشمس، فغربت عليه وبينه وبين الموضع الذي كان يريده ميل أو ميلان، قال لا يصلي حتى ينتهي إلى موضعه الذي يريد فيتوضأ ويصلي.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن الميل أو الميلين يأتي عليهما قبل مغيب الشفق، ولو كان لا يدرك الماء قبل مغيب الشفق لوجب عليه أن يتيمم ويصلي كما قال في المدونة، ولا اختلاف في هذه المسألة لأنه مسافر وإن كان سفراً قريباً لا تقصر فيه الصلاة. وقيل إنها جارية على الاختلاف في الحاضر العادم للماء هل هو من أهل التيمم أم لا؟ على

(1/76)


اختلافهم في آية التيمم هل تحمل على ظاهرها أو يقدر فيها تقديم وتأخير. على ما تقدم القول عليه في رسم الشريكين؟ وبالله التوفيق.
مسألة
قال سحنون: حدثني ابن القاسم عن مالك عن يزيد عن عبد المالك بن المغيرة، عن سعيد بن أبي سعيد القبري، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أفضى بيده إلى فرجه ليس بينهما حجاب فقد وجب عليه الوضوء للصلاة)).
قال محمد بن رشد: قد روي هذا المعني عن النبي، عليه السلام، من وجوه كثيرة، وروي عن طلق بن علي أنه قال: ((قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل كأنه بدوي فقال يا رسول الله هل ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ فقال وهل هو إلا بضعة منك)). فمن أهل العلم من أوجب الوضوء من مس الذكر، ومنهم من لم يوجبه، ومنهم من فرق بين العمد والنسيان، فاستعمل الآثار الواردة في ذلك ولم يطرح منها شيئاً. والأقوال الثلاثة قائمة في المذهب لمالك. روي أشهب عنه في هذا الكتاب أنه قال: من مس ذكره انتقض وضوؤه، فظاهره في العمد والسهو. وروي عنه في كتاب الصلاة أنه سئل عن مس الذكر فقال لا أوجبه وأبى، فروجع في ذلك فقال: يعيد ما كان في الوقت وإلا فلا، فظاهره أيضاً في العمد والسهو. وروى ابن وهب عنه في سماع سحنون من هذا [الكتاب] القول الثالث

(1/77)


أنه لا إعادة عليه إلا أن يمسه عامداً. وإلى هذا يرجع ما في المدونة على تأويل بعض الناس، وقد تأول ما فيها [على الظاهر] من التفرقة بين باطن الكف وظاهره من غير اعتبار بقصد ولا وجود لذة، وهذا كله إذا مسه على غير حائل. واختلف قوله إن مسه على حائل خفيف على قولين، أحدهما أنه لا وضوء عليه، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه في سماع سحنون من هذا الكتاب اتباعاً لظاهر هذا الحديث، والثاني أن عليه الوضوء، وهو قوله في رواية على بن زياد عن مالك. وأما إن كان الحائل كثيفاً فلا وضوء عليه قولاً واحداً، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عمن توضأ ولم يخلل أصابع رجليه، قال يجزئ عنه.
قال محمد بن رشد: ظاهر الرواية أن تخليلها أحسن، وكذلك قال ابن حبيب أن تخليلها مرغب فيه. وفي رسم نذر سنة بعد هذا أنها لا تخلل ، ونحوه روى ابن وهب عن مالك في المجموعة، قال ولا خير في الجفاء والغلو، وبالله التوفيق.
ومن كتاب البز
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يجنب فيدخل البير المعين يغتسل فيه، قال كنت أسمع أن ينهى أن يغتسل الجنب في الماء الدائم والمقيم. فقيل له إن البير ربما كانت كثيرة الماء، قال هو ماء مقيم

(1/78)


وإن كان معيناً، قد قيل لأبي هريرة حين ذكر غسل اليد للوضوء فقيل له: فأين المهراس؟ قال أف لك لا تعارض الحديث، يريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله.
قال محمد بن رشد: قد مضى التكلم في أول رسم من هذا السماع على الغسل في الماء الدائم، وفي رسم كتب عليه ذكر حق على حكم إدخال اليد في الماء قبل غسلها وظاهر قول أبي هريرة أنه لا يسعه أن يدخل يده في المهراس قبل أن يغسلها للحديث ويلزمه أن يحتال لغسلها إلا أن يوقن بطهارتها خلاف ما يأتي في آخر سماع أشهب من تخفيف ذلك، فانظر ذلك وقف عليه. وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن المسافر يحضره وقت الصلاة وليس معه ماء، والماء متنح عن الطريق، أترى أن يعدل إليه؟ قال إن ذلك لمختلف، فمنهم القوي والضعيف، والأمر الذي لا يقوى عليه فهو على قدر ما يطيق، فإن لم يكن يقوى على ذلك وذلك يشق عليه فأرجوه أن يكون ذلك واسعاً له إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذا المعنى في آخر رسم الشريكين بما أغنى عن إعادته وبالله التوفيق.

(1/79)


مسألة
وسئل مالك عن نضح الثوب ما وجه ذلك؟ قال تخفيف، وهو جيد. قال عليه السلام للرجل حين سأله لعلي، قال : ((اغسل ذكرك وأنثييك وانضح)). وكان عبد الله بن عمر ينضح، وهو حسن، وهو تخفيف، يريد تخفيفاً لما يشك فيه.
قال محمد بن رشد: هذا أصل قد تقرر في المذهب أن ما شك في نجاسته من الثياب يجزي فيه النضح. والأصل في ذلك نضح أنس رضي الله عنه، للنبي، عليه السلام، الحصير الذي صلى عليه. وأن عمر بن الخطاب لما غسل ما رأى في ثوبه من الاحتلام نضح ما لم ير. وأما احتجاجه في الرواية لذلك بقوله عليه السلام: ((اغسل ذكرك وأنثييك وانضح)) فليس بين، لأن النضح بعد الغسل لما قد غسل ليس لشك في نجاسته، وإنما هو لرفع ما يخشى أن يكون يطرأ عليه بعد ذلك من الشك في أن يكون قد خرج منه بعد الغسل بقية من ذلك المذي، كما قال سعيد بن المسيب: إذا توضأت وفرغت فانضح بالماء ثم قل هو الماء. ووجه ما ذهب إليه في احتجاجه أن النضح يرفع الشك الذي قد وقع كما يرفع الشك الذي يتوقع، ويحتمل أن يكون أراد صلى الله عليه وسلم بقوله ((وانضح))، أي انضح ما شككت فيه من ثيابك أن يكون المذي قد أصابه. فعلى هذا التأويل يصح الاحتجاج بالحديث لوجوب نضح ما شك في نجاسته من الثياب، ويكون بينا لا إشكال فيه. وإنما أمره صلى الله عليه وسلم بغسل أنثييه لما يخش أن يكون قد أصابهما من الأذى، لأن المذي من شأنه أن يمتد وينفرش، ولذلك قال مالك رحمه الله: ليس على الرجل غسل أنثييه

(1/80)


من المذي إلا أن يخشى أن يكون قد أصابهما منه شيء، وهو أصله أن ما شك في نجاسته من الأبدان فلا يجزئ فيه إلا الغسل بخلاف الثياب. ومن الدليل على وجوب غسل ما شك فيه من الأبدان قوله، عليه السلام،: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)) فأمر بغسل اليد للشك في نجاستها، وهذا بين. وفي كتاب ابن شعبان أنه ينضح ما شك فيه من الثياب والأبدان، وهو شذوذ. وذهب ابن لبابة إلى أن يغسل ما شك فيه من الثياب والأبدان، ولم ير النضح إلا مع الغسل في الموضع الذي ورد فيه الحديث. وقال إن نضح الحصير للنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لنجس، وحكى ذلك عن ابن نافع، وهو خروج عن المذهب. ويحتمل عنده أن يكون معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغسل ذكرك وأنثييك وانضح))، أي انضح واغسل ذكرك وانثييك، لأن الواو لا توجب رتبة، وتكون إرادته بالنضح الصب، فكأنه قال صب الماء على ذكرك وأنثييك واغسلهما، لأن الصب قد يمسى نضحاً، ومنه الحديث: ((إني لأعرف مدينة ينضح البحر بناحيتها)) ، أي يصب، والله أعلم بمراده صلى الله عليه وسلم، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يدخل حوض الحمام وهو ملآن، أترى ذلك يجزيه في طهوره؟ قال نعم، إن كان طاهراً فنعم، يريد بذلك الماء والرجل جميعاً.

(1/81)


قال محمد بن رشد: قوله نعم يريد أن ذلك يجزيه من غسله إذا فعل بالشرطين اللذين وصف، لا أنه يبيح ذلك ابتداءً لوجهين، أحدهما الاغتسال في الماء الدائم للحديث الوارد في ذلك على ما تقدم له في أول مسألة من هذا الرسم وفي غير ما موضع، والثاني كراهية الاغتسال بالماء السخن من الحمام، فقد قال في سماع أشهب: والله ما دخول الحمام بصواب، فكيف يغتسل من ذلك الماء؟ وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن المسح على الخفين في الحضر أيمسح عليهما؟ فقال لا ما أفعل ذلك. ثم قال إني لأقول اليوم مقالة ما قلتها قط في جماعة من الناس: قد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين، وأبو بكر وعمر وعثمان خلافتهم، فذلك خمس وثلاثون سنة، فلم يرهم أحد يمسحون. قال وإنما هي [هذه] الأحاديث. قال ولم يروا يفعلون ذلك، وكتاب الله أحق أن يتبع ويعمل به.
قال محمد بن رشد: كان مالك أول زمانه يرى المسح في السفر والحضر، ثم رجع فقال يمسح المسافر ولا يمسح المقيم، ثم قال أيضاً لا يمسح المسافر ولا المقيم. والصواب الذي عليه جمهور الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين إجازة المسح في السفر والحضر. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين نحو أربعين من الصحابة، وروي عن الحس البصري أنه قال : أدركت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحون على الخفين. وروي عنه أنه قال: اجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه من لم ير المسح على الخفين يجزئه حتى يخلعهما فيغسل رجليه لم تجاوز صلاته أذنيه

(1/82)


ولو صلى أربعين سنة حتى يتوب. ولم يرو عن أحد من الصحابة إنكار المسح على الخفين إلا عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة. فأما ابن عباس فروي عنه أنه قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين، فسل الذين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مسح على الخفين أقبل المائدة أو عبد المائدة، والله ما مسح بعد المائدة، ولأن أمسح على ظهر عير بالفلاة أحب إلى من أن أمسح عليهما. وإنما قال ابن عباس إنه لم يمسح على الخفين بعد نزول المائدة لأنه لم يره مسح فظن أنه لم يمسح، ومن رأى حجة على من لم ير. فقد روي أن جرير بن عبد الله البجلي قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على خفيه فقالوا بعد نزول سورة المائدة فقال إنما أسلمت بعد نزول سورة المائدة)). وقول ابن عباس لأن أمسح على ظهر عير بالفلاة أحب إلى من أن أمسح على الخفين، يحتمل أن يكون ذلك منه اختياراً لترك المسح في خاصته لأنه من قوم اختصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الناس بإسباغ الوضوء على ما روي عنه أنه قال: ((ما اختصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بثلاث إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لاننزي حماراً على فرس)) . ويكون المسح له وللناس باقياً عنده على حكمه قبل نزول المائدة، بدليل ما روي عنه أنه سئل عن المسح على الخفين، فقال للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة. وكذلك أبو هريرة قد روي عنه أيضاً إجازة المسح. وأما عائشة فقد روي أنها سئلت عن ذلك فتوقفت وقالت: اسألوا علياً فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسئل فقال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نمسح على أخفافنا)) والصحيح من مذهب مالك، رحمه الله، الذي عليه أصحابه إجازة المسح في السفر والحضر، فهو مذهبه في موطأه، وعليه مات. روي

(1/83)


عن ابن نافع قال: دخلنا على مالك في مرضه الذي مات فيه فقلنا له: يا أبا عبد الله قد أقمت برهة من عمرك ترى المسح على الخفين وتفتي به ثم رجعت عنه، فما الذي ترى في ذلك الآن ونثبت عليه؟ فقال: يا بن نافع المسح على الخفين في الحضر والسفر صحيح يقين ثابت لا شك فيه، إلا أني كنت آخذ في خاصة نفسي بالطهور، فلا أرى من مسح قصر فيما يجب عليه، وأرى المسح قوياً والصلاة تامة. ومثل هذا في نوازل أصبغ من قوله وروايته عن ابن وهب.
مسألة
أخبرنا سحنون عن ابن وهب أنه قال: سمعت مالكاً يقول: إذا لبس الخفين المقيم والمسافر وهو طاهر فليمسح عليهما، ليس عند أهل بلادنا في هذا وقت إذا انتهى إليه لم يمسح على الخفين، وكلن ما داما عليه.
قال محمد بن رشد: هذا هو المعلوم من قول مالك في المدونة وغيرها الذي عليه أصحابه أن لا توقيت في ذلك، وقد روي عن مالك التوقيت في ذلك كالذي يذهب إليه أهل العراق: ثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، في رسالته إلى هارون الرشيد. وقد قيل إنها لم تصح عنه، وبالله أعلم، وبه التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الغسل باللبن والعسل يغسل به رأسه، قال ما يعجبني ذلك، وغيره أحب إلى منه.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما في رسم النذور والجهاد من سماع أشهب، ونحو قول سحنون في نوازله، وفي سماع أشهب أيضاً من هذا الكتاب. وقال ابن نافع فيه لا بأس بالوضوء بالنخالة. وهذا إنما يكره من

(1/84)


ناحية السرف والترفه والتشبه بأمر الأعاجم وما للأطعمة من الحرمة، لا لأنه حرام، فمن تركه أجر، ومن فعله لم يكن عليه إثم ولا حرج على حد المكروه، لأنه مما في تركه ثواب وليس في فعله عقاب. وقول ابن نافع لا بأس بالوضوء بالنخالة معناه لا إثم عليه إن فعل ذلك، فليس بخلاف لقول مالك وسحنون. وكذلك ما وقع في سماع أشهب من كتاب الحدود: لا بأس أن تمشط المرأة بالنضوح تعلمه من التمر والزبيب، معناه لا إثم عليها في ذلك، لأن النهي إنما جاء في الخليطين للشرب، لكنه مكروه لها من ناحية السرف، فإن تركته أجرت، وإن فعلته لم تأثم، فليس في شيء من ذلك كله تعارض ولا اختلاف، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل تبول الدابة قريباً منه فيشك أن يكون أصابه شيء من بولها، فقال إن استيقن أنه أصابه ولم يره غسل تلك الناحية، وإن شك نضح وهو يجزئ عنه.
قال محمد بن رشد: وهذا على أصله الذي قد قرره في غير ما موضع أن ما شك في نجاسته من الثياب يجزئ فيه النضح، فإن لم يفعل أعاد في الوقت. واختلف إذا وجد في ثوبه احتلاماً فغسل ما رأى وترك أن ينضح ما لم ير، فقال في سماع ابن أبي زيد يعيد في الوقت، وقال ابن حبيب لا إعادة عليه، لأن النضح ها هنا إنما هو لتطيب النفس، وهو قول ابن نافع في تفسير ابن مزين، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله صلى نهاراً ثلاث ركعات
وسئل [مالك] عن الفرس في مثل الغزو والأسفار يكون صاحبه يمسكه فيبول فيصيبه بول الفرس، قال : أما في أرض العدو

(1/85)


فإني أرجو أن يكون خفيفاً إذا لم يكن له من يمسكه غيره، وأما في أرض الإسلام فليتقه ما استطاع، ودين الله يسر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه مما لا يستطيع المسافر التوقي منه، لا سيما الغازي في أرض العدو، فهو موضع تخفيف للضرورة، كما خفف مسح الخف من الروث الرطب، وكما جوز للمرأة أن تصلي في الثوب الذي ترضع فيه إذا لم يكن لها ثوب غيره، مع أن تدرأ البول عنه جهدها.
ومن كتاب أوله مساجد القبائل
وسئل مالك عن الرجل يجعل الخرقة يمسح بها وجهه عند وضوئه، قال لا بأس بذلك، وأنا أفعل ذلك، ثم قال وما الذين يسألون عن مثل هذا؟ فقيل إن بعض الناس يذكرون أن بلال بن عبد الله بن عمر نهى رجلاً عن ذلك، ويقولون هو يذهب بنور الوجه، فوعظه أن يحدث بذلك أو يقبله ممن حدثه، قال ولو قاله بلال أيؤخذ منه ذلك؟.
قال محمد بن رشد: إنما أنكر مالك، رحمه الله، والله أعلم، هذا الحديث ووعظ أن يحدث بذلك أو يقبله ممن حدثه لبيان بطلانه، وذلك أن نور الوجه هو بياضه، فإن كان أراد أن مسح الوضوء بالخرقة يذهب بياض الوجه في الدنيا فيسود أو تعلوه كالغبرة، فذلك ترده المشاهدة، وإن كان أراد أنه يذهب بياضه في الآخرة فيسود أيضاً أو تعلوه غبرة، فذلك يرده القرآن، لأن الله تعالى أخبر في كتابه أن ذلك من علامات الكفار، قال تعالى: ((يوم تبيض وجوه وتسود وجوه[فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم

(1/86)


فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون])) وقال: ((وجوه يومئذ عليها غبرة [ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة])) وقد روي أنه، عليه السلام، كانت له خرقة ينشف بها بعد الوضوء وقع هذا الأثر في المدونة من رواية عائشة، رضي الله عنها، وقولها ((كانت له خرقة يتنشف بها عند الوضوء)) يقتضي أن ذلك كان شأنه الذي يداوم عليه، فلا يعارض هذا ما روي عن ميمونة أنها قالت: ((صببت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلاً فاغتسل به ثم أتيته بمنديل أو خرقة فلم يردها أو لم ينفض بها))، إذ قد يحتمل أن يكون كره الخرقة لشيء علمه فيها، أو كره مناولتها إياه، أو أحب أن يكون هو الذي يتناولها بنفسه تواضعاً لله عز وجل، ولعلها قامت بها عليه فكره قيامها إذ ذلك من فعل الجبابرة، وقد قال، عليه السلام: ((من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)). ومن الناس من كره ذلك في الغسل دون الوضوء اتباعاً للآثار، فهي أقوال. وقد عللت الكراهية فيها بأنه أثر عبادة فكرهت إزالته كدم الشهيد، وهو من التعليل البعيد، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الخاتم يكون في يد الرجل أيحركه عند الوضوء؟ قال لا أرى ذلك على أحد أن يرحك خاتمه. فقيل له أيستنجي به وفيه ذكر الله؟ قال إن ذلك عنده لخفيف، ولو نزعه لكان أحسن، وفي هذا سعة، وما كان من مضى يتحفظ هذا التحفظ في مثل هذا

(1/87)


ولا سئل عنه. وقال ابن القاسم: وأنا استنجي بخاتمي وفيه ذكر الله.
قال محمد بن رشد: قوله لا أرى على أحد أن يحرك خاتمه عند الوضوء مثله في بعض الروايات لأبي زيد بن أبي آمنة في الذي يكون في أصبعه خاتم قد عض به، فهو كما قال، لأنه إن كان سلساً فالماء يصل إلى ما تحته ويغسله، وإن كان قد عض بأصبعه صار كالجبيرة لما أباح الشرع له من لباسه إياه، فلا ينبغي أن يدخل في هذا لهذه العلة الاختلاف الموجود في المدنية وفي بعض روايات العتبية فيمن توضأ وقد لسق بظفره أو بذراعه الشيء اليسير من العجين أو القير أو الزفت، لأن الأظهر من القولين تخفيف ذلك على ما قاله أبو زيد بن أبي آمنة في بعض روايات العتبية، ومحمد بن دينار في المدنية، خلاف قول ابن القاسم في المدنية، وظاهر قول أشهب في بعض روايات العتبية. وقد روي عن أبي تميم الجيشاني قال: ((دخلت أنا وإخوتي على عمر بن الخطاب وعلى بعضهم خاتم فقال له عمر كيف يتم وضوؤك وهذا عليك؟ فنزعه وألقاه)). وهذا شاذ والله أعلم بصحته، إذ لو كان هذا واجباً لاتصل به العمل، ونقل التواتر الذي لا يجهل، وبالله التوفيق.
وفي البخاري عن ابن سرين ((أنه كان يغسل موضع الخاتم إذا توضأ))، وذلك من الاعتداء في الوضوء المنهي عنه ومن الغلو في الدين، قال تعالى: ((قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق)) . وأما الاستنجاء به وفيه ذكر الله فقد مضى القول فيه في رسم الشريكين وبالله التوفيق.

(1/88)


ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت
قال ابن القاسم: في درق البازي قال يعيد في الوقت إلا أن يكون الذي يصيب ذكياً فقيل لابن القاسم فالحمام تصيب أرواث الدواب فقال أحب إلي أن لو أعاد في الوقت من صلى بخروها.
قال محمد بن رشد: ذكر ابن حارث في كتاب يحيى بن إسحاق من رواية أصبغ عن ابن القاسم أن درق البازي نجس وإن كان الذي يأكل ذكياً. قال أصبغ ولا يعجبني قوله إذا كان الذي يأكل ذكياً وأراه طاهراً. وفي المبسوطة أيضاً لمالك مثل قول ابن القاسم في رواية أصبغ عنه أنه نجس يعيد منه في الوقت وإن كان الذي يصيب منه ذكياً. وقد روي عن مالك أنه لا يوكل ككل ذي مخلب من الطير لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وعلى هذه الرواية يأتي أن درق البازي نجس وإن كان الذي يأكل ذكياً. وقوله في الحمام يصيب أرواث الدواب أن أحب إليه أن لو أعاد في الوقت من صلى بخروها، إنما إذا علم من حالها أنها تأكل أرواث الدواب ولم يتحقق أنها أكلتها، ولو تحقق ذلك لقال إنه يعيد في الوقت على كل حال، لأن خرو ما يأكل النجس عنده نجس، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله نذر سنة بصومها
وسئل مالك عن خرو الحمام يصيب الثوب، قال هو عندي خفيف، وغسله أحب إلي.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا لم يعلم أنها أكلت نجاسة على ما تقدم في الرسم الذي قبل هذا، والله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يكون معه الماء القليل لوضوئه [فيمر

(1/89)


به رجل] فيستقيه، أترى أن يسقيه ويتيمم؟ قال ذلك يختلف، أما رجل يخاف أن يموت فأرى ذلك له، وإن لم يبلغ منه الأمر الخوف فلا أرى ذلك له، وقد يكون عطش خفيف، ولكن إن أصابه من ذلك أمر يخافه فأرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: خوفه على الرجل الذي يستقيه كخوفه على نفسه سواء، وقد قال في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب إنه إذا كان معه من الماء قدر وضوئه فخاف العطش أنه يجوز له أن يتيمم ويبقي ماءه، وهو كما قال، لأن الخوف على النفس يسقط حق الله. قال الله عز وجل: ((ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً)) .
مسألة
وسئل مالك عن من نام فاحتلم وصلى الصبح فرأى في قميصه الاحتلام وهو بالسوق وذلك نهاراً بعد أن طلعت الشمس، وهو يريد أن يشتري حاجة، أفترى أن يمضي لحاجته أم ينصرف فيغتسل ويصلي الصبح؟ قال بل ينصرف ويغتسل ويصلي الصبح.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب الوضوء من المدونة سواء. والدليل على صحته قول النبي صلى الله عليه وسلم ((إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها))، فإن الله تبارك وتعالى يقول: ((أقم الصلاة لذكري)) وقد قال في كتاب الصلاة الأول من المدونة: من ذكر الصلاة قد خرج وقتها فليس له أن ينتقل قبلها، وليس الأمر في ذلك

(1/90)


عندي بضيق، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((صلى إذ نام عن الصلاة في الوادي ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح))، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الفارة تأكل من الخبز أيؤكل من موضعها الذي أكلت منه؟ قال لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة قال وسألنا مالكاً عن الخبز من سؤر الفارة، فقال لا بأس بذلك، وهو على أصله فيها أن السباع والدجاج التي تأكل النتن إن شربت من اللبن لم يطرح إلا أن يتيقن أن في مناقرها أذى. ويروى الخبز من سؤر الفارة بفتح الخاء، يريد ما عجن بالماء الذي شربت فيه، وذلك على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك سواء، وإنما يفترق ذلك على مذهب ابن الماجشون الذي يقول إن الكلب إذا ولغ في اللبن أكل، وإذا ولغ في الماء وعجن به أو طبخ أنه لا يؤكل شيء من ذلك، لأنه فساد أدخله هو على نفسه بفعله والله أعلم.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يدخل أصبعه في فيه عند وضوئه، ويدخلها في مائه، قال لا بأس بذلك. فقيل له فالسواك يدخله في مائه الذي يتوضأ به وقد أدخله في فيه، أيتوضأ بذلك الماء؟ قال لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إنما سأله عن ذلك لما خشي أن ينضاف الماء لما تعلق بأصبعه أو سواكه من ريقه، فرأى ذلك خفيفاً إذ لا يتغير الماء من

(1/91)


الريق إلا أن يكثر البصاق فيه. وقد استحب في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب غسل يده قبل أن يعيدها إلى وضوئه وهو حسن القابسي أن الماء اليسير ينضاف بما حل فيه من الطاهر اليسير وإن لم يتغير به، كما تفسده النجاسة اليسيرة وإن لم يتغير بها، وهو شذوذ.
مسألة
وسئل مالك عن الاستنثار، أيستنثر الرجل من غير أن يضع يده على أنفه؟ فأنكر ذلك وقال لا أعرفه، كأنه يرى أنه يضع يده إذا أراد أن يستنثر.
قال محمد بن رشد: وهو كما قال، لن ذلك هو السنة، والشأن في الاستنثار الذي مضى عليه العمل وأخذه الصغير عن الكبير. ووجه ذلك أنه يضع يده على أنفه إذا استنثر يدفع ما يخرج من أنفه مع الماء الذي استنشقه من أن يسيل على فمه ولحيته، ولذلك أنكر مالك تركه، وهو موضع الإنكار، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن المتيمم كيف يتيمم؟ قال ضربة لوجهه، وضربة ليديه، يمر يده اليسرى على اليمنى من فوقها وباطنها، واليمنى على اليسرى مثل ذلك من فوقها وباطنها.
قال محمد بن رشد : هذا هو الاختيار عن مالك في التيمم، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، يمر اليسرى على اليمنى من فوقها وباطنها، الأصابع على ظهور الأصابع، وظهر الذراع والكف على بطن الذراع إلى أصل الكف، ثم اليمنى على اليسرى من فوقها وباطنها كذلك، إلا أنه ينتهي إلى آخر الأصابع، قاله ابن حبيب، وخالفه غيره في ذلك فقال

(1/92)


يمسح اليمنى باليسرى إلى أطراف الأصابع، ثم اليسرى باليمنى كذلك. وما في المدونة محتمل للتأويل. والفرض عنده ضربة واحدة للوجه واليدين إلى الكفين، فإن تيمم أحد عنده إلى الكفين أعاد في الوقت، وإن تيمم بضربة واحدة لم يكن عليه إعادة. وقال ابن حبيب يعيد في الوجهين في الوقت، وقال ابن نافع ومحمد بن عبد الحكم يعيد في الوجهين جميعاً في الوقت وبعده. ويتحصل من اختلاف أهل العلم في صفة التيمم تسعة أقوال، لأن في حده ثلاثة أقوال، قيل إلى الكوعين، وقيل إلى المرفقين، وقيل إلى المنكبين، قيل بضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين، وقيل بضربة واحدة للوجه واليدين، [وقيل بضربة واحدة للوجه واليدين] وضربة ثانية للوجه أيضاً واليدين. واختيار ابن لبابة الذي قد ذكرناه في رسم الشجرة قول عاشر في المسألة.
مسألة
وسئل مالك عن الجنب أيحرك لحيته بالماء إذا اغتسل؟ قال نعم. فقيل له فعند الوضوء؟ قال يحرك ظاهرها من غير أن يدخل يده فيها، وهو مثل أصابع الرجل أراد أنها لا تخلل.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في تخليل الرجلين في آخر رسم اغتسل. وأما تخليل اللحية في الوضوء ففيها ثلاثة أقوال: أحدها قوله في هذه الرواية وفي المدونة أنها لا تخلل، وهو قول ربيعة أن تخليلها مكروه، والثاني أن تخليلها مستحب، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، والثالث أن تخليلها واجب وهو قول مالك في رواية ابن وهب وابن نافع عنه حكاه ابن حارث. وقد مضى في رسم أخذ يشرب خمراً من توجيه الاختلاف في تخليلها في الغسل ما يدل على ذلك في الوضوء لمن فهم. وأظهر الأقوال

(1/93)


استحباب تخليلها، ((فقد روي أن عمار بن ياسر توضأ فخلل لحيته قيل له أتخلل لحيتك؟ فقال وما يمنعني وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته))، وبالله التوفيق.
من كتاب أوله المحرم يتخذ خرقة لفرجه
وسئل مالك عن رجل جهل في السفر فتيمم فضرب ضربة واحدة فيمم بها وجهه ويديه وصلى، ثم سأل عن ذلك بعد أيام، قال أرجو أن يجزئ عنه، وغير ذلك كان أصوب. قال ابن القاسم: لا أرى عليه إعادة في الوقت ولا بعده.
قال محمد بن رشد: قد مضى في الرسم الذي قبل هذا من التكلم على هذه المسألة بما فيه كفاية.
مسألة
وسئل عمن استنجى بدرة ثم توضأ وصلى. قال: صلاته تجزئه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم سن بما فيه كفاية.
مسألة
وسئل مالك عن الخفين وما يصيب أهل مصر في أخفافهم من الروث الرطب أيمسحه الرجل ويصلي به؟ قال أرجوا أن يكون واسعاً إن شاء الله، وما الناس كلهم سواء، من الناس من يركب،

(1/94)


ومن الناس من يجعل زوجي خفاف لموضع البرد فينزع الأعلى، وأرجو أن يكون خفيفاً. فقلت له فأحب إليك أن ينزعه؟ قال نعم هو أحب إلي، ولا أراه ضيقاً على الناس. فقيل له فالعذرة يطأ عليها؟ قال ليس هذا مثل الروث، والروث أسهل عندي من العذرة، ولا أرى أن يصلي بالعذرة حتى يغسلها. قال والبول بول الناس عنده مثل العذرة وخرو الكلاب وما أشبهها لا يجزئ فيها إلا الغسل، إلا أرواث الدواب وأبوالها فإن المسح يجزئ فيها.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة قد تقدم الكلام عليها في رسم أوله تأخير صلاة العشاء.
مسألة
وسألته عن الطعام يوقد بأرواث الحمير أيؤكل أم لا؟ فقال لي: أما الخبز الذي ينضج فيه فلا يؤكل، وأما ما طبخ في القدر فأكله خفيف وهو يكره بدءاً، وقال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما وقع في رسم شك في طوافة في بعض الروايات، قال لا يوقد بعظام الميتة لا الطعام ولا الشراب، قال ابن القاسم: ولا أرى أن يوقد بها في الحمامات، قال ابن القاسم: ولا أرى بأساً أن تخلص بها الفضة من التراب إن شاء الله تعالى، ونفرد القول على هذه المسألة في موضعها. وهذا كما قال لأن الخبز الذي ينضج فيه قد داخله من عين نجاسة الروث النجس وسرى فيه فنجس بذلك. وأما ما طبخ عليه في القدر فلم يصل إليه من عين النجاسة شيء ينجس به من أجل الحائل الذي بينه وبينه، وإنما يكره من أجل ما يصل إليه من دخان الروث النجس، لما في ذلك من الشبهة من أجل من يقول إن الدخان نجس وإن لم يكن عندنا نجساً.

(1/95)


مسألة
وسئل مالك عن الرجل يتوضأ يريد بذلك طهر الوضوء ولا يريد بذلك صلاة، فتحضره الصلاة، أفترى أن يصلي بذلك الوضوء؟ قال نعم إذا أراد بذلك طهراً.
قال محمد بن رشد: لا إشكال أن يصلي صلاة الفريضة بهذا الوضوء لأنه إذا نوى به الطهر فقد قصد به رفع الحدث، فهذا أعم ما ينوي المتوضئ بوضوئه. وإنما الكلام إذا لم يعم ويقصد رفع الحدث، وإنما توضأ لشيء يعنيه هل يصلي بذلك صلاة الفريضة أم لا؟ وهذا ينقسم على ثلاثة أقسام، أحدها أن يتوضأ لما لا يصح فعله إلا بوضوء كمس المصحف أو الصلاة على جنازة وما أشبه ذلك، والثاني أن يتوضأ لما يصح فعله بغير طهارة والوضوء له مشروع استحباباً كالنوم وقراءة القرآن طاهراً وما أشبهه، والثالث أن يتوضأ لما لم يشرع له الوضوء أصلاً كالدخول على السلطان وما أشبه ذلك. فالأول يصلي به باتفاق، والثاني يصلي به على اختلاف، والثالث لا يصلي به باتفاق، وبالله التوفيق.
من كتاب أوله حلف ليرفعن أمراً إلى السلطان
وسئل مالك عن رجل يمشي بخفيه في مكان القشب الرطب فيصيبه من ذلك، أيصلي فيه؟ قال لا حتى يغسله أو يخلعه. قيل له فالحديث الذي جاء في القشب؟ قال ذلك القشب اليابس فيما تقول. قال ابن القاسم ثم سمعته بعد ذلك يخففه في أرواث الدواب وأبوالها إذا مسحت وإن كانت طرية.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في مواضع، ومضى القول فيها في رسم تأخير العشاء ما فيه كفاية، وبالله التوفيق.

(1/96)


مسألة
وسئل مالك عن الرجل يمر تحت السقائف فيقع عليه ماؤها، قال أراه في سعة ما لم يستيقن بنجس.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه المسألة في رسم نقدها من سماع عيسى: فإن سألهم فقالوا هو طاهر فإنه يصدقهم إلا أن يكونوا نصارى فلا أرى ذلك. وهذا كما قال إن النصارى يحمل ما سال عليه من عندهم على النجاسة ولا يصدقون إن قالوا إنه طاهر، بخلاف المسلمين لأنهم ممن يتوقى من النجاسة ويخاف من ربه العقوبة. وقد تكررت في هذا الرسم بعينه من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الدود يخرج من الدبر، أترى فيه وضوءاً؟ قال مالك لا، هو عندي مثل البول الذي يفلت من صاحبه. قال ابن القاسم يريد السلسل.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال، أحدها أن لا وضوء عليه خرجت الدود نقية أو غير نقية، وهو المشهور في المذهب أن لا وضوء إلا فيما يخرج من السبيلين من المعتادات على العادة، والثاني أنه لا وضوء [عليه] إلا فيما تخرج غير نقية، وهذا على قول من يرى الوضوء فيما خرج من السبيلين من المعتادات خرج على العادة أو على غير العادة، والثالث أن عليه الوضوء وإن خرجت نقية، وهو قول ابن عبد الحكم خاصة

(1/97)


من أصحابنا، لأنه يرى الوضوء مما خرج من السبيلين من المعتادات وغير المعتادات، وبالله التوفيق.
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك رواية سحنون
من كتاب الجنائز
وسئل مالك عن تخليل اللحية في الوضوء، قال: لا أرى ذلك عليه، يغسل وجهه ويمر يديه على لحيته. قيل له أفيخلل لحيته من الجنابة؟ قال نعم ويحركها، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلل أصول شعر رأسه من الجنابة.
قال محمد بن رشد: دليل هذه الرواية أن تخليل اللحية مستحب عنده، لأنه لما نفى وجوب تخليلها بقوله لا أرى ذلك عليه، دل على الاستحباب إذ لا يقول أحد إن تخليلها من قبيل المباح. وقد تقدم القول في تخليلها في الوضوء في آخر رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، وفي تخليلها في غسل الجنابة في رسم أخذ يشرب خمراً منه بما لا معنى لإعادته ها هنا وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن تقبيل الرجل أخته أو ابنته أينقض الوضوء؟ قال لا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن القبلة من الملامسة، فإنما ينتقض الوضوء من ناحية اللذة، والنساء في ذلك على ثلاثة أحوال: من لا يوجد في تقبيلهن لذة ومنهن من لا يبتغى في تقبيلهن لذة، ومنهن من يبتغى في تقبيلهن اللذة. فأما اللواتي لا يوجد في تقبيلهن لذة وهن الصغيرات اللواتي لا يشتهى مثلهن فلا وضوء في تقبيلهن وإن قصد بذلك اللذة ووجدها بقلبه إلا على مذهب من يوجب الوضوء في الالتذاذ بالتذكار. وأما اللواتي

(1/98)


لا يبتغى في تقبيلهن لذة وهن ذوات المحارم فلا وضوء في تقبيلهن إلا مع القصد إلى الالتذاذ بذلك من الفاسق الذي لا يتقي الله، لأن القصد في تقبيلهن الحنان والرحمة، فالأمر محمول على ذلك حتى يقصد سواه. وأما اللواتي يبتغى بتقبيلهن اللذة وهن من سوى ذوات المحارم فيجب الوضوء في تقبيلهن مع وجود اللذة أو القصد إليها وإن لم توجد، واختلف إذا عدم الأمران على قولين، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن المسافر لا يكون معه ماء وقد حضرت الصلاة وفي الرفقة من معه ماء، أترى أن يتيمم ويصلي ولا يسألهم؟ أم ترى ألا يتيمم حتى يسألهم؟ فقال: يتيمم وهو يجد ماءً، لا، ولكن يسأل من يليه ومن يظن أنه يعطيه. قبل أن يتيمم، وليس عليه أن يتبع أربعين رجلاً في الرفقة فيسألهم كلهم، ولكن يسأل من يليه ويرجو ذلك منه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول في هذه المسألة في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، ويأتي في رسم أبي زيد ما فيه زيادة في معناها.
مسألة
وسئل عن المتوضئ في الصفر والحديد، فقال لا بأس بذلك، وقد أتي عبد الله بن عمر بوضوء في تور نحاس فأبى أن يتوضأ فيه، قال مالك وأراه نحاه ناحية الفضة.
قال محمد بن رشد: معنى قول مالك في هذه المسألة لا بأس بذلك، أي لا بأس ولا كراهية فيه عندي وإن كان عبد الله بن عمر قد كرهه.

(1/99)


مسألة
وسئل أيتوضأ من السقاء من الميتة إذا دبغ؟ فقال إني أرجو أن لا يكون به بأس، إن أبغض ذلك إلي الصلاة فيه.
قال محمد بن رشد: قال في كتاب الجعل والإجارة من المدونة وجه الانتفاع به الجلوس عليها والغربلة بها، وأما الاستسقاء بها ففي نفسي منه شيء، فأنا أتقيه في خاصة نفسي ولا أحرمه على الناس. فالمشهور من قول مالك المعلوم من مذهبه أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ، وإنما يجوز الانتفاع به في المعاني التي ذكر على حديث عائشة، رضي الله عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت)). وقد روي عن ابن عباس أنه قال: ((مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة كان أعطاها مولى لميمونة زوج النبي عليه السلام فقال: أفلا انتفعتم بجلدها فقالوا يا رسول الله إنها ميتة فقال عليه السلام إنما حرم أكلها)) . وروي عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دبغ الإهاب فقد طهر)) وروي عن عبد الله بن الحكم قال: ((قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض جهينة وأنا غلام شاب أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)) فقال ابن لبابة يشبه أن يكون مالك أسقط حديث ابن عباس الأول لأنه قد اختلف عن ابن شهاب في إسناده ومتنه، فروي عنه مرة عن ابن عباس عن ميمونة، ومرة عن ابن عباس

(1/100)


أن شاةً لميمونة، وروي عنه ((ألا دبغتم إهابها فانتفعتم به)) وأسقط حديثه أيضاً: ((إذا دبغ الإهاب فقد طهر)) لأنه منه، وأسقط حديث عبد الله بن حكيم لأنه لم تكن له صحبة، ولأنه قد روي عنه أنه قال: أخبرنا أشياخنا أن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى إلى جهينة، وتقلد حديث عائشة وحده. وكان شيخنا الفقيه أبو جعفر بن رزق رحمه الله يقول: لم يسقط مالك رحمه الله شيئاً من هذه الآثار بل استعملها كلها وجعل حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت)) مفسراً لها كلها، فقال قوله في حديث ابن عباس الثاني ((إذا دبغ الإهاب فقد طهر)) معناه الانتفاع به، وقوله في حديث عبد الله بن حكيم: ((ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)) معناه قبل الدباغ، وهو كلام جيد، إذ لا ينبغي أن يطرح شيء من الآثار مع إمكان استعمالها. وأكثر أهل العلم يقولون إن جلد الميتة يطهره الدباغ طهارة كاملة يجوز بها بيعه والصلاة به، وهو قول ابن وهب من أصحابنا في سماع عبد الملك من كتاب الصلاة، وفي الصلاة من المدونة دليل على هذا القول، وروى أشهب مثله عن مالك في جلود الأنعام خاصة في كتاب الضحايا، قال وسل مالك أترى ما دبغ من جلود الدواب طاهراً إذا دبغ وهو مما لا ذكاة فيه ولا يؤكل لحمه. وقد اختلف في جلد الخنزير فقيل إنه لا يطهر بالدباغ، وقيل إنه يطهر به لعموم الحديث. وقد قال أهل اللغة منهم النضر بن شميل إن الإهاب جلد الأنعام، وما سواه لا يقال له إهاب، وإنما يقال له

(1/101)


جلد. وقال إسحاق بن راهويه: هو كما قال النضر، وقال أحمد بن حنبل: لا أعرف ما قال النضر.
مسألة
وسئل أيغسل الصوف صوف الميتة قبل أن يلبس؟ فقال إن كان يعلم أنه لم يصبه أذى فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصله أنه طاهر، بدليل أخذه منها في حال الحياة. وقد قال ابن حبيب إنه يغسل، واستحب ذلك في المدونة, ولا معنى له إن علم أنه لم يصبه أذى. وذهب الشافعي إلى أن الصوف من الميتة ميتة، لأنه رأى أن الروح قد حله فمات بموت الشاة. وفي إجماعهم على جواز أخذه حال الحياة مع السلامة دليل على أن الروح لم يحله. وقد قال بعض من احتج له إن ذلك كاللبن يؤخذ من الحي ولا يؤخذ من الميت، ولم يأت بشيء، لأن اللبن من الميت إنما نجس من كونه في الوعاء النجس، لا أنه مات بموت الشاة. وأما القرن فقد حله الروح، ولذلك كره مالك أخذه حال الحياة أو الموت ولم يحرمه لأنه أشبه الصوف في أنه لا يؤثر فيه الموت ولا يؤلم البهيمة أخذه منها حال الحياة.
مسألة
وسألته عن قوله تعالى: ((يوم تبلى السرائر)) أبلغك أن الوضوء من السرائر؟ قال نعم. الوضوء من السرائر، وقد بلغني ذلك فيما يقول الناس، فأما حديث أحدثه فلا، والصلاة من السرائر، والصيام من السرائر، إن شاء قال قد صليت ولم يصل، ومن السرائر ما في القلوب يجزي الله به العباد.

(1/102)


قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن السرائر ما يسر العبد في نفسه من إيمان أو كفر أو خير أو شر أو إخلاص عبادة أو الرياء بإظهار طاعة، فيعلم الله ذلك من قلبه ويبلوه من فعله ويحاسبه على ذلك بحكمه ويصيره إلى ما شاء من جنة أو نار بعدله، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه.
مسألة
وسئل عن الأقطع الرجل الواحدة، أيجوز له أن يمشي بالنعل الواحدة؟ قال نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن النهي عن المشي في النعل الواحدة إنما أريد به من كان ذا رجلين، بدليل قوله في الحديث ((لينعلهما جميعاً أو ليخلعهما جيمعاً))، فمن كان ذا رجل واحدة لم يتناوله النهي، والله تعالى أعلم.
ومن كتاب الصلاة
وسئل عم مسح مقدم رأسه مثل ما صنع ابن عمر، فقال وما يدريك أن ابن عمر مسح مقدم رأسه، فقال أرى أن يعيد الصلاة. قال أشهب لا إعادة عليه، فقيل له إذا مسح بعض رأسه ولم يعم أعاد؟ قال نعم، أرأيت لو غسل بعض وجهه أو ذراعيه أو رجليه.
قال محمد بن رشد: اختلف أهل العلم في جواز مسح بعض الرأس في الوضوء لاحتمال قول الله عز وجل: ((وامسحوا برؤوسكم)) أن تكون الباء للتبعيض وأن تكون للإلزاق، ولما روي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1/103)


((مسح بعض رأسه)). فأما مالك رحمه الله فلم يجز مسح بعض الرأس كما لم يجز في التيمم مسح بعض الوجه واليدين، وإن كان الله قد قال: ((فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)، كما قال في الوضوء ((وامسحوا برؤوسكم)). وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجماعة من أهل العلم إلى إجازة مسح بعض الرأس لما ذكرناه، وإلى هذا ذهب أشهب في هذه الرواية. وقال محمد بن مسلمة إن مسح ثلثي رأسه أجزأه، وقال أبو الفرج إن مسح ثلثه أجزأه، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن المرأة التي يئست من المحيض تدفق دفقة من دم أو دفقتين، قال يسأل النساء عن ذلك، فإن كانت مثلها تحيض فلتغتسل وتصل.
قال محمد بن رشد: النساء في الحيض ينقسمن على خمسة أقسام: صغيرة لا يشبه أن تحيض، ومراهقة يشبه أن تحيض، وبالغة في سن من تحيض، ومسنة يشبه أن لا تحيض، وعجوز لا يشبه أن تحيض. ولما لم يرد في القرآن ولا في السنة حد يرجع إليه من السنين يفصل به بين المسنة التي يشبه أن لا تحيض والعجوز التي لا يشبه أن تحيض، وجب أن يرجع في ذلك إلى قول النساء كما قال، فيسئلن عنه، فإن قلن إن هذه المرأة التي دفقت دفقة أو دفقتين من دم بعد أن كانت بئست من المحيض فيما كانت

(1/104)


ظنت مثلها تحيض، فلتعد ذلك الدم حيضاً وتغتسل منه إذا انقطع عنها وتصلي، وإن قلن إن مثلها لا تحيض فلا تعد ذلك الدم حيضاً ولا تترك الصلاة له ولا تغتسل منه، قاله ابن القاسم في المجموعة،وقال ابن حبيب إنها تغتسل وليس ذلك بصحيح؛ وإن شككن فيها عدت ذلك حيضاً لأن ما تراه المرأة من الدم محمول على أنه حيض حتى يوقن أن ليس بحيض من صغر أو كبر، لقول الله عز وجل: ((ويسألونك عن المحيض قل هو أذى)) والأذى الدم الخارج من الرحم ، فوجب أن يحمل على أنه حيض حتى يعلم أنه ليس بحيض، وهذا ما لا أعلم فيه خلافاً، وبالله التوفيق.
ومن كتاب النذور والجنائز والذبائح
قال مالك: وسألني رجل عمن غسل رأسه بالبيض فقلت له: ما يعجبني ذلك، ولكل شيء وجه ماله يدع الغاسول ويغسل بالبيض؟ فقيل له: أرأيت الأرز يغسل به اليد؟ أهو مثله؟ قال هذا أخف عندي هذا مثل الأشنان.
قال محمد بن رشد: أما الأرز بإسكان الراء فإذا لم يكن من الطعام فغسل اليد به جائز لا وجه للكراهة فيه، وأما ما كان من الطعام فغسل اليد والرأس به مكروه، وقد مضى في آخر رسم البز وجه الكراهة فيه والجمع بين ما يعارض ظاهره في ذلك من الروايات. وأما الرواية فيه بتحريك الراء وتشديد الزاء فخطأ لا يستقيم الكلام عليها لأنها من رفيع الطعام فلا وجه لتخفيفه على غيره من الطعام، فإن كان لشجر الأرز ثمر يؤكل عند الحاجة أو على وجه التداوي فقوله في تخفيف غسل اليد به وتشبيهه بالأشنان بين، لأن الكراهة في هذا إنما هي بحسب حرمة الطعام، فلا شك أن غسل اليد بدقيق الكرسنة أخف منه بدقيق القمح، وبالله التوفيق.

(1/105)


مسألة
وسئل عن فارة وقعت في بير فتمعطت فيها، فعجن بها وطبخ اللحم، أترى أن يؤكل؟ قال لا يعجبني أن يؤكل. قيل له فما يصنع به؟ قال لو أطعمه البهائم, قال فما غسل به من الثياب؟ قال لو غسلت لأجزأهم.
قال محمد بن رشد: قال ها هنا في الخبز الذي عجن واللحم الذي طبخ بالماء الذي ماتت فيه الفارة إنه لا يؤكل، وقال في رسم سلف من سماع ابن القاسم في القمح المفلق بالماء الذي ماتت فيه الفارة إنه لا يؤكل أيأكلون الميتة. يحتمل أن يكون تكلم في مسألة القمح على أن الماء تغير من ذلك، وفي هذه الرواية على أن الماء لم يتغير من ذلك ، ومساواته ها هنا بين الخبز المعجون بذلك واللحم المطبوخ به هو نحو ما في سماع يحيى من كتاب الصيد في البيض الذي يسلق فيوجد في إحداهن فرخ أن أكلهن كلهن لا يصلح، لأن بعضه سقى بعضاً، وخلاف لما في سماع موسى بن معاوية من هذا الكتاب أن اللحم يغسل ويؤكل. وقوله فيما غسل به من الثياب لو غسل لأجزاهم ليس بخلاف لما في آخر السماع من قوله إن الثياب تنضح ولا تغسل إذا لم يكن الماء فاسداً منتنا. والفرق بين المسألتين أن الثياب ها هنا كانت غسلت بذلك الماء فعمتها النجاسة فلم يجز فيها النضح، وفي المسألة التي في آخر السماع لم تغسل الثياب من ذلك الماء، وإنما كان ذلك الماء يصيبها على ما قال فلم تعمها النجاسة، وهذا فرق بين من الكتاب بين المسألتين.
مسألة
قال: وسئل عن غسل الجواري رجلي عبد الله بن عمر للصلاة، قال نعم في رأيي، قيل له لا تخاف أن يكون ذلك من

(1/106)


اللماس؟ قال لا لعمري، وما كان ابن عمر يفعل ذلك إلا من شغل أو عذر يجده.
قال محمد بن رشد: قوله في حديث ابن عمر ويعطينه الخمرة، يريد للصلاة، دليل على ما قال مالك إن غسلهن لرجليه إنما كان للصلاة، وإذا لم يكن القصد في مس أحد الرجلين صاحبه الالتذاذ فلا وضوء على أحد منهما، إلا أن يلتذ بذلك ويشتهي، فلو التذ عبد الله بن عمر بغسل جواريه رجليه لما صلى بذلك الوضوء، إذ قد علم من مذهبه أن الملامسة تنقض الوضوء في بعض الروايات إلا من شغل أو ضعف، وفي روايتها بعضها إلا من ضعف أو عذر يجده، وهي الرواية الصحيحة في المعنى. وقد حكى الطحاوي عن طائفة من أهل العلم أن الفضل في أن يلي المغتسل أو المتوضئ أو المتيمم ذلك بنفسه لنفسه، فإن ولى ذلك غيره أجزأه. وحكى عن طائفة منهم أن ذلك لا يجزئه، قال ومنهم مالك بن أنس. والذي يظهر من مذهبه وقوله في هذه المسألة خلاف ذلك، إلا أن يفعله استنكافاً عن عبادة الله تعالى واستكباراً عنها وتهاوناً بها، والله أعلم وبه التوفيق.
ومن كتاب الوضوء والجهاد
وسئل مالك عن الرجل يكون على وضوء فيجد ريحاً فيريد أن يتوضأ للصلاة ولم يمس شيئاً قذراً ولا غيره وهي طاهرة، أيغسلها قبل أن يدخلها في وضوئه؟ فقال أحب إلي أن يغسلها قبل أن يدخلها في وضوئه، فقيل له وإن كانت يده طاهرة؟ فقال هو أحب إلي إلا أن يكون عهده بالماء قريباً، فقلت له كان على وضوء فأحدث ثم أراد الوضوء، فقال أحب إلي أن يغسلها قبل أن يدخلها في وضوئه.
قال محمد بن رشد: اختلف في غسل اليد قبل إدخالها في الوضوء

(1/107)


إذا أيقن بطهارتها، فقيل إن ذلك سنة من السنن التي الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير خطيئة، وقيل إن ذلك استحباب لا سنة، قيل كان عهده بغسلها قريباً أو بعيداً، وهو أحد قولي مالك في هذه الرواية وقول ابن وهب في سماع عبد الملك من هذا الكتاب وقول ابن القاسم في رسم أسلم من سماع عيس وفي سماع أبي زيد، وقيل إنما ذلك إذا بعد عهده بالماء، وأما إن كان عهده بالماء قريباً فليس ذلك عليه في سنة ولا استحباب، وهو القول الثاني لمالك في هذه الرواية، وقول أشهب في سماع عبد الملك بن الحسن من هذا الكتاب. ووجه القول بأنه سنة أن عبد الله بن زيد بن عاصم لما سأله السائل هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، قال نعم، فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسلهما عبادة لا لنجاسة، فثبت كون ذلك سنة في الوضوء إذا لم يأت ما يعارضها. ووجه القول بأن ذلك استحباب أن هذه السنة قد عارضها دليل حديث أبي هريرة: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده))، لأنه لما علق الأمر بالغسل بالشك في طهارة يده دل ذلك على أنها لا تغسل إذا أوقن بطهارتها، فالاختلاف في غسل اليد قبل إدخالها في الوضوء إذا أوقن بطهارتها هل هو سنة أو استحباب مبني على الاختلاف في القول بدليل الخطاب، وهذا بين لمن تأمل. ويلزم على القول بأنه سنة أن لا يجزئ إلا بنية. وقد اختلف إذا غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء ثم بعد غسلهما مع ذراعيه هل يجزئه ذلك أم لا؟ ففي مصنف عبد الرزاق عن عطاء أن ذلك يجزئه، وقال محمد بن عمر بن لبابة لا يجزئه. قال محمد بن يحيى: وقول

(1/108)


محمد بن عمر أرجح لأنه بمنزلة من صلى نافلة فلا تجزئه عن فريضة، إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسلهما قبل إدخالهما في الوضوء إنما هو زيادة على ما أمر الله به لا عوضاً منه، وهو ظاهر، والله أعلم، وبه التوفيق.
مسألة
قال وسئل مالك عن المتوضئ للصلاة يدخل يده إذا تمضمض في فيه فيدلك بها أسنانه ثم يدخلهما في الإناء قبل أن يغسلهما، فقال لا بأس به إن شاء الله، وأرجو أن يكون واسعاً، وأحب إلي أن يغسلهما، وأرجو أن يكون واسعاً.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم وجه استحبابه لغسل يده قبل أن يعيدها في وضوئه، فلا معنى لإعادة ذلك وذكره.
مسألة
قال مالك: الأذنان م الرأس، وليستأنف لهما الماء.
قال محمد بن رشد: هذا قول مالك رحمه الله في المدونة وغيرها إن الأذنين من الرأس، وإنما السنة عنده في تجديد الماء لهما. والدليل على أنهما من الرأس قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي عبد الله الصنابحي ((فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه)) وإنما قال

(1/109)


مالك رحمه الله: من نسى مسح أذنيه حتى صلى إن صلاته تامة، وإن كان من مذهبه أن استيعاب مسح الرأس فرض، لأنه استخفهما ليسارتهما، إذ قد قيل إنه يجزئ مسح بعض الرأس، وإذ قد قيل إنهما لبستا من الرأس فقد قيل إنهما من الوجه، وقيل إنهما سنة على حيالها ليستا من الوجه ولا من الرأس، وقيل إن ظاهرهما من الرأس وباطنهما من الوجه.
مسألة
وسئل مالك عن يد واحدة للمضمضة والاستنثار، أيجزئ ذلك؟ فقال نعم يجزئه ذلك إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إن ذلك يجزئه إذا قدر أن يمسك من الماء بكفه ما يكفيه لذلك كله، والاختيار أن يأخذ غرفة فيمضمض بها ويستنثر، ثم يأخذ غرفة أخرى فيمضمض بها ويستنثر أيضاً، ثم غرفة ثالثة فيمضمض بها ويستنثر على ظاهر الحديث، فمضمض واستنثر ثلاثاً، وإن شاء مضمض ثلاثاً بغرفة واحدة أو بثلاث غرفات، ثم استنثر ثلاثاً بغرفة واحدة أو بثلاث غرفات، ثم استنثر ثلاثاً بغرفة واحدة أو بثلاث غرفات، الأمر في ذلك واسع، واتباع ظاهر الحديث أولى، والله أعلم، وبه التوفيق.
مسألة
وسألته عن الاستنجاء بالعظم والحممة، فقال: والله ما سمعت فيه بنهي عام، وقد سمعته هكذا. فقلت له فلا ترى به بأساً؟ فقال أما في علمي أنا فلا أرى به بأساً وقد سمعت الذي يقال هكذا.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذا المعنى في رسم سن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.

(1/110)


مسألة
قيل له أفرأيت البئر يقع فيه الهر فيموت فيه ما ينزف منها؟ فقال الآبار تختلف، فمنها ما ينزف كل يوم، ومنها ما يكثر ماؤها يستقى منها كل يوم فلا ينزف وتسع البير، فأرى أن ينزع منها قدر ما يطيبها. قلت أرأيت ما عجن به من مائها من الخبز؟ فقال لي أما أنا فأرى أن يطرحه أو يعلفه للدواب ولا يؤكل، ولقد جاءني قوم حديثاً خبزوا خبزاً بماء بئر من دراهم، ثم علموا أن الماء الذي عجن به ماتت فيه دابة من هذه الدواب فأمرتهم بذلك. قيل له أرأيت من اغتسل به وتطهر حتى صلى صلوات، قال أما نحن فنقول يعيد ما كان في الوقت، فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليه.
قال محمد بن رشد: وجه النزف من ماء البير التي ماتت فيه الدابة هو أنه يخشى أن يكون قد خرج من الدابة مع خروج نفسها شيء يكون على وجه الماء لا ينماع فيه، فلا يؤمن إذا لم ينزف من الماء شيء أن يحصل ذلك الشيء في المقدار الذي يتوضأ به الرجل. فإذا نزف من الماء شيء خرج ذلك الشيء فيما نزف وانماع بالنزف في الماء فطاب بذلك، ولهذا المعنى لم يكن لما ينزف من الماء حد، ووجب أن يكون على قدر قلة ماء البير وكثرته وعلى ما تطيب به النفس. وهذا إذا لم يتغير الماء بذلك، وأما إذا تغير منه فلا بد أن ينزف منه حتى يذهب التغير. ومعنى ما تكلم عليه في هذه الرواية أن الماء لم يتغير من ذلك، ولذلك قال فيما صلى بالوضوء الذي توضأ من ذلك الماء إنه لا يعيد إلا في الوقت. وأما قوله في الخبز الذي عجن بذلك الماء إنه لا يؤكل، فهو مثل ما تقدم في الرسم الذي قبل هذا وعلى طريق التوقي والتحرز من المتشابه على ما ذكرناه في رسم يسلف من سماع ابن القاسم، وليس بحرام بين، فقد روى محمد بن يحيى السبائي عن مالك في

(1/111)


المدنية أنه كره أكله إلا من حاجته إليه. وقال عيس عن ابن القاسم لا يحل أكله إلا إذا حلت له الميتة، وذلك الطعام بمنزلة الميتة فشدد في ذلك.
مسألة
وسئل مالك عن الذي يصيب امرأته أول الليل فيقوم فيغسل ثم يرجع فيضاجعها ولم تغتسل هي، أيغسل شيئاً من جلده الذي مسه جلدها؟ فقال لا ولكن يتوضأ إذا قام.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا التذ بمضاجعته إياها ولم يكن بجسدها أذى، وأما إن لم يلتذ بذلك ولا قصد الالتذاذ به فلا وضوء عليه باتفاق. وإن كان فيما مس جلده من جلدها أذى يخشى أن يكون قد أصاب جلده فلا بد له أن يغسل ذلك الموضع الذي يخشى أن يكون قد أصابته النجاسة التي في جسدها على المشهور في المذهب أن ما شك فيه من نجاسة البدن فحكمه أن يغسل ولا يجزئ فيه النضح. وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الحائض والجنب من النساء أتخضب يدها وهي حائض أو جنب؟ فقال نعم، وذلك مما كان النساء يتحرينه ليلاً ينقصن خضابهن للطهر للصلاة.
قال محمد بن رشد: وهذا مما لا إشكال في جوازه ولا وجه لكراهيته، لأن صبغ الخضاب الذي يحصل في يدها لا يمنع من رفع حدث الجنابة أو الحيض عنها بالغسل إذا اغتسلت، وقد قال صلى الله عليه وسلم لخولة بنت يسار في الموضع النجس بدم الحيض ((يكفيك الماء ولا يضرك أثره)) ، فكيف بهذا؟

(1/112)


مسألة
وسئل عن الرجل يتوضأ ويلبس ثيابه ثم تأتيه امرأته فتغلبه على نفسه حتى تقبله وهو يشتمها ويكره ذلك منها ولا يجد له لذة ولا شيئاً ولا يحب ذلك منها وهو له كاره، أترى عليه الوضوء؟ قال نعم أرى عليه الوضوء، ولقد استفتاني ابن النبل عن ذلك فأمرته بالوضوء. قيل له فمس ساقها أو عضدها ألا ترى عليه الوضوء؟ قال نعم إلا أن لا يحد لذلك لذة شيئاً والوضوء يسير. قال مالك وقد قالت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ((كنت أغرف أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء)). قال مالك: ولا خير في هذا التقزز والتنجس إنما هو من الشيطان، ولم أر أحداً كان أخف وضوءاً من ربيعة. قال مالك وكان يقال إن الشيطان إذا يئس أن يطاع أو يعبد أتى الإنسان من هذا الوجه.
قال محمد بن رشد: أما إيجابه الوضوء عليه من القبلة وإن لم يلتذ بها ولا قصد الالتذاذ بها فهو دليل ما في المدونة، وقول أصبغ في الواضحة، ولا يحمله القياس، لن القبلة من الملامسة التي عناها الله بقوله تعالى: ((أو لامستم النساء)). والمعنى في وجوب الوضوء بها عند من أوجبه هو وجود اللذة بها وما يخشى من أن تكون اللذة قد حركت المذي من موضعه وأخرجته إلى قناة الذكر، فإن لم يلتذ بها ولا قصد الالتذاذ بها فالأظهر أن لا وضوء عليه، وهو قول مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم في الواضحة. ووجه ما في الرواية من إيجاب الوضوء فيها وإن لم يلتذ بها

(1/113)


ولا قصد الالتذاذ اتباع ظواهر الآثار التي جاءت في إيجاب الوضوء من القبلة مجملة دون تفصيل، وكأنه يعد عنده أن لا يكون التذ بها. وقوله بإثر ذلك فمس ساقها أو عضدها أترى عليه الوضوء؟ قال نعم إلا أن لا يجد لذلك لذة شيئاً، معناه أنه مس ذلك منها لحاجة على غير شهوة ولا إرادة لذة بدليل احتجاجه على ذلك بقول عائشة رضي الله عنها: ((كنت أغرف أنا ورسول الله من إناء واحد)). وموضع الحجة في ذلك أنهما إذا كانا يغرفان من إناء واحد قد تتماس أيديهما فيتماديان على وضوئهما ولا يبتدئانه. فلو قال في جواب المسألة قال لا إلا أن يجد لذلك لذة شيئاً لكان أليق وأولى، وإن كان ذلك عند الاعتبار والتحقيق سواء. ولما ذكر قول عائشة زوج النبي عليه السلام: ((كنت أغرف أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد)) تذكر قول من يقول في الرجل والمرأة إنه لا يتوضأ أحدهما من فضل وضوء صاحبه فقال: ولا خير في هذا التقزز والتنجس إنما هو من الشيطان إلى آخر قوله. وقد مضى له نحو هذا والقول عليه في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم.
مسألة
وسئل مالك فقيل له: أرأيت رجلاً قد كثر عليه المذي فليس يفارقه منذ كذا وكذا سنة لا يفارقه، أيتوضأ لكل صلاة؟ قال بلغني أن سعيد بن المسيب كان يقول: لو سال على فخذي ما انصرفت. فقيل لمالك فما تقول أنت؟ قال أرى أن يترك هذا ولا يلتفت إليه، فإن هذا من الشيطان، وأرجو أن يكون في تركه ذلك قطع [له عنه]وقد كان من مضى يأمرون إذا كثر مثل هذا أن يترك

(1/114)


ويتهاون به ولا يلتفت إليه. قال وكان يقال إن الشيطان إذا يئس أن يطاع أو يعبد أتى الإنسان من هذا الوجه حتى يلبس عليه دينه.
قال محمد بن رشد: هذا إنما هو إذا كثر عليه المذي ودام به من أبردة وقد اختلف إذا كثر عليه ودام به وتكرر عليه من طول عزبة دون تذكر، فقيل إن ذلك بمنزلة إذا كثر عليه من أبردة لا شيء عليه إلا أنه يستحب له أن يتوضأ لكل صلاة، وقيل عليه أن يغسل ذكره ويتوضأ واجباً بمنزلة إذا وجد ذلك عند التذكار، والقولان قائمان من المدونة من اختلاف الرواية فيها. قال في الرواية الواحدة: وإن كان ذلك من طول عزبة إذا تذكر، فدل ذلك أنه إذا كثر عليه المذي من طول عزبة دون أن يتذكر فلا شيء عليه بمنزلة أن لو كان ذلك من أبردة، وقال في الرواية الأخرى: وإن كان من طول عزبة أو تذكر فدل ذلك على أنه إذا كثر عليه من طول عزبة فعليه أن يغسل ذكره ويتوضأ بمنزلة إذا وجد ذلك عن التذكار.
مسألة
وسئل عن الرجل يمس شعر امرأته أو جاريته تلذذاً، فقال: إن مسه تلذذاً فأرى أن عليه الوضوء، وإن مسه لغير ذلك استحساناً أو غيره لم أر عليه وضوءاً، وما علمت أن أحداً يمس شعر امرأته تلذذاً.
قال محمد بن رشد: اشعر لا لذة في لمسه بمجرده، فيحتمل أن يكون أراد بقوله إن مسه متلذذاً فأرى أن عليه الوضوء إذا مسه على جسمها فيكون في مسه بمنزلة من لمس امرأته أو جاريته على ثوب متلذذاً بذلك فالتذ أن عليه الوضوء باتفاق في المذهب، إلا أن يكون الثوب كثيفا. وأما إن مسه على غير جسمها فلا يجب عليه الوضوء وإن التذ بذلك واشتهى إلا على

(1/115)


ما ذهب إليه ابن بكير أن التذكار مع وجود اللذة دون لمس يوجب الوضوء، فهذا وجه هذه الرواية عندي، والله أعلم.
مسألة
وسئل عن الثوب يكون فيه الدم فيتجفف فيه المغتسل، أيغسل الثوب وما أصاب جسده منه؟ فقال ذلك يختلف، أما الدم اليسير الذي لا يخرج منه بالتجفيف شيء فلا شيء عليه فيه ولا في جسده ولا في الثوب إلا غسل موضع الدم من الثوب. وأما الدم الكثير الكثيف الذي يخاف أن يكون التجفيف فيه قد بله فاخرج منه ما أصاب جسده فإني أرى أن يغسل جسده أو ما أصاب ذلك منه. قيل له: أفيغسل الثوب؟ قال ما أرى ذلك عليه إلا أن يكون خرج منه شيء فأصاب الثوب فيغسل ذلك الدم وما خرج منه فأصاب الثوب. قيل له: أفيعيد الصلاة؟ قال لا أرى ذلك، قال الله عز وجل ((أو دماً مسفوحاً)).
قال محمد بن رشد: قوله وأما الدم الكثيف الذي يخاف أن يكون التجفيف فيه قد بله فاخرج منه ما أصاب جسده فإني أرى أن يغسل جسده أو ما أصاب ذلك منه، يدل على أن من شك في نجاسة جسده يغسله ولا يجزيه نضحه بخلاف الثوب، وهو دليل رواية على بن زياد في المدونة. والدليل على أن ما شك في نجاسته من الجسد يغسل قول النبي عليه

(1/116)


السلام: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده))، وقوله للذي سأله لعلي: اغسل ذكرك وأنثييك. فأمره صلى الله عليه وسلم بغسل أنثييه لما يخشى أن يكون قد أصابه من المذي لانفراشه. والدليل على أن ما شك في نجاسته من الثياب يجزئ فيه النضح نضح أنس ابن مالك للنبي، عليه السلام، الحصير الذي صلى عليه، ونضح عمر ابن الخطاب ما لم ير في ثوبه من الاحتلام إذ غسل ما رأى منه.
مسألة
وسئل عن الغسل من الماء الساخن من الحمام إذا أراد أن يخرج، فقال ما يعجبني ذلك، والغسل من البئير أحب إلي. فقيل له إنه يكون الشتاء فيكون البرد فيغتسل لخروجه بماء الحمام السخن، فقال والله ما دخول الحمام بصواب، فكيف يغتسل من ذلك الماء؟
قال محمد بن رشد: أما كراهية الاغتسال من الماء السخن من الحمام فلوجهين: أحدهما أنه يسخن بالأقذار والنجاسات، والثاني أنه نختلف فيه أيدي الناس لأخذ الماء منه، فربما تناول أخذه بيده من لا يتحفظ بدينه. وأما كراهيته لدخوله وان دخله مستتراً مع من يستتر فمخافة أن يطلع على عورته أحد بغير ظن إذ لا يكاد يسلم من ذلك من دخله مع الناس لقلة تحفظهم. وأما دخوله غير مستتر أو مع من لا يستتر فلا يحل ذلك، ومن فعله فذلك جرحة فيه وقدح في شهادته. وقد سأل أصبغ ابن القاسم عن دخول الحمام فقال: أما إن وجدته خالياً أو كنت تدخل مع النفر يسترون ويتحفظون

(1/117)


لم أر بدخلوه بأساً. وإن كان يدخله من لا يبالي لم أر أن تدخله وان كنت أنت متحفظاً في نفسك. قال أصبغ: وأدركت ابن وهب يدخله مع العامة، ثم ترك ذلك، ثم كان يدخله مخليا. وقعت رواية أصبغ هذه في الجامع وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الرجل يكون معه الماء القليل في السفر فيخاف إن توضأ به العطش أيتيمم؟ قال نعم، لا بأس بذلك، إذا علم الله ذلك. من قلبه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن خوفه على نفسه الهلاك إن توضأ بالماء الذي معه يبيح له التيمم، كما لو كان الماء منه قريباً وخشي على نفسه إن ذهب إليه ليتوضأ منه لجاز له التيمم. وهذا ما لا خلاف فيه، وقد تقدم هذا المعنى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم.
مسألة
قيل له أفترى أن يطلب الماء في الرفقة قبل أن يتيمم؟ فقال: أما الشيء القريب والأمر المعروف فنعم.
قال محمد بن رشد: قد تكرر هذا المعنى في أول رسم من هذا السماع، ويأتي منه في سماع أبي زيد، وقد تقدم القول عليه في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم.
مسألة
وسئل عن جنب أدخل يده في ماء مركن قبل أن يغسل يده، ثم اغتسل ولبس ثيابه، أترى ذلك مجزيا عنه؟ قال نعم مجزئ عنه لا بأس به إذا لم يكن كان بيده دنس حين أدخلها الماء .

(1/118)


قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذا المعنى في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم، وفي رسم البز منه، ويأتي في هذا السماع بعد في موضعين، وفي سماع موسى بن معاوية.
مسألة
وسئل عن المتوضي للصلاة يوضئ ذراعه اليسرى أو رجله اليسرى قبل ذراعه اليمنى أو رجله اليمنى، أيجزئ ذلك أم يستأنف الوضوء؟ قال بل أرى ذلك واسعاً.
قال محمد بن رشد: قوله: بل أرى ذلك واسعاً أي أراه في سعة مما قد فعل فلا يستأنف الوضوء، إذ ليس ذلك من واجباته، وان كان لا ينبغي له أن يفعل ذلك ابتداء. وهو كما قال، لأن الله تبارك وتعالى قال: ((فاغسلوا وجوهكم وأيديكم)) فذكر الوجه قبل اليدين، وذكر اليدين معاً، وإنما بدئ اليمين منهما على الشمال استحباباً للسنة. وقول علي ابن أبي طالب وعبد الله بن مسعود: ((ما نبالي بدأنا بأيماننا أو بأيسارنا))، معناه لا نبالي بذلك مبالاة من قدم بعض أعضاء الوضوء على بعض، فلا يدل ذلك على نفي استحباب غسل اليمين قبل الشمال، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن قول الله عز وجل: ((وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)) أهي أرجلكم أو أرجلكم؟ قال إنما

(1/119)


هو الغسل وليس بالمسح، لا تمسح الأرجل إنما تغسل. قيل له أفرأيت من مسح أيجزئه ذلك؟ قال لا.
قال محمد بن رشد: أضرب مالك، رحمه الله، عما سئل عنه من قراءة وأرجلكم إن كان بالنصب أو بالجر، وقصد إلى المعنى المراد بذلك فقال إنما هو الغسل وليس بالمسح، لأنه الذي ثبت عن النبي، عليه السلام، قولاً وعملاً، وأجمع عليه علماء المسلمين في جميع الأمصار. وما روي في ذلك مما يتعلق به من يذهب إلى إجازة المسح من المبتدعين لا يثبت، ولو ثبت لكان مما يقضي بنسخه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ((تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا صلاة العصر ونحن نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً)) ومن زعم أن سقوطهما في التيمم يدل على أنهما يمسحان كالرأس إذ لم يسقط فيه ما كان يغسل، ينتقض قوله بغسل البدن من الجنابة فإنه يسقط في التيمم مع عدم الماء ويجب غسله بالماء عند وجوده. وأما قراءة من قرأ وأرجلكم، فمن قرأها بالنصب عطفا على اليدين فهو الغسل لا كلام فيه، لأن الشيء يعطف على ما يليه وعلى ما قبله، وهو كثير موجود في القرآن ولسان العرب. وأما من قرأ: وأرجلكم بالخفض ففي قراءته لأهل العلم أربعة أوجه: أحدها أنها معطوفة على اليدين وإنما خفضت للجوار والاتباع كما قالوا جحر ضب خرب، وقد قرئ: يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس بالخفض؛ والثاني أنهما معطوفتان على مسح الرأس وأن الغسل إنما وجب بالسنة، والثالث أن المراد بذلك المسح على الخفين؛ والرابع أن الغسل يمسى مسحاً عند العرب لأنها تقول تمسحنا للصلاة، فبين النبي، عليه

(1/120)


السلام، أن مراد الله تعالى بقوله: ((وامسحوا برؤوسكم)) إمرار اليد عليه دون نقل الماء إليه، وأن مراده بأمره بغسل الرجلين إمرار اليد عليهما مع نقل الماء إليهما، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الرجل يتزوج المرأة النصرانية، أله أن يكرهها على الاغتسال من الجنابة؟ فقال لا ما علمت ذلك له. قال وسألته عن اغتسال النصرانية من الحيضة أيجبرها عليه زوجها؟ قال ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية إن الرجل لا يجبر زوجته النصرانية على الاغتسال من الحيضة خلاف قوله في المدونة أن يجبرها على ذلك من أجل أن الحائض عنده لا توطأ إذا طهرت من الدم حتى تغتسل بالماء، والاختلاف في هذا جار على اختلافهم في الكفار هل هم مخاطبون بشرائع الاسلام أم لا، لأن المسلم أمر أن لا يطأ من يجب عليها الغسل منها على القول بأنها غير مخاطبة بذلك كانت في حكم من قد اغتسل وجاز لزوجها وطؤها، فلم يكن له أن يجبرها على الاغتسال. وإذا كان الغسل عليها واجباً منها على القول بأنها مخاطبة بالشرائع لم يكن للزوج أن يطأها حتى تغتسل كالمسلمة سواء، فكان له أن يجبرها على الاغتسال.
فإن قيل: فما فائدة إجبارها على الاغتسال والغسل لا يجزئ عنده إلا بنية والنصرانية لا تصح منها نية؟
قيل له: النية إنما تشترط في صحة الغسل للصلاة، وأما للوطء في حق الزوج فلا، لأنه متعبد بذلك فيها مأمور باغتسالها قبل الوطء، وما كان من

(1/121)


العبادات يفعلها المتعبد في غيره لم يفتقر في ذلك إلى نية، كغسل الميت وغسل الاناء سبعا من ولوغ الكلب فيه، ومن وضأ غيره فلا نية على الموضئ وإنما النية على الموضإ. وكذلك لو كانت لرجل زوجة مسلمة فأبت من الاغتسال من الحيضة لجاز له أن يطأها إذا أكرهها على الاغتسال وإن لم يكن لها فيه نية وكانت هي قد خرجت دونه في ذلك ولزمها أن تغتسل غسلاً آخر للصلاة بنية، إذ لا يجزئها الغسل الذي أكرهت عليه إذا لم يكن لها فيه نية. وقد قيل إنه لم ير في هذه الرواية أن يجبرها على الاغتسال من أجل أن الغسل لا يجزئ إلا بنية وهي ممن لا تصح منها نية. وأنه إنما قال في المدونة إنه يجبرها على الاغتسال مراعاةً لقول من يقول إن الغسل يجزئ بغير نية. والتأويل الأول هو الصحيح. وقد ذهب ابن بكير إلى أن تتطهر بالماء استحباب لتمضي النية خالصة للاغتسال من الحيضة دون الجنابة، بدليل رواية أشهب هذه، إذ أجاز له فيها وطء النصرانية إذا طهرت من الدم دون أن تغتسل بالماء، فلم ير من حقه أن يجبرها على الاغتسال، وليس ذلك ببين، لأن المعنى في الرواية إنا هو ما ذكرناه من أنه أجاز له وطأها قبل أن تغتسل ، إذ لا يجب الغسل عليها على القول بأن الكفار غير مخاطبين بالشرائع. والظاهر من مذهب مالك أن وطء المرأة إذا طهرت من الدم قبل أن تغتسل محظور لا مكروه، بدليل قول الله، عز وجل: ((ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله))، لأن المعنى عنده في ذلك، والله أعلم: ولا تقربوهن حتى يطهرن بالماء، فإذا تطهرن به، إذ قد قرئ: ((ولا تقربوهن حتى يطهرن)) بتشديد الطاء والهاء، وهي القراءة المختارة، لأن المعنى يدل [على] أن الطهر الأول هو الثاني

(1/122)


إما من الدم وإما بالماء، فمن حملهما جميعا على أن المراد بهما التطهر بالماء إذ هو الأظهر من التفعل أن يراد به الاغتسال بالماء لم يجز وطء الحائض حتى تغتسل بالماء وهو الظاهر من مذهب مالك على ما ذكرناه، ومن حملهما جميعا على أن المراد بهما الطهر من الدم إذ قد يعبر عن الطهر من الدم بالتطهر، كما يقال تكسر الحجر وتبرد الماء، أجاز الوطء إذا ارتفع الدم قبل أن تغتسل بالماء، وإلى هذا ذهب ابن بكير، لأن الاستحباب راجع إلى نفي الوجوب، وهو الأظهر في المعنى والقياس، لأن العلة في منع وطء الحائض وجود الدم بها، بدليل قول الله عز وجل: ((ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض)) فإذا ارتفعت العلة بزوال الدم جاز الوطء. وأما قول من قال إن معنى قول الله، عز وجل: ((ولا تقربوهن حتى يطهرن)) أي من الدم. ((فإذا تطهرن)) أي بالماء، فهو بعيد لأن الله أباح وطئهن إذا طهرن بقوله: ((ولا تقربوهن حتى يطهرن)) ثم بين الوطء الذي أباحه إذا طهرن بقوله: ((فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله)) أي على الوجه الذي أذن الله فيه، فلو كان الطهر الأول من الدم والثاني بالماء لجاز بالأول ما لم يجز بالثاني، لأنه أطلق الأول بقوله: ((فلا تقربوهن حتى يطهرن))، وقيد الثاني بقوله: ((فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله))، وهذا لا يصح أن يقال، ولا يستقيم في الكلام لا تفعل كذا حتى يكون كذا فإذا كان كذا لشيء آخر فافعله، وهذا بين. وعن مالك في إجبار النصرانية على الاغتسال من الحيضة ثلاث روايات: إحداها رواية أشهب هذه أنه لا يجبرها على الاغتسال من الحيضة ولا من الجنابة، والثانية أنه يجبرها على الاغتسال من الحيضة ولا يجبرها على الاغتسال من الجنابة، وهو قوله في المدونة؛ والثالثة أنه يجبرها على الاغتسال من الحيضة والجنابة. وقد مضى وجه الاختلاف في إجبارها على الاغتسال من الحيضة، وأما الاختلاف

(1/123)


على إجبارها على الاغتسال من الجنابة فليس على ظاهره، والمعنى في ذلك أنه لا يجبرها على الاغتسال إذا لم يكن بجسدها أذى، إذ يجوز له وطؤها قبل أن تغتسل، ويجبرها على الاغتسال إذا كان بجسدها أذى من الجنابة ليباشرها طاهرة الجسم من النجاسة فلا ينجس بذلك، والله أعلم، وبه التوفيق.
مسألة
وقال لنا دعا عبد المالك بن صالح بوضوء قبل الغذاء فتوضأ ثم قال: ناولوا أبا عبد الله، فقلت لا حاجة لي به ليس من الأمر، فقال لي أفترى أن أتركه؟ فقلت له نعم، فما عاد إليه.
قال محمد بن رشد: يريد أنه ليس من الأمر الواجب الذي يأثم من تركه بتركه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على الترغيب فيه، من ذلك قوله: ((الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم)) ، وإجماعهم على أن النظافة مشروعة في الدين يدل على ذلك أيضاً وما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من أنه كان إذا توضأ يغسل يديه قبل أن يدخلهما في وضوئه هو من هذا المعنى.
مسألة
وسئل عن الكعب الذي يجب إليه الوضوء، فقال هو الكعب الملتزق بالساق والمحاذي العقب، وليس بالظاهر في ظهر القدم.
قال محمد بن رشد: ما قال مالك، رحمه الله، في هذه الرواية أصح ما قيل في الكعب، والدليل على صحته حديث النعمان بن بشير قال: ((أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال أقيموا صفوفكم، قال فلقد رأيت الرجل

(1/124)


يلزق كعبه بكعب صاحبه)). وقد قيل الكعب هو الظاهر في ظهر القدم، وقيل هو الدائر بمغرز الساق، وهو مجتمع العروق في ظهر القدم. وقال محمد بن الحسن: في القدم كعب وفي الساق كعب، ففي كل رجل كعبان، والعرقوب مجمع مفصل الساق من القدم، والعقب تحت العرقوب.
مسألة
وسألته عن الرجل يدنو من أهله فيصيبها ما دون الختان فينزل على ذلك منها، فيداخلها من مائه ولم تلتذ هي بشيء من ذلك، أعليها فيما داخلها من مائه غسل؟ فقال لي وما يدريها أن ذلك دخلها، هي لا تعلم هذا، ولكن إن كانت التذت بذلك فعليها الغسل. فقلت له إنها لم تلتذ بذلك ولكن ماء دخلها، أفترى عليها في ذلك غسلا؟ فقال هي لا تعلم هذا أبدا ولا تعرفه، ولكن إن كانت التذت فلتغسل: فقلت له أفرأيت إن كان هذا أمر لا يعلم فشكت أفترى تغتسل؟ فقال لي لا، ولكن إن كانت التذت فلتغتسل.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الروايات أنها إن التذت بذلك وجب عليها الغسل، وقال في المدونة: إذا التذت يريد بذلك أنزلت. وفي الآثار التي فيها عن يزيد بن أبي حبيب وعطاء بن دينار ومشايخ من أهل العلم والليث بن سيعد أنه إذا دخلها من مائه شيء فقد وجب عليها الغسل، فالظاهر أنها ثلاثة أقوال، والأصح منها أنه لا غسل عليها إلا أن تنزل، لأنها لم توطأ فلا يجب عليها الغسل إلا بالإنزال أو مجاوزة الختان، كما لا يجب على الرجل الغسل إلا بأحد هذين الوجهين وبالله التوفيق.

(1/125)


مسألة
وسئل عن وقت الدم فقال ليس له عندنا وقت، فقيل له فقليله وكثيره سواء؟ قال لا ولكن لا أجيبكم إلى هذا الضلال إذا كان مثل الدرهم ثم قال أرأيت إن كان الدرهم من هذه البغيلة، الدراهم تختلف، تكون وافية كلها وبعضها أكبر من بعض.
قال محمد بن رشد: هذا هو المعلوم من مذهبه أنه كيره الحد في مثل هذه الأشياء التي لا أصل للحد فيها في الكتاب والسنة، وإنما يرجع فيها إلى الاجتهاد. وقد روى علي بن زياد عنه أن قدر الدرهم من الدم قليل. وذكر ابن حبيب عنه أن قدر الدرهم منه كثير وأن قدر الخنصر منه قليل. قال ابن حبيب وقد كان عطاء وغيره من العلماء يرون أن الدرهم منه قليل، والاحتياط أحب إلي أن تعاد الصلاة من قدر الدرهم. وقالوا إن الأصل في حد يسيره بقدر الدرهم عند من رآه الاعتبار بالمخرج، لأن الأحجار لا تزيل عنه النجاسة، فوجب أن يقاس عليه الدم لأنه أمر غالب كما أنه أمر غالب، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عمن مس إبطه ونتفه أترى أن يغسل يده؟ قال نعم، فقيل له من نتف إبطه غسل يده؟ قال نعم، ذلك حسن.
قال محمد بن رشد: ما استحسن مالك [رحمه الله من هذا] حسن، لأنه مما شرع في الدين من المروءة والنظافة، وإن لم يكن ذلك واجباً كوجوب غسل النجاسة.

(1/126)


مسألة
وسئل أينزع الخاتم الذي فيه ذكر الله منقوش عند الاستنجاء؟ فقال إن نزعه فحسن، وما سمعت أحداً نزع خاتمه عند الاستنجاء. قيل له فإن استنجى وهو في يده فلا بأس به؟ قال نعم.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم، وتكررت في رسم مساجد القبائل منه، والحمد لله.
مسألة
وسئل عن ماء البيض إذا أصاب الثوب أترى أن يغسل؟ فقال لا إلا أن يكون له ريح، فقيل له ليس له ريح، فقال لا بأس به.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يغسل إن كان له ريح هو نحو ما تقدم له في غسل اليد من نتف الإبط، وقد تقدم القول فيه.
مسألة
قال: وسئل مالك عن الرجل يتوضأ للصلاة ثم يمس ذكره قبل أن يغسل قديمه أينتقض وضوؤه؟ قال نعم.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن مس الذكر ينقض الوضوء ناسياً كان أو متعمداً، إذ لم يفرق بين ذلك، وأن الإعادة واجبة عليه إن صلى بذلك الوضوء أبداً ، خلاف رواية أشهب عنه في كتاب الصلاة، وخلاف ما في سماع سحنون من هذا الكتاب. وقد مضى في رسم اغتسل على غير نية من الكلام على هذه المسألة ما لا وجه لإعادته.

(1/127)


مسألة
وسئل عن الرجل يتوضأ ثم يطأ الموضع القذر الجاف قال لا بأس بذلك، إن الله وسع على هذه الأمة، ثم تلا: ((ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به)).
قال محمد بن رشد: معناه أنه موضع قذر لا يوقن بنجاسته، فحمله على الطهارة، لأن الاحتراس من مثل هذا يشق، فهو من الحرج الذي قد رفعه الله في الدين بقوله: ((وما جعل عليكم في الدين من حرج)) ولو كان الموضع يوقن بنجاسته لوجب أن يغسل قدميه لن النجاسة تتعلق بهما وإن كان يابساً من أجل بللهما، وهذا بين.
مسألة
وسئل عن الرجل يضطجع على الفراش الذي فيه الجنابة فتصيبه شدة هذا العرق الذي ترى فقال أكرهه، أكره أن يضطجع عليه، ولأنه يعرق فيلتصق به، فأنا أكره ذلك، ولكن أرى أن يجعل من فوقه ثوباً ثم ينام عليه إن بدا له. قيل له أفترى إذا اضطجع عليه فعرق أن يجزئه الوضوء؟ قال لا، ولكن لو نظر إلى الشق الذي اضطجع عليه فغسله، فقيل إنه يتقلب إذا كان نائماً، فقال يغسل ما يخاف أن يكون قد أصابه منه شيء. فقيل له ألا ترى هذا بمنزلة الجنب يعرق في ثوبه؟ فقال لا، هذا يلصق به والجنابة في الثوب هكذا يكون كثيفاً، فإذا عرق فيه أصابه منه، وعرق

(1/128)


الجنب لا بأس به، والدابة لا بأس بعرقها فكيف بعرق الجنب لا بأس بعرقه.
قال محمد بن رشد: قوله يغسل ما يخاف أن يكون قد أصاب منه شيء هو مثل ما تقدم له في هذا الرسم في الذي يتجفف في الثوب يكون فيه الدم الكثيف، وذلك يدل على أن ما شك في نجاسته من الأبدان أن حكمه أن يغسل ولا يجزئ فيه النضح. وقد ذكرنا الدليل على الفرق في ذلك بين الثوب والجسد في مسألة الدم المذكورة. وفي كتاب ابن شعبان أن النضح يجزي في الجسد كالثوب وهو شاذ، وقد ذهب ابن لبابة إلى أن النضح لا يجزئ في واحد منهما وهو خروج عن المذهب جملة. وأما قوله في عرق الجنب إنه طاهر إذا لم يكن بجسده نجاسة فهو كما قال، لأن جسمه طاهر، وإنما يغتسل عبادة لا نجاسة، فعرق بني آدم تبع للحومهم في الطهارة. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كان يقيل عند أم سليم وكان كثير العرق فاعتدت له قطعاً يقيل عليه فكانت تأخذ عرقه فتجعله في قارورة فقال ما هذا يا أم سليم فقالت عرقك يا رسول الله أجعله في طيبي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم))، فدل ذلك على طهارة العرق. وكذلك عرق سائر الحيوان وألبانها تبع للحومها، فلبن الحمارة نجس، قاله يحيى بن يحيى في سماعه. وإنما قال في المدونة لا بأس بعرق البردون والبغل والحمار من أجل أن الناس لا يقدرون على التوقي منه. وأما ما يوكل لحمه فعرقه طاهر كلبنه، إلا أن يشرب ماء نجساً فيختلف في عرقه ولبنه وبوله على أربعة أقوال، أحدها أن ذلك كله طاهر وهو قول أشهب، والثاني أن ذلك كله نجس وهو قول سحنون، والثالث الألبان طاهرة والأبوال والأعراق نجسة، والرابع الأبوال نجسة والأعراق والألبان طاهرة. وكذلك عرق السكران ولبن المرأة التي شربت الخمر يتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أن اللبن والعرق نجس

(1/129)


وهو قول سحنون، وذلك قوله في المدونة إنما غذاء اللبن مما يأكلن وهن يأكلن الخنزير ويشربن الخمر، والثاني أنهما جميعاً طاهران وهو قول أشهب، والثالث اللبن طاهر والعرق نجس.
مسألة
قال: وسئل عن الذي يستيقظ من نومه فيدخل يده في وضوئه قبل أن يغسلها، فيغسلها مرتين أو ثلاثاً ناسياً ثم يذكر، أيتوضأ بذلك الماء؟ فقال إن كان لا يعلم بيده بأساً ولا شيئاً فلا أرى بذلك بأساً أن يتوضأ به كما هو، وما كان الناس يشددون في هذه الأشياء من الوضوء والغسل، والإكثار منه كهيئة الناس اليوم ضيقوا ما لم ينبغ لهم تضييقه، وشددوا على أنفسهم في هذه الأمور وما كذلك كان الناس. قال مالك: وقد بلغني أن عمر بن الخطاب كان إذا أكل مسح يده بباطن قدمه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال أن الماء الذي أدخل فيه يده إذا استيقظ من نومه قبل أن يغسلها طاهر يتوضأ منه، لأن يده محمولة على الطهارة حتى يوقن بنجاستها على الأصل في أن الشك لا يؤثر في اليقين، وإن كان الاختيار أن يغسلها للحديث إلا أن لا يمكنه ذلك في مثل المهراس على ما يأتي في آخر هذا السماع، خلاف ظاهر قول أبي هريرة في رسم البز من سماع ابن القاسم، [وقد مضى التكلم على هذه المسألة في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم] . ومعنى ما ذكر عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه كان إذا أكل مسح يده بباطن قدمه إنما هو في مثل التمر والشيء الجاف الذي لا يتعلق بيده منه إلا ما يذهبه أدنى المسح،

(1/130)


وأما مثل اللحم واللبن وما يكون له الدسم والودك فلا، لأن غسل اليد منه مما لا ينبغي تركه، وقد تمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم من السويق وهو أيسر من اللحم واللبن؛ وغسل عثمان بن عفان يده من اللحم وتمضمض منه، ذكر ذلك مالك في الموطأ فهذا يدل على ما ذكرناه، والله أعلم.
مسألة
قال: وسئل مالك عن الوضوء بالدقيق والنخالة والفول أيتوضأ به؟ فقال لا علم لي به، ثم قال ولم يتوضأ به؟ إن أعياه الشيء فليتوضأ بالتراب. قال مالك قال عمر بن الخطابك إياكم وهذا التنعم وأمر الأعاجم. قال العتبي: وسئل سحنون وأنا أسمع عن الوضوء بالنخالة والغسل بها، فقال: لا يجوز، فقلت له: فهل يغسل الرجل رأسه بالبيض؟ فقال لي لا، فقلت له فالملح؟ فقال لا يغسل بشيء مما يؤكل. وروى محمد بن خالد عن ابن نافع أنه لا بأس بالوضوء بالنخالة.
قال محمد بن رشد: تقدم هذا المعنى في رسم النذور والجنائز والذبائح من هذا السماع، ومضى القول في وجه الكراهية في ذلك وجميع ما يعارض ظاهره ذلك من الروايات في آخر رسم البز من سماع ابن القاسم.
مسألة
قال: وسئل مالك عن الوضوء بالماء السخن، فقال لا بأس به، وإن لنفعل ذلك كثيراً. فقيل له إنما نحوط الوضوء مما مسته النار قال كيف يصنع بالدهن والله ما يدهن إلا بعد الوضوء.

(1/131)


قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن الماء القراح لا يخرجه عن حكم الطهارة وجواز تأدية الفرض به مسيس النار إياه، كما لا يخرج شيئاً من الطعام مسيس النار إياه عن حكم الطهارة وجواز أكله، والأمر بالوضوء منه كان عبادة قد نسخت. وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال: ((كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار)) فلا وجه للاعتبار بذلك في كراهة الوضوء بالماء السخن، وإنما يعتبر بجواز الوضوء بالماء السخن في ألا وضوء مما مست النار. وقد روي أن عبد الله بن عمر قال لأبي هريرة لما قال إنه يتوضأ مما مست النار: ما تقول في الدهن والماء السخن يتوضأ منه؟ قال أنت رجل من قريش وأنا رجل من دوس، قال يا أبا هريرة لعلك تلحق إلى هذه الآية ((بل هم قوم خصمون)) لا نتوضأ من شيء نأكله، وقد روي عن مجاهد أنه كره الوضوء بالماء السخن، فيحتمل أن يكون رأى ذلك من التنعم ورأى الصبر على الوضوء بالماء البارد أعظم للأجر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء عند المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط)). فإن كان ذهب إلى هذا فقد أصاب والله أعلم، وبه التوفيق.
مسألة
وسئل عن الذي يريد أن يبتدئ الوضوء أيغسل يديه أحب إليك أم يفرغ على يده؟ فقال يفرغ على يده. قيل له أي أحب

(1/132)


إليك أن يفرغ على يديه قبل أن يغسلهما، قال نعم أحب إلي أن يفرغ على يده اليمنى فيغسلهما.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إن الاختيار في غسل اليدين قبل الوضوء أن يفرغ على يده اليمنى فيغسلهما جميعاً اتباعاً لظاهر الحديث، وإن أفرغ على يده اليمنى فغسلها وحدها ثم أدخلها في الإناء فأفرغ بها على يده اليسرى فغسلها أيضاً وحدها أجزأه ولم يكن عليه في ذلك ضيق. وفي أول سماع عيسى لابن القاسم مثل اختيار قول مالك هذا، واختلف اختيارهما هناك في تمام الوضوء هل يدخل يديه جميعاً في الإناء أم يدخل الواحدة ويفرغ بها على الثانية ويتوضأ على ما سنذكره إن شاء الله، ووقع في بعض الكتب أم يفرغ على يديه، فقال بل يفرغ على يديه، وهو خطأ إذ لا يستقيم أن يفرغ على يديه معاً، فتدبر ذلك.
مسألة
وسئل عن الذي ينام في الثوب فيه الجنابة حتى يعرق فيه ثم يقوم أيتوضأ قط؟ فقال بل يغتسل، أحب إلي أن يغسل جلده. قيل له أيغسل جلده؟ فقال نعم أو يغسل ذلك الموضع الذي أصابه ذلك من جسده.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لن المني نجس عند مالك، فإذا عرق في الثوب الذي فيه الجنابة فابتلت النجاسة وتعلقت بجسمه وجب غسله. وقوله أحب إلي ليس على ظاهره، بل غسل ما أصابه من الجنابة واجب عنده لا يراعي في ذلك قول غيره ممن ذهب إلى أن المني طاهر والله أعلم.

(1/133)


مسألة
وسئل عن الذي يكون في رأسه جراح فتصيبه جنابة، أيغتسل وينكب عنها الماء؟ فقال نعم لا بأس بذلك، فقلت له أرأيت إذا برأ أيغسل رأسه؟ فقال أو في هذا شك إنه إذ برأ غسله، نعم يغسله.
قال محمد بن رشد: وهذا بين كما قال لا إشكال فيه، إذا نكب الماء عن موضع الشجة في رأسه فهي لمعة بقيت في رأسه من غسل الجنابة يجب عليه إذا صح أن يغسلها كما لو نسيها سواء.
مسألة
وسئل مالك فقيل له إن خليج الإسكندرية إذا كان جرى النيل جرت فيه السفن وكان ماؤه أبيض صافياً، فإذا ذهب النيل ركد فتغير لونه ورائحته طيبة والسفن تجري فيه على حالها، والماء كثير فيه، والمراحيض تصب فيه، فهو يغسل فيه الثياب ويتوضأ منه للصلاة، فقال إذا كانت تصب فيه هذه المراحيض وقد تغير لونه فما أحب ذلك، وكان ابن عمر من ائتمه الناس، وكان يقول إني أحب أن أجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال، قال مالك فعليك أنت بالذي لا تشك فيه ودع الناس عنك ولعلهم في سعة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن الماء وإن كان كثيراً صافياً تجري فيه السفن لا ينبغي أن يتوضأ منه إذا ركد وتغير لونه من أجل أن المراحيض تصب فيه، لاحتمال أن يكون تغير لونه من صب تلك المراحيض فيه، لا من ركوده وسكونه في موضعه. ولو علم أن تغير من ذلك لم يحل الوضوء منه وكان نجساً بإجماع، فإذا لم يعلم بم تغير لونه كان

(1/134)


الاحتياط أن يحمل على النجاسة، بخلاف أن لو وجد متغير اللون ولم يعلم لتغيره سبب من نجاسة يشبه أن يكون تغير منه فإنه يحمل على الطهارة، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن بئر وجد ماؤها منتناً فنزفت ثم ماؤها منتن على حاله، فقال إني أخاف أن تكون تسقيها قناة مرحاض، فانزفوها يومين أو ثلاثة أيام، فإن طاب ماؤها توضأتم به، وإن لم يطب لم تتوضؤوا به.
قال محمد بن رشد: وجه قوله أنه حمل الماء على أنه إنما أنتن من نجاسته لقنوات المراحيض التي تتخلل الدور في القرى والمدن بخلاف البئر والغدير يجده الرجل في الصحراء قد أنتن وهو لا يدري مما أنتن فإنه يحمل على الطهارة وأنه إنما أنتن من ركوده وسكونه في موضعه، إذ لا يعلم لنجاستها سبباً يشككه فيه، ولو علم أن نتن ماء البئر ليس من قناة مرحاض إلى جانبه لم يكن به بأس، وقد قاله في آخر هذا الرسم فهو مبين قوله ها هنا.
مسألة
وسئل عن الرجل يأتي المهراس بفلاة من الأرض فيريد أن يتوضأ منه فلا يجد شيئاً يأخذ به فيصب على يديه، أيدخل يده فيه؟ قال نعم يدخل يده فيه، وأين يجد مهراساً بفلاة من الأرض؟ ولكن

(1/135)


لو قال غديراً، فقيل له إن بعض الناس يقول يأخذ بفيه الماء فيصب به على يديه حتى يغسلهما ثم يدخلهما في المهراس، فقال وما عسى أن يأخذ بفيه، وإن ليكفي من هذا أنه لم يكن من عمل الناس أن يأخذ بفيه فيصب على يديه.
قال محمد بن رشد: يده محمولة على الطهارة حتى يوقن بنجاستها ولذلك لم ير عليه أن يأخذ الماء بفيه ليغسلها، ورأى ذلك من التعمق والخلاف لما مضى عليه الناس من التخفيف وترك التشديد على أنفسهم في مثل هذه الأمور. وقد مضى هذا المعنى في الرسم قبل هذا وفي رسم كتب عليه ذكر حق ورسم البز من سماع ابن القاسم. ولو كانت يده نجسة لكان عليه أن يحتال لغسلها قبل أن يدخلها في الماء بما يقدر عليه من أخذ الماء بفيه أو بثوب إن كان معه على ما يأتي في سماع موس بن معاوية من هذا الكتاب.
مسألة
وسئل عمن توضأ ومسح على خفيه، فلما مشى وجد في أحدهما حصاة فنزعه فأخرجها ثم رد خفه مكانه في رجله ما ترى عليه؟ فقال أحب إلي أن يغسل قدمه مكانه. قيل له: أيجزي عنه أن يغسل قدمه مكانه؟ قال نعم. قيل له إن بعض أهل العرق يقولون إذا نزعت خفيك انتقض وضوؤك، فقال قال الله عز وجل:

(1/136)


((فإن شهدوا فلا تشهد معهم))، وقال عز وجل: ((وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم)).
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب قدمه وفي بعضها قدميه في الموضعين، والذي تستقيم به المسألة على ظاهر اللفظ أن يكون الأول قدميه بالتثنية، والثاني قدمه بالإفراد، إذ يبعد أن يقول أحب إلي أن يغسل قدمه بالإفراد لن ذلك عنده لا يجزئ دون ومتى لم يفعل انتقض وضوؤه، وإنما يصح أن يتعلق الاستحباب عنده بخلعهما جميعاً، فلما استحب أن يخلعهما جميعاً قيل له أيجزئ عنه أن يغسل قدمه الواحدة مكانه الذي خلع الخف منه لإخراج الحصاة، قال نعم. فإذا جاز على هذه الرواية أن يغسل الرجل التي خلع منها الخف ولا يخلع صاحبه، فأحرى إذا لبس خفين على خفين فمسح على الأعليين ثم نزع فرداً واحداً منها أن يجزئه أن يمسح على الخف الذي تحته ولا يخلع صاحبه. وقال ابن حبيب: لا بد له من خلع صاحبه في المسألتين جميعاً. ومذهب ابن القاسم الفرق بين المسألتين، لن عيسى روى عنه في الخفين على الخفين إذا نزع فرداً من الأعليين وقد مسح عليهما أنه يجزئه أن يمسح على الذي تحته وحده ولا يخلع صاحبه. وروى عنه أبو زيد في الخفين على القدمين إذا مسح عليهما فانخرق أحدهما أنه ينزعهما جميعاً ويغسل رجليه، فتحصل في الجملة ثلاثة أقوال، وفي كل مسألة على انفراد قولان، فقف على ذلك. وإنما قال إذا نزع خفيه وقد مسح عليهما إنه يغسل رجليه ولا ينتقض وضوؤه خلافاً لما حكي له عن بعض أهل العراق قياساً على الجبيرة إذا مسح عليها في غسله ثم برأ أنه يغسل ذلك الموضع ولا ينتقض غسله. وفي مختصر ما ليس في المختصر لمالك من

(1/137)


رواية زيد بن شعيب عنه أن من مسح على خفيه ثم نزعهما استأنف الوضوء. ووجه ذلك أنه إن غسل رجليه فقد حصل وضوؤه متفرقاً عن غير ضرورة، بخلاف الجبيرة، والأول أظهر.
مسألة
وسئل عن الوضوء من بيوت النصارى، فربما كانوا عبيداً للمسلمين، فقال إني لأكره ذلك هم أنجاس لا يتطهرون.
قال محمد بن رشد: فإن فعل فلا إعادة عليه، لأنه أخف من سؤر النصراني الذي قد اختلف فيه قوله على ما قد تقدم القول فيه من أول سماع ابن القاسم.
مسألة: [بئر ماتت فيه دابة]
وسئل عن بئر ماتت فيه دابة فكان أهلها يتوضؤون منها ويصيب ماؤها ثيابهم، فقال إن كان ذلك الماء منتناً فاسداً فأرى أن تغسل الثياب التي أصابها ذلك الماء، فإن كان ذلك فيه شيئاً خفيفاً فأرى أن تنضح تلك الثياب نضحاً ولا تغسل. فقيل له إنما هي فارة ماتت فيها فكان أهلها يتوضؤون منها ويصيب ماؤها ثيابهم، فقال نعم إذا كان ذلك الماء فاسداً جداً غسلت منه تلك الثياب، وإن كان ذلك منه شيئاً خفيفاً فيها فأرى أن تنضح الثياب، فقيل له أرأيت ما صلوا بذلك من صلاة؟ فقال يعاد ما كان من ذلك في الوقت.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف بين أهل العلم فيما علمت أن الماء إذا أنتن واشتدت رائحته من موت الدابة فيه أنه نجس، وأن من توضأ به يعيد

(1/138)


الصلاة في الوقت وبعده،وتغسل منها الثياب ولا يجزئ فيها النضح. فقوله في آخر المسألة يعاد من ذلك ما كان في الوقت لا يعود على جملة المسألة في الماء المنتن وغيره، وإنما يعود على ما اتصل به من قوله: وإذا كان ذلك منه شيئاً خفيفاً فيها فأرى أن تنضح الثياب. ويحتمل أن يعود على جملة المسألة في الصلاة بالثياب التي أصابها ذلك الماء المنتن وغيره لا في الوضوء من ذلك الماء، والتأويل الأول أظهر بظاهر الرواية. ومعنى قوله وإن كان ذلك منه شيئاً خفيفاً أي يشك في تغير رائحته لخفته، وأما لو تبين تغير رائحته لوجب أن يعيد من توضأ بذلك الماء في الوقت وغيره على مذهب مالك خلاف ما ذهب إليه ابن الماجشون من ترك الاعتبار بالرائحة في صفة الماء. وقوله فأرى أن تنضح الثياب يحتمل أن يريد إن كانت ثياباً يفسدها الغسل على نحو ما ذهب إليه ابن حبيب، ويحتمل أن يكون خفف ترك غسلها وإن كان الغسل لا يفسدها إذا لم يعمها ذلك الماء النجس، بخلاف المسألة التي تقدمت في رسم النذور والجنائز، والله أعلم.
مسألة
وسئل عن الذي يصب الماء لحماره في الشيء يشرب منه ويفضل أيتوضأ بفضله؟ قال لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، وزاد فيها أنه وغيره سواء. قال ابن حبيب: وقد كزه بعض العلماء الوضوء من سؤر الدواب التي تأكل أرواثها، ولم ير ابن القاسم بذلك بأساً إلا أن يرى ذلك بأفواهها عند شربها. قال ابن حبيب: وأما المخلاة التي تقم المزابل وتأكل الأقذار فالتيمم خير من سؤرها لأنه نجس.

(1/139)


مسألة
وسئل فقيل له إن بيراً لنا قد أنتن ماؤها ونزحناه وماؤها بعد منتن، فقال لا أرى أن يتوضأ منه حتى يأتوا ببعض هؤلاء الذين ينظرون إلى الآبار، فإني أخاف أن يكون من قناة مرحاض إلى جانبه، قال فقلت له: أرأيت إن لم يكون من قناة مرحاض إلى جانبه، قال فقلت له: أرأيت إن لم يكن نتنه من ذلك؟ فقال لو علم أن نتنه ليس من ذلك ما رأيت بأساً أن يتوضأ به.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح أنه إذا علم أن نتنه ليس من ذلك ينبغي أن يحمل على الطهارة كالغدير الذي تجده في الفلاة قد أنتن ولا يدرى من أي شيء أنتن. وقوله هذا يبين مسألة البئر المتقدمة في هذا الرسم قبل هذا .
مسألة
وسئل عن الرجل يقرأ القرآن في اللوح وهو غير متوضئ، قال لا أرى أن يمسه.
قال محمد بن رشد: معناه إذا كان يقرأ فيه على غير وجه التعلم، لأنه قد خففه في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم إذا كان على وجه التعليم، وقد مضى هناك وجه تخفيفه، وحمل كلامه على أن بعضه مفسر لبعض إذا أمكن ذلك أولى من حمله على الخلاف، وبالله التوفيق.
كمل سماع أشهب
والحمد لله رب العالمين والصلاة الكاملة على مولانا محمد وآله
* * *

(1/140)


كتاب الوضوء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم،
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
من سماع عيسى من كتاب نقدها نقدها
قال عيسى: وسئل ابن القاسم عمن دخل الحمام لغسل جنابة فخرج إلى الطهور فتطهر وهو ناس لجنابته، أيجزئه؟ فقال: أرأيت من أمر أهله أن يضعوا له ماء يغتسل من الجنابة فوضع فجاء فاغتسل ونسي الجنابة وذهب إلى البحر ليغسل الجنابة فاغتسل ونسي الجنابة، أليس ذلك يجزيه في ذلك كله؟
قال محمد بن رشد: قد روي عن سحنون أن ذلك يجزيه في النهر ولا يجزيه في الحمام. ووجه ما ذهب إليه أن النية بعدت عنه لاشتغاله بالتحمم قبل الغسل، وكذلك لو ذهب إلى النهر لغسل ثوبه قبل الغسل، فغسل ثوبه ثم اغتسل، لم يجزه الغسل على مذهبه، ولو لم يتحمم في الحمام لأجزأه الغسل كالنهر سواء. ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم أنه لما خرج إلى الحمام بنية أن يتحمم ثم يغتسل لم ترتفض عنده النية ولا ضره بعدها لبقاء حكمها على ما نواه وخرج عليه، ولو خرج إلى الحمام قاصداً للغسل من الجنابة ثم بدا له فتحمم ولم يجدد النية عند الغسل لما أجزأه

(1/141)


عندهما جميعاً، فالأمر في هذا على هذه الثلاثة الأوجه: إذا خرج إلى الحمام للغسل فاغتسل ولم يتحمم أجزأه الغسل باتفاق، وإذا خرج إليه للغسل ثم بدا له فتحمم ثم اغتسل لم يجزه الغسل باتفاق إلا أن يجدد النية، وإذا خرج ليتحمم ثم يغتسل ففعل أجزأه الغسل عند ابن القاسم ولم يجزئه عند سحنون إلا أن يجدد النية عند الغسل. والأصل في جواز تقدم النية قبل أول الغسل بيسير إجماعهم على جواز تبييت الصيام من الليل قبل أو النهار، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له)) وكذلك يجب في الصلاة إذا تقدمت النية قبل الإحرام بيسير أن يجزئ، وقد فرق في هذا بين الغسل والصلاة بتفاريق لا تلزم، من ذلك مراعاة الخلاف في إيجاب النية في الوضوء والغسل، ومن ذلك أن الصلاة يبدأ فيها بتكبيرة الإحرام وهي فرض، والغسل والوضوء يبدأ فيهما بما ليس بفرض من غسل اليد قبل إدخالها في الإناء وغير ذلك من السنن.
مسألة
قال فقلت لمالك كيف الوضوء أيدخل يديه في الإناء فيغسل وجهه؟ أم يدخل يده الواحدة فيفرغها ثم يتوضأ؟ قال: بل يدخل يديه في الإناء. قال ابن القاسم: في غسل اليد قبل أن يدخلها في الإناء فيفرغها ثم يتوضأ أحب إلي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنه أفرغ

(1/142)


على يده فغسل يديه ثلاثاً)). قال ابن القاسم وإن أفرغ على يده فغسلها وحدها ثم أدخلها في الإناء أجزأ عنه وأحب إلي الحديث.
قال محمد بن رشد: اختيار ابن القاسم ها هنا في غسل اليد قبل أن يدخلها في الإناء أن يفرغ على يده الواحدة فيغسلهما جميعاً ابتاعاً لظاهر الحديث، هو مثل ما تقدم لمالك في آخر سماع أشهب ورأى واسعاً أن يفرغ على يده فيغسلها وحدها ثم يدخلها في الإناء فيفرغ على الأخرى فيغسلها أيضاً وحدها، وإن كان اتباع ظاهر الحديث أحب إليه. وأما في بقية وضوئه فاختار مالك في هذه الرواية أن يدخل يديه جميعاً في الإناء فيغرف بهما لوجهه ثم لسائر أعضاء وضوئه. وظاهر قول ابن القاسم أن يفعل في سائر وضوئه كما يفعل في غسل يده ابتداء، يدخل يده الواحدة في الإناء فيفرغ بها على الثانية فيغسل وجهه ثم يفعل كذلك لسائر أعضاء وضوئه، لقوله فيفرغها ثم يتوضأ، وهو أحسن من قول مالك، لأن ما يغرف من الماء بيده الواحدة يكفيه لغسل وجهه، وهو أمكن له في الوضوء من أن يغرف بيديه جميعاً في الغسل لقوله في الحديث: ((ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه)) والله أعلم.
مسألة
وسئل عمن كان عليه زوجا خفاف، قال يمسح على

(1/143)


الأعلى، قيل له فإن نزع الزوج الأعلى؟ قال فليمسح على الزوج الأسفل إذا نزع الأعلى. قيل أرأيت إن نزع فرداً من الزوج الأعلى؟ قال يمسح على الخف الأسفل من تلك الرجل وحدها ويصلي ويجزئه. وهو قول مالك. قال ابن القاسم فإن هو لبس الخف التي نزع ثم أحدث بعد ذلك مسح عليها.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن كان عليه زوجا خفاف أنه يمسح على الأعلى منها هو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك في المدونة وغيرها. وقد حكى بعض البغداديين أن قول مالك أختلف في إجازة المسح على خف فوق خف، ووجه المنع من ذلك أن السنة إنما جاءت في المسح على الخفين على القدمين، وهو رخصة فلا يقاس عليها. ووجه الاجازة قياس الخفين على القدمين لاستوائهما في المعنى. وأما قوله إن نزع فرداً من الزوج الأعلى إنه يمسح على الخف الأسفل من تلك الرجل وحدها ويصلي، قد تقدم القول عليه والاختلاف فيه في آخر سماع أشهب. وأما قوله فإن هو لبس الخف التي نزع ثم أحدث بعد ذلك مسح عليهما، فإنه خلاف قول سحنون في المسألة التي بعدها مثل قول مطرف فيها، لأنه لما نزع الخف التي مسح عليها من الرجل الواحة انتقضت طهارته، فلما مسح على الأسفل صار قد طهر بعد أن مسح على الخف من الرجل الأخرى.
مسألة
قيل لسحنون ما تقول في رجل توضأ فلما فرغ من وضوئه ولم يبق عليه إلا غسل رجليه غسل إحداهما ثم لبس خفه، ثم غسل الأخرى ثم لبس خفه الأخرى، فأحدث بعد ذلك، أيكون له أن يمسح؟ قال لا يجوز له أن يمسح، قلت لم؟ قال من قبل أنه أدخل

(1/144)


إحدى رجليه في الخف قبل استكمال الوضوء. قلت أرأيت إن هو خلعهما قبل أن يحدث ثم لبسهما بعد ذلك فأحدث أيجوز له أن يمسح؟ قال نعم إذا كان خلعهما ثم لبسهما قبل أن يحدث جاز له أن يمسح. قلت له وكذلك لو غسل رجليه ثم لبس خفيه وقد نسي مسح رأسه ثم ذكر وقد جف وضوؤه فمسح برأسه ثم أحدث بعد ذلك لم يكن له أن يمسح، قال نعم هي نظيرة ما سألت عنه، إلا أن يخلع خفيه بعد أن مسح برأسه ثم لبسهما قبل أن يحدث فإنه يمسح. وسئل مطرف بن عبد الله عن الرجل يتوضأ فإذا فرغ من جميع وضوئه ولم يبق عليه إلا غسل رجليه غسل رجله الأخرى بعد ذلك ولبس خفه ثم انتقض وضوؤه أيجوز له المسح على الخفين؟ قال نعم جائز له ذلك ولا بأس عليه بالمسح على خفيه لأنه لبس خفيه ووضوؤه تام، لا يضره أن يغسل الرجل الواحدة فيدخلها في الخف قبل أن يغسل الأخرى، وكل ذلك واحد.
قال محمد بن رشد: الاختلاف في هذه المسألة جار على اختلافهم في المتوضئ للصلاة هل يطهر كل عضو من أعضائه ويرتفع الحدث عنه كلما غسله بتمام غسله فإذا أكمل وضوءه ارتفع الحدث عنه جملة وطهر للصلاة؟ أم لا يطهر شيء من أعضائه إلا بتمام الوضوء؟ فمن رأى أنه كلما غسل عضواً من أعضاء الوضوء طهر ذلك العضو أجاز له أن يمسح على خفيه إذا لبسهما بعد أن غسل رجليه للوضوء وإن كان ذلك قبل أن يستكمل وضوءه، لأنه قد لبسهما عنده ورجلاه طاهرتان بطهر الوضوء على ما جاء في

(1/145)


الحديث، وسواء أكمل وضوءه، بعد ذلك أو لم يكمله، وهو قول ابن القاسم عن مالك في سماع موسى عنه في هذا الكتاب. ومن رأى أنه لا يطهر عضو من أعضاء المتوضئ إلا بتمام وضوئه لم يجز له أن يمسح على خفيه إذا لبسهما قبل استكمال طهارته، لأنه ما لبسهما عنده إلا ورجلاه غير طاهرتين بطهر الوضوء، وسواء أكمل وضوءه بعد ذلك أو لم يكمله، وهو قول سحنون. وجواز المسح أظهر على القول بأن كل عضو من أعضاء المتوضئ يطهر بتمام غسله، بدليل قول النبي عليه السلام في الحديث: ((إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه)) الحديث. وظاهر قول مطرف أنه لو لم يكلم وضوءه لما جاز له أن يمسح. ووجه قوله أن ما غسل المتوضئ من أعضائه يحكم له أنه قد طهر بتمام غسله إن أكمل وضوءه ولم ينتقض قبل تمامه، فهي ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يمسح على خفيه إلا أن يكون قد لبسهما بعد إكمال وضوئه، والثاني أنه يمسح عليهما إن لبسهما بعد أن غسل رجليه للوضوء وإن لم يتم وضوءه بعد ذلك، والثالث أنه لا يمسح عليهما إلا أن يتم وضوءه ذلك. وقال ابن لبابة: إن الاختلاف في هذه المسألة إنما هو من أجل أن طهارة القدمين بطهر الوضوء ليس بلازم، إذ لم يثبت عن النبي، عليه السلام، ولا عن عمر بن الخطاب في القدمين أن تكونا طاهرتين بطهر الوضوء، وإنما الذي ثبت عنهما طاهرتان لا أكثر.
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الرجل يسيل عليه ماء العسكر فيسأل أهله فيقولون إنه طاهر، قال يصدقهم إلا أن يكونوا نصارى فلا أرى ذلك.

(1/146)


قال محمد بن رشد: إنما قال إنه يصدقهم وإن لم يعرف عدالتهم لأنه محمول على الطهارة على ما مضى في رسم حلف من سماع ابن القاسم من قوله: أراه في سعة ما لم يستيقن بنجس، فسؤالهم مستحب وليس بواجب. ولو قالوا له لما سألهم هو نجس لوجب عليه أن يصدقهم، لأنهم مقرون على أنفسهم بما يلزمهم في ذلك من الحكم، فالظن يغلب على صدقهم. ولو كان محمولاً على النجاسة لما وجب أن يصدقهم في أنه طاهر إلا أن يعرف عدالتهم، مثل أن يكون العسكر للنصارى فيسأل من كان قاعداً معهم من المسلمين، إذ لا يقبل الخبز حتى يعلم عدالة نقلته، كما لا تقبل شهادة الشهود حتى تعرف عدالتهم، لقوله تعالى: ((ممن ترضون من الشهداء))، وقول عمر بن الخطاب: والذي نفس بيده لا يوسر رجل في الإسلام بغير العدول. وأما إن عرف أنهم غير عدول فلا إشكال في أنه لا يقبل قولهم، لقوله عز وجل: ((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا)) الآية وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله عبد استأذن سيده في تدبير جاريته
وقال إذا كان الرجل في حضر ومعه بئر إلا أن رشاءها بعيد، وهو إن عالجها طلعت عليه الشمس، قال يعالجها وإن طلعت عليه الشمس وقد قال يتيمم ويصلي إذا خاف طلوع الشمس.
قال محمد بن رشد: قوله وقد قال يتيمم ويصلي إذا خاف طلوع الشمس، هو على القول بأن الصبح ليس له وقت ضروري؛ وأما على القول بأن له وقت ضرورة وهو الإسفار، فإنما يعالجها ما لم يخف أن يسفر، لأن الذي

(1/147)


لا يجد الماء ينتقل إلى التيمم إذا خشي أن يفوته وقت الاختيار. والاختلاف في هذه المسألة إنما هو على اختلافهم في الحاضر العادم للماء هل هو من أهل التيمم أم لا؟ فقوله يعالجهما وإن طلعت الشمس على القول بأنه ليس من أهل التيمم، وقوله يتيمم ويصلي إذا خاف طلوع الشمس على القول بأنه من أهل التيمم. وفي المدونة لمالك قول ثالث أنه يعيد بعد الوقت إذا قدر على الماء، ويتخرج في المسألة قول رابع وهو أن تسقط عنه الصلاة إذا طلعت الشمس عليه قبل أن يصل إلى الماء. وقد اختلف في الذي يكون معه الماء إلا أنه إن توضأ به فاته الوقت وإن تيمم أدرك الوقت، فقيل إنه يتوضأ به على كل حال وإن فاته الوقت، لأنه واجد للماء فليس من أهل التيمم، وقيل إن له أن يتيمم إذا خاف ذهاب الوقت، والأمر محتمل، فانظر ذلك وبالله التوفيق.
ومن كتاب العرية
وسئل ابن القاسم عن المستحاضة إذا جاءها أيام الدم التي كانت تحيض فيهن فرأت دماً كثيراً تنكره، فأقامت قدر الأيام التي كانت تحيض ثم رجعت إلى الدم الذي كانت تصلي به، أو تكون رأت ذلك الدم يوماً أو يومين ثم رجعت إلى الدم الذي كانت تعرفه، هل ترى أن تستظهر بثلاثة أيام أم لا؟ فقال ابن القاسم إذا رأت دماً تنكره لا تشك أنه دم حيضة فإنها تترك الصلاة، فإذا طال بها الدم الذي تستنكر استظهرت بثلاثة أيام، وإن كان عاودها دم الاستحاضة بعد أيام حيضتها صلت بغير استظهار.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنها تستظهر في الدمين جميعاً، وهو

(1/148)


قول ابن الماجشون وأصبغ، وقيل إنها لا تستظهر في الدمين جميعاً قاله في كتاب ابن المواز. فوجه قوله في الرواية إنها لا تستظهر إن عاودها دم الاستحاضة هو أنها كانت تصلي به قبل أن ترى الدم الذي استنكرته وكانت به في حكم الطاهر وجب إذا رجعت إليه أن تكون فيه أيضاً في حكم الطاهر فلا تستظهر. ووجه قول ابن الماجشون وأصبغ إنها تستظهر وإن عاودها دم الاستحاضة أن هذا دم اتصل بدم الحيض فوجب أن تستظهر منه كما لو لم تتقدم لها استحاضة. وأما ما في كتاب ابن المواز من أنها لا تستظهر وإن تمادى بها الدم الذي استنكرت فلا وجه له من النظر إلا الاحتياط للصلاة مراعاة لقول من لا يرى الاستظهار أصلاً ولقول مالك أيضاً في كتاب ابن المواز إن المستحاضة عدتها سنة وإن كانت تميز ما بين الدمين، لأن الاستحاضة ريبة. فإذا كانت الرواية مبنية على هذا من الاحتياط فيجب إذا تركت الاستظهار فصلت وصامت أن تقضي الصيام، وكذلك المعتدة على هذا القياس. وقد قيل إنها تتمادى في الدمين جميعاً إلى خمسة عشر يوماً، وهو قول مطرف.
ومن كتاب أوله
يوصى لمكاتبه بوضع نجم من نجومه
قلت: أرأيت إن لم تر الدم في كل يوم إلا في وقت صلاة واحدة ثم انقطع ذلك عنها في غيرها من الصلوات. أتعد ذلك اليوم يوماً تاماً؟ وكيف إن رأت الدم صلاة الظهر فتركت الصلاة ثم رأت الطهر قبل العصر أتعيد الصلاة؟ قال ابن القاسم إن رأته وإن كان ساعة فإنها تعد ذلك يوماً، وأما الظهر فإنها تعيدها إذا رأت الطهر نهاراً.

(1/149)


قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه أن الحيضة إذا انقطعت ولم يكن بين الدمين من الأيام ما يكون طهراً فاصلاً فإنها تلفق أيام الدم وتعد اليوم الذي رأت فيه الدم من أيام الدم وإن لم تره إلا ساعة أو لمعة، وإنما اختلف هل تلفق أيام الطهر، فالمشهور أنها تلغيها ولا تلفقها، وقد قيل إنها تلفقها إن كانت مثل أيام الحيض أو أكثر منها، فتكون في أيام الدم حائضاً وفي أيام الطهر طاهراً أبداً، وهو قول محمد بن مسلمة. وإن انقطع عنها وقد بقي من النهار قد خمس ركعات قبل غروب الشمس أو أكثر صلت الظهر والعصر، وإن [كان لم يبق من النهار إلا أربع ركعات فأقل صلت العصر وسقطت عنها صلاة الظهر. واختلف إذا] انقطع عنها لمقدار أربع ركعات من الليل قبل طلوع الفجر، فقيل إنه يجب عليها صلاة المغرب والعشاء، وهو مذهب ابن القاسم، وقيل إنه لا يجب عليها إلا صلاة العشاء الآخرة، وهو مذهب ابن الماجشون. وأما قوله فإنها تعيدها فإنه تجاوز في اللفظ لأن حقيقة الإعادة إنما هو لما قد فعل وهي لم تصلها بعد، وقد جاء مثل هذا في القرآن، قال الله عز وجل: ((كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها)) وقال الشاعر، وهو النابغة الجعدي:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
مسألة
قال ابن القاسم: سألت مالكاً عن المرأة ترى الدم عند وضوئها، فقال مالك تشد وتصلي وليس عليها غسل ولا تترك الصلاة كما تصنع المستحاضة في أول ما يصيبها.

(1/150)


قال محمد بن رشد: يريد ولا نترك الصلاة في أول ما يصيبها كما لا تتركها المستحاضة. وقوله وليس عليها غسل يبين قول مالك في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم، ويرد تأويل ابن أبي زيد عليه، وقد تكلمنا هناك على وجه قول مالك بما أغنى عن رده. والمعنى في هذه المسألة أنه حكم لها بحكم المستحاضة لما كان الدم يتكرر عليها عند كل وضوء، لأن معنى قوله ترى الدم عند وضوئها أي تراه عند كل وضوء فإذا قامت ذهب ذلك عنها على ما قاله في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم. ولا إشكال في أن الدم إذا تمادى بها على هذه الصفة يكون حكمها حكم المستحاضة وحكم المستنكحة أيضاً لتكرر الدم عليها في أوقات معلومة، وإنما الذي يشكل من المسألة قوله فيها ولا غسل عليها في أول ما يصيبها، لأن ما تراه المرأة من الدم ابتداء هو محمول على أنه حيض حتى يعلم أنه استحاضة، فقوله إنه لا غسل عليها في أول ما يصيبها معناه إذا كان أول ما يصيبها ذلك في مدة الاستحاضة، مثل أن تكون قد رأت الدم خمسة عشر يوماً ثم جلعت تراه عند كل وضوء، فوجب ألا يجب عليها غسل عند أول ما تراه لأنه استحاضة، إذ لا يمكن إضافته إلى الدم الأول إذ قد تمادى بها خمسة عشر يوماً ولا أن تجعله حيضة ثانية إذ لا فاصل بينهما من الأيام. وكذلك كل ما تكرر على هذه الصفة إلا أن ترى دماً تنكره وتميز أنه دم حيضة على ما قال في رسم الشركين من سماع ابن القاسم. ومعنى ذلك إذا رأت هذا الدم الذي تنكره بعد أن مضى من الأيام ما يكون طهراً فاصلاً من بعد انقضاء الخمسة عشر يوماً، وهو الوقت الذي حكم فيه باستحاضتها، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده
وسئل [ابن القاسم] عن تفسير يتيمم. بجدار، فقال:

(1/151)


تفسيره من ضرورة، بمنزلة المريض لا يكون عنده أحد يوضئه ولا ييممه، فيمد يده إلى الجدار بجنبه إذا كان جدار أسود، يريد أن يكون الجدار من طوب نيئ.
قال محمد بن رشد: وجه هذا السؤال أنه سأله عن تفسير ما روي ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه رجل في سكة من السكك وقد خرج من بول أو غائط فلم يرد عليه حتى أقبل على الجدار فتيمم))، فقال تفسيره من ضرورة، أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك إلا من ضرورة، إذ لم يصل إلى الصعيد الطيب لكونه في السكك والطرق التي لا تنفك عن النجاسات وخشي أن يفوته الرد الذي قد أوجبه الله تعالى بقوله: ((وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها)) إن أخره إلى أن يجد الماء فيتوضأ، إذ لا يكون رداً إلا بالقرب، وذلك أن ذكر الله تعالى على غير طهارة كان في أول الإسلام ممنوعاً ثم نسخ، فأراد أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم الجدار من ضرورة، وهي ما ذكرنا، كما يتيممه المريض من ضرورة إذا لم يكن عنده أحد يوضئه أو ييممه. وقوله إذا كان الجدار أسود، يريد أن لا يكون قد كسي بجص أو جير، فإن كان كذلك لم يجز التيمم عليه، قاله في كتاب ابن المواز، وهو صحيح. قوله من طوب نيئ صحيح لأنه إن كان آجراً مطبوخاً لم يجز التيمم عليه، وقد قال ابن حبيب إن المريض يتيمم الجدار آجراً كان أو صخراً أو حجارة أو حصباً إذا لم يجد من يناوله تراباً ولا من ينقله إلى موضع الصعيد، وهو بعيد إلا أن يريد آجراً غير مطبوخ، والله أعلم وبه التوفيق.

(1/152)


مسألة
وسئل عن مريض دنف لم يجد لذة النساء ولا انبساطاً أراد أن يجرب نفسه فوضع يده على ذراع امرأته ينظر هل يحرك ذلك منه شيئاً ولم يجد له لذة، أترى عليه وضوءاً؟ قال نعم، قد وجدها في قلبه حين وضعها لذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا طاهر ما في المدونة أن اللمس مع القصد إلى اللذة يوجب الوضوء وإن لم يلتذ. ووجه ذلك اتباع ظاهر القرآن في قوله ((أو لامستم النساء)) لم يشرط وجود لذة. وقوله قد وجدها في قلبه حين وضعها لذلك لا معنى له، لن اللذة إذا لم تكن كائنة عن اللمس وموجودة به فلا اعتبار بها إلا على ما ذهب إليه ابن بكير من أن وجود اللذة مع التذكار دون لمس يوجب الوضوء. ويحتمل أن يكون أراد بقوله قد وجدها بقلبه أي قد أرادها وقصدها حين وضعها فتستقيم الرواية على هذا التأويل. وأما إن وجد اللذة بلمسه فلا اختلاف في المذهب أن الوضوء عليه واجب سواء قصدها أو لم يقصدها. وأما إن لم يجدها بلمسه ولا قصدها به فلا وضوء عليه باتفاق وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله سلف ديناراً في ثوب إلى أجل
قال ابن القاسم من قول مالك في المتيمم يصيب رجله بول إنه يمسحه بالتراب، قال ابن القاسم ويعيد الصلاة في الوقت، مثل الرجل يصلي في الثوب الدنس ولا يجد غيره أنه يعيد في الوقت إن وجد الماء، ومثل المسافر يكون متوضئاً ثم يصيب رجله رجيع

(1/153)


أو بول ولا يجد ماء يغسله به أنه يمسحه بالتراب ثم يصلي، يريد أنه يعيد في الوقت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن مسح قدمه بالتراب لا يرفع حكم النجاسة عنه وأن أزال عينها عند مالك رحمه الله وجميع أصحابه، خلافاً لأبي حنيفة [وغيره] في قوله إن كل ما أزال العين رفع الحكم. والوقت في هذا للظهر والعصر إلى الغروب، وللمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر، وللصبح إلى طلوع الشمس، قاله ابن القاسم عن مالك في كتاب ابن المواز، وله فيه في المصلي بثوب نجس ناسياً أن الوقت في ذلك للظهر والعصر الاصفرار، وللصبح إلى الإسفار فكأنه ذهب إلى التفرقة بين المسألتين. ويحتمل أن يكون اختلافاً من القول، فتأتي في المسألة ثلاثة أقوال على ما ذكرنا في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، ومعنى هذا في بول بني آدم الذي يتفق على نجاسته وتنفك منه الطرق ولو أصاب رجله في مشيه بول الدواب لم يجب عليه إعادة إذا مسحه وصلى به على أحد قولي مالك في المدونة وغيرها. ولو أصاب رجله بول بني آدم وهو غير متوضئ وليس معه من الماء إلا قدر ما يتوضأ به لغسله وتيمم على ما حكاه ابن حبيب عن جماعة من أصحاب مالك في المسافر يتوضأ ويمسح على خفيه فتصيبهما نجاسة ولا ماء معه أنه يخلعهما ويتيمم، قال لأنه قد أرخص في الصلاة بالتيمم ولو يرخص في الصلاة بالنجاسة، وفي ذلك نظر، فتدبره وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق
قال: وقال مالك لا بأس أن يسقى النحل العسل الذي وقعت فيه ميتة، قال ابن القاسم: ولا بأس أن يسقى البقر الإناث والغنم

(1/154)


الماء الذي وقعت فيه الميتة. قيل لسحنون: فهل تكون أبوال الأنعام إذا شربت من ماء غير طاهر طاهرة؟ فقال: لا وهي نجس. وقال ابن نافع لا يسقى بالماء النجس كل ما يؤكل لحمه، ولا يسقى به البقل إلا ن يغلى بعد ذلك بماء ليس بنجس.
قال محمد بن رشد: قول مالك لا بأس أن يسقى النحل العسل الذي وقعت فيه ميتة، هو مثل ما في المدونة، يريد ويكون العسل طاهراً، وكذلك لبن الماشية التي تسقى الماء النجس طاهر عند ابن القاسم بدليل تخصيصه الإناث في هذه الرواية بخلاف أبوالهها، وسحنون يقول إن ألبانها نجسة كأبوالها، وأشهب يرى ألبانها وأبوالها طاهرة. وقول ابن القاسم في تفرقته بين البول واللبن هو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب. وأما قول ان نافع لا يسقى بالماء النجس كل ما يؤكل لحمه، فيحتمل أن يكون كره ذلك من أجل الاختلاف في نجاسة ألبانها، فقد كره ذلك أيضاً مالك في رواية ابن وهب عنه لهذه العلة والله أعلم، إذ لا بأس بأكل لحومها وإن شربت ماء نجساً، فقد قال ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب الضحايا في الجدي يرضع الخنزيرة أ؛ب إلي أن لا يذبح حتى يذهب ما في بطنه، ولو ذبح مكانه لم أر به بأساً. ويحتمل أن يكون ابن نافع كره ذلك مخافة أن يذبحه من لا يعلم قبل أن يذهب ما في جوفه من ذلك الماء النجس على ما استحب ابن القاسم من أن لا يذبح الجدي إذا وضع الخنزيرة حتى يذهب ما في جوفه من أجل نجاسته، وما يلزمه من غسله والتوقي منه. وأما قول ابن نافع إن البقل لا يسقى بالماء النجس إلا أن يغلى بعد ذلك بماء ليس بنجس فلا وجه له، إذ لو نجس بسقيه بالماء النجس لكانت ذاته نجسة ولما طهر بتغليته بعد ذلك بماء طاهر، وبالله التوفيق.

(1/155)


مسألة
قال ابن القاسم: من جس امرأته للذة ثم نسي فصلى ولم يتوضأ إنه يعيد في الوقت وبعد الوقت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن الملامسة عند مالك وجميع أصحابه في قول الله تعالى ((أو لامستم النساء)) ما دون الجماع، فإذا جس الرجل امرأته فالتذ فقد انتقض وضوؤه عند مالك وجميع أصحابه، وإن لم يلتذ بذلك فعلى قولين، وقد مضى ذلك في رسم أوصى، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وسئل عن الرجل يستنجي بحجر واحد ثم يتوضأ فينسى أن يستنجي بالماء فيصلي ولم يذكر، فقال إن كان أنقى فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم سن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته والله التوفيق.
مسألة
وسألت ابن القاسم عن الرجل يتوضأ بعد وضوئه ثم يخرج من ريح فينتقض وضوؤه هل ترى عليه غسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء؟ فقال أحب إلي أن يغسل يده قبل أن يدخلها في الإناء.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في غسل اليد قبل إدخالها في الوضوء في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب. ولما سأله ها هنا عن غسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء فقال أحب إلي أن يغسل يده قبل أن

(1/156)


يدخلها في الإناء دل على أن الاختيار عنده في الوضوء أن يدخل يده الواحدة في الإناء فيفرغ بها على الأخرى ويتوضأ، ولا يدخل يديه جميعاً في الإناء فيغرف بهما لوجهه ولسائر أعضاء وضوئه مثل ظاهر قوله في أول رسم نقدها نقدها من هذا السماع خلاف اختيار مالك، وقد بينا ذلك هناك، وبالله التوفيق.
مسألة
قال مالك: إذا نسي الرجل شيئاً من وضوئه فذكر لذلك بحضرة الماء ولم يجف وضوؤه غسل ذلك الشيء بعينه وأعاد ما بعده، وإذا ذلك وقد تطاول ذلك أو جف وضوؤه غسل ذلك بعينه واستأنف ما صلى إن كان ما نسي من الوضوء من وضوء الكتاب الذي ذكر الله في كتابه.
قال محمد بن رشد: قوله إذا ذكر ذلك بحضرة الوضوء غسل ذلك الشيء بعينه وأعاد ما بعده، ولم يفرق ما بين أن يكون نسي من مسنون الوضوء أو مفروضه، يدل على أن ترتيب المفروض مع المسنون عنده سنة كترتيب المفروض مع المفروض، خلاف قول مالك في موطاه، لأنه قال فيه فيمن غسل وجهه قبل أن يمضمض إنه يمضمض ولا يعيد غسل وجهه، فيجعل ترتيب المفروض مع المسنون مستحباً. وقوله في آخر المسألة إن كان ما نسي من الوضوء من وضوء الكتاب الذي ذكره الله في كتابه، إنما يعود على قوله واستأنف ما صلى، لأنه إن كان الذي نسي من مسنون الوضوء فذكر بعد أن صلى لم يكن عليه إعادة ما صلى، وإنما يفعل ما نسي لما يستقبل. وما في الموطأ أظهر، فقد قال بعض العلماء: إنما قدمت المضمضة والاستنشاق والاستنثار في أول الوضوء على غسل الوجه وسائره لما يتضمن ذلك من اختبار طهارة الماء، لأنه يخبر طعمه بالمضمضة وريحه بالاستنشاق. فإذا كان تقديم المضمضة على غسل الوجه لهذه العلة ولم يكن ذلك عبادة

(1/157)


لغير علة وجب إذا غسل وجهه قبل أن يمضمض ألا يكون عليه أن يعيد غسل وجهه بعد المضمضة لارتفاع العلة كما قال مالك في موطأه، والله أعلم وبه التوفيق.
ومن كتاب العشور
قال وقال مالك في النفساء التي تمرض فلا تستطيع الغسل إنها تتيمم، والتيمم لها جائز، قال ولا بأس أن يرفع إليها التراب في طبق وهي على سرير. قال: وقال ابن القاسم في الرجل يكون على محمله بموضع ليس فيه ماء، وهو يحتاج إلى التيمم ويريد أن ينتقل على محمله، فقال يسأل من يناوله تراباً فيتيمم على محمله، كذلك بلغني عن مالك. وقال عيس وكذلك قال لي ابن وهب.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما ذهب إليه ابن بكير من أنه لا يجزئ شيء من ذلك، لأن العبارة إنما هي في القصد إلى الصعيد وهو وجه الأرض. وقول مالك هو الظاهر، والدليل على صحته ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((جعلت لي الأرض مسجداً وتربتها لي طهوراً)) ولم يخص وجه الأرض من غيره. وما روي أيضاً من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((تيمم جداراً))، وذلك من فعله خلاف ما ذهب إليه ابن بكير، وهذا من قول مالك على أصل مذهبه في أن الجنب يتيمم خلاف مذهب عمر بن الخطاب وما كان يقول ابن مسعود ثم رجع عنه، وقوله أيضاً على أحد قوله في أن الحاضر من أهل التيمم، وبالله التوفيق.

(1/158)


ومن كتاب النسمة
وسئل ابن وهب عن الجب من ماء السماء تقع فيه الدابة فتموت فيه وقد انتفخت أو انشقت والماء كثير لم يتغير منه شيء إلا ما كان منه قريباً منها، فلما أخرجت وحرك الماء ذهب الرائحة، هل يتوضأ به ويشرب منه؟ قال إذا أخرجت الميتة من ذلك الماء فلينزع منه حتى يذهب دسم الميتة وودكها والرائحة واللون إن كان له لون، إذا كان الماء كثيراً على ما وصفت طاب ذلك الماء إذا فعل ذلك به. قال ابن القاسم لا خير فيه، ولم أسمع مالكاً أرخص فيه قط، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب هو الصحيح على أصل مذهب مالك الذي رواه المدنيون عنه في أن الماء قل أو كثر لا ينجسه ما حل فيه من النجاسة إلا أن يتغير من ذلك أحد وأصافه على ما جاء عن النبي، عليه السلام في بئر بضاعة، وقد روى ابن وهب وابن أبي أوس عن مالك [في جباب تحفر بالمغرب فتسقط فيها الميتة فيتغير لونه ووزنه ثم يصيب الماء] بعد ذلك أنه لا بأس به. وقد قال ابن القاسم في رسم العتق بعد هذا: إن للجنب أن يغتسل في الماء الدائم دون أن يغسل ما به من الأذى إذا كان الماء يحمل ذلك. وتفرقته بين حلول النجاسة في الماء الدائم أو موت الدابة فيه إذا حمل ذلك الماء ولم يتغير منه استحسان ليس بقياس والله أعلم. وقد مضى في رسم الوضوء والجهاد الوجه الذي به تفترق المسألتان فقف على ذلك، وبالله التوفيق.

(1/159)


ومن كتاب أوله يدبر ماله [في التجارة]
وسألته عمن وضئ وجاوز الختان فلم ينزل فاغتسل ثم خرج الماء الدافق، قال يتوضأ ولا غسل عليه.
قال محمد بن رشد: قد قيل إن عليه الغسل، فلقوله إنه لا غسل عليه وجهان: أحدهما أن هذا الماء قد اغتسل له لأنه لم يظهر الآن إلا وقد كان فصل عن موضعه بالجماع وصار إلى قناة الذكر، لأن الماء لا يخرج هكذا سلساً دون لذة قد حركته قبل من موضعه، والثاني أن هذا ماء خرج على غير العادة إذ لم تقترن به لذة، فأشبه من ضرب بسيف فأمنى أو خرج من دبره دود عليه أذى، فقد قيل إنه لا غسل ولا وضوء فيما خرج من السبيلين من المعتادات إلا أن يخرج على العادة. ولقوله إن عليه الغسل وجه واحد، وهو أن تعتبر اللذة المتقدمة في هذا الماء فتضاف إليه ويصير جنباً بخروجه فيجب عليه الغسل، وليس عليه أن يعيد الصلاة، لأن إنما صار جنباً بخروج الماء، والوطء قد اغتسل له، فهو فيما بين الغسلين طاهر. وقد قيل إنه يعيد الصلاة، وله وجه على بعد وهو ما يخشى من أن يكون فصل الماء من موضعه وصار إلى قناة الذكر بعد أن اغتسل لمجاوزة الختان، فصار بذلك جنباً فصلى، ثم خرج بعد الذي كان فصل قبل، وبالله التوفيق.
مسألة
قلت: أرأيت من تذكر فحرك اللذة منه ثم مكث بعد ذلك حتى طال وصلى، ثم خرج منه الماء الدافق بعد ذلك، أعليه غسل؟ أو هل يعيد الصلاة؟ فقال أحسن ذلك أن يغتسل. قال قلت: أذلك أحب إليك؟ قال ما ذلك بالقوي، ثم رجع فقال بل يغتسل.

(1/160)


قال محمد بن رشد: في هذه المسألة أيضاً قولان: أحدهما أنه لا غسل عليه، والثاني أن عليه الغسل. فإذا قلت إن عليه الغسل فهل يعيد الصلاة أم لا؟ في ذلك أيضاً قولان. فوجه القول أنه لا غسل عليه أنه ماء خرج بغير لذة على غير العادة، ووجه القول أن عليه الغسل وإعادة الصلاة، وهو قول أصبغ، أن الماء لم يظهر الآن إلا وقد كان فصل عن موضعه حين اللذة وصار في قناة الذكر فكان جبناً من حينئذ. ووجه القول إن عليه الغسل ولا إعادة عليه للصلاة، وهو قول ابن المواز، أنه إنما صار جنباً بخروج الماء لأن خرج بلذة وإن كانت قد تقدمت فاعتبرت حين خروج الماء.
مسألة
وسألته عن جدار المرحاض يكون ندياً يلصق به الرجل بثوبه، قال أما إن كان ندياً شبيهاً بالغبار فليرشه ولا شيء عليه، وإن كان بللاً أو شبيهاً به فليغسله، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: إذا كان شبيهاً بالغبار فلا يوقن بتعلقه بثوبه. فلذلك قال إنه يجزيه نضحه، لأن النضح طهر لما شك في نجاسته من الثياب، هذا أمر قد تقرر في المذهب على ما مضى القول عليه في رسم البز من سماع ابن القاسم. وإذا كان بللاً أو شبيهاً به فلا إشكال في وجوب غسله لتعلقه بثوبه والله التوفيق.
ومن كتاب الجواب
وسئل عن الحامل ترى قبل نفاسها باليوم واليومين ماء أبيض ليس بصفرة ولا كدرة فيستمر بها، هل عليها غسل؟ وهل تترك الصلاة؟ قال ابن القاسم لا غسل عليها ولا تترك الصلاة، ولتمضى على حالها كما كانت قبل أن ترى شيئاً، وليس ذلك بشيء وإنما

(1/161)


هو بمنزلة البول يتوضأ منه فقط، وأول الحمل وأوسطه وآخره في ذلك سواء.
قال محمد بن رشد: الأظهر في هذا أنه لا يجب فيه وضوء، وهو ظاهر ما في آخر رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب في كتاب الصلاة، لأنه ليس من المعتادات، وما خرج من السبيلين من غير المعتادات لا وضوء فيه عند مالك وجميع أصحابه حاش محمد بن عبد الحكم فإنه أوجب فيه الوضوء وخرج في ذلك عن المذهب.
ومن كتاب القطعان
قال ابن وهب: إذا خطرت اليد على الذكر من غير تعمد فليس فيه عليه وضوء، قال ومالك يقول فيه الوضوء.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا في رواية ابن وهب عنه بإيجاب الوضوء في مس الذكر على غير تعمد هو ظاهر ما مضى في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب، وخلاف رواية ابن وهب عنه في سماع سحنون بعد هذا أنه لا وضوء عليه إلا أن يمسه عامداً. وقد مضى تحصيل قول مالك في هذه المسألة في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم، فتأمله هناك، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله باع شاة واستثنى جلدها
وسئل عن الذي يستنجي بالماء ويؤخر وضوءه، قال لا بأس بذلكن ولو خرج منه ريح بعد الاستنجاء وقبل أن يتوضأ لم يكن عليه إذا توضأ أن يستنجي مرة أخرى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، ومثله في المدونة، لأن الاستنجاء إنما هو لما يتعلق بالمخرج من الأذى، والريح لا يتعلق منه بالمخرج أذى فلا استنجاء فيه، وبالله التوفيق.

(1/162)


ومن كتاب العتق
قال: وقال مالك في اغتسال الجنب في الماء الراكد وقد غسل الأذى عنه، قال قد نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الراكد وجاء به الحديثـ، ولم يأت في الحديث أنه إذا غسل الأذى عنه جاز له الاغتسال فيه وقد أدرت مالكاً في الاغتسال فيه غير مرة ورددت عليه كل ذلك، يقول لا يغتسل الجنب في الماء الراكد وليحتل . قال ابن القاسم: وأنا لا أرى به بأساً إن كان قد غسل ما به من الأذى أن يغتسل، وإن كان الماء كثيراً يحمل ما وقع فيه فلا أرى به بأساً غسل ما به من الأذى أو لم يغسله.
قال محمد بن رشد: حمل مالك النهي على أنه عبادة لغير علة فلم يجز الاغتسال في الماء الدائم على حال، وحمله ابن القاسم على أنه لعلة انتجاس الماء، فإذا ارتفعت العلة عنده زال الحكم بزوال العلة. وهذا الاختلاف قائم من المدونة، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم البز منه ومضى الكلام عليه أيضاً، والله التوفيق.
ومن كتاب المكاتب
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
قال يحيى: قال ابن القاسم في رجل ترك الاستنشاق والمضمضة عامداً أو ناسياً، فقال أما الناسي فلا شيء عليه، وأما العامد فأحب إلي أن يعيد ما كان صلى في الوقت ولا أرى ذلك واجباً عليه.
قال محمد بن رشد: قوله أما الناسي فلا شيء عليه، يريد أنه

(1/163)


لا شيء عليه في صلاته، ويفعل ذلك لما يستقبل، ولا يعيد الوضوء من أوله، وهذا مالا خلاف فيه، وأما العامد فقال إنه يعيد الصلاة في الوقت استحباباً، وقال ابن حبيب صلاته تامة لا إعادة عليه لها. ويتخرج في المسألة قول ثالث أنه يعيد أبداً بالقياس على من ترك سنة من سنن الصلاة عامداً كالجهر فيما يسر فيه، وقد قيل إنه يستغفر الله ولا شيء عليه، وهو قول أصبغ، وكذلك قال في هذه المسألة إنه يستغفر الله ولا شيء عليه على أصله فيمن أسر فيما يجهر فيه عامداً، وقيل إنه يعيد في الوقت. وعلى قياس هذا يأتي قول ابن القاسم في هذه المسألة، وقيل إنه يعيد أبداً وهو المشهور في المذهب المعلوم من قول ابن القاسم، فليلزم على قياس هذا القول أن يعيد في هذه المسألة أيضاً أبداً، ولم يتكلم في هذه الرواية هل يستأنف الوضوء من أوله أو يمضمض ويستنشق لما يستقبل ولا يعيد الوضوء من أوله، وذلك يجري على اختلافهم في ترتيب المفروض مع المسنون هل هو سنة أو استحباب؟ فمن رآه سنة فيقول إنه يبتدئ في الوضوء من أوله، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وعلى مذهب مالك في الموطأ أنه استحباب يفعل ذلك لما يستقبل ولا يبتدئ الوضوء من أوله، والله أعلم، وبه التوفيق.
مسألة
وسئل يحيى بن يحيى عن لبن الحمارة يصيب ثوب الرجل، فقال يعيد الصلاة في الوقت في بعض الروايات، قال أبو صالح: وبعد الوقت على معنى أنه لا يؤكل لحمها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن الألبان تبع للحوم في الطهارة والنجاسة، فما كان من الحيوان لا يؤكل لحمه سوى بني آدم المخصوصة لحومهم بالطهارة فألبانهم نجسة قياساً على لبن الخنزير، وما كان منها يؤكل لحومها فألبانهم طاهرة قياساً على لبن الأنعام. وأما قول أبي صالح يعيد بعد الوقت، فمعناه إذا صلى به عامداً على القول بأن من صلى بنجاسة

(1/164)


عامداً يعيد أبداً. وقد قال محمد بن بشير عن مالك في لبن الحمارة إنه لا بأس به، فيحتمل أن يريد أنه لا إعادة على من صلى به في ثوبه أو بدنه، أو أنه لا بأس بالتداوي به لمن احتاج إليه مراعاة للاختلاف في أكل الحمر، فقد روي ذلك عن عباس وعائشة. وهذا نحو ما تقدم من قول سحنون في رسم أوصى من سماع عيسى ومن كتاب الصلاة أنه لا إعادة على من صلى ببول الفارة لما روي من أن عائشة سئلت عن أكل الفأرة فتلت قوله تعالى: ((قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة)) الآية فكيف بلبن الحمارة فلا تخرج على هذا التأويل هذه الرواية عن مالك عن القياس الذي ذكرناه من أن الألبان تابعة للحوم، والله التوفيق.
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم
وسئل ابن القاسم عمن يتيمم وعليه خفاه ثم نزعهما، قال لا ينتقض تيممه وهو على حاله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن الرجلين تسقطان في التيمم، فلا يسقط تيمم من تيمم للوضوء وعليه خفاه بنزع خفيه، كما لا ينتقض تيمم من تيمم للجنابة وعليه ثوبه بنزع ثيابه.
مسألة
قال سحنون: واختلف قول ابن القاسم في الرجل يمس ذكره ثم يصلي ولا يتوضأ، فمرة قال لا يعيد الصلاة في الوقت ولا غيره، ومرة قال يعيد الصلاة في الوقت. قال سحنون: وسمعت ابن القاسم

(1/165)


سئل غير مرة عن الذي يمس ذكره ثم يصلي ولا يتوضأ أيجب عليه لذلك إعادة الصلاة؟ فقال ابن القاسم: لا إعادة عليه للصلاة في الوقت ولا غيره، ويعيد الوضوء. قال سحنون وقد قال لنا ابن القاسم أيضاً في ذلك إنه إن صلى ولم يتوضأ أعاد الصلاة في الوقت، ولقد قال لي غير مرة إن إعادة الوضوء عندي ضعيف. قال سحنون وأخبرني ابن وهب عن مالك أنه قال لا يعيد وضوءه إلا أن يمسه عامداً. قيل فإن مسه عامداً على غلالة خفيفة؟ قال لا يعيد وضوءه. قيل له يقول ابن القاسم تأخذ أو بقول ابن وهب؟ قال يقول ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: رواية سحنون هذه عن ابن القاسم ترجع إلى أن مس الذكر لا ينقض الوضوء بحال، لأن الإعادة في الوقت استحباب كراوية أشهب عن مالك في كتاب الصلاة خلاف ظاهر روايته عن في رسم الوضوء والجهاد من هذا الكتاب أنه ينقضه بكل حال، ورواية ابن وهب في الفرق بين أن يمسه عامداً أو غير عامد قول ثالث، وإلى هذا ذهب ابن حبيب فقال: إن مسه عامداً أعاد أبداً، وإن مسه ناسياً أعاد في الوقت. وقد مضى في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم القول في هذه المسألة ووجه حصول الاختلاف فيها، وبالله التوفيق.
مسألة
وقال في رجلين يجدان من الماء في السفر مقدار ما يتوضأ به واحد منهما فيتشاحان عليه، قال يتقاومانه.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح، لأن التقاوم شراء، فإذ كان على الرجل الواجد للثمن أن يبتاع الماء لوضوئه بأكثر من قيمته ما لم يرفع عليه في الثمن كما قال في المدونة وغيرها، وجب على كل واحد منهما أن يقاوم

(1/166)


صاحبه في هذا الماء الذي قد صار بينهما بوجودهما إياه معاً إذا احتاج إليه لوضوئه، فإن أسلمه أحدهما لصاحبه بغير مقاومة أو تركة له في المقاومة قبل أن يبلغ عليه القدر الذي لا يلزمه أن يشتريه به وتيمم وصلى، وجب عليه أن يعيد الصلاة أبداً إذ لم يكن من أهل التيمم لقدرته على اشتراء الماء بما يلزمه شراؤه به. ولو كانا معدمين لكان لهما أن يقتسماه بينهما، أو يبيعانه فيقتسمان ثمنه ويتيممان لصلاتهما، وإن كان متيممين لم ينتقض تيممهما إلا أن يحبا أن يتساهما عليه، فمن صار له بالسهم منهما توضأ به وانتقض تيممه إن كان متيمماً، وكان عليه قيمة حظ صاحبه منه ديناً فيكون ذلك لهما. ولو كان أحدهما موسراً والآخر معدماً لكان للموسر أن يتوضأ به ويؤدي لشريكه قيمة نصيبه منه إلا أن يحتاج إلى حظه منه فيكون أحق به ويقسم بينهما. هذا وجه قول ابن القاسم به مرة في هذه المسألة، وقوله فيها معارض لقول سحنون في آخر نوازله في الرجل يكون معه من الماء قدر ما يتوضأ به واحد فيهبه لرجلين أو ثلاثة وهم متيممون فيسلموه لأحدهم أنه لا ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه وحده، لأن الماء قد وجب لهم بالهبة وصاروا فيه شركاء، كما وجب الماء في هذه المسألة للرجلين بوجوده وصارا فيه شريكين، فوجب أن ينتقض تيمم جميعهم إن لم يتقاوموه. وذهب ابن لبابة إلى أن المقاومة لا تلزم عند ابن القاسم اللذين وجدا الماء إلا أن يتشاحاً، وأنهما إن تركاها وأسلم أحدهما الماء لصاحبه جاز للذي أسلم منهما الماء لصاحبه أن يتيمم، وإن كان متيمماً بعيد لا يصح عندي، والله أعلم وبه التوفيق.
مسألة
وقال في الرجل يتوضأ فيمسح على الجبائر وهي في مواضع الوضوء، ثم يدخل في الصلاة فتسقط الجبائر، قال: يقطع ما هو فيه ويعيد الجبائر ثم يمسح عليها ثم يبتدئ الصلاة. وكذلك لو تيمم

(1/167)


ومسح على الجبائر، فلما صلى ركعة أو ركعتين سقطت الجبائر، قال يعيدها ويمسح عليها ويبتدئ الصلاة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن المسح على الجبيرة ناب عن غسل ذلك الموضع أو المسح عليه في الوضوء أو التيمم، فإذا سقطت في الصلاة انتقضت طهارة ذلك الموضع فلم يصح له التمادي على صلاته، إذ لا تصح الصلاة إلا بطهارة كاملة، ولم يجز له أيضاً أن يرجع إلى صلاته ويبني على ما مضى منها بعد أن يعيد الجبائر ويمسح عليها، كما لا يجوز البناء في الحدث بخلاف الرعاف، وهذا ما لا أعلم فيه في المذهب اختلافاً. وإنما يصح له أن يعيد الجبائر ويمسح عليها إذا فعل ذلك بالقرب، فإن لم يفعل ذلك حتى طال الأمر استأنف الوضوء أو التيمم من أوله، وبالله التوفيق.
مسألة
قلت لسحنون ما حد الوجه عندك الذي إذا قصر منه المتوضئ وجبت عليه الإعادة؟ فقال لي دور الوجه كله، فقلت فاللحى الأسفل من ذلك والذقن؟ قال نعم، فأخبرته بقول من يقول إن الوجه بياض الوجه وليس اللحى الأسفل من الوجه وكذلك هو من المرأة، وحجته أن مالكاً قال في اللحى الأسفل موضحة، فقال لي أخطأ من يقول هذا، وقد قال مالك إن الأنف ليس من الوجه ولا موضحة فيه وإنما هو عظم منفرد، ولو أن متوضئاً ترك غسل أنفه وصلى وجبت عليه الإعادة ولكان ناقصاً من وضوئه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، فاللحى الأسفل والأعلى في وجوب الغسل في الوضوء سواء، وكذلك الذقن، وليس عله أن يغسل ما تحته، وهذا ما لا أعلم فيه اختلافاً.

(1/168)


وإنما اختلف من حد الوجه في البياض الذي بين الأذن والعارض، فقيل إنه من الوجه يغسله المتوضئ، وقيل إنه ليس من الوجه فلا يجب غسله على المتوضئ، وقيل يغسله الأمرد ولا يغسله الملتحي، وهذا أضعف الأقاويل، وقيل إن غسله سنة من سنن الوضوء، وبالله التوفيق.
مسألة
قلت: فقول مالك إن اللحية من الوجه وأرى أن يمر الماء عليها، لو أن رجلاً غسل وجهه ولم يمر الماء على لحيته، أكان عليه شيء؟ فقال لي نعم، ذلك واجب عليه بمنزلة مسح رأسه، ومن قصر عن ذلك كانت عليه الإعادة وإن صلى.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنه ليس عليه أن يغسل من لحيته إلا ما اتصل منها بوجهه، وليس عليه أن يغسل ما طال منها واسترسل، وإنه ليس عليه أيضاً أن يمسح في وضوئه ما طال من شعره وزاد على قدر رأسه، وهو ظاهر ما في سماع موسى بن معاوية عن ابن القاسم عن مالك. ومن حجة من ذهب إلى أن اللحية ليست بوجه وأن شعر الرأس ليس برأس، ألا ترى من طالت لحيته لا يقال طال وجهه، وإنما يقال طالت لحيته، وكذلك شعر الرأس، وإنما أوجب الله تعالى غسل الوجه ومسح الرأس لا سوى ذلك. والقول الأول أظهر وأشهر وهو المعلوم من مذهب مالك وأصحابه في المدونة وغيرها. والدليل على صحته من طريق النظر والقياس أن شعر الرأس واللحية لما نبت في الرأس واللحية وجب أن يحكم له بحكمهما وإن خرج عن قدرهما، كما أن ما نبت من الشجر في الحرم وجب أن يحكم له بحكم الحرم في أن لا يجوز قطعه وإن طال حتى خرج من الحرم إلى الحل، وبالله التوفيق.

(1/169)


مسألة
وسئل سحنون عن الزيت تقع فيه الفارة هل يجوز أن ينتفع به؟ قال: لا بأس أن يستصبح به إذا تحفظ منه، وأن يدهن به مثل الحبل والعجلة. قيل له : فهل يجوز أن يعمل به صابوناً يغسل به ثوبه، ولا يعمله للبيع إلا لغسل ثوبه؟ قال ننعم إذا طهر ثوبه بماء طاهر.
قال محمد بن رشد: إجازة سحنون الانتفاع بالزيت النجس هو قول مالك في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة وفي غيره من المواضع، وقول جميع أصحابه حاشا ابن الماجشون فإنه لا يجيز الانتفاع به في وجه من وجوه المنافع. ودليله أن حكمه حكم الميتة لنجاسته. وقد روي ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يستمتع من الميتة بإهاب ولا عصب)) والأول هو الصحيح، لأن الحديث يعارضه ما هو أصح منه، وهو حديث ابن عباس في الموطأ ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة كان أعطاها مولى لميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال ألا انتفعتم بجلدها فقالوا يا رسول الله إنها ميتة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حرم أكلها)) وفي قوله: ولا يعمله للبيع دليل على أنه لا يجيز عمله للبيع وإن بين عند البيع، وهو المنصوص من قول مالك وأصحابه حاشا ابن وهب وقد وقع من تعليل قول مالك في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة ومن هذا الكتاب في بعض الروايات ومن سماع ِأشهب من كتاب الضحايا ما يدل على

(1/170)


إجازة عمله للبيع إذا بين بذلك عند البيع مثل قول ابن وهب، فتدبر ذلك، وبالله التوفيق.
من نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد
قلت لسحنون: أرأيت الرجل يكون في السفر ولا يجد الماء فيصيبه المطر، هل يجوز له أن ينصب يديه للمطر ويتوضأ به؟ فقال لي نعم، فقلت له وإن كان جنباً هل يجوز له أن يتجرد ويتطهر بالمطر؟ قال نعم، فقلت فإن لم يكن المطر غزيراً فقال لي إذا وقع عليه من المطر ما يبل جلده فعليه أن يتجرد ويتطهر.
قال محمد بن رشد: أما إذا نصب يديه للمطر فحصل فيهما من ماء المطر ما يكون بنقله إلى وجهه وسائر أعضائه المغسولة غاسلاً لها، ومن بلله ما يمسح به رأسه فيكون ماسحاً له، فلا اختلاف في صحة وضوئه، وذهب ابن حبيب إلى أنه لا يجوز له أن يمسح بيديه على رأسه بما أصابه من الرش فقط، وكذلك على مذهبه لا يجزيه أن يغسل ذراعيه ورجليه بما أصابهما من المطر دون أن ينقل إليهما الماء بيديه من المطر، وحكاه عن ابن الماجشون، وهو دليل قول سحنون في هذه الرواية وذلك كله جائز على مذهب ابن القاسم، رواه عيسى عنه فيما حكى الفضل. وذلك أيضاً قائم في المدونة في الذي توضأ وأبقى رجليه فخاض نهراً فغسلهما فيه أن ذلك يجزيه إذا نوى به الوضوء وإن كان لم ينقل إليهما الماء بيده. ومثله في سماع موسى بن معاوية ومحمد بن خالد من هذا الكتاب. وقد أجمعوا أن الجنب إذا انغمس في النهر وتدلك فيه للغسل أن ذلك يجزيه وإن كان لم ينقل الماء بيديه إليه ولا صبه عليه، وذلك يدل على ما اختلفوا فيه من الوضوء. وأما قوله إذا وقع عليه من المطر ما يبل به جلده فعليه أن يتجرد ويتطهر، فمعناه إذا وقع عليه في أول وهلة من المطر ما يبل به جلده فعليه أن يتجرد ويتطهر لأنه إذا مكث للمطر تضاعف عليه البلل وكثر الماء على جسمه فأمكنه به التدلك، والاغتسال

(1/171)


لا يكون إلا بإفاضة الماء. ألا ترى إلى قوله في الحديث: ((ثم اغتسل وأفاض عليه الماء)) وبالله التوفيق.
مسألة
قيل له: أرأيت الرجل تلبسه الثوب أو تنزع خفيه أو تفلي رأسه أو تدهنه فيلتذ بذلك أو تلتذ به المرأة؟ فقال أما الفلي والادهان فأرى أن يتوضأ من التذ منهما واشتهى ذلك، وأما التلبيس ونزع الخف وما أشبه ذلك فلا أرى فيه وضوءاً على واحد منهما وإن التذ بذلك واشتهى، وقد يكلمها فيلتذ بذلك وتلتذ المرأة فلا أرى عليهما في ذلك وضوءاً، وهذا مثل مسألتك في نزع الخفين والتلبيس.
قال محمد بن رشد: قوله في الفلي والادهان إن من التذ منهما بذلك واشتهى وجب عليه الوضوء صحيح، لأن المعنى في إيجاب الوضوء من الملامسة هو وجود اللذة بها، فإذا وجدت اللذة بها فقد وجب الوضوء بوجودها وإن لم يقصد باللمس إليها، وهذا ما لا اختلاف فيه في المذهب. وقوله في نزع الخف والتلبيس إنه لا وضوء فيه وإن وقعت اللذة به نحو رواية علي بن زياد عن مالك في الجسة من فوق ثوب كثيف أنه لا وضوء فيها، وقد مضى الكلام على هذا المعنى في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
مسألة
[قيل لسحنون]: أرأيت إن لم يجد ما يتوضأ به إلا بسؤر

(1/172)


النصراني، أيتوضأ به؟ قال: بل يتيمم، وهو عندي بمنزلة الدجاجة المخلاة على القذر أو الكلب يأكل القذر والنجاسة.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوعباً في أول سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، فلا فائدة في تكراره وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل سحنون عن الوضوء بالنخالة والغسل بها، قال لا يجوز . قيل له فهل يغسل الرجل رأسه بالبيض؟ فقال لا. قيل له فبالملح؟ فقال لا يغسل بشيء مما يؤكل.
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه المسألة لا يجوز، يريد بذلك لا يجوز جوازاً مطلقاً دون كراهية، لا أن ذلك حرام لا يحل، وقد مضى القول على هذه المسألة في آخر رسم البز من سماع ابن القاسم، وتكررت أيضاً في رسم النذور والجنائز ورسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب والحمد لله.
مسألة
وسئل أصبغ عن رجل تيمم فلبس خفيه ثم صلى ثم وجد الماء، قال يمسح على خفيه ولا يخلعهما لأنه أدخل رجليه في خفيه وهما طاهرتان بطهر التيمم، فإن تيمم وصلى ثم لبس خفيه فوجد الماء خلع خفيه وغسل رجليه ولا يجزئه المسح عليهما، لأنه لما صلى انتقض تيممه ولو أنه لم يلبس خفيه لم يجزه أيضاً أن يصلي بذلك التيمم صلاة أخرى، فهذا يدلك على أنه أدخل رجليه

(1/173)


وهما غير طاهرتين، ولا يصلي بتيمم واحد إلا صلاة واحدة. قال سحنون لا يمسح عليهما لبسهما قبل الصلاة أو بعد الصلاة.
قال محمد بن رشد: أما على مذهب من يرى أن التيمم يرفع الحدث، وهو قول سعيد بن المسيب وابن شهاب، فالمسح جائز لبسهما قبل الصلاة أو بعد الصلاة، لأن التيمم عنده بدل من الوضوء؛ وأما على مذهب من يرى أن التيمم لا يستباح به إلا صلاة الفريضة، وهو مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة، فلا يجوز المسح عليهما لبسهما قبل الصلاة أو بعد الصلاة، لأن التيمم عنده استباحة للصلاة خوف ذهاب الوقت، فلا مدخل في ذلك للمسح على الخفين. وأما على قول مالك الذي يرى أن التيمم لا يرفع الحدث إلا أنه يستباح به جميع ما يمنع منه الحدث من الفريضة والنافلة ومس المصحف وسجدة التلاوة، فالأظهر على مذهبه إجازة المسح على الخفين إن لبسهما قبل الصلاة كما قال أصبغ، وهو ظاهر ما في المدونة، خلاف قول سحنون، لأن الصحيح أن التيمم على مذهبه بدل من الوضوء وإن كان لا يستباح به إلا صلاة واحدة، لأن ذلك كان الأصل فيه وفي الوضوء وإن كان لا يستباح به إلا صلاة واحدة، لأن ذلك كان الأصل فيه وفي الوضوء بظاهر قول الله عز وجل: ((يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة)) الآية، فخرج من ذلك الوضوء بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة صلوات بوضوء واحد، وبقي التيمم على الأصل فلم يقس على الوضوء، إذ لا يقوى البدل قوة المبدل منه، وهذا بين لمن تأمله ووقف على معناه، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل سحنون على مسافر بينه وبين الماء ميلان، هل يعدل عن طريقه إلى الماء؟ فقال أهو في خوف؟ فقال السائل لا، ولكنه يشق عليه، قال أما الميلان فأراه كثيراً، وليس عليه أن يعدل عن طريقه. قيل له: فلو خرج عن قريته إلى قرية بعيدة منه إلا أنه ليس

(1/174)


تقصر في مثله الصلاة فحضرته الصلاة، هل عليه أن يعدل عن الطريق الميلين إلى الماء؟ فقال لا، وأرى ذلك والسفر واحداً، هذا مما يشق عليه أن يعدل عن طريقه ميلين.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إن الميلين كثير، فليس عليه أن يعدل عن طريقه ميلين. وقد مضى في رسم أوله الشريكين يكون لهما مال من سماع ابن القاسم في الميل والنصف ميل مع الأمن أن عليه أن يعدل إليه إلى ذلك، وذلك للراكب أو للراجل القادر، يبين ذلك ما وقع في رسم البز من السماع المذكور، والله التوفيق.
مسألة
قال سحنون: قال ابن القاسم لا بأس أن يخرج المؤذن خارجاً من المسجد يقيم الصلاة ليسمع من حوله وقربه من الناس، وقعت هذه المسألة في بعض الروايات.
قال محمد بن رشد: وجه هذا أن الإقامة لما كانت إشعاراً للصلاة جاز أن يتوخى ذلك بما ذكر، والله أعلم.
مسألة
وسئل عن الركوب بالمهاميز، فقال لا بأس بذلك وأراه خفيفاً.
قال محمد بن رشد: وهذا خفيف كما قال، لأن الدواب لا تملك إلا بذلك ولا يتأنى فيها ما أذن الله به من ركوبها وتسخيرها إلا به في أغلب الأحوال.

(1/175)


مسألة
قيل له: فإذا سافر الرجل بمهاميز هل يجوز له أن يمسح على خفيه ولا ينزع المهاميز؟ فقال لا بأس بذلك وأراه خفيفاً.
قال محمد بن رشد: وهذا كما ذكر، لأن المسح شأنه التخفيف، ألا ترى أنه ليس عليه أن يتبع غصون الخفين، وقد يكون ذلك أكثر مما يستره شراك المهاميز. وقد كان بعض العلماء يمسح ظهور الخفين ولا يمسح بطونهما، ففي هذا دليل وبالله التوفيق.
مسألة
قلت: أرأيت لو أن قوماً مسافرين وجدوا ماء فبدرهم إليه رجل فأخذه فتوضأ به ولم يكن في الماء إلا ما يتوضأ به رجل واحد هل ينتقض تيمم هؤلاء الآخرين؟ فقال لي لا، لأنه لم يجب لهم فيه حق، وهو لمن أخذه كالصيد. قيل: فلو أنهم حين وجدوا ذلك الماء قالوا ليس فيه ما يكفينا فخذه يا فلان فأخذه، فقال أرى أن تيمم هؤلاء قد انتقض.
قال محمد بن رشد: قوله إذا بدرهم إليه رجل فأخذه فتوضأ به إن تيممهم لا ينتقض، لأنه لم يجب لهم فيه حق، إنما ذلك إذا بدرهم إليه قبل أن يصلوا إليه، لأنهم لا يستحقونه إلا بالوصول إليه دون غيرهم لا برؤيته على بعد إذا وصل إليه غيرهم قبلهم. وكذلك لو غافصهم فيه أحد بفور وصولهم إليه قبل أن يمكنهم أن يتقاوموه فيما بينهم لوجب ألا ينتقض تيممهم أيضاً إذا غلبوا عليه قبل أن يمكنهم الوضوء به. وأما تراخوا في تقاومه بينهم حتى بدر إليه رجل فأخذه لوجب أن ينتقض تيممهم بمنزلة إذا دفعوه لرجل باختيارهم وتركوا ما يلزمهم من أن يتقاوموه فيما بينهم، أو قالوا لرجل قبل أن

(1/176)


يصلوا إليه : إذهب يا فلان فخذه وتركوا ما يلزمهم من التدافع عليه حتى يحكم به بينهم كالصيد فيتقاوموه. وقول سحنون في هذه المسألة مثل ما مضى في سماع سحنون، وقد تكلمنا على مسألة سماع سحنون قبل هذا مما بين معنى هذه المسألة، ولسحنون في المجموعة في هذه المسألة أنه لا ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه وحده، خلاف ما ها هنا، مثل ما له في آخر النوازل، وبالله التوفيق.
مسألة
قيل: فلو أن رجلاً معه ماء قال لرجلين قد تيمما قد وهبته لأحدكما ولم يسم واحداً، فقال قد وجب لأحدهما وهو مجهول لا يعرف، وليس لهما رد هذه العطية لأنها من البر، فإن أسلمه أحدهما لصاحبه فقد انتقض تيممه. وكذلك لو قاله لثلاثة أو لأربعة هو لأحدكم فأسلموه لواحد منهم انتقض تيممه. قيل له فإن أعطى ذلك لجماعة جيش أو لقوم كثير فأعطوه واحداً؟ فقال أما إذا كثروا فأرى تيممهم تاماً ولا ينتقض. قيل: فإن قال لثلاثة هذا الماء لكم، فقال ليس مثل الأول، لأن هذا وقد وجب لكل واحد نصيبه بلا شك، وليس في نصيبه ما يكفيه لوضوئه، فإذا هو أعطى نصيبه لم ينتقض تيممه.
قال محمد بن رشد: تأويل ابن لبابة على سحنون في هذه المسألة أنه إن قال قد وهبت هذا الماء لأحدكم فسواء كانوا ثلاثة أو اثنين أو عشرة آلاف ينتقض تيممهم كلهم، وإن قال قد وهبت هذا الماء لكم

(1/177)


فلا ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه وحده، كانوا اثنين أو عشرة آلاف. والظاهر من قوله خلاف ذلك أنه إن كان عددهم كثيراً فسواء قال هذا الماء لكم أو قال هو لأحدكم لا ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه الماء وحده، وإن كان عددهم يسيراً كالرجلين والثلاثة ونحو ذلك فقال هذا الماء لأحدكم انتقض تيممهم إن أسلموه لواحد منهم. وإن قال هذا الماء لكم لم ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه وحده. فأما قوله إذا كان عددهم كثيراً فسواء قال هذا الماء لكم أو قال هو لأحدكم لا ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه وحده فصحيح. وأما قوله إذا كان عددهم يسيراً كالرجلين والثلاثة ونحو ذلك فقال هذا الماء لأحدكم إنه ينتقض تيممهم إن أسلموه لواحد منهم، فيريد أنه ينتقض تيمم من أسلمه منهم إلى صاحبه كما ينتقض تيمم من أسلم إليه. ووجه ذلك أن كل واحد منهم يخشى أن يكون هو صاحب الماء الموهوب له في غيب الأمر، فوجب أن ينتقض تيممهم جميعاً على كل حال. وأما قوله إن قال هذا الماء لكم لم ينتقض إلا تيمم الذي أسلم إليه وحده، فهو خلاف قوله في المسألة التي قبلها وخلاف المسألة التي مضت في سماعه لابن القاسم، ومعترض من قوله إذ لم يوجب المقاومه عليهم لكونهم فيه شركاء بالهبة، والله أعلم وبه التوفيق.
ومن سماع موسى الصمادحي من ابن القاسم
قال: سئل عبد الرحمان بن القاسم عن الرجل الطويل الشعر يمسح رأسه، هل يجزيه أن يمسح أعلاه بالماء ولا يمر يديه على جميع الشعر إلى أطراف الشعر؟ وكذلك المرأة أيضاً؟ وكيف به إن اغتسل من جنابة وشعره مضفور هل يجزيه أن يصب الماء على رأسه ويحرك شعره وأصوله؟ والمرأة كذلك؟ فقال ابن القاسم: قال مالك يمسح رأسه فيمر يديه على مقدم رأسه إلى قفاه ثم يعيدها من

(1/178)


تحت شعره إلى مقدمها والمرأة مثله. وإن كان مضفور الرأس فاغتسل من الجنابة فإنه يضغثه بيديه إذا اغتسل، والمرأة مثله.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك في هذه الرواية أن الرجل والمرأة ليس عليهما أن يمسحا على الشعر إلى أطرافه، وإنما عليهما أن يمسحا منه قد رؤوسهما لا أكثر. وقد مضى القول على هذا في سماع سحنون، فتدبره، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الذي يمسح خفيه ببعض أصابعه أو يمسح على رأسه ببعض أصابعه دون الكف ويصلي، هل يجزيه ذلك ولا يمسح ثانية؟ فقال ابن القاسم، إذا عم بذلك الرأس وإن مسحه بإصبع واحد أجزأه، وكذلك الخفاف.
قال محمد بن رشد: يريد أن ذلك يجزيه إن فعله، ولا يؤمر بذلك ابتداءً، لأن السنة في مسح الرأس على ما جاء في حديث عبد الله بن زيد قوله: ((ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه فذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حيث رجع إلى المكان الذي بدأ منه)).
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الرجل ليس معه من الماء إلا قدر ما يكفيه لوضوئه، فجهل فغسل رجليه قبل ولبس خفيه، ثم توضأ بقية وضوئه، أيجزيه ذلك؟ وكيف الأمر إن كان غسل رجليه ولبس خفيه ونام ولم يتوضأ بقية وضوئه ثم استيقظ أيجزئه أن يمسح على

(1/179)


خفيه أم ينزعهما ويغسل رجليه؟ قال قال مالك: أحب إلي أن يعيد غسل رجليه بعد وضوئه، وإن لم يفعل لا أرى عليه شيئاً.
قال محمد بن رشد: وجه تخفيف مالك المسح على الخفين في هذه المسألة مبني على أن الترتيب في الوضوء غير واجب، وهو مذهبه في المدونة، وعلى أنه كلما غسل المتوضئ عضواً من أعضاء الوضوء ارتفع الحدث عنه بتمام غسله قبل تمام الوضوء على ظاهر حديث أبي عبد الله الصنابحي، وقد تقدم القول على هذا المعنى في رسم نقدها نقدها من سماع عيسى، وهذا على ما ذهب إليه ابن لبابة وغيره من أن المعنى في قول مالك أحب إلي أن يعيد غسل رجليه بعد وضوئه، أي أحب إلي إذا توضأ بعد أن نام أن يغسل رجليه ولا يمسح على خفيه، وأن معنى قوله وإن لم يفعل لم أر عليه شيئاً، أي فإن لم يغسل ومسح لم أر عليه شيئاً. والأظهر أنه إنما أجاب على حكم التنكيس وسكت عن حكم المسح إذا توضأ ثانية بعد أن أحدث، فقال أحب إلي أن يعيد غسل رجليه في آخر وضوئه ويلغي غسلهما أولاً، وإن لم يفعل ذلك لم يكن عليه شيء على أصله في أن الترتيب غير واجب في الوضوء على ما ذكرناه من مذهبه في المدونة، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل ابن القاسم عن المسافر يكون معه النبيذ ولا يوجد الماء، أيتوضأ بالنبيذ أم يتيمم؟ قال ابن القاسم: قال لي مالك لا يجزئ الوضوء بالنبيذ على حال من الأحوال، وإن لم يكن معه ماء تيمم، ولا يجزئ النبيذ من غسل جنابة ولا وضوء، ولا يغسل به شيئاً وإن كان مما يحل شربه. قال موسى: وحدثني وكيع عن

(1/180)


سفيان الثوري عن رجل عن الحسن البصري أنه قال: لا يتوضأ بالنبيذ ولا باللبن.
قال محمد بن رشد: إنما وقع هذا السؤال عن الوضوء بالنبيذ لما روي عن عبد الله بن مسعود: ((أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وأن رسول الله صلى الله عليه احتاج إلى ماء يتوضأ به ولم يكن معه إلا النبيذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمرة طيبة وماء طهور فتوضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم)). وفي حديث آخر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله ليلة الجن أمعك يا بن مسعود ماء فقال معي نبيذ في إداواتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيب علي فتوضأ به وقال شراب وطهور))، وهو حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث. ومما يضعفه أنه روي عن عبد الله بن مسعود من رواية علقمة أنه قال لم أكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ولوددت أني كنت معه. وروي عن علقمة أيضاً أنه قال: سألت ابن مسعود هل كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن أحد؟ فقال لم يصحبه منا أحد، ولكن فقدناه ذات ليلة استطير أم اغتيل، فتفرقنا في الشعاب والأودية نلتمسه، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم نقول استطير أم اغتيل، فقال إنه أتاني داعي الجن ذهبت أقرئهم القرآن فأرانا آثارهم، وتعلق به أبو حنيفة وبعض أصحابه على ضعفه فقالوا إن من لم يجد في السفر إلا نبيذ التمر توضأ به، وهم مع تعلقهم بالحديث قد تركوه إذ لم يجيزوا الوضوء بنبيذ في المصر ولا فيما حكمه حكم المصر، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافراً ولا خارجاً عن حكم مكة، لأنه إنما خرج يريدهم وهو يتم الصلاة، ولو ثبت بهذا الأثر الوضوء بنبيذ التمر لجاز الوضوء به في السفر والحضر ومع وجود الماء وعدمه، فلما أجمعوا أن ذلك لا يجوز خرج نبيذ

(1/181)


التمر عن حكم المياه ولم يجز الوضوء به على حال من الأحوال. وأما الوضوء باللبن أو بالخل أو بما عدا نبيذ التمر من الأنبذة فلا اختلاف بين أهل العلم في أن ذلك لا يجوز. وإنما ذكر ما روي عن الحسن البصري من أن الوضوء لا يجوز بالنبيذ ولا باللبن حجة على من يجيز من أهل العراق الوضوء بالنبيذ، لأن إمام من أئمتهم، والله التوفيق.
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الذي يتيمم للنافلة يبتدئ ذلك في وقت صلاة أو قبل دخول وقت صلاة مفروضة، هل يجوز ذلك له؟ فقال ابن القاسم إذا تيمم للنافلة ثم صلى مكانه أجزأه وإن كان في غير وقت صلاة مكتوبة، وإن أخر الصلاة بعد التيمم لم يجزه ذلك التيمم.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح على مذهب مالك، لأنه يستباح عنده بالتيمم جميع ما يمنع منه الحدث بشرط عدم [الماء مع] طلبه أو طلب القدرة على استعماله. فإذا أراد الرجل أن يصلي نافلة وعدم الماء أو عدم القدرة على استعماله، فطلب الماء فلم يجده، أو طلب من نفسه قدرة على استعمال الماء فلم يجدها، أجاز له أن يتمم ويصلي ما شاء من النوافل إذا اتصلت، لأنها باتصالها في حكم النافلة الواحدة. فإن أخر الصلاة بعد التيمم أو جلس بعد أن صلى نافلة واشتغل ثم أراد أن يصلي نافلة أخرى وجب عليه أن يعيد التيمم، لوجوب تكرار ما هو شرط في صحة التيمم من طلب الماء أو طلب القدرة على اسعماله. وهذا كله بين والحمد لله، وبالله التوفيق.

(1/182)


مسألة
وسئل ابن القاسم عن الرجل يجد الماء في حوض قد تغير ريحه ولا يرى فيه جيفة ولا ميتة، هل يتوضأ منه؟ أو يكون قد نظر إلى حمار أو بغل أو ما لا يؤكل لحمه من الدواب والسباع يشرب منه وهو ينظر، هل يتوضأ منه؟ فقال ابن القاسم: إذا لم ير فيه ميتة أو شيئاً علم أن فساد الماء جاء منه فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو معنى ما في المدونة، لأن المياه محمولة على الطهارة، لقول الله عز وجل: ((وأنزلنا من السماء ماء طهوراً)) وقوله: ((وينزل عليكم من السماء ماءُ ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان)) فإذا وجد الرجل في الصحراء ماءً في غدير أو حوض قد تغير ريحه فهو محمول على أنه إنما تغير من ركوده وسكونه في موضعه، ما لم يوقن أنه تغير من نجاسة حلت فيه. ولا ينجس ذلك الماء بشرب الدواب والسباع منه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراباً وطهوراً))، وذلك بخلاف البئر في المدن ينتن ماؤها فيحمل على أنه إنما أنتن من نجاسة لما يتخلل الدور من مجاري النجاسات على ما مضى في آخر سماع أشهب، وقد مضى الكلام عليه، والله التوفيق.
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الذي يرد الحياض وفيها الماء وهو عريان ليس عليه ثوب إلا ثوب نجس، وليس عليه ما يأخذ به الماء،

(1/183)


ويدره قذرة كيف يصل إلى الماء؟ وهل له أن يتيمم ولا يدخل يده في الحوض ويصلي؟ أم لا يتيمم ويدخل يده في الحوض فيتوضأ ويغتسل؟ قال ابن القاسم: أرى أن يحتال بما قدر عليه حتى يأخذ من الماء ما يغسل به يده، إما بفيه أو بثوب إن كان معه أو بما يقدر عليه، وإن لم يقدر على حيلة فإني لا أدري ما أقول فيها إلا أن يكون ماءً كثيراً معيناً فلا بأس أن يغتسل به.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة صحيحة، لأن معنى قوله ويده قذرة أي قذرة من نجاسة، فإذا كانت يده نجسة لم يجز له أن يدخلها في الماء الذي يغتسل فيه قبل أن يغسلها، لأنه ينجس على نفسه الماء بذلك، إلا أن يكون ماءً كثيراً معيناً يحمل ذلك المقدار من النجاسة. ولابد له أن يحتال في غسل يده قبل أن يدخلها في الماء كما قال، إما بفيه أو بثوب طاهر إن كان معه أو ما أشبه ذلك. وإن كان الماء إذا أخذه بفيه ينضاف بما يخالطه من ريقه فلا تطهر بذلك يده ولا يرتفع عنها حكم النجاسة على مذهب مالك رحمه الله، فإن عينها يزول به من يده وإن بقي حكمها عليه في أنه لا يجوز له أن يصلي حتى يغسل يده بماء ليس بمضاف. وإذا أزال عين النجاسة من يده بذلك لم ينجس الماء الذي أدخلها فيه، وهذا ما لا خلاف فيه. ولو لم يعلم بيده نجاسة لجاز له أن يدخلها في الماء إذا لم يمكنه صب الماء على يده، ولا يكن عليه أن يحتال لغسلها قبل على ما قال في آخر سماع أشهب، خلاف ظاهر قول أبي هريرة في رسم البز من سماع ابن القاسم. فإن علم بطهارة يده أدخلها فيه ولم يكن عليه أن يحتال لغسلها بما ذكره من أخذ الماء بفيه أو بثوب. وإن علم بنجاستها لكان عليه أن يحتال لذلك بما ذكره، وإن لم يعلم بها نجاسة ولا تيقن بطهارتها كان عليه أن يحتال لغسلها بما ذكره على ظاهر قول أبي هريرة، ولم يكن ذلك عليه على ما في آخر سماع أشهب، وقد مضى القول فيه، وبالله التوفيق.

(1/184)


مسألة
وسئل ابن القاسم عن الجنب يصيبه المطر فيقف فيه وينزع ثيابه فيغتسل مما يصيبه من المطر هل يجزيه؟ فقال ابن القاسم: إذا تدلك وأعم بذلك جسده أجزأه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إن الغسل يجزيه إذا وقف للمطر فوقع عليه منه قدر ما يتأتى له به الغسل فاغتسل به وتدلك وعم جميع جسده. وقد مضى القول في هذا المعنى وما يتعلق به مبيناً في أول نوازل سحنون [وبالله التوفيق].
مسألة
وسئل ابن القاسم عن النصراني يتوضأ وضوء الصلاة ويصيب وضوء السنة ثم يسلم، هل يجزيه وضوؤه الذي كان توضأ وهو كافر؟ وهل يكون عليه أن يغتسل إذا أسلم ولا يجزيه وضوؤه؟ وكيف به إن كان اغتسل قبل أن يسلم ثم أسلم بعد هل يجزيه غسله في الكفر؟ فقال مالك: لا يجزئه إلا أن ينوي بغسله الإسلام، فيغتسل وهو يريد أن يسلم فإن ذلك يجزيه، وإذا اغتسل وأصاب السنة في الغسل فإن ذلك لا يجزيه إذا لم ينو به الإسلام، ولا يجزيه الوضوء وإن كان نوى به، لأن النصراني إذا أسلم لم يجزه إلا الغسل.
قال محمد بن رشد: الغسل والوضوء عند مالك رحمه الله وجميع أصحابه لا يجزيان إلا بنية، والكافر لا تصح منه نية. فإن اغتسل قبل أن يعتنق الإسلام بقلبه ويظهره بلسانه لم يجزه الغسل عند مالك. وقوله في هذه الرواية إن الغسل لا يجزيه إلا أن ينوي به الإسلام يغتسل وهو يريد أن يسلم،

(1/185)


معناه إلا أن ينوي به الإسلام وهو يعتقده بقلبه قبل أن يظهره بلسانه، لأنه إذا اعتقده بقلبه فهو مسلم عند الله حقيقة، إلا أنا لا نحكم له بحكم الإسلام حتى يظهره إلينا بلسانه ويستهل به على نفسه. فقوله وهو يريد أن يسلم معناه وهو يريد أن يظهره بلسانه ويستهل على نفسه الإسلام الذي اعتقده بقلبه لتجري عليه في الدنيا أحكامه. ولو اخترمته المنية قبل أن يلفظ بكلمة التوحيد بعد أن اعتقدها لكان عند الله مؤمناً. ألا ترى أن الأبكم الذي لا يتكلم يصح إيمانه لأنه من أفعال القلوب. وإنما يجب على الكافر الغسل إذا أسلم إذا كان قد جامع في حال كفره أو أجنب، قاله ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب الصلاة، وهو مفسر لجميع الروايات. فإذا اغتسل نوى باغتساله الجنابة، فإن لم ينو الجنابة واغتسل للإسلام أجزأه، لأنه أراد الطهر من كل ما كان فيه. وقد روى ابن وهب عن مالك أنه لا غسل على من أسلم، وهو بعيد في النظر، لأنه لو لم يكن عليه الغسل للجنابة التي كانت منه في حال الكفر لوجب أن لا يكون عليه الوضوء للحدث الذي كان منه في حال الكفر، ولكان له إذا أسلم أن يصلي بغير وضوء إلا أن يحدث بعد إسلامه، وهذا ما لا يقوله أحد.
مسألة
قال زياد بن عبد الرحمان في الرجل إذا أسلم وهو نصراني إنه لا يغسل من ثيابه إلا ما يعلم فيها نجاسة.
قال محمد بن رشد: وفي رسم الصلاة من سماع أشهب من كتاب الصلاة أنه لا يصلي فيها حتى يغسلها، يريد وإن لم يعلم فيها نجاسة، من أجل عرقه الذي لا تنفك منه ثيابه، خلاف قول زياد إذ لم يلتفت إلى ذلك في ظاهر قوله، فالاختلاف في هذا راجع إلى الاختلاف في نجاسة عرقه. وقد مضى القول في ذلك في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب.

(1/186)


مسألة
وسئل ابن القاسم عن الإناء تقع فيه قطرة بول الصبي أو دابة أو فارة أو خفاش أو خرو دجاج أو بول بعير أو ثور أو بردون أو قطرة من دم أو بول هر أو لعاب كلب أو لعاب فرس أو حمار أو بغل أو بردون، فقال ابن القاسم: إذا كان لماء كثيراً مثل الجرار فوقعت فيه قطرة من دم أو بول صبي أو دابة كان مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه فإن ذلك لا يفسده، وإن كان إناء قدر ما يتوضأ به فإن ذلك يفسده، وما أصاب الماء الذي يكون في الإناء من لعاب كلب أو دابة أو فرس أو حمار فإن ذلك لا يفسده. قال وروث الدابة مثل بولها إذا كان الماء كثيراً فوقع منه الشيء القليل أو الكثير أو يقع في الزير فإن ذلك لا يفسده إلا أن يكون ماءً قليلاً قدر ما يتوضأ به.
قال محمد بن رشد: هذه الرواية مبنية على رواية المصريين عن مالك أن الماء اليسير تفسده النجاسة اليسيرة وإن لم تغيره، وحد فيها أن اليسير الذي تفسده القطرة من الدم والبول وإن لم تغيره هو مقدار ما يتوضأ به، وإن كان فوق ذلك كالجرار والزبير لم يفسده ما وقع فيه من نجاسة قليلة أو كثيرة، يريد إلا أن يتغير من ذلك. والمعلوم من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أن ما كان من الماء مثل الجرار أو الزير وإن كان لا يفسد بالقطرة من الدم أو البول يفسد بما هو أكثر من ذلك وإن لم يتغير منه، بخلاف الماء الكثير كالبير والجب والماجل ذلك لا يفسده بما حل فيه من النجاسات قلت أو كثرت، إلا أن يتغير من ذلك، فقد قال في المدونة في الجنب يغتسل في القصرية ولم يغسل ما به من الأذى إن ذلك يفسد الماء، فيأتي في حد الماء

(1/187)


اليسير الذي تفسده النجاسة اليسيرة وإن لم تغيره على هذا قولان. وفرق ابن القاسم أيضاً بين حلول النجاسة في الماء الكثير وبين موت الدابة فيه على ما مضى في رسم النسمة، ومساواة ابن القاسم في هذه الرواية بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه من الدواب في أن القطرة منه تفسد الماء اليسير ليس على أصل المذهب، إذ لم يختلف قول مالك في أن أبوال الأنعام وأرواثها طاهرة، وكذلك كل ما يؤكل لحمه في المشهور عنه، وهو مذهبه في المدونة، فإنما راعى ابن القاسم في هذه الرواية مذهب أبي حنيفة الذي يرى أن أبوال جميع الحيوان وأرواثها نجسة كانت تؤكل لحومها أو لا تؤكل، وأن اليسير من ذلك ينجس الماء وإن كثر. وقوله في لعاب الكلب والدابة والفرس والحمار إنه لا يفسد الماء، هو على ما في المدونة من أنه لا بأس بأسئارها. وقد قال مالك في الكلب يؤكل صيده فكيف يكره لعابه؟.
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الجب من ماء السماء تقع فيه الفارة أو الحية وما أشبه ذلك مما لا يعيش في الماء من دواب الأرض، أو يقع فيه الروث فيوجد فيه الروث طافياً على الماء رطباً أو يابساً، فقال مالك: لا خير فيه. قال ابن القاسم أما الروث يقع في الجب فيوجد طافياً على الماء فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: تسهيل ابن القاسم في الروث يوجد في الجب طافياً على الماء هو الصحيح على أصل المذهب في أن النجاسة لا تفسد الماء الكثير إلا أن تغير أحد أوصافه. ومساواة مالك بين ذلك وبين موت الفارة أو الحية فيه في أنه لا خير في ذلك ينحو إلى مذهب أهل العراق في أن

(1/188)


الماء الكثير تنجسه النجاسة اليسيرة، وقد روى علي بن زياد عن مالك في المجموعة نحوه، فقف على ذلك وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل ابن القاسم عما وقع في الجب أو البئر من النجس ثم يعجن به العجين أو يطبخ به قدر أو يصنع به شيء من الطعام ثم يعلم به، أيؤكل ذلك الطعام؟ فقال ابن القاسم أما ما عجن به من الطعام فلا يؤكل، وأما ما طبخ به من اللحم فإنه يغسل ويؤكل اللحم. قال موسى: وحدثني بعض أهل العلم عن ابن عباس عن القدر يطبخ بماء أصابه نجس، فقال يهرق المرق ويغسل اللحم ويؤكل، قال فهذا الحديث قوة لابن القاسم.
قال محمد بن رشد: هذه رواية حائلة خارجة عن أصل المذهب، لأنه حكم للماء الكثير بحكم النجس بحلول النجاسة فيه، فقال إن ما عجن بذلك الماء من الخبز لا يؤكل، وهم لم يقولوا ذلك إلا في موت الدابة فيه لا في حلول النجاسة. ثم ناقض بقوله إن ما طبخ من اللحم بذلك الماء يغسل ويؤكل، خلاف ما في رسم النذور والجنائز من سماع أشهب، وخلاف ما في سماع يحيى من كتاب الصيد في مسألة البيض يسلق فيوجد في إحداهن فرخ. وغسل اللحم لا يصح إذا طبخ غسله إذا سقطت فيه النجاسة بعد طبخه، وهو الذي روي عن ابن عباس فيما رأيت، فأرى هذه الرواية عنه غلطاً، والله أعلم. روي عن علي بن مسهر أنه قال: كنا عند أبي حنيفة فأتاه عبد الله بن المبارك فقال له ما تقول في رجل كان يطبخ قدراً فوقع فيه طائر فمات؟ فقال أبو حنيفة لأصحابه ما تقولون فيها؟ فرووا له عن ابن عباس أنه قال: يهرق المرق ويؤكل اللحم بعد غسله، فقال أبو حنيفة هكذا نقول إلا أن

(1/189)


فيه شريطة إن كان وقع فيها في حال غليانها ألقي اللحم وأريق المرق، وإن كان قد وقع فيها في حال سكونها غسل اللحم وأكل ولم يوكل المرق، فقال ابن المبارك من أين قلت هذا؟ قال لأنه إذا وقع فيها في حال غليانها فقد وصل من اللحم إلى حيث يصل منه الخل والماء، وإذا وقع في حال سكونها ولم يمكث لم يداخل اللحم، وإذا نضج اللحم لم يقبل ولم يدخله من ذلك شيء، فقال ابن المبارك رزير يعني الذهب بالفارسية، وعقد بيده ثلاثين كأنه نسب كلام أبي حنيفة إلى الذهب.
قال محمد بن رشد: وكلام أبي حنيفة في هذه المسألة هو عين الفقه، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تموت في السمن ((إن كان جامداً فكلوه وإن كان مائعاً فلا تقربوه))، فاللحم بمنزلة الجامد من السمن إذا وقعت فيه النجاسة بعد طبخه يؤكل بعد أن يغسل مما تعلق به من المرق والنجس، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الرجل يعلم الرجل الوضوء بالماء، هل يجزيه ذلك من وضوئه للصلاة؟ أو يعلمه التيمم في موضع لا يجد فيه ماء وقد دخل وقت ذلك الصلاة، هل يجزيه ذلك التيمم؟ فقال ابن القاسم: يجزيه الوضوء إذا نوى به للصلاة، والتيمم مثله إذا نوى به الصلاة. قال موسى ابن معاوية: فإن لم ينوه لم يجزه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن الوضوء والتيمم لا يجزئان إلا بنية، فإذا توضأ أو تيمم لما لا يتوضأ له ولا يتيمم فرضاً ولا نفلاً لم يصل بذلك الوضوء ولا بذلك التيمم، إلا أن ينوي به طهر الصلاة. وقد مضى القول على هذا المعنى في رسم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم.

(1/190)


مسألة
وسئل ابن القاسم عن الذي يتوضأ للصلاة ثم يرتد عن الإسلام ثم يستتاب فيراجع الإسلام، هل عليه أن يتوضأ للصلاة أم يجزيه الوضوء الأول؟ فقال ابن القاسم: أحب إلي أن يتوضأ.
قال محمد بن رشد: وقال يحيى بن عمر بل واجب عليه أن يتوضأ لأن الكفر أحبط عمله. وهذا الاختلاف جار على اختلافهم في الأعمال هل تحبط بنفس الكفر بظاهر قول الله، عز وجل: ((لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين)) أو لا تحبط إلا بشرط الوفاة على الكفر لقول الله، عز وجل: ((ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) دليل على أن من ارتد ولم يمت كافراً لم يحبط عمله ولا كان مخلداً في النار. فأما كونه غير مخلد في النار فالإجماع على ذلك يغني عن الدليل فيه، وأما كون عمله غير محبط بالارتداد فيعارضه ظاهر قوله، عز وجل: ((لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين))، فمن لم يقل بدليل الخطاب من هذه الآية حمل قوله: ((لئن أشركت ليحبطن عملك)) على ظاهره فقال إن الأعمال تحبط بنفس الارتداد، وهو قول ابن القاسم وروايته

(1/191)


عن مالك في كتاب النكاح من المدونة في الذي يحج حجة الإسلام ثم يرتد ثم يراجع الإسلام أن الحج الذي حج قبل ارتداده لا يجزيه، وكذلك قال على قياس هذا إن ما ضيع من الفرائض قبل ارتداده لا يلزمه قضاؤه، بدليل قوله، عز وجل: ((قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)). ومن قال بدليل الخطاب من هذه الآية أن من ارتد ولم يمت على الكفر لم يحبط عمله فسر به قوله، عز وجل: ((لئن أشركت ليحبطن عملك)) لمعارضته له في الظاهر، فقال معناه لئن أشركت ووافيت على الكفر ليحبطن عملك وهو قوله في هذه الرواية، لأنه استحب له إذا توضأ ثم ارتد ثم راجع الإسلام أن يعيد الوضوء ولم ير ذلك عليه والقول الأول أظهر أن يحمل قوله عز وجل: ((لئن أشركت ليحبطن عملك)) على ظاهره بأنه يحبط بنفس الكفر وإن راجع الإسلام، وما في الرواية الثانية من إن مات وهو كافر حبط عمله وخلد في النار زيادة بيان على ما في الآية الأولى، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الذي يتوضأ وينسى غسل رجليه فيمر بنهر ويدخل فيه ويخوضه، هل يجزيه من غسل رجليه؟ قال: قال مالك إذا دلك إحدى رجليه بالأخرى أجزأه. قال ابن القاسم: وإذا دلك إحدى رجليه بالأخرى وكان يستطيع ذلك فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: ولا بد له من تجديد النية لأنه لما نسي غسل رجليه وفارق وضوءه على أنه قد أكمله ارتفضت النية المتقدمة فيلزمه تجديدها، وكذلك قال في المدونة في الذي توضأ وأبقى رجليه فخاض نهراً وغسلهما فيه إن ذلك لا يجزيه إلا بنية، لأن معنى ذلك أنه أبقى رجليه ظناً منه أنه قد أكمل وضوءه. ولو أبقاهما قاصداً ليغسلهما في النهر لم يحتج في ذلك إلى تجديد النية وأجزأه غسلهما في النهر دون تجديد نية إن كان النهر

(1/192)


قريباً حتى لا يكون في فعله ذلك مفرقاً لوضوئه، ولو كان على النهر فلما فرغ من وضوئه أدخلهما فيه فدلك إحداهما بالأخرى لم يحتج في ذلك إلى تجديد نية. وستأتي المسألة في سماع محمد بن خالد. وفي إجازة دلك إحدى رجليه بالأخرى دون أن يغسلهما بيديه ما يدل على أن الأصابع لا تخلل، وقد مضى ذلك في رسم اغتسل على غير نية من سماع القاسم.
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الذي نسي أن يمسح أذنيه حتى صلى أو يمسح بعض رأسه مقدمه أو مؤخره أو صدغيه ويصلي، قال: قال مالك لا يعيد الصلاة من نسي مسح أذنيه أو نسي المضمضة أو الاستنشاق من جنابة أو غيرها. قال ابن القاسم وإن نسي بعض رأسه ومسح بعضه فإنه يعيد في الوقت وبعد الوقت.
قال محمد بن رشد: الأذنان عند مالك من الرأس، وإنما السنة عنده في تجديد الماء لهما، فإنما قال فيمن نسيهما في الوضوء إنه لا إعادة عليه مع أن استيعاب مسح جميع الرأس عنده واجب مراعاة لقول من قال إنهما ليسا من الرأس، إذ قيل أيضاً إنه لا يلزم استيعاب مسح الرأس، وقد مضى ذلك في رسم الصلاة من سماع أشهب. ولو ترك غسلهما في الغسل لأعاد لأنهما لمعة من جسده، وأما المضمضة والاستنشاق فلا يعيد من تركهما في غسل أو وضوء، لأنهما سنة فيهما جميعاً، وهذا كله بين، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الرجل يتيمم بالتراب ثم يأتي نفر آخرون هل لهم أن يتيمموا بفضل تراب الأول الذي تيمم به. قال ابن القاسم لا بأس به.

(1/193)


قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن التراب لا يتعلق به من أعضاء التيمم ما يخرجه عن حكم التراب كما يتعلق بالماء من أوساخ أعضاء المتوضئ فينضاف بذلك ويخرج به عند أصبغ عن حكم الماء المطلق إلى أن يسمى غسالة، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل ابن القاسم عن النفر المسافرين يكون معهم من الماء ما يكفي رجلاً منهم للغسل، فيموت رجل منهم، هل يكون الميت أولاهم بذلك الماء؟ وكيف به إن كان الماء بينهم فمات واحد منهم وأجنب الثاني وانتقض وضوء الثالث، من أولاهم بذلك الماء؟ وكيف ينبغي لهم أن يصنعوا؟ فقال ابن القاسم: إذا كان الماء للميت فهو أولى به، وإن كان الماء بينهم وكان قدر ما يكفي واحداً يغتسل به فالحي أولى به يتوضأ به، وييمم الميت.
قال محمد بن رشد: قوله إذا كان الماء بينهم قدر ما يغسل به واحد منهم فمات أحدهم وأجنب الثاني وانتقض وضوء الثالث فالحي أولى به يتوضأ به، أي الحي الذي انتقض وضوؤه أولى بنصيبه منه يتوضأ به وييمم الميت، يريد ويتيمم الحي الجنب أيضاً، إذ ليس فيما بقي من الماء بعد أخذ الذي كان عليه الوضوء نصيبه منه يكفي واحداً منهما للغسل. ولو كان فيه ما يكفي واحداً منهما لكان الحي أولى به على ما في سماع عبد المالك من كتاب الجنائز، إذ لا يقاوم على الميت ويغرم قيمة حصة الميت لورثته إن كان الماء له ثمن. ولو كان بين رجلين وهو قدر ما يكفي أحدهما للوضوء أو الغسل لتقاوماه فيما بينهما. وأما إن كان الماء لأحدهم فصاحبه أولى به حياً كان أو ميتاً.

(1/194)


مسألة
وسئل عن الذي يتوضأ في صحن المسجد وضوءاً طاهراً، فقال لا بأس بذلك، وترك ذلك أحب إلي وسئل عنها سحنون فقال لا يجوز ذلك.
قال محمد بن رشد: لا وجه للتخفيف في ذلك، وقول سحنون أحسن، لأن الله تبارك وتعالى يقول: ((في بيوت أذن الله أن ترفع))، فأحب أن ترفع وتنزه عن أن يتوضأ فيها لما يسقط من غسالة أعضائه فيها من أوساخ قد تكون فيها، ولتمضمه فيها ايضاً، وقد يحتاج إلى الصلاة في ذلك الموضع فيتأذى المصلى بالماء المهراق فيه. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجعلوا مطاهرَكُم على أبواب مساجدكم)) ولقد كره مالك أن يتوضأ رجل في المسجد وأن يسقط وضوءه في طست. وذكر أن هشاماً فعله فأنكر الناس عليه.
من سماع محمد بن خالد
وسؤاله عبد الرحمن بن القاسم
مسألة
قال محمد بن خالد: وسألت عبد الرحمان بن القاسم عن الرجل يتوضأ على نهر فإذا فرغ من ضوئه ولم يبق إلا غسل رجليه خضخض رجليه في الماء، فقال: سألت مالكاً عن ذلك فقال: يغسلهما بيديه ولا يجزيه ما صنع، فقلت لابن القاسم: فإن غسل

(1/195)


إحداهما بالأخرى، فقال إنه لا يقدر على ذلك، فقلت له بلى، فقال إن كان يقدر على ذلك فذاك يجزيه إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لن الغسل لا يعقل في اللغة على الحقيقة إلا بصب الماء وإمرار اليد أو ما يقوم مقام ذلك من دلك إحدى رجليه بالأخرى في داخل الماء إن كان يستطيع ذلك. وقد روي عن محمد بن خالد أنه قال لا يجزيه حتى يغسلهما بيده، فيحتمل أن يكون رأى أن دلك إحدى رجليه بالأخرى لا يمكنه، ولعله جعل ذلك من فاعله استخفافاً بوضوئه وتهاوناً به إذا فعله من غير حاجة إلى ذلك ولا ضرورة وإن ذلك ليشبه، وقد مضى في أول نوازل سحنون ما يتخرج من الخلاف في غسلهما بيديه في داخل النهر دون أن ينقل إليهما الماء، وبالله التوفيق.
مسألة
وقال ابن القاسم : من تيمم فيمم وجهه ويديه قط، فإنه يعيد ما كان في الوقت، فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليه. وكذلك قال أصبغ في الذي يتيمم إلى الكوعين إنه يعيد في الوقت، وكذلك قال مالك. وقال ابن القاسم: فيمن تيمم بضربة واحدة لوجهه ويديه إلى المرفقين ناسياً لم يكن عليه شيء، ثم سألته عن ذلك فقال هو كما أخبرتك، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة وذكر الاختلاف فيها في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، والله التوفيق.
ومن سماع عبد الملك الحسن من ابن وهب
قال عبد المالك بن الحسن: سألت عبد الله بن وهب عن الرجل يستنجي بالماء فإذ فرغ من ذلك قطر منه بول فمس ذكره

(1/196)


وحلبه، هل عليه أن يعيد غسل يديه بالماء قبل أن يدخلها في الإناء أم يجزيه الذي كان حين استنجى أولاً؟ فقال نعم عليه أن يغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء. ولو انتقض وضوؤه بريح يخرج منه يديه قبل أن يدخلهما في الإناء. ولو انتقض وضوؤه بريح يخرج منه رأيت له أن يعيد غسل يديه أيضاً قبل أن يعيدهما في وضوئه، وهو قول مالك في هذا، وإنما هذا يستحب له ويؤمر به وليس ذلك عليه بواجب. وقال أشهب: إن كان أصاب يديه نجس غسل ما أصاب يديه من ذلك النجس، وإن لم يكن أصابها شيء توضأ ولم يكن عليه غسل يديه مرة أخرى وعهده بغسلهما قريب، وإن كان غسله إياهما كان بعيداً فإني أرى أن يبتدئ وضوءه ويغسلهما.
قال محمد بن رشد: فد مضى القول على هذه المسألة موعباً في أول رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك.
مسألة
وسئل ابن وهب عن المبطون إذا كان لا يقدر على الوضوء، هل ترى بأساً أن يتيمم، فقال نعم لا أرى بذلك بأساً. وسألته عن المائد في البحر إذا كان لا يقدر على الوضوء، هل ترى أن يتيمم؟ قال: لا أرى بذلك بأساً.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب هذا إن المبطون والمائد في البحر إذا لم يقدرا على الوضوء يتيممان هو مثل ما لمالك في المدونة، لأن ذلك مرض من الأمراض، والمريض إذا لم يقدر على مس الماء وإن كان واجداً له يتمم على مذهبه فيها، وهو الذي يأتي على قول من حمل آية التيمم على تلاوتها وجعل فيها إضماراً ولم يقدر فيها تقديماً ولا تأخيراً،

(1/197)


وأما من قدر فيها تقديماً وتأخيراً، وهو قول محمد بن سلمة من أصحابنا، فلا يجيز للمريض الذي لا يقدر على مس الماء إذا كان واجداً له التيمم ولا للحاضر العادم الماء، لأن يعيد شرط عدم الماء على المرض والسفر خاصة، وإلى هذا ذهب مالك في رسم أوله الشريكين يكون لهما مال من هذا الكتاب، وقد ذكرنا ذلك هناك وبينا وجهه. وسواء إذا كان الماء معهما كنا لا يقدران على الوضوء لضعفهما عن تناوله بأنفسهما لمرضهما أو لضرر الماء بهما. وأما لو كان الماء غائباً عن موضعهما فلم يجدا من ينقلهما إلى موضعه ولا من يناولهما إياه لجاز لهما التيمم قولاً واحداً، لأنهما عادمان للماء، والمريض العادم للماء من أهل التيمم بإجماع، حاضراً كان أو مسافراًن وبالله التوفيق.
ومن سماع أصبغ من ابن القاسم
من كتاب الزكاة والصيام
قال أصبغ: سمعته يذكر أنه بلغه عن مالك في رجل طبخ باناً بالمدينة، فلما غلى الدهن وجد فيه فارة ميتة لم تنفسخ أو قد انفسخت وهي من ماء البير حين صبه فيه وقد طبخه بعد، قال فأمره مالك أن يتم طبخه ويأخذ الدهن الأول الذي عجن فيه فيطبخه بماء طيب مرتين أو ثلاثاً، وقاله أصبغ إذا كان كثيراً، وإن كان يسيراً لا كبير ضرر فيه فليطرحه.
قال محمد بن رشد: قد نص في الرواية أن الفأرة وجدت في الدهن بعد أن غلي وهي قد انفسخت أو لم تنفسخ، وذلك يوجب أن يكون الدهن قد نجس بإجماع، وإن كانت الفأرة لم تمت إلا في ماء البير فيجب على

(1/198)


قياس قول مالك هذا أن يجوز غسل الزيت الذي تموت فيه الفأرة، إذ لا فرق بين صب الماء على الدهن وطبخه حتى يذهب الماء ويخلص الدهن وصب الماء على الزيت وغسله بهرق الماء عنه حتى يخلص الزيت. ويؤيد هذا أنه قد روى ذلك عن مالك علي بن زياد وابن نافع، وما روي عن يحيى بن عمر أنه قال إنما خفف مالك مسألة الدهن لاختلاف الناس في ماء البير تموت فيه الفأرة ولم يتغير ماؤها ليس بصحيح، لما تضمنته الرواية من أن الفأرة إنما خرجت من الدهن بعينه بعد أن غلت فيه لا من ماء البئر. وكذلك ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون أنه قال: ولو فعل ذلك فاعل بالزيت الذي تموت فيه الفأرة ما جاز، لأن الفأرة لم تمت في زيت البان وإنما ماتت في ماء البير ليس بصحيح أيضاً، لأنها وإن كانت لم تمت في زيت البان فقد غلت فيه ميتة فنجس بذلك بإجماع كما لو ماتت فيه. وإذا طهر الماء الدهن بصبه عليه لتخلله إياه ووصوله إلى جميع أجزائه، وإن لم تمت الفأرة إلا في الماء الذي عجن به فكذلك يطهر الزيت الذي ماتت فيه الفأرة إذا غسل به لتخلله إياه ووصوله إلى جميع أجزائه، إذ لا فرق بين ذلك في المعنى والقياس، ومراعاة الاختلاف خارج عن القياس، فثبت ما ذهبنا إليه من حمل مسألة الزيت على مسألة الدهن بالقياس، وتفرقة أصبغ بين أن يكون الدهن قليلاً أو كثيراً في هذه المسألة وجهها مراعاة الاختلاف الذي ذكرناه في جواز غسله، إذ لا اختلاف في نجاسته لما ذكرناه، فرأى أن يغسل الكثير لحرمة الطعام وحفظ المال، والله أعلم، وبه التوفيق.
مسألة
قال أصبغ: قال ابن القاسم وسفيان بن عيينة: الفرق ثلاثة آصع، وهو الذي كان يتوضأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتطهر.
قال محمد بن رشد: يقال: الفرق والفرق ـ بتحريك الراء وإسكانها ـ وهو مكيل معروف. وروي عن ابن وهب أنه مكيال من خشب،

(1/199)


ولا اختلاف أعلمه أن في كيله ثلاثة آصع، وأن في كل صاع أربعة أمداد. وإنما اختلفوا في المد فقيل إنه زنة رطلين، وقيل إنه زنة رطل وثلث، قيل بالماء وقيل بالوسط من الطعام. وقد رويت في هذا الباب آثار ظاهرها التعارض لاختلافها في مقدار ما كان يتوضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغتسل من الماء. منه ما روي ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجناية))، ومنها ما روي عن عائشة أنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع)) ومنها ما روي عن أنس بن مالك: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمكوك ويغتسل بخمس مكاكي)). والذي أقول به في ذلك أن ذلك ليس باختلاف تعارض، وإنما هو اختلاف تخيير وإباحة وإعلام بالتوسعة، فكان يغتسل مرة بثلاثة آصع على ما في الحديث الأول، ومرة بصاع ونصف على ما في [الحديث الثاني، ومرة بصاع على ما في الحديث الثالث، ومرة بصاع ومد إذا كان المكوك مداً على ما في] حديث أنس وأن عائشة قصدت في الحديث الثالث إلى الإعلام بأقل ما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ به ويغتسل من الماء، وقصد أنس بن مالك في حديثه أيضاً إلى الإعلام بأقل ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ به ويغتسل من الماء، وهي كلها

(1/200)


بجملتها تقتضي أن تقليل الماء مع إحكام الغسل هو المختار في الوضوء والغسل، وأنه لا حد في ذلك من الماء يجب الاقتصار عليه. ومن الناس من ذهب إلى أنه لا اختلاف في الأحاديث في مقدار ما كان يتوضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغتسل من الماء، فصرفها كلها بالتأويل إلى حديث أنس بن مالك بأن قال: يحتمل أنه أراد بالمكوك المد، فقوله إنه كان يتوضأ بالمكوك هو مثل ما في حديث عائشة من أنه كان يتوضأ بالمد. وقوله إنه كان يغتسل بخمس مكاكي يريد أنه كان يتوضأ أولاً بمكوك منها ثم يغتسل بالأربعة مكاكي، مثل ما في حديث عائشة من أنه كان يغتسل بالصاع لأنه يحتمل أن تكون أرادت أنه كان يغتسل بالصاع بعد أن كان يتوضأ بالمد. وقول عائشة ((كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء هو الفرق)) يحتمل أن لا يكون الفرق مملوءاً من الماء وأن يكون فيه قدر صاعين ومدين فيتوضأ كل واحد منهما في أول غسله بمد ثم يغتسل بأربعة أمداد وهو صاع، وما روي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق يحتمل أن يكون كان يغتسل منه بقدر الصاع ويفضل من الماء فيه بعد غسله منه قدر صاعين، ويحتمل أن لا يكون مملوءاً من الماء وأن يكون قدر صاع لا أكثر. والذي ذكرته أولاً هو الصحيح، ولا يمتنع عندي أن يكون صلى الله عليه وسلم يغتسل أيضاً في بعض المرات بأكثر من ثلاثة آصع، بل هو الظاهر من حديث الموطأ في صفة غسله ((أنه كان صلى الله عليه وسلم يبدأ فيغسل يديه ثم يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعر رأسه، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ثم يفيض الماء على جلده كله))، والله أعلم.
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ بن الفرج
قال شهدت ابن وهب في داره بالفسطاط توضأ ومسح على

(1/201)


خفيه وقال لي اشهد علي. قال أصبغ: المسح لا شك فيه هو أثبت من كل شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وكبراء أصحابه، قال وأنا أمسح في الحضر وأفتي به.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب وأصبغ في إجازة المسح في الحضر كما يجوز في السفر هو الذي رجع إليه مالك، رحمه الله، ومات عليه، بعد أن كان اختلف قوله فيه. وقد مضى القول في هذه المسألة بكماله في رسم البز من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
من سماع أبي زيد من ابن القاسم
قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن رجل جنب لا يستطيع أن يفيض الماء على جلده وهو ممن يجد ماء، قال يتيمم لكل صلاة. قيل له أرأيت إن تيمم فصلى بذلك التيمم صلوات أترى أن يعيد الصلوات؟ قال نعم.
قال محمد بن رشد: قوله إن الذي يجد الماء ولا يقدر على مسه يتيمم لكل صلاة هو قول مالك في المدونة على أصله في أن آية التيمم على تلاوتها لا تقديم فيها ولا تأخير، وقد قيل إنه ليس من أهل التيمم، وهو قول مالك في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم، ومن متأخري أصحابنا من قال إن له أن يجمع صلاتين بتيمم واحد. وأما الذي لا يجد الماء في السفر أو لا يجد من يناوله إياه وهو مريض في الحضر فلا اختلاف في المذهب في أنه لا يجوز له أن يجمع صلاتين بتيمم واحد. إلا ما روي عن أبي الفرج في ذاكر صلوات أنه يجوز له أن يصليها بتيمم واحد. وقوله إنه يعيد الصلوات إن صلى بذلك التيمم صلوات، يريد ما بعد الصلاة الأولى من الصلوات، ويريد الوقت وبعده، وهو ظاهر الرواية. وقد قيل إن كانت الصلاتان اللتان صلى بتيمم واحد مشتركتي الوقت أعاد الثانية في الوقت، والوقت في ذلك إلى

(1/202)


الغروب، وقيل الوقت في ذلك الصلاة المفروضة: القامة للظهر والقامتان للعصر. وإن لم تكونا مشتركتي الوقت أعاد الثانية أبداً. وقد قيل يعيد الثانية ما لم يطل مثل اليومين وأكثر من ذلك. وقد اختلف في المعنى الذي من أجله لم يجز للمتيمم أن يصلي صلاتين بتيمم واحد، فقيل إن المعنى في ذلك أن الله أوجب الوضوء لكل صلاة أو التيمم إن لم يجد الماء بقوله: ((يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة))، فخصصت السنة الوضوء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((صلى يوم فتح مكة صلوات بوضوء واحد))، وبقي التيمم على الأصل. وقيل بل المعنى في ذلك أن الله لم يبح التيمم إلا أن لا يوجد الماء، ولا يكون غير واجد له إلا إذا طلبه فلم يجده، فصار الطلب للماء شرطاً من صحة التيمم للصلاة عند القيام إليها بعد دخول وقتها، وكذلك صار طلب القدرة على استعمال الماء للمريض الذي لا يقدر على مس الماء شرطاً في صحة التيمم للصلاة عند القيام إليها عند من جعله من أهل التيمم. فعلى هذا المعنى أجاز مالك في رواية أبي الفرج عنه لذاكر صلوات أن يصليها بتيمم واحد، لأنه جعل الصلوات المذكورة في حكم صلاة واحدة لوجوب صلاتها عليه جميعاً حين يذكرها في الوقت الذي يذكرها فيه، ولم يجز ذلك في رواية غيره لأنه رآى أن طلب الماء واجب عليه كلما سلم من صلاة وأراد القيام إلى أخرى، فالطلب على هذا القول شرط من صحة التيمم لكل صلاة عند القيام إليها، وعلى رواية أبي الفرج هو شرط في صحة التيمم لما اتصل من الصلوات المفروضات. وعلى هذا المعنى أيضاً أجاز من أجاز من متأخري أصحابنا للمريض الذي لا يقدر على مس الماء أن يصلي صلاتين بتيمم واحد، لأنه لما كان الأغلب من حاله أنه لا يقدر على مس الماء لم يوجب عليه طلب القدرة على استعماله، والأظهر

(1/203)


أن ذلك عليه واجب، إذ قد يتحامل فيقدر، وليس لما يلزمه من التحامل على نفسه في ذلك حد لا يتجاوز، وإنما هو مصروف إلى استطاعته وموكول إلى أمانته. وأما على المعنى الأول فلا يتجه هذا القول ولا رواية أبي الفرج في ذاكر صلوات والله أعلم، والقياس على المذهب فيمن صلى صلاتين بتيمم واحد أن يعيد الأخيرة أبداً، ومن قال إنه يعيدها في الوقت وفرق ببين المشتركتين في الوقت وغير المشتركتين فليس قوله بقياس، وإنما هو استحسان لمراعاة قول من قال من العلماء إن التيمم يرفع الحدث كما يرفعه الوضوء، وإنه لا وضوء عليه وإن وجد الماء ما لم يحدث، وبالله التوفيق.
مسألة
وقال فيمن قام من نومه وقد أصابه احتلام فغسل ما أصاب منه ثوبه ولم يرش وصلى بذلك الثوب، قال يرش الثوب ويعيد كل صلاة صلاها في ذلك الثوب إذا كان في وقتها، وما فات الوقت فلا إعادة عليه فيه.
قال محمد بن رشد: إنما يجب عليه أن ينضح من ثوبه إذا غسل الاحتلام منه ما شك أن يكون أصابه الاحتلام منه ولم يره لا جميعه، إلا أن يكون شك في جميعه لكثرة تقلبه فيه، وجعل ذلك واجباً فأوجب عليه الإعادة في الوقت إن لم يفعلهن وهو القياس على أصولهم في أن النضح طهور لما شك فيه، وهذا قد شك فيه. وقال ابن حبيب إن نشح ما لم ير إذا غسل ما رأى لتطيب النفس فلا إعادة عليه إن تركه، خلاف تركه نضح ما شك فيه، وهو قول ابن نافع في تفسير ابن مزين، وقد مضى ذلك في آخر رسم البز من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
مسألة
وقال في رجل توضأ ومسح على خفيه ثم صلى الظهر فلم يأت العصر حتى انخرق خفه بقدر ما لا يمسح على مثله ثم

(1/204)


حضرت صلاة العصر، قال ينزع خفيه ويغسل رجليه ويصلي ولا يعيد الوضوء. وقال أصبغ فيمن انتقض وضوؤه فمسح على خفيه ثم نزع الخف الواحد غسل تلك الرجل الواحدة وصلى ولم يخلع الأخرى، قال أبو عمرو يوسف بن عمر: فعاودته في ذلك وأنكرته فثبت على هذا القول وأبي الرجوع عنه.
قال محمد بن رشد، رضي الله عنه: وقع في بعض الكتب قال ينزع خفه ويغسل رجله على الإفراد، وذلك خطأ والله أعلم، وإنما هو ينزع خفيه ويغسل رجليه، بدليل إدخال العتبي قول أصبغ عقبه، لأنه إنما أدخله على الخلاف لابن القاسم، إذ لا وجه له إلا ذلك، ولو لم يدخله على الخلاف لاكتفى بأن يقول: وقال أصبغ مثله. وقد تقدم لابن القاسم في رسم نقدها نقدها من سماع عيسى في الذي يلبس الخفين على الخفين فيمسح على الأعلى منهما ثم ينزع فرداً منهما أنه يمسح على الخف الأسفل من تلك الرجل وحده ويصلي، فمذهبه الفرق في ذلك بين أن يكون الخفان على القدمين أو على خفين. وساوى مالك بينهما في آخر سماع أشهب من هذا الكتاب في الجواز، وابن حبيب في المنع، فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال. وقد بينا ذلك في سماع أشهب المذكور وفي قوله في هذه الرواية: فلم يأت العصر حتى انخرق خفه ثم حضر العصر انه ينزع خفيه نظر، إذ يقتضي ظاهر قوله إنه إن انخرق خفه بقدر ما لا يمسح عليه قبل العصر فاخر خلعهما إلى أن حضرت صلاة العصر أنه يخلعهما حينئذ ويغسل رجليه ولا ينتقض وضوؤه، والصواب أن وضوءه ينتقض إن لم يخلعهما حين انخرق الخف خرقاً لا يمكنه المسح عليه، ولم يبين في الرواية حد الخرق الذي يجوز المسح عليه من الذي لا يجوز، ولا وقع ذلك في الأمهات ما فيه شفاء وجلاء، لأنه قال في المدونة: إن كان كثيراً فاحشاً يظهر منه القدم فلا يمسح، وإن كان يسيراً لا يظهر منه القدم فليمسح، وقال في الواضحة: إن كان فاحشاً لا يعد به

(1/205)


الخف خفاً لتفاحش خرقه وقلة نفعه فلا يمسح، وإن لم يكن متفاحشاً مسح، وإن أشكل عليه خلع. وروى ابن غانم عن مالك أنه يمسح عليه ما لم تذهب عامته، وقال في آخر الرواية إذا كان الخرق خفيفاً لم أر بالمسح عليه بأساً. وقال ابن القاسم: معنى قول مالك في الخف الذي أجاز المسح عليه هو الذي لا يدخل منه شيء. فاستفدنا من مجموع هذه الروايات أنه يمسح على الخرق اليسير ولا يمسح على الخرق الكثير، وإذا كان ذلك كذلك بإجماع وقامت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الثلث هو آخر حد اليسير وأول حد الكثير، وجب أن يمسح على ما كان الخرق فيه أقل من الثلث، ولا يمسح على ما كان الثلث فأكثر، أعني ثلث القدم من الخف لا ثلث جميع الخف. وإنما يمسح على الخرق الذي يكون أقل من الثلث إذا كان ملتصقاً بعضه ببعض كالشق لا يظهر منه القدم، وأما إن اتسع الخرق وانفتح حتى يظهر منه القدم فلا يمسح عليه إلا أن يكون يسيراً جداً ليس بفاحش. فمحصول هذا أنه إذا كان الخرق في الخف أقل من الثلث فإنه يمسح عليه ظهرت القدم أم لم تظهر، وإن كان الخرق أقل من الثلث فإنه يمسح عليه ما لم يتسع وينفتح حتى تطهر منه القدم فلا يمسح عليه إلا أن يكون يسيراً كالثقب اليسير الذي لا يمكنه أن يغسل منه ما ظهر من قدمه، لأنه إذا ظهر من قدمه ما يمكنه غسله لم يصح له المسح من أجل أنه لا يجتمع مسح وغسل، فعلى هذا يجب أن تخرج الروايات المسطورة المشهورة. وقد روى علي بن زياد وأبو المصعب والوليد بن مسلم عن مالك أنه يمسح على الخفين اللذين يقطعهما المحرم أسفل من الكعبين، وقاله الأوزاعي، وزاد أنه يمر الماء على ما بدا من قدمه، وهو شذوذ، وبالله التوفيق.
مسألة
وقال في المريض الذي لا يجد من يناوله الماء ولا تراباً يتيمم

(1/206)


وبه ولا يستطيع شيئاً، قال يصلي ويعيد وإن فات الوقت إذا وجد من يناوله الماء.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يصلي ثم يعيد أبداً استحسان على غير قياس، لأن الصلاة إذا كانت لا تجزئه بغير طهارة فلا وجه لفعلها. والصواب قول من قال إنه لا يصلي حتى يجد الماء فيتوضأ، لقول رسول الله عليه السلام: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)) وما أشبه ذلك من الآثار المتواترة في هذا المعنى. وقد قيل إنه إذا لم يجد الماء حتى خرج الوقت فقد سقطت عنه الصلاة، وهي رواية معز بن عيسى عن مالك. ووجه ذلك أنه إذا لم يقدر على الصلاة كان كالمغلوب عليه في حكم المغمى عليه، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عمن يخرج من داخل الحمام وقد نزل الحوض النجس فتطهر بالطهور ويغسل يديه ثم يتوضأ منه وليس معه إناء يغسل يده إذا توضأ قبل أن يرجعها في الطهور، فهو يرفع من الطهور إلى وجهه ثم يردهما في الطهور قبل أن يغسلهما وقد أمرهما على وجهه، وفي وجهه ذلك الماء النجس من الماء الحار الذي يخرج منه ومثله من مواضع الوضوء، فقال ليس بهذا بأس ورآه سهلاً، وقد قال هذا مما أجازه الناس.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن ماء الحوض ليس بنجاسة محضة كالبول والدم، وإنما هو نجس بما يغلب على الظن من حصول النجاسة فيه بكثرة المنغمسين فيه، إذ يبعد أن تكون أجسام جميعهم طاهرة.

(1/207)


ولو وقع في قدر ما يتطهر به الرجل من الماء قطرة من البول أو الدم أو الخمر لما نجس الماء بذلك على مذهب مالك، وقد مضى بيان ذلك في سماع موسى بين معاوية وغيره، فكيف برد يديه في الطهور قبل أن يغسلهما إذا اغتسل وفي وجهه ذلك الماء المحكوم بنجاسته، هذا مما ينبغي أن لا يبالى به وأن يسهل فيه وأن يستجاز إذ قد أجازه الناس. ولو نجس طهوره برد يديه فيه بعد أن مس بهما جسمه في نقل الماء إليه وغسله لوجب أن ينجس الماء الذي نقله إليه بملاقاته إياه فلا يطهر أبداً. وفي الإجماع على فساد هذا ما يقضي بفساد قول من قال إن الطهور ينجس بذلك وإن الغسل لا يجزئ به وبالله التوفيق.
مسألة
قال: ومن تيمم للوضوء وقد كان أجنب وهو ناس للجنابة إن ذلك التيمم لا يجزئ عنه من الجنابة حتى يتيمم له ثانية، ولو تيمم للجنابة أجزأه من تيمم الوضوء.
قال محمد بن رشد: قد روي عن محمد بن مسلمة أن من تيمم للوضوء وهو ناس للجنابة أجزأه، لأنه فرض ينوب عن فرض. وروى ابن وهب عن مالك في أصل سماعه أن من فعل ذلك أعاد التيمم والصلاة في الوقت، فإن خرج الوقت لم يعد لأن التيمم لهما واحد، وذلك راجع إلى قول محمد بن مسلمة، لأن الإعادة في الوقت استحباب. ووجه رواية أبي زيد أن التيمم للوضوء إنما يرفع الحدث عن أعضاء الوضوء خاصة، والتيمم للجنابة يرفع الحدث عن جميع جسمه وإن كان الفعل لهما واحداً فافتراق النية فيهما يفرق بين أحكامها، كما أن من أفرد الحج أو قرنه فالفعل فيهما جميعاً واحد عند مالك، وإنما تفترق أحكامهما عنده بالنية، وأن من ضحى عن نفسه خاصة أو أشرك في أضحيته أهل بيته فالفعل فيهما سواء، وإنما يفترق حكمهما بافتراق النية، وما أشبه ذلك كثير. ووجه قول ابن مسلمة ورواية ابن

(1/208)


وهب عن مالك أن حدث الوضوء وحدث الجنابة لما كانا يستويان في وجوب منعهما من الصلاة ويستويان في صفة رفعهما بالتيمم، ناب التيمم لكل واحد منهما عن التيمم عن صاحبه، لأنه قصد به الطهارة للصلاة. أصل ذلك المرأة تجنب ثم تحيض فتغتسل إذا طهرت من الحيضة للحيضة وتنس الجنابة أن الغسل يجزيها باتفاق، وكذلك لو اغتسلت للجنابة ونسيت الحيضة على الصحيح من الأقوال، ورواية أبي زيد أظهر من قول أبن مسلمة ورواية ابن وهب عن مالك والحجة لهما أقوى. ومن قال إن مسألة الجبيرة في المدونة تعارضها وأنه يلزم على قياسها أن يجزئ تيمم الوضوء عن الجنابة، فليس قوله الصحيح، والفرق بين المسألتين أن التيمم للوضوء إنما هو بدل عن غسل أعضاء الوضوء خاصة، فوجب أن لا يجزئ عن تيمم الجنابة الذي هو بدل عن غسل جميع الجسم، وغسل موضع الجبيرة التي كان مسح عليها في الغسل إذا سقطت أصل في نفسه ليس ببدل من غيره، ولا يلزم طهارة سواه، إذ قد غسل سائر جسمه فوجب أن يجزئ غسله الحيضة على الصحيح من الأقوال. ولو غسل بنية الجنابة ما عليه غسله بنية الوضوء لأجزأه قولاً واحداً، مثل أن تكون الجبيرة [في موضع من مواضع الوضوء فيمسح عليها في وضوئه، ثم يظن أن عليه جنابة فيغتسل لها وقد سقطت الجبيرة] ثم يعلم أنه لم تكن عليه جنابة لكان على وضوئه ما لم يحدث باتفاق. والإجماع على هذه المسألة يضعف قول ابن أبي زيد في مسألة الماس لذكره في أثناء غسله، يريد وينويه في إمرار يديه على مواضع الوضوء في باقي غسله والله التوفيق.
مسألة
وسئل عن رجل توضأ فغسل وجهه ويديه ثم أحدث، قال

(1/209)


يعيد الوضوء من ألوله ولا يدخل يديه في الإناء حتى يفرغ عليهما الماء.
قال محمد بن رشد: قد مرت هذه المسألة ومضى الكلام عليها في غير ما موضع، ومضى الكلام عليها موعباً في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب، والله التوفيق.
مسألة
وسئل عمن نسي الاستنجاء بالماء فذكر بعد ما صلى، قال عليه الإعادة في الوقت.
قال محمد بن رشد: يريد أنه لم يستنج بماء ولا بحجارة وقد تعلق بمخرجه أذى أو لم يتعلق بمخرجه أذى، وكان قد استنجى بالحجارة، لم تكن عليه إعادة على ما قال في المسألة التي تليها، أو بحجر واحد فأنقى على ما في رسم أسلم من سماع عيس، أو بمدرة على ما رسم المحرم من سماع ابن القاسم، وقد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم سن منه، وبالله التوفيق.
مسألة
قال وسألت مالكاً عمن استنجى بالحجارة ثم توضأ وصلى، هل عليه إعادة؟ فقال لا إعادة عليه في وقت ولا غيره. وقد كان بعض الناس يقولون إن عدا المخرج فسألت مالكاً عنها فلم يذكر عدا المخرج ولا غيره. ومن الحجة في ذلك إن قال قائل إن من مضى إنما كانوا يبعرون أرأيت البول أليس هو واحداً منهم ومنا، فقد جعلوه في الأمرين جميعاً إذا عدا المخرج فليس هو كذلك، قد كانوا يبعرون وإن كانوا يأكلون السمن واللبن وغيره مما يلين

(1/210)


البطون. وقد كان عبد الله بن عمر وغيره من الناس يستنجون بالحجارة ولا يستنجون بالماء، فلم يسمع منهم في ذلك حد، ولست أرى الإعادة عليه إذا استنجى بثلاثة أحجار، ولكن لو أن رجلاً نسي أن يستنجي بالحجارة حتى توضأ وصلى أعاد ما دام في الوقت، لأنه إذا لم يستنج بمنزلة ما لو صلى به في جلده أو ثوبه. وكذلك بلغني عن مالك قال: لو بالغ بحجر أو بحجرين فلا إعادة عليه أيضاً.
قال محمد بن رشد: حكم مالك رحمه الله لما قرب من المخرج مما لا ينفك من وصول الأذى إليه ولا له منه بد بحكم المخرج في أن الأحجار تجزي فيه، وذهب بعض الناس إلى أن الأحجار لا تجزي في ذلك، وهو قول عبد العزيز بن أبي حازم في المدنية، وإليه ذهب ابن حبيب في الواضحة. وأما ما بعد من المخرج مما ينفك عن وصول الأذى إليه وله منه بد فلا يجزي فيه إلا الماء باتفاق في المذهب، وقول مالك أظهر والله أعلم. وقد مضى في رسم سن من سماع ابن القاسم في هذا المعنى والحمد لله.
مسألة
قال ابن القاسم في الذي يطلب الماء في رحله فلا يجد، فيسأل بعض من معه في الرفقة فيقولون ليس عندنا ماء فيتيمم، ثم يجد عندهم الماء، قال: إن كان رفقاؤه ممن يظن أن لو علموا بالماء عندهم لم يمنعوه فإن وجد الماء في رحله فليعد في الوقت، وإن كان يظن أن لو كان معهم ماء منعوه فلا أرى عليه إعادة. وقد قال مالك لو نزلوا في صحراء وليس معهم ماء فتيمموا وصلوا ثم وجدوا بئراً أو غديراً قريباً منهم لم يعلموا به فإنهم يعيدون ما كان في الوقت.

(1/211)


قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن وجوده الماء عند من يقرب منه ويليه ممن كان يلزمه أن يطلبه منه ويسأله إياه بعد أن كان سأله أو طلبه كوجوده عند نفسه، فيعيد في الوقت استحباباً، إذ إنما فعل ما افترض الله عليه من الصلاة بالتيمم بعد أن طلب الماء فلم يجده. وقال أصبغ يعيد أبداً لأنه قد انكشف أنه كان من أهل الماء، فليس جهله به مما يسقط عنه فرض الوضوء. وقول مالك هو الصحيح، لأن لم يكلف علم ما غاب علمه عنه مما لا طريق له إلى معرفته، وإنما تعبد بطلب الماء إذا لم يجده، فإذا بلغ الحد الذي يلزمه في الاجتهاد في طلبه فلم يجده وتيمم وصلى فقد أدى فرضه على ما أمره الله به، ووجب ألا يكون عليه إعادة إلا في الوقت استحباباً. ولو ترك أن يطلب الماء عند من يليه ممن يرجو وجوده عنده ويظن أنه لا يمنعه إياه وتيمم وصلى لوجب أن يعيد أبداً إذا وجد الماء. أصل هذه المسألة الذي تخفى عليه القبلة في المفازة أنه إن اجتهد في الاستدلال عليها ثم صلى فانكشف له أنه صلى إلى غير القبلة لم تجب عليه الإعادة إلا في الوقت استحباباً، وإن صلى تلقاء وجهه دون أن يجتهد في الاستدلال عليها أعاد أبداً، لأنه ترك الفرض الواجب عليه في ذلك. وقد مضى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم في أول سماع أشهب التكلم في حد ما يلزمه من طلب الماء إذا لم يجده، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عمن تيمم وصلى فقعد يذكر الله حتى طلعت عليه الشمس، أترى أن يركع ركوع الضحى بتيممه ذلك؟ قال لا.
قال محمد بن رشد: إنما قال إنه لا يركع ركوع الضحى بتيمم صلاة الصبح، لأن الأصل كان ألا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة على ما مضى القول فيه في أول سماع أبي زيد، وأن لا يصلي نافلة بتيمم فريضة وإن اتصلت بها، فإنما تصلى النافلة بتيمم الفريضة إذا اتصلت بها استحساناً

(1/212)


ومراعاة لقول من يقول إن التيمم يرفع الحدث كالوضوء بالماء، فإذا لم تتصل بها وطال الأمد بينهما واتسع الوقت لطلب الماء ثانية للنافلة وجب أن ينتقض التيمم على الأصل، وأن لا يراعى في ذلك الخلاف كما روعي إذا اتصلت بها، لكونها في اتصالها بها في معنى الصلاة الواحدة، وبالله التوفيق.
مسألة
قيل له: أرأيت لو أن رجلاً تيمم لنافلة ثم خرج من المسجد لحاجة ثم رجع، أترى أن يتنفل بتيممه ذلك؟ قال لا ، ولا يقرأ به في المصحف. قيل له: أرأيت إن تيمم لنافلة فصلى ثم لم يزل في المسجد في حديث ثم أراد أن يقوم يتنفل بذلك التيمم؟ قال إن تطاول ذلك فليتيمم تيمماً آخر، وإن كان شيئاً خفيفاً فأرجو أن يجزيه.
قال محمد بن رشد: القول في هذه المسألة كالقول في التي قبلها، وهو أن الأصل كان أن لا يصلي صلاتين بتيمم واحد نافلة ولا فريضة، وأن لا يجوز التيمم للصلاة عند عدم الماء إلا عند القيام إليها بظاهر قول الله عز وجل، فأجيز أن يصلي بتيمم واحد ما اتصل من النوافل والنافلة إذا اتصلت بالفريضة استحساناً ومراعاة للخلاف لكونها باتصالها في حكم الصلاة الواحدة، فإذا تباعد ما بينها سقط مراعاة الخلاف ورجعت المسألة التي حكم الأصل، فوجب إعادة التيمم، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الحائض تكتب القرآن في اللوح وتمسك اللوح فتقرأ فيه، قال لا بأس به على وجه التعليم.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم شك في طوافه من سماع

(1/213)


ابن القاسم وجه القول في هذه المسألة والمعنى الذي من أجله وقع التخفيف فيها، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك وبالله التوفيق.
مسألة
وقال في التي تستحاض فتترك الصلاة في أيام حيضتها وفي الاستظهار، وتترك الصلاة بعد الاستظهار أياماً جاهلة. قال: قال مالك لا تعيد الصلاة للأيام التي تركت الصلاة فيها جاهلة. قال ابن القاسم: ولو أعادت كان أحب إلي، ولكن قد قال مالك لا تعيد.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أنه لا قضاء عليها لصلاة الأيام التي تركت الصلاة فيها بعد أيام استظهارها جاهلة متأولة وإن زادت على خمسة عشر يوماً، ومثله في مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان، قال ولو طال بالمستحاضة والنفساء الدم فلم تصل النفساء ثلاثة أشهر ولا المستحاضة شهراً لم تقضيا ما مضى إذا تأولتا في ترك الصلاة دوام ما بهما، ولتصليا من حين يستيقنان بالغسل للنفساء والوضوء للمستحاضة. وقد قيل في المستحاضة إن كانت تركت بعد أيام أقرائها يسيراً أعادته، وإن كان كثيراً فليس عليها قضاؤه بالواجب. ووجه هذا القول أن الحائضة لما كانت مأمورة بترك الصلاة في الحيض فتركت الصلاة بعد أيام استظهارها ظناً منها أن ما بها من الدم من الحيض الذي أمرت بترك الصلاة فيه، سقط عنها القضاء بسقوط الأثم في الترك بالتأويل، كما سقطت الكفارة عمن أفطر في رمضان من غير عذر متأولاً، إذ لا يجب قضاء الصلاة إلا على من نسيها أو نام عنها أو تركها مفرطاً فيها، وهذه ليست بمفرطة ولا نائمة ولا ناسية.
وقد سألت شيخنا الفقيه أبا جعفر بن رزق رحمه الله عن معنى رواية أبي زيد هذه، فقال معنى قول مالك فيها لا تعيد الصلاة للأيام التي تركت الصلاة فيها جاهلة أنه أراد ما بينها وبين الخمسة عشر يوماً مراعاة لقول من

(1/214)


يقول إنها لا تغتسل ولا تصلي قبل الخمسة عشر يوماً، وهو أحد قوليه. وأما تركت الصلاة فيه بعد خمسة عشر يوماً فلا بد لها من القضاء، إذ لا اختلاف في أنه يجب عليها أن تغتسل وتصلي بعد الخمسة عشر يوماً، فلا تعذر في ذلك بجهل، لأن المتعمد والجاهل في حكم الصلاة سواء. وكذلك قال ابن حبيب في الواضحة. وقد اختلف في المرأة إذا تمادى بها الدم فاغتسلت بعد الاستظهار إلى تمام الخمسة عشر يوماً، فقيل إن حكمها حكم المستحاضة تصلي إيجاباً وتصوم ويجزيها صومها ويطؤها زوجها، وإنها تغسل عند تمام الخمسة عشر يوماً غسلاً ثانياً، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، بدليل قوله في كتاب الحج الثالث منها إنها تطوف بعد الاستظهار، إذ قال يحبس عليها كريها أيامها المعتادة والاستظهار، خلاف ما تأول ابن أبي زيد عليه من أنها لا تطوف ويفسخ الكراء بينها وبينه إن تمادى بها الدم أكثر من أيام الاستظهار. وقيل إنها تغتسل بعد الاستظهار استحباباً وتصلي احتياطاً وتصوم وتقضي الصيام ولا يطؤها زوجها ولا تطوف حتى تبلغ خمسة عشر يوماً، فتغتسل حينئذ غسلاً واجباً وتكون من حينئذ مستحاضة، وهو دليل رواية ابن وهب عن مالك في المدونة، فرأيت أن أحتاط لها فتصلي وليس ذلك عليها أحب إلي من أن تترك الصلاة وهي عليها، فإن تركت الصلاة ما بين الاستظهار والخمسة عشر يوماً وجب عليها أن تقضيها على قياس رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، واستحب لها ذلك على رواية ابن وهب عن مالك فيها، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، وقول مالك فيه لا قضاء عليها لها قول ثالث، فقف على ثلاثة أقوال منصوص عليها في هذا الموضع.
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الحياض التي تكون بالريف يغتسل فيها النصراني والجنب، أيتوضأ منها؟ قال: لا. قلت: فإن اغتسل

(1/215)


فيها جنب أيجزيه الغسل؟ قال لا، لأن هو نجس. قيل له: فإن كان لا يغتسل فيها جنب ولا نصراني؟ قال فلا بأس بالوضوء منها وإن كانت الكلاب تشرب منها، وإن كانت الخنازير تشرب منها فلا يتوضأ منها.
قال محمد بن رشد: قوله في الحياض التي من شأنها أن يغتسل فيها الجنب والنصراني إنها نجسة لا يتوضأ منها ولا يجزي أحداً الغسل فيها صحيح، لما يغلب على الظن من حصول النجاسة الكثيرة فيه وإن لم يتبين تغير أحد أوصافه عن ذلك. ومثل هذا في الواضحة. ولمالك في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها من سماع ابن القاسم في بعض الروايات من هذا الكتاب. وقوله إنه لا بأس بالوضوء منها وإن كانت الكلاب تشرب منها صحيح أيضاً، لقول عمر بن الخطاب للذي سأله عمرو بن العاص هل ترد حوضه السباع: لا تخبرنا يا صاحب الحوض، فإن نرد على السابع وترد علينا، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراباً وطهوراً)). والكلب أيسر مؤنة من السباع، إذ قد قيل إنه محمول على الطهارة حتى يوقن أن في فيه نجاسة، وإن أمر النبي عليه السلام بغسل الإناء سبعاً من ولوغه فيه إنه تعبد لا لنجاسة. وأما قوله وإن كانت الخنازير تشرب منها فلا يتوضأ منها فهو بعيد، إذ لم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الخنزير وغيره من السباع في قوله: ((لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراباً وطهوراً))، ولا فرق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بين ذلك أيضاً في قوله لصاحب الحوض، لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا. ولو كان الخنزير يفترق في ذلك من سائر السباع لسألا صاحب الحوض عن ذلك ولبينا الحكم في ذلك والله أعلم. وفي التفريق لابن الجلاب أن سؤر الكلب والخنزير من

(1/216)


الماء مكروه، ومن الطعام مستعمل إلا أن يكون في خطمهما نجاسة، ومعناه في كراهية سؤرهما من الماء إنما هو إذا شربا من الماء اليسير، وأما إذا شربا من الحوض والماء الكثير فلا وجه للكراهة فيه لما ذكرناه مما جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب في جماعة من الصحابة وبالله التوفيق [لا شريك له وهو نعم المولى ونعم النصير].
[تم كتاب الوضوء الثاني بحمد الله وحسن
عونه، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى
نبيه وعبده. يتلوه كتاب الصلاة الأول]
* * * * * * * * * *
* * * *

(1/217)