البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة بسم الله
الرحمن الرحيم،
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
كتاب الصلاة الأول
من سماع ابن القاسم من كتاب القبلة
قال سحنون أخبرني ابن القاسم قال: سمعت مالكاً
يقول في تفسر الذين هم في صلاتهم خاشعون قال
الإقبال عليها والخشوع فيها.
قال محمد بن رشد: الخشوع في الصلاة هو التذلل
لله فيها والاستكانة والخضوع بالخوف الحاصل في
قلب المصلي باستشعاره الوقوف بين يدي خالقه في
صلاته ومناجاته إياه فيها، فمن قدر الأمر حق
قدره ولم يفارق الخوف قلبه خشع في صلاته وأقبل
عليها ولم يشغل سره بسواها وسكنت جوارحه فيها
ولم يعبث بيده ولا التفت إلى شيء من الأشياء
بعينه، وتوجهت المدحة من الله تعالى إليه على
ذلك بقوله تعالى: ((قد أفلح المؤمنون الذين هم
في صلاتهم خاشعون)). وقد روي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أبصر رجلاً يصلي وهو يعبث
بلحيته في صلاته فقال لم يخشع هذا في صلاته
ولو خشع لخشعت جوارحه ثم قال تفقهوا واسكنوا
في صلاتكم. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال: ((من علم النبوءة الاستكانة في الصلاة))
وكان عبد الله بن
(1/219)
مسعود إذا قام
في صلاته كأنه ثوب ملقى. فقليل من الصلاة مع
الإقبال عليها والفكرة فيها خير من الكثير مع
اشتغال القلب عنها. وروي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان إذا وقف في صلاته رفع بصره
نحو السماء فلما نزلت: ((الذين هم في صلاتهم
خاشعون)) جعل يصره موضع سجوده بتواضع واستشعار
خوف. وليس جعل المصلي بصره في موضع سجوده
بواجب عليه، والذي ذهب إليه مالك، رحمه الله،
أن يكون بصره أمام قبلته من غير أن يلتفت إلى
شيء أو ينكس بصره، وهو إذا فعل ذلك خشع بصره
ووقع في موضع سجوده على ما جاء عن النبي صلى
الله عليه وسلم، وليس بضيق عليه أن يلحظ ببصره
الشيء من غير التفات إليه، فقد جاء ذلك عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وبالله التوفيق.
مسألة
قال ابن القاسم: وسمعت مالكاً وسئل عن الإسراع
في المشي إلى الصلاة إذا أقيمت، قال لا أرى
بذلك بأساً ما لم يسع أو يخب.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ثوب بالصلاة
فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم
السكينة)) الحديث. فإذا خاف الرجل أن تفوته
الصلاة أو شيء منها فلا بأس أن يزيد في مشيه
ويسرع فيه ما لم يخرج بذلك عن حد السكينة
والوقار المأمور به في ذهابه إلى الصلاة. وقد
فعل ذلك عبد الله بن عمر، رضي الله عنه، سمع
الإقامة
(1/220)
وهو بالبقيع
فأسرع المشي إلى المسجد. وكذلك إن كان الرجل
راكباً لا بأس أن يحرك دابته ليدرك الصلاة،
قاله في آخر رسم يسلف بعد هذا، ومعناه ما لم
يخرج بذلك عن حد السكينة والوقار كالماشي
سواء، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن رجل دخل مع قوم في صلاتهم وهو
يظن أنها ظهر، فلما ركع ركعة أو ركعتين سلم
إمامهم فتبين له أنه العصر، قال يقطع صلاته
بتسليم ثم يستأنف الظهر ثم يصلي العصر، لأنه
لا ينبغي أن يصلي نافلة ولم يصل الفريضة. وإن
كان الإمام سلم وقد صلى معه ركعة أو ثلاثاً
فليشفع بأخرى ثم يسلم ثم يبتدئ صلاتيه
كلتيهما.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في المذهب أنه لا
يجوز للرجل أن يأتم في صلاته بمن يصلي غير تلك
الصلاة، لأن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة إمامه،
وإنما الاختلاف فيمن ائتم به من يصلي تلك
الصلاة بعينها على غير الصفة التي يصليها هو
كالسفر والحضر أو الظهر والجمعة، على ما سيأتي
بعد هذا في هذا الرسم، وفي رسم استأذن من سماع
عيس، وفي أول سماع سحنون. ولهذا قال في هذه
المسألة في الذي دخل مع القوم وهو يظن أنها
ظهر ركع ركعتين وسلم إمامهم تبين له أنها
العصر، إنه يقطع صلاته بتسليم ثم يستأنف
الصلاتين، لأن لو أتم الصلاة معه لم تجزه
باتفاق ولوجب عليه إعادتها أبداً. وقوله في
آخر المسألة وإن كان الإمام سلم وقد صلى معه
ركعة أو ثلاثاً فليشفع بأخرى خلاف قوله في
أولها إنه يقطع من الركعة والركعتين، لأن لا
ينبغي له أن يصلي نافلة ولم يصل الفرضين فهما
قولان قالهما مالك في وقتين، فأخطأ المؤلف بأن
جمع بينهم فنسق القول الثاني على الأول كأنه
تفسير له. فالقول الأول على ما ذهب إليه ابن
حبيب من أنه من ذكر
(1/221)
صلاة الظهر وهو
يصلي العصر أو صلاة المغرب وهو يصلي العشاء
وحده أو مع إمام أنه يقطع متى ما ذكر كان على
شفع أو على وتر، ويصلي الصلاة التي ذكر لأنه
في خناق من وقتها، ثم يستأنف التي كان فيها،
بخلاف من ذكر صلاة قد خرج وقتها وهو في صلاة
أنه يتمها إن كان مع الإمام، ويشفع بركعة إن
كان وحده وذكر وهو في وتر. والقول الثاني على
ما في المدونة في الذي يذكر الظهر وهو مع
الإمام يصلي العصر إنه يتمادى معه ثم يعيد.
وعلى ما في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب في
الذي يذكر الظهر وهو يصلي العصر لنفسه أنه يتم
ركعتين. وسيأتي الكلام عليهما في موضعها إن
شاء الله. ولو علم ساعة دخل مع القوم في
صلاتهم أنها العصر لتمادى مع الإمام إلى تمام
ركعتين على القول الثاني ولم يتمم معه الصلاة،
إذ لا تجزيه باتفاق لاختلاف نيته ونية إمامه،
بخلاف الذي يذكر الظهر وهو في العصر مع الإمام
ويقطع متى ما ذكر على القول الأول. ويحتمل على
بعد في التأويل أن يريد بقوله ثم يستأنف الظهر
ثم يصلي العصر أي يستأنفهما ولا يتنفل قبلها
نافلة يبتدئها بعد سلامه من الصلاة التي كان
فيها مع الإمام، فيعود قوله لأنه لا ينبغي له
أن يصلي نافلة ولم يصل الفريضة على نافلة
يبتدئها بعد سلامه من الصلاة التي كان فيها مع
الإمام، وإن كان لم يتقدم لذلك ذكر، ذلك مثل
قوله في المدونة: إن من ذكر صلاة نسيها فلا
يتطوع قبلها، ويكون آخر المسألة مفسراً لأولها
لا اختلافاً من القول، وبالله التوفيق.
مسألة
قال ابن القاسم: وسمعت مالكاً قال وسئل عمن
قامت عليه صلاة الجماعة وهو في مكتوبة يصليها
لنفسه في المسجد، قال إن طمع أن يفرغ منها
ويدرك الصلاة مع الإمام أتمها ثم سلم ودخل مع
الإمام، وإن أيس من ذلك قطعها ثم دخل مع
الإمام فصلى، فإذا
(1/222)
فرغ رجع
فاستأنف الصلاتين كلتيهما: التي كانت قبلها ثم
التي كانت بعدها التي كان مع الإمام فيها. قال
ابن القاسم: وأحب إلي أن يتمم ركعتين إن كان
قد ركع ركعة ولا يطمع أن يدرك. قال أصبغِ: إلا
أن يخاف الفوات من ركعة الإمام فيقطع من ركعته
بسلام.
قال محمد بن رشد: قوله إن طمع أن يفرغ منها
ويدرك الصلاة مع الإمام أتمها، يريد إن طمع أن
يفرغ منها قبل أن يركع الإمام الركعة الأولى
من صلاته فيدرك الصلاة كلها مع الإمام، وسواء
أقيمت عليه الصلاة قبل أن يركع أو بعد أن
يركع. وهذا ما لا اختلاف فيه لوجوب الصلاة
التي كان فيها عليه قبل الصلاة التي قامت
لعيه، بخلاف من قامت عليه الصلاة وهو يصلي تلك
الصلاة بعينها لنفسه، هذا قد قال فيه في
المدونة إنه إن لم يركع قطع وإن كان يدرك أن
يصلي ركعتين قبل أن يركع الإمام. وقوله وإن
يئس من ذلك قطعها، ظاهره إن يئس من إتمام
صلاته قبل أن يركع الإمام قطع كان قد ركع أو
لم يركع، وإن كان يدرك أن يتمم ركعتين قبل أن
يركع الإمام خلاف ما استحب ابن القاسم. وفي
قوله ثم دخل مع الإمام فصلى فإذا فرغ استأنف
الصلاتين نظر، لأنه إنما يصلي مع الإمام على
أنها نافلة إذ لا يجوز له أن يصلي العصر قبل
الظهر، وقد قال في المسألة التي قبل هذه إنه
لا ينبغي له أن يصلي نافلة ولم يصل الفريضة.
ومثله في المدونة، فإنما استحب ذلك في هذه
المسألة لما عليه في الخروج من المسجد بعد
إقامة الصلاة من أن يعرض نفسه لسوء الظن، ولم
يلتفت إلى هذا المعنى في المدونة. وقال في
سماع سحنون إنه يضع يده على أنفه ويخرج. وإذا
جاز له أن يصلي مع الإمام وتكون صلاته معه
نافلة، فالقياس على هذا إذا كان قد ركع أن لا
يقطع إن كان يدرك أن يشفع ركعة بركعة أخرى قبل
أن يركع الإمام، لأنه قد حصل معه ركن من عمل
الصلاة فلا ينبغي له أن يبطله، لقول الله عز
وجل:
(1/223)
((ولا تبطلوا
أعمالكم)) إلا في موضع لا يجوز له التنفل فيه
على ما استحب ابن القاسم، فلم يجز مالك في هذه
المسألة على قياس، وبالله التوفيق.
مسألة
قال ابن القاسم: وسمعت مالكاً قال فيمن صلى
وفي ثوبه دم من دم الحيضة قد علم به قبل أن
يدخل في الصلاة ثم نسيه حتى فرغ من صلاته أو
لم يكن رآه، قال مالك: إن كان يسيراً لم أر
عليه إعادة، وإن كان كثيراً رأيت أن يعيد
الصلاة ما كان في وقتها. قال ابن القاسم: قال
لي مالك دم الحيضة وغيره سواء. قال سحنون وروى
علي بن زياد وابن نافع وابن الأبرش [والتونسي]
عن مالك أن دم الحيضة كالبول والرجيع
والاحتلام يرجع من الصلاة من قليله وكثيره
[وتعاد الصلاة من قليله وكثيره] في الوقت.
قال محمد بن رشد: وجه رواية ابن القاسم عن
مالك في مساواته بين دم الحيضة وغيره [من
الدماء أن الدم اليسير لما خفف وسومح فيه
للمشقة الداخلة على الناس في التوقي منه لأنه
غالب] كدم البراغيث، وإذ لا ينفك الإنسان في
غالب الأحوال من بثرة تكون في جسمه، وجب أن
يخفف ذلك للحائض لأنها لا تنفك في الغالب من
أن يصيب ثوبها ذلك، وأن يخفف للرجل أيضاً
لحاجته أن يصلي في ثوب امرأته، ولأنه لما
استخف له الدم اليسير كان حكم ما لم يخرج من
بدنه حكم ما خرج من بدنه. وكذلك
(1/224)
دم الميتة على
هذه الرواية إذ لا تأثير للذكاة في تطهير
الدم، فلا فرق بين دم ما ذكي ودم الميتة كما
لا فرق بينه وبين دم الحي، وبالله التوفيق.
مسألة
قال ابن القاسم: وسمعت مالكاً قال: حدثني نافع
أن عمر بن الخطاب كره دخول الكنائس والصلاة
فيها. قال مالك وغيره. أحب إلي لموضع وطء
أقدامهم ونجسهم. قال سحنون: أحب إلي أن يعيد
من صلى في كنيسة كان لضرورة أو لغير ضرورة ما
كان في الوقت، وإنما هي عندي بمنزلة من صلى
بثوب النصراني أنه يعيد الصلاة كان لضرورة أو
غير ضرورة.
قال محمد بن رشد: الظاهر من مذهب عمر بن
الخطاب، رضي الله عنه، على ما وقع له ها هنا
وفي المدونة وفي رسم الصلاة الثاني من سماع
أشهب أنه كره دخول الكنائس والصلاة فيها
لكونها بيوتاً متخذة للشرك بالله والكفر به،
فلا ينبغي الصلاة فيها على مذهبه وإن بسط
ثوباً طاهراً لصلاته. وأما مالك، رحمه الله،
فإنما كره الصلاة فيها لما يتقى من نجاستها،
فإن صلى فيها على مذهبه دون حائل طاهر أعاد في
الوقت، إلا أن يكون اضطر إلى النزول فيها فلا
يعيد صلاته إذا لم تتحقق عنده نجاستها. يبين
هذا من مذهبه ما وقع في المدونة وفي رسم
الصلاة الثاني من سماع أشهب. وأما سحنون
فحملها على النجاسة، وحكم للمصلي فيها بحكم من
صلى بثوب النصراني، فاستوت في ذلك عنده
الضرورة وغير الضرورة. وإلى هذا ذهب ابن حبيب،
إلا أنه قال يعيد أبداً إن صلى فيها دون حائل
طاهر على أصله فيمن صلى على موضع نجس أو بثوب
نجس عامداً أو جاهلاً أنه يعيد أبداً. وقول
سحنون أظهر أنه لا إعادة عليه إلا في الوقت إذ
لم يوقن بنجاسة
(1/225)
الموضع الذي
صلى عليه. وهذا في الكنائس العامرة، وأما
الدارسة العافية من آثار أهلها فلا بأس
بالصلاة فيها، قال ابن حبيب، ولا اختلاف أحفظه
في ذلك إذا اضطر إلى النزول فيها، وأما إذا لم
يضطر إلى النزول فيها فالصلاة فيها مكروهة على
ظاهر مذهب عمر بن الخطاب، ولا تجب إعادتها في
وقت ولا غيره. وقد قال في هذا الحديث في رسم
اغتسل من هذا السماع من كتاب الجامع إنه كان
يكره الصلاة في الكنائس التي فيها الصور، وفي
ذلك دليل على أنه إنما كره الصلاة في الكنائس
العامرة لأن العامرة هي التي تكون فيها الصور.
وفي أول رسم البز مسألة فيها معنى من هذه
سنتكلم عليه إذا مررنا به إن شاء الله تعالى،
وبه التوفيق.
مسألة
قال ابن القاسم: وسمعت مالكاً قال لا ينبغي
لقوم سفر أن يقدموا مقيماً يتم بهم الصلاة لكي
يتموا الصلاة، فإن صلى بمهم فصلاتهم تامة،
ولكن إن قدموه لسنه أو لفضله أو لأنه صاحب
المنزل فليصلوا بصلاته المقيم.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما يأتي في رسم شك
في طوافه وفي رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب
ومذهب مالك، رحمه الله، وجميع أصحابه الذي
تأتي عليه مسائله ومسائلهم أن قصر الصلاة في
السفر سنة من السنن التي الأخذ بها فضيلة
وتركها إلى غير خطيئة، فلذلك قال إنه لا ينبغي
أن يقدموا مقيماً يتم بهم الصلاة، لأن فضيلة
السنة في القصر آكد من فضيلة الجماعة، واستحب
أن يقدموا ذا السن والفضل لما في الصلاة خلفه
من الرغبة، أو صاحب المنزل لما في ترك
اهتمامهم به من بخسه حقه إذ هو أحق بالإمامة
في منزلة منهم، وبالله التوفيق.
(1/226)
مسألة
قال مالك: فيمن مر بقوم فصلى معهم، فلما صلوا
ركعتين سلم إمامهم، فتبين له أنهم مقيمون
وسبقوه بركعتين، وكان يظن أنهم قوم سفر، قال
يعيد أحب إلي. قال سحنون: وذلك إذا كان الداخل
مسافراً.
قال محمد بن رشد: قول سحنون مفسر لقول مالك،
لأنه لو كان مقيماً لأتم صلاته ولم يضره وجوده
القوم على خلاف ما حسبهم عليه من القصر
والإتمام، لأن الإتمام واجب عليه في الوجهين،
فلا تأثير لمخالفة نيته لنية إمامه في ذلك.
وقول مالك يعيد أحب إلي، يريد في الوقت وبعده،
أتم صلاته بعد صلاة الإمام أو سلم معه من
الركعتين على ما اختاره ابن المواز وقاله ابن
القاسم في رسم استأذن من سماع عيسى. وقال ابن
حبيب: إنه يتم صلاته ويعيد في الوقت، وقيل لا
إعادة عليه وهو قول أشهب في أول سماع سحنون.
ووجه قول مالك في إيجاب الإعادة عليه أبداً
مخالفة نيته لنية إمامه، لأنه إن سلم معه من
الركعتين فقد خالفه في النية والفعل، ففسدت
صلاته عنده بذلك، وإن أتم صلاته فقد خالفه في
النية خاصة وأتم صلاته على خلاف ما أحرم به.
ولم يراع ابن حبيب شيئاً من ذلك فقال إنه يعيد
في الوقت على أصله في المسافر إذا أتم صلاته
أنه يعيد في الوقت وإن كان صلى في جماعة ما لم
تكن الجماعة في المساجد الثلاث أو جوامع
الأمصار، ولا راعى أشهب شيئاً من ذلك فقال إنه
لا إعادة عليه. وأما إذا دخل المسافر مع القوم
وهو يظنهم حضريين فألفاهم مسافرين سلموا من
ركعتين، فقال مالك: فيما يأتي بعد هذا في هذا
الرسم إن صلاته تجزيه، وذلك خلاف أصله في هذا
المسألة في مراعاة مخالفة نيته لنية إمامه،
وخلاف مذهبه في المدونة لأنه قال فيها في
المسافر إذا أحرم بنية أربع ركعات ثم بدا له
فسلم من ركعتين إنها لا تجزيه. وقال ابن حبيب
وأشهب: إن صلاته جائزة على
(1/227)
أصله في ترك
مراعاة مخالفة نيته لنية إمامه في الحضر
والسفر وإتمامه على خلاف ما أحرم به من ذلك.
ولابن القاسم في كتاب ابن المواز أن صلاته لا
تجزيه على أصل مالك في هذه المسألة، وهو
اختيار ابن المواز، أن صلاته لا تجزئه في
الوجهين جميعاً لمخالفة نيته لنية إمامه في
ذلك. وقال سحنون في هذا الرسم إنه يعيد في
الوقت. ولو دخل المسافر خلف القوم يظنهم
مقيمين فلما صلوا ركعتين سلم إمامهم فلم يدر
إن كانوا مقيمين أو مسافرين لأتم صلاة مقيمين
أربعاً، ثم أعاد صلاة مسافر، قاله في رسم
استأذن من سماع عيسى، لاحتمال أن يكون الإمام
مسافراً. ولو دخل خلفهم ينوي صلاتهم وهو لا
يعلم إن كانوا مقيمين أو مسافرين لأجزأته
صلاته قولاً واحداً. والحجة في ذلك ما جاء من
أن علي بن أبي طالب وأبا موسى الأشعري قدما
على النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
محرمين، فسألهما، عليه السلام، بم أحرمتما
فكلاهما قال قلت لبيك إهلالاً كإهلال النبي
صلى الله عليه وسلم فصوب فعلهما وأمرهما بما
يعملان في بقية إحرامهما.
ومما يتعلق بهذه المسألة ويختلف هل يوافقها في
المعنى والقياس أم لا، مسألة الرجل يأتي
المسجد يوم الجمعة وهو يظنه يوم الخميس، أو
يوم الخميس وهو يظنه يوم الجمعة، فقيل إنهما
متفقان في المعنى، وإن الذي يأتي يوم الخميس
وهو يظنه يوم الجمعة بمنزلة المسافر يدخل خلف
القوم وهو يظنهم مسافرين فيجدهم مقيمين، لنهما
دخلا مع الإمام جميعاً بنية ركعتين فصليا معه
أربعاً؛ وإن الذي يأتي يوم الجمعة ويظنه يوم
الخميس بمنزلة المسافر يدخل مع القوم وهو
يظنهم مقيمين فيجدهم مسافرين، لأنهما جميعاً
دخلا مع الإمام بنية أربع فصليا معه ركعتين.
فعلى هذا يدخل في كل مسألة منهما ما في
صاحبتها من الأقوال، فيتحصل في كل واحدة منهما
أربعة
(1/228)
أقوال: أحدها
أن الصلاة جائزة في الوجهين جميعاً، والثاني
أنها لا تجوز في الوجهين جميعاً، والثالث
الفرق بين الوجهين، فتجوز إذا دخل بنية أربع
ركعات فصلى اثنتين، ولا تجوز إذا دخل بنية
ركعتين فصلى أربعاً، وهو الذي يأتي على قول
مالك في هذا الرسم في مسألة الحضر والسفر،
والرابع الفرق بين الوجهين أيضاً بعكس هذه
التفرقة، وهو الذي يأتي على ما في المدونة في
مسألة الخميس والجمعة. وقيل إنهما مفترقان في
المعنى، وإلى هذا ذهب أشهب وابن المواز, فقال
كل واحد منهما في مسألة الخميس والجمعة خلاف
قوله في مسألة الحضر والسفر. رأى أشهب الصلاة
جائزة في مسألة الحضر والسفر وغير جائزة في
مسألة الخميس والجمعة، ووجه الفرق بينهما في
المعنى عندهما أن صلاة الجمعة والخميس لا
تنتقل واحدة منهما عما هي عليه في حق الرجل
بدخوله مع الإمام فيها وهو يظنه غير ذلك
اليوم، فإذا صلاهما معه رأى ابن المواز أنهما
تجزئانه لأنه صلاهما كما وجبتا عليه، ولم يضره
عنده أن يحرم بنية الجمعة ويصلي ظهراً، ولا أن
يحرم بنية الظهر ويصلي جمعة، قياساً على ما
قال مالك في الرجل يدخل خلف الإمام يوم الجمعة
بعد أن رفع رأسه من الركوع وهو يظنه في الركعة
الأولى فإذا هو في الثانية إنه يقوم إذا سلم
الإمام فيصلي أربعاً بذلك الإحرام، ورأى أشهب
أنهما لا تجزئان لإحرامه بهما على غير الصفة
التي وجبت عليه؛ ورأى ابن القاسم في المدونة
أن تجزئه نية الجمعة عن نية الظهر ولا تجزئه
نية الظهر عن نية الجمعة، قال: لأن الجمعة لا
تكون إلا بنية. ووجه قوله أن الأصل هو الظهر
والجمعة طارئة عليه فلا تؤثر نية الفرع في
الأصل، وتؤثر نية الأصل في الفرع لأن المسافر
تنتقل صلاته من القصر إلى الإتمام بدخوله خلف
الإمام المقيم، علم أنه مقيم أو لم يعلم، فرأى
ابن المواز أنه إذا دخل خلف المقيم وهو يظنه
مسافراً فوجده مقيماً، أو وهو يظنه مقيماً
فوجده مسافراً، فلا تجزئه صلاته مراعاة لقول
من يرى أن القصر عليه واجب وأنه إن أم وحده أو
في جماعة أعاد أبداً؛
(1/229)
ورأى أشهب أن
صلاته جائزة مراعاة لقول من يرى أنه مخير بين
القصر والإتمام، فهذا وجه القول في هذه
المسألة موعباً، وبالله التوفيق.
مسألة
قال ابن القاسم: وسمعت مالكاً قال في من أوتر
فظن أنه لم يوتر فأوتر مرة أخرى ثم تبين له
أنه قد أوتر مرتين، قال أن يشفع وتره الآخر
ويجتزئ بالأول.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأنه لا يكون
وتران في ليلة واحدة، فيشفع وتره الآخر يريد
إذا كان بقرب ذلك ويكون نافلة له، إذ يجوز لمن
أحرم بوتر أن يجعله شفعاً، كما يجوز لمن صلى
صلاة الفريضة ركعة ثم علم أنه قد كان صلاها أن
يضيف إليها أخرى وتكون له نافلة، ولا يجوز لمن
صلى ركعة من شفع أن يجعلها وتراً ولا أن يبني
عليها فرضاً، لأن نية السنة أو الفرض مقتضية
لنية النفل، ولا تقتضي نية النفل نية السنة
ولا الفرض، وهذا كله بين، وبالله التوفيق.
مسألة
قال ابن القاسم: قال مالك لا أرى أن يؤم
الأغلف والمعتوه الناس. قلت لسحنون: فإن أم
الأغلف والمعتوه أترى علي القوم إعادة؟ قال:
أما إذا أمهم أغلف فلا إعادة عليهم، وأما
المعتوه فإنهم يعيدون.
قال محمد بن رشد: الأغلف هو الذي لم يختن،
والمعتوه الذاهب العقل. فقول سحنون مبين لقول
مالك لأن المعتوه لا تصح منه نية، فوجب أن
يعيد أبداً من ائتم به، وأما الأغلف فلا يخرجه
ترك الاختتان عن الإسلام ولا يبلغ به مبلغ
التفسيق كشارب الخمرة وقاتل النفس الذي يعيد
من ائتم بهما
(1/230)
على ما في سماع
عبد الملك، إلا أن ذلك نقصان في دينه وحاله،
لأن الختان طهرة الإسلام وشعاره. روي عن
المسيب بن رافع قال: أوحى الله إلى إبراهيم أن
تطهر فتوضأ، فأوحى إليه أن تطهر فاغتسل فأوحى
إليه أن تطهر فاختتن، فصار ذلك من ملته التي
أمر الله باتباعها، فلا تجوز إمامته ابتداء
لأن الإمامة أرفع مراتب الإسلام، فلا ينبغي أن
يؤم إلا أهل الكمال، فإن لم تجب الإعادة على
من ائتم به لأن صلاته إذا جازت لنفسه فهي تجوز
لغيره، وإنما قرن مالك بينه وبين المعتوه في
ألا يؤتم بهما ابتداءً، ولم يتكلم على الحكم
في ذلك إذا وقع. وهذا الذي قلنا هو الذي يأتي
على مذهبه. وقد روي عن ابن عباس أنه قال:
الأغلف لا تؤكل ذبيحته ولا تقبل له صلاة ولا
تجوز له شهادة، وذلك تشديد ليس على ظاهره.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((الأغلف لا يحج حتى يختتن))، ومعناه أنه
ينبغي له أن يقدم الاختتان عن الحج فيحج وهو
كامل المرتبة، لا أن الحج قبل الاختتان لا
يجزيه عن حجة الإسلام والله أعلم. وقد روي عن
الحسن أنه رخص للشيخ يسلم أن لا يختتن ولم ير
بإمامته ولا شهادته ولا ذبيحته ولا حجه بأساً.
وروي عن الليث بن سيعد أنه قال: لا يتم إسلامه
حتى يختتن وإن بلغ ثمانين سنة، والله التوفيق.
مسألة
قال مالك فيمن يدخل مع قوم مسافرين وهو يظن
أنهم مقيمون يتمون الصلاة وهو في سفر، فيدخل
يريد الإتمام معهم فسلموا من ركعتين أجزأتا
عنه. قال سحنون: لا تجزي عنه وعليه الإعادة في
الوقت لأن نيته كانت على الإتمام، وهذا خطأ لا
أعرفها.
(1/231)
قال محمد بن
رشد: قد تقدمت هذه المسألة قبل هذا والقول
فيها موعباً فلا معنى لرده، وبالله التوفيق.
مسألة
قال مالك فيمن صلى بقوم صلاة السفر وهو في
الحضر ناسياً استأنف الصلاة هو ومن خلفه.
قال محمد بن رشد: معنى قوله ناسياً أي ناسياً
لكونه في حضر يرى أنه في سفر، فلذلك قال إنه
يستأنف الصلاة هو ومن خلفه، لأنه لما أحرم
بنية صلاة السفر لم يجز له أن يبني على صلاته
تمام صلاة الحضر، وإذا لم يجز ذلك له وفسدت
صلاته لم يجز لمن خلفه البناء أيضاً على ما
صلوا معه وإن كانوا أحرموا خلفه بنية الإقامة.
ولو كان أحرم بنية الإقامة ثم نسي أنه مقيم
وظن أنه مسافر فسلم من ركعتين لجاز له البناء
ما كان قريباً، فإن سلم ومضى ولم يرجع أتموا
هم صلاتهم إن كانوا أحرموا بنية الإقامة،
وبالله التوفيق.
مسألة
قال: وسمعت مالكاً قال: من صلى صلاة الحضر وهو
في السفر ناسياً استأنف الصلاة هو ومن خلفه في
الوقت. قال سحنون: وبعد الوقت أبداً، وإن أتم
الصلاة عامداً أو جاهلاً فلا إعادة عليه إلا
في الوقت من قبل أنه متأول، فأما الناسي فإن
عليه الإعادة أبداً من قبل أن ابن القاسم قال
لي غير مرة من زاد في صلاته مثل نصفها ساهياً
أعاد الصلاة أبداً. قال سحنون: ولو صلى وهو
ناس لسفره يرى أنه في حضر أربعاً لم تكن عليه
إعادة إلا في الوقت، ولا يكون أسوأ حالاً من
الذي يتم جاهلاً أو متعمداً. قال وجميع ما
أخبرتك من جميع هذه المسألة من الجاهل
والمتعمد والناسي
(1/232)
لسفره لا إعادة
عليه إلا في الوقت، فأما الذي يقوم لصلاته وهو
مسافر فيسهو فيتم ساهياً فهذا يعيد أبداً.
قال محمد بن رشد: قصر الصلاة في السفر على
مذهب مالك سنة، فإذا أتم المسافر الصلاة في
السفر جاهلاً أو متعمداً أو متأولاً أو ناسياً
لسفره يرى أنه في حضر فلا إعادة عليه إلا في
الوقت على طريق الاستحباب ليدرك فضل السنة.
واختلف إن أحرم بنية صلاة السفر ركعتين ثم أتم
صلاته متعمداً أربعاً على قولين: أحدهما أنه
يعيد في الوقت وبعده، ووجه ذلك أنه لما أحرم
بنية القصر فكأنه قد التزم قول من يوجب القصر
فلم يصح له الإتمام على ذلك الإحرام، وقيل إنه
يعيد في الوقت. ووجه ذلك أن القصر لما لم يكن
عليه واجباً لم يوجبه عليه التشبث بالصلاة،
فعلى القول الأول: المسافر مخير بين القصر
والإتمام ما لم يتشبث بالصلاة، فإذا تشبث بها
لم يكن له أن يتم على خلاف ما أحرم عليه من
القصر أو الإتمام، وهو الذي يأتي على ما في
المدونة؛ وعلى القول الآخر المسافر مخير بين
القصر والإتمام مطلقاً، فإذا أتم صلاته وإن
كان قد أحرم بنية القصر أعاد في الوقت
استحباباً ليدرك فضل السنة. وأما إن أحرم بنية
صلاة السفر ثم أتم ساهياً ففي ذلك ثلاثة
أقوال: أحدها أنه يعيد في الوقت لأن سهوه صادف
فعلاً صحيحاً بمنزلة من صلى خامسة ساهياً ثم
ذكر سجدة من أول ركعة من صلاته؛ والقول الثاني
أنه يعيد أبداً، وهو قول سحنون ها هنا قياساً
على ما روي عن ابن القاسم أن من زاد في صلاته
مثل نصفها ساهياً فعليه الإعادة أبداً؛ والقول
الثالث أنه يسجد سجدتين بعد السلام وتجزئه
صلاته، وهو الذي يأتي على ما في رسم إن
أمكنتني من سماع عيسى في الذي يصلي المغرب خمس
ركعات ساهياً، وعلى ما في سماع أبي زيد في
الذي صلى ركعتي الفجر أربعاً ساهياً، وعلى ما
في المدونة في الذي سها فأضاف إلى الوتر ركعة
أخرى أنه يجزئه ويسجد لسهوه، وبالله التوفيق.
(1/233)
مسألة
قال ابن القاسم: وسمعت مالكاً قال في إمام سها
فلم يسجد، قال أرى أن يسجد من كان خلفه إن كان
سهوه يسجد له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن السجود قد
وجب عليهم فلا يسقط عنهم بسهوه، فإن كان
السجود مما تبطل الصلاة بتركه ولم يرجع الإمام
إلى السجود بالقرب بطلت صلاته وصحت صلاتهم،
لأن كل ما لا يحمله الإمام عمن خلفه فلا يكون
سهوه عنه سهواً لهم إذا هم فعلوه. وهذا أصل،
وبالله التوفيق.
مسألة
قال مالك فيمن شك في صلاته فبنى على اليقين
فلم يرد عليه من خلفه حتى سلم فسألهم فقالوا
قد تمت صلاتك، قال مالك إن أيقنوا ذلك له فلا
سجود عليه، وإن لم يوقنوا سجد وسجدوا. قال
مالك وقد أصاب حين سألهم. قال ابن القاسم:
وذلك رأيي، ولا يجوز هذا إلا فيمن كان معه في
الصلاة.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح، والأصل في ذلك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سلم من
ركعتين فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة يا
رسول الله أم نسيت أقبل على الناس فسألهم ورجع
إلى قولهم لما دخله من الشك بقول ذي اليدين.
وقوله إنه لا يجوز ذلك إلا فيمن كان معه في
الصلاة هو مثل ما في المدونة . ووجه ذلك أن
السنة قد أحكمت إذا شك الرجل في صلاته أن يرجع
إلى يقينه، فقوله صلى الله عليه وسلم إذا شك
أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى
(1/234)
ثلاثاً أو
أربعاً فليصل ركعة الحديث))، فكان الأصل بهذا
الحديث إذا شك الرجل في صلاته أن يرجع إلى
يقينه لا إلى يقين من سواه، فذاً كان أو
إماماً، فخرج من ذلك رجوع الإمام إلى يقين من
خلفه بحديث ذي اليدين، وبقي ما عداه على الأصل
في أن الصلاة واجبة عليه بيقين فلا يخرج منها
إلا بيقين، ولا يحصل معه يقين بقول من ليس معه
في صلاة لاحتمال أن يكون أخطأ فيما قاله، إذ
لم يلزمه من حفظها ورعايتها ما يلزم من معه في
الصلاة. وكذلك لو شك هل صلى أم لا فأخبرته
زوجته وهي ثقة أو رجل عدل أنه قد صلى، لم يرجع
إلى قول واحد منهما إلا أن يكون يعتريه ذلك
كثيراً، روى ذلك ابن نافع عن مالك في
المجموعة. وفي التفريع لأِشهب: إن شهد رجلان
عدلان أنه قد أتم صلاته أجزأه، وقد خفف ذلك
مالك أيضاً في الطواف في رسم شك في طوافه من
كتاب الحج، والطواف بالبيت صلاة. ووجه ذلك
القياس على الحقوق، وذلك بعيد، لنهما أصلان
مفترقان في المعنى، وبالله التوفيق.
مسألة
قال ابن القاسم: في مسافر حضر الجمعة [فأصاب
الإمام حدث فقدمه، قال لا أرى أن يصلي بهم،
لأن الجمعة] ليست عليه، فإن فعل فأحب إلي أن
يعيدوا الخطبة والصلاة في الوقت، فإن فات
الوقت أعادوا ظهراً أربعاً. [قال سحنون: إذا
جاء لها فأراه
(1/235)
من أهلها
وأراها لهم تامة، وقال أشهب مثل قول سحنون،
وكذلك العبد أيضاً].
قال محمد بن رشد: في بعض الروايات وكذلك العيد
أيضاً، أي أنه يجوز للمسافر أن يؤم القوم في
صلاة العيد كما يجوز له أن يؤمهم في صلاة
الجمعة، وفي بعضها وكذلك العبد أيضاً، أي أن
إمامة العبد تجوز في الجمعة كما تجوز فيها
إمامة المسافر، والروايتان جميعا صحيحتان في
المعنى، لأنه يجوز عند أشهب وسحنون للمسافر
والعبد أن يؤما في الجمعة والعيد. وأما ابن
القاسم فلا يجوز على مذهبه وروايته عن مالك في
المدونة أن يؤم المسافر ولا العبد في الجمعة
ولا في العيد، ولا أن يستخلفهما الإمام فيهما
بعد إحرامهما معه، لأن صلاة العيد لا تجب
عليهما كما لا تجب عليهما الجمعة. وقد نص على
ذلك في المدونة في العبد، والمسافر أن يؤما في
صلاة العيد لأنها تجب عليهما عنده، ولم يجز
للمسافر أن يؤم في الجمعة، وأجاز للإمام أن
يستخلفه فيها بعد الإحرام، وحكى ذلك عن مطرف
وابن الماجشون. فإن أم المسافر أو العبد في
الجمعة على مذهب من لا يجيز إمامتهما فيها
أعاد القوم صلاة الجمعة في الوقت، وقد اختلف
فيه فقيل ما لم يدخل وقت العصر. قال أبو بكر
الأبهري: فإن أدرك ركعة بسجدتها قبل دخول وقت
العصر أتمها جمعة، وإن لم يدرك ذلك أتمها
ظهراً أربعاً، وقيل ما لم تصفر الشمس، وقيل ما
بقي للعصر ركعة إلى الغروب، وهو قول ابن
القاسم في رسم استأذن من سماع عيسى. وظاهر
قوله في المدونة وإن كان لا يدرك العصر إلا
بعد الغروب، وقيل ما لم تغرب الشمس، وهي رواية
مطرف عن مالك وما في بعض روايات المدونة من
قوله وإن كان لا يدرك العصر إلا بعد الغروب
وأعاد ظهراً أربعاً بعد الوقت، وأعاد المسافر
الصلاة
(1/236)
أيضاً، قيل في
الوقت وبعده، وقيل في الوقت، وقيل لا إعادة
عليه. وهذا على اختلافهم في من جهر في صلاته
متعمداً. وأما العبد فقيل إنه لا إعادة عليه،
وقيل إنه يعيد أبداً، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله سلعة سماها
وسئل عما يتخذ الناس في المساجد التي تكون في
القرى يتخذونها للضيفان يبيتون ويأكلون فيها،
قال أرجو أن يكون خفيفا، وكره الطعام في
المساجد مثل ما يصنع الناس في رمضان. ولقد
أدركت ناساً في مسجدنا وأن الرجل ليوتى
بالشربة السويق، وما أكره ذلك، كأنه يعني
الشربة، إلا لموضع المضمضة، ولو خرج إلى باب
المسجد فشرب عليه وأكل لكان أحب إلي.
قال محمد بن رشد: المساجد إنما اتخذت لعبادة
الله، عز وجل بالصلاة والذكر والدعاء، فينبغي
أن تنزه عما سوى ذلك ما أمكن. قال الله عز
وجل: ((في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها
اسمه))، أي أمر بذلك، فمن ترفيعها أن تخلص
لأعمال الآخرة فلا يباع فيها ولا يشترى ولا
تعمل فيها الصناعات، ولا توكل فيها الألوان
ولا يلغط فيها ولا ينشد فيها شعر، ولا تنشد
فيها ضالة، ولا توقد فيها نار، ولا يغسل فيها
شيء، ولا يرفع فيها صوت. فقد كره أهل العلم
ذلك حتى في العلم. وبنى عمر بن الخطاب، رضي
الله عنه، رحبة بناحية المسجد تسمى البطيحاء
وقال من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعراً أو
يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة. وخفف مالك،
رحمه الله، في هذه الرواية للضيفان المبيت
والأكل في مساجد القرى، وأن تتخذ لذلك للضرورة
إلى ذلك بمعنى أن الباني لها الصلاة فيها يعلم
أن الضيفان سيبيتون فيها لضرورتهم إلى ذلك،
فصار كأنه قد بناها لذلك وإن كان أصل
(1/237)
بنائه لها إنما
هو للصلاة فيها لا لما سوى ذلك من مبيت
الضيفان. وكذلك يجوز لمن لم يكن له منزل أن
يبيت في المسجد، وكره الطعام فيه والشربة من
والسويق لموضع المضمضة، وأجاز شرب الماء فيه.
وهذه المعاني مذكورة في مواضع من هذا الكتاب
بألفاظ مختلفة ومعان متفقة، منها ما وقع عند
آخر رسم شك بعد هذا، وفي رسم اغتسل على غير
نية، وفي رسم الشجرة وسماع عبد المالك زونان،
في كتاب السلطان في رسم شك في طوافة من سماع
ابن القاسم عقب كتاب ذكر الحق في المسجد ما لم
يطل، وفي رسم تأخير صلاة العشاء منه إجازة
قضاء الحق فيه ما لم يكن على وجه التجارة
والصرف، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الرجل يركع ركعتي الفجر في منزله ثم
يأتي المسجد، أترى أن يركعهما؟ قال مالك: كل
ذلك قد رأيت من يفعله، فأما أنا فأحب إلي أن
يقعد ولا يركع. قال لي ابن القاسم: وقد قال لي
قبل ذلك أحب إلي أن يركع، وكأني رأتيه وجه
الشأن عنده. قال سحنون: إذا ركعهما في بيته
فلا يعيدهما في المسجد.
قال محمد بن رشد: هذا الاختلاف إنما هو اختلاف
في الاختيار وفي أي الأمرين أفضل، وإنما وقع
من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر)) وقال
أيضاً: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتي
قبل أن يجلس)) فتعارض الحديثان في الظاهر، وكل
واحد منهما يحتمل أن يكون مخصصا لعموم صاحبه،
احتمالاً واحداً. ألا ترى أنه لو قال صلى الله
عليه وسلم لا صلاة بعد الفجر سوى ركعتي الفجر
إلا لمن دخل المسجد
(1/238)
لكان كلاماً
مستقيماً، ولو قال أيضاً من دخل المسجد فليركع
ركعتين قبل أن يجلس إلا أن يكون بعد الفجر وقد
ركع ركعتي الفجر لكان أيضاً كلاماً مستقيماً،
فلما لما يتحقق أي المعنيين أراد صلى الله
عليه وسلم وقع الاختلاف المذكور. ووجه القول
بأن الركوع أفضل هو أن الصلاة فعل بر فلا يقال
إن تركها في هذا الوقت أفضل إلا أن يتحقق
النهي عن ذلك؛ ووجه القول بأن ترك الركوع أفضل
هو أن النهي أقوى من الأمر، لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ((إذا نهيتكم عن شيء
فانتهوا عنه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما
استطعتم)). وأيضاً فإن قوله: ((إذا دخل أحدكم
المسجد فليركع قبل أن يجلس)) أولى بالتخصيص في
هذا الموضع، إذ قد خصص في غيره من المواضع وهي
الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، فيحمل هذا
الموضع عليها. وهذا القول أظهر. واستحب من رأى
الركوع أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين
قبل أن يجلس)) أن يركعهما بنية الإعادة لركعتي
الفجر رغبة فيما جاء فيهما من الثواب، والله
أعلم.
مسألة
وسئل عن قراء مصر الذين يجتمع الناس إليهم
يقرئونهم، فكل رجل منهم يقرئ النفر يفتح
عليهم. قال ذلك حسن. قال ابن القاسم ولا أرى
بذلك بأساً.
قال محمد بن رشد: كان مالك يكره هذا ولا يراه
صواباً ثم رجع فخففه ولم ير به بأساً، وقع
اختلاف قوله بعد هذا في رسم حلف من هذا
السماع، وقال ها هنا ذلك حسن. ووجه الكراهة
فيه بين، وذلك إذا قرأ عليه
(1/239)
جماعة في كرة
واحدة لابد أن يفوته سماع ما يقرأ به بعضهم ما
دام يصغي إلى غيرهم ويشتغل بالرد على الذي
يصغي إليه، فقد يخطئ في ذلك الحين ويظن أنه قد
سمعه وأجاز قراءته فيحمل عنه الخطأ ويظنه
مذهباً له. ووجه تخفيفه ذلك للمشقة الداخلة
على المقرئ بإفراد كل واحد من القراء عليه إذا
كثروا. ووجه تحسينه لذلك في هذه الرواية إنما
معناه، والله أعلم، إذا كثر القراء عليه حتى
لم يقدر أن يعم جميعهم مع الإفراد، فرأى جمعهم
في القراءة أحسن من القطع ببعضهم، فهذا تأويل
ما ذهب إليه عندي، والله أعلم.
مسألة
وسئل عن عشور المصحف، فقال يعشر بالسواد وأكره
الحمرة، وذكر تزيين المصاحف بالخواتم فكرهه
شديدة، فقيل له فالفضة؟ قال: الفضة من ورائه
ولم ير به بأساً، ثم قال إني لأكره لأمهات
المصاحف أن تشكل، وإنما أرخص فيما يتعلم فيه
الغلمان، فأما الأمهات فإني أكرهه.
قال محمد بن رشد: قوله من ورائه أي من خارجه،
يريد أن لا بأس أن تحلى أغشيته بالفضة، ويروى
من روائه أي من زينته، يريد زينة أعلاه
وخارجه. وقد اختلف قوله في إجازة تحليته
بالذهب، فأجاز ذلك في كتاب ابن المواز، وهو
ظاهر ما في كتاب البيوع من موطأه، وكرهه في
كتاب ابن عبد الحكم. ووجه كراهيته لتزيين
داخله بالخواتم وتعشيره بالحمرة بين وذلك أن
القارئ فيه ينظر إلى ذلك فيلهيه ويشغله عن
اعتباره وتدبر آياته. وقد جعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم في نعليه شراكين جديدين ثم
نزعهما ورد فيهم الخلقين وقال: ((إني نظرت
إليهما في الصلاة))، وصلى، عليه السلام، في
(1/240)
خميصة شامية
لها علم فلما انصرف من الصلاة ردها إلى مهديها
إليه أبي جهم وقال: ((إني نظرت إلى علمها في
الصلاة فكاد يفتنني)). وإذا كان، عليه السلام،
خشي على نفسه الفتنة في صلاته، فهي على من
سواه متيقنة غير مأمونة، وفي هذا بيان، ولهذا
المعنى كره تزويق المسجد. وأما كراهيته لشكل
أمهات المصاحب فالمعنى في ذلك أن الشكل مما قد
اختلف القراء في كثير منه، إذ لم يجئ مجيئاً
متواتراً فلا يحصل العلم بأي الشكلين أنزل،
وقد يختلف المعنى باختلافه، فكره أن يثبت في
أمهات المصاحف ما فيه اختلاف. وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الصلاة يقرأ فيها في الركعة الأولى
بالشمس وضحاها، ويقرأ بعد ذلك في الركعة
الثانية فلا أقسم بهذا البلد، قال لا بأس
بذلك، لم يزل هذا من عمل الناس، قيل له: أفلا
يقرأ على تأليفه أحب إليك؟ قال هذا كله سواء.
قال محمد بن رشد: ذهب ابن حبيب إلى أن القراءة
على تأليفه أفضل، وحكى ذلك عن مالك من رواية
مطرف عنه. وقال ابن الحكم قال ابن حبيب وأما
أن يقرأ في الركعة الثانية سورة أخرى ليست
بإثرها إلا أنها تحتها فلا بأس به، وهو أجوز
من أن يقرأ سورة فوقها. ولعمري إن القراءة في
الركعة الثانية بما بعد السورة التي قرأ في
الركعة الأولى أحسن من أن يقرأ فيها بما
قبلها، لأنه جل أعمال الناس الذي مضوا عليه،
والأمر في ذلك واسع، لقوله عز وجل: ((فاقرءوا
ما تيسر منه))، وبالله التوفيق.
(1/241)
مسألة
وسئل عن الصلاة في السفينة قائماً أو قاعداً؟
قال بل قائما، فإن لم يستطيعوا فقعوداً. قيل
ويؤمهم قعوداً؟ قال نعم إذا لم يستطيعوا أن
يقوموا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن القيام في
الصلاة من فروضها قال تعالى: ((وقوموا لله
قانتين)) وقال: ((وسبح بحمد ربك حين تقوم))،
فلا يجوز أن يصلي جالساً من يستطيع الصلاة
قائما، فإذا لم يستطيعوا الصلاة في السفينة
قياماً كانوا كالمرضى وجاز أن يؤمهم الإمام
قعوداً وهو قاعد.
مسألة
وسئل عن القراءة في المسجد، فقال لم يكن
بالأمر القديم، وإنما هو شيء أحدث، ولم يأت
آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها،
والقرآن حسن.
قال محمد بن رشد: يريد التزام القراءة في
المسجد بإثر صلاة من الصلوات أو على وجه ما
مخصوص حتى يصير ذلك كأنه سنة مثل ما يفعل
بجامع قرطبة إثر صلاة الصبح، فرأى ذلك بدعة.
وأما القراءة على غير هذا الوجه فلا بأس بها
في المسجد، ولا وجه لكراهيتها. وقد قال في آخر
رسم المحرم بعد هذا من هذا السماع ما يعجبني
أن يقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في
الأسواق والطرق. وفي هذا بيان ما قلناه، والله
أعلم،
(1/242)
وسيأتي ما يشبه
هذا المعنى في أول رسم سن من هذا السماع وفي
رسم لم يدرك من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن القرى التي لا يكون فيها إمام إذ صلى
بهم رجل منهم الجمعة أيخطب بهم؟ قال نعم، لا
تكون الجمعة إلا بخطبة. قيل له: أيؤذن قدامه؟
قال لا، وعندنا ها هنا ـ يعني المدينة ـ إذا
لم يكن إمامنا حاضراً فصلى بنا القاضي أو
القاص الجمعة فإنما يؤذن فوق المنارة.
قال محمد بن رشد: القاص الواعظ الذي يحض الناس
على الصلاة ويعلمهم الخير، والأذان بين يدي
الإمام في الجمعة مكروه لأنه محدث، ولذلك نهى
عنه مالك، وكان لا يفعله القاضي ولا القاص،
إذا غاب الإمام. وأول من أحدثه هشام بن عبد
الملك. وإنما كان صلى الله عليه وسلم إذا
زالت. الشمس وخرج رقى المنبر، فإذا رآه
المؤذنون وكانوا ثلاثة قاموا فأذنوا في
المدينة واحداً بعد واحد كما يؤذنون في غير
الجمعة، فإذا فرغوا أخذ رسول الله صلى الله
عليه وسلم في خطبته، ثم تلاه على ذلك أبو بكر
وعمر، وزاد عثمان، رضى الله عنه، لما كثر
الناس أذاناً بالزوراء عن زوال الشمس، يؤذن
الناس بذلك أن الصلاة قد حضرت، وترك الأذان في
المدينة بع جلوسه على المنبر على ما كان عليه،
فاستمر الأمر على ذلك إلى زمان هشام بن عبد
الملك، فنقل الأذان الذي كان بالزوراء إلى
المدينة، ونقل الأذان الذي في المدينة بين
يديه، وأمرهم أن يؤذنوا معا، وتلاه على ذلك من
بعده من الخلفاء إلى زماننا، وهو بدعة. والذي
كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدون بعده هو السنة، وبالله
التوفيق.
(1/243)
مسألة
قال ابن القاسم: واستحب لكل من خطب في جمعة أو
عيدين أو استسقاء أن يتوكأ على عصى.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة وغيرها،
ولا يكتفى بعمود المنبر كان ممن يرقى عليه أو
يخطب إلى جانبه، وهي السنة من فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب توكأ على عصى
أو قوس، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون بعده. وقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((عليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي
عضوا عليها بالنواجذ))، وفي آخر رسم البز بعد
هذا ما يدل أن ذلك مباح، وهو الصحيح، والله
التوفيق.
ومن كتاب أوله شك في طوافه
قال مالك: كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يكرهون أن يترك يوم الجمعة العمل
ليلاً يصنعوا فيه كما فعلت اليهود والنصارى في
السبت والأحد.
قال محمد بن رشد: وهذا لما روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يأمر بمخالفة أهل
الكتاب، وينهى عن التشبه بهم، وروي عنه أنه
قال: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون
فخالفوهم))، وأنه قال: ((ألحدوا ولا تشقوا فإن
اللحد لنا والشق لأهل الكتاب))، وأنه قال:
((فصل ما بين صيامنا وصيام
(1/244)
أهل الكتاب
أكلة السحر))، ومثل هذا كثير.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يتنفل في الصلاة أيحصي
الآي بيده؟ قال لا بأس بذلك ولعله يريد أن
يحصي بذلك.
قال محمد بن رشد: لا وجه لإحصائه ما يقرأ به
في نافلته من الآيات إلا أن يكون أوجب على
نفسه قدراً ما من القراءة فيها، فيحتمل أن
يكون ذلك وجه الرواية، ويدل على ذلك قوله في
آخرها ولعله يريد أن يحصي بذلك أي يحصي ما
أوجب على نفسه من ذلك، إما بنذور وإما بالنية
مع الدخول في الصلاة على مذهب أشهب في أن من
افتتح الصلاة قائماً وجب عليه تمامها قائماً،
لأنه رأى أن ذلك يجب عليه بالنية مع الدخول في
الصلاة خلاف ما في سماع موسى عن ابن القاسم
أنه من أحرم بالصلاة ونوى سورة طويلة، ثم
أدركه كسل وملل أنه ليس عليه أن يتمها،
وإجازته إحصاء الآي بيديه لهذا المعنى هو نحو
ما يأتي في رسم طلق من إجازته تحويل الخاتم في
أصابعه عند ركوعه لسهوه، فتدبر ذلك، وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل عن الرجل يكون في الصلاة فيقعد للتشهد
فيضيق به الصف أيتقدم عنه؟ قال لا بأس بذلك،
وقد رأيت بعض أهل العلم يفعل ذلك.
قال محمد بن رشد: الخروج عن الصف في الصلاة
منهي عنه، فإنما أجاز ذلك للضرورة، ولو فعله
من غير عذر لكان قد أساء ولم تكن عليه
(1/245)
إعادة، قاله
ابن حبيب. وروى ابن وهب عن مالك أن عليه
الإعادة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي
بكر لما أتى وقد حفزه النفس فركع دون الصف:
زادك الله حرصاً ولا تعد لأنه حمل قوله صلى
الله عليه وسلم ولا تعد أي لا تعد إلى الركوع
دون الصف. وقد قيل إن المعنى في ذلك لا تعد
إلى التأخير عن الصلاة حتى تأتي وقد حفزك
النفس، وهو الأظهر إذ لم يأمره بإعادة تلك
الصلاة لذلك. وقد روي عن وابصة بن معبد أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في
الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة))، وهذا لا
دليل فيه، إذ قد يحتمل أن يكون إنما أمره أن
يعيد لمعنى كان منه في الصلاة، لا لأنه صلى في
الصف وحده. وكذلك ما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: ((لا صلاة لفرد خلف
الصف))، لا دليل فيه أيضاً لاحتمال أن يريد لا
صلاة له متكاملة، كقوله: لا صلاة لجار المسجد
إلا في المسجد وقوله: لا وضوء لمن لم يسم الله
وما أشبه ذلك، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن القارئ إذا أخطأ في الصلاة
أيتعوذ وهو يلقن ولا يفقه، قال أرجو أن يكون
خفيفاً. فقيل له يا أبا عبد الله فإذا
(1/246)
لم يستطع أن
ينفذ فيها أيركع أم يقرأ سورة غيرها؟ قال ذلك
واسع. قال ابن القاسم: وأحب إلي أن يبتدئ سورة
أخرى.
قال محمد بن رشد: خفف مالك التعوذ للقارئ في
الصلاة إذا أخطأ في قراءته. لأن ذلك من
الشيطان، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم عرض له الشيطان في صلاته فقال: أعوذ
بالله منك، ووسع له إذا لم ينفذ فيها أن يركع،
واستحب ابن القاسم أن يبتدئ سورة أخرى. ووجه
استحبابه أنه لما افتتح بسورة فقد نوى إمامها،
فاستحب له أن لا يركع حتى يقرأ قدر ما كان نوى
قراءته، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عمن رعف بعدما سلم الإمام، أترى أن
يسلم ويجزئ ذلك عنه؟ قال نعم إذا أصابه بعد
سلام الإمام فإني أرى ذلك مجزياً عنه أن يسلم،
فإن رعف قبل أن يسلم الإمام خرج فغسل الدم عنه
ثم رجع بغير تكبير فيجلس ثم يتشهد ويسلم.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصله، لأن
الرعاف ليس بحدث ينقض الطهارة على مذهبه، فإذ
رعف بعد سلام الإمام جاز له أن يسلم وتجزئه
صلاته لأنه على طهارة، وإن رعف قبل سلامه جاز
له البناء عنده بعد غسل الدم، وقال إنه يرجع
بغير تكبير لأن لم يخرج من صلاته بالرعاف،
وإنما يرجع إلى تمام صلاته بتكبير من خرج منها
بسلام، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن المسافر إذا زالت الشمس، أترى أن
يصلي الظهر؟ قال أحب إلي أن يؤخر ذلك قليلاً.
(1/247)
قال محمد بن
رشد: استحب مالك ـ رحمه الله ـ أن يؤخر ذلك
قليلاً لوجهين: أحدهما أن المبادرة في أول
الوقت من فعل الخوارج الذين يعتقدون أن تأخير
الصلاة عن أول وقتها لا يحل، والثاني أن
يستبين دخول الوقت ويتمكن، لأن أول الزوال خفي
لا يتبين إلا بظهور زيادة الظل، والله أعلم،
وبه التوفيق.
مسألة
وسئل مال عن الذي يدخل في صلاة الصبح والإمام
قاعد فيقعد معه، أترى أن يكبر حين يقعد أم
ينتظر حتى يفرغ فيركع ركعتي الفج ثم يصلي؟ قال
أما إذا قعد معه فأرى أن يكبر. قال ابن
القاسم: ويركع ركعتي الفجر إذا طلعت الشمس.
قال محمد بن رشد: لابن حبيب في الواضحة أنه لا
يكبر ويقعد معه، فإذا سلم قام هذا فركع ركعتي
الفجر. وقول مالك أولى وأحسن، لقول النبي صلى
الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدكم المسجد
فليركع ركعتين قبل أن يجلس)) وإن فاتته ركعتا
الفجر في وقتها فقد أدرك فضل الجماعة بدخوله
مع الإمام في آخر صلاته على ما جاء من أن من
أدرك القوم جلوساً فقد أدرك فضل الجماعة،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الصلاة في البرنس، قال هي من
لباس المصلين، وكانت من لباس الناس القديم،
وما أرى بها بأساً، واستحسن لباسها وقال هي من
لباس المسافر للبرد والمطر. قال ولقد سمعت عبد
الله بن أبي بكر وكان من عباد الناس وأهل
الفضل
(1/248)
وهو يقول: ما
أدركت الناس إلا ولهم ثوبان، برنس يغدو به
وخميصة يروح بها، ولقد رأيت ناساً يلبسون
البرانس، فقيل له ما كان ألوانها؟ قال صفر.
قال محمد بن رشد: البرانس ثياب متان في شكل
الغفائر عندنا مفتوحة من أمام تلبس على الثياب
في البرد والمطر مكان الرداء، فلا تجوز الصلاة
فيها وحدها إلا أن يكون تحتها قميص أو إزار
وسراويل، لأن العورة تبدو من أمامه. وهذا في
البرانس العربية، وأما البرانس الأعجمية فلا
خير في لباسها في الصلاة ولا في غير الصلاة،
لأنها من زي العجم وشكلهم. أما الخمائص فهي
أكسية من صوف رقاق معلمة وغير معلمة يلتحف
بها، كانت من لباس الأشراف في أرض العرب،
فقوله برنس يغدوا به، يريد يلبسه على ما تحته
من الثياب، وخميصة يروح بها، يعني يلتحفها على
ما عليه من الثياب، والله أعلم، وبه التوفيق.
مسألة
قال مالك: بلغني أن أبا سلمة رأى رجلاً قائماً
عند المنبر وهو يدعو ويرفع يديه، فأنكر عليه
وقال: لا تقلصوا تقليص اليهود. فقيل له ما
أراد بالتقليص؟ قال: رفع الصوت بالدعاء ورفع
اليدين.
قال محمد بن رشد: إنما كره رفع الصوت بالدعاء
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرفقوا
على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا))
وقد روي أن قول الله عز وجل: ((ولا تجهر
بصلاتك ولا تخافت بها)) نزلت في الدعاء. وأما
رفع اليدين عند الدعاء فإنما أنكر الكثير منه
مع رفع الصوت لأنه
(1/249)
من فعل اليهود،
وأما رفعهما إلى الله عز وجل عند الرغبة على
وجه الاستكانة والطلب فإنه جائز محمود من
فاعله، وقد أجازه مالك في المدونة في مواضع
الدعاء وفعله فيها، واستحب في صفته أن تكون
ظهورهما إلى الوجه وبطونهما إلى الأرض، وقيل
في قول الله عز وجل: ((ويدعوننا رغباً
ورهباً)) إن الرغب بكون بطون الأكف إلى
السماء، والرهب بكونها إلى الأرض، وقد وقع
لمالك بعد هذا في رسم المحرم من هذا السماع
أنه لا يعجبه رفع اليدين في الدعاء، ومعنى ذلك
الإكثار منه في غير مواضع الدعاء حتى لا يختلف
قوله، والله أعلم، وبه التوفيق.
مسألة
وسئل عن السدل في الصلاة وليس عليه قميص سوى
إلا أن يرخيه وبطنه مكشوف، قال لا بأس بذلك،
إذا كان عليه غير ذلك.
قال محمد بن رشد: صفة السدل أن يسدل طرفي
ردائه بين يديه فيكون صدره وبطنه مكشوفاً،
فأجاز ذلك إذا كان عليه غير ذلك، يريد ـ والله
أعلم ـ إن كان عليه مع الإزار غير ذلك من ثوب
يستر سائر جسده. وأجازه في المدونة وإن لم يكن
عليه إلا إزار أو سراويل تستر عورته، وحكى أنه
رأى عبد الله بن الحسن وغيره يفعل ذلك، ومعنى
ذلك إذا غلبه الحر، إذ ليس من الاختيار أن
يصلي الرجل مكشوف الصدر والبطن من غير عذر،
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية
أبي هريرة وأبي حجيفة أنه نهي عن السدل في
الصلاة فكره لذلك بعض أهل العلم أن يسدل الرجل
في صلاته وإن كان [عليه مع الإزار قميص وقال]
ذلك فعل اليهود، والله أعلم، وبه التوفيق.
(1/250)
مسألة
وسئل مالك: هل بلغك عن سعيد بن المسيب أنه كان
إذا ذكر له البادية والخروج إليها قال: فأين
صلاة العشاء؟ قال: نعم قد بلغني أن سعيد بن
المسيب كان إذا ذكر له البادية والخروج إلهيا
قال فأين صلاة العشاء.
قال محمد بن رشد: إنما كان، رضي الله عنه،
يقول ذلك إشفاقاً على فوات الصلاة في مسجد
النبي صلى الله عليه وسلم وخص بالذكر صلاة
العشاء لما جاء من الفضل في شهودها، فقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بيننا وبين
المنافقين شهود العشاء والصبح لا يستطيعونها))
أو نحو هذا. وقال عثمان بن عفان، رضي الله
عنه، من شهد العشاء في جماعة فكأنما قام نصف
ليلة، ومن شهد الصبح فكأنما قام ليلة، وذلك لا
يكون إلا عن توقيف، إذ لا مدخل في ذلك للقياس،
ولا يقال مثله بالرأي، ولعله أراد أن أهل
البادية لا يصلون العشاء والصبح في جماعة، ولا
يرى لنفسه اختياراً أن يأتم بأئمتهم لجهلهم
بالسنة، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن المراوح أيكره أن يروح بها في
المساجد؟ قال: نعم إني لأكره ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله لأن المراوح
إنما اتخذها أهل الطول للترفيه والتنعم، وليس
ذلك من شأن المساجد، فالإتيان إليها بالمراوح
من المكروه البين. وستأتي هذه المسألة مكررة
في سماع أشهب في أول رسم منه، وبالله التوفيق.
(1/251)
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يقعد مع الإمام في
الركعتين، فينعس فلا ينتبه إلا لقيام الناس،
أيقوم أم يتشهد؟ قال: بل يقوم ولا يقعد
للتشهد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله، لأن التشهد
قد فاته بنعاسه وذهب موضعه ووجب عليه أن يقوم
إذا قام الإمام، لقول النبي صلى الله عليه
وسلم ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع
فاركعوا وإذا رفع فارفعوا))، الحديث، ولا شيء
عليه في التشهد لأنه مما يحمله عنه الإمام،
ولا ينتقض وضوؤه بهذا المقدار من النوم لأن
يسير، والله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يتشهد وهو ملتف بساجه
فيشير من تحت الساج بأصبعه، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: أما الإشارة بالأصبع في
التشهد فقد استحسنه في رسم المحرم بعد هذا،
وخير فيه في رسم نذر سنة. وقوله ها هنا لا بأس
بذلك يدل على التخفيف وأن ما سواه أحسن، فلا
يعود ذلك إلا إلى الإشارة من تحت الساج، لا
إلى نفس الإشارة، لأنها السنة من فعل الرسول،
عليه السلام، على ما في الموطأ من رواية ابن
عمر. ولابن القاسم في تفسير ابن مزين أنه كان
لا يحركهما، وفي سماع أبي زيد عنه أنه قال:
رأيت مالكاً إذا
(1/252)
صلى الصبح يدعو
ويحرك أصبعه التي تلي الإبهام ملحاً. ووجه
تحريكها استشعار كونه مقبلاً على صلاته ليلا
يشتغل باله بما سواها. وقد قيل فيها لهذا
المعنى إنها مدية الشيطان ومقمعة له. ووجه
مدها دون تحريك أن يتأول فاعل ذلك بها أن الله
وحده لا شريك له، وبالله التوفيق.
مسألة
قال مالك: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
في منى إلى غير سترة، ولقد كرهت بنيان مسجد
عرفة، وذلك أن الرجل يأتي يمسك بعيره وما أشبه
ذلك وليس لكل الناس من يمسك إبلهم. ولقد أدركت
عرفة وما بها مسجد حتى بني بعد، فقيل له ما
اتخذ الناس من البنيان بمنى، فكره ذلك وقال
ذلك مما يضيق على الناس، ولم يعجبه البنيان
بها.
قال محمد بن رشد: قوله صلى رسول الله في منى
إلى غير سترة، أي إلى غير سترة مبنية مسجد ولا
غيره، لا أنه صلى إلى غير سترة أصلاً، فإنه
كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى في الصحراء
تركز له الحربة أو توضع بين يديه العنزة فيصلي
إليها. وقد بين العلة في كراهيته للبنيان بمنى
ولبنيان مسجد عرفة، ومثل ذلك كله في الحج
الأول من المدونة، وقال فيها إنما أحدث مسجدها
بعد بني هاشم بعشر سنين.
مسألة
وسئل مالك عن الأقناء التي تعلق في مسجد النبي
صلى الله عليه وسلم، أكان ذلك من الأمر
القديم؟ قال: نعم، قد كان على عهد النبي، عليه
السلام، وإنما كان لمكان من كان يأتي إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لموضع ضيافتهم
يأكلون منه وأراه حسناً أن يعلق فيه، فقيل له:
(1/253)
أفترى لو عمل
ذلك في مساجد الأمصار؟ فقال: أما كل بلد فيه
تمر فلا أرى بذلك بأساً. قال ابن القاسم: ولم
ير مالك بأساً بأكل الرطب التي تجعل في
المسجد، مثل رطب ابن عمير، وقد جعل صدقة.
قال محمد بن رشد: الأقناء العراجين من التمر،
وواحدها قنو ويجمع على أقناء وقنوان. قال الله
عز وجل: ((قنوان دانية))، وفي هذا ما يدل على
أن الغرباء الذين لا يجدون مأوى يجوز لهم أن
يأووا إلى المساجد ويبيتوا فيها ويأكلوا فيها
ما أشبه التمر من الطعام الجاف كله، وقد تقدم
هذا المعنى في أول الرسم الذي قبل هذا، ويأتي
في غير ما موضع، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن المرأة التي ليس لها الزوج
الشابة تضع الخضاب ولبس القلادة ولبس القرطين،
قال: لا بأس بذلك. فقيل لمالك: أتصلي بغير
قلادة ولا قرطين، قال: نعم لا بأس بذلك، وإنما
يفتيهن بهذا العجائز.
قال محمد بن رشد: إنما وقع السؤال عن المرأة
التي ليس لها الزوج الشابة تضع الخضاب ولبس
القلادة ولبس القرطين، من أجل ما روي أن امرأة
جاءت إلى النبي، عليه السلام، تبايعه فقال
لها: ((ما لك لا تختضبين ألك زوج. قالت نعم
قال فاختضبي فإن المرأة تختضب لأمرين إن كان
لها زوج فلتختضب لزوجها وإن لم يكن لها زوج
فلتختضب لخطبها))، ثم قال: ((لعن الله
المذكرات من النساء والمؤنثين من
(1/254)
الرجال))، فلم
يكره مالك للمرأة الشابة إذا لم يكن لها زوج
أن تدع الخضاب ولبس القلادة والقرطين، وقال:
لا بأس بذلك، ومعناه إذا لم تفعل ذلك قصداً
منها للتشبه بالرجال. وأما إن كان لها زوج
فالخضاب ولبس القلادة والقرطين مما يستحب لها
بدليل الحديث، فهو مستحب في حال ومباح في حال
ومحظور في حال. والخضاب المأمور به هو أن تخضب
المرأة يديها إلى موضع السوار من ذراعيها.
وروي أن عمر بن الخطاب خطب فقال: يا معشر
النساء إذا اختضبتن فإياكن والنقش والتطريف،
ولتخضب إحداكن يديها إلى هذا، وأشار إلى موضع
السوار. وأما صلاتها بغير قلادة ولا قرطين
فأجاز ذلك مالك ـ رحمه الله ـ ولم ير فيه
كراهة، وقال: لا بأس بذلك وإنما يفتيهن بذلك
العجائز، وقوله بين لا إشكال فيه، لأن هذه
الأشياء من المعاني التي أبيح للمرأة أن تتزين
بها. قال تعالى: ((قل من حرم زينة الله التي
أخرج لعباده والطيبات من الرزق)) فليست مما
يجب عليها في صلاة ولا غير صلاة، وأرى من كان
أصل الفتوى بوجوب ذلك عليهن في الصلاة تأول
قول الله عز وجل: ((خذوا زينتكم عند كل
مسجد))، وليس ذلك بصحيح، لأن الآية إنما نزلت
في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، فلا يحتج
منها على الوجوب إلا في ستر العورة خاصة، وأما
حسن الهيئة في اللباس وما كان في معناه فإنما
يستدل من الآية على استحبابه. وإنما نزع بها
مالك في كراهية الصلاة في مساجد القبائل بغير
أردية، وقد كره جماعة السلف للمرأة أن تصلي
بغير قلادة، روي ذلك عن ابن سيرين قال: قلت
لم؟ قال: لأن تشبه بالرجال. وروي أن أم الفضل
ابن غيلان كتب إلى أنس بن مالك: أصلي المرأة
وليس في عنقها قلادة؟ فكتب إليها: لا تصلي
(1/255)
المرأة إلا وفي
عنفها قلادة، وإن لم تجد إلا سيراً. ولم يكره
مالك، رحمه الله، أن تصلي بغير قلادة ولا
قرطين، وإن كانت القلادة والقرطان للمرأة من
زينتها وحسن هيئتها، كما كره للرجل أن يصلي
بغير رداء من أجل أن الرداء من زينته وحسن
هيئته والفرق بينهما عنده والله أعلم أن
القلادة والقرطين من الزينة التي أمر الله
تعالى أن لا تبديها إلا لزوجها أو لذي المحرم
منها، وبالله التوفيق.
مسألة
وحدثنا مالك عن عبد الرحمان بن المحبر أنه كان
مع سالم بن عبد الله في بعض المناهل، فأقيمت
الصلاة في المسجد، قال: فقلت له: الصلاة قد
أقيمت، قال: نصلي مكاننا، ولا نصلي صلاتين
صلاة السفر وصلاة الحضر.
وسئل مالك عن القوم يخرجون إلى السفر فيشيعهم
الرجل الذي له الفضل والسن فيقدمونه لفضله
ولحاله فيجلونه، فقال: أرجو أن لا يكون بذلك
بأس.
قال محمد بن رشد: رأى سالم بن عبد الله أن
القصر أفضل من الصلاة في الجماعة، وهو مذهب
مالك لأنه يرى القصر أفضل من الإتمام في
جماعة، فإن أم في جماعة لا يعيد لأن معه فضل
الجماعة مكان ما فاته من فضل القصر، وإن أم
وحده أعاد في الوقت ليدرك فضيلة القصر. وإن
قدم المسافرون مقيماً لفضله لم يكن بذلك بأس
عنده. وقد تقدم هذا المعنى في رسم القبلة،
وسيأتي في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب،
وبالله التوفيق.
(1/256)
مسألة
وقال مالك: ما رأيت أحداً ممن كنت أقتدي به
يرجع على صدور قدميه في الصلاة.
قال محمد بن رشد: يريد بين السجدتين، وهذا كما
قاله، لأن سنة الصلاة أن يكون جلوسه بين
السجدتين كهيئة جلوسه في التشهد وقد رأى
المغيرة بن حكم عبد الله بن عمر يرجع في
سجدتين في الصلاة على صدور قدميه، فلما انصرف
ذكر ذلك لي، فقال: إنها ليست سنة الصلاة،
وإنما أفعل ذلك من أجل أني أشتكي. وقال في
حديث آخر إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى
وتثني رجلك اليسرى. والسنة إذا أطلقت فهي سنة
النبي، عليه السلام، حتى تضاف إلى غيره، كما
قيل سنة العمرين ـ والرجوع على العقبين بين
السجدتين هو الإقعاء المنهي عنه عند أهل
الحديث، وعند أهل اللغة جلوس الرجل على أليتيه
ناصباً فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع، وبالله
التوفيق.
مسألة
ولقد بلغني أن ابن عمر كان يروح بعد الزوال ثم
يسير أميالاً قبل أن يصلي الظهر، فقيل له: فأي
ذلك أحب إليك؟ قال مالك: مثل الذي فعل ابن عمر
يؤخر ذلك، فقيل له: فالجمع بين الصلاتين في
السفر؟ قال: إني لأكره ذلك. قيل له: فالنساء؟
قال ذلك أخف عندي، لأن المرأة تستر وخففه
فيها. وقال مالك: ((بلغني أن عبد الله بن
رواحة أقبل إلى المسجد يوم الجمعة فسمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر
للناس اجلسوا قال: فسمعه عبد الله بن رواحة
وهو في الطريق فجلس مكانه في الطريق
(1/257)
لموضع ما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم)). فقيل له:
فأحب إليك إذا جمع في أي وقت قال: في وسط ذلك
بين الصلاتين.
قال محمد بن رشد: رواح عبد الله بن عمر، رضي
الله عنه، بعد الزوال قبل أن يصلي الظهر يدل
على أنه كان يتحرى أن لا يصلي في أول الوقت
حتى يتمكن ويمضي منه بعضه، وهو الذي استحب
مالك هنا وفي صدر هذا الرسم، لأن البدار
بالصلاة في أول الوقت من فعل الخوارج، وأن
الذي يتحرى أول الوقت لا يأمن أن يخطئ في
تحريه فيصلي قبل أول الوقت. وكراهية مالك جمع
الصلاتين في السفر معناه إذا لم يجد في السير،
وهو مثل قوله في المدونة، وخففه في المرأة
لمشقة النزول عليها لكل صلاة مع حاجتها إلى
الاستتار، مع أنه قد أجيز للرجل أيضاً وإن لم
يجد به السير، وإليه ذهب ابن حبيب، وقد روي
ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي
يدل عليه حديث معاذ بن جبل في الموطأ قوله
فيه: ((فأخر الصلاة يوماً ثم خرج فصلى الظهر
والعصر جميعاً ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب
والعشاء جميعاً))، لأن قوله ثم خرج ثم دخل يدل
على أنه كان نازلاً غير ماش في سفره. وقول
مالك إنه يجمع في وسط ذلك بين الصلاتين يريد
في آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية، وهو مثل
قوله في المدونة وحديث عبد الله بن رواحة وقع
في أثناء المسألة ولا تعلق له بشيء منها، وفيه
دليل على أنه يستحب لمن أتى الجمعة أن يترك
الكلام في طريقه إذا علم أن الإمام في الخطبة
وكان بموضع يمكن منه أن يسمع كلام الإمام. وقد
قيل إن الإنصات لا يجب عليه حتى يدخل المسجد،
وهو قول ابن الماجشون ومطرف، وقيل
(1/258)
إنه يجب عليه
منذ يدخل رحاب المسجد التي تصلى فيه الجمعة من
ضيق المسجد، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الجمع بين المغرب والعشاء إذا
جمعتا في المطر أية ساعة يجمعان؟ قال: يؤخر
المغرب قليلاً. فقيل: أيوتر من جمع قل أن يغيب
الشفق؟ قال: لا، أفلا يستطيع أن يوتر في بيته؟
قال محمد بن رشد: قوله إن المغرب تؤخر قليلاً
في الجمع بينهما هو معنى ما في المدونة، وفي
رسم أخذ يشرب خمراً بعد هذا، وهو المشهور في
المذهب المعلوم من قول مالك أن ينصرف الناس
وعليهم إسفار قبل مغيب الشفق وإظلام الوقت.
وقد روي عن مالك أنه يجمع بينهما عند الغروب،
وهو قول محمد بن عبد الحكم، وروي ذلك ابن وهب
وأشهب. وهذا القول يأتي على قياس القول بأن
المغرب ليس لها في الاختيار إلا وقت واحد،
فلما لم يجز على هذا القول تأخير المغرب بعد
الغروب إلا لعذر ولا تعجيل العشاء قبل الشفق
إلا لعذر أيضاً، واستوى الطرفان، رأى التعجيل
أولى لما للناس من الرفق في الانصراف والضوء
متمكن بعد. وأما القول الأول فإنه يأتي على
مراعاة قول من يرى أن المغرب وقتها في
الاختيار إلى مغيب الشفق، وهو ظاهر قول مالك
في موطأه، فرأى أن يكون الجمع في وسط وقت
المغرب المختار ليدرك من فضيلة وقت المغرب
بعضها وتكون العشاء قد عجلت عن وقتها المختار
للرفق بالناس كي ينصرفوا وعليهم إسفار قبل
تمكن الظلام. وقوله إنه لا يوتر قبل أن يغيب
الشفق صحيح، لأن الوتر من صلاة الليل، ولا
ضرورة تدعو إلى تعجيله قبل مغيب الشفق، وبالله
التوفيق.
(1/259)
مسألة
وسئل مالك عن الرجل ينصرف من منى إلى مكة وهو
من أهل مكة، فتدركه الصلاة من قبل أن يصل إلى
مكة، أترى يتم الصلاة؟ قال: نعم. وأهل المحصب
يتمون وراءهم مثلهم، وأرى الصلاة؟ قال: نعم.
وأهل المحصب يتمون وراءهم مثلهم، وأرى أن يحصب
الناس بالمحصب حتى يصلوا العشاء. وقد حصب رسول
الله صلى الله عليه وسلم. قال لي بعد ذلك أرى
أن يصلوا ركعتين حين ينزلون بالمحصب إذا
أدركهم الوقت فيما بين منى ومكة، وإن تأخروا
بمنى صلوا ركعتين. قال ابن القاسم: وقوله
الأول أعجب إلي أن يتموا قبل أن يأتوا المحصب.
قال مالك: حج معاوية بن أبي سفيان فصلى بمنى
ركعتين، فكلمه مروان في ذلك وقال: أنت القائم
بأمر عثمان، تصلي ركعتين وقد صلى عثمان
أربعاً، فقال: ويلك أنا صليتهما ها هنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، قال:
فلم يزل به مروان حتى صلى أربعاً.
قال محمد بن رشد: أما من قدم مكة ولم ينو
المقام بها أربعاً حتى خرج إلى الحج فلا
اختلاف في أنه يقصر بمنى وفي جميع مواطن الحج
لأنه مسافر بعد على حاله، وإنما اختلف أهل
العلم فيمن نوى الإقامة بمكة أو كان من أهلها
فخرج إلى الحج، فقيل إنه يتم لأنه ليس في سفر
يقصر في مثله الصلاة، وهو مذهب أهل العراق،
وقيل إنه يقصر لأنها منازل سفر وإن لم يكن
سفراً يقصر في مثله الصلاة. وإلى هذا ذهب
مالك، ودليله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بمكة
إلى يوم التروية، وذلك أربع ليال، ثم خرج فقصر
بمنى، فلم يختلف قول مالك إنه يقصر بمنى وعرفة
وفي جميع مواطن الحج إلا في رجوعه من منى إلى
مكة بعد انقضاء حجه إذا نوى الإقامة بمكة أو
كان من أهلها على ما تقدم، فكان أولاً
(1/260)
يقول إنه يتم
مراعاة لمن يرى أنه يتم إذ ليس في سفر تقصر في
مثله الصلاة، ثم رجع فقال إنه يقصر حتى يأتي
مكة بناء على أصله في أنه من أهل القصر دون
مراعاة منه لقول غيره. وكذلك في ذلك اختيار
ابن القاسم، وستأتي هذه المسألة متكررة في رسم
الشريكين وفي رسم المحرم وفي بعض الروايات.
وأما إتمام عثمان، رضي، الله عنه، بمنى فقد
روي أن الناس لما أنكروا عليه الإتمام قال
لهم: إني تأهلت بمكة، وقد سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: ((من تأهل في بلدة فهو
من أهلها))، ولعله تأول أن رسول الله، عليه
السلام، لم يقصر بمنى إلا من أجل أن إقامته
بمكة لم تكن إقامة تخرجه عن سفره، ولذلك قصر
بمنى. وأما معاوية بن أبي سفيان فالوجه فيما
ذكر عنه في هذه الرواية والله أعلم أنه كان
مقيماً بمكة فقصر بمنى، لأنه تأول أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قصر بها وقد كان
مقيماً بمكة، فلم يزل به مروان حتى صرفه عن
تأويله على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
كان مقيماً بمكة إلى أنه إنما قصر، عليه
السلام، لأنه لم يكن مقيماً بمكة قبل خروجه
إلى منى أو غير مقيم هو أصل الاختلاف في هذه
المسألة، فذهب مالك إلى أنه قصر بمنى وقد كان
مقيماً، وذهب أهل العراق إلى أنه إنما قصر
بمنى من أجل أنه لم يكن مقيماً بمكة، وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل عن الصلاة في النوافل في البيوت أحب إليك
أم في المسجد؟ قال: أما في النهار فلم يزل من
عمل الناس الصلاة في المسجد يجرون ويصلون،
وأما الليل ففي البيوت. وقد كان الرسول، عليه
السلام، يصلي الليل في بيته. وقال مالك: يستحب
(1/261)
للذي يصلي
بالليل في منزله أن يرفع صوته بالقرآن. وكان
الناس إذا أرادوا سفراً تواعدوا لقيام القرآن
وببيوتهم شتى، وكانت أصواتهم تسمع بالقرآن،
فأنا أستحب ذلك.
قال محمد بن رشد: استحب مالك صلاة النافلة
بالنهار في المسجد على صلاتها في البيت، لأن
صلاة الرجل في بيته وبين أهله وولده وهم
يتصرفون ويتحدثون ذريعة إلى اشتغال باله
بأمرهم في صلاته، ولهذه العلة كان السلف
يهجرون ويصلون في المسجد، فإذا أمن الرجل من
هذه العلة فصلاته في بيته أفضل، لقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصلاة
صلاتكم في بيوتكم إلا الصلاة المكتوبة))، لأنه
حديث صحيح محمول على عمومه في الليل والنهار
مع استواء الصلاة في الإقبال عليها وترك
اشتغال البال فيها. وقد سئل مالك في أول الرسم
بعد هذا عن الصلاة في مسجد النبي، عليه
السلام، في النوافل، أفيه أحب إليك أم في
البيوت؟ قال: أما الغرباء فإن فيه أحب إلي،
يعني بذلك الذين لا يريدون إقامة، فدل هذا من
قوله أن الصلاة بالنهار في البيوت لغير
الغرباء أحب إليه من الصلاة في المسجد. ومعنى
ذلك إذا أمنوا من اشتغال بالهم في بيوتهم بغير
صلاتهم، وأما إذا لم يأمنوا ذلك فالصلاة في
المسجد أفضل لهم، فقد قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((من ركع ركعتين لا يحدث نفسه فيها
بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه)). وإنما كانت
صلاة النافلة للغرباء في مسجد النبي صلى الله
عليه وسلم أفضل منها لهم في بيوتهم بخلاف
المقيمين، لأن الصلاة إنما كانت أفضل في
البيوت منها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
وفي جميع المساجد من أجل فضل عمل السر على عمل
العلانية، قال الله
(1/262)
عز وجل: ((إن
تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها
الفقراء فهو خير لكم)). قال النبي، عليه
السلام: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم القيامة
يوم لا ظل إلا ظله))، فذكر فيهم: ((من ذكر
الله خالياً ففاضت عيناه، ومن تصدق بصدقة
فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)).
والغرباء لا يعرفون في البلد ولا يذكرون
بصلاتهم في المسجد، فلما لم تكن لصلاتهم في
بيوتهم مزية من ناحية السر وجب أن تكون صلاتهم
في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل لما
جاء من : ((أن الصلاة فيه خير من ألف صلاة
فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام)).
فعلى هذا تتفق الروايات ولا يكون بينها تعارض
ولا اختلاف. ووجه استحباب مالك للذي يصلي
الليل في بيته أن يرفع صوته بالقرآن ليشيع
الأمر ويعلو ويكثر فيرتفع عنه الرياء، ويحصل
بفعله الاقتداء، فيحصل له أجر من اقتدى به،
وذلك من الفعل الحسن لمن صحت نيته في ذلك،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن البيتوتة في المسجد، فقال: أما من كان
له منزل فإني أكره له ذلك، وأما من ليس له
منزل والضيفان فلا أرى بذلك بأساً.
(1/263)
قال محمد بن
رشد: قد مضى هذا المعنى في هذا الرسم وفي أول
الرسم الذي قبله فلا معنى لإعادة القول فيه.
مسألة
وسئل عن المرأة إذا كان عليها الخضاب وهي
طاهرة أتصلي به؟ قال: غيره أحسن منه. قال ابن
القاسم: وقد قال لي قبل ذلك لا بأس به وأنا
أرى به بأساً إذا كانت على وضوء.
قال محمد بن رشد: لم يبين في هذه الرواية إن
كان الخضاب على يديها أو على رجليها وقد ربطت
عليه بالخرق، فلذلك لم ير به بأساً، ثم رأى
غيره أحسن منه، واختيار ابن القاسم أنه لا بأس
به إذا كانت على وضوء، يريد أنها لو لم تكن
على وضوء لم يجز لها أن تمسح على خضابها
وتصلي. واختلف إذا لبست على خضابها خفين وهي
غير طاهرة لتقيه بذلك، فروى مطرف عن مالك أنه
لا يجوز لها أن تمسح عليهما، وقد قيل إنه يجوز
المسح، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي. وقال
مالك في المدونة: لا يعجبني، فهي ثلاثة أقوال:
المنع والإباحة والكراهة. وأما إذا كان الخضاب
على يديها وقد ربطت عليه فلا ينبغي لها أن
تصلي به حتى تنزعه قولاً واحداً، يبين هذا ما
يأتي في رسم البز أن الرجل إذا حضرته الصلاة
وعليه الأصابع والمضرية وهو يرمي أنه ينتعهما
وكذلك يصلي إلا أن يكون في حرب ويخاف أن يطول
ذلك به لأن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن صلاة أهل مكة ووقوفهم في السقائف
للظل لموضع الحر، قال: أرجو أن يكون خفيفاً.
فقيل له: فأهل المدينة ووقوفهم في الشق الأيمن
من مسجدهم وتنقطع صفوفهم في الشق
(1/264)
الأيسر، قال
أرجو أن يكون واسعاً لموضع الشمس. ثم قال: كان
رجل يحمل بطحاء ليسجد عليها، فقيل له: أفتكره
ذلك؟ قال: نعم: ويسجد على ثوبه أحب إلي من أن
يحمل بطحاء يضعها يسجد عيها.
قال محمد بن رشد: خفف انقطاع الصفوف لضرورة
الشمس، لن التراص في صفوف الصلاة مستحب. وهذا
نحو قوله في المدونة إنه لا بأس بالصفوف بين
الأساطين إذا ضاق المسجد، وهو بين أن قوله
فيها لا بأس أن تقف طائفة عن يسار الإمام في
الصف ولا تلصق بالطائفة التي عن يمين الإمام،
معناه لا بأس بالفعل إذا وقع لا أن ذلك يجوز
ابتداء من غير كراهة والله أعلم. والبطحاء
التراب، فكره وضعها في المسجد وحملها من موضع
منه إلى غيره لما في ذلك من حفر المساجد
وتغيير سطوحها، ورأى السجود على ثوبه أخف من
ذلك، وهو كما قاله: وسيأتي في رسم المحرم
التكلم على المصلي وحده في السقائف أو مع غيره
إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن أبوال الأنعام، قال: أبوالها
خفيف قيل له: فالظبي من الأنعام؟ قال: لا،
إنما الأنعام الإبل والبقر والغنم. قال الله
تبارك وتعالى: ((ثمانية أزواج))، قال الظبي
ليس من الأنعام ولا أرى أن يتقرب إلى الله عز
وجل بشيء منها، يريد في الضحايا والعقائق وما
أشبه ذلك من سنن الإسلام.
قال محمد بن رشد: أما أبوال الإنعام فلم يختلف
قول مالك أنها طاهرة، ووقع في سماع أشهب من
كتاب الجامع أنه فرق بين أبوال الأنعام
(1/265)
وبين أبوال ما
يؤكل لحمه من غيرها. وتأول ابن لبابة أنه إنا
فرق بين ذلك في إجازة التداوي بشربها لا في
نجاستها، للحديث الذي جاء في إجازة النبي صلى
الله عليه وسلم بشرب أبوال الإبل للرهط
الغربيين الذين قدموا على النبي، عليه السلام،
فاستوخموا المدينة. والمشهور من قول مالك في
المدونة وغيرها المساواة بين أبوال الأنعام
وبين أبوال ما يؤكل لحمه من غيرها، والذي في
هذه الرواية محتمل، ودليلها إجازة الضحايا
والعقائق بجميع الأنعام، وهو ظاهر ما في سماع
أشهب من كتاب الضحايا خلاف ما في سماع يحيى من
كتبا العقيقة لمالك أن العقيقة لا يجزئ فيها
إلا الغنم.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يسمع تسليم الإمام فيسلم
تسليمة واحدة ثم يسلم الرجل ثم يسمعه يسلم
الأخرى، قال: أرى أن يسلم أخرى.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في سلام
المأموم والفذ، فكان يقول إنهما يسلمان
تسليمتين ثم يرد المأموم منهما على الإمام، ثم
رجع إلى أنهما يسلمان تسليمة واحدة ثم يرد
المأموم منهما على الإمام، والقولان قائمان في
المدونة. وفي رسم المحرم بعد هذا أن المنفرد
لا بأس أن يسلم تسليمتين، وأما الإمام فقال
فيه: ما أدركت الأئمة إلا على تسليمة واحدة،
زاد في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب، وإنما
أحدث تسليمتين منذ كانت بنو هاشم. وقوله في
هذه الرواية يأتي على قول مالك الثاني، لن لم
ير أن يسلم تسليمة أخرى اتباعاً للإمام، وهو
نحو ما في رسم نذر سنة من أنه إذا فاته من
صلاة الإمام شيء لا يقوم إلى قضائه حتى يفرغ
الإمام من سلامه كله.
(1/266)
مسألة
وسئل عن السيجان الابريسمية وقياسها حرير،
والملاحف التي يكون لها العلم الحرير قدر
الأصبعين، أيلبس ذلك؟ قال: ما أحب ذلك وما
يعجبني لنفسي ولا أراه حراماً.
قال محمد بن رشد: المحرم على الرجل لباسه هو
الثوب المصمت الخالص من الحرير، وأما ما كان
من ثياب الحرير مشوباً بغيره من قطن أو كتان
أو صوف فليس بحرام، أجازه ابن عباس، وكرهه ابن
عمر، وبكراهية لباسه أخذ مالك هذا قوله هنا
وفي الحج الثاني من المدونة وفي غير ما موضع.
وأجاز ابن حبيب الخز من ذلك خاصة، وكره ما
سواه، اتباعاً لمن استجاز لباس الخز من السلف،
وليس قوله بقياس. وأما العلم الحرير فكرهه
مالك أيضاً وأجازه جماعة من السلف وقد روي عن
عمر بن الخطاب أنه أجازه على قدر الأصبع
والأصبعين والثلاثة والأربعة، وقع ذلك في
مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان، وبالله
التوفيق.
ومن كتاب قطع الشجر
مسألة
قال ابن القاسم: سئل مالك عن طول السجود في
النافلة في المسجد، قال أكره ذلك وأكره
الشهرة.
قال محمد بن رشد: وجه كراهيته لذلك ما يخشى أن
يدخل على فاعل ذلك مما تفسد به نيته. وبالله
التوفيق.
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة
وسئل عن الزيت تقع فيه الفأرة فيطبخ صابوناً،
أترى أن يباع
(1/267)
وأن يغسل بذلك
الصابون؟ فقال إني أكره ذلك وما يعجبني. قال:
وينتصح على الناس عند غسلهم [فلا يعجبني.
قال محمد بن رشد: كره في هذه الرواية بيعه ثم
قال]: وينتصح على الناس عند غسلهم، فكأنه علل
الكراهة بذلك. فعلى تعليله لو بين لجاز البيع.
والذي يأتي على المعلوم من مذهبه في المدونة
وغيرها أن البيع لا يجوز، وهو قول جميع أصحاب
مالك حاشا ابن وهب. وأما غسل الثوب به فجائز
على مذهبه، وهو قول سحنون نصاً في سماعه من
كتاب الوضوء، وقول جميع أصحاب مالك حاشا ابن
الماجشون.
مسألة
وسئل عن الأكل في المسجد فقال: أما الشيء
الخفيف مثل السويق والطعام اليسير فأرجو أن
يكون خفيفاً، وأما الطعام مثل الألوان واللحم
فما يعجبني ذلك، فمن الناس من يشتد عليه
الصيام، ليس كل الناس في الصيام سواء. أما
الرجل الضعيف وما أشبهه فأرجو إذا كان الشيء
الخفيف فلا بأس به. فقيل له: فرحاب المسجد؟
قال لا الرحاب من المسجد للطعام الكثير فلا
يعجبني، وكره أكل الإمام الطعام في المسجد.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا في رسم شك وفي
أول رسم سلعة سماها فلا معنى لإعادته.
مسألة
وسئل عن الخيل الحصن ينزل أهلها للصلاة فلا
يستطيعون
(1/268)
أن ينضموا
لموضع تحصن خيلهم فيصلون أفراداً وإمامهم
أمامهم، قال: لا بأس بذلك. فقيل له: فإن الرجل
ربما فزع إلى فرسه ونسي رسنه فلا يجد أبداً من
أن يمسك عنان فرسه ولا يستطيع أن يضع يده على
الأرض، قال أرجوه أن يكون خفيفاً.
قال محمد بن رشد: أما إجازته لصلاتهم متفرقين
مأتمين بإمامهم من أجل تحصن خيلهم فصحيح، وأما
تخفيفه ألا يضع يده في الأرض عند سجوده لمكان
عنان فرسه فوجه ذلك الضرورة الداعية إليه إذا
لم يجد أبداً من ذلك كما قال، لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ((السجود على سبعة
آراب))، وهذا مثل ما في آخر سماع موسى، وهو
أحسن مما يأتي في رسم اغتسل، لأنه قال فيه
أرجو أن يكون في سعة ولا أحب له أن يتعمد ذلك.
مسألة
وسئل مالك عن أهل أذنة وما أشبهها من المسالح،
أترى أن يصلوا الجمعة؟ قال إن كانوا في قرى
فأرى أن يصلوا، فإنما الجمعة على أهل القرى،
فإن كانوا في قرية ولهم عدد فأرى أن يصلوا.
(1/269)
قال محمد بن
رشد: هذا نحو ما في رسم أوله صلى نهاراً ثلاث
ركعات، وهو معلوم من مذهب مالك أن الجمعة تجب
على أهل القرى المتصلة البنيان إذا كان لهم
العدد، أعني لأهل القرية دون المقيمين للرباط،
ولم يحد في ذلك حداً على مذهبه في كراهية الحد
في الأشياء، وحد ابن حبيب في ذلك الثلاثين،
كما تجب على أهل الأمصار خلاف ما يذهب إليه
أهل العراق أن الجمعة لا تجب إلا في مصر جامع.
مسألة
وحدثنا سحنون عن ابن القاسم عن مالك ((أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم جعل في نعليه شراكين
جديدين فأمر فأمر أن ينزعا وأن يرد فيهما
الخلقتين اللتين كانتا فيهما فقيل له لم يا
رسول الله فقال إني نظرت إليهما في الصلاة))
قال مالك: ولقد كره الناس تزويق المسجد حين
جعل بالذهب والفسيفساء، وأول ذلك مما يشغل
الناس في صلاتهم.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة في
كراهية تزويق المسجد. ومن هذا المعنى كره
تزيين المصاحف بالخواتم، وقد مضى ذلك في رسم
سلعة سماها، وكره في أول سماع موسى أن يكتب في
قبلة المسجد بالصبغ آية الكرسي أو غير ذلك من
القرآن لهذه العلة. ولابن نافع وابن وهب في
المبسوطة إجازة تزيين المساجد وتزويقها بالشيء
الخفيف ومثل الكتاب في قبلتها، ما لم يكثر ذلك
حتى يكون مما نهي عنه من زخرفة المساجد.
مسألة
وسئل عن صلاة الجالس، فقال متربعاً فإذا أراد
أن يسجد
(1/270)
ثنى رجليه، قيل
له: فالمحمل؟ قال متربع مثل الجالس، فقيل له
يثني رجليه عند السجود؟ قال إن صاحب المحمل
يشق عليه أن يثني رجليه، فإن لم يشق عليه
فليفعل ذلك، ولكن أخشى أن يشق عليه.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة، وهو أمر
لا اختلاف فيه، في المذهب أن الاختيار للمصلي
جالساً في النافلة أن يكون متربعاً، وأن الذي
لا يقدر على القيام في صلاته يصلي متربعاً.
وقد روي عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت:
((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى
متربعاً))، وما روي عن ابن مسعود أنه قال: لأن
أجلس على رضفتين أحب إلي من أن أتربع في
الصلاة، يحتمل أن يكون معناه على التربع في
موضع الجلوس. ومن أهل العلم من ذهب إلى العاجز
عن القيام في صلاته يجلس بدلاً من قيامه
كجلوسه في تشهده، وهو قول زفر وما ذهب إليه
الجمهور، وهو القياس، أن يفرق بين القعود الذي
هو بدل من القيام، وبين القعود الذي هو
للتشهد. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: ((صلاة القاعد على النصف من صلاة
القائم غير متربع)) وهذا يدل على نقصان صلاة
القاعد في النافلة متربعاً عن صلاته غير
متربع، إلا أنه حديث ليس بصحيح.
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته ليرفعن أمراً
وسئل مالك عن الصلاة في مسجد النبي صلى الله
عليه وسلم في النوافل،
(1/271)
أفيه أحب إليك
أم في البيوت؟ قال مالك: أما الغرباء فإن فيه
أحب إلي، يعين بذلك الذين لا يريدون إقامة.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة
في رسم شك فلا فائدة في تكريره.
مسألة
وقال مالك في الرجل يهلك يوم الجمعة فيتخلف
عليه الرجل من إخوانه ينظر في أمره مما يكون
من شأن الميت، قال مالك: ما أرى بذلك بأساً أن
يتخلف في أمره، ورآه سهلاً.
قال محمد بن رشد: شهود الجمعة فرض واجب على
الرجال الأحرار البالغين، فلا يحل لأحد منهم
التخلف عنها إلا من عذر أو علة، لقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك الجمعة
ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على
قلبه)). فمن العذر عند مالك ما ذكره من
الاشتغال بشأن الميت، ومعناه إذا لم يكن له من
يكفيه أمره وخاف عليه التغيير، وكذلك إذا كان
في الموت يجود بنفسه يجوز له التخلف عنها
بسببه قاله مالك بعد هذا. وقد روي أن عبد الله
بن عمر استصرخ على سعيد بن زيد بن عمرو بن
نفيل يوم الجمعة وهو على الخروج إليها، فتركها
وخرج إليه بالعقيق.
مسألة
وسئل مالك عن أي النداء فيه الناس البيع يوم
الجمعة؟ قال النداء الذي ينادى به والإمام
جالس على المنبر، فإذا أذن تلك الساعة رفعت
الأسواق فلم يبع فيه عبد ولا غيره.
(1/272)
قال محمد بن
رشد: ستأتي هذه المسألة متكررة في رسم نذر سنة
وفي رسم العارية من سماع عيسى، وهي مثل ما في
المدونة وغيرها، لقول الله عز وجل: ((إذا نودي
للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله
وذروا البيع)). قوله فلم يبع فيها عبد ولا
غيره، يريد أن الأسواق يمنع أن يتبايع فيها
العبيد أو غيرهم ممن لا تجب عليهم الجمعة، كما
يمنع من ذلك من تجب عليه للذريعة، فإن باع
فيها من لا تجب عليه الجمعة لم يفسخ بيعه.
وأما في غير الأسواق فجائز للعبيد والنساء
والمسافرين وأهل السجون والمرضى أن يتبايعوا
فيما بينهم، فإن باع منهم من لا تجب عليه
الجمعة ممن تجب عليه فسخ بيعه، كما يفسخ بيع
من تجب عليه ممن لا تجب عليه ما كانت السلعة
قائمة، فإن فاتت مضت بالثمن، وقيل إنها ترد
إلى القيمة وقت البيع، وقيل بعد أن تحل
الصلاة، وقيل إن البيع لا يفسخ وإن كانت
السلعة قائمة وقد باء المتبايعان بالإثم
ويتصدق البائع بالربح، وقيل ليس ذلك عليه.
مسألة
وسئل مالك عن التكبير، أيكبر الناس أيام منى
فيما بين الصلوات؟ قال نعم. فقيل له: أفرأيت
الناس في الآفاق، أترى أن يكبروا كذلك؟ قال إن
كبروا لم أر بذلك غلا خلف الصلوات. علي بن
زياد عن مالك في التكبير بعد الصلوات في أيام
التشريق: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولم
يحد فيها مالك ثلاثاً إلا أنا نستحسن ثلاثاً،
ولو زاد أحد أو نقص من ثلاثة لم أر به بأساً.
(1/273)
قال محمد بن
رشد: مثل هذا كله في المدونة، إلا أن التحديد
في رواية على بن زياد وقع فهيا من قول مالك،
وهنا من قول علي بن زياد. واستحب ابن حبيب
التهليل والتحميد مع التكبير، وهو أن يقول:
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله
أكبر ولله الحمد، وذلك كله واسع.
مسألة
وسئل مالك عن الجلوس يوم عرفة في المساجد في
البلدان بعد العصر للدعاء فكره ذلك، فقيل له
فإن الرجل يكون في مجلسه فيجتمع إليه الناس
ويكبرون، قال ينصرف، ولو أقام في منزله كان
أحب إلي.
قال محمد بن رشد: كره مالك هذا وإن كان الدعاء
حسناً وأفضله يوم عرفة، لأن الاجتماع لذلك
بدعة. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: ((أفضل الهدي هدي محمد وشر الأمور
محدثاتها وكل بدعة ضلالة))، وسيأتي هذا المعنى
متكرراً في رسم صلى نهاراً.
مسألة
وسئل مالك عن الذي يدرك الناس وهم يقنتون في
صلاتهم الصبح وقنوتهم بعد الركوع، فقنت معهم
ثم صلى، قال: هذا لم يدرك من الصلاة شيئاً
وعليه القنوت، ولم يره مثل من أدرك معهم ركعة
فقنت، ذلك القنوت مجزئ عنه ولا يقنت في
الأخرى.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح، لأنه إذا لم يدرك
الركوع من الركعة الثانية فلا يعتد بالقنوت
كما لا يعتد بما أدرك من السجود. وأما إذا
(1/274)
ركع الركوع من
الركعة الثانية فلا يقنت في الركعة التي يقضي،
كان الإمام ممن يقنت بعد الركوع فقنت معه أو
ممن يقنت قبل الركوع فلم يدركه معه، وهذا على
القول بأن الذي أدرك مع الإمام هو آخر صلاته،
وأما على القول بأن ذلك أول صلاته وعلى مذهب
أشهب الذي يقول إنه بان في القراءة وصفة
القيام والجلوس، فعليه أن يقضي القنوت أدركه
مع الإمام أو لم يدركه، والله أعلم.
مسألة
وسئل مالك عن النفر يكونون في المسجد فيخف أهل
المسجد فيقولون لرجل حسن الصوت اقرأ علينا
يريدون حسن صوته، فكره ذلك وقال إنما هذا يشبه
الغناء. فقيل له: أفرأيت الذي قال عمر لأبي
موسى: ذكرنا ربنا، قال من الأحاديث أحاديث قد
سمعتها وأنا أتقيها، ووالله ما سمعت هذا قط
قبل هذا المجلس، وكره القراءة بالألحان وقال
هذا عندي يشبه الغناء، ولا أ؛ب أن يعمل بذلك،
وقال إنما اتخذوها يأكلون بها ويكسبون عليها.
قال محمد بن رشد: إنما كره مالك رحمه الله
للقوم أن يقولوا للحسن الصوت اقرأ علينا إذا
أرادوا بذلك حسن صوته كما قال، لا إذا قالوا
ذلك له استدعاء لرقة قلوبهم بسماع قراءته
الحسنة، فقد روي أن رسول الله، عليه السلام،
قال: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى
بالقرآن))، أي ما استمع لشيء مما استمع لنبي
يحسن صوته بالقرآن طلباً لرقة قلبه بذلك. وقد
كان عمر بن الخطاب إذا رآى أبا موس الأشعري
قال ذكرنا ربنا فيقرأ
(1/275)
عنده، وكان حسن
الصوت، فلم يكن عمر ليقصد الالتذاذ بسماع
صوته، وإنما استدعى رقة قلبه بسماع قراءته
القرآن، وهذا لا بأس به إن صح من فاعله على
هذا الوجه. وقول مالك إن من الأحاديث أحاديث
قد سمعتها وأنا أتقيها، إنما اتقى أن يكون
التحدث بما روي عن عمر بن الخطاب من هذا
أتقيها، إنما أتقى أن يكون التحدث بما روي عن
عمر بن الخطاب من هذا ذريعة لاستجازة القرآن
بالألحان ابتغاء سماع الأصوات الحسان
والالتذاذ بذلك حتى يقصد أن يقدم الرجل
للإمامة لحسن صوته لا لما سوى ذلك مما يرغب في
إمامته من أجله. فقد روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: ((بادروا بالموت ستاً))
فذكرها أحدها بشر يتخذون القرآن مزامير يقدمون
أحدهم ليغنيهم وإن كان أقلهم فقهاً، فالتحذير
إنما وقع في الحديث لإيثارهم تقديم الحسن
الصوت على الكثير الفقه، فلو كان رجلان
مستويان في الفضل والفقه وأحدهما أحسن صوتاً
بالقراءة لما كان مكروهاً أن يقدم الأحسن
صوتاً بالقرآن، لأنها مزية زائدة محمودة خصه
الله بها. وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لأبي موس الأشعري تغبيطاً له بما وهبه
الله من حسن الصوت. ((لقد أوتيت مزماراً من
مزامير آل داوود)). وأما ما روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس منا من لم يتغن
بالقرآن))، فقيل معناه من لم يستغن به، أي من
لم ير أنه به أفضل حالاً من الغني بغناه، وقيل
معناه من لم يحسن صوته بالقرآن استدعاء لرقة
قلبه بذلك. وقد قيل لابن أبي مليكة أحد رواة
الحديث فمن لم يكن له حلق حسن، قال يحسنه ما
استطاع. والتأويل الأول أولى، لأن
(1/276)
قوله في الحديث
((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) يدل على أن من
لم يفعل ذلك فهو مذموم، وليس من قرأ القرآن
ابتغاء ثواب الله عز وجل من غير أن يحسن صوته
به مذموماً على فعله، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الغلمان في الكتاب، أيصلي بهم
بعضهم ولم يحتلم؟ فقال: ما زال ذلك من فعل
الصبيان وخففه، فقيل له: فالسناء في قيام
رمضان؟ فقال إن النساء ليفعلن ذلك، وغير ذلك
أعجب إلي أن يقدموا المحتلم أو العبد.
قال محمد بن رشد: إنما خفف للغلمان أن يأتموا
بالغلام، وكره ذلك للنساء في النافلة وإن كانت
الصلاة للغلمان نافلة، لأن الغلمان غير مكلفين
فلم يلزمهم انتقاء من يأتمون به، وإن كا
ائتمامهم بالبالغ الذي تلزمه المحافظة على
الطهارة والنية أولى بهم، والنساء مكلفات
داخلات في عموم قول النبي، عليه السلام:
((أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون))، فمن
النظر لهن أن لا يأتممن في صلاتهن النافلة بمن
لم يحتلم إذ لا يأمن أن يصلي بهن بغير طهارة،
إذ لا حرج عليه في ذلك. ألا ترى إلى شهادته
إذا ردت من أجل أنه لا يؤمن أن يشهد بالزور إذ
لا حرج عليه في ذلك.
مسألة
وسئل مالك عن الصماء كيف هي؟ قال: يشتمل الرجل
ثم يلقي الثوب على منكبيه ويخرج يده اليسرى من
تحت الثوب وليس عليه إزار، فقيل له: أفرأيت إن
لبس هكذا وعليه إزار؟ قال لا بأس بذلك. قال
ابن القاسم: ثم كرهه بعد ذلك وإن كان عليه
إزار. قال
(1/277)
ابن القاسم:
وتركه أحب إلي للحديث، ولست أراه ضيقاً إن كان
عليه إزار.
قال محمد بن رشد: القول الأول هو القياس، لأن
الحكم إذا ثبت لعلة وجب أن يزول الحكم بزوال
العلة. ووجه القول الثاني مخافة الذرائع ولئلا
يرى الجاهل الذي لا يعلم علة نهي النبي، عليه
السلام، عن اشتمال الصماء ما هي، فيرى العالم
يشتمل الصماء على ثوب فيشتملها على غير ثوب.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يقعد إليه النفر إبان
الصلاة فيقرأ لهم فيمر بسجدة فيسجد، أترى أن
يسجدوا؟ قال لا أحب له أن يسجد ولا يسجدوا
معه، وأرى أن ينهى عن ذلك، فإن أبى أن ينتهى
وإلا لم يقعد إليه. فقيل له فإنهم جلسوا إليه
وشأنهم القرآن فلا يسجدون إذا مروا بسجدة إذا
سجد؟ فقال أما أنا فلم أكن أفعل ذلك ولا أحب
لحد أن يفعله.
قال محمد بن رشد: قوله في إبان الصلاة، أي في
وقت تحل فيه الصلاة. وجلوس القوم إلى الرجل
الذي يقرأ القرآن ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها أن يجلسوا إليه للتعليم، فهذا جائز أن
يجلسوا إليه وواجب أن يسجدوا بسجوده إذا مر
بسجدة فسجد فيها، واختلف إن لم يسجد فيها،
فقيل إنهم يسجدون وإن لم يسجد، وهو قول ابن
القاسم في المدونة، وقيل إنه لا سجود عليهم
إذا لم يسجد، وهو قول ابن حبيب في الواضحة،
ومثله في الأثر الواقع في المدونة. وقد اختلف
في المقرئ الذي يقرأ عليه القرآن، فقيل إنه
يسجد بسجود القارئ إذا كان بالغاً في أول ما
يمر بسجدة، وليس عليه السجود فيما بعد ذلك،
وقيل ليس ذلك عليه بحال. والثاني أن يجلسوا
(1/278)
إليه ليستمعوا
قراءته ابتغاء الثواب في استماع القرآن، فهذا
جائز أن يجلسوا إليه، ويختلف أن يجب عليهم أن
يسجدوا بسجوده إذا مر بسجدة فسجد، فقال في آخر
هذه الرواية إنهم لا يسجدون بسجوده، وقال ابن
حبيب إنهم يسجدون بسجوده إلا أن يكون من لا
يصح أن يأتم به من امرأة أو صبي. والذي في
المدونة محتمل للتأويل، والأظهر منها أنهم لا
يسجدون بسجوده مثل هذه الرواية. والثالث أن
يجلسوا إليه ليقرأ ويسجد بهم، فهذا يكره أن
يجلسوا إليه وأن يسجدوا بسجوده، وهو معنى قوله
في أول هذه الرواية ونص قوله في المدونة.
مسألة
قال: وسئل عن الرجل يدخل في رمضان وقد صلى
الناس ركعة من الركعتين الأوليين من التسليمة،
كيف يصنع إذا سلم الإمام من الركعة الثانية؟
قال لا يسلم وليدخل معهم في الركعة الثالثة
بإحرامهم فإذا فرغوا من الركعة قعد فتشهد ثم
سلم ثم قام معهم فأدركهم في صلاتهم، فإذا فرغ
الإمام قام فصلى الركعة الأخرى وهي الرابعة.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أنه يدخل
معهم لركعته الثانية التي فاتته في ركعتهم
الثالثة التي ابتدؤوا بها مؤتماً بهم فيها،
وقد نص على ذلك ابن حبيب عن ابن القاسم. وهو
بعيد، لأنه يصير مؤتماً بهم في الثالثة التي
يدخل فيها معهم وهو قد أحرم قبلهم ثم يسلم من
صلاته أيضاً قبلهم، وهذا خلاف سنة الائتمام
بالإمام في الصلاة، إلا أنه نحو ما كان من فعل
أبي بكر، رضي الله عنه، إذا صلى بالناس في مرض
النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، استأخر فجلس
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فكان
أبو بكر يصلي بصلاة النبي، عليه السلام، وكان
الناس يصلون بصلاة أبي بكر
(1/279)
إذا قلنا إن
النبي صلى الله عليه وسلم كان الإمام في تلك
الصلاة على ما يدل عليه ما وقع في البخاري من
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عن يسار
أبي بكر، لأن أبا بكر قد عاد مؤتماً به صلى
الله عليه وسلم في بقية الصلاة وقد أحرم قبله
فيها، فهذا نحو ظاهر هذه الرواية وما حكى ابن
حبيب عن ابن القاسم. وقد قيل إن أبا بكر، رضي
الله عنه، لم يخرج عن إمامته في هذه الصلاة
وإنه كان الإمام فيها بالنبي، عليه السلام،
وهو الصحيح في النظر. ويصح أن يتأول عليه ما
في الأثر والذي في سماع أشهب مخالف لظاهر هذه
الرواية، وذلك أنه قال فيها يقضي لنفسه الركعة
التي فاتته ويتوخى أن يكون قيامه موافقاً
لقيامهم وركوعه موافقاً لركوعهم وسجوده
موافقاً لسجودهم من غير أن يأتم بهم فيها، وهو
أحسن وأصبح في المعنى والنظر. وسحنون وابن عبد
الحكم يقولان إنه يقضي لنفسه الركعة التي
فاتته ويخفف فيها ثم يدخل مع الإمام، وهذا
أولى ما قبل في هذه المسألة، والله أعلم.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يكون مع صاحبه فيمرض مرضاً
شديداً، أيدع الجمعة؟ قال لا إلا أن يكون في
الموت.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة
في أول هذا الرسم فلا وجه لإعادته.
مسألة
قال: وسئل عن الذي يكون في المسجد فتقام
الصلاة، أيقيم الصلاة في نفسه قال لا، قيل له:
ففعل؟ قال: هذا مخالف.
قال محمد بن رشد: قوله هذا مخالف، أي مخالف
للسنة، لأن السنة أن يقيم المؤذن الصلاة دون
الإمام والناس، بدليل ما روي أن رسول
(1/280)
الله صلى الله
عليه وسلم لما ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح
بينهم وحانت الصلاة جاء المؤذن إلي أبي بكر
الصديق فقال أتصلي للناس فأقيم؟ قال: نعم.
وإنما الذي يجب للناس في حال الإقامة أن يدعوا
لأنها ساعة الدعاء، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((ساعتان تفتح لهما أبواب السماء
وقل داع ترد عليه دعوته حضرة النداء والصف في
سبيل الله عز وجل)).
مسألة
قال: وسئل مالك عن الذي يمر تحت السقائف فيقع
عليه ماء قال: أراه في سعة ما لم يستيقن بنجس.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في هذا
الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب الوضوء،
وزاد فيها من سماع عيس منه زيادة فيها تفسير.
مسألة
وسئل عن الذي يصلي في السقائف وبينه وبين
الإمام والصفوف فضاء مثل ما يصيب الناس في مكة
من الحر، قال: أما من خاف حر الشمس ولم يقو
عليه فلا أرى به بأساً، والفضل في التقدم.
قال محمد بن رشد: استخف ترك تقدمه إلى الصفوف
لضرورة حر الشمس، ولو فعل ذلك من غير ضرورة
لجازت صلاته إن كان معه غيره باتفاق، وإن لم
يكن معه غيره على اختلاف، وقد مضت العلة في
ذلك في أول رسم شك في طوافه.
(1/281)
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يبطن خفيه بدم الطحال، قال
لا أحبه، وكره أن يبطن به الخف. قال سحنون:
فإن صلى بها لم تكن عليه إعادة.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح، لأن الطحال قد
خرج عن أن يكون دماً بقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((أحلت لنا ميتتان ودمان الكبد
والطحال والحوت والجراد))، فإنما الطحال طعام
يكره أن يبطن به الخف لحرمته، كما يكره غسل
اليد بشيء من الطعام.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يكون في أرض خوف من
اللصوص، هل يجوز له أن يخفف صلاته؟ قال رب
تخفيف لا ينقص من الصلاة، فأما أن ينقص من
صلاته فلا.
قال محمد بن رشد: الذي يباح له من التخفيف أن
ينقص من طول القيام والركوع والسجود والجلوس،
وأقل ما يجزئه من القيام قدر ما يقرأ فيه أم
القرآن، ومن الركوع والسجود أن يتمكن راكعاً
وساجداً، ومن الجلوس مثل ذلك، فإن نقص من شيء
من ذلك بطلت صلاته، وإن لم يزد على هذا القدر
فترك التشهد وما سوى أم القرآن من القراءة كان
قد أساء ولم تجب عليه إعادة الصلاة إن كان قد
اعتدل في القيام من الركوع والرفع من السجود،
وإن كان لم يعتدل في ذلك أعاد، وقيل يستغفر
الله ولا يعيد، وبالله التوفيق.
(1/282)
مسألة
وقال مالك: لا أحب لأحد أن يترك الجمعة من دين
عليه يخاف في ذلك غرماءه.
قال محمد بن رشد: معناه عندي إذا خشي إن ظفر
به غرماؤه أن يبيعوا عليه ماله بالغاً ما بلغ
وينتصفوا منه ولا يؤخروه، وهو يرجو لتغيبه أن
يتسع في بيع ماله إلى القدر الذي يجوز تأخيره
إليه عند بعض العلماء. وأما إن خشي أن يسجنه
غرماؤه وهو عديم، فقال سحنون في كتاب ابنه:
أنه لا عذر له في التخلف، وفي ذلك نظر، لأنه
يعلم من باطن حاله ما لو تحقق لم يجب عليه
سجن، لقول الله عز وجل: ((وإن كان ذو عسرة
فنظرة إلى ميسرة))، فهو مظلوم في الباطن محكوم
عليه بحق الظاهر. وأما إن خشي أن يعتدي عليه
الحاكم فيسجنه في غير موضع سجن أو يضربه أو
يخشى أن يقتل فله أن يصلي في بيته ظهراً
أربعاً ولا يخرج.
مسألة
وسئل عن الملاحف يكون فيها العلم من الحرير
قدر الأصبع والأصبعين والثلاثة، فكره ذلك وقال
لا أحب لباسها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تقدمت والقول
فيها في آخر رسم شك، فلا فائدة في إعادة ذلك.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يأتي بالصبي إلى المسجد،
أيستحب ذلك؟ قال إن كان قد بلغ موضع الأدب
وعرف ذلك ولا يعبث في
(1/283)
المسجد فلا أرى
بأساً، وإن كان صغيراً لا يقر به فيه ويعبث
فلا أحب ذلك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة مكشوف
لا يفتقر إلى بيان، إذ لا إشكال في إباحة دخول
الولد إلى المساجد، قال الله عز وجل: ((وكفلها
زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب)). وفي
الحديث: ((أن الناس كانوا إذا رأوا أول التمر
جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا
بالبركة في التمر وللعام ثم يدعو أصغر ولد
يراه فيعطيه إياه)). ومحمل أمره أنه كان في
المسجد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يسمع بكاء الصبي في الصلاة فيتجوز في الصلاة
مخافة أن تفتن أمه، وإلا فالكراهة في إدخالهم
فيه إذا كانوا لا يقرون فيه ويعبثون، لأن
المسجد ليس بموضع العبث واللعب، وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل عن القراء الذين يقرؤون للناس عندنا،
فكرهه وعابه وقال: ما كان يعمل هذا على عهد
عمر بن الخطاب، ولا أرى هذا صواباً، ولو كان
يقرأ واحد ويثبت من قرأ عليه ويفتي لم أر به
بأساً، فأما أن يقرأ ذا ويقرأ ذا فلا يعجبني.
قال لي ابن القاسم: ثم خففه بعد ذلك وقال لا
بأس فيه، قال ابن القاسم: وهذا رأيي.
(1/284)
قال محمد بن
رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم سلعة
سماها موفى فليس لإعادة ذلك معنى.
مسألة
وسئل مالك عن أمير المدينة وخرج على مسيرة
ثلاثة أميال من المدينة وهو يريد الإقامة به
حتى يتكامل ظهره فيه ويأتي أكرياؤه بإبلهم
ويجتمع إليه حشمه، أترى أن يقصر الصلاة؟ قال
لا، لأن هذا لم يخرج يريد المسير، وإنما خرج
ليقيم حتى تتكامل له حوائجه، فلا يقصر إلا من
أجمع على المسير.
قال محمد بن رشد: قال مالك في هذه المسألة إن
الإمام يتم، وقال في رسم صلى نهاراً ثلاث
ركعات بعد هذا في الذي يخرج من الفسطاط إلى
بير عميرة وهو يقيم ثم اليوم واليومين مثل ما
يصنع الأكرياء حتى يجتمع الناس ويفرغوا إنه
يقصر الصلاة. والفرق عندي بين المسألتين أن
الأمير إنما خرج ليقيم حتى يجمع حشمه ويأتي
أكرياؤه قرب ذلك أو بعد، وحينئذ يسير، فوجب أن
لا يقصر، إذ لم يعزم على المسير قبل أربعة
أيام. ولو خرج على أن يقيم اليوم واليومين حتى
يجتمع إليه حشمه ويأتي أكرياؤه ثم يسير لوجب
أن يقصر كما قال في مسألة جب عميرة، إذ قد عز
على أن يسير قبل أربعة أيام. وقد كان بعض
الشيوخ يفرق بينهما بأن الأمير لما كان لا
يمكنه السفر إلا مع حشمه وقد لا يجتمع إليه
حشمه، وجب أن يتم، ولما كان الخارج إلى جب
عميرة يمكنه السفر وإن لم يجتمع الناس وجب أن
يقصر، وليس هذا بصحيح، إذ المنفرد لا يمكنه
السفر أيضاً. ومنهم من كان يحمل المسألتين على
التعارض ويرى ذلك اختلافاً من القول، ويقول
الأمير كان أحق بالقصر من المسافر لأنه قادر
على أن يجبر حشمه على الخروج معه، ولا يقدر
المسافر على إخراج الناس معه، وليس ذلك أيضاً
بصحيح، إذ المعنى إنما
(1/285)
هو في عزمه على
التحرك من المكان الذي تقدم إليه قبل أربعة
أيام، لا على قدرته على جبر من يخرجه معه،
بدليل أنه لو كان قادراً على أن يجبر من يخرج
معه على الخروج بعد أربعة أيام من خروجه لوجب
أن يتم ولم يصح له القصر، وإنما وجب أن يقصر
إذا خرج على أن يتحرك من المكان الذي تقدم
إليه مع من يجتمع من الأكرياء وإن كان لا
يتأتى له السفر دونهم، لأن الغالب من أمرهم
أنهم يخرجون إلى الميعاد الذي جرت عادتهم
بالخروج إليه ولا يتأخرون عنه، وكون غلبة الظن
كاليقين أصل في الشرع، وبالله التوفيق.
مسألة
قال: وقيل لمالك أيحصب الرجل أحداً يوم الجمعة
إذا تكلم والإمام يخطب؟ قال لا، وليقبل على
شأنه.
قال محمد بن رشد: قد روى مالك في موطأه عن
نافع أن عبد الله بن عمر رأى رجلين يتحدثان
والإمام يخطب يوم الجمعة، فحصبهما أن اصمتا،
فالأمر في ذلك واسع إن شاء الله تعالى.
مسألة
وسئل مالك عن التكبير في العيدين يغدو الرجل
قبل الفجر أو بالغلس قرب الصلاة، أيكبر
بالطريق وفي قعوده؟ قال مالك ليس يكون التكبير
إلا قرب طلوع الشمس في الإسفار البين الذي
يكون عند طلوعها، فيكبر الرجل تلك الساعة وفي
المصلى حتى يخرج الإمام، فقيل له: التكبير في
العيدين جميعاً؟ قال: نعم قال سحنون: أخبرني
على بن زياد أنه لا تكبير إلا على من غدا بعد
طلوع الشمس، وهي السنة، وقاله سعيد بن المسيب.
(1/286)
قال محمد بن
رشد: الأصل في التكبير في الغدو إلى صلاة عيد
الأضحى تكبير الحاج عند رمي جمرة العقبة، فهو
الذي يتحرى، ولذلك قال مالك في رواية على بن
زياد عنه إنه لا تكبير إلا على من غدا بعد
طلوع الشمس، لأنه وقت الاختيار في الرمي. ومن
أهل العلم من يرى أن الرمي لا يجزئ قبل طلوع
الشمس، ورأى في رواية ابن القاسم عنه التكبير
إذا غدا قرب طلوع الشمس أولى من تركه، لقرب ما
بين الوقتين، ولجواز الرمي في ذلك الوقت عنده،
وإن كان الاختيار أن يكون بعد طلوع الشمس.
والتكبير عند الغدو إلى صلاة عيد الفطر محمول
على ذلك عند جميع من يرى التكبير من العلماء،
وهم الجمهور، لقوله عز وجل: ((ولتكملوا العدة
ولتكبروا الله على ما هداكم)) فيكبر عند مالك
في العيدين إذا غدا إلى المصلى، وفي المصلى
حتى يخرج الإمام. فيكبر بتكبيره وقد قيل إنه
يكبر في الطريق ولا يكبر في المصلى، وإلى هذا
ذهب الطحاوي لأنه حكى عن ابن عمر وأبي قتادة
أنهما كانا يكبران في غدوهما إلى المصلى حتى
يأتيا المصلى، وحكي عن شعبة مولى ابن عباس
قال: كنت أقود ابن عباس إلى المصلى فيسمع
الناس يكبرون فيقول: ما شأن الناس أكبر
الإمام؟ فأقول لا، فيقول أمجانين الناس؟ قال
فيحمل إنكار ابن عباس التكبير على التكبير في
المصلى حتى لا يختلف ما روي في ذلك عن
الصحابة. قال وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه
أنكر التكبير يوم الفطر وقال إنما يفعله
الحواكون، قال وما رويناه عن سواه أولى.
ومن كتاب طلق بن حبيب
وسئل عن الرجل يكون في الصلاة فيحول خاتمه في
أصابعه أصبع أصبع للركوع في سهوه، قال لا باس
بذلك وليس عليه فيه سهو، وإنما ذلك بمنزلة
الذي يحسب بأصابعه لركوعه.
(1/287)
قال محمد بن
رشد: هذا نحو ما تقدم له في أول رسم شك في
الذي يحصي الآي بيديه في صلاته، فأجاز ذلك وإن
كان الشغل اليسير مكروهاً في الصلاة، لأنه
إنما قصد به إصلاح صلاته. وقوله إنه ليس عليه
فيه سهو، يريد أنه لا سجود عليه في صحيح لأنه
لم يفعل ذلك ساهياً، ولو فعله ساهياً مثل أن
ينسى أنه في صلاة، لتخرج إيجاب السجود عليه
لذلك على قولين.
مسألة
وسئل مالك عن الإمام إذا طول القعود في اثنتين
فسبح به أصحابه فقام، أترى عليه سجود سهو؟ قال
لا. قال سحنون: إن طول القعود جداً حتى يخرجها
عن حدها ينبغي أن يسجد.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هو الصواب،
لأن تقصير الجلسة الوسطى من مستحبات الصلاة لا
من سننها، ولا يجب السجود إلا في نقصان السنن
لا في نقصان الاستحباب. وكذلك يقول ابن القاسم
أيضاً إنه لا سجود عليه إذا أطال القيام بعد
الركوع أو الجلوس بين السجدتين، مثل أن يشك في
شيء من صلاته فيثبت على حاله متفكراً فيما شك
فيه حتى يذكر، قاله في سماع موسى، وأشعب يرى
عليه في هذا السجود، بخلاف إذا كان ثبوته
للتذكر في موضع شرع تطويله في الصلاة، فهو قول
ثالث في المسألة أصح من قول ابن القاسم ومن
قول سحنون، لأن ترك تطويل القيام بعد الركوع
وفيما بين السجدتين من السنن لا من الاستحباب.
مسألة
وسئل مال عن الرجل يتنفل ويقول أخاف أن أكون
ضيعت
(1/288)
في حداثتي فأنا
أجل هذا قضاء لتلك إن كنت فرطت، قال ما سمعت
أحداً من أهل الفضل فعل هذا، وما هو من عمل
الناس.
قال محمد بن رشد: وجه هذا السؤال ما روي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أول ما
يحاسب به العبد الصلاة فإن أتمها وإلا قيل
انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت
الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال
المفروضة مثل ذلك))، وهذا معناه والله أعلم
فيمن سها عن فريضة ثم ذكرها فكان عليه أن
يصليها ثم نسيها ولم يذكرها إلى أن مات، وأما
من نسيها ولم يذكرها أصلاً إلى أن توفي فلا
يحاسب بها لقول النبي صلى، عليه السلام:
((تجاوز الله لأمتي عن الخطأ)) ـ الحديث وأما
من تركها عمداً أو نسيها ثم ذكرها فلم يصلها
فلا تجزئه النافلة عنها، لأن الأعمال بالنيات،
ولا تجزئ نافلة عن فريضة. وكذلك إذا شك في أن
يكون ضيع شيئاً من صلواته لا تجعل نافلته
قضاءً مما شك فيه، بل ينبغي له أن يصلي بنية
القضاء حتى يوقن أنه قد صلى أكثر مما ضيع،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يصلي فيما بين
الأسطوانتين، فيكون مقعده مستقبل القبلة،
فيصلي في مجلسه وبينه وبين سترته قدر مصلى
صفين، قال ليس ذلك بصواب أن يصلي كذلك. قال
والعلماء مختلفون، فمنهم من يقوى على أن يعظ
الناس ومنهم من
(1/289)
لا يقوى على
ذلك، وذكر ذلك في موعظة الذين يصلون إلى غير
سترة أواجب هو؟ قال لا أدري ما واجب، ولكنه
حسن.
قال محمد بن رشد: زيادته في الجواب قال
والعلماء مختلفون إلى آخر قوله، يدل على أنه
سقط من السؤال ما تفتقر إليه هذه الزيادة،
وأراه قال في سؤاله كما يفعل الناس فلا ينكر
العلماء عليهم. وقوله إن موعظة الذي يصلي إلى
غير سترة حسن وليس بواجب صحيح، لأن وعظ من ترك
الواجب واجب، ووعظ من ترك المستحب حسن،
والصلاة إلى السترة من مستحبات الصلاة ليس من
واجباتها.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يصلي مع الإمام في رمضان
الوتر فيوتر معه، فيريد أن يصلي وتره بركعة
أخرى ويوتر هو بعد ذلك، قال لا، ولكن يسلم معه
ويقوم فيصلي بعد ذلك لنفسه ما أحب، قال قال لي
مالك قبل ذلك: ويتأنى قليلاً أعجب إلي.
قال محمد بن رشد: وجه كراهيته للداخل مع
الإمام في الوتر أن يشفع وتره، يريد وقد صلى
بعد العتمة أشفاعاً يوترها له هذا الوتر، قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل
الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)). وإذا لم
يسلم بسلامه وشفع وتره فقد خالفه في أن ائتم
به في شفع وهو في وتر. وأما لو أوتر مع الإمام
بعد أن صلى العتمة قبل أن يصلي نافلة لشفع
وتره كما قال في المدونة: إذا أوتر معه قبل أن
يصلي العتمة. ومن أهل العلم من يقول إن الوتر
لا يكون إلا في آخر ما يصلى من النوافل، وأن
من صلى نافلة بعد أن أوتر انتقض وتره وأوتر
مرة أخرى، ومنهم من يقول إذا أوتر أول الليل
بعد أن صلى نافلة ثم أراد أن يصلي آخر الليل
يشفع وتره بركعة ثم يصلي ما شاء
(1/290)
ويوتره مرة
أخرى، وهذا القول مشهور في السلف ويسمونه
مسألة نقض الوتر، ولهذا الاختلاف وقع هذا
السؤال ها هنا. وأما استحبابه إذا سلم معه أن
يتأنى قليلاً قبل أن يصلي فهو مثل ماله في
المدونة، ووجهه مراعاة ما روي من أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يأمر من صلى أن لا
يتنفل حتى يتقدم أو يتكلم، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرقيق العجم يشترون في رمضان
وهم مقيمون في بلد فيريدون أن يطعموا ويعلموا
الإسلام والصلاة، فيجيبوا إلى أن يصلوا كما
يعلمون ويريدون الأكل فيخبرون بذلك ولا يفقهون
ما يراد به منهم، أترى أن يجبروا على ذلك أم
يطعموا؟ قال أرى أن يطعموا ولا يمنعوا الطعام
ويرفق بهم حتى يعلموا ويعرفوا الإسلام.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله، لنهم إذا لم
يفقهوا معنى ما يراد منهم فلا معنى لتجويعهم،
إذ لا فائدة لصيامهم بغير نية، ولا تصح النية
إلا ممن يفقه معناها.
مسألة
قال مالك: إن أول من من جعل المقصورة مروان بن
الحكم حين طعنه اليماني، قال فجعل مقصورة من
طين وجعل فيها تشبيكاً.
(1/291)
قال محمد بن
رشد: وجه قوله الإعلام بأن المقصورة محدثة لم
تكن على عهد النبي ولا عهد الخلفاء بعده،
وإنما أحدثها الأمراء للخوف على أنفسهم،
فاتخاذها في الجوامع مكروه، فإن كانت ممنوعة
تفتح أحياناً وتغلق أحياناً فالصف الأول هو
الخارج عنها اللاصق بها، وإن كانت مباحة غير
ممنوعة فالصف الأول هو اللاصق بجدار القبلة في
داخلها. روي عن مالك ذلك. وقوله جعل فيها
تشبيكاً يريد تخريماً يرى منه ركوع الناس فيها
وسجودهم للاقتداء بهم.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل لا يدرك من الجمعة إلا
التشهد فيقعد مع الإمام بتكبيرة فيتشهد ثم
يسلم الإمام، أيركع ركعتين نافلة؟ أو يقوم
يصلي أربعاً؟ قال لم يتنفل استنكاراً لذلك، ثم
قال بل يصلي أربعاً كما هو إذا سلم الإمام.
قال مالك: وأحب إلي أن يبتدئ بتكبيرة أخرى،
ولو صلى بذلك التكبير أجزأ عنه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف
فيها، لأنه إذا أدرك الإمام في التشهد فإنه
يحرم على أن يصلي أربعاً لأنه قد علم أن
الجمعة قد فاتته، واستحبابه أن يبتدئ بتكبيرة
أخرى هو مثل استحبابه في المدونة لمن دخل مع
الإمام في التشهد الأخير أن يقوم بتكبير،
وخلاف أصله فيمن أدرك من صلاة الإمام ركعة أو
فاتته منها ركعة في غير المغرب أنه يقوم بغير
تكبير. ومن الناس من ذهب إلى أن يفرق بين
الموضعين، وليس بصحيح. وأما مسألة الاختلاف لو
أدرك الإمام وقد رفع رأسه من الركوع فأحرم معه
وهو يظن أنه في الركعة الأولى فإذا هو في
الركعة الثانية، فقال مالك في كتاب ابن
المواز: إنه يبني على إحرامه مع الإمام
أربعاً، واستحب أن يجدد إحراماً آخر بعد سلام
الإمام من غير أن يقطع. ويأتي على قول
(1/292)
أشهب في أول
سماع على رواية ابن وهب عن مالك في الذي يرعف
يوم الجمعة قبل عقد ركعة أنه لا يبني على
الإحرام، بخلاف من رعف في غير الجمعة قبل عقد
ركعة أنه لا يبني على إحرامه في هذه المسألة،
لأنه أحرم بنية الجمعة ركعتين.
مسألة
وسئل عن الرجل يدعو في الصلاة فيقول: يا الله
يا رحمان، قال: يقول يا رحمان، ثم قال واللهم
أبين عندي. فقيل له: يدعو بما دعت به
الأنبياء؟ قال نعم، في كتبا الله تبارك وتعالى
اللهم.
قال محمد بن رشد: قوله واللهم أبين عندي أي
أحب إلي، لا أن إجازة الدعاء بيا رحمان غير
بين، إذ لا اختلاف بين المسلمين أن الرحمان
اسم من أسماء الله تعالى المختصة به.
مسألة
وسئل مالك عن الفرجة يراها الرجل وأمامه صف،
أيشقه إليها؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا جائز لا بأس به كما قال،
لما جاء من الترغيب في سد الفرج.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يقطع اللحم النيئ فتقام
الصلاة، أترى أن يصلي قبل أن يغسل يديه؟ قال
ليغسل يديه قبل أن يصلي أحب إلي.
(1/293)
قال محمد بن
رشد: ما استحب مالك من غسل يديه قبل الصلاة من
اللحم النيئ كما استحبه لأن المروءة والنظافة
مما شرع في الدين، وقد استحب في المدونة أن
يتمضمض من اللبن [واللحم] ويغسل الغمد إذا
أراد الصلاة، فيكف باللحم النيئ.
مسألة
قال مالك: وقد كان ابن حزم يطيل القراءة في
الظهر، فقيل له قدر كم؟ فقال الكهف وما
أشبهها، فقيل أفيقرأ المسافر بسبح وويل
للمطففين، فإن الأكرياء يسرعون بهم؟ قال: لا
بأس بذلك، فقيل له فإذا زلزلت وما أشبهها؟ قال
هذه قصار جداً، كأنه يقول لا. قال أصبغ: سألت
ابن القاسم عن إمام مسجد عشيرة وما أشبهه يقرأ
بقل هو الله أحد وما أشبهها فى صلاة الصبح،
قال الصلاة تامة. قال سحنون: وقد أخبرني ابن
وهب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ما من
القرآن شيء إلا وقد سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يؤم بالناس به، فلذلك رأيت أن يجزئ.
قال محمد بن رشد: التطويل في قراءة الصبح
والظهر مستحب غير واجب، وهما سيان فيما يستحب
فيهما من التطويل. ألا ترى أنه استخف في
المدونة للمسافر في الصبح من التخفيف القدر
الذي استخفه له ها هنا في الظهر. ويستحب أن
تكون الركعة الأولى أطول قراءة من الثانية في
الصبح والظهر، لما جاء من أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يطيل أول ركعة من الظهر
وأول ركعة من الغداة، وذهب أبو حنيفة وأبو
يوسف إلى الاختيار في الظهر دون
(1/294)
الصبح أن تكون
الركعتان الأوليان متساويتين في القراءة، كما
أن الركعتين الآخرتين متساويتان في القراءة.
ويستحب أن لا يقرأ في المغرب بقصارها، وفي
العشاء الآخرة بوسطها. واختلف في العصر فقيل
هي والمغرب سيان في قد القراءة، وإلى هذا ذهب
ابن حبيب، وقيل إنها والعشاء الآخرة سيان فيما
يستحب فيهما من قدر القراءة. واختلف في حد
المفصل فقيل إنه من الحجرات، وقيل إنه من سورة
ق، وقيل إنه من سورة الرحمان، روي ذلك عن ابن
مسعود، والصحيح قول من قال إنه من سورة ق، لأن
سورة الحجرات مدنية، والمفصل مكي. روي عن ابن
مسعود أنه قال: أنزل الله على رسوله المفصل
بمكة فكنا حججاً نقرأ ولا ينزل غيره. ومن
الدليل على ذلك ما روي عن أوس بن حذيفة قال:
سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف
كنتم تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور
وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة
وثلاث عشرة سورة، وفي بعض الآثار كيف كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يحزب القرآن فذكر
نحوه، لأن القرآن يأتي على هذا سبعة أحزاب
بعدد الأيام، المفصل منها حزب من أول سورة ق،
لأن الستة الأحزاب تتم إذ عدت السور بسورة
الحجرات، ويحتمل أن تكون سورة الرحمان في مصحف
ابن مسعود بعد سورة الحجرات، فلذلك قال فيها
إنها أول المفصل والله أعلم. وأما جواز صلاة
من لم يقرأ في الصبح إلا بقل هو الله أحد فهو
إجماع. ومن الدليل على ذلك قول الله عز وجل:
((فقرؤوا ما تيسر منه)). وقول الرسول صلى الله
عليه وسلم: ((كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن
فهي
(1/295)
خراج)). وأم
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي استدل به
فلا دليل فيه، إذ ليس فيه انه سمع النبي صلى
الله عليه وسلم يؤم الناس في الصبح بقل هو
الله أحد، فالذي يحمل عليه أنه إنما سمعه يؤم
الناس بها في المغرب، والله أعلم.
مسألة
وسمعت مالكاً يقول: إن أول من أحدث الاعتماد
في الصلاة حتى لا يحرك رجليه رجل قد عرف وسمي
إلا أني لا أحب أن أذكره، وقد كان مسمتاً،
فقيل له: أفعيب ذلك عليه؟ قال: قد قال سحنون:
عيب ذلك عليه، وهذا مكروه من الفعل.
قال محمد بن رشد: قال سحنون: الرجل المسمت هو
عبا بن كثير، ويروى مسبئاً أي يسبأ الثناء
عليه، فجائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في
الصلاة، قاله في المدونة، وإنما كره أن
يقرنهما حتى لا يعتمد على أحدهما دون الآخر،
لأن ذلك ليس من حدود الصلاة، إذ لم يأت ذلك عن
النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف
والصحابة المرضيين الكرام، وكان من محدثات
الأمور. وأما الاعتماد على اليدين عند القيام
من الجلسة الوسطى فمرة استحبه مالك وكره تركه،
ومرة استحبه وخفف تركه، ومرة خير فيه، وسيأتي
القول على هذا في رسم باع غلاماً، وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الذي يقوم الليل أو جله فيأتي
إلى صلاة الصبح وهو ناعس، أفيستحب ذلك له؟
فقال: أما الذي يغلبه النوم
(1/296)
في صلاته فلا
أحبه، فقيل له: إنه يصيبه النوم والنعاس، قال:
أما النعاس والكسل والتكسير فلا بأس به ما لم
يصبه نوم يغلبه في ذلك.
قال محمد بن رشد: أما قيام الليل إذا لم يوجب
ذلك عليه أن يغلبه النوم في صلاة الصبح فذلك
من المستحب المندوب إليه، قال الله عز وجل:
((يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو
انقص منه قليلاً أو زد عليه)). واختلف قول
مالك في قيام جميعه مع أن لا يوجب ذلك عليه أن
يغلبه النوم في صلاة الصبح، فمرة أجازه لأن
قيام الليل فعل بر فاستيفاء جميعه نهاية في
ذلك، ومرة كرهه مخافة السآمة عليه والملل، فقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن هذا
الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا
أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)). ولما قيل له في
الحولاء بنت تويت إنها لا تنام الليل وكره ذلك
صلى الله عليه وسلم حتى عرفت الكراهية في وجهه
وقال: ((إن الله لا يمل حتى تملوا اكلفوا من
العمل ما لكم به طاقة)). وقال، عليه السلام،
في الذي صام الدهر لا صام ولا أفطر. وقع
اختلاف قوله في رسم باع غلاماً بعد هذا. وأما
إذا كان إذا قام الليل لا يصلي الصبح إلا وهو
مغلوب عليه فذلك مكروه له، قام الليل أو جله
قولاً واحداً، لقوله عليه السلام: ((إذا نعس
أحدكم في صلاته فليرقد حتى يذهب عنه النوم
فإنه إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله
(1/297)
يذهب يستغفر
فيسب نفسه)). فيحصل بين أمرين: إما أن يصلي
على هذه الحال التي قد نهي عن الصلاة فيها، أو
يرقد فتفوته صلاة الصبح في جماعة. وقد قال
عثمان بن عفان، رضي الله عنه: لأن أشهد صلاة
الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة، وذلك
لا يقوله إلا عن توقيف، وبالله التوفيق.
ومن كتاب سن رسول الله
قال ابن القاسم: قال مالك في القوم يجتمعون
جميعاً فيقرؤون في السورة الواحدة مثل ما يفعل
أهل الاسكندرية، فكره ذلك وأنكر أن يكون من
فعل الناس.
قال محمد بن رشد: إنما كرهه لأنه أمر مبتدع
ليس من فعل السلف، ولأنهم يبتغون به الألحان
وتحسين الأصوات بموافقة بعضهم بعضاً وزيادة
بعضهم في صوت بعض على نحو ما يفعل في الغناء،
فوجه المكروه في ذلك بين والله أعلم. وقد مضى
من هذا المعنى في رسم سلعة سماها، وتأتي
المسألة متكررة في رسم لم يدرك من سماع عيس.
مسألة
وقال مالك: إذا علم الإمام أنه لا يستطيع أن
يصلي قائماً فليامر غيره يصل بالناس، وليقعد،
وليس من هيئة الناس اليوم أن يصلوا جلوساً.
قال مالك: لم يفعل ذلك أبو بكر ولا عمر بعد
النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا، ولعل
هذا شيء نسخ، والعمل على حديث ربيعة أن أبا
بكر كان يصلي والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي
بصلاته. وقال مالك عن ربيعة: ما مات نبي حتى
يؤمه رجل من أمته.
(1/298)
قال محمد بن
رشد: قوله ليس من هيئة الناس اليوم أن يصلوا
جلوساً، أي ليس من هيئتهم أن يصلي المريض
الجالس بالأصحاء قياماً، يريد أن ذلك إنما كان
من هيئة النبي صلى الله عليه وسلم لمرتبته
التي لا يشاركه فيها غيره، فكان ذلك من خواصه
صلى الله عليه وسلم. وقوله بعد ذلك ولعل هذا
شيء نسخ والعمل على حديث ربيعة إلى آخر قوله،
يدل على أنه لم يرد ذلك من خواصه صلى الله
عليه وسلم، وأنه كان شرعاً شرعه لأمته ثم نسخه
عنهم بما كان من فعله أيضاً في ذلك المرض الذي
توفي فيه. وقد تعارضت الآثار في ذلك فجاء في
بعضها ما دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم
لما خرج في مرضه وأبو بكر يصلي بالناس تأخر
أبو بكر عن الإمامة وتقدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم فصلى بالناس بقية صلاتهم وهو جالس
والقوم خلفه قياماً، وجاء في بعضها ما يدل على
أن أبا بكر لم يتأخر عن الإمامة، وأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم إنما صلى مؤتماً بأبي
بكر، فمن الناس من صحح ما دل منها أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان الإمام ورأى ذلك شرعاً
لأمته ثم لم ينسخه عنهم ولا اختص به دونهم،
فأجاز إمامة المريض جالساً بالاصحاء قياماً،
وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك، وفي هذا
نظر، كيف أم النبي صلى الله عليه وسلم الناس
في صلاة قد دخلوا فيها قبله، إلا أن يتأول أنه
أحرم خلف أبي بكر ودخل في الصلاة معه، ثم
حينئذ تقدم فصار هو الإمام ورجع أبو بكر
مأموماً، فيستقيم معنى الحديث ويصح التعلق به
لمن أجاز إمامة الجالس منه. ومنهم من صحح
أيضاً ما دل منها أنه كان الإمام إلا أنه رأى
ذلك من خواصه، فلم يجز لأحد بعده إذا كان
مريضاً أن يؤم الأصحاء قياماً، وهو قول مالك
في هذه الرواية على ما قلناه. ومنهم من ذهب
إلى أن ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم في
صلاتين فكان في الصلاة الأولى هو الإمام،
وائتم في الثانية بأبي بكر، فكان فعله في
الصلاة الثانية ناسخاً لفعله في الصلاة
الأولى. وإلى هذا ينحو آخر قول مالك في هذه
الرواية على ما قلناه. فعلى هذا التأويل تخلص
الآثار من التعارض، فهو أولاها بالصواب، والله
أعلم. فإن أم المريض جالساً بالأصحاء قياماً
على ما في رواية ابن القاسم عن مالك أجزأته
وأعاد القوم
(1/299)
أبداً، وقد قيل
إنهم لا يعيدون إلا في الوقت مراعاة لقول من
يجيز ذلك ابتداء، وهي وراية الوليد بن مسلم عن
مالك. وقد قال بعض أصحاب مالك إن الإمام يعيد،
وهو بعيد، وستأتي هذه المسألة أيضاً في آخر
رسم استأذن من سماع عيس. وأما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم من أنه صلى وهو شاك فصلى
جالساً وصلى وراءه قوم قياماً فأشار إليهم أن
اجلسوا فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم
به فإذ ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى
جالساً فصلوا جلوساً فلا اختلاف بين أهل العلم
أن ذلك منسوخ إلا ما جاء عن أسيد بن الحضير
وجابر بن عبد الله أنهما عملا بعد النبي صلى
الله عليه وسلم بذلك، وهو شذوذ، فإن صلى
المريض بالأصحاء جلوساً أعادوا في الوقت
وبعده، وقد قيل إنهم لا يعيدون إلا في الوقت،
وهو بعيد لضعف الاختلاف في ذلك، وبالله تعالى
التوفيق.
مسألة
قال مالك: من السنة أن يكبر الإمام إذا صعد
المنبر في العيدين، ويكبر في الخطبة الثانية.
قال محمد بن رشد: التكبير من شعار العيد. روي
عن الحسن بن علي أنه قال: ((أمرنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن نلبس أحسن ما نجد وأن
نضحي بأسمن ما نجد البقرة عن سبعة والجزور عن
عشرة وأن نظهر التكبير وعلينا السكينة
والوقار)). ولم يحد مالك، رحمه الله، في تكبير
الإمام في الخطبة حداً، قاله في رسم اغتسل بعد
هذا، وقال ابن حبيب إنه يكبر في
(1/300)
مبتدأ الخطبة
الأولى تسع تكبيرات، وفي مبتدأ الثانية سبع
تكبيرات، وفي خلال كل فصل ثلاث تكبيرات، وحكي
ذلك عن مطرف وابن الماجشون، قال وقد روي عن
أبي هريرة أنه يكبر في مبتدأ الخطبة خمس عشرة
تكبيرة، والاقتصار على الأولى أحب إلينا.
مسألة
قال: ولا يصلي المريض المكتوبة على المحمل وإن
اشتد مرضه حتى ينزل بالأرض فيصلي عليها وإن
كان يومئ إيماء، ولا يصلي مكتوبة على المحمل.
قال ابن عبد الحكم: إنما ذلك إذا كان المريض
يقوى إذا نزل بالأرض على الصلاة جالساً
وساجداً، لأنه لا يجوز له أن يصلي المكتوبة
على المحمل إيماء وهو ممن يقوى على السجود،
فإذا كان ممن إذا نزل بالأرض لم يقو على
الصلاة إلا مضطجعاً وإيماء فلا بأس أن يصلي
على المحمل، لأن الحالة قد استوت به، ورواه
يحيى عن ابن القاسم عن مالك.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم وظاهر
روايته هذه عن مالك وما في المدونة أن المريض
لا يصلي المكتوبة على المحمل أصلاً وإن لم
يقدر على السجود بالأرض ولا على الجلوس،
ورواية يحيى عن ابن القاسم عن مالك أنه يجوز
له أن يصلي على المحمل إذا لم يقدر على السجود
وإن قدر على الجلوس، ومثله رواية أشهب عن مالك
بعد هذا، فهي ثلاثة أقوال على ما ذكرناه،
فرواية يحيى عن ابن القاسم عن مالك مخالفة
لقول عبد الحكم ولرواية أشهب عن مالك. فسياقة
العتبي لرواية يحيى عن مالك مخالفة لقول عبد
الحكم ولرواية أشهب عن مالك، فسياقة العتبي
لرواية يحيى على أنها مثل قول ابن عبد الحكم
سياقة فاسدة، فتدبر وقف عليه إن شاء الله، وبه
التوفيق.
(1/301)
مسألة
وقال لا بأس بالصلاة على السرير، وهو عندي مثل
الفراش يكون على الأرض للمريض.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو أمر لا
اختلاف فيه، لأن الصلاة على السرير كالصلاة في
الغرف وعلى السطوح، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يكون في الصلاة فيخرج
الرجل من الصف، قال إن كان إلى جنبه فإني أرى
أن يشير إليه بالتسوية إذا كان ذلك شيئاً
يسيراً، فأما الصف يتعرج فإني أرى أن يقبل على
صلاته ولا يشتغل به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن اشتغاله
بالإقبال على صلاته آكد عليه من الاشتغال
بتقويم الصف إذا اعوج، لإن الإقبال على صلاته
مما يخصه بخلاف تقويم الصف.
مسألة
وسألته عن الذي ينام وهو قاعد، قال مالك: لا
أرى عليه وضوءاً إلا أن يتطاول ذلك، ومن
الرجال من ينام في المسجد فيتطاول به النوم
عامة الليل حتى يذهب ليل طويل هو قاعد، فأما
إذا كان مثل يوم الجمعة وما أشبهه فلا أرى في
ذلك شيئاً، فقيل له: يا أبا عبد الله ربما رأى
الرؤيا في ذلك، فقال إنما ذلك أحلام وليست
برؤيا، فلا أرى في مثل هذا وضوءاً. وحدث ابن
القاسم عن مالك عن نافع أن ابن عمر كان ينام
وهو جالس يصلي
(1/302)
ولا يتوضأ. قال
مالك فلا أرى الوضوء إلا على من تطاول ذلك
عليه، فأما الرجل ينام يوم الجمعة والإمام
يخطب وما أشبهه فلا أرى عليه وضوءاً.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله، لأن النوم
ليس بحدث فتنتقض الطهارة بقليله وكثيره، وإنما
هو سبب للحدث. قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: العينان وكاء السه فإذا نامت العينان
استطلق الوكاء ، فلا يجب الوضوء إلا من النوم
الذي يمكن إذا كان منه الحدث ألا يشعر به،
فالقدر الذي يحكم على النائم بانتقاض وضوئه من
أجله يختلف باختلاف هيئته في نومه، وهو على
أربع مراتب أقربها إلى انتقاض وضوئه فيها
بالنوم الاضطجاع، ثم السجود، ثم الجلوس
والركوب، ثم القيام والاحتباء. واختلف في
الركوع فقيل إنه كالقيام، وقيل إن كالسجود،
واختلف أيضاً في الإسناد فقيل إنه كالجلوس
وقيل إنه كالاضطجاع. فإذا نام الرجل مضطجعاً
وجب عليه الوضوء بالاستثقال وإن لم يطل، وإذا
نام ساجداً لم يجب عليه الوضوء إلا أن يطول،
وقيل إنه يجب عليه بالاستثقال وإن لم يطل،
وإذا نام جالساً أو راكعاً فلا وضوء عليه إلا
أن يطول، وإذا نام قائماً أو متحبياً فلا وضوء
عليه وإن طال، لأنه لا يثبت، فهذا تحصيل القول
في هذه المسألة.
مسألة
قال مالك: فيمن أصابه الرعاف يوم الجمعة بعد
أن صلى ركعة فغسل الدم عنه، قال: أرى أن يرجع
إلى المسجد فيركع ركعة، وإن صلى في بيته ابتدأ
أربعاً، لن الجمعة لا تصلى في البيوت.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله أرى أن يرجع إلى
المسجد، أنه
(1/303)
يرجع إلى
المسجد الذي ابتدأ فيه، وهو المشهور في
المذهب. ومن أصحابنا من يقول إنه يتم صلاته في
أقرب المساجد إليه، وهو الذي يدل عليه تعليله
بأن الجمعة لا تصلى في البيوت. وجه القول
الأول أن المسجد شرط في صحة الجمعة، فإذ دخل
في الجمعة في مسجد ما تعين عليه إتمام الصلاة
في ذلك المسجد. ووجه القول الثاني أنه لا
يتعين عليه إلا إتمام الصلاة في مسجد لا في
ذلك المسجد. ووجه القول الثاني أنه لا يتعين
عليه إلا إتمام الصلاة في مسجد لا في ذلك
المسجد بعينه. ويدل تعليله أيضاً على أن
الجمعة لو أقيمت في مسجد سوى المسجد الجامع
لأجزأت خلاف ما ذهب إليه القاضي أبو الوليد من
أن ذلك لا يجوز إلا أن تنتقل إليه الجمعة على
التأبيد.
مسألة
قال ابن القاسم فيمن نسي صلوات كثيرة فذكرها
في وقت صلاة، إن كانت صلاة يوم وليلة فأدنى
بدأ بها ثم صلى الصلاة التي حضرته وإن فات
وقتها، وإن كانت أكثر من ذلك بدأ بالصلاة التي
حضرته ثم قام فقضى ما فاته.
قال محمد بن رشد: جعل في هذه الرواية حد
الصلوات الكثيرة الذي يبدأ بما حضر وقته عليها
ست صلوات فزائداً، وروى ابن سحنون عن أبيه أن
حدها خمس صلوات فزائداً، وقد قيل إن حدها أربع
صلوات فزائداً على ظاهر ما في المدونة.
والصواب أن حدها أكثر ما قيل في ذلك وهي الست
الصلوات للاتفاق على أنها كثيرة، لأن ظاهر قول
النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا رقد أحدكم عن
الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما كان
يصليها في وقتها))، يقتضي بحمله على عمومه، إذ
الصلاة من ألفاظ العموم، أن يبدأ بالفوائت،
قلت أو كثرت ساعة يذكرها قبل ما هو في وقته،
فلا يخصص من هذا العموم إلا ما يتفق على
تخصيصه منه وهو الكثير، وبالله التوفيق.
(1/304)
ومن كتاب أوله
أخذ يشرب خمراً
قال: وسئل مالك عن الرجل يصلي في الإزار
والرداء فيجد الحر ويكون متربعاً فيطرح رداءه
على منكبيه، قال: أما النافلة فأرجو أن يكون
خفيفاً.
قال محمد بن رشد: يكره للرجل أن يصلي مكشوف
الظهر والصدر، فاستخف ذلك في النافلة لشدة
الحر، ولو لم يفعل لكان أحسن.
مسألة
وسئل عن الوتر يقرأ فيه الرجل بأم القرآن
وحدها ثم يركع، فإذا رفع رأسه ذكر أنه لم يقرأ
فيه إلا بأم القرآن وحدها،كيف يصنع؟ قال أرى
أن يمضي وتره على حاله، فقيل له: أترى عليه
سجود سهو؟ قال لا وخففه وقال: ألا ترى أن
ركعتي المكتوبة اللتين تكونان في آخر الصلاة
ليس يقرأ فيهما إلا بأم القرآن وحدها، فلا أرى
في مثل هذا سجود سهو.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن سجود
السهو إنما يجب لنقصان السنن لا لنقصان
الاستحبابات، وقراءة ما عدا أم القرآن في
الوتر مستحب.
مسألة
وسئل عن الجمع بين المغرب والعشاء كيف هو يكون
المطر دائماً لا ينقطع وليس لتعجيلها أمر
يتعجلان فيه منفعة لأن المطر كما هو، قال أرى
أن تجمعا، وما زال الناس يجمعون، فأرى أن تعجل
العشاء قليلاً عن وقتها وتؤخر المغرب إلى
العشاء. قيل له فإنهم إذا
(1/305)
فرغوا من
المغرب قام المؤذنون يؤذنون واحداً بعد واحد
كأنهم يريدون أن يبطئوا بالعشاء قليلاً، قال:
ذلك أحسن ولا أرى به بأساً، وذلك رفع بالناس
في جمع الصلاتين. فقيل له إنه ربما تجلت
السماء وانقطع المطر إلا أنه يكون الطين
والوحل فيجمعون، فكأنه لم ير به بأساً، قال ما
زال الناس يجمعون.
قال محمد بن رشد: سلم السائل قوله إن الجمع لا
منفعة لهم فيه لتمادي المطر، وليس ذلك ببين،
بل هم مع تمادي المطر في الجمع أعذر، والرخصة
لهم فيه أكثرن للمشقة الداخلة عليهم في الذهاب
والرجوع مرتين مع تمادي المطر. وظاهر هذه
الرواية أنه أجاز الجمع في الطين والوحل وإن
لم يكن مطر ولا ظلمة، إذ لم يكن مطر ولا ظلمة،
إذ لم يشترط الظلمة، وذلك خلاف قوله في
المدونة والواضحة، وخلاف ما في قرب آخر الرسم
الأول من سماع أشهب، وقد مضى التكلم في وقت
الجمع بينهما في رسم شك في طوافة فلا وجه
لإعادته.
مسألة
وسئل مالك عن التكبير خلف الصلوات بأرض العدو،
وقال ما سمعته، إنما هو شيء أحدثه المسودة،
فقيل له: فإن بعض البلدان يكبرون دبر المغرب
والصبح، فقال هو ما أحدثه المسودة.
قال محمد بن رشد: المسودة هم القائمون على بني
أمية بدولة بني العباس، وكانت لهم ألوية سود
فنسبوا إليها، وأنكر في هذه الرواية التكبير
دبر الصلوات بأرض العدو، وسكت عنه في غير دبر
الصلوات، وأجازه في الجهاد من المدونة، وفي
سماع أشهب من كتاب الجهاد بحضرة العدو وبغير
حضرتهم وسكت عن دبر الصلوات، فكل واحد من
الروايتين مبينة لصاحبتها. وحكى ابن حبيب أن
أهل العلم يستحبون التكبير في العساكر
(1/306)
والثغور
والمرابطات دبر صلاة العشاء وصلاة الصباح
تكبيراً عالياً ثلاث تكبيرات، لم يزل ذلك من
شأن الناس قديماً، وسمعتهم يكرهون التطريب في
ذلك وأن يتقدمهم واحد بالتكبير أو التهليل ثم
يجيبه الآخرون بنحو من كلامه جماً غفيراً، ولا
بأس أن يخترق تكبيره، وما ذهب إليه مالك من
كراهية التكبير دبر الصلوات أظهر، لأنه أمر
محدث لم يكن في الزمن الأول، ولو كان لذكر
ونقل، والله أعلم.
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع والحيوان
وسألت مالكاً عن الصلاة في مثل مساجد الحرس،
أيصلي فيها الظهر والعصر يجمع فيها مرتين؟
فكره ذلك وقال: لا أحب أن تجمع في المسجد صلاة
واحدة مرتين يجمع فيها بعد الصلاة. قال ابن
القاسم: إذا كان المسجد يجمع فيه بعض الصلوات
ولا يجمع فيه بعضها فلا تجمع فيه صلاة مرتين.
قال ابن القاسم: قال لي مالك كل مسجد تجمع فيه
بعض الصلوات ولا يجمع فيه بعض فلا أرى أن يجمع
فيه مرتين ما يجمع فيه وما لا يجمع. قال
والعشاء والصبح ولا يجمع فيها الظهر والعصر.
قال ابن القاسم: ولا أعلم إلا أنه كان من قوله
فلم يكن يجمع فيها صلاة واحدة مرتين مما لم
يكن يجمع فيه. وفي رواية أشهب وابن نافع من
كتاب الصلاة قال: وسئل مالك عن مساجد
بالاسكندرية يحرس فيها يصلى فيها المغرب
والعشاء والصبح بالأذان والإقامة، ولا يصلي
فيها الظهر والعصر، فربما شهدنا الجنازة
بالنهار فصلينا فيها الظهر
(1/307)
والعصر فتجمع
فيها الصلاة منها مرتين، أترى ذلك واسعاً؟ قال
نعم لا بأس بذلك، وأما الصلوات التي تجمع فلا
أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: رواية ابن القاسم في المنع
من الجمع مرتين في المسجد الذي يجمع فيه بعض
الصلوات التي لا تجمع فيها، تأتي على أن الجمع
في مسجد واحد مرتين كره لوجهين: أحدهما تفريق
الجماعة، والثاني ليلاً يكون ذلك ذريعة لأهل
البدع في اعتزالهم أهل السنة وتفرقتهم
بأئمتهم، لأن الصلاة التي لا تجمع فيه إذا جمع
فيه مرتين كل ذلك ذريعة لأهل البدع إلى ما
يذهبون إليه من إظهار بدعهم وإن لم يكن في ذلك
تفريق جماعة، إذ ليس لتلك الصلاة في ذلك
المسجد جماعة تفرق. ورواية أشهب تأتي على أن
الجمع مرتين في مسجد واحد إنما كره لعلة واحدة
وهي تفريق الجماعة، فإذا لم يكن لتلك الصلاة
في ذلك المسجد جماعة تفرق جاز الجمع فيه
مرتين، فهذا وجه الروايتين.
مسألة
وسئل عن الرجل يصلي العصر لنفسه ثم ينسى أنه
صلى فيقوم يصلي الثانية فيركع ركعتين ثم يذكر
أنه قد صلى، قال: أرى أن يضم إليها أخرى، فقلت
له: يا أبا عبد الله أتكون صلاة بعد العصر؟
فقال قد كان المنكدر يصلي، وقد كان عمر ينهاه
عن ذلك، وقد جاء فيها بعض ما جاء، فالشيء إذا
كان صاحبه لا يريد به خلاف السنة، وإنما يفعله
على غير خلاف السنة رأيت أن يفعل ذلك للذي جاء
فيه من الرخصة، وإنما كره من ذلك ما كان صاحبه
يتعمد به خلاف الحق.
قال محمد بن رشد: النهي عن الصلاة بعد العصر
حتى تغرب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس نهي
ذريعة، وإنما حقيقة الوقت
(1/308)
المنهي عن
الصلاة فيه عند طلوع وعند الغروب. ألا ترى أن
رجلين لو كان أحدهما قد صلى العصر والثاني لم
يصلها لجاز للذي لم يصل العصر أن يتنفل ولم
يجز ذلك للآخر والوقت لهما جميعاً وقت واحد،
فإنما نهي الذي صلى العصر عن الصلاة بعد العصر
حماية للوقت المنهي عن الصلاة فيه، لا لأن
الصلاة فيه حرام. روي عن المقدام ابن شريح:
((قلت لعائشة كيف كان يصنع رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد الظهر والعصر، قالت كان يصلي
الهجير ثم يصلي بعدها ركعتين. ثم كان يصلي
العصر ثم يصلي بعدها ركعتين، قال فقلت فأنا
رأيت عمر يضرب رجلاً رآه يصلي بعد العصر،
فقالت: لقد صلاهما عمر ولقد علم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلاهما، ولكن قومك أهل
اليمن قوم طغام فكانوا إذا صلوا الظهر صلوا
بعدها إلى العصر وإذا صلوا العصر صلوا بعدها
إلى المغرب فقد أحسن)). فلما كان هذا الذي صلى
ركعة من العصر ثم ذكر أنه قد صلاها في وقت ليس
بوقت منهي عن الصلاة فيه لأن الصلاة فيه حرام،
وجب أن يتم ركعتين ولا يبطل عمله، لقول الله
عز وجل: ((ولا تبطلوا أعمالكم))، فهذا وجه قول
مالك والله أعلم. ولو ذكر قبل أن يركع لكان
الأظهر أن يقطع على قياس قوله في مسألة رسم
أوله مرض بعد هذا، ولو ذكر قبل أن يركع من
صلاة يصلي بعدها لجرى ذلك على اختلاف قول ابن
القاسم وأشهب في كتاب الصيام من المدونة في
الذي يظن أن عليه يوماً من رمضان فيصبح
صائماً، ثم يعلم أنه لا شيء عليه، وبالله
التوفيق.
(1/309)
مسألة
وسئل عن القرآن يكتب أسداساً وأسباعاً في
المصاحف، فكره ذلك كراهية شديدة وعابه وقال لا
يفرق القرآن وقد جمعه الله تعالى، وهؤلاء
يفرقونه، لا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: أنزل الله تبارك تعالى
القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم أنزل
على النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً بعد شيء
حتى كمل الدين، واجتمع القرآن جملة في الأرض
كما أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى
السماء الدنيا، فوجب أن يحافظ على كونه
مجموعاً، فهذا وجه كراهية مالك لتفريقه والله
أعلم.
مسألة
قال مالك: لا أرى بأساً بالصلاة في الحمام وأن
يقرأ فيه بالآية والآيتين والثلاث.
قال محمد بن رشد: قوله لا أرى بأساً بالصلاة
في الحمام، معناه إذا أيقن بطهارته، لأنه قد
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن
الصلاة في سبعة مواطن، أحدها الحمام، ومعنى
النهي عن ذلك عند مالك لما يتقى من نجاسته إذ
هو موضع يتخذ للاغتسال من النجاسة وغيرها،
فينبغي أن يحمل داخله على النجاسة حتى يوقن
بطهارته، وخارجه حيث يخلع الناس ثيابهم على
الطهارة حتى يوقن فيه بالنجاسة. ولعله تكلم في
هذه الرواية على خارج الحمام ولذلك لم يشترط
أن يعلم طهارة الموضع الذي صلى فيه، وتكلم في
المدونة على داخله، ولذلك اشترط طهارة الموضع
فقال: إذا كان مكانه طاهراً فلا بأس به، ولم
يجز أن يقرأ فيه بالآية والآيتين والثلاث، على
سبيل الارتياع والتعوذ لأنه قرآن كريم، فواجب
أن يجل على أن يتلى في المواضع
(1/310)
المكروهة، وقد
كره في رسم المحرم للرجل أن يقرأ بقية حزبه في
طريق مسيره إلى المسجد، فكيف بالتلاوة في
الحمام، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يغدو يوم الجمعة إلى
المسجد ليصلي الصبح فيغتسل ويريد بذلك غسل
الجمعة فيقيم في المسجد حتى يصلي، قال مالك لا
يعجبني ذلك، وكره ذلك الرواح تلك الساعة إلى
الجمعة، ولم يعجبه غسل الجمعة تلك الساعة.
قال محمد بن رشد: غسل الجمعة عند مالك لا يكون
إلا متصلاً بالرواح إليها، لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ((إذا جاء أحدكم الجمعة
فليغتسل)). وقوله: ((إذا جاء أحدكم الجمعة))
خرج على المجيء المعروف الذي يكون ساعة الرواح
على ما بنيه عليه السلام بقوله: ((من اغتسل ثم
راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة))
الحديث، فلما اغتسل هذا الرجل في غير وقت
الرواح الذي ندب رسول الله عليه السلام إلى
الرواح فيه بالحديث المذكور بإجماع لم يجزه
الغسل عنده وإن كان متصلاً بخروجه. وفي سماع
زونان لابن وهب أنه يجوز له أن يروح إلى
الجمعة بالغسل الذي اغتسله بعد الفجر، قال
والفضل أن يكون غسله متصلاً برواحه، ومثله في
سماع أبي قرة عن مالك، وهو خلاف المشهور من
قوله.
مسألة
وسئل مالك عن المطر إذا كان الطين والأذى في
الطريق،
(1/311)
أيصلي الرجل في
منزله ويكون في سعة من ترك إتيانه إلى المسجد؟
قال: نعم أرجو أن يكون في سعة إن شاء الله
تعالى.
قال محمد بن رشد: هذا من نحو إجازته الجمع بين
المغرب والعشاء في الطين والوحل على ما تقدم
في الرسم الذي قبل هذا، لأن فضيلة الوقت أكثر
من فضيلة الجماعة، فإذا جاز ترك فضيلة الوقت
لهذه العلة جاز ترك فضيلة الجماعة لها. وقد
روي عن زياد عن مالك أن صلاة الصبح في أول
الوقت فذاً أفضل من صلاتها في آخر الوقت في
جماعة.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يخرج إلى الحرس فيسمع مؤذن
المغرب في الحرس فيحرك فرسه ليدرك الصلاة، قال
مالك: لا أرى بذلك بأساً.
قال محمد بن رشد: معناه ما لم يسرع حتى يخرج
بذلك عن حد السكينة المأمور بها في الإتيان
إلى الصلاة، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من
هذا الكتاب.
مسألة
قال مالك: الاضطباع أن يرتدي الرجل فيخرج ثوبه
من تحت يده اليمنى. قال ابن القاسم: وأراه من
ناحية الصماء.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال ابن القاسم،
لأنه إذا أخرج ثوبه من تحت يده اليمنى انكشف
جنبه الأيمن فبدت عورته، ولهذه العلة جاء
النهي في اشتمال الصماء.
(1/312)
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يقعد للتشهد يوم الجمعة في
نافلة فيخرج الإمام، فأراد أن يدعو إلى أن
يقوم الإمام قبل أن يسلم، قال بل يسلم ولا
يدعو.
قال محمد بن رشد: قد استحب مالك في رواية ابن
وهب عنه إذا لم يبق من صلاته إلا السلام أن
يدعو ولا يسلم ما دام المؤذنون يؤذنون والإمام
جالس، والقياس ما في الكتاب لما جاء من ((أن
خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع
الكلام)). فإذا كان خروجه يقطع الصلاة وجب أن
لا يكون له أن يدعو ولا يسلم بعد خروجه، كما
ليس له أن يدعو ولا يسلم بعد قيامه، وبالله
التوفيق.
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء
وسئل مالك عن الرجل يجعل الخاتم في يمينه أو
يجعل فيه الخيط لحاجة يريدها، قال لا أرى بذلك
بأساً.
قال محمد بن رشد: وجه إجازة هذا أو تخفيفه
واضح، وذلك أن التختم في اليسار ليس بواجب،
وإنما كان هو المختار لأن الأشياء إنما تتناول
باليمين، فهو يأخذ الخاتم بيمينه فيجعله في
يساره، فإذا جعله في يمينه ليتذكر بذلك الحاجة
فلا حرج عليه في ذلك. وأما جعله فيه الخيط
فليس فيه أكثر من السماجة عند من يبصره ويراه
ولا يعرف وجه مقصده بذلك ومغزاه ابن شاء الله
وبه التوفيق.
(1/313)
مسالة
وسئل عن الخمر إذا اضطر إليها الرجل، أيشرب،
قال: لا، ولن تزيده الخمر إلا شراً لقول بقطع
جوفه. قيل لأصبغ: ما الفرق للمضطر بين الميتة
والخمر، أرخص للمضطر في الدم وكره له شرب
الخمر إذا اضطر إليها؟ فقال لأن الله ذكر
تحريم الميتة فقال: حرمت عليكم الميتة الآية
ثم استثنى فقال: ((فمن اضطر غير باغ)) الآية،
وذكر تحريم الخمر فقال: ((إنما الخمر
والميسر)) الآية، فلم يستثن فيها للمضطر ولا
غيره.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في الرواية ما الفرق
للمضطر بين الميتة والخمر أرخص للمضطر في الدم
وكره له شرب الخمر، وكان الصواب في الكلام أن
يكون أرخص للمضطر في الميتة وكره له شرب
الخمر، إلا أنه ذكر الدم مكان الميتة لما كان
حكمهما سواء عند الجميع في جميع الأحوال. ووقع
في بعض الروايات: ما الفرق للمضطر بين الميتة
والدم؟ وهو خطأ
(1/314)
لا يصح له
معنى. وقد قال ابن القاسم أيضاً في سماع أصبغ
من كتاب الصيد: إن المضطر يشرب الدم ولا يشرب
الخمر، وقال أيضاً إنه يأكل الميتة ولا يقرب
ضوال الإبل. واحتج ابن وهب هناك للفرق بينهما
وبين الميتة والخمر بمثل حجة أصبغ هنا سواء،
وليست بحجة، إلا من جهة التعلق بالظاهر، وليس
مذهبنا التعلق به وترك القياس والفرق بين الدم
والخمر من جهة القياس أن تحريم الدم عبادة لا
لمعنى يتوقع من شربه، وتحريم الخمر لما يتوقع
من شربه من وقوع العداوة والبغضاء والصد عن
ذكر الله وعن الصلاة. والفرق بين الميتة وضوال
الإبل من جهة القياس أن الميتة لا ملك لأحد
عليها بخلاف ضوال الإبل، فلا يكنن باستباحتها
عند الضرورة متعديا على أحد كما يكون إذا
استباح ضوال الإبل. فإذا قلنا بالفرق بين ذلك
من جهة القياس أو من جهة التعلق بالظاهر، فهل
يمتنع من الخمر وضوال الإبل وإن لم يجد
الميتة؟ أو هل إنما يلزمه الامتناع منهما مع
وجود الميتة؟ فالظاهر من قول أصبغ أنه يمتنع
منهما بكل حال، والظاهر من قول ابن وهب إنما
يلزمه الامتناع منهما إذا وجد الميتة، ويأتي
على ما في الموطأ لمالك من أن المضطر إذا وجد
مالاً لقوم وأمن أن يعد سارقاً فتقطع يده كان
أكل ما وجد للقوم أولى من أكل الميتة، أنه إذا
وجد الميتة وضوال الإبل أكل الضوال ولم يأكل
الميتة، فهي مسألة يتحصل فيها أربعة أقول:
أحدها المساواة بينهما، والثاني أن الأولى به
إذا وجدهما أن يأكل الميتة، والثالث أن الأولى
به إذا وجدهما أن يأكل ضوال الإبل، والرابع أن
لا يقرب ضوال الإبل بحال. وتعليل قول مالك
لقوله إن المضطر لا يشرب الخمر بأنها لا تزيده
إلا شراً يدل على أنه لو كان له في شربها
منفعة لجاز له أن يشربها، وأن لا فرق عنده بين
الميتة والخمر في إباحتهما للمضطر. وقد استدل
محمد بن عبد الحكم في كتاب المولدات على أن
هذا مذهب مالك بهذا التعليل الذي علل به قوله،
واحتج على صحته بأن من غص بلقمة فخشي على نفسه
الموت ولم يجد ماء يستسيغها به إلا بالخمر أن
ذلك جائز له، والظاهر من قول أصبغ أن
(1/315)
ذلك لا يجوز له
كما ذكرنا، وقاله محمد بن عبد الحكم في المحرم
يضطر إلى الميتة أنه يأكلها ولا يأكل الصيد،
يريد إلا أن لا يجد إلا الصيد فإنه يجوز له أن
يأكله على أصله في الذي يغص باللقمة أنه
يستسيغها بالخمر. ولو وجد حماراً أهلياً لأكله
ولم يأكل الصيد للاختلاف في الحمار الأهلي،
ولو وجد المضطر ميتة وخنزيراً لأكل الميتة ولم
يأكل الخنزير، فهذا وجه القول في هذه المسألة
مستوفى، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يخرج من بيته إلى السوق،
وبينه وبين منزله خمسة عشرة ميلا، وخلف ذلك
سوق آخر نحو ذلك أو أكثر، وخلف السوقين سوق
آخر بينه وبينهما نحو من خمسة عشر ميلا، قرى
بعضها خلف بعض، ونيته حين يخرج إن هو باع
سلعته في السوق الأول رجع إلى أهله، وإلا تقدم
حتى يبلغ آخر تلك الأسواق، أيقصر الصلاة أم
يتم؟ قال مالك لا يقصر على الشك وليتم الصلاة،
ولا يقصر حتى ينوي حين يخرج من منزله سفراً
فيه أربعة برد، وعندنا ها هنا مثل هذا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة في
الذي يطلب حاجة على بردين فلم يزل يقال له هي
بين يديك حتى سار مسيرة أيام وليالي، أنه يتم
الصلاة في ذلك، وإنما يقصر في رجعته، وهذا ما
لا أعرف فيه خلافاً.
مسألة
وقال مالك: ينصت الناس في خطبة الاستسقاء
والعيدين كما ينصتون في الجمعة.
(1/316)
قال محمد بن
رشد: وهذا صحيح كما قال، لأنها خطب مشروعة
للصلاة عنده، فوجب أن يكون حكمها حكم خطبة
الجمعة في الإنصات لها. وذهب الطحاوي في خطبة
العيدين إلى أنها للتعليم لا للصلاة كخطب الحج
فلا يجب الاستمتاع إليها والانصات لها. ودليله
ما روي عن عبد الله بن السائب قال: شهدت العيد
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى قال
إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن
أحب أن يرجع فليرجع، وكذلك خطبة الاستسقاء إذ
لا صلاة فيه على مذهبه، والله التوفيق.
مسألة
وسئل عن التروح في الصلاة من الحر، فقال:
الصواب أن لا يفعل. قال ابن القاسم: يريد
المكتوبة، ولا بأس به في النافلة إذا غلبه
الحر.
قال محمد بن رشد: الاشتغال بالتروح في الصلاة
ترك للخشوع فيها، ومجاهدة النفس على الصبر على
شدة الحر وترك التروح ربما أدى إلى ترك
الإقبال على الصلاة، فرأى مالك ترك التروح
والصبر على شدة الحر ومجاهدة النفس على ذلك في
الصلاة أصوب من التروح فيها، لقول الله عز
وجل: ((قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم
خاشعون))، واستخف ذلك ابن القاسم في النافلة
إذ ليست بواجبة.
(1/317)
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يدخل في المسجد الحرام،
أيبدأ بركعة أم بالطواف؟ قال بل بالطواف.
قال محمد بن رشد: الطواف بالبيت في المسجد
الحرام كالصلاة في غيره من المساجد، ولا يتم
إلا بركعتين، فإن دخله وهو لا يريد الطواف به
تلك الساعة وجب عليه أن يركع ركعتين قبل أن
يجلس.
مسألة
وسئل عن الصف يكون خلفه الرجل في صف آخر وأمام
الصف الذي قدامه صفوف منحرفة، أترى أن يشق
الصف إليها؟ قال إن كان ينال ذلك برفق فلا بأس
به.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب وأمام الصف
الذي أمام الصف الذي قدامه، فعلى هذا أجاز له
أن يشق صفيه لسد الفرجة يراها في الصف
المتقدم، ومعنى ذلك إذا كانت الفرجة أمامه،
وأما إن كانت عن يمينه أو يساره فالذي يليها
أولى بسدها منه، وقد قال ابن حبيب إن له أن
يخرق لسدها الصفوف، وذلك لما جاء في الترغيب
في سد الفرجة في الصف، روي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (( من سد فرجة في الصف
رفعه الله بها درجة في الجنة وبنى له في الجنة
بيتاً)).
مسألة
وسئل مالك عن الإمام يكون في الصلاة فينظر إلى
رجل
(1/318)
مقبل، أترى أن
ينتظره؟ قال لا، وكذلك لو رأى أيضاً غيره أكان
ينتظره؟ فنهي عن ذلك.
قال محمد بن رشد: كره مالك للإمام هذا لأن حق
من دخل معه في الصلاة وتحرم بها عليه في أن
يفعل ما يتبعه فيه أولى من حق من قصر عن
الإتيان وأبطأ فيه. ومن أهل العلم من أجاز ذلك
في القدر اليسير الذي لا ضرر فيه على من معه
في الصلاة، بدليل ما روي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم سمع صوت صبي في الصلاة فخفف
وأنه صلى فأطال السجود فسئل عن ذلك قال إن
ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته
مني. وقد حكى بعض الناس عن أبي حنيفة فيمن
تنحنح به وهو يصلي فانتظر المتنحنح به أن
صلاته فاسدة، قال وأخشى عليه، ومعنى ذلك أن
يكون قد عمل بعض صلاته لغير الله عز وجل،
فيكون بذلك كافراً، وهو بعيد، لما جاء عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم مما ذكرناه، والصحيح
عنه الكراهية لذلك مثل قول مالك، وهو قول
الشافعي أيضاً. وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق
وسئل عن الذي يتنخم في المسجد على الحصير ثم
يدلكه برجله، فكره ذلك وقال إن القاسم بن محمد
رأى رجلاً يمضمض في المسجد بعد فراغه من شربه
ثم مجه في الحصباء، فنهاه عن ذلك، فقال له
الرجل وهو يريد أن يحاجه إنه يتنخم فيه وهو شر
من الماء، قال إن ذلك مما لابد للناس منه، ولم
ير مالك بالتنخم تحت الحصير بأساً، وكره مالك
تقليم الأظفار ودفن القمل وقتلها في
(1/319)
المسجد. وسئل
مالك عن التنخم في النعلين في المسجد، فقال
أما إن كان لا يصل إلى موضع حصيرة يتنخم تحتها
فلا أرى بأساً، وإن كان يصل إلى الحصيرة فإني
أستحسنه ولا أحب لأحد أن يتنخم في نعليه.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين. أما كراهيته أن
يتنخم في الحصير ثم يدلكه برجليه فلأن ذلك لا
يزيل أثرها من الحصير، وفي ذلك إذابة للمصلين
وإضاعة لحرمة المسجد. وأجاز أن يتنخم تحت
الحصير كما أجاز أن يتنخم في الحصباء ويدفنه،
فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن يواريه)).
وهذا كله في المدونة. وكره تقليم الأظفار في
المسجد لحرمته، وكره قتل القملة في المسجد ولم
ير دفنها فيه بخلاف النخامة لنجاستها، ولأنه
قد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن قتل القملة في المسجد وأمر بإخراجها منه،
وكان قتل البرغوث في المسجد أخف عنده من قتل
القملة، وكره التنخم في النعلين، إلا أن لا
يصل إلى الحصيرة لظهور ذلك فيهما وربما وضعهما
في المسجد فيعلق به شيء من ذلك. ووقع في بعض
الروايات مكان فإني أستحسنه فإني استقبحه،
فيعود الاستحسان إلى التنخم تحت الحصير إن كان
يصل إليها، والاستقباح إلى التنخم في النعلين
إن كان يصل إلى الحصير، وهذا كله مما لا إشكال
فيه.
مسألة
وسئل مالك عن رجل كبر مع الإمام أو سها حتى
سجد الإمام، قال: إن ظن أنه يدركه قبل أن يرفع
رأسه من السجود فليركع ويسجد ويلحقه، وإلا فلا
يعتد بهها وليركع ركعة إذا فرغ من الصلاة.
(1/320)
قال محمد بن
رشد: هذه مسألة المدونة، تكررت في رسم الصلاة
الثاني من سماع أشهب، وفي أول رسم من سماع
عيسى، وفي رسم لم يدرك منه أكمل مما وقعت ها
هنا. وتلخيص ما وقع فيها من الاختلاف أن لمالك
فيها ثلاثة أقول: أحدها أنه يركع بعد رفع
الأمام رأسه ويتبعه كان ذلك في أول ركعة أو
بعد أن عقد معه ركعة، والثاني أنه يلغي تلك
الركعة ولا يتبع الإمام فيها كان ذلك أيضاً في
أول ركعة أو بعد أن عقد مع الإمام ركعة،
والثالث أنه إن كان ذلك في أول ركعة ألغاها
ولم يتبع الإمام فيها وإن كان ذلك بعد أن عقد
معه ركعة اتبعه، واختلف قوله إلى أي حد يتبعه
على القول الأول إذا عقد معه ركعة على قولين:
أحدهما أنه يتبعه ما لم يرفع رأسه من سجود
الركعة التي غفل عنها، والثاني أنه يتبعه ما
لم يركع في الركعة التي بعدها أو ما لم يرفع
رأسه من ركوعها على الاختلاف في قوله في عقد
الركعة هل هو الركوع أو الرفع منه. وسواء على
مذهبه غفل أو سها أو نعس أو زوحم أو اشتغل بحل
إزاره أو ربطه أو ما أشبه ذلك، وسواء أيضاً
على مذهبه أحرم قبل أن يركع الإمام أو بعد أن
ركع إذا كان لولا ما اعتراه من الغفلة وما
أشبهها لأدرك معه الركعة. وأما لو كبر بعد أن
ركع الإمام فلم يدرك أن يركع معه حتى رفع
الإمام رأسه فقد فاتته الركعة ولا يجزيه أن
يركع بعده ويتبعه قولاً واحداً. وأخذ ابن وهب
وأشهب بالقول الأول إذا أحرم قبل أن يركع
الإمام، وبالقول الثاني إذا أحرم بعد أن ركع
الإمام، ولم يفرقا بين الزحام وغيره. وأخذ ابن
القاسم في الزحام بالقول الثاني، وفيما سواه
من الغفلة والاشتغال بالقول الثالث. وأخذ
بالقول الثاني في الاشتغال، وفيما سواه من
الزحام أو السهو أو الغفلة بالقول الثالث.
وأخذ محمد بن عبد الحكم في الجمعة بالقول
الأول، وفيما عدا الجمعة بالقول الثالث،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن إمام مسجد في عشيرته أتى إلى
المسجد فلما دخل المسجد أقام المؤذن الصلاة
ولم يكن ركع ركعتي
(1/321)
الفجر، أترى أن
يسكت المؤذن حتى يركع ركعتي الفجر أم يصلي
بهم؟ قال بل يصلي بهم الصبح ولا يسكت المؤذن
لهما ولا يخرج من المسجد ولا يركع فيه بعد أن
دخل المسجد ولا يسكت المؤذن.
قال محمد بن رشد: لم ير للإمام أن يسكت المؤذن
لركعتي الفجر، إذ قيل فيهما إنهما من الرغائب
وليستا من السنن، وهي رواية أشهب عن مالك،
بخلاف الوتر الذي هو سنة، وقد قيل فيه إنه
واجب فإن للإمام أن يسكت المؤذن حتى يوتر، وقد
فعل ذلك عبادة بن الصامت.
مسألة
قال مالك: لا أحب لأحد أن يشرب الماء يوم
الجمعة والإمام يخطب ولا يسقي الماء يدور به
على الناس والإمام يخطب.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأنه لما كان
حال الخطبة حال الصلاة في الإنصات وجب أن يكون
حالها حال الصلاة في الأكل والشرب.
مسألة
قال: مالك وقت الصلوات كلها في كتاب الله عز
وجل، فأما قول الله تعالى: ((فسبحان الله حين
تمسون وحين تصبحون))، فذلك المغرب والعشاء
والصبح؛ وقوله ((وعشياً وحين تظهرون))، فعشيا
العصر، وحين تظهرون الظهر؛ وقوله تعالى: ((أقم
الصلاة لدلوك الشمس)) صلاة الظهر ((إلى غسق
الليل)) قال: الغسق غيبوبة الشفق واجتماع
الليل وظلمته، ((وقرآن
(1/322)
الفجر إن قرآن
الفجر كان مشهوداً)). قال مالك: ذلك وقت صلاة
الصبح. قال: والأعراب يقولون صلاة الشاهد صلاة
المغرب وذلك أني تفكرت في ذلك فإذا هي لم تنقص
في السفر، هي فيه وذلك أني تفكرت في ذلك فإذا
هي لم تنقص في السفر، هي فيه بمنزلتها في
الحضر لم تقصر كما قصرت الصلوات، فلذلك سميت
صلاة الشاهد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إن وقت الصلوات
كلها في كتاب الله، ولكنها فيه مجملة غير
محدودة، فلو تركنا وظاهر القرآن لم نعرف منه
أوائل الأوقات التي لا تجوز الصلاة قبلها من
أواخرها التي لا يجوز تأخيرها إلى ما بعدها،
ولا وقت الاختيار من وقت الضرورة، ولا وقت
التوسعة من وقت الرخصة للعذر، وقد بينت السنة
ذلك كله وأحكمته. فالأوقات تنقسم على خمسة
أقسام: وقت اختيار وفضيلة وهو أن يصلي قبل
انقضاء الوقت المستحب، وهو القامة للظهر،
والقامتان للعصر، والإسفار للصبح، ومغيب الشفق
للمغرب على اختلاف في ذلك، وثلث الليل أو نصفه
للعشاء الآخرة؛ ووقت رخصة وتوسعة هو أن يصلي
في آخر الوقت المستحب؛ ووقت رخصة للعذر وهو أن
يؤخر الظهر إلى آخر وقت العصر المستحب؛ ووقت
رخصة للعذر وهو أن يؤخر الظهر إلى آخر وقت
العصر المستحب أو يعجل العصر في أول وقت الظهر
المستحب وهو أول الزوال أو بعدما يمضي منه
مقدار ما يصلي فيه صلاة الظهر على اختلاف ذلك؛
ووقت تضييق من ضرورة وهو أن يؤخر الظهر والعصر
إلى غروب الشمس، والصبح إلى طلوع الشمس،
والمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر؛ ووقت سنة أخذ
بحظ من الفضيلة للضرورة، وهو الجمع بين
الصلاتين بعرفة والمزدلفة. وقد قيل إنما سميت
المغرب صلاة الشاهد من أجل النجم الظاهر عند
غروب الشمس، فالشاهد النجم، وهو أظهر مما ذهب
إليه مالك، لأن الصبح لم تقصر أيضاً هي في
السفر بمنزلتها في الحضر.
(1/323)
مسألة
وسئل عن قول الرجل في صلاة العشاء العتمة، قال
مالك: الصواب من ذلك ما قال الله تعالى: ((ومن
بعد صلاة العشاء))، فسماها الله تعالى العشاء،
فأحب للرجل أن يعلمها أهله وولده ومن يكلمه
بذلك، فإن اضطر أن يكلم بها أحداً ممن يظن أنه
لا يفهم عنه فإني أرجو أن يكون من ذلك في سعة.
قال محمد بن رشد: وجه كراهية مالك أن تسمى
العشاء الآخرة العتمة إلا عند الضرورة ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: ((لا
يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم إنما هي
العشاء ولكنهم يعتمون على إبلهم)). وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم
الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا
إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ولو يعلمون ما
في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في
العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً))، فسمى
العشاء في هذا الحديث العتمة، فالوجه في الجمع
بين الحديثين أن الذي كانت العرب تعرفه في اسم
هذه الصلاة العتمة للمعنى المذكور في الحديث
الأول، فكان المر على ذلك إلى أن أنزل الله عز
وجل: ((يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين
ملكت أيمانكم)) إلى قوله: ((ومن بعد صلاة
العشاء))، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
تسميتها العتمة. وفي كتبا ابن مزين أن من قال
في صلاة العشاء العتمة كتبت عليه سيئة، وبالله
التوفيق.
(1/324)
مسألة
وسئل مالك عن براءة أيقرأ فيها بسم الله
الرحمان الرحيم؟ قال مالك: تقرأ كما أنزلت
وليس فيها بسم الله الرحمن الرحيم.
قال محمد بن رشد: في قوله تقرأ كما أنزلت وليس
فيها بسم الله الرحمن الرحيم دليل على أن
غيرها من السور أنزلت وفيها بسم الله الرحمن
الرحيم، ومعنى ذلك أنها أنزلت وفيها بسم الله
الرحمن الرحيم للاستفتاح والفصل بينها وبين
التي قبلها لا على أن ذلك قرآن منها، بدليل ما
روي عن ابن عباس أنه قال: كان جبريل إذا نزل
على النبي صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن
الرحيم علم أن السورة قد انقضت، وروي عن أبي
بن كعب أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يأمر في أول كل سورة بسم الله الرحمن
الرحيم وكانت براءة من آخر ما نزلت ولم يأمر
فيها بذلك فضمت إلى الأنفال إذ كانت تشبهها،
يريد من أجل أنها إنما نزلت بنقض العهود التي
تقدمت في الأنفال، فالأنفال وبراءة على قوله
سورتان، وكذلك هما سورتان على ما روي عن
البراء أنه قال: ((آخر آية نزلت يستفتونك وآخر
سورة نزلت براءة)) فقيل إنه إنما لم يكتب في
أول براءة بسم الله الرحمن الرحيم لأنها نزلت
بالحرب والمنابذة والوعيد ونقض العهود، وبسم
الله الرحمن الرحيم، إنما تكتب في السلم لا في
المنابذة وفي استفتاح الخير لا في الوعيد ونقض
العهود. وقيل إنها لم تكتب في أولها بسم الله
الرحمن الرحيم إعظاماً
(1/325)
لاسم الله في
خطاب المشركين، وهذا يرده ما في كتاب الله من
قصة سليمان في كتابه إلى صاحبة سبإ ويرد الأول
بثبوت بسم الله الرحمن الرحيم في الهمزة وتبت
يدا. وقد قيل إن براءة من الأنفال فلذلك لم
يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم. روي عن
عثمان بن عفان أنه قال: لما كانت قصتها شبيهة
بقصتها وذهب عني أن أسأل النبي صلى الله عليه
وسلم عنها، وقع في قلبي أنها منها، فلذلك قرنت
بينهما دون فصل ببسم الله الرحمن الرحيم،
وبالله التوفيق، [والحمد لله ولا شريك له] تم
كتاب الصلاة الأول.
* * * * * * * *
* * * * *
(1/326)
|