البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة بسم الله
الرحمن الرحيم،
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً
كثيرا
كتاب الصلاة
الثاني
ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما مال
وقال مالك في السهو قبل السلام إن عليه إذا
سجد سجدتين تشهداً آخر، وروى أشهب عن مالك أنه
لا تشهد لها.
قال محمد بن رشد: ابن وهب يستحب التشهد في
ذلك، وذلك راجع إلى سقوط وجوبه، فوجه سقوطه
ظاهر قوله في الحديث: سجد سجدتين ثم سلم ولم
يذكر تشهداً ولا جلوسه بعد السجدتين من الجلوس
قبلهما، إذ لم يفصل بينهما بسلام ولا ركوع،
فلم يجب عليه تشهد آخر. أصل ذلك لو ظن بعد
التشهد أنه في ثالثة فلما قام ذكر أنها رابعة
أنه يرجع فيسلم ولا يعيد التشهد. ووجه وجوبه
أن هذا وجوبه أن هذا جلوس بعد سجدتين فوجب فيه
التشهد، أصله الجلوس الذي قبله، وأما السجدتان
اللتان بعد السلام فلا اختلاف في أنه يتشهد
بعدهما.
مسألة
وسئل مالك عن أهل منى إذا انصرفوا فأدركهم
الوقت ولم يبلغوا الأبطح ولا مكة فيما بين منى
ومكة وهم يريدون أن تكون لهم إقامة، وعن أهل
مكة إذا أدركهم في ذلك الوقت، قال مالك: من
(1/327)
انصرف من أهل
مكة من منى إلى مكة فأدركه الوقت وخاف ذهاب
الوقت قبل أن يبلغ فإني أرى أن يصلي أربعاً،
لأن صلاة منى قد انقطعت ولا يكون في ميلين ولا
ثلاثة ما تقصر فيه الصلاة. قال مالك: ومن أقام
منهم بمنى ليخف الناس عنه ويذهب زحامهم قال
أرى أن يتم الصلاة وإن كان بمنى، وأرى أهل
الآفاق ومن كان منهم يريد الإقامة بمكة أكثر
من أربعة أيام فأرى أن يقتدي بأهل مكة في ذلك،
ومن أقام لمثل زحام الناس ومن خاف فوات الوقت
فيما بين مكة ومنى أن يصلي أربعاً. قال ابن
القاسم: ثم قال لي مالك ركعتين في ذلك كله.
قال ابن القاسم: وقوله الأول أعجب إلي. قال
أصبغ: وبه أقول إنه يقصر حتى يأتي مكة، وقال
سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه
المسألة في رسم شك في طوافه فلا معنى لإعادته.
مسألة
قال ابن القاسم: وسئل مالك عن الرجل يكبر في
النافلة فتقام الصلاة، قال: ليمض على نافلته
ولا يقطعها إلا أن يخاف فوات الركعة. قال ابن
القاسم: إن خاف فوات الركعة قطع بسلام، فإن لم
يقطع بسلام أعاد الصلاة لأنه على إحرامه
الأول، ولا يخرج من الصلاة التي كان فيها إلا
بسلام، ولا يجزيه أن يحرم وينوي بذلك القطع.
قال محمد بن رشد: كذا قال في المدونة في هذه
المسألة، وقال فيها في الذي يحرم في الفريضة
فتقام عليه الفريضة إنه يقطع، فذهب
(1/328)
عبد الحق إلى
أن الفريضة تفترق من النافلة على مذهبه في
المدونة، وأنه إنما قال فيها إنه يقطع في
الفريضة بخلاف النافلة، لن الفريضة إذا قطعها
يعود إليها، والنافلة إذا قطعها لا يعود
إليها، ولأن الفريضة إذا تمادى عليها تحول
نيته إلى نية النفل، والنافلة إذا تمادى عليها
لم تحل نيته عما أحرم عليه. والصواب أن لا فرق
في هذا بين النافلة والفريضة، وأن الخلاف يدخل
في كل واحدة منهما من صاحبتها، لأن نية الفرض
مقتضية لنية النفل، فلا تأثير لتحول نيته من
الفرض إلى النفل في إيجاب القطع، ولأن الفريضة
وإن كان إذا قطعها يعود إليه فإنه وإن عاد
إليها فقد أبطل على نفسه ما هو فيه، وإذا
أتمها نافلة لم يبطل على نفسه ما دخل فيه
وحصلت له نافلة وفريضة، فاستوت مع النافلة في
أن الحظ له في أن لا يقطعها. ويؤيد هذا الذي
قلناه أن ابن حبيب قد قال في الفريضة إنه يتم
على إحرامه ركعتين خفيفتين نافلة، ثم يدخل مع
الإمام. وق حكى الفضل أن أصحاب مالك ذهبوا إلى
أنه يقطع في الفريضة ويتم في النافلة، وأن
عيسى بن دينار ساوى بين الفريضة ويقطع في
النافلة ضد التفرقة المذكورة، فيحصل في
المسألة أربعة أقوال: هذان القولان، والثالث
أنه يقطع فيهما جميعا، والرابع أنه يتم ركعتين
فيهما جميعاً على ما صححناه. وأما إذا أقيمت
عليه الفريضة وهو في نافلة أو فريضة وقد عقد
منها ركعة فإنه يتم إليها ثانية، ولا اختلاف
في هذا إلا في المغرب على ما سيأتي في سماع
سحنون إن شاء الله. وإنما قال إنه يقطع بسلام
ولا يجزيه أن يحرم وينوي بذلك القطع لقول
الرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحريم
الصلاة التكبير وتحليلها التسليم))، فإذا دخل
مع الإمام قبل أن يتحلل من الصلاة التي دخل
فيها بسلام أو كلام بطلت عليه، وهذا بين،
وبالله التوفيق.
(1/329)
ومن كتاب أوله
اغتسل على غير نية
وقال في الدبيب في الركوع إذا كان على قدر
صفين أو ثلاثة فلا أرى بالركوع بأساً والدبيب
فيه، وأما إذا كان بعيداً فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة اختلف فيها قول
مالك، والذي يتحصل فيها من اختلافه ثلاثة
أقوال: أحدها رواية ابن القاسم هذه عنه أن
الركوع والدبيب جائز فيما كان على قدر الصفين
أو الثلاثة إذا أمكنه أن يصل إلى الصف والإمام
راكع، وهو مذهبه في المدونة، فلم يترجح عنده
على هذا القول أي الأمرين أفضل إن كان الركوع
دون الصف وإدراك الركعة أو ألا يركع حتى يأخذ
مقامه في الصف وإن فاتته الركعة، لما جاء في
ذلك من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الركوع دون الصف، ومن فعل زيد بن ثابت وعبد
الله بن مسعود في ركوعهما دون الصف ودبيبهما
راكعين إليه. والقول الثاني أنه لا يحرم حتى
يأخذ مقامه في الصف، وهي رواية أشهب عنه في
رسم الصلاة الثاني من هذا الكتاب، فرأى على
هذا القول الإحرام في الصف مع فوات الركعة
أفضل من الإحرام والركوع دون مع إدراك الركعة.
والقول الثالث أنه لا يركع حتى يأخذ مقامه من
الصف أو يقاربه، حكى هذا القول عنه ابن حبيب
في الواضحة. وهذا القول قريب من رواية أشهب عن
مالك لأنه استخف الركوع إذا قرب من الصف وكره
الدبيب إذا بعد منه. وأما إذا كان إذا ركع دون
الصف لا يدرك أن يصل إلى الصف راكعاً حتى يرفع
الإمام رأسه فلا يجوز له عند مالك أن يركع دون
الصف، وليتماد إلى الصف وإن فاتته الركعة
قولاً واحداً، فإن فعل أجزأته ركعته عنده وقد
أساء، ولا يمشي إلى الصف إذا رفع رأسه من
الركوع حتى يتم الركعة ويقوم في الثانية، قال
ذلك في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب. وقال
ابن القاسم في المدونة إنه يركع دون الصف
ويدرك الرابعة، فرأى المحافظة على الركعة أولى
من المحافظة على الصف، ورجح أبو إسحاق التونسي
قول ابن القاسم، وقول
(1/330)
مالك عندي أولى
بالصواب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي
بكر لما ركع دون الصف: ((زادك الله حرصاً ولا
تعد))، ولما جاء عنه أنه قال: ((لا صلاة
لمنفرد خلف الصف)). وأما ركوعه على البعد من
الإمام بحيث لا يمكنه أن يصل إلى الصفوف بعد
قيامه من الركعة لكثرة المشي فلا ينبغي لأحد
أن يفعله إلا أن تكون معه جماعة سواه، قاله
مالك في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب، وفرق
فيه بين الجماعة الكثيرة والقليلة استحباباً،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الصور التي في الرقوم مثل الوسائد
يتخذها الرجل قال: ترك ذلك أحب إلي، ولا أحب
أن يصلي على بساط فيه صور إلا أن يضطر إلى
ذلك. وقد كان ابن عمر يقول إني لا أحب أن يجعل
بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمه .
قال محمد بن رشد: ذهب مالك، رحمه الله، في
كراهة اتخاذ الوسائد التي فيها الصور والصلاة
على البساط الذي فيه الصور من غير تحريم إلى
ما ذكره في موطأه عن أبي طلحة الأنصاري: ((إذ
دخل على سهل بن حنيف فدعا إنساناً فنزع من
تحته نمطاً، فقال له سهل بن حنيف لم تنزعه؟
قال: لأن فيه تصاوير، وقد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيها ما قد علمت، فقال له سهل
بن حنيف: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إلا ما كان رقماً في ثوب قال: بلى ولكنه
أطيب لنفسي))، واستظهر لما ذهب إليه بقول ابن
عمر الذي ذكره، وهو حقيقة الورع، لأن الآثار
لما تعارضت في الصور التي في البسط والثياب
(1/331)
صار ذلك من
قبيل المشتبهات، وقد قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما
أمور مشتبهات فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه
وعرضه))، الحديث. واختلف أهل العلم في هذا
الباب على حسب اختلاف الآثار في ذلك، فيتحصل
فيه من اختلافهم بعد إجماعهم على تحريم ما له
ظل قائم كالصور المتخذة من الصفر والحديد
والخشب ونحو ذلك أربعة أقوال: أحدها إباحة ما
عدا ذلك سواء كان التصوير في جدار أو في ثوب
مبسوط أو منصوب؛ والثاني: تحريم جميع ذلك؛
والثالث: تحريم ما كان من الصور في الجدار
والثوب المنصوب، وإباحة ما كان منها في الثوب
المبسوط أو المنصوب الذي يوطأ أو يتوسد؛
والرابع تحريم ما كان منها في الجدار خاصة،
وإباحة ما كان منها في الثوب المبسوط أو
المنصوب، وبالله التوفيق.
مسألة
قال مالك: ليس للإمام في العيدين تكبير ينتهي
إليه، يعني في الخطبة على المنبر.
قال محمد بن رشد: هذا على مذهبه المعلوم في
كراهية الحد في مثل هذه الأمور، وقد مضت هذه
المسألة والقول فيها في رسم سن رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
مسألة
وقال مالك في أهل البادية يصيبهم كسوف الشمس،
قال: إن تطوع أحد فصلى بهم صلاة الكسوف لم أر
بذلك بأساً.
قال محمد بن رشد: يريد أهل البادية الذين لا
تجب عليهم صلاة
(1/332)
الجمعة، وأما
من كان منهم تجب عليه الجمعة فلا رخصة لهم في
ترك الجمع في صلاة الكسوف، لأن صلاة الكسوف
سنة لا تترك كالعيد، وكذلك قال في المدونة.
مسألة
وقال: ومن جاء وقد فاتته الصلاة يوم الجمعة
والناس قعود فكبر وجلس، قال: أرى أن يعود
بتكبيرة أخرى ولا يصلي بها، فقلت له: أيسلم أم
يكبر؟ قال: لا، ولكن يستأنف بتكبيرة أخرى ثم
يصلي.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول
فيها في رسم طلق فلا وجه لإعادتها.
مسألة
وسئل عن الرجل يصلي في منزله المكتوبة،
أيصليها بزوجته وحدها؟ قال: نعم وتكون وراءه.
قال محمد بن رشد: قوله للرجل أن يصلي بزوجته
وحدها وأنها تكون وراءه صحيح مما أجمع عليه
العلماء ولم يختلفوا فيه، لأن من سنة النساء
في الصلاة أن يكن خلف الرجال وخلف الإمام لا
في صف واحد معه ولا معهم. واحدة كانت أو
اثنتين أو جماعة. وإنما الكلام في الرجل أو
الرجلين إذا كانا مع الإمام، فأما إذا كان معه
رجل واحد فإنه يقوم عن يمين الإمام على ما ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس
وغيره، ولا خلاف في ذلك إلا ما يؤثر عن سعيد
بن المسيب أنه يقوم عن يسار الإمام، وأراه
تأول أن النبي، عليه السلام، ائتم بأبي بكر إذ
خرج في مرضه الذي توفي فيه وهو يصلي بالناس،
كما تأول مالك، رحمه الله، فيما مضى في رسم
سن. وقد
(1/333)
جاء في الحديث
الصحيح: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس عن
يسار أبي بكر))، وقع ذلك في البخاري وغيره،
فجعله لما كان في مرضه الذي توفي فيه ناسخاً
لحديث ابن عباس وغيره. وأما إذا كان معه رجلان
فالجمهور من أهل العلم على أنهما يقومان خلف
الإمام على ما في حديث أنس وغيره من قوله:
((فصففت أنا واليتيم من ورائه والعجوز من
ورائنا فصل لنا ركعتين ثم انصرف)) وذهب طائفة
من أهل العراق إلى أن الإمام يقوم وسطهما، لما
روي أن عبد الله بن مسعود صلى بعلقمة والأسود
فجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله قالا:
ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا فضرب أيدينا
بيده وطبق فلما فرغنا قال هكذا فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وقال أبو يوسف: الإمام
بالخيار إن شاء فعل كما روى ابن مسعود، وإن
شاء كما روى أنس، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل في رمضان يكون في المسجد
ويكون منزله نائياً فيأتيه من أهله الطعام
فيأكله في المسجد، قال: أرجو أن يكون خفيفاً.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في رسم
الشجرة تطعم بطنين في السنة أكمل من هذه، ومضى
التكلم على ما كان في معناه في رسم سلعة سماها
وغيره فلا معنى لإعادته.
مسألة
وقال مالك في الرجل تحضره الصلاة فيريد أ،
يصلي وعنان فرسه قصير لا يبلغ الأرض، قال:
أرجو أن يكون في سعة،
(1/334)
ولا أحب أن
يتعود ذلك ويكون ذلك شأنه، فأما الرجل يفعله
وهو لا يعمد لذلك فأرجو أن يكون في سعة.
قال محمد بن رشد: الذي مضى في رسم الشجرة من
تخفيف ذلك إذا لم يجد منه بداً أحسن من هذا،
فتأمل ذلك وقف عليه.
مسألة
وقال: لا بأس أن يؤم الرجل أصحابه في السفر
بغير رداء ولا عمامة.
قال محمد بن رشد: قال في المدونة وأحب إلي أن
يجعل على عاتقه عمامة إذا كان مسافراً أو صلى
في داره. ومثل ذلك في كتاب ابن حبيب. وقد سئل
عمر بن الخطاب، رضي الله عنه ، عن الصلاة في
الثوب الواحد، فقال: ((إذا أوسع الله عليكم
فأوسعوا على أنفسكم جمع عليه رجل ثيابه صلى في
إزار ورداء))، الحديث. ورأى عبد الله بن عمر
نافعاً يصلي في خلوته في ثوب واحد فقال له:
ألم أسك ثوبين؟ قال: بلى، قال: أفكنت تخرج إلى
السوق في ثوب واحد؟ قال: لا، قال: فالله أحق
أن يتجمل له.
ومن كتاب أوله البز
وسئل مالك عن المساجد تكون بالأفنية يدخلها
الكلاب ويمشى فيها ويدخلها الدجاج، أترى أن
يصلى فيها؟ قال: نعم لا أرى بذلك بأساً.
(1/335)
قال محمد بن
رشد: يريد ـ والله أعلم ـ ما لم يكثر دخول
الكلاب والدجاج فيها ومشيهم فيها، بدليل قوله
في أول رسم من هذا الكتاب في الكنائس وغيره
أحب إلي لموضع وطء أقدامهم ونجسهم.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل أيقرأ خلف صلواته يعني
الركعتين الآخرتين بأم القرآن وحدها أم يقرأ
معها؟ قال: بل بأم القرآن وحدها.
قال محمد بن رشد: هذا قول مالك وجميع أصحابه،
وهو مذهب أهل الحجاز، وخالف في ذلك أهل
العراق، فمنهم من يقول يسبح فيهما ولا يقرأ،
وروي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه
كان لا يقرأ فيهما، ومنهم من أجاز التسبيح
ورأى القراءة فيهما أفضل. [وهو مذهب أبي
حنيفة، ومنهم من أجاز القراءة ورأى التسبيح
فيهما أفضل]. وإلى هذا ذهب إبراهيم النخعي؛
ومنهم من قال إن شاء قرأ فيهما بأم القرآن
وزاد منه ما كان في معنى الدعاء على ما روي عن
أبي عبد الله الصنابحي أنه قال: سمعت أبا بكر
الصديق قرأ في الركعة الثالثة من المغرب بأم
القرآن وبهذه الآية: ((ربنا لا تزغ قلوبنا بعد
إذ هديتنا))، الآية، وإن شاء سبح فيهما ودعا
ولم يقرأ. ولم ير مالك، رحمه الله، فيهما إلا
القراءة، فقال في المدونة إنه لا يعرف التسبيح
فيهما، وقد قال ابن القاسم في سماع أبي زيد:
لو أعلم أن أحداً لا يقرأ في الركعتين
الأخيرتين من الظهر ما صليت خلفه.
(1/336)
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يكلم وهو في الصلاة فيشير
بيده أو برأسه، قال: لا يكثر، فأما الشيء
الخفيف فأرجو أن لا يكون فيه بأس، فأما أن
يطول ذلك فلا يعجبني.
قال محمد بن رشد: أجاز من ذلك ما خف عند
الحاجة والأمر ينزل، ونجد هذا في سماع زونان
عن ابن وهب لما جاء من أن النبي صلى الله عليه
وسلم رد إشارة على من سلم عليه وهو يصلي. وعن
أسماء بنت أبي بكر قالت: أتيت عائشة زوج
النبي، عليه السلام، حين خسفت الشمس فإذا
الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي، فقلت:
ما للناس؟ فاشارت بيدها نحو السماء وقالت:
سبحان الله! فقلت آية؟ فأشارت برأسها أي نعم.
وكره ما كثر منه لأنه ترك للخشوع في الصلاة
الذي أثنى الله تعالى على من التزمه بقوله:
((قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم
خاشعون)).
مسألة
قيل له: فالتنحنح في الصلاة؟ قال: هذا منكر لا
خير فيه.
قال محمد بن رشد: يريد إذا تنحنح ليسمع رجلاً
أو لينبهه في شيء كما يفعل كثير من الجهال
بالإمام إذا أخطأ في القراءة في قيام رمضان،
فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه على هذه
الرواية. قال أبو بكر الأبهري: لأن التنحنح
ليس له حروف هجائية تفهم، وقد روي عن علي بن
أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: كان لي من
رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان، فكنت
إذا دخلت عليه وهو يصلي تنحنح، وروي سبح وهو
أولى لقوله عليه السلام:
(1/337)
((من نابه في
صلاته شيء فليسبح)). ولمالك في المختصر أنه
إذا تنحنح ليسمع رجلاً أو نفخ في موضع سجود
فذلك كالكلام تفسد به الصلاة عليه، وسيأتي في
سماع موسى لمالك نحو قوله هنا.
مسألة
وسئل عن الذي يرمي عن القوس وعليه الأصابع
والمضربة تحضره الصلاة، أترى أن ينزعهما؟ قال:
نعم، قال عبد الله بن عمر: إن اليدين يسجدان
كما يسجد الوجه، وأرى أن ينزعهما إلا أن يكون
ذلك في حرب.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة تبين مسألة
الخضاب التي تقدمت في رسم شك في طوافه على ما
ذكرناه فيه.
مسألة
وسئل مالك عن الذي يقول في الصلاة إذا كبر
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، قال: قد سمعت ذلك
يقال وما أرى به بأساً إن أحب أحد يقوله، فقيل
له الإمام يكبر قط ويقرأ، قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا التوجيه وهو التسبيح
والدعاء بعد الإحرام قبل القراءة قد روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم، فمما روي عنه أن
كان يقوله في ذلك: ((وجهت وجهي للذي فطر
السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين.
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي إلى قوله وأنا أول
المسلمين))، أي وأنا أول المسلمين من القرن
الذي بعثت فيهم، لأنه قد
(1/338)
كان قبله
أنبياء ومسلمون. وأنكر ذلك مالك في المدونة
ولم ير عليه العمل. قال في المجموعة: ولو كان
ما يذكر من ذلك حقاً لعرف، قد صلى النبي، عليه
السلام، والخلفاء بعده والأمراء من أهل العلم
فما علم به عندنا، وأجازه في هذه الروايات
واستحسنه في رواية محمد بن يحيى السبائي عنه.
وقال ابن حبيب: إنه يقوله بعد الإقامة وقبل
الإحرام وذلك حسن، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الزيت تقع فيه الفأرة هل ينتفع
به للمصباح؟ قال: نعم إن قووا على التحفظ في
مسه، لأن أهل البيت يمسون المصباح، ويأخذون
القدح والقصبة وما أشبه ذلك، فإن قووا على
التحفظ منه فلا بأس به. فقيل له: فهل ينتفع به
في غيره؟ قال مالك: قد قيل لي نعال يدهنونها
به كأنه تجففه. قال ابن القاسم: وزعم لي غيره
أنها تغسل بعد ذلك وإنا ذلك في دباغها.
قال محمد بن رشد: إجازته الاستصباح بزيت
الفأرة صحيح على أصله الذي لم يختلف فيه قوله
في المدونة وغيرها من إجازة الانتفاع بالأشياء
النجسة، وجليله على ذلك قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الميتة: ((ألا انتفعتم
بجلدها)) وتابعه على قوله جميع أصحابه إلا ابن
الماجشون فإنه لم يجز الانتفاع بذلك في وجه من
وجوه المنافع، لما روي من أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ((أمر أن لا يستمتع من الميتة
بإهاب ولا عصب)). وما ذهب إليه ابن القاسم
فيما حكاه عم حكى قوله أن تخفيف مالك لدهن
النعال به معناه في
(1/339)
الدباغ لأن
الغسل يأتي عليها تفسير صحيح، وينبغي أن يحمل
على التفسير أيضاً لإجازته في سماع أشهب من
كتاب الذبائح والصيد أن يدهن به الدلاء. وقد
مضى القول في سماع أصبغ من كتاب الوضوء في
إجازة غسله، وأجاز ابن وهب من أصحاب مالك
بيعه، وقد مضى لمالك نحوه بدليل في أول رسم
الشجرة تطعم بطنين في السنة.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يأتي من سفر فيأتي في سعة
من النهار لو أحب أن يدخل نهاراً دخل، ويكره
أن يدخل نهاراً حتى يمسي فيقيم على رأس الميل
والميلين: أترى أن يقصر الصلاة أم يتم؟ قال:
بل يقصر الصلاة إلا إن كان قريباً من القربة.
فقيل له: فما حد القرب؟ قال: ما نجد في ذلك
حدا، وإنما يحد في مثل هذا أهل العراق.
قال محمد بن رشد: قوله إلا أن يكون قريباً من
القرية معناه فيتم وإن كان لم يصل إلى بيوت
القرية وبساتينها، وإنما ذلك من أجل أنه أقام
بذلك الموضع لما أراده من حاجته، ولو مشى لكان
قد بلغ إلى الموضع الذي يلزمه أن يتم فيه.
وكان القياس أن يقصر حتى يدخل بيوت القربة أو
يقاربها وأن لا يعتبر إقامته فيما قرب من ذلك
كما لا يعتبرها فيما بعد منه. واستحسانه أن
يتم إذا كانت إقامته بالقرب من بيوت القرية
كنحو استحسانه لمن أقام بمنى في رجوعه من حجه
إلى مكة وهو من أهل مكة، أو ينوي الإقامة لها
أن يتم على القول الذي يرى أنه يتم في طريقه
من منى إلى مكة، وقد مضت هذه المسألة في رسم
شك في طوافه ورسم الشريكين، فقف على ذلك.
مسألة
وسئل مالك عن قيام الخطيب على المنبر في
الجمعة لا يطلع
(1/340)
على المنبر
أعلى يمينه أم على شماله؟ قال: إن جل من عندنا
ليقومون على يسار المنبر، ولقد كان عبد الله
بن عبد الرحمان بن القاسم بن محمد وغيره
ليقومون على يمينه، وأرى ذلك واسعاً. فقيل له
فالعصا؟ قال ما أدركت أحداً ممن أدركته ولا
ممن كان عندنا إلا وهو لا يعيبها، وإن قائلاً
ليقول إن فيها لشغلاً عن مس اللحية والعبث،
فقيل له: أيمس الرجل لحيته في الصلاة؟ قال:
نعم، إن الرجل يمس لحيته في الصلاة ولكن لا
يعبث.
قال محمد بن رشد: المنبر يكون على يمين
المحراب فالجهة التي تليه منه هي يمينه والجهة
الأخرى هي يساره، فوجه القيام على يمينه أقرب
إلى المحراب وأقل في التخطي إليه إذا فرغ من
الخطبة، ووجه القيام عن يساره ليعتمد بيمينه
على عمود المنبر فالاختيار عندي لمن لا يمسك
بيده عصى يتوكأ عليها في خطبته أن يقوم على
يسار المنبر ليعتمد بيمينه على عمود، ولمن
يمسك بيده عصا أن يقوم على يمينه. وظاهر هذه
الرواية أن إمساك الخطيب بيده عصا مباح، والذي
مضى في آخر رسم سلعة سماها أن ذلك مستحب هو
الصحيح، لأن الماضي من فعل النبي صلى الله
عليه وسلم والخلفاء بعده. وإنما قال إنه لا
يعبث بلحيته في الصلاة لأن ذلك ترك للخشوع
فيها، وقد روي ذلك عن النبي، عليه السلام، على
ما مضى في أول مسألة من هذا السماع.
ومن كتاب أوله باع غلاماً
وسئل مالك عن المريض يكون مسكنه قريباً من
المسجد فهو يتبلغ إليه ماشياً ثم يصلي جالساً،
قال: لا يعجبني ذلك، ولو أصابه بعد أن يأتي
المسجد أمر وقد جاءه صحيحاً لم أر به بأساً أن
يصلي جالساً.
(1/341)
قال محمد بن
رشد: وهذا كما قاله، لأنه إذا قدر على الإتيان
من مسكنه إلى المسجد وإن كان قريباً لا يضعف
عن القيام في الصلاة، وإن ضعف عن طول القيام
مع الإمام فيلزمه أن يقف معه ما أطاق، فإذا
ضعف عن القيام جلس في بقية ركعته، ويفعل ذلك
في كل ركعة، لأن القيام عليه فرض في كل ركعة،
ولا يسقط عنه وهو قادر عليه، وبالله التوفيق.
مسألة
وقال مالك في الذي يكثر عليه السهو أرى أن
سجدتيه إنما تكونان بعد السلام، وذلك أنه يكثر
عليه السهو، وإنما هو شيء يقوله إني أتخوف أن
أكون قد سهوت ولا يستيقن، فلا أحب أن يزيد في
صلاته شيئاً على الشك ولعله لم يسه، ولو كان
يستيقن لأمرته أن يجعلهما قبل السلام.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة في الذي
يستنكح بكثرة الشك في النقصان، فلا يدري أنقص
شيئاً أم لم ينقص، ومثل هذا لمالك أيضاً في
رسم أوصى ورسم إن خرجت من سماع عيسى، يريد ولا
يبني على اليقين لأنه مستنكح بكثرة السهو.
وقال ابن حبيب في الواضحة: إنه يسجد قبل
السلام، واختاره الفضل. وقد روي عن مالك أنه
لا سجود عليه في نحو هذه المسألة، فقال الفضل:
إنها هذه المسألة، وإن ذلك اختلاف من قول
مالك، وذهب محمد بن المواز أنها ليست هذه
المسألة وإنما قال مالك: إنه لا سجود عليه في
الذي يكثر عليه السهو في الصلاة لا الشك فيه،
فهذا لابد له من إصلاح ما سها إذ لا يشك فيه،
ثم لا سجود عليه بعد إصلاحه لكثرة سهوه، ويسجد
عند فضل في هذه المسألة بعد إصلاح سهوه على ما
يوقن به، وبالله التوفيق.
(1/342)
مسألة
وسئل عن الرجل مال محمله حتى حول رأسه إلى رأس
البعير، فإذا أراد أن يصلي ويحول وجهه إلى دبر
البعير، قال: لا أحب له أن يصلي إلا على سير
البعير الذي يسير عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله، لأن قبلته
التي يصلي إليها إذا صلى على بعيره وجهته التي
يصير إليها، لقول الله عز وجل: ((فأين ما
تولوا فثم وجه الله))، فإذا صلى ووجهه إلى دبر
البعير فقد صلى إلى غير قبلته في تلك الحال
وإن كان وجهه تلقاء الكعبة، وبالله التوفيق.
مسألة
قال مالك: لم أزل أسمع أن صاحب المنزل أولى
بالتقدم في الصلاة في منزله، ولقد بلغني أن
رجالاً من أهل الفضل والفقه ان كانوا لينزلون
بالرجل في منزله فيقدمونه فيه لأنه منزله، ولم
أزل أسمع أن صاحب الدابة أولى بصدرها من الذي
يردفه، ورأيته يستحسنه.
قال محمد بن رشد: المعنى في كون صاحب المنزل
أحق بالإمامة فيه من غيره هو أنه ليس لأحد أن
يصلي في منزل غيره حتى يأذن له في الموضع الذي
يصلي فيه منه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم
لعتبان بن مالك: ((أين تحب أن أصلي فأشار له
إلى مكان من البيت فصلى فيه)). فإذا لم يكن
لأحد أن يتقدم في منزل رجل إلى موضع الإمام
منه إلا بإذنه وكان هو أحق بالصلاة في ذلك
الموضع من غيره ثبت أنه أحق بالإمامة فيه، غير
أنه يستحب له إذا كان
(1/343)
في القوم أحق
الإمامة منه أن يقدمه، وكذلك صاحب الدابة هو
أولى بصدر دابته إذا أباح للرجل أن يركب معه
عليها، إلا أن يأذن له في ركوب مقدمها، لأن
الذي يركب مقدمها هو الذي يملكها وهو الذي
يحكم له لها لو تداعى فيها مع الذي يركب
مؤخرها، فليس لأحد أن يزيله عن هذه المرتبة
إلا باختياره، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن النوم على الوجه وهو ساجد، قال
من طال ذلك منه فليتوضأ أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قد تقدم تفصيل القول في هذه
المسألة وتبيين وجهها قبل هذا في رسم سن فلا
معنى لإعادته ذلك.
مسألة
فقيل له: يا أبا عبد الله، إن ناساً يحيون
الليل كله، فكره ذلك كراهة شديدة وعابه وقال:
إن أحدهم لا يدري ما يقرأ وينام في الصلاة،
ولعله لا يصلي الصبح إلا وهو مغلوب. قال:
((لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة))، فكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم أدنى من
ثلثي اليل ونصفه، فأحب للرجل إذا كان يصلي من
الليل فأصابه النوم أن ينام حتى يذهب عنه
النوم، ولا يصلي وهو يجد ذلك. قال ابن القاسم:
رجع بعد ذلك وقال لا بأس بذلك إذا قوي عليه
إذا لم يضر ذلك بصلاة الصبح.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه
المسألة في رسم طلق فلا فائدة لإعادته.
(1/344)
مسألة
وسئل مالك عن القيام في الصلاة من السجود بغير
اعتماد على اليدين، فقال: لا بأس بذلك وكرهه
أيضاً.
قال محمد بن رشد: قال في المدونة إن شاء اعتمد
وإن شاء لم يعتمد، وكان لا يكره الاعتماد. وفي
رسم الصلاة الأول من سماع أشهب أنه كره ترك
الاعتماد، فمرة أجاز مالك ترك الاعتماد وفعله
ورأى ذلك سواءً، وهو مذهبه في المدونة، ومرة
استحب الاعتماد وخفف تركه، وهو الذي يدل عليه
قوله في هذه الرواية، لا بأس بذلك، أي لا بأس
بتركه، ومرة استحبه وكره تركه، وهو قوله في
هذه الرواية: وكرهه أيضاً، أي كره تركه. وقوله
في سماع أشهب أيضاً وهو أولى الأقوال بالصواب،
لأن قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك
البعير، ولكن يضع يديه ثم ركبتيه)) فإذا أمره
صلى الله عليه وسلم أن يضع يديه بالأرض إذا
قام ليلاً يشبه البعير في قيامه، وهذا بين
وإلى هذا نحا بقوله في سماع أشهب ما يطيق هذا
إلا الشاب الخفيف اللحم الذي يقول هاتوا من
يضع جنبي، فكأنه رأى الاعتماد من السكينة في
الصلاة، والله أعلم. وفي البخاري: ((عن ابن
عمر أنه كان إذا سجد وضع يديه قبل ركبتيه))،
وحكى عنه ابن حبيب خلاف ذلك أنه كان إذا سجد
أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه ثم يداه ثم
وجهه، وإذا رفع وجهه ثم يديه ثم ركبتيه.
قال محمد بن رشد: وقد روي عن وائل بن حجر أنه
قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يفعل ذلك)). قال ابن حبيب: ومن تحرى هذا فحسن،
ومن
(1/345)
لم يطقه فلا
حرج، وذلك شأن لا يطيقه إلا الشاب الصحيح
الجسم الخفيف اللحم كما قال مالك، والذي ذكر
عنه البخاري أحسن وأقرب إلى السكين، والله
أعلم.
ومن كتاب أوله صلى نهاراً ثلاث ركعات
وسئل مالك عن القوم يتذاكرون الفقه، القعود في
ذلك أحب إليك أم الصلاة؟ قال: بل الصلاة، فقلت
له: فما بين الظهر والعصر؟ قال: قيل لسعيد بن
المسيب إن قوماً يصلون ما بين الظهر والعصر،
فقال سعيد: ليست هذه عبادة إنما العبادة الورع
عما حرم الله والتفكير في أمر الله. قال مالك:
وإنما كانت صلاة القوم بالهاجرة والليل ولم
تكن هذه صلاة القوم.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مالك أن العناية
بالعلم أفضل من الصلاة، وهو الذي تدل عليه
الآثار. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال: ((مثل المجاهد في سبيل الله مثل الصائم
القائم الدائم الذي لا يفتر عن صلاة ولا صيام
حتى يرجع))، وقال: ((ما أعمال البر كلها في
الجهاد إلا كبصقة في بحر وما أعمال البر كلها
والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر))،
ورأى في هذه الرواية أن الصلاة في الأوقات
المرغب في الصلاة فيها كالهواجر وآخر الليل
أفضل من الجلوس لمذاكرة العلم فكأنه ذهب إلى
أن محافظة العلماء على الصلاة في هذه الأوقات
وإيثارهم لذلك على الجلوس فيها لمذاكرة العلم
إجماع منهم على أن ذلك أفضل، فخصص عموم الآثار
الواردة في أن طلب العلم أفضل أعمال البر بهذا
الإجماع فرأى
(1/346)
الصلاة فيها
أفضل ورأى فيما سواها الجلوس لمذاكرة العلم
أفضل، لا سيما بين الظهر، لقول سعيد بن المسيب
فيها ليست عبادة، أي ليست عبادة من العبادات
المرغب فيها، لا أنها ليست عبادة أصلاً، ولما
جاء من أن عمر بن الخطاب كان إذا صلى الظهر
جلس للناس يحدثهم بما يأتيه من أخبار الأجناد
ويحدثونه عن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم،
فهو قول له وجه والله أعلم. وروي عن سحنون أنه
قال: يلزم أثقلهما عليه. ووجه قوله أن الأدلة
استوت عنده من ناحية السمع في الأفضل من ذلك،
فرجع إلى ما يوجبه النظر مما قد قرره الشرع من
أن الأجود في الأعمال يكون على قدر النصب
والعناء فيها، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الذي يصيبه الوعك، أيجمع الصلوات
كلها؟ فقال: إن أصباه ذلك بعد أن تزيغ الشمس
فليصل بالظهر والعصر جميعاً، فإن أفاق من
الليل صلى المغرب والعشاء جميعاً فيما بينه
وبين طلوع الفجر.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة في الوعك
الشديد الذي يشبه المغلوب على عقله فلا يقدر
معه على الصلاة. وقوله إن أصابه ذلك بعد أن
تزيغ الشمس فليصل الظهر والعصر، معناه إن كان
من عادته أن يصيبه ذلك بعد أن تزيغ الشمس
فليصل الظهر والعصر جميعاً إذا زاغت الشمس قبل
أن يصيبه مخافة أن يصيبه فلا يقدر على الصلاة.
ويدل على هذا التأويل قوله في آخر المسألة:
فإن أفاق من الليل صلى المغرب والعشاء جميعاً
فيما بينه وبين طلوع الفجر، لن الذي يقدر على
الصلاة مع مرضه إلا أن الجمع به أرفق لا يباح
له أن يؤخر المغرب والعشاء إلى عند طلوع
الفجر، ويؤمر أن يجمع بينهما عند مغيب الشفق،
إلا أن هذا الذي معه عقله إن خشي مغيب الشمس
ولم يصل الظهر والعصر أو طلوع الفجر ولم يصل
المغرب والعشاء
(1/347)
يصلي كيفما
أمكنه، ولا يترك الصلاة حتى يخرج وقتها جملة،
وستأتي هذه المسألة في آخر سماع موس وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل عن الذي يصلي في بيته فدخلت عليه شاة
فأكلت ثوباً أو عجيناً، أيطردها ينحرف إليها؟
قال مالك: إن كان في المكتوبة فلا يفعل.
قال محمد بن رشد: قال ها هن فلا يفعل، ووقع من
قوله في سماع موسى بن معاوية فلا يقطع، ولا
يؤدي ذلك إلى اختلاف. وإنما المعنى في ذلك أنه
يتمادى على صلاته ولا يشتغل فيها بطر الشاة عن
ثوبه أو عجينه إن كان طرها يسيراً لا تفسد
عليه به صلاته، ولا يقطع أيضاً صلاته لطردها
على ذلك إن كان في طردها عنه شغل كثير تفسد
عليه به صلاته. ولم يفرق بمالك في هاتين
المسألتين بين أني كون الذي يخشى عليه من فساد
ثوبه أو عجينه ما له بال وقدر وقيمة أو ما لا
بال له ولا قدر لقيمته. وإلى الفرق بين ذلك
ذهب ابن القاسم في سماع موسى عنه فقال في
الرجل يخطف رداؤه وهو يصلي إنه لا بأس أن يقطع
ويذهب في طلب ردائه ثم يستأنف صلاته. وقال في
الذي يخاف على الشيء من متاع البيع أن ينفسد
مثل زقاق الزيت والخل يخاف عليها أن تنشق ما
دل على أنه يسعه أ، يسويها ويصلحها ويتمادى
على صلاته، خلاف ما ذهب إليه مالك من كراهة
الاشتغال في صلاته بنحو هذا، وهو أظهر عندي من
قول مالك، لأنه إن ترك ذلك الشيء يفسد وله قدر
وقيمة كثيرة وتمادى في صلاته ولم يشتغل
بإصلاحه دخل عليه من اشتغال باله بتلفه وفساده
ما هو أشد عليه من اشتغاله بتلافيه وإصلاحه
ورفع الفاسد عنه، مع في ذك من إضاعة المال
الذي قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
(1/348)
مسألة
وسئل مالك عن القرية والثغريكون فيه قوم
يرابطون ستة أشهر أو أكثر أيجمعون الجمعة:
قال: إن كانت قرية فيها بيوت متصلة وسوق فإني
أرى لهم جمعة، وإن لم يكونوا كذلك فلا أرى لهم
جمعة.
قال محمد بن رشد: يريد إن كان للقرية التي
يقيم فيها المرابطون بيوت متصلة لها عدد وسوق
دون القوم المرابطين بها، وجبت عليهم الجمعة،
وأما إن لم يبلغوا العدد المشترط في وجوب
الجمعة إلا بمن فيها من المرابطين فلا تجمع
فيها الجمعة. واختلف قول مالك في اشتراط السوق
في ذلك، فمرة ذكره ومرة تركه، فليس بشرط في
ذلك على أصل مذهبه. وقد مضى نحو هذا في رسم
الشجرة تطعم بطنين في السنة.
مسألة
وسئل مالك عن الذي يقيم الصلاة لنفسه ثم يسمع
الإقامة في بعض المساجد، أترى أن يقطع ويخرج
لفضل الجماعة؟ قال لا أرى ذلك إن دخل في
الصلاة المكتوبة أن يخرج إلى جماعة، وليتم على
صلاته.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة أنه لا
يقطع ويتمادي على صلاته. والوجه في ذلك أنه
لما دخل في الصلاة وجب عليه إتمامها ولم ينبغ
له أن يقطعها إلا لعذر، لقول الله عز وجل:
((ولا تبطلوا أعمالكم))، ولا عذر له في الخروج
لفضل الجماعة، إذ ليس إتيانها بواجب عليه، فلا
ينبغي له ترك لما ليس بواجب، وبالله التوفيق.
(1/349)
مسألة
وسئل عمن خرج من الفسطاط إلى بئر عميرة وهو
مقيم ثم اليوم واليومين، مثل ما يصنع الأكرياء
حتى يجتمع الناس ويفرغوا، أيتم الصلاة أم
يقصر؟ قال: بل يقصر.
قال محمد بن رشد: قد تكلمنا على هذه المسألة
عندما تكلمنا على المسألة الواقعة قرب آخر رسم
حلف، وذكرنا هناك الفرق الصحيح عندنا بين
المسألتين فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن إمام بلد نزل منها في أقصى
المدينة فصل بمكانه الجمعة واستخلف خليفة على
القصبة يصلي بهم، فكان يجمع بمن حضره ويصلي
خليفته بأهل المدينة فتكون جمعتان في مدينة
واحدة في يوم واحد، قال مالك لا أرى الجمعة
إلا لأهل القصبة، لأنه ترك الجمعة في موضعها.
قال محمد بن رشد: الظاهر من قول مالك ها هنا
أن الجمعة إنما تكون لأهل القصبة وأنه لا جمعة
للإمام ولمن صلى معه في أقصى المدينة، وأن
عليهم الإعادة ظهراً أربعاً. وهذا المعنى هنا
أبين مما هو في المدونة، وإن كان ظاهراً فيها،
لأنه لا يكون عند على هذه الرواية جمعتان في
مصر واحد. وقد روى ابن وهب وابن أبي أويس عن
مالك أن صلاتهما جميعاً جائزة. وسئل عن ذلك
لشك من شك في جواز صلاة من لم يصل مع الإمام،
فقال صلاتهم جائزة. قال ابن وهب: ولم يشكوا في
جمع الجمعة في موضعين، وإنما شكوا أن تكون
الجمعة مع الإمام أوجب منها مع خليفته. وقد
قال يحيى بن عمر ومحمد بن عبد الحكم: أما
الأمصار العظام مثل مصر
(1/350)
وبغداد فلا بأس
أن يجمعوا في مسجدين للضرورة، وقد فعل ذلك
والناس متوافرون فلم ينكروه.
مسألة
وسئل عن القوم يبرزون من مكة إلى ذي طوى
يريدون المسير، أيقصرون بها؟ قال لا أرى ذلك،
ولكن أرى لهم أن يتموا حتى يسيروا.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب الحج الثالث
من المدونة، وزاد لأن ذا طوى عندي من مكة،
فذكر لعلة في ذلك وبان بذلك أن ذلك ليس بمعارض
لمسألة جب عميرة التي تقدمت في هذا الرسم.
مسألة
وسئل عن القوم يكونون في المسجد يوم عرفة
فيكبرون فيه ويدعون حتى لا يجد بدا من كان فيه
إلا أن يدخل معهم، قال: أرى له أن يخرج حتى
إذا حضر الوقت رجع فصلى.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى في رسم
حلف بطلاق امرأته، فلا معنى لإعادته، وبالله
التوفيق.
ومن كتاب أوله مساجد القبائل
قال: وسئل مالك عن مساجد القبائل يصلى فيها
بغير أردية، فكرهه وقال: قال الله تبارك
وتعالى: ((خذوا زينتكم عند كل مسجد)).
(1/351)
قال محمد بن
رشد: قد استدل مالك ـ رحمه الله ـ لما ذهب
إليه من كراهة ترك الرداء في الصلاة في
المساجد بالآية التي تلاها. وهو دليل ظاهر،
لأن الرداء من الزينة، فكان الاختيار أن لا
يترك في مسجد من المساجد تعلقاً بالعموم
والظاهر، وإن كانت الآية إنما نزلت في الذين
كانوا يطوفون بالبيت عراة، فالفرض من اللباس
ما يستر العورة منه، قال الله عز وجل: ((يا
بني آدم قد أنزلنا عليكم لبساً يواري
سوآتكم))، والاختيار منه في الصلاة في المساجد
بلوغ الزينة المباحة، قال عز وجل: ((قل من حرم
زينة الله التي أخرج لبعاده والطيبات من
الرزق)) الآية وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل ينام بعد المغرب، قال ذلك
يكره، قبل له فالنوم بعد الصبح؟ قال ما أعلم
حراماً.
قال الإمام: إنما كره النوم بعد المغرب لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي
برزة الأسلمي أنه نهى عن النوم قبل صلاة
العشاء وعن الحديث بعدها. ولا معنى في النهي
عن النوم قبل صلاة العشاء مخافة أن يغلب
النائم النوم فتفوته صلاتها في الجماعة أو في
وقتها المختار، وفي النهي عن الحديث بعدها
إراحة الكتاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد
أخبر أن القلم مرتفع عن النيام، وكره رسول
الله صلى الله عليه وسلم السمر إلا لمصل أو
مسافر. وقال مجاهد: لا يجوز السمر بعد العشاء
إلا لمصل أو مسافر أو مذاكر. ووجه السؤال عن
النوم بعد
(1/352)
الصبح ما روي
عن عيد بن عمير أن عبد الله بن الزبير قال: يا
عبيد أما علمت أن الأرض عجت إلى ربها عز وجل
وجل من نومة العلماء بالضحى مخافة الغفلة
عليهم، وما روي عن عثمان بن عفان قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الصبحة تمنع
بعض الرزق))، وهو حديث يضعفه أهل الإسناد، فلم
يصح عند مالك شيء من ذلك، ولذلك قال ما أعلم
حراماً. وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص
أنه كان يقول: النوم ثلاثة، فنوم خرق، ونوم
خلق، ونوم حمق، فأما نومة خرق فنومة الضحى
يقضي الناس حوائجهم وهو نائم، وأما نومة خلق
فنومة القائلة، وأما نومة حمق فنومة حين تحضر
الصلوات وقد كره بعض الناس النوم بعد العصر
لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا
نفسه)). وقد عارض ذلك ما روت أسماء من ((أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عليا في
حاجة بعد أن صلى الظهر بالصهباء فرجع وقد صلى
النبي صلى الله عليه وسلم العصر فوضع النبي
صلى الله عليه وسلم: رأسه في حجر علي فلم
يحركه حتى غابت الشمس فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: ((اللهم إن عبدك عليا احتبس بنفسه
على نبيه فرد عليه شرفها قالت أسماء فطلعت
الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض ثم قام
علي رضي الله عنه فتوضأ وصلى العصر ثم غابت
الشمس)). وهذا من أجل علامات النبوءة، وفيه
الرتبة الجليلة لعلي بن أبي طالب، فتحفظ هذا
الحديث واجب، فمن اجتنب النوم في هذه الأوقات
لما جاء فيها مما يتقى منها فما أخطأ، والله
أعلم.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يرك فيرفع رأسه فلا يعتدل
قائماً حتى
(1/353)
يهوي إلى
السجود، أترى أن يعيد تلك الركعة؟ قال: لا،
ولكن لا يعود. قال: ابن القاسم وهو رأيي.
قال المؤلف: مثل هذا في رسم التفسير من سماع
عيسى، فالاعتدال في الفصل بين أركان الصلاة
على هذا من سنن الصلاة لا من فرائضها، ومن
أصحابنا المتأخرين من ذهب إلى أن ذلك من
فرائضها، وإن لم يعتدل قائماً في رفعه من
الركوع ولا جالساً في رفعه من السجود أعاد
الصلاة، ودليله ما روي أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: ((لا صلاة لمن لم يقم صلبه في
الركوع والسجود)) وأنه قال: ((لا تجزئ صلاة لا
يقيم الرجل فيها صلبه إذا رفع رأسه من الركوع
والسجود)). وهذا ليس بدليل قاطع لاحتمال أن
يريد لا صلاة له متكاملة الأجر ولا تجزئ
الإجزاء الذي هو أعلى مراتب الإجزاء. واستدل
أيضاً بما روي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال للذي صلى ولم يتم الركوع والسجود:
((ارجع فصل فإنك لم تصل)) مرة وثانية. وهذا
أيضاً محتمل أن يكون إنما أمره أن يعيد ليعلمه
سنة الصلاة، لا لأن الصلاة كانت فاسدة لا
تجزئه، ويكون معنى وقله فإنك لم تصل، أي لم
تصل الصلاة على السنة والهيئة التي ينبغي أن
تصلى عليها. وسيأتي في الرسم المذكور من سماع
عيسى القول فيمن خر من ركعته ساهياً ولم يرفع
رأسه أصلاً إن شاء الله.
مسألة
وسئل عن القوم يكونون في السفر، من ترى أن
يؤمهم وفيهم
(1/354)
الفقيه وذو
السن والقارئ؟ قال: الفقيه في رأيي أن يؤمهم،
وإن لذي السن حقاً. فقيل له أفرأيت الرجل يؤم
عمه وهو أصغر منه؟ قال: العم والد فلا أرى أن
يؤمه وإن كان العم أصغر منه. قال ابن القاسم
إلا أن يقدمه. قال سحنون: وذلك إذا كان العم
في العلم والفضل مثل ابن الأخ.
قال محمد بن رشد: قوله إن الفقيه أولى
بالإمامة من القارئ صحيح، لأن أعلم بأحكام
الصلاة وما تفسد به مما لا تفسد منه، وهو
مذهبه في المدونة، لأنه قال فيها: يؤم القوم
أعلمهم إذا كانت له الحال الحسنة. قيل له
فأقرؤهم؟ قال: قد يقرأ من لا ترضي حاله. هذا
معنى قوله، ومعنى ما روي ((يؤم القوم أقرؤهم))
إن أقرأهم في ذلك الوقت كان أفقههم لأنهم
كانوا يقرؤون القرآن بأحكامه من حلاله وحرامه
وناسخه ومنسوخه وخاصة وعامه. وقد روي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يؤم القوم
أقرؤهم))، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم
بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم
هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم
سناً. فإذا اجتمع الفقيه أولى وصاحب الحديث
والمقرئ والعابد، ثم ذو السن. وإنما كان
الفقيه أولى بالإمامة من المحدث وإن كان أفضل
منه لأن أعلم بأحكام الصلاة منه. وإنما كان
المحدث أولى بالإمامة من المقرئ وإن كان أفضل
منه أيضاً لأنه أعلم بسنن الصلاة منه. وإنما
كان المقرئ الماهر بالقراءة إذا كانت له الحال
لحسنة أولى بالإمامة من العابد لأن القراءة
مضمنة بالصلاة وليست العبادة مضمنة بها. وإنما
كان العابد أولى بالإمامة من ذي السن لزيادة
فضله عليه لكثرة قربائه. وإنما كان
(1/355)
ذو السن أحق
بالإمامة ممن دون في السن لأن أعماله تزيد
بزيادة سنه فهي زيادة في الفضل، فلو كان
الأحدث سناً أقدم إسلاماً لكان أولى بالإمامة
منه إذ لا فضيلة في مجرد السن. ألا ترى إلى ما
في الحديث من تقديم الأقدم هجرة على الأقدم
سناً.
والإمامة تستوجب أيضاً بأربعة أشياء سوى ما
ذكرنا، وهي الأبوة، والعمومة، والإمارة،
واستحقاق موضع الصلاة. فالأب يؤم ابنه إذا
كانت له الحال الحسنة وإن كان أدنى مرتبة منه
في العلم والفضل، وكذلك العم أيضاً يؤم ابن
أخيه، قال في الرواية وإن كان دون في السن،
فإذا جعله أحق منه بالإمامة وإن كان دونه في
السن مع أن الزيادة في السن زيادة في الفضل
فليلزم على قياس قوله أن يكون أحق منه
بالإمامة وإن كان دون فيه الفضل والعلم إذا
كانت له الحال الحسنة، خلاف قول سحنون. ويلزم
على قياس قول سحنون أن يكون الابن أحق بإمامة
أبيه وإن كانت له الحال الحسنة إذا كان الابن
أظهر حالاً منه في المعرفة أو الصلاح، وذلك
بعيد لحق الأب على ابنه. وأما الأمير وصاحب
المنزل فلا كلام في أنهما أحق بالإمامة إذا
كانت لهما الحال الحسنة وإن كان غيرهما أعلى
مرتبة منهما في العلم والفضل.
مسألة
وسئل عن العروس يدخل بأهله في ليلة الجمعة،
أيتخلف عن الجمعة؟ قال لا، ولا عن الظهر
والعصر لا يتخلف عنهما ويخرج إليهما. ثم قال
إذا كان من ينظر إليه يفتي بالجهالة جرت في
الناس. قال سحنون: وقد قال بعض الناس لا يخرج
لأنه حق لها من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال مالك: ما يعجبني للعروس ترك الصلاة كلها.
(1/356)
قال محمد بن
رشد: قول مالك إن العروس ليس له أن يتخلف عن
الجمعة ولا عن الصلاة في الجماعة هو الحق الذي
لا وجه لسواه، إذ لا حق للزوجة عليه في منعه
من شهود الجمعة والجماعة، ولا له بالمقام
عندها عذر في التخلف عنهما، وإنما معنى قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للبكر سبع
وللثيب ثلاث)) أن يكون معها ويبيت عندها دون
سائر أزواجه إن كانت له أزواج سواها، وليس
عليه أن يلزم المقام عندها ليله ونهاره فلا
يخرج إلى الصلاة ولا يتصرف فيما يحتاج إليه من
حوائج ديناه، ولا لها ذلك عليه إن سألته إياه،
وإنما الذي لها من الحق أن يقيم عندها المدة
التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لها
دون غيرها من نسائه. قيل عليه وعلى سائر
أزواجه، وقيل بل على سائر أزواجه لا عليه.
وعلى هذا الاختلاف يختلف أيضاً إن لم تكن له
زوجة سواها، هل لها عليه حق في المقام معها
والمبيت عندها المدة التي وقتها لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم على ما جاء في الحديث أم
لا؟ فعلى القول بأن ذلك حق لها عليه وعلى سائر
أزواجه يكون ذلك لها، وعلى القول بأن ذلك حق
لها على أزواجه لا عليه لا يكون ذلك لها، إذ
الحق لها إنما هو على أزواجه إن كانت له أزواج
لا عليه. وقد قيل إن ذلك إنما هو حق له على
سائر أزواجه لا حق لها، والأول أظهر. وظاهر ما
حكى سحنون عن بعض الناس أن لها من الحق عليه
أن لا يخرج إلى جمعة ولا إلى غيرها، وهي جهالة
ظاهرة كما قال مالك رحمه الله وغلطة غير
خافية. وقول مالك ما يعجبني للعروس ترك الصلاة
كلها، معناه عندي ما يعجبني أن يخفف للعروس
ترك الصلاة كلها في الجماعة مع الناس في
المسجد، وإنما الذي يعجبني أن يخفف له ترك
بعضها للاشتغال بزوجه والجري إلى تأنيسها
واستمالتها، وهذا فيما عدا الجمعة التي شهودها
عليه فرض، وبالله التوفيق.
(1/357)
مسألة
وسئل مالك عن النبر في القرآن في الصلاة، قال
إن لأكرهه وما يعجبني ذلك.
قال محمد بن رشد: يريد بالنبر إظهار الهمزة في
كل موضع على الأصل، فكره ذلك في الصلاة،
واستحب فيها التسهيل على رواية ورش، لما جاء
من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن من
لغته الهمزة. روي: ((أنه أتي بأسير يرعد فقال
أدفوه)) يريد صلى الله عليه وسلم أدفئوه من
الدفء، ((فذهبوا به فقتلوه فوداه رسول الله
صلى الله عليه وسلم من عنده)). ولو أراد قتله
لقال دافوه ودافوا عليه بالتثقيل. ولهذا
المعنى كان العمل جارياً بقرطبة قديماً أن لا
يقرأ الإمام في الصلاة بالجامع إلا برواية
ورش، وإنما تغير ذلك وتركت المحافظة عليه منذ
زمن قريب. ويحتمل أن يريد بالنبر في القرآن في
الصلاة الترجيع الذي يحدث في الصوت معه نبر في
غير موضع النبر ويحتمل أن يريد التحقيق الكثير
في الهمزات إلى ما سوى ذلك مما يأخذ بعض
المقرئين القراءة عليهم من الترقيق والتغليظ
والروم والشم وإخفاء الحركة وإخراج جميع
الحروف، لأن الاشتغال بذلك في الصلاة يشغل عن
تدبره وتفهم حكمه والاعتبار بعبره.
(1/358)
مسألة
وسئل مالك أيهم أوجب، أركعتا الفجر أم الوتر؟
قال بل الوتر بكثير. قال مالك: إن ابن عمر لم
يكن يركع ركعتي الفجر في السفر.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في سماع أبي زيد،
ومثل ما يقوم في المدونة أن ركعتي الفجر سنة
خلاف ما في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب،
وخلاف ما لأصبغ في سماع عيسى من كتاب
المحاربين أنهما ليستا بسنة. وأصل هذا
الاختلاف اختلافهم في المعنى الذي من أجله
تسمى النافلة سنة، إن كان لكونها مقدرة لا
يزاد عليها ولا ينقص منها، أو لكون الاجتماع
لها والجماعة فيها مشروعين لها وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يقرأ مع الإمام فيما أسر
فيفرغ من السورة التي ابتدأها فيقرأ معه
بغيرها إذا ختمها، وربما قرأ بالسورتين
والثلاث قبل أن يفرغ الإمام، قال نعم يقرأ
بذلك. قال ابن القاسم: يعني أن يقرأ إذا فرغ
من السورة غيرها ولا يقيم ساكناً.
قال محمد بن رشد: هو مخير إن شاء قرأ كما قال،
وإن شاء سكت، وإن شاء دعا، الأمر في ذلك كله
واسع.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل إذا فاتته ركعتان، أهي أول
صلاته أم آخرها؟ فقال هي آخر صلاته، ويقضي ما
فاته بأم القرآن وسورة.
(1/359)
قال محمد بن
رشد: ستأتي هذه المسألة في رسم الجواب،
واختلاف قول ملك فيها، وسنتكلم عليها هناك إن
شاء الله.
مسألة
وسئل مالك عن الرجلين يدخلان المسجد وهما في
مؤخر المسجد وتقام الصلاة وهما في مؤخر المسجد
مقبلان إلى الإمام، فيحرم الإمام وهما
يتحدثان، قال أرى أن يتركا الكلام إذا أحرم
الإمام.
قال أبو الوليد: وهذا كما قال، لأن تحدثهما
والإمام في الصلاة وهما في المسجد مقبلان إلى
الصلاة من المكروه البين، لأنه لهو عما
يقصدانه من الصلاة وإعراض عنه، وبالله
التوفيق.
ومن كتاب
أوله مرض وله أم ولد فحاضت
وسئل مالك عن رجل صلى في بيته الظهر ثم جاء
إلى المسجد فوجد الناس قعوداً في آخر صلاتهم
وظن أن عليهم ركعتين، فكبر ثم قعد فسلم
الإمام، قال: يسلم وينصرف ولا أرى عليه شيئاً.
قال ابن القاسم: وقد سمعته يقول لو ركع ركعتين
يريد بذلك إذا كانت صلاة يصلى بعدها، وإن
انصرف ولم يفعل فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: إنما خفف له القطع إذا لم
يعقد ركعة من أجل أنه لم يدخل على نية
النافلة، وإنما دخل على نية الفريضة، فلم
يلزمه ما لم ينو. وقد مضى في رسم سلف ما يشبه
هذا المعنى.
(1/360)
مسألة
قال مالك من نيس التشهد حتى سلم الإمام وهو
معه، قال يتشهد ويسلم ولا يدعو بعد التشهد.
قال محمد بن رشد: يريد ولا سجود سهو عليه، لأن
قد تشهد قبل سلامه وإن كان بعد سلام الإمام،
لأنه لا يخرج من الصلاة بسلام الإمام حتى يسلم
هو، وبالله التوفيق.
ومن كتاب
أوله نذر سنة بصومها
وسئل عن قول الناس سبحان ربي العظيم وبحمده في
التشهد، قال: قد كتب إلي الأمير في ذلك فأجبته
أني لا أعرف هذا. فقيل له فلا تراه؟ قال: لا.
فقيل له فإذا أمكن سجوده وركوعه فقد تم؟ قال:
نعم .
قال محمد بن رشد: هذا مثل قوله في المدونة إنه
لا يوقت في ذلك تسبيحاً، وإنه إذا أمكن يديه
من ركبتيه في ركوعه وجبهته من الأرض في سجوده
فقد تم ركوعه وسجوده، وكان يقول: إلى هذا تمام
الركوع والسجود. وقوله: لا أعرف هذا، معناه لا
أعرفه من واجبات الصلاة، وكذلك قوله إنه لا
يراه، معناه لا يراه من حد السجود الذي لا
يجزئ دونه لا أنه يرى تركه أحسن من فعله، لأن
التسبيح في سجود الصلاة من السنن التي يستحب
العمل بها عند الجميع. وقد روي ((أنه لما نزلت
في سورة الواقعة فسبح باسم ربك العظيم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوها في
ركوعكم، ولما نزلت:
(1/361)
سبح اسم ربك
الأعلى قال اجعلوها في سجودكم)). وروي عنه أنه
قال: ((من ركع فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم
ثلاث مرات فقد تم ركوعه وذلك أدناه. ومن سجد
وقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد
تم سجوده وذلك أدناه)). قال ابن حبيب: يريد أن
ذلك أدنى التخفيف الذي ينبغي في الركوع
والسجود. وقد روي عن يحيى وعيس بن دينار أنهما
قالا: من صلى الفريضة فركع وسجد ولم يذكر الله
تعالى في ذلك أعاد صلاته في الوقت وبعده، وهذا
على طريق الاستحسان لا على طريق الوجوب، والله
أعلم.
مسألة
وسئل مالك عن قيام الرجل بعد فراغه من الصلاة
يدعو قائماً، قال: ليس هذا بصواب ولا أحب لأحد
أن يفعله. وسئل أيضاً عن الدعاء عند خاتمة
القرآن، فقال لا أرى أن يدعو ولا نعلمه من عمل
الناس. وسئل عن الرجل ينصرف هو وأصحاب له
فيقفون يدعون فأمر بهم، أترى أن أقف معهم؟ قال
لا ولا أحب لهذا الذي يفعل هذا أن يفعله ولا
يقف يدعو.
قال محمد بن رشد: الدعاء حسن، ولكنه إنما كره
ابتداع القيام له عند تمام القرآن وقيام الرجل
مع أصحابه لذلك عند انصرافهم من صلاتهم
واجتماعهم لذلك عند خاتمة القرآن، كنحو ما
يفعل بعض الأئمة عندنا من الخطبة على الناس
عند الختمة في رمضان والدعاء فيها وتأمين
الناس على
(1/362)
دعائه وهي كلها
بدع محدثات لم يكن عليها السلف، ((وكل محدثة
بدعة وكل بدعة ضلالة)). وهذا من نحو ما مضى في
رسم حلف بطلاق امرأته، ورسم صلى نهاراً ثلاث
ركعات، من كراهيته للاجتماع للدعاء يوم عرفة
بعد العصر في المساجد، فرحم الله مالكاً فما
كان أتبعه للسنة وأكرهه لمخالفة السلف.
مسألة
وسئل ملك عن تنقيض الأصابع في المسجد، قال: ما
يعجبني ذلك في المسجد ولا في غير المسجد.
قال محمد بن رشد: وقع في المدونة كراهية ذلك
في الصلاة خاصة، ولم يتكلم على ما سوى الصلاة،
وكرهه مالك ها هنا في الصلاة وفي المسجد وفي
غير المسجد، لأنه من فعل الفتيان وضعفة الناس
الذين ليسوا على سمت حسن، وكرهه ابن القاسم في
المسجد دون غيره من المواضع، لأنه من العبث
الذي ينبغي أن لا يفعل في المساجد وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل عن تشبيك الأصابع في المسجد أسمعت فيه
شيئاً؟ قال: إنهم لا يذكرون شيئاً ولا أعلم به
بأساً. وأخبرنا محمد بن خالد عن عبد الله بن
نافع قال: جلس داوود بن قيس إلى مالك ومالك
مشبك بين أصابعه، فأومأ داوود إلي يدي مالك
ليطلقهما وقال ما هذا؟ فقال له مالك: إنما
يكره هذا في الصلاة.
(1/363)
قال محمد بن
رشد: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
النهي عن تشبيك الأصابع في الخروج إلى المسجد
للصلاة وفي المسجد وفي الصلاة. روي عن أبي
أمام قال: لقيت كعب بن عجرة وأنا أريد الجمعة
وقد شبكت بين أصابعي، ففرق بينها وقال: ((إنا
نهينا أن يشبك أحدنا بين أصابعه في الصلاة))،
فقلت إني لست في صلاة، فقال ألست قد توضأت
وأنت تريد الجمعة، قال قلت بلى، قال فأنت في
صلاة. وروي عنه أنه قال: ((سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: إذا توضأ أحدكم وخرج
يريد المسجد فهو في صلاة ما لم يشبك بين
أصابعه)). وروي عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال له: يا كعب بن عجرة إذا توضأت فأحسنت
الوضوء ثم خرجت إلى الصلاة فلا تشبك بين
أصابعك فإنك في صلاة)). ولم يصح عند مالك رحمه
الله من هذا كله إلا النهي عن تشبيك الأصابع
في الصلاة خاصة، فأخذ بذلك ولم ير بما سواه
بأساً. وإلى هذا ذهب البخاري في كتابه، فإنه
بوب باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، وادخل
حديث أبي موس عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً
وشبك بين أصابعه))، وحديث أبي هريرة: ((أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم من ركعتين
فقام إلى خشبة معروضة في المسجد واتكأ عليها
كأنه عضبان ووضع يديه اليمنى على يده اليسرى
وشبك بين أصابعه)) وذكر تمام الحديث. فأما
حديث أبي موسى فلا حجة فيه لأن النبي صلى الله
عليه وسلم إنما فعله للمعنى الذي ذكره على
التمثيل والبيان، وأما حديث أبي هريرة فالحجة
لمالك فيه قائمة، بالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الرجل يتنفل في الصلاة أيقرأ بسم الله
الرحمن الرحيم أو يقرأ الحمد لله رب العالمين؟
قال يقول الحمد لله رب
(1/364)
العالمين ويقول
بسم الله الرحمان الرحيم في السورة في كل سورة
إذا أراد أن يتابع سوراً بعضها فوق بعض، فأم
في المكتوبة فلا يفعل، وليبدأ بالحمد لله رب
العالمين، ولا يقول بسم الله الرحمن الرحيم.
قال محمد بن رشد: لم يختلف قول مالك أنه لا
يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة لا في
أول الحمد ولا في أول السورة التي بعدها،
لأنها ليست عنده آية من الحمد، وإنما تثبت في
المصحف في أولها للاستفتاح لا لأنها منها
كسائر السور، فبسم الله الرحمن الرحيم ليس من
القرآن عند مالك إلا في سورة النمل فإنه فيها
بعض آية. وذهب الشافعي إلى أن بسم الله
الرحمان الرحيم آية من الحمد فأوجب قراءتها في
الصلاة في أول الحمد. ومن أهل العلم من استحب
قراءتها في الفريضة في أول الحمد، وهو مذهب
محمد بن مسلمة من أصحاب مالك. ومنهم من استحب
قراءتها في الفريضة في أول الحمد سراً، فيتحصل
في ذلك أربعة أقوال: أحدها إيجاب قراءتها، وهو
مذهب الشافعي ومن تبعه؛ والثاني كراهة
قراءتها، وهو من مذهب مالك؛ والثالث استحباب
قراءتها، وهو مذهب محمد بن مسلمة؛ والرابع
الإسرار بقراءتها. فوجه كراهة قراءتها ليلاً
يظنها الجاهل من الحمد فيراها واجبة، ولأن ترك
قراءتها هو المروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم والخلفاء بعده. وروي عنهم أنهم كانوا
يفتتحون القراءة في الصلاة بالحمد لله رب
العالمين. ووجه استحباب قراءتها مراعاة قول من
يراها آية من الحمد فتكون الصلاة مجزية تامة
بإجماع. ووجه من رأى الإسرار بها مخافة أن يظن
أنها من الحمد وأن قراءتها واجبة. وأما قراءة
بسم الله الرحمان الرحيم في النافلة فلمالك في
ذلك في الحمد قولان: أحدها أنه لا يقرأ فيها،
والثاني أنه يقرؤه فيها. والقولان قائمان من
هذه الرواية. وله في ذلك فيما عدا الحمد من
السور ثلاثة أقوال: أحدها أنه يقرؤه في كل
سورة، وهو قوله في هذه الرواية؛
(1/365)
والثاني لا
يقرؤه في شيء منها إلا أن يكون رجلاً يقرأ
القرآن عرضاً يريد بذلك عرضه في صلاته، وهو
رواية أشهب عنه في رسم الصلاة الثاني؛ والثالث
أنه مخير إن شاء قرآه وإن شاء تركه، وهو قوله
في المدونة.
مسألة
وسئل عن الرجل تفوته الركعة مع الإمام متى
يقوم إذا سلم واحدة أو ينتظر حتى سلم
تسليمتين؟ قال إن كان ممن يسلم تسليمتين
انتظره حتى يفرغ من سلامه كله ثم يقوم.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم آخر رسم شك في
طوافه نحو هذه المسألة والقول عليه بما بين
معنى هذه، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن البيع يوم الجمعة، هل يمنع الناس
من ذلك؟ قال: لا أنكره، فقلت له فإذا أذن
المؤذن؟ قال: نعم أرى أن يمنعوا. قيل له فأي
الأذان هو؟ قال: الذي يكون عند قعود الإمام،
ويمنع من ذلك كل من تجب عليه الجمعة ومن لا
تجب عليه.
قال محمد بن رشد: السنة في الأذان يوم الجمعة
أن يكون بعد قعود الإمام على المنبر، وقوله إن
الأذان الذي يكون عند قعود الإمام على المنبر
هو الأذان الذي يعتبر به في منع الناس من
البيع، إنما يعني أنه إذا أحدث الإمام قبل ذلك
أذاناً مثل الأذان الذي زاده عثمان، رضي الله
عنه، في الزوراء عند أول الزوال على ما ذكرناه
في آخر رسم سلعة سماها لم يعتبر به في ذلك،
وقد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في أول رسم
حلف بطلاق امرأته فلا معنى لإعادته.
(1/366)
مسألة
وسئل عن الرجل يدخل يوم الجمعة فيكبر قبل أن
يخرج الإمام فيخرج الإمام ولم يركع ويؤذن
المؤذنون، أيجلس أم يتم صلاته؟ قال بل يتم
ركعتين، وإنما يجلس من لم يحرم حتى يقعد
الإمام. قلت لسحنون: فلو أني دخلت المسجد
والإمام جالس والمؤذنون أمامه يؤذنون فأحرمت
ساهياً أو غافلاً أو كنت جالساً فلم أفرغ من
ركعتي حتى فرغ المؤذنون وقام الإمام يخطب،
وذكرت له أنها نزلت بي، أترى أن أمضي في
صلاتي؟ فقال لي نعم، وإنما يكره ذلك ابتداءً،
فإذا فعله أحد مضى ولم يقطع. قال العتبي:
وجدتها لابن وهب رواية عن مالك.
قال محمد بن رشد: أما من أحرم يوم الجمعة فإنه
يتمادي على نافلته حتى يتمها، كان قد ركع أم
لم يركع، لما جاء في ذلك عن النبي صلى الله
عليه وسلم مما تعلق به من قال أن من جاء
والإمام يخطب إنه يركع قبل أن يجلس، وقد قالوا
فيمن أحرم في صلاته بالتيمم ثم طلع رجل معه
ماء أنه يتمادى على صلاته ولا يقطعها، وكيف
بهذا؟ وأما من دخل المسجد والإمام جالس على
المنبر والمؤذنون يؤذنون فأحرم جاهلاً أو
غافلاً فإنه يتمادى ولا يقطع على قول سحنون
ورواية ابن وهب عن مالك وإن لم يفرغ حتى قام
الإمام إلى الخطبة. وقد قيل إنه يقطع، وهو قول
ابن شعبان في مختصر ما ليس في المختصر. وكذلك
لو دخل المسجد والإمام يخطب فأحرم لتمادى على
قول ابن وهب عن مالك وسحنون، ولقطع على قول
ابن شعبان، إذ لا فرق بين أن يحرم والإمام
يخطب أو هو جالس على المنبر والمؤذنون يؤذنون،
لما جاء من أن خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه
يقطع الكلام. وذلك لا يون من قائله
(1/367)
رأياً، وهذا
عندي في الذي يدخل المسجد تلك الساعة فيحرم،
وأما لو أحرم بالصلاة تلك الساعة من كان
جالساً في المسجد لوجب أن يقطع قولاً واحداً،
إذ لا اختلاف في أنه لا يجوز أن يركع تلك
الساعة، بخلاف الذي يدخل المسجد تلك الساعة،
إذ قد قيل إنه يركع قبل أن يجلس لقول النبي
صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدكم المسجد
فليركع ركعتين قبل أن يجلس)) ولما جاء أنه أمر
سليكاً الغطفاني وهو جالس على المنبر أن يركع
ركعتين ثم قال: ((إذا جاء أحدكم والإمام يخطب
فليصل ركعتين خفيفتين يتجوز فيهما))، وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الغدو إلى العيدين أية ساعة هي؟
قال: إذا طلعت الشمس، ثم قال بعد ذلك هو العمل
الذي عليه أهل الفقه عندنا. فقيل له: فمتى
يكبر؟ قال إذا طلعت الشمس وغدا، فقيل له
أفيجهر بالتكبير أم يسره؟ قال: أمر بين ذلك،
ويكبر في العيدين جميعاً في الفطر والأضحى.
قال محمد بن رشد: هذا هو الوقت المختار في
الغدو إلى العيد، فإن غدا قبل طلوع الشمس لم
يكبر إلا أن يكون قرب طلوع الشمس أو الإسفار
البين. وقال علي بن زياد عن مالك إنه لا تكبير
إلا على من غدا
(1/368)
بعد طلوع
الشمس، وقع ذلك في آخر رسم حلف بطلاق امرأته
وقد تكلمنا هناك على حكم التكبير ووجهه وما
الأصل فيه ومكان الاختلاف منه.
مسألة
وسئل عن إشارة الرجل بأصبعه في الصلاة، قال
ليشر إن شاء ولا بأس في التشهد إذا وضع يديه
على ركبتيه.
قال محمد بن رشد: معنى الكلام يشير إن شاء في
التشهد ولا بأس به، فظاهره التخيير من غير
استحسان منه لفعله على تركه، وقد استحسن ذلك
في رسم المحرم بعد هذا، وهو الصواب، لأنها
السنة من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
على ما في الموطأ عنه من رواية عبد الله بن
عمر. وقد مضت هذه المسألة والتكلم عليها في
رسم شك في طوافه قبل هذا. وفي الكلام تقديم
وتأخير، وتقديره: وسئل عن إشارة الرجل بأصبعه
في الصلاة في التشهد وإذا وضع يديه على
ركبتيه، قال ليشر إن شاء ولا بأس به، وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الصلاة في مسجد النبي صلى الله
عليه وسلم أي مواضعه أ؛ب إليك؟ قال: أما
النافلة فمصلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال
ابن القاسم: وهو العمود المخلق، وأما الفريضة
فيقدم إلى أول الصف أحب إلي.
قال محمد بن رشد: استحب مالك، رحمه الله، صلاة
النافلة في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم
للتبرك بموضع صلاته، ورأى للصلاة في ذلك
الموضع فضلاً على سائر المسجد. ومن الدليل على
ذلك أن عتبان بن مالك قال لرسول الله صلى الله
عليه وسلم: يا رسول الله؛ إنها تكون الظلمة
والسيل والمطر وأنا رجل
(1/369)
ضرير البصر فصل
يا رسول الله ـ [صلى الله عليك وسلم] ـ في
بيتي مكاناً أتخذه مصلى، فجاءه رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال: أين تجب أن أصلي، فأشار
له إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم . فإذا كان ذلك الموضع من بيته
بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه صلاة
واحدة أفضل من سائر بيته، وجب أن يكون الموضع
الذي كان يواظب على الصلاة فيه في مسجده أفضل
من سائر المسجد بكثير. وإنما قال إنه يتقدم في
الفريضة إلى أول الصفوف وهو الصف الأول، لأن
فضل الصف الأول معلوم بالنص عليه من النبي صلى
الله عليه وسلم، فهو أولى مما علم فضله
بالدليل. ولمالك في رسم التسليف في الحيوان
المضمون من هذا السماع من كتاب الجامع أن
العمود المخلق ليس هو قبلة النبي صلى الله
عليه وسلم، ولكنه كان أقرب العمد إلى مصلى
النبي صلى الله عليه وسلم، خلاف قول ابن
القاسم أن العمود المخلق هو مصلى النبي صلى
الله عليه وسلم. وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن صلاة الجمعة في مجالس حوانيت
عمرو بن العاص ووصفت له، قال: لا بأس بذلك
وأراها مثل أفنية المسجد إذا كان إنما يصلى
فيها من ضيق المسجد بالنسا فلا أرى بذلك
بأساً.
قال محمد بن رشد: يريد مصاطب الحوانيت التي لا
تأخذها الغلق الشارعة إلى الطرق المتصلة
بأفنية المسجد، فحكم بها بحكم أفنية المسجد
ولم ير بالصلاة فيها بأساً إذا ضاق المسجد،
ولم يعط فيها جواباً بيناً إذا صلى فيها
والمسجد واسع من غير ضرورة. والأظهر في ذلك من
مذهبه هنا وفي المدونة أنه قد أساء وصلاته
جائزة، وهي رواية ابن أبي أويس عنه. وقال
(1/370)
سحنون: يعيد
ظهراً أربعاً. ووجه قول مالك أن الصلاة لما
كانت في هذه المواضع جائزة لمن ضاق عنه المسجد
وجب أن تجوز صلاة من صلى فيها وإن لم يضق عنه
المسجد، أصل ذلك من صلى في الصف الثاني وهو
يجد سعة للدخول في الصف الول. ووجه قول سحنون
أن المسجد من شرائط صحة الجمعة، فإذا صلى
خارجاً منه وهو قادر على الصلاة فيه وجب أن لا
تجزئه صلاته، أصل ذلك من صلى مكشوف العورة وهو
قادر على سترها.
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه
وسألته عن قراءة ((قل هو الله أحد الله
الصمد)) مراراً في ركعة واحدة فكره ذلك وقال:
هذا من محدثات الأمور التي أحدثوا.
قال محمد بن رشد: كره مالك، رحمه الله، للذي
يحفظ القرآن أن يكرر ((قل هو الله أحد)) في
ركعة واحدة مراراً ليلاً يعتقد آخر أن أجر من
قرأ القرآن كله كأجر من قرأ ((قل هو الله
أحد)) ثلاث مرات تأويلاً لما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم من أنها تعدل ثلث القرآن، إذ
ليس ذلك معنى الحديث عند العلماء، ولو كان ذلك
معناه عندهم لاقتصروا على قراءة ((قل هو الله
أحد)) في الصلوات بدلاً من قراءة السور
الطوال، ولكرروها في الركعة الواحدة من
فرائضهم ونوافلهم، ولاقتصروا على قراءتها دون
سائر القرآن في تلاوتهم، فلما لم يفعلوا شيئاً
من ذلك وأجمعوا أن من قرأ ((قل هو الله أحد))
في ركعة واحدة لا يساوي في الأجر من أحيا
الليل وقام فيه بالقرآن كله. قال مالك، رحمه
الله، إن تكريرها في ركعة واحدة من محدثات
الأمور ورأى ذلك بدعة، وهو كما قال، رضي الله
عنه، ولا دليل على أن تكريرها في ركعة واحدة
أفضل من قراءة سورة طويلة تزيد في القدر على
قدر ما يجتمع من تكريرها المرات التي كررها
فيها، فيما ثبت من حديث أبي سعيد الخدري أنه
سمع رجلاً يقرأ ((قل هو الله أحد)) يرددها
فلما أصبح غداء إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم
(1/371)
فذكر ذلك له
وكان الرجل يتقالها، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث
القرآن ))، إذ قد يحتمل أنه إنما كان يرددها
لأنه لا يحفظ سواها، ولم يقل رسول الله صلى
الله عليه وسلم إن ذلك من فعله أفضل من قراءة
السور الطوال، وإنما علم أنها تعدل ثلث القرآن
من أجل أن الرجل كان يتقالها على ما جاء في
الحديث، والله أعلم. وقد اختلف العلماء في قول
النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها تعدل ثلث
القرآن)) اختلافاً كثيراً لا يرتفع بشيء منه
على الحديث الإشكال ولا يتخلص عن أن يكون فيه
اعتراض وكلام. وقد حكى ابن عبد البر في
الاستذكار عن إسحاق بن منصور أنه قال: قلت
لأحمد بن حنبل قوله صلى الله عليه وسلم في:
((قل هو الله أحد)) إنها تعدل ثلث القرآن ما
وجهه؟ فلم يقم لي فيه على أمر بين، قال: وقال
لي إسحاق بن راهويه: معناه أن الله لما فضل
كلامه على سائر الكلام جعل لبعضه أيضاً فضلاً
في الثواب لمن قرأه أضعاف غيره منه تحريضاً
منه على تعليمه لا أن من قرأ ((قل هو الله
أحد)) ثلاث مرات كان كمن قرأ القرآن كله، هذا
لا يستقيم ولو قرأ ((قل هو الله أحد)) مائتي
مرة. قال ابن عبد البر: هذان عالمان بالسنن
وإمامان في السنة ما قاما ولا قعدا في هذه
المسألة، والذي عليه أهل العلم والسنة الكف عن
الجدال والمناظرة فيما سبيله الاعتقاد
بالأفئدة والإيمان بما تشابه من القرآن
والتسليم له وبما جاء عن النبي صلى الله عليه
وسلم من نحو هذا الحديث وشبهه في أحاديث
الصفات.
قال محمد بن رشد: وقد قال بعض المتأخرين إن
المعنى في ذلك أن تضعيف الأجر في قراءة ((قل
هو الله أحد)) ينتهي إلى أن يكون مثل أجر
قراءة ثلث القرآن غير مضاعف، وهذا أشبه ما
رأيت في ذلك من التأويلات، إلا أنه بعيد من
ظاهر الحديث، لأنه إذا لم يعدل أجر قراءة ((قل
هو الله أحد)) مضاعفاً لأجر قراءة ثلث القرآن
مضاعفاً أو أجر قراءة ((قل هو الله
(1/372)
أحد)) غير
مضاعف لأجر قراءة ثلث القرآن غير مضاعف فليست
بعدل له على الحقيقة. والذي أقول به أن المعنى
في ذلك، والله أعلم، أن الله تفضل على من قرأ
جميع القرآن بأن كتب له من الأجر في قراءة ما
عدا ((قل هو الله أحد)) مثلي ما كتب له في
قراءة ((قل هو الله أحد))، لا أن من قرأ ((قل
هو الله أحد)) وحدها يكون له من الجر مثل من
قرأ ثلث القرآن، ولا أن من قرأ ((قل هو الله
أحد)) ثلاث مرات يكون له من الأجر مثل من قرأ
القرآن كله. فالأجر الذي يحصل لقارئ القرآن
كله مع ((قل هو الله أحد)) يقع منه ثلثه لقل
هو الله أحد، وثلثاه لسائر القرآن على هذا
التأويل. مثال ذلك الصلاة الأجر الذي يحصل
للمصلي في جملة صلاته يقع منه لنيته أكثر ما
يقع منه لتكبيره وقراءته وقيامه وركوعه وسجوده
وتشهده وسلامه، وإن كان التعب والعناء في ذلك
كله أكثر من التعب والعناء في النية. والدليل
على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((نية
المؤمن خير من عمله))، لأن العمل لا ينتفع به
إذا لم تقارنه نية، فإذا قارنته نية كان جل
الأجر لها على معنى ما جاء في الحديث. وكذلك
سائر أعمال الطاعات، فصح تأويل ما جاء في ((قل
هو الله أحد)) على ما ذكرناه والله أعلم بمراد
نبيه صلى الله عليه وسلم.
مسألة
وسئل عن الرجل يدخل مسجد النبي صلى الله عليه
وسلم بالمدينة بأي شيء يبدأ؟ بالسلام على
النبي صلى الله عليه وسلم أم بركعتين؟ قال: بل
بركعتين، وكل ذلك واسع. قال ابن القاسم: وأحب
إلي أن يركع.
قال محمد بن رشد: وجه توسعة مالك البداية
بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم قبل
الركعتين قوله في الحديث قبل أن يجلس، فإذا
سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم
(1/373)
ركع الركعتين
قبل أن يجلس فقد امتثل أمر النبي صلى الله
عليه وسلم ي الركوع قبل الجلوس ولم يخالفه.
ووجه اختيار ابن القاسم للبداية بالركوع قبل
السلام على النبي صلى الله عليه وسلم قوله في
الحديث: ((إذا ندخل فليركع)) والفاء في اللسان
تدل على أن الثاني عقب الأول بلا مهلة، فكان
الاختيار إذا دخل أن يصل دخوله بركوعه، وأن لا
يجعل بينهما فاصلة من الاشتغال بشيء من
الأشياء.
مسألة
وسئل مالك عن الأصبع إذا لم يجد سواكاً،
أيجزئه من السواك؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن النبي صلى
الله عليه وسلم رغب في السواك فقال: ((عليكم
بالسواك)) ولم يخص سواكاً من غير سواك، فكان
الاختيار أن يستاك بسواك لأنه أحلى للأسنان
وأطهر للفم، فإن لم يجد سواكاً قام الأصبع
مقامه لكونه مستاكاً به ممتثلاً للأمر لأنه
عموم إذ لم يخص به سواكاً من أصبع ولا غيره،
والله أعلم. ويتصل بهذه المسألة في بعض
الروايات مسألة الحاج من أهل مكة في إفاضته من
منى إلى مكة، وقد مضت في رسم الشريكين، وفي
رسم شك في طوافه، والكلام عليها مستوفى هناك،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن رفع اليدين في الدعاء، قال ما
يعجبني ذلك، فقيل له: فرفع اليدين في الصلاة
عن التكبير؟ فقال لقد ذكر عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه كان يفعل ذلك إذا كبر وإذا
رفع رأسه من
(1/374)
الركوع وإذا
ركع، وما هو بالأمر العام، كأنه لم يره من
العمل المعمول به. فقيل له: فالإشارة بالأصبع
في الصلاة؟ قال ذلك حسن، ثم قال على أثر ذلك
حجة لتضعيف رفع اليدين في الصلاة: إنه قد كان
في أول الإسلام أنه من رقد قبل أن يطعم لم
يطعم من الليل شيئاً، فأنزل الله عز وجل:
((فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم
وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من
الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى
الليل)) فأكلوا بعد ذلك.
قال محمد بن رشد: كره مالك، رحمه الله، رفع
اليدين في الدعاء، وظاهره خلاف لما في
المدونة، لأنه أجاز فيها رفع اليدين في الدعاء
في مواضع الدعاء كالاستسقاء وعرفة والمشعر
الحرام والمقامين عند الجمرتين على ما في كتاب
الصلاة الأول منها، خلاف لما في الحج الأول من
أنه يرفع يديه في المقامين عند الجرتين.
ويحتمل أن تتأول هذه الرواية على أنه أراد
الدعاء في غير مواطن الدعاء، فلا يكون خلافاً
لما في المدونة، وهو الأولى، وقد ذكرنا هذا
المعنى في رسم شك في طوافه. وأما رفع اليدين
عند الإحرام في الصلاة فالمشهور عن مالك أن
اليدين ترفع في ذلك، وقد وقع في الحج الأول من
المدونة في بعض الروايات أن رفع اليدين في ذلك
عنده ضعيف، ووقع له في سماع أبي زيد من هذا
الكتاب إنكار الرفع في ذلك، وإلى هذا بنحو
قوله في هذه الرواية، لأنه احتج فيها بما دل
على أن الرفع أمر قد ترك ونسخ العمل به كما
نسخ تحريم الأكل برمضان بالليل بعد النوم.
والصحيح في المذهب إيجاب الرفع في ذلك بالسنة،
فهو الذي تواترت به الآثار وأخذ به جماعة
فقهاء الأمصار. وروى ابن وهب وعلي، واللفظ
لعلي، أنه سئل
(1/375)
عن المرأة
أعليها رفع يديها إذا افتتحت الصلاة مثل
الرجل؟ فقال ما بلغني أن ذلك عليها وأراه
يجزئها أن ترفع أدنى من الرجال. وأما رفع
اليدين عند الركوع وعند الرفع منه، فمرة كرهه
مالك، وهو مذهبه في المدونة ودليل هذه الرواية
وما وقع في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من
حكاية فعل مالك؛ ومرة استحسنه ورأى تركه
واسعاً، وهو قول مالك في رسم الصلاة الثاني من
سماع أشهب. وروى مثله عنه محمد بن يحيى
السبائي؛ ومرة قال إنه يرفع ولم يذكر في ترك
ذلك سعة، وهو قوله في رواية ابن وهب عنه؛ ومرة
خير بين الأمرين. والأظهر ترك الرفع في ذلك،
لأن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر كانا لا
يرفعان أيديهما في ذلك، وهما رويا الرفع عن
النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلم يكونا
ليتركا بعد النبي، عليه السلام، ما رويا عنه
إلا وقد قامت عندهما الحجة بتركه. وقد روي
أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم الرفع عند
القيام من الجلسة الوسطى وعند السجود والرفع
منه، وذهب إلى ذلك بعض العلماء، ولم يأخذ مالك
بذلك ولا اختلف قوله فيه، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الرجل يصلي لنفسه، أيسلم اثنتين؟ قال:
لا بأس بذلك، إذا فصل بالسلام الأول أن يسلم
بعد ذلك عن يساره، فقيل له: فالإمام؟ فقال ما
أدركت الأئمة إلا على تسليمة واحدة، فقيل له:
تلقاء وجهه؟ قال يتيامن قليلاً عن يمينه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه
المسألة في آخر رسم شك في طوافه، ومضى طرف من
ذلك في الرسم الذي قبل هذا، فقف على ذلك.
مسألة
وسئل عما يعمل الناس به من الدعاء حين يدخلون
المسجد
(1/376)
وحين يخرجون
ووقوفهم عند ذلك، قال هذا من البدع وأنكره
إنكاراً شديداً.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في صدر الرسم
الذي قبل هذا، ونحو ما مضى في رسم حلف بطلاق
امرأته، ورسم صلى نهاراً ثلاث ركعات، في كراهة
الاجتماع للدعاء في المساجد يوم عرفة بعد
العصر.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يصلي في المحمل يعيا في
تربعه فيمد رجليه يستريح في ذلك، قال أرجو أن
يكون خفيفاً.
قال محمد بن رشد: وجه التخفيف في ذلك بين لنها
صلاة تطوع، وقد جاء أن له أن يصليها مضطجعاً
مع القدرة على القيام، روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: ((من صلى قاعداً فله نصف
أجر القائم ومن صلى نائماً فله نصف أجر صلاة
القاعد))، فإذا جاز له أن يصلي مضطجعاً اتسع
له أن يمد رجله للاستراحة، والله أعلم.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يستتر بالبعير قال: لا بأس
بذلك، فقيل له: فالخيل والحمير؟ قال لا، لأن
الخيل والحمير أبوالها وأرواثها نجس، وأن
أبوال الإبل والبقر والغنم وأرواثها ليس
بالنجس، كأنه لا يرى بالسترة بالبقرة [والشاة]
في معنى قوله مع الإبل بأساً.
(1/377)
قال محمد بن
رشد: قد بين في الرواية وجه منعه من أن يستتر
بالخيل والبغال والحمير، ولو استتر بشيء من
ذلك لكان له سترة تدفع الحرج عمن يمر أمامه
وكان هو قد أساء، ولم تجب عليه إعادة، لأنه
بمنزلة من صلى وأمامه جدار مرحاض أو كافر أو
جنب وما أشبه ذلك.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يصلي في سقائف مكة من
الشمس وبينه وبين النس فرج، قال أرجوا أن يكون
ذلك واسعاً، وليس كل الناس سواء، وحر مكة
شديد، ولد وضع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه،
ثوبه فسجد عليه من شدة الحر، فقيل له: فإن كان
رجل يطيق أن يصلي في الشمس ويحمل ذلك أترى أن
يتقدم؟ قال نعم.
قال محمد بن رشد: خفف مالك للرجل أن يصلي وحده
في السقائف ويترك التقدم إلى الفرج التي في
صفوف الناس لموضع الضرورة، ولو فعل ذلك من غير
ضرورة لكان قد أساء وصلاته تامة على المشهور
من قول مالك. وقد روى ابن وهب عن مالك أن من
صلى خلف الصف وحده أعاد أبداً، وذهب إلى ذلك
جماعة من أهل العلم، لما جاء في ذلك عن النبي
صلى الله عليه وسلم مما قد ذكرناه في أول رسم
شك في طوافه. ولو كان معه في السقائف غيره ولم
يكن منفرداً فيها وحده لكانت صلاته جائزة
بإجماع. وكلما كثر عدد القوم الذين يكونون معه
في السقائف كانت الكراهة له في الصلاة معهم
وترك التقدم إلى الفرج التي في الصفوف أخف.
وقد روى أشهب عن مالك في رسم الصلاة الأول أنه
سئل عمن دخل من باب المسجد فوجد الناس ركوعاً
وعند باب المسجد ناس يصلون ركوعاً وبين يديه
الفرج أيركع مع هؤلاء عند باب المسجد أم يتقدم
إلى الفرج؟ قال أرى أن يركع مع هؤلاء عند باب
المسجد فيدرك الركعة، إلا أن يكونوا قليلاً
أرى أن يركع معهم،
(1/378)
ويتقدم إلى
الفرج أحب إلي. وأما إذا كانوا كثيراً فإني
أرى أن يركع معهم. ففي هذا دليل على ما قلناه
والله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم
في صلاة الليل أي ذلك أحب إليك أثلاث عشرة
ركعة، أم إحدى عشرة ركعة؟ قال: كل ذلك قد جاء،
وأكثر ذلك أعجب إلي لمن قوي عليه.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا إشكال فيه أن
الكثير من الصلاة أفضل من القليل منها مع
استوائها في التطويل، وإنما اختلف أهل العلم
في الأفضل من طول القيام أو كثرة الركوع
والسجود مع استواء مدة الصلاة، فمن أهل العلم
من ذهب إلى كثرة الركوع والسجود أفضل، لما روي
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من
ركع ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة وحط
بها عنه خطيئة))، ومنهم من ذهب إلى أن طول
القيام أفضل، لما روي أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم سئل أي الصلوات أفضل قال: طول
القنوت، وفي بعض الآثار: طول القيام. وهذا
القول أظهر، إذ ليس في الحديث الأول ما يعارض
هذا الحديث، ويحتمل أن يكون ما يعطي الله عز
وجل للمصلي بطول القيام أفضل مما ذكره في
الحديث الأول أنه يعطيه بالركوع والسجود.
وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
((أن العبد إذا قام فصلى أتي بذنوبه فجعلت على
رأسه
(1/379)
وعاتقيه فكلما
ركع أو سجد تساقطت عنه))، لا دليل فيه أيضاً
على أن كثرة الركوع والسجود أفضل من طول
القيام، إذ قد يحتمل أن يكون ما يعطي الله عز
جل بطول القيام في الصلاة أكثر من ذلك كله.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يسافر بعد أن يصبح يوم
العيدين قبل أن يصلي، قال: لا يعجبني ذلك إلا
أن يكون له عذر، فقيل له: فما العذر؟ فقال:
غير شيء واحد.
قال محمد بن رشد: معنى ما تكلم عليه أنه سافر
بعد الفجر قبل طلوع الشمس، فكره ذلك له إلا من
عذر إذ لم يجب عليه الخروج لشهود العيد بعد.
ولو طلعت الشمس وحلت الصلاة لما جاز له أن
يخرج لسفره، ويدع الخروج لشهود صلاة العيد
كالجمعة، فكره له السفر قبل زوال الشمس، ويحرم
عليه إذا زالت الشمس وحلت الصلاة، لقول الله
عز وجل: ((إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة
فاسعوا إلى ذكر الله وذروا الببيع))، والله
أعلم .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يبقى عليه حزبه من الليل
فيخرج لصلاة الصبح وقد بقي عليه حزبه، أفترى
أن يقرأ في مسيره إلى المسجد؟ قال: ما أدركت
أحداً ممن أقتدي به يفعل ذلك، وما يعجبني ذلك.
وقال يقرأ في السوق وما أشبهه ما يعجبني أن
يقرأ
(1/380)
القرآن إلا في
الصلاة والمساجد، قال الله تبارك وتعالى:
((وثيابك فطهر)) وثبت على ذلك.
قال محمد بن رشد: كره مالك، رحمه الله، في هذه
الرواية قراءة القرآن في الأسواق والطرق لوجوه
ثلاثة: أحدها تنزيه للقرآن وتعظيم له من أن
يقرأه وهو ماشٍ في الطرق والأسواق لما قد يكون
فيها من الأقذار والنجاسات؛ والثاني أنه إذا
قرأه على هذه الأحوال لم يتدبره حق التدبر؛
والثالث لما خشي أن يدخله في ذلك مما يفسد
نيته، وهو الذي يدل عليه استدلاله بقول الله
عز وجل: ((وثيابك فطهر)). وحكى ابن حبيب عنه
من رواية مطرف إجازة ذلك وقال، وقد بلغني أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعص معاذ بن جبل
وأبا موسى الأشعري إلى اليمن واليين ومعلمين،
فلما قدما اليمن تفرقا في المنزل ثم التقيا،
فقال معاذ لأبي موسى الأشعري كيف تقرأ القرآن
اليوم، قال مالك: وأحسبهما كان قد اشتغلا
بتعليم الناس الإسلام والقرآن، فقال أبو موسى
أما أنا فأتفوقه تفوقاً ماشياً وراكباً
وقاعداً وعلى كل حال. قال معاذ أما أنا فأنام
أول الليل وأقوم آخره وأحتسب نومتي كما أحتسب
قومتي. ويدل على جواز هذا أيضاً ما وقع في
الموطأ عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: ((أنه
كان في قوم وهم يقرؤون القرآن فذهب بحاجته ثم
رجع وهو يقرأ القرآن)) ـ الحديث. وقد مضى طرف
من هذا المعنى في رسم تسلف.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يسافر يو الجمعة بعد أن
يصبح، قال: ما يعجبني ذلك إلا من عذر.
(1/381)
قال محمد بن
رشد: قد مضى القول على هذا المعنى فوق هذا قبل
هذه المسألة، وسيأتي أيضاً في آخر سماع مسو
بقية القول فيها إن شاء الله تعال.
مسألة
وسئل مالك عن المسافر أيصلي بالسيف والقوس على
عاتقه؟ قال: إن أعجب إلي أن يجعل على عاتقه
عمامة، فالقوس لا يشبه السيف. قال ابن القاسم:
وأحب إلي أن لو جعل صاحب السيف على عاتقه
عمامة، وما ذلك بضيق، ولا يصلي بالقوس.
قال محمد بن رشد: استحب مالك للمسافر إذا صلى
بالسيف والقوس أن يجعل على عاتقه عمامة.
ويستفاد من قوله فالقوس لا يشبه عندي السيف
أنه أجاز له أن يصلي بالسيف وخفف له أيضاً أن
يصلي بالقوس، وكره له ابن القاسم أن يصلى
بالقوس، فوافق مالكاً على إجازته له الصلاة
بالسيف مع الاستحباب أن يجعل على عاتقه عمامة،
وخالفه في تخفيفه له الصلاة بالقوس؛ وأجاز له
ابن حبيب الصلاة بهما جميعاً ولم ير عليه
باساً في أن يجعل على عاتقه عمامة، فكأنه رأى
له تقلد السيف وتنكب القوس عن الرداء. وهذا
كله في السفر والجهاد والثغور ومواضع الرباط،
وأما في الحضر فيكره له الصلاة بالسيف والقوس.
قال ابن حبيب: إلا أن يكون في ذلك عزيمة من
السلطان لأمر ينوب فلا بأس أن يصلي بسيفه أو
متنكباً قوسه، وليطرح على السيف عطافاً أو
رداء أو ساجاً أو عمامة، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يصلي في منزله صلاة العشاء
ويوتر ثم يسمع الإقامة في قبيلته، أترى أن
يعيدها؟ قال: لا، قال ابن القاسم: يريد إذا
أوتر وإن صلى وحده فلا يعيد في جماعة.
(1/382)
قال محمد بن
رشد: قول مالك ـ رحمه الله ـ فيمن صلى العشاء
وحده ثم أوتر إنه لا يعيد في جماعة صحيح على
أصله فيمن أعاد صلاته في جماعة أنه لا يدري
أيتهما صلاته على ما روي أن عبد الله بن عمر
قال للذي سأله عن ذلك: أوأنت تجعلها؟ إنما ذلك
إلى الله يجعل أيتهما شاء، لأنه إذا كانت
صلاته هي الآخرة التي صلى في جماعة بطل وتره
لحصوله في غير وقته. وقد قيل إنهما جميعاً له
صلاتان فريضتان، وعلى هذا تأتي رواية على بن
زياد عن مالك في أن من أعاد صلاة المغرب في
جماعة فذكر وهو بتشهد مع الإمام، أنه لا
يشفعها برابعة وعليه أن يعيدها ثالثة، وهو
الذي يدل عليه تعليل قوله للمنع عن إعادة صلاة
المغرب في جماعة إنه إذا أعادها كانت شفعا إلا
إذا كانتا جميعا فريضتين له. وأما إذا كانت
فريضته هي الواحدة منهما والثانية نافلة فلا
تكون شفعا. ووجه التعليل للمنع من إعادة صلاة
المغرب في جماعة على أصله في أن الواحدة هي
صلاته أن يقول إنه لا يعيدها في جماعة، لأن
النافلة لا تصلى ثلاثا ويلزم قياس القول
بأنهما له صلاتان فريضتان أن يجوز لمن صلى
وحده أن يؤم قوماً في تلك الصلاة, وهذا ما لا
يقوله مالك ولا أحد من أصحابه. وقد تأول ما
روي أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي صلى
الله عليه وسلم ثم يذهب فيؤم قومه في تلك
الصلاة على هذا. وذهب أهل العراق إلى أن ذلك
كان في أول الإسلام ثم نسخ، فلم يجيزوا لمن
صلى وحده أن يعيد في جماعة إلا على أنها له
نافلة، إذا كانت تجوز أن يصلي بعدها نافلة.
وقد اختلف إذا صلى العشاء وأوتر ثم أعاد في
جماعة هل يعيد الوتر أولا؟ فقال سحنون إنه
يعيد الوتر، وقال يحيى بن عمر إنه لا يعيده.
وجه قول سحنون أنه لما احتمل أن تكون صلاته هي
الآخرة وقد بطل وتره أمر أن يعيده احتياطاً.
ووجه قول يحيى بن عمر أنه لما احتمل أن تكون
صلاته هي الأولى فلا يبطل وتره لم ير أن يعيده
على الأصل في أنه لا تأثير للشك في اليقين،
وليلا يكون قد أوتر مرتين في ليلة واحدة، وقد
جاء
(1/383)
النهي عن ذلك،
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا
وتران في ليلة، وبالله التوفيق.
سماع أشهب وابن نافع عن مالك
رواية سحنون من كتاب الصلاة الأول
وسئل مالك عن الذي يخطب يوم الجمعة فإذا قضى
خطبته قدم رجلاً فصلى بالنسا، أيجوز ذلك له؟
فقال: نعم، لو خطب ثم أصابه مرض أو حدث أو
رعاف ثم قدم غيره فصلى بالناس لم أر بذلك
بأساً.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لن الركعتين
إنما حطت من صلاة الظهر لأجل الخطبة، فصارت
الخطبة والصلاة كشيء واحد. فإذا أصاب الإمام
حدث يمنعه من التمادي على الخطبة أو من الصلاة
بعد أن أكمل الخطبة، كان له أن يستخلف على ما
بقي من الخطبة وعلى الصلاة، أو على الصلاة إن
كان قد أكمل الخطبة، كما يجوز له إذا ضعف عن
الخطبة وقوي على الصلاة أن يقدم من يخطب
بالناس ويصلي هو بهم، لما ذكرناه من أن الخطبة
والصلاة كشيء واحد، فلا يجوز لمن تشبث
بالإمامة في شيء من ذلك أن يخرج عن الإمامة
إلا من عذر.
مسألة
قال أشهب: وقال لنا رأيت زفر بن عاصم في الليل
من ليلة الجمعة يرسل إلى هل لي أن أتكلم يوم
الجمعة بغير الخطبة؟ فقلت له أما الشيء اليسير
من الكلام الحسن مثل أن تنهى عن الشيء أو تأمر
به فلا بأس بذلك، ثم قال لنا: قد كان عمر بن
عبد العزيز
(1/384)
يخطب يوم
الجمعة فيقول لولا أن أنعش سنة أو آمر بحق ما
أحببت أن أعيش فواقاً.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من أن
للإمام أن يتكلم يوم الجمعة وهو على المنبر
بغير الخطبة ولا يكون بذلك لاغياً، قال فيها:
وكذلك لا يكون لاغياً من رد على الإمام إذا
كلمه وهو يخطب، وهو أمر لا اختلاف فيه أحفظه
في المذهب. والحجة في إجازة ذلك ما روي عن أبي
الزاهرية عن عبد الله بن بشر قال: جاء رجل
يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة فقال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم: اجلس فقد آذيت
وآنيت، قال أبو الزاهرية: وكنا نتحدث حتى يخرج
الإمام، وما روي عن جابر بن عبد الله قال: جاء
سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله
عليه وسلم على المنبر فقعد قبل أن يصلي فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم أركعت ركعتين
قال: لا، قال: قم فاركعهما. وهذا نص في جواز
تكلم الإمام على المنبر يوم الجمعة بغير
الخطبة، وفي جواز الرد عليه لمن كلمه. وتأول
أصحابنا أنه إنما أمره رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالركوع في ذلك الوقت ليرى الناس
حاجته فيتصدقون عليه، بدليل ما روي عن أبي
سعيد الخدري أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله
صلى الله عليه وسلم على المنبر فناداه رسول
الله صلى الله عليه وسلم فما زال يقول ادن حتى
دنا فأمره فركع ركعتين قبل أن يجلس وعليه خرقة
خلق ثم صنع مثل ذلك في الثانية فأمره بمثل ذلك
ثم صنع مثل ذلك في الجمعة الثالثة فأمره بمثل
ذلك وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا
فألقوا الثياب فأمره رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخذ ثوبين الحديث. وذهب أهل العراق إلى
أنه لا يجوز للإمام أن يتكلم في خطبة بغير
الخطبة ولا
(1/385)
لأحد ممن كلمه
أن يرد عليه، وقالوا يحتمل أن يكون صلى الله
عليه وسلم قطع خطبته ليعلم الناس كيف يفعلون
إذا دخلوا المسجد، ثم استأنفها لا أنه تكلم
فيها ثم تمادى عليها، وهذا بعيد، وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل عن الإمام يخطب من أمر كتاب يقرؤه ليس من
أمر الجمعة ولا الصلاة، أينصت من سمعه؟ قال:
ليس ذلك عليهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن الإنصات
إنا يجب في الخطبة المتضمنة بالصلاة لاتصالها
بها وكونها بمعناها في تحريم الكلام فبها. قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من قال لصاحبه
أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغى)).
فالخطب ثلاث خطبة يجب الاستماع إليها والإنصات
لها باتفاق وهي خطبة الجمعة، إذ لا اختلاف
فيها أنها للصلاة؛ وخطبة لا يجب الاستماع
إليها ولا الإنصات لها باتفاق وهي خطب الحج،
وهن ثلاث: أولها قبل يوم التروية بيوم بمكة،
والثانية خبطة عرفة يوم عرفة بعرفة قبل الظهر،
والثالثة ثاني يوم النحر بمنى بعد الظهر، إذ
لا اختلاف في أنها للتعليم لا للصلاة؛ وخطبة
يختلف في وجوب الاستماع إليها والإنصات لها
وهي خطبة العيدين والاستسقاء على اختلافهم هل
هي للصلاة أم لا، وقد مضى ذلك في رسم أخذ يشرب
خمرا من سماع ابن القاسم.
مسألة
قال: وقد قيل هل بلغك أن ربيعة صلى خلف رجل من
قريش مرة فسها سهواً يكون سجوده قبل السلام
فأطال الجلوس عند
(1/386)
انقضاء صلاته
فخشي ربيعة أن يسلم ثم يسجد سجدتي السهو. فقال
له إن السجدتين قبل السلام، فقال: هذا ما
سمعته ولا ينبغي، ولو سمعته ما تحدثت به،
أيتكلم المرء وهو يصلي؟
قال محمد بن رشد: إنكار مالك لهذا الذي حكي له
عن ربيعة من تحذير المأمون الإمام بالكلام في
الصلاة قبل السلام عن السهو قبل أن يسهو مخافة
أن يسهو صحيح على أصله في أن السلام من فرائض
الصلاة، وأنه لا يتحلل منها إلا به، وأن
الكلام فيها قبله يبطلها إلا فيما تدعو إليه
الضرورة من إصلاح الصلاة إذا لم يفهم عنه
الإمام بالإشارة والتسبيح ولم يجد من ذلك
بداً، على حديث ذي اليدين، وإن صح ذلك عنه
فيخرج على قول أهل العراق في أن السلام من
الصلاة ليس من فرائضها، وأن المصلي إذا جلس في
آخر صلاته مقدار التشهد فقد تمت صلاته وإن لم
يسلم، والله أعلم.
مسألة
وسئل عن الذي يصلي إلى جنب الإنسان ليستتر
بشقه، فقال: إنما يصلي الناس إلى ظهره، فأما
إلى جنبه فلا أرى ذلك. أرأيت لو صلى وهو
مقابله، فهذا مثله إذا التفت استقبله بوجهه
فلا أرى بذلك.
قال المؤلف: لما كان لا يجوز للمصلي أن يصلي
إلى وجه الرجل مستقبلاً له في صلاته لما يدخل
عليه بذلك من الشغل عن صلاته، كان الذي يصلي
إلى جنب الإنسان قريباً في المعنى، لأنه لا
يأمن أن يلتفت فيستقبله بوجهه فيدخل عليه بذلك
شغلاً من صلاته، وذلك بين من تعليله في
الرواية. ولهذا المعنى كرهت الصلاة إلى
المتحلقين، وذلك أنه لابد أن يستقبله بعضهم
بوجهه فيشغله عن صلاته، وبالله التوفيق.
(1/387)
مسألة
وسئل عن القوم ينكسر بهم المركب فيتعلق بعضهم
بالألواح وبعضهم بالأرجل فتحضرهم الصلاة وهم
على ذلك، أترى أن يصلوا إيماءً برؤوسهم؟ فقال:
نعم يصلون إيماءً بؤوسهم. قلت: أرأيت إن خرجوا
أيعيدون الصلاة؟ قال: أرأيت إن خرجوا في وقت؟
فقال إن خرجوا في وقت فليصلوا.
قال الإمام القاضي: قوله إنهم يصلون إيماءً
برؤوسهم إذا لم يقدروا إلا على ذلك صحيح،
والأصل في ذلك قول الله عز وجل: ((فإن خفتم
فرجالاً أو ركباناً)). وقوله إنهم يعيدون إن
خرجوا في الوقت هو مثل قوله في المدونة في
الخائف من السباع أو اللصوص يصلي على دابته
إنه يعيد في الوقت بخلاف العدو، والإعادة في
ذلك كله في الوقت إنما هو استحباب ليدرك فضيلة
الوقت بالصلاة ساجداً وقائماً، فإن تركوا
الإعادة في الوقت حتى خرج الوقت لم يعيدوا بعد
الوقت، وقيل إنهم يعيدون بعد الوقت لتركهم
الإعادة في الوقت، وإلى هذا ذهب ابن حبيب. وفي
سماع أبي زيد عن ابن القاسم من هذا الكتاب
دليل عليه. ولو ترك الذين ينكسر بهم المركب
ونحوهم الصلاة إيماء لوجب عليهم أن يصلوا إذا
قدروا على الصلاة وإن ذهب الوقت بإجماع. وهذا
إذا كانوا على وضوء، وأما لم يكونوا على وضوء
فاختلف في ذلك على أربعة أقوال: أحدها أنهم
يصلون إيماءً على حالتهم ولا يعيدون، والثاني
أنهم يصلون ويعيدون، والثالث أنهم لا يصلون
حتى يقدروا على الوضوء، والرابع أنهم لا يصلون
ولا يعيدون. واختلف إن لم يقدروا على الصلاة
أصلا إيماء ولا غيره حتى خرج الوقت، فقيل إن
(1/388)
الصلاة تسقط
عنهم، وهي رواية معن بن عيسى عن مالك في الذين
يكتفهم العدو فلا يقدرون على الصلاة، وقيل
إنها لا تسقط عنهم وعليهم أن يصلوا بعد الوقت،
وهو قوله في المدونة في الذين ينهدم عليهم
البيت، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الذي يقرأ في صلاة العشاء في ركعة
منها سراً ثم ذكر فيعيد القراءة جهراً، أترى
عليه سجود السهو؟ قال لا .
قال محمد بن رشد: لم ير عليه سجود السهو في
زيادة القرآن في الصلاة سهواً، وهو أصل مختلف
فيه، فله مثل هذا في الصلاة الأول من المدونة
في الذي يسهو عن قراءة أم القرآن حتى يقرأ
السورة ثم يرجع فيقرأ أم القرآن والسورة، وفي
الذي يقرأ في الركعتين الآخرتين بأم القرآن
وسورة، وفي رسم إن أمكنتني من سماع عيسى من
هذا الكتاب في الذي يشك في قراءة أم القرآن
بعد أن قرأ السورة فرجع فقرأ أم القرآن
والسورة، وخلافه أنه يسجد للسهو في رسم إن
خرجت من سماع عيسى في الذي يسهو فيسر بقراءة
أم القرآن ثم يذكر بعد فراغه من قراءتها فيعيد
قراءتها في الصلاة الثاني من المدونة، والحج
الأول منها في الذي ينس التكبير في صلاة
العيدين حتى يقرأن أنه يرجع فيكبر ثم يقرأ.
ومن الناس من ذهب إلى أن يفرق بين مسألة
العيدين هذين وبين الذي سها عن قراءة أم
القرآن حتى قرأ السورة فرجع فقرأ أم القرآن
والسورة بأنه قدم في مسألة العيدين قرءاناً
على تكبير، وفي المسألة الثانية قرءاناً على
قرآن، وليس ذلك بصحيح، لأن الأمر عائد في
المسألتين إلى زيادة قرآن، فهو اختلاف من
القول كما قلنا، وبالله التوفيق.
مسألة
قال: وسئل عن التهجير يوم الجمعة فقال: نعم
يهجر يوم
(1/389)
الجمعة بقدر،
قال الله تعالى: ((إنا كل شيء خلقناه بقدر))
وقال: ((قد جعل الله لكل شيء قدراً)). وقد كان
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدون
إلى الجمعة هكذا، وأنا أكره هذا الغدو هكذا
حتى إن المرء ليعرف به، وأنا أخاف على هذا
الذي يغدو للرواح أن يدخله شيء وأن يحب أن
يعرف بذلك وأن يقال فيه، فأنا أكره هذا ولا
أحبه، ولكن رواحاً بقدر. وقد سمعت إنساناً
يسأل ربيعة يقول: لأن ألفى في طريق المسجد أحب
إلي من أن ألفى في طريق السوق، فقيل لمالك:
فما تقول أنت في هذا؟ قال: هذا ما لا يجد أحد
منه بداً. قيل له: أفترى أن يروح قبل الزوال؟
قال: نعم في رأيي. قيل له: أيهجر بالرواح إلى
الصلاة يوم الجمعة؟ فقال: نعم في ذلك سعة.
قال الإمام: كره مالك ـ رحمه الله ـ الغدو
بالرواح إلى الجمعة من أول النهار لأنه لم يكن
ذلك من العمل المعمول به على ما ذكره من أن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا
يغدون هكذا على الجمعة، فاستدل بذلك على أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بالخمس ساعات
في قوله: ((من اغتسل ثم راح في الساعة الأولى
فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية
فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة
فكأنما قرب كبشاً ومن راح في الساعة الرابعة
فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة
فكأنما قرب بيضة)) ساعات النهار المعلومة من
أوله على ما ذهب إليه جماعة منهم الشافعي،
وإنما عنى بذلك ساعة الرواح، وهي الساعة التي
تتصل بزوال الشمس ووقت
(1/390)
خروج الإمام،
فهي التي تنقسم على خمس ساعات، فيكون الرائح
في الساعة الأولى منها كالمهدي بدنة والرائح
في الساعة الثانية منها كالمهدي بقرة، والرائح
في الساعة الثالثة منها كالمهدي كبشاً أقرن،
والرائح في الساعة الرابعة منها كالمهدي
دجاجة، والرائح في الخامسة منها المتصلة بزوال
الشمس وخروج الإمام كالمهدي بيضة. ولما لم تكن
هذه الساعة المنقسمة على خمس ساعات محدودة
بجزء معلوم من النهار قبل الزوال فيعلم حده
حقيقة، وجب أن يرجع في قدرها إلى ما اتصل به
العمل وأخذه الخلف عن السلف، فلذلك قال مالك،
رحمه الله، إنه يهجر بقدر، أي يتحرى قدر تهجير
السلف فلا ينقص منه ولا يزيد عليه أيضاً فيغدو
إلى الجمعة من أول النهار، لأنه إذا فعل ذلك
شذ عنهم، فصار كأنه فهم من معنى الحديث ما لم
يفهموه أو رغب من الفضيلة ما لم يرغبوه، ولم
يأمن أن يحب أن يعرف لذلك ويذكر به، فتدخل
عليه بذلك داخلة تفسد عليه نيته. وسيأتي القول
على ما يخشى من خواطر النفس في رسم العقول من
آخر هذا السماع، إن شاء الله. ووجه استدلال
مالك لما ذهب إليه من أن التهجير إلى الجمعة
ينبغي أن يكون بقدر لقول الله، عز وجل: ((إنا
كل شيء خلقناه بقدر)) أنه حمل قوله تعالى:
((بقدر)) على عموم ما يتقضيه اللفظ من القدر
الذي هو المشيئة والإرادة، والقدر الذي هو
التقدير والتحديد، فدخل تحت عموم ذلك جميع
مقدرات الشريعة. وأما استدلاله على ذلك بقوله
تعالى: ((قد جعل الله لكل شيء قدراً))، فلا
إشكال فيه، لأن المعنى ((قد جعل الله لكل شيء
قدراً))، أي حد له حداً، فوجب أن يمتثل إذا
ثبت بما يجب ثبوته به من صن أو دليل، وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عمن تفوته مع الإمام ركعة فإذا صلى
معه ركعة جلس الإمام فتشهد، معه وهي له واحدة؟
فقال نعم يتشهد.
(1/391)
قال محمد بن
رشد: وجه قوله إنه لما جلس بجلوس الإمام وإن
لم يكن ذلك له موضع جلوس لقول النبي صلى الله
عليه وسلم: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا
تختلفوا عليه)) وجب أن يتشهد لتشهده. وبهذه
المسألة احتج ابن الماجشون لما ذهب إليه من
أنه يقوم إذا سلم الإمام بتكبير، فقال: إنه
لما جلس بجلوس الإمام صار ذلك له موضع جلوس،
فوجب أن يتشهد وأن يقوم إذا سلم الإمام
بتكبير، وهذا لا يلزم ابن القاسم لأنه لم
يتشهد من أجل أن ذلك صار موضع جلوس له، وإنما
تشهد لما لزمه من إتباع الإمام في الجلوس لما
لم يستطع مخالفته، فإذا سلم الإمام وجب أن
يرجع إلى حكم صلاته فلا يكبر، إذ قد كبر حين
رفع رأسه من السجدة، التي كان يلزمه أن يقوم
بها، فلا يزيد تكبيرة ثانية بسبب جلوسه مع
الإمام في غير موضع جلوس له، وهذا بين، وبالله
التوفيق.
مسألة
قال: وسئل عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد
لله شكراً، فقال: لا يفعل، ليس مما مضى من أمر
الناس. قيل له إن أبا بكر الصديق، رضي الله
عنه، فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكراً لله
أفسمعت ذلك؟ قال: ما سمعت ذلك. وأنا أرى أن قد
كذبوا على أبي بكر، وهذا من الضلال أن يسمع
المرء الشيء فيقول هذا شيء لم نسمع له خلافاً،
فقيل له: إنما نسألك لنعلم رأيك فنرد ذلك به،
فقال نأتيك بشيء آخر أيضاً لم تسمعه مني، قد
فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى
المسلمين بعده، أفسمعت أن أحداً منهم فعل مثل
هذا، إذا جاءك مثل هذا مما قد كان في الناس
وجرى على أيديهم
(1/392)
لا يسمع عنهم
فيه شيء فعليك بذلك، فإنه لو كان لذكر، لأنه
من أمر الناس الذي قد كان فيهم، فهل سمعت أن
أحداً منهم سجد؟ فهذا إجماع، إذا جاءك أمر لا
تعرفه فدعه.
قال محمد بن رشد: نهى مالك، رحمه الله، عن
سجود الشكر في هذه الرواية مثل ما له في
المدونة من كراهة ذلك، والوجه في ذلك أنه لم
يره مما شرع في الدين فرضاً ولا نفلاً، إذ لم
يأمر بذلك النبي عليه السلام، ولا فعله ولا
أجمع المسلمون على اختيار فعله، والشرائع لا
تثبت إلا من أحد هذه الوجوه. واستدلاله على أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا
المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل، صحيح إذ
لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل
شريعة من شرائع الدين وقد أمروا بالتبليغ.
وهذا أيضاً من الأصول، وعليه يأتي إسقاط
الزكاة من الخضر والبقول مع وجوب الزكاة فيها
بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فيما
سقت السماء والعيون والبعل العشر وفيما سقي
بالنضح نصف العشر)) لأنا أنزلنا ترك نقل أخذ
النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة منها كالسنة
القائمة في أن لا زكاة فيها. وكذلك ننزل ترك
نقل السجود عن النبي صلى الله عليه وسلم في
الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيها. وقد
أباح السجود فيها الشافعي ومحمد بن الحسن،
واحتج لهما من نصر قولهما بما قص الله تعالى
علينا من سجود داوود، عليه السلام بقوله:
((فخر راكعاً وأناب)) وهذا لا دليل فيه، إذ
ليست سجدة شكر وإنما هي سجدة توبة، ولا يصح
قياس سجدة الشكر على سجدة التوبة إلا بعد
التسليم لإباحة سجدة التوبة، ونحن لا نسلم ذلك
بل نقول إن شرعنا مخالف لشرع داوود في إباحة
السجدة
(1/393)
عند التوبة من
الذنب بمثل الدليل الذي استدللنا به في المنع
من سجود الشكر، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الدمل يتفقى بالرجل وهو في الصلاة،
أفينصرف أم يقيم على صلاته؟ قال ذلك مختلف إن
كان انفجاراً يسيراً فليصل كما هو، وإن كان
انفجاراً كثيراً فلينصرف.
قال محمد بن رشد: إنما فرق بين اليسير والكثير
لأن اليسير من الدم معفو عنه، لقول الله عز
وجل: أو دماً مسفوحاً، لأن التوقي من الدم
اليسير عسير إذ لا ينفك منه، وحد اليسير في
ذلك قدر ما يفتله الراعف من دم الرعاف ويتمادى
في صلاته، والكثير ما زاد على ذلك. فإذا انصرف
قطع ولم يبن بخلاف الرعاف، لأن البناء في
الرعاف سنة تتبع، ولا يقاس عليها لمخالفتها
القياس.
مسألة
وسألته عن وضع الرجل إحدى يديه على الأخرى في
الصلاة المكتوبة يضع اليمنى على كوع اليسرى
وهو قائم في الصلاة المكتوبة أو النافلة، قال:
لا أرى بذلك بأساً في النافلة والمكتوبة.
قال محمد بن رشد: قوله لا أرى بذلك بأساً يدل
على جواز فعل ذلك في الفريضة والنافلة من غير
تفصيل، وذهب في رواية ابن القاسم عنه في
المدونة إلى أن ترك ذلك أفضل من فعله، لأنه
قال فيها: لا أعرف ذلك في الفريضة وكان يكرهه،
ولكن في النوافل قال: إذا طال القيام فلا بأس
(1/394)
بذلك يعين به
نفسه وسقط، وكان يكرهه في بعض الروايات؟
فالظاهر من مذهبه فيها مع سقوطه أن تركه أفضل،
لأن معنى قوله لا أعرف ذلك في الفريضة، أي لا
أعرفه فيها من سننها ولا من مستحباتها. وفي
قوله إنه لا بأس بذلك في النافلة إذا طال
القيام ليعين به نفسه دليل على أن فيه عنده
بأساً إذا لم يطل القيام، وفي الفريضة وإن طال
القيام، وأما مع ثبوت وكان يكرهه فالأمر في
ذلك أبين، لأن حد المكروه ما في تركه أجر وليس
في فعله وزر. وذهب في رواية مطرف وابن
الماجشون عنه في الواضحة إلى أن فعل ذلك أفضل
من تركه، وهو الأظهر لما جاء في ذلك من أن
الناس كانوا يؤمرون به في الزمان الأول، وأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله. فيتحصل
في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك جائز في
المكتوبة والنافلة لا يكره فعله ولا يتسحب
تركه، وهو قوله في هذه الرواية، وقول أشهب في
رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب
الجامع، والثاني أن ذلك مكروه يستحب تركه في
الفريضة والنافلة إلا إذا طال القيام في
النافلة فيكون فعل ذلك فيها جائزاً غير مكروه
ولا مستحب، وهو قول مالك في المدونة وفي رسم
شك في طوافة من كتاب الجامع، والثالث أن ذلك
مستحب فعله في الفريضة والنافلة مكروه تركه
فيها، وهو قوله في رواية مطرف وابن الماجشون
عنه في الواضحة. وقد قيل في قوله تعالى: ((فصل
لربك وانحر)) إن المراد بذلك وضع اليد اليمنى
على الذراع اليسرى في الصلاة تحت النحر، وقد
تأول أن قول مالك لم يختلف في أن ذلك من هيئة
الصلاة التي تستحسن فيها، وأنه إنما كرهه ولم
يأمر به استحساناً مخافة أن يعد ذلك من واجبات
الصلاة. والأظهر أنه اختلاف من القول، والله
أعلم.
مسألة
وسئل عن الصبي المراهق أيؤم الناس في الصلوات؟
فقال
(1/395)
لي: أما
الصلوات المكتوبات التي هي الصلوات فلا، وأما
في النوافل فالصبيان يؤمون الناس فيها. قيل
أفيقدمون في رمضان؟ فقال نعم لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية أن يؤم
الصبي في النافلة وقيام رمضان، وهو استحسان
على غير قياس مراعاة لقول من يرى صلاة المأموم
غير مرتبطة بصلاة إمامه، فيجيز إمامة الصبي في
الفريضة والنافلة، وللرجل أن يصلي الفريضة خلف
من يصلي نافلة. والقياس على مذهبه في أن صلاة
المأموم مرتبطة بصلاة إمامه قوله في المدونة
أن لا يؤم الصبي في النافلة. وما وقع من كراهة
ذلك له في رسم حلف من سماع ابن القاسم، لأن
نافلته وإن وافقت صلاة الصبي في كونها نافلة
له على مذهب من يرى أنه مندوب إلى فعل
الطاعات، فلا يأمن أن يصلي به على غير وضوء أو
بغير نية، إذ لا حرج عليه في ذلك لكونه غير
مكلف، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن المسافر يصلي على دابته تستقبله الشمس
في وجهه فيعرض بوجهه هكذا عنها، أيتنفل كذلك؟
فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، سمعت الجواب
ولم أفهم ما سئل عنه حتى سألت فأخبرني عنه
بذلك بعضهم.
قال محمد بن رشد: هذا خفيف كما قال أنه لم
يقصد بفعله الالتفات في صلاته، وإنما فعله
للضرورة.
مسألة
وسئل عن المرأة تخمر رأسها في الصلاة ونحرها
مكشوف، فقال: النحر موضع الخمار فلا أرى أن
تفعل ذلك، وما زال يأخذ
(1/396)
بقلبي أن
القميص أوفق للمرأة وهو يزر. قال: ومن لباس
النساء الدروع وأنا أكره لباسهن القراقل وأظنه
من لباس القبط، والدروع أحب إلي. فقلت له
أفتكره لباس القراقل في الصلاة وغيرها؟ فال:
أما أنا فأكره لباس القراقل، قال: ولم يكن من
لباسهن وقد كان يقال من شر النساء المشبهة
بالرجال. قال محمد بن رشد: وهذا ما قال إن
النحر مما يلزم المرأة أن تستره في الصلاة،
وإنه موضع الخمار، يدل على ذلك قوله الله عز
وجل: ((وليضربن بخمرهن على جيوبهن))، وقال
تعالى: ((ولا يبدين زنتهن إلا ما ظهر منها)).
والذي ظهر منها عند أهل العلم بالتأويل هو
الوجه والكفان، فلا يجوز أن يبدو منها في
الصلاة إلا ذلك.
مسألة
وسئل عن المرأة تلد فلا ترى دماً، فإنك قد قلت
لي فيها قولاً منذ سنين، فقال له: وما قلت لك؟
فقال له: قلت لي إنها تصلي ولكني إنما شككت في
الغسل، فقال له: أوفي هذا شك؟ إنها تغتسل لا
يأتي من الغسل إلا خير.
قال محمد بن رشد: قوله فلا ترى دماً، أي لا
ترى دماً كثيراً على عادة النساء عند النفاس،
لأن خروج المولود دون شيء من دم خرق للعادة.
فإذا انقطع الدم ولو من ساعته اغتسلت وصلت،
لأن دم النفاس لا حد لأقله عند مالك وجميع
أصحابه وجمهور أهل العلم، خلافاً لأبي يوسف في
قوله إن حده خمسة عشر يوماً فرقاً بينه وبين
أكثر الحيض، والغسل عليها واجب،
(1/397)
وذلك بين في
الرواية من قوله أو في هذا شك إنها تغسل، وليس
في قوله لا يأتي من الاغتسال إلا خير دليل على
تخفيف وجوب الغسل، ومعناه عندي لا يأتي من
تعجيل الاغتسال وترك تأخيره إلى حد أقل دم
النفاس عند من حد له حداً إلا خير، ولعله تكلم
على خروج المولود نقياً من الدم إن وجد ذلك،
ولذلك قال إنه لا يأتي من الاغتسال إلا خير.
ويحتمل أن يكون مذهب من حد لأقل دم النفاس
حداً ألا يعتبر بما دونه فتصلي دون غسل وتعيد
صلاة تلك الأيام، وهذا أشبه أن يكون مذهبهم،
لأنه يبعد أن يكون من قول أحد أن تترك المرأة
الصلاة وهي طاهرة لا دم بها. والله عز وجل
يقول: ((ويسألونك عن المحيض قل هو أذى))، فإن
كان هذا مذهبهم احتمل أن يكون أشار إليه مالك
بقوله لا يأتي من الاغتسال إلا خير، والله
أعلم، وبه التوفيق.
مسألة
وسئل عن الرجل يخرج من المسجد وفي يده الحصباء
قد نسيها أو في نعله، أيرده إلى المسجد؟ فقال:
إن رده فحسن، وما أرى عليه ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إن ذلك حسن
وليس بواجب، لأنه أمر غالب لا ضرر فيه على
المسجد، فلم يلزم رده، كما أن ما يبقى بين
أسنان الصائم من الطعام إذا ابتلعه في النهار
مع الريق لم يجب عليه قضاء لأنه أمر غالب،
وقال ابن الماجشون: وإن كان متعمداً لأنه
ابتدأ أخذه في وقت يجوز له، وهو يعيد.
مسألة
قال: وسئل مالك عن التغليس بصلاة الصبح أحب
إليك أم
(1/398)
الإسفار؟ قال:
بل التغليس أحب إلي من الإسفار، وقد غلس رسول
الله صلى الله عليه وسلم بها.
قال محمد بن رشد: قوله وقد غلس رسول الله صلى
الله عليه وسلم بها لفظ وقع على غير تحصيل،
لأن قول القائل فعل فلان كذا لا يدل على أكثر
من مرة واحدة, وليس في تغليس رسول الله صلى
الله عليه وسلم بصلاة الصبح مرة واحدة دليل
على أن ذلك أفضل أوقاتها، كما أنه ليس في
إسفاره بها مرة واحدة دليل على أن ذلك أفضل
أوقاتها، وإنما يدل على أن التغليس بها أفضل
مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك،
فكان الصواب أن يقول وقد كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يغلس بها، وهو الذي أراد بحديث
عائشة: ((إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات))، الحديث،
لكنه تجاوز في اللفظ لنفسه بفهم السائل، وهي
حجة ظاهرة على أهل العراق في قولهم إن الإسفار
بها أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
((أسفروا بالصبح فكلما أسفرتم بها فهو أعظم
للأجر)) أو كما قال صلى الله عليه وسلم ومعنى
ذلك عندنا الحض على التأخير إلى أنه يتضح
إسفار الفجر فلا يرتاب في طلوعه حتى يتفق قوله
وفعله، لأنه يبعد في القلوب أن يداوم على
الإغلاس الذي هو أشق ويترك الإسفار الذي هو
أخف مع كونه أعظم أجراً. فقد قالت عائشة، رضي
الله عنها: ((ما خير رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن
إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه))،
فكيف إذا كان أعظم أجراً، هذا ما لا يصح لمسلم
أن يقوله وكذلك سائر الصلوات أول أوقاتها أفضل
من آخرها عند مالك. وقد تأول بعض الشيوخ
(1/399)
عليه في إنكاره
لحديث يحيى بن سعيد في المدونة أن أول الوقت
وأوسطه وآخره في الفضل سواء، وهو تأويل لا يصح
إلا فيما عدا صلاة الصبح، لنصه في هذه الرواية
أن التغليس بها أفضل من الإسفار، وفيما عدا
صلاة المغرب إذ قد قيل ليس لها إلا وقت واحد،
فحصل الإجماع على القول بالمبادرة بها في أول
وقتها. وقد روي أن عمر بن عبد العزيز أخر صلاة
المغرب إلى أن طلع نجم أو نجمان فأعتق رقبة أو
رقبتين، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى
الصبح بعد اطلاع الشمس، أصلى ركعتي الفجر؟
قال: ما سمعت:
قال محمد بن رشد: قد روي في بعض الآثار أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاهما، وفي ذلك
دليل على أن الصلاة المنسية وإن كان وقتها حين
يذكرها فليس بوقت مضيق لا يجوز تأخيرها عنه
بحال، كغروب الشمس للعصر أو طلوعها للصبح. ألا
ترى أنهم قالوا فيمن ذكر صلاة قد خرج وقتها
وهو مع الإمام في صلاة أنه يتمادى معه ولا
يقطع، وكذلك المنفرد عند ابن حبيب لا يقطع وإن
لم يركع، إذ لا يستدرك بالقطع ما قد فاته من
وقت التي ذكرها، وما روي من أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم صلى الركعتين قبل الصبح، احتج
الشافعي لما ذهب إليه أن من ذكر صلاة وهو في
وقت صلاة يبدأ بالتي حضر وقتها ولم يثبت ذلك
عند مالك، رحمه الله، فقال: ما سمعت. ولو ثبت
لاحتمل أن يفرق بين المسألتين بأن ركعتي الفجر
تفوت إن بدأ بالصبح، إذ لا تصلى بعد صلاة
الصبح، ولا تفوت الصلاة التي حضرها وقتها
بالبداية بالفائتة لأن تصلى بعدها ولو خرج
وقتها.
(1/400)
مسألة
وسئل عن القوم يأتون بالمراوح في المسجد
يتروحون بها فقال: لا أحب ذلك ولا أستحسنه.
قال محمد بن رشد: وجه الكراهية في ذلك بين،
لأن المراوح اتخذت للترفه والمساجد وضعت
للتعبد، فلا ينبغي أن يعدل بالمساجد عما وضعت
له. وقد تقدمت هذه المسألة في رسم شك من سماع
ابن القاسم.
مسألة
وسئل عن ركعتي الفجر والوتر أسنة؟ فقال: أما
الوتر فسنة، وأما ركعتا الفجر فيستحب العمل
بهما.
قال محمد بن رشد: أما الوتر فلا اختلاف عندنا
في أنه سنة، وذهب أهل العراق إلى أنه واجب.
وأما ركعتا الفجر فقيل إنهما من الرغائب، وهو
قول مالك في رواية أشهب هذه عنه وقول أصبغ في
كتاب المحاربين والمرتدين، وقيل إنهما من
السنن وقد مضت هذه المسألة والتكلم عليها في
رسم القبائل من سماع ابن القاسم.
مسألة
قال: وسألته عن الذي يدخل مع الناس في قيام
رمضان وقد سبقوه بركعة، فيركع معهم ركعة ثم
يجلسون فيسلمون، فقال: لا يسلم هو معهم ويقوم
معهم فإذا ركعوا الثالثة لهم وهي له الثانية
جلس وقاموا هم فيسلم لنفسه من الأثنتين، ثم
اتبعهم حتى يفرغ من صلاته وما أسرع بذلك
ويتوخى أن يكون ركوعه موافقاً لركوعهم، فقلت
له: لا يسلم في جلوسه معهم في الثانية لهم وهي
له واحدة
(1/401)
فإذا أتم لنفسه
أثنتين جلس وهم قيام فسلم لنفسه ثم لحقهم،
فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول
عليها في رسم حلف بطلاق امرأته من سماع ابن
القاسم، فلا معنى لإعادة القول فيها.
مسألة
وسئل عمن صلى الظهر في بيته ثم أتى المسجد
فوجد الناس جلوساً في آخر صلاتهم ما يصنع؟
فقال: لا يدخل معهم في صلاتهم ويقيم على صلاته
التي صلى في بيته.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لن السنة إنما
جاءت فيمن صلى وحده أن يعيد في جماعة، فإذا لم
يدرك من صلاة الجماعة ركعة ودخل معهم فحكمه
حكم المنفرد إذا لم يدرك من الصلاة ما يدخل به
في حكم الإمام، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الرجل ينسى الاستنجاء بالماء حتى
يصلي، قال: أرجو أن لا تكون عليه إعادة.
قال محمد بن رشد: يريد وقد استنجى بالحجارة أو
لم يتعلق بمخرجه شيء من الأذى. وأما لو ترك
الاستنجاء بالحجارة والماء وقد تعلق بمخرجه
شيء من الأذى لكان عليه أن يعيد في الوقت. وقد
مضى هذا المعنى في سماع أبي زيد من كتبا
الوضوء، وحيث ما تكررت المسألة من الكتاب
المذكور. وفي قوله أرجو أن لا تكون عليه إعادة
نظر، لأنه إذا لم يتعلق بمخرجه أذى فلا وجه
لتعلق ترك الإعادة بالرجاء، وإن كان قد تعلق
به أذى ولم يستنج بالأحجار فلا وجه لتخفيف ترك
الإعادة، فإن كان تكلم
(1/402)
على هذا فعله
أراد ألا تكون عليه إعادة في الوقت وبعده،
ويحتمل أن يكون تكلم على أنه استنجى بالحجارة
فقال: أحب إلي أن لا تكون لعيه إعادة من أجل
أن الماء أطهر وأطيب، وقد قال ابن حبيب إن
الاستنجاء لا يباح اليوم إلا من ضرورة لأنه
أمر قد ترك وجرى العمل بخلافه.
مسألة
قال: وسألته عن الإمام يؤم الناس فإذا فرغ من
صلاته تنفل في مكانه، فقال: قد رأيت الناس
يتنحون، وأرى ذلك واسعاً أن يصلي في مقامه أو
يتنحى شيئاً، أرى في ذلك سعة. قيل: أرأيت
الإمام إذا سلم أيجلس مكانه أم يقوم؟ فقال: بل
يقوم. فقيل: أيركع مكانه أم يتنحى؟ قال: ذلك
واسع إن شاء ركع مكانه وإن شاء تنحى شيئاً.
قال محمد بن رشد: وسع مالك للإمام في هذه
الرواية أن يركع في مكانه وأن ينحرف عنه شيئاً
ولا يقوم، وذلك كله خلاف ما في المدونة، لأنه
كره في الصلاة الأول منها للإمام أن يتنفل في
موضعه وقال على ذلك أدركت الناس، وكره في
الصلاة الثاني منها أن يثبت في موضعه وإن
انحرف عنه، وقال: فليقم ولا يقعد إلا أن يكون
إماماً في السفر أو في فنائه ليس بإمام جماعة
فإن شاء تنحى وإن شاء أقام. وكره ذلك لوجهين
أحدهما: مخالفة السلف، والثاني: ما يخشى في
ذلك من التخليط على من خلفه، إذ قد يظن من
يراه جالساً أنه لم يسلم بعد من صلاته ومن رآه
قائماً متنفلاً أنه إنما قام لإتمام شيء شك في
من صلاته، والله أعلم، وبه التوفيق.
مسألة
قال وسئل عن القوم يكون بعضهم قريب المنزل من
المسجد إذا خرج منه دخل إلى المسجد من ساعته
وإذا خرج من المسجد
(1/403)
إلى منزله مثل
ذلك يدخل منزله مكانه، ومنهم البعيد المنزل من
المسجد، أترى أن يجمعوا بين الصلاتين كلهم في
المطر؟ فقال: ما رأيت الناس إذا جمعوا إلا
القريب والبعيد فيهم سواء يجمعون قيل ماذا؟
فقال: إذا جمعوا جمع القريب منهم والبعيد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن الجمع إذا
جاز من أجل المشقة التي تدخل على من بعد دخل
معهم من قرب، إذ لا يصح لهم أن ينفردوا دونهم
فيصلوا كل صلاة في وقتها جماعة لما في ذلك من
تفريق الجماعة، ولا أن يتركوا الصلاة في جماعة
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة
لجار المسجد إلا في المسجد)).
مسألة
قال: وسئل عم خرج إلى مسجد النبي صلى الله
عليه وسلم يريد الصلاة فيه، فلقي الناس
منصرفين من الصلاة، أفذلك أحب إليك أم يمضي
إلى مسجد النبي، عليه السلام، فيصلي فيه وحده
لما جاء فيه من الحديث أن الصلاة فيه خير من
ألف صلاة فيما سواه من المساجد، فقال: بل يصلي
في المسجد.
قال محمد بن رشد: قوله بل يصلي في المسجد،
يريد بل يذهب إليه فيصلي فيه منفرداً ولا يصلي
دون في جماعة، وذلك مثل قوله في المدونة، لأنه
رأى الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
منفرداً أفضل من الصلاة خارجاً عنه في جماعة،
لما جاء من الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما
سواه من المساجد إلا المسجد الحرام. وفي بعض
الروايات بل يصلي في
(1/404)
الجماعة، يرد
خارج المسجد ولا يذهب إلى المسجد إذ قد فاتته
الصلاة فيه في جماعة، فرأى في هذه الرواية
الصلاة في الجماعة أفضل من الصلاة في مسجد
النبي صلى الله عليه وسلم فذاً، خلاف ما في
المدونة. ووجه ذلك أنه حمل قوله صلى الله عليه
وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة
فيما سواه من المساجد)) على أنه أراد بذلك
الصلاة في الجماعة، فكأنه قال صلاة في مسجدي
هذا في جماعة خير من ألف صلاة فيما سواه من
المساجد، بدليل أن المساجد إنما اتخذت لإقامة
الصلوات المكتوبات فيها بالجماعة، فخرج الحديث
على ذلك، ولم تدخل فيه صلاة الفذ كما لم تدخل
فيه صلاة النافلة، ويكون هذا معنى قوله:
((أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا
المكتوبة)) ، يريد بذلك إلا المكتوبة في
الجماعة. وذهب ابن لبابة إلى أن ذلك ليس
باختلاف من القول، قال: لأنه تكلم في المدونة
على من دخل المسجد، وفي هذه الرواية على من لم
يدخله، وهذا ليس بصحيح، لأن الصلاة إن كانت في
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فذاً أفضل من
الصلاة خارجاً عنه في جماعة، فالأولى به أن
يمضي إليه رغبة في الفضيلة، وإن كانت الصلاة
في الجماعة أفضل من الصلاة في مسجد النبي صلى
الله عليه وسلم فذاً فالأولى به إذا فاتته
الجماعة فيه أن يخرج منه ويصلي في جماعة رغبة
في الفضيلة أيضاً، وهذا بين. ووقع في النسخ:
بل يصلي في المسجد بالجماعة، وذلك خطأ في
الرواية لا وجه له، والله أعلم، وبه التوفيق.
مسألة
وسئل عم دخل من باب المسجد فوجد الناس ركوعاً
وعند بابا المسجد ناساً يصلون ركوعاً وبين
يديه الفرج، أيركع مع هؤلاء الذين عند باب
المسجد أم يتقدم إلى الفرج؟ قال: بل أرى أن
(1/405)
يركع مع هؤلاء
الذين عند باب المسجد فيدرك الركعة إلا أن
يكونوا قليلاً فلا أرى أن يركع معهم ويتقدم
إلى الفرج أحب إلي، وأما إذا كانوا كثيراً
فأرى أن يركع معهم.
قال محمد بن رشد: تفرقته بين أن يكونوا قليلاً
أو كثيراً استحسان، ولو ركع معهم وهم عدد يسير
لصحت صلاته باتفاق، وإنما الخلاف إذا لم يكن
معه أحد سواه. وقد مضى هذا المعنى مستوفى في
رسم شك في طوافه ورسم اغتسل على غير نية من
سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
مسألة
قيل: أرأيت الغسل للعيدين قبل الفجر؟ قال: أجو
أن يكون ذلك واسعاً.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في آخر
هذا الرسم وفي رسم صلاة العيدين، وزاد فيها:
من الناس من يغدو قبل الفجر، فالمعني فيها أنه
خفف لمن غدا بعد الفجر أ، يغتسل قبل الفجر ولم
ير من شرط صحة الغسل للعيدين أن يتصل بالغدو
لها، لكونه مستحباً فيها غير مسنون. وفي
المدونة من رواية عيسى عن ابن القاسم عن مالك
أنه إن رجع إلى منزله بعد صلاة الصبح فلا
يجزيه ذلك الغسل قياساً على غسل الجمعة.
مسألة
وقال: المسجد الذي ذكر الله تعالى أنه: ((أسس
على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه
رجال))، هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا، ثم قال: أين كان يقوم رسول الله صلى الله
عليه وسلم أليس في
(1/406)
هذا ويأتونه
أولئك من هناك؟ وقال الله تعالى: ((وإذا رأوا
تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً))،
فإنما هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد قال عمر بن الخطاب: ((لولا أني رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم أو سمعته يريد أن
يقدم القبلة وقال عمر ذلك بيده هكذا ما
قدمتها))، ثم قدمها عمر موضع المقصورة الآن،
فلما كان عثمان قدمها إلى موضعها التي هي الآن
به، ثم لم تحول بعد.
قال محمد بن رشد: هذا الذي ذهب إليه مالك،
رحمه الله، من أن المسجد الذي ذكر الله تعالى
أنه أسس على التقوى هو مسجد رسول الله صلى
الله عليه وسلم مروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم روي عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً من بني
خدرة ورجلاً من بني عمرو بن عوف امتريا في
المسجد الذي أسس على التقوى، فقال العوفي: هو
مسجدنا بقباء، وقال الخدري: هو مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فخرجا فأتيا النبي صلى
الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: ((هو هذا
المسجد)) مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي ذلك خير كثير. وقد ذهب جماعة من العلماء
إلى أنه مسجد قباء مسجد سعد بن خيثمة،
واستدلوا على ذلك ببنيان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إياه. روي عن عائشة أنها قالت:
((أول من حمل حجراً لقبلة مسجد قباء رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم حمل أبو بكر آخر ثم حمل
عمر آخر ثم حمل عثمان آخر فقلت يا رسول الله
ألا ترى هؤلاء يتبعونك فقال: أما إنهم أمراء
الخلافة بعدي)). وهذا لا دليل فيه لأنه بنى
مسجده واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى:
(1/407)
((فيه رجال
يحبون أن يتطهروا))، يريد الأنصار بما روي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت:
((يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم
خيراً في الطهور فما طهوركم. قالوا نتوضأ
للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء))،
وفي بعض الآثار: ((ونستنجي بالأحجار ثم بالماء
فقال: هو ذاك فعليكموه)). وهذا لا دليل فيه
أيضاً لأن أولئك الرجل قد كانوا في مسجد النبي
صلى الله عليه وسلم، لأنه كان معموراً
بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم من الصحابة،
رضي الله عنهم، فصح ما ذهب إليه مالك من أن
المسجد الذي ذكر الله تعالى أنه أسس على
التقوى هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا ما سواه من المساجد. واستدلال مالك لمذهبه
بقول عمر لم يستجز نقض أسسه وتبديل قبلته إلا
بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في
ذلك ورآه قد أراد أن يفعله، وبالله التوفيق.
مسألة
قال: وسألته عن الاعتماد على اليدين في القيام
من الصلاة فقال لي: لا بأس بذلك وكيف يصنع غير
هذا؟ فقلت له: ربما قام الرجل ولا يعتمد،
فقال: هذا مصارع يقول هاتوا من يضع جنبي، ما
يطيق هذا إلا الشباب الخفيف اللحم، فقلت:
فالاعتماد أحب إليك؟ قال: ذلك صلاة الناس،
وأما ذلك الوثوب فلا أدري ما هو.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة
مستوفى في رسم باع غلاماً من سماع ابن القاسم
فلا وجه لإعادته.
(1/408)
مسألة
وقيل لمالك: قلت في هؤلاء النصارى الذين يبنون
في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أنهم
أمروا أن لا يدخلوا المسجد إلا من الباب الذي
يلي موضع عملهم ولا يخترقون المسجد ولا يدخلون
منه ما لا عمل لهم فيه، فقال له مالك: نعما
قلت: لو أنهم حيزوا من عمله إلى موضع واحد ثم
دخلوا مما يليه لنعما. قلت: وإنه لينبغي أن
ينظر في قبر النبي صلى الله عليه وسلم كيف
يكشفون سقفه، فقيل له: يجعل عليه خيش، فقال:
وما يعجبني الخيش وإنه لينبغي أن ينظر في
أمره.
قال محمد بن رشد: لم ينكر مالك، رحمه الله،
بنيان النصارى في مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم واستحب أن يحازوا إلى موضع منه وأن
يدخلوا مما يليه ولا يخترقوا ما لا عمل لهم
فيه، وإنما خفف ذلك ووسع فيه وإن كان مذهبه أن
يمنعوا من دخول المساجد لقول الله عز وجل:
((إنا المشركون نجس))، الآية، وقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ((لا أحل المسجد لحائض
ولا جنب))، وهم أنجاس لا يتطهرون، مراعاة
لاختلاف أهل العلم في ذلك، إذ منهم من أباح أن
يدخلوا جميع المساجد إلا المسجد الحرام، لقول
الله عز وجل: ((إنما المشركون نجس فلا يقربوا
المسجد الحرام))، ولما جاء في الصحيح من أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل
نجد فأسروا تمامة بن أثال فربطة بسارية من
سواري المسجد، ومنهم من أباح أن يدخلوا جميع
(1/409)
المساجد والسجد
الحرام وقال إن معنى الآية ما أمر به رسول
الله صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي به
في مواسم الحج من أ، لا يحج بعد العام مشرك
بدليل توقيت ذلك العام إذ لا يختص دخول البيت
بوقت دون وقت. والفرق عند هؤلاء بين النصراني
والجنب، والله أعلم، هو أن النصراني غير متعبد
عندهم بشرائع الإسلام. وكره مالك، رحمه الله،
أن يكشف سقف قبر النبي صلى الله عليه وسلم
ورأى من صونه أن يكون مغطى، ولم ير أن يكتفى
في ذلك بالخيش، فكأنه ذهب إلى أن يغطى كتغطية
البيوت المسكونة. ولقد أخبرني من أثق به أنه
اليوم مكشوف الأعلى لا سقف له تحت سقف المسجد،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن العشيرة يكون لهم مسجد يصلون فيه
فيريد رجل أن يبني قريباً منه مسجداً، أيكون
ذلك له؟ فقال: لا خير في الضرار ثم لا سيما في
المساجد خاصة. فأما مسجد بني لخير وصلاح فلا
بأس به، وأما ضرار فلا خير فيه، قال الله عز
وجل: ((الذين اتخذوا مسجداً ضراراً)) لا خير
في الضرار في شيء من الأشياء، وإنما القول
أبداً في الآخر من المسجدين.
وسئل سحنون عن القرية يكون فيها مسجد فيريد
قوم آخرون أن يبنوا فيها مسجداً آخر هل لهم
ذلك؟ فقال: إن كانت القرية تحتمل مسجدين لكثرة
أهلها ويكون فيها من يعمر المسجدين جميعاً
الأول والآخر فلا بأس به، وإن كان أ÷لها
قليلاً يخاف أن يعطل المسجد الأول فلا يوجد
فيها من يعمره فليس لهم ذلك، وهؤلاء قوم
يريدون أن يبنوا على وجه الضرر.
(1/410)
قال محمد بن
رشد: وهذا كما قال مالك، رحمه الله، أن من بنى
مسجداً بقرب مسجد آخر ليضار به أهل المسجد
الأول ويفرق به جماعتهم فهو من أعظم الضرر،
لأن الإضرار فيما يتعلق بالدين أشد منه فيما
يتعلق بالنفس والمال، لا سيما في المسجد
المتخذ للصلاة التي هي عماد الدين. وقد أنزل
الله تعالى في ذلك ما أنزل من قوله: ((الذين
اتخذوا مسجداً ضراراً))، إلى قوله: ((لا يزال
بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع
قلوبهم)). وقوله إنما القول أبداً في الآخر من
المسجدين صحيح، لأنه هو الذي يجب أن ينظر فيه،
فإن ثبت على بانيه أنه قصد الإضرار وتفريق
الجماعة لا وجهاً من وجوه البر وجب أن يحرق
ويهدم ويترك مطرحاً للزبول. كما فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم بمسجد الضرار، وإن ثبت أن
إقراره مضر بأهل المسجد الأول ولم يثبت على
بانيه أنه قصد إلى ذلك وادعى أنه أراد به
القربة لم يهدم وترك معطلاً لا يصلى فيه إلا
أن يحتاج إلى الصلاة فيه بأن يكثر أهل الموضع
أو ينهدم المسجد الأول، وبالله التوفيق.
مسألة
قيل لسحنون: فالمسجد يجعل فيه المنار فإذا صعد
المؤذن فيها عاين ما في الدور التي تجاور
المسجد فيريد أهل الدور منع المؤذنين من
الصعود فيها، وربما كانت بعض الدور على البعد
من المسجد يكون بينهم الفناء الواسع والسكة
الواسعة، قال: يمنع من الصعود فيها والرقي
عليها لأن هذا من الضرر، وقد نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الضرار.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصل مذهب مالك
في أن الاطلاع من الضرر البين الذي يجب القضاء
بقطعه، وكذلك يجب عندي
(1/411)
على مذهب من
يرى من أصحاب مالك أن من أحدث في ملكه اطلاعاً
على جاره لا يقضى عليه بسده، ويقال لجاره استر
على نفسك في ملكك. والفرق بين الموضعين على
مذهبهم أن المنار ليس بملك للمؤذن وإنما يصعد
فيه ابتغاء الخير والثواب، والاطلاع على حرم
الناس محظور، ولا يحل الدخول في نافلة من
الخير بمعصية. وسواء كانت الدور على القرب أو
البعد إلا أهن يكون البعد الكثير الذي لا
يستبين معه الأشخاص والهيئات ولا الذكران من
الإناث، فلا يعتبر الاطلاع معه. وقد كان بعض
الشيوخ يستدل على هذا بقول عائشة، رضي الله
عنها: ((إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما
يعرفن من الغلس)).
مسألة
وسئل عن المساجد التي تكون بالمدينة، أيجمع
فيها بين الصلاتين في الليلة المطيرة؟ قال: لا
أدري ماهيه، فأما مسجدنا هذا فنجمع فيه بين
الصلاتين. فقيل له: إن عندنا بمصر وبرقة مساجد
سوى المسجد الجامع تجمع فيه الصلوات فتكون
الليلة المطيرة فيجمع فيها بين الصلاتين،
فقال: أرجو أن لا يكون بذلك بأس، وليس مساجد
المدينة كهيئة مساجد الأمصار.
قال محمد بن رشد: ضعف الجمع بالمدينة فيما سوى
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من المساجد،
ولم يرها في الجمع كمساجد سائر الأمصار. ووجه
الفرق في ذلك بين مساجد المدينة ومساجد
الأمصار أن لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم
بالمدينة فضل متيقن معلوم على سائر المساجد
بالمدينة، وليس للمسجد
(1/412)
الجامع في سار
الأمصار فضل على سائر المساجد بها. ووجه ثانٍ
وهو الاتباع إذ لم يرو أنه جمع في المدينة في
الزمن الأول إلا في مسجد النبي صلى الله عليه
وسلم وتضعيفه في هذه الرواية للجمع فيما سوى
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ينحو إلى رواية
زياد عنه وهي قوله وأظن أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم إنما جمع بين الظهر والعصر والمغرب
والعشاء لأن المسجد لم يكن يحبس مطراً ولم يكن
حول المسجد عمارة فلو ترك الناس الجمع اليوم
لم أره خطأ.
مسألة
قال: ورأيت مالكاً أحرم بالصلاة خلف الإمام
فكبر ورفع يديه حذو صدره ولم يبلغ بهما
منكبيه، فلما هوى راكعاً كبر ولم يرفع يديه
فلما رفع رأسه من الركوع لم يرفع يديه، لم أره
يرفع يديه إلا في تكبيرة الإحرام وحدها، فإني
رأيته يرفع يديه، لم أره يرفع يديه إلا في
تكبيرة الإحرام وحدها، فإني رأيته يرفع يديه
فيها حذو صدره لا تبلغ حذو منكبيه، ورأيته إذا
نهض من السجدة الأخرى من الركعة الأولى ومن
الركعة الثانية نهض كما هو قائماً ولم يجلس ثم
ينهض، فإذا سلم الإمام فقضى سلامه سلم مالك عن
يمينه فقال: السلام عليكم، ثم سلم عن يساره،
فقال: السلام عليكم، ثم رد على الإمام وقال:
السلام عليكم سلامه عن يمينه وعن يساره وعلى
الإمام سلام واحد، يقول السلام عليكم ثلاثاً،
إلا أنه بدأ عن يمينه ثم عن يساره ثم على
الإمام.
قال محمد بن رشد: رفع مالك يديه في افتتاح
الصلاة نحو صدره لا يبلغ بهما منكبيه هو نحو
قوله في المدونة إنه يرفعهما في ذلك شيئاً
خفيفاً، وله في المختصر أنه يرفعهما حذو
منكبيه مثل ما في حديث ابن عمر عن النبي صلى
الله عليه وسلم ومثله في كتاب ابن شعبان. قال
ابن وهب: صليت مع مالك في بيته فرأيته يرفع
يديه في أول ركعة وكان إذا ركع وإذا رفع رأسه
من الركوع
(1/413)
رفع يديه حذو
منكبيه وكان يقول: ((وجهت وجهي للذي فطر
السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من
المشركين))، وقال أكره أن أحمل الجاهل على ذلك
فيقول إنه من فرض الصلاة. وقد مضى القول في
رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه في رسم
يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم.
وأما نهوضه من السجود إلى القيام دون أن يرجع
إلى الجلوس في الركعة الأولى والثالثة فهو
معلوم من مذهبه وعليه العلماء، وذهب الشافعي
إلى أنه يرجع إلى الجلوس على ما روي عن مالك
بن الحويرث أنه قال: ((رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاته لم
ينهض حتى يستوي قاعداً)). والذي عليه الجمهور
هو الصحيح، لأن ذلك قد روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم واتصل به العمل فدل على أنه كان آخر
الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل
أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما فعل في صلاته
ما حكاه عنه مالك بن الحويرث لعلة كانت به
حينئذ، لأنه إنما أقام عنده أياماً ثم رجع إلى
أهله لا لأن ذلك من سنة الصلاة. والنظر يوجب
أيضاً أن لا يكون من سننها، إذ لو كان من
سننها لكان له تكبير كالتكبير عند سائر أركان
الصلاة.
وأما تسليمه عن يمينه وعن يساره ثم على الإمام
فهو كان الأول من قوليه، فقد قال ابن القاسم
في المدونة: إنه كان يأخذ بذلك ثم تركه. وقد
مضى هذا المعنى في آخر رسم شك في طوافه من
سماع ابن القاسم مستوفى. وأما قوله يقول
السلام عليكم فهو مثل قوله في المدونة إنه لا
يجزئ من السلام من الصلاة إلا السلام عليكم،
ووقع ها هنا في بعض الروايات يقول سلام عليكم
سلام عليكم بغير الألف واللام، وذلك خلاف لما
في المدونة. وهذا الخلاف إنما هو في السلام
الذي تحلل به من
(1/414)
الصلاة، وأما
في الرد على الإمام فهو خفيف إذ قد وسع في
الثاني من صلاة المدونة أن يقول فيه عليك
السلام، وبالله التوفيق.
مسألة
وقال له اليربوعي: كان سعيد بن المسيب يقول:
لأن أنام على العشاء أحب إلي من أن أتحدث
بعدها، فقال مالك: أصاب ونعما قال.
قال الإمام: يريد أن ينام عنها إلى آخر وقتها
لا أن ينام عنها حتى يخرج وقتها جملة، فرأى
صلاة العشاء في آخر وقتها وترك الحديث بعدها
أحب إليه من صلاتها في أول وقتها والتحدث
بعدها، وذلك صواب، لأن تحدثه محصي عليه منه ما
يكتبه صاحب اليمين ومنه ما يكتبه صاحب الشمال،
فالتوقي مما يخشى أن يدخل عليه في ذلك من
الإثم آكد عليه من الرغبة في زيادة فضيلة أول
الوقت.
مسألة
وسئل عن إمام سها في الركعة الثالثة فجلس فيها
فرأى من ساعته بحضرة ذلك منه من خلفه قياماً
فنهض قائماً مكانه، أيسجد سجدتي السهو إذا قضى
صلاته؟ فقال: نعم، في رأيي عليه سجدتا السهو
إذا كان قد اطمأن جالساً ثم علم بقيامهم خلفه
فقام. زعم يحيى بن سعيد أن أنس بن مالك صلى
بهم في سفر فنأى للقيام في الركعتين فسبح به
قبل أن يعتدل قائماً فجلس فسجد سجدتي السهو،
فقيل لمالك: قبل السلام أم بعده؟ فقال: لم
يذكر
(1/415)
ذلك يحيى، وأنا
أراها بعد السلام. قيل والذي سألتك عنه من أنه
لما ذهب ليجلس في الثالثة رأى من خلفه قد
قاموا فقام، فقال: نعم يسجد في ذلك سجدتين بعد
السلام، وذلك يختلف عندي، أما الرجل الذي جلس
مجمعاً على الجلوس ذلك أراد، فهذا الذي أرى
عليه سجدتي السهو، وأما الرجل الشاك الذي إنما
يتذكر في جلوسه يريد أن ينظر إلى ما يصنع فلا
أرى على هذا سهواً.
قال محمد بن رشد: أنجب مالك ـ رحمه الله ـ
سجود السهو على أطمأن جالساً ساهياً في الركعة
الأولى أو الثالثة، ولم يراع قول من يرى ذلك
من سنة الصلاة لضعف الاختلاف في ذلك عنده، وقد
بينا قبل هذا وجهه، وقال الجلوس في موضع
القيام على القيام في موضع الجلوس فأوجب في
ذلك السجود على ما حكي عن أنس بن مالك وإن كان
قبل أن يعتدل قائماً، لأن السهو في قيامه وإن
لم يعتدل قائماً أكثر من السهو في جلوسه إذا
لم يطمئن جالساً، مع ما في ذلك من الاختلاف.
وقد اختلف فيمن قام في ركعتين من صلاة رباعية
على قولين: أحدهما أنه يرجع ما لم يعتدل
قائماً وإن فارق الأرض على ما فعله أنس، ومثله
في آخر هذا الرسم، وقاله ابن حبيب؛ والثاني
قول ابن القاسم إنه يرجع ما لم يفارق الأرض،
ولا اختلاف أنه لا يرجع إذا اعتدل قائماً،
وإنما يختلف فيما يجب عليه إن رجع جاهلاً،
فقيل إنه يعيد الصلاة، وهو قول عيس بن دينار
ومحمد بن عبد الحكم، حكى ذلك عنهما ابن الجلاب
في مختصره، وهو قول ابن سحنون أيضاً في
النوادر، وقيل إنه يسجد سجدتي السهو بعد
السلام، وهو قول مالك في آخر هذا الرسم؛ وقيل
إنه يسجد قبل السلام لأنه زاد الجلوس بعد أن
نقصه، فاجتمع عليه نقصان وزيادة، وهو قول أشهب
وعلي بن زياد، وقد روي عن مالك من رواية ابن
وهب وابن أبي أويس أنه راعى الاختلاف في ذلك،
أعني في الذي جلس في وتر من صلاته ساهياً،
(1/416)
فلم يوجب فيه
سجود السهو إلا أن يكون جلوسه قدر ما يتشهد
فيه، وتابعه على ذلك ابن أبي حازم، وقاله ابن
كنانة وابن القاسم في المدنية. وأما الإمام
الذي جلس شاكاً غير مجمع على الجلوس إلا لينظر
ما يصنع الناس فبين أنه لا يسجد لما في أصل
المسألة من الاختلاف.
مسألة
وسئل عن الرجل يتقدم قوماً في الصلاة فيقول
لهم قبل أن يتقدمهم: أتأذنون؟ فقال لا أرى
بذلك باساً. فقيل له: وذلك أحب إليك أن
يستأذنهم؟ فقال: إن خاف أن يكون منهم من يكرهه
أن يؤمهم فليسأذنهم، ربما تقدم المرء القوم
ومنهم من يكره ذلك.
قال محمد بن رشد: قول في استئذان الرجل القوم
في إمامتهم لا أرى بذلك بأساً يدل على أنه خفف
ذلك، فكأنه رأى ترك الاستئذان أحسن إلا أن
يخاف أن يكون منهم من يكرهه، وفي ذلك من قوله
نظر، إذ قد روي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: ((لا يحل لرجل أن يؤم إلا بإذنهم)).
ووجه ما ذهب إليه مالك، والله أعلم، أن الرجل
إذا كان مع القوم فحضرت الصلاة وهو أحقهم
بالإمامة وعلم أنهم مقرون له بالتقدم والفضل
رأى سكوتهم على تقدمه بهم إذناً منهم له في
ذلك، واستحسن أن لا يفصح باستئذانهم في ذلك
لما فيه من إفصاحهم بتقديمه وتفضيله، فيصير
متعرضاً لثنائهم عليه، إلا أن يخاف أن يكون
منهم من يكرهه فلا يكتفي بسكوتهم حتى يصر
حواله بالإذن في ذلك. وأما من قد حصل إماماً
في مسجد أو في موضع بتقديم أهله إياه فطرأت
عليه جماعة يخشى أن يكون فيها من يكره إمامته
فلبس عليه أن يستأذنهم، لأن أهل ذلك المسجد أو
الموضع أحق بالتقديم منهم. وإن علم أن جماعته
أو أكثرها أو ذا النهي والفضل منها كارهون
لإمامته وجب عليه أن
(1/417)
يتأخر عن
الإمامة بهم، لما روي من أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: ((خمسة لا تجاوز صلاتهم
آذانهم))، فذكر فيهم الذي يؤم قوماً وهم له
كارهون. وقد روي أن عمر بن الخطاب، رضي الله
عنه، قال: ((لأن أقرب فتضرب عنقي إلا أن تتغير
نفسي أحب إلي من أؤم قوماً وهم لي كارهون)).
وأما إن لم يكره إمامته من جماعته إلا النفر
اليسير فيستحب له التأخر عن التقدم بهم من غير
إيجاب، وبالله التوفيق.
مسألة
وسألته عن الرجل يؤم القوم في الظهر، أيدعو
بعد فراغه من التشهد في الركعتين الأوليين بما
بدا له؟ فقال لي نعم.
قال الشارح: يريد أن ذلك جائز لا كراهة فيه ما
لم يطل، لأن تقصير الجلسة الأولى من مستحبات
الصلاة، ولا يكره الدعاء فيها إلا في ثلاثة
مواطن، وهي القيام قبل القراءة، والجلوس قبل
التشهد، والركوع، وبالله التوفيق.
مسألة
قال: وسئل عن القوم يكونون في الحرس لهم إمام
يؤمهم في الصلوات، فإذا أقيمت الصلاة تقدمهم
عليه جبة وسيف مرتدي به لا رداء عليه، فقال:
ما يعجبني ذلك، ولكن يجعل على عاتقيه عمامة.
فقيل له إنا رأينا ابن عجلان يأتي المسجد إلى
الصلاة متقلداً سيفاً مرتدياً فوق ذلك بعمامة
لم أر أحداً منهم فعله غيره، فقال عيسى: أن
يكون أفقه من غيره.
(1/418)
قال محمد بن
رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في آخر رسم
المحرم يتخذ الخرقة من سماع ابن القاسم مجردا
فأغنى ذلك عن إعادته ها هنا.
مسألة
قال: سئل عن مساجد بالاسكندرية يحرس فيها،
يصلى فيها المغرب والعشاء والصبح بالآذان
والإقامة، ولا يصلي فيها الظهر ولا العصر،
وربما شهدنا الجنازة بالنهار فصلينا فيها
الظهر والعصر فتجمع فيها الصلاة منها مرتين،
أفترى ذلك؟ قال: نعم لا بأس بذلك. وأما
الصلوات التي تجمع فيها فلا أرى بذلك فيها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة واختلاف
قول مالك فيها والتوجيه له في رسم يسلف في
حيوان مضمون من سماع ابن القاسم، فلا معنى
لإعادته، وبالله التوفيق.
مسألة
قال: وسئل عن رجل قرأ في ركعة من الصبح بأم
القرآن فقط وأسر بها، أترى عليه إعادة الصلاة؟
فقال لا أرى عليه إعادة، وأرى ذلك مجزياً عنه
ولا سجود سهو عليه. فقيل له إذا قرأ بأم
القرآن فقط سرا فيما يجهر فيه بالقراءة لم تر
عليه سجود السهو؟ قال نعم ولا إعادة عليه،
وأرى ذلك مجزئاً عنه.
قال الإمام: قوله إنه لا سجود عليه في ترك
الجهر ولا في إسقاط السورة خلاف ما في المدونة
لأن أوجب السجود فيها في كل واحد منهما. والذي
في المدونة هو المشهور. ووجه هذا أنه رأى
الجهر في الصلاة وقراءة ما عدا أم القرآن فيها
من مستحبات الصلاة لا من سننها، وقد روى أشهب
(1/419)
عن مالك أيضاً
فيمن أسر فيما يجهر فيه أنه يسجد بعد السلام.
ووجه هذا أن السجود لما ضعف عند في ذلك رأى أن
يكون بعد السلام ليلا يدخل في نفس صلاته ما
ليس منها. وكذلك يقول أشهب فيمن ترك التكبير
في الصلاة أو سمع الله لمن حمده إنه يسجد بعد
السلام، لأن السجود في ذلك غير لازم، وإن سجد
قبل السلام لم تفسد عنده صلاته، بخلاف من سجد
عنه قبل السلام لإسقاط القنوت أو التسبيح. وقد
كان يحيى بن يحيى يقول: من التزم القنوت في
صلاته سجد إذا سها عنه. وأما من جهر فيما يسر
فيه من صلاته ناسياً فلا اختلاف أحفظه في
المذهب في أنه يسجد بعد السلام. وقد يقال في
الفرق بين الموضعين إن فعل ما تركه سنة أشد من
ترك ما فعله سنة، لقول النبي صلى الله عليه
وسلم: ((إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه وإذا
أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم))، وبالله
التوفيق.
مسالة
قال: وسئل عن شهود النساء الصلوات إلى
المساجد، فقال: ذلك يختلف في المرأة المتجالة
والشابة، فالمتجالة تخرج إلى المسجد ولا تكثر
التردد، والمرأة الشابة تخرج إلى المسجد المرة
بعد المرة، وكذلك هي في الجنائز. وذلك يختلف
من العجوز والشابة، وإنما تخرج الشابة في
جنائز أهلها وقرابتها.
قال الإمام: أما النساء المتجالات فلا اختلاف
في جواز خروجهن إلى المساجد والجنائز والعيدين
والاستسقاء وشبه ذلك، وأما النساء الشواب فلا
يخرجن إلى الاستسقاء والعيدين ولا إلى المساجد
إلا في الفرط، ولا إلى الجنائز إلا في جنائز
أهلهن وقرابتهن. هذا الذي يأتي على هذه
الرواية وعلى
(1/420)
ما في المدونة،
فيجب على الإمام في مذهب مالك ـ رحمه الله ـ
أن يمنع النساء الشواب من الخروج إلى العيدين
والاستسقاء، ولا يمنعهن من الخروج إلى المساجد
لجواز خروجهن إليها في الفرط، فهذا دليل قوله
في المدونة. وفي تفسير ابن مزين أن المرأة
الشابة إذا استأذنت على زوجها في الخروج إلى
المسجد لم يقض لها عليه بالخروج، وكان له أن
يؤدبها ويمسكها، وليس ذلك بخلاف لما في
المدونة، لأن معنى ما في المدونة إنما هو في
المنع العام. وأما المرأة الشابة في خاصتها
فيكره لها الإكثار من الخروج إلى المسجد،
فتؤمر ألا تخرج إليه إلا في الفرط بإذن زوجها
إن كان لها زوج، فقد كانت عاتكة بنت زيد بن
عمر بن نفيل تستأذن عمر بن الخطاب في الخروج
إلى المسجد وهو زوجها، فيسكت فتقول والله
لأخرجن إلا أن تمنعني فلا يمنعها ولا تخرج إلا
تفلة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تمسن طيباً)).
ووجه قول مالك، رحمه الله، إن النساء الشواب
لا يمنعن من الخروج إلى المساجد عموم قول
النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنعوا إماء
الله مساجد الله)). ووجه كراهيته لهن الإكثار
من الخروج ما خشي على الرجال من الفتنة بهن،
فقد قال صلى الله عليه وسلم ((ما تركت فتنة
أضر على الرجال من النساء)). ووجه قوله إنهن
يمنعن من خروج العواتق وذوات الخدور إلى
العيدين ما أحدثنه من الخروج على غير الصفة
التي أذن لهن بالخروج عليها، وهي أن يكن تفلات
غير متطيبات ولا يبدين لشيء من
(1/421)
زينتهن. وقد
قالت عائشة، رضي الله عنها: لو أدرك رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما أحدثه النساء لمنعهن
المساجد كما منعه نساء بني إسرائيل.
وتلخيص هذا الباب على تحقيق القول فيه عندي أن
النساء أربع: عجوز قد انقطعت حاجة الرجال
منها، فهي كالرجل في ذلك؛ ومتجالة لم تنقطع
حاجة الرجال منها بالجملة فهي تخرج إلى المسجد
ولا تكثر التردد كما قال في الرواية، وشابة من
الشواب، فهذه تخرج إلى المسجد في الفرط وفي
جنائز أهلها وقرابتها؛ وشابة فاذة في الشباب
والثخانة، فهذه الاختيار لها ألا تخرج أصلاً،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن المصلي في المحمل أي يضع يديه؟ فقال
على ركبتيه أو فخذيه، فقيل له: فالمصلي على
الدابة؟ فقال مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: يريد أنه يضع يديه على
ركبتيه أو فخذيه إذا ركع أو إذا تشهد. وأما في
سار صلاته فلا حد في أن يكون يداه على ركبتيه،
يدل على ذلك قوله في المدونة: فإذا رفع رأسه
من الركوع رفع يديه عن ركبتيه، والله أعلم،
وبه التوفيق.
مسألة
قال: وسئل عن جمع المغرب والعشاء في رمضان في
الليلة الممطرة وقد ذهب المطر وبقي الطين
والظلمة، أيجمع بينهما؟ فقال نعم، فقيل له:
إنهم لا ينصرفون حتى يقنتوا، فقال: إذا كانوا
لا ينصرفون فأحب إلي أن لا يجمعوا بينهما،
فقيل له: أرأيت إن جمعوا بينهما ثم قنتوا؟
قال: هم من ذلك في سعة.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله وبقي الطين
والظلمة أن الجمع
(1/422)
لا يكون إذا لم
يكن مطر إلا باجتماع الطين والظلمة، وهو مثل
ما في المدونة خلاف ظاهر ما في رسم أخذ يشرب
خمراً من سماع ابن القاسم أنه يجمع في الطين
والوحل وإن لم يكن مطر ولا ظلمة. وقوله إنهم
لا يجمعون إذا كانوا لا ينصرفون حتى يقنتوا
صحيح، لأن الجمع إنما هو رخصة وتخفيف لمشقة
الرجوع في الظلام بعد مغيب الشفق. وقوله إنهم
إن جمعوا ثم قنتوا كانوا من ذلك في سعة يقتضي
أن لا إعادة عليهم للعشاء بعد مغيب الشفق.
وقال ابن لبابة إن هذا خلاف لقول عيس وأصبغ
والعتبي وابن مزين في الذي يخاف أن يغلب على
عقله فيجمع بين الصلاتين في أول الوقت أنه
يعيد الآخرة منهما في وقتها إن لم يغلب عليه
حتى دخل، لأن الجمع في هذه المسألة إنما رخص
لهم فيه لعلة الافتراق، وهم لم يفترقوا حتى
غاب الشفق، فكان يلزم على قول هؤلاء أن يعيدوا
العشاء الآخرة، إذ قد ارتفعت العلة التي من
أجلها أبيح لهم تعجيلها كالذي يخاف أن يغلب
على عقله فيسلم مما خاف، وليس قوله عندي
بصحيح. والفرق بين المسألتين أن الذي خشي أن
يغلب على عقله فصلى قبل دخول الوقت المستحب
يؤمر أن يعيد ليدرك ما نقصه من فضيلة الوقت
المستحب، والذين جمعوا ثم قنتوا لا يؤمرون
بالإعادة لأنهم صلوا في جماعة فمعهم فضل
الجماعة مكان فضل الوقت المستحب، وهذا مثل قول
مالك في المسافر يتم الصلاة إنه يعيد في الوقت
إن كان أتم وحده ليدرك فضيلة القصر، ولا يعيد
إن كان أتم في جماعة لأن معه فضل الجماعة مكان
ما فاته من فضل القصر. ولهذا قال مالك في
المدونة في الرجل يصلي في ببيته المغرب في
الليلة المطيرة ثم يأتي المسجد والناس يجمعون
وقد صلوا المغرب ولم يصلوا العشاء إنه لا بأس
أن يصلي معهم. وقد روي عن ابن القاسم أنه إن
صلى معهم أعاد في الوقت وغيره. فقول ابن
القاسم في هذه المسألة هو الذي يخالف قول مالك
في الرواية لا قول عيس ومن تابعه في المسألة
التي حكى ابن لبابة. ووجه قول ابن القاسم أنه
رأى فضيلة الوقت آكد من فضيلة الجماعة فأمره
بالإعادة في الوقت
(1/423)
وبعد الوقت لما
لم يعد في الوقت على أحد قوليه في أن من وجب
عليه أن يعيد في الوقت فلم يفعل أعاد بعد
الوقت، فهذا تحقيق القول في هذه المسألة .
مسألة
وسئل عن الذي يقوم من التشهد أيعتمد على يديه؟
فقال: ما أبالي أي ذلك فعل، ولقد كان الأمر
القديم أن يعتمد على اليدين للقيام في الصلاة.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في هذا
الرسم ومضى القول فيها موعبا في رسم باع غلاما
من سماع ابن القاسم.
مسألة
وسئل عن قوم صلوا خلف إمام الصبح فلم يجهر
بالقراءة ففتحوا عليه فلم يجهر حتى فرغ، فقيل
له ما قرأت فقال: بلى في نفسي، فقال مالك: ما
أراه قرأ وإنكم تفتحون عليه لا يقرأ، هذا جاهل
جداً، فأرى أن تعيدوا أنتم الصلاة، وما أراه
قرأ وإنما الذي قلت لكم تعيدوا الصلاة ما كنتم
في الوقت، فإذا ذهب الوقت فلا أرى عليكم
إعادة.
قال محمد بن رشد: وجه هذه الرواية أن مالكاً ـ
رحمه الله ـ اتهم الإمام بترك القراءة ولم
يحقق ذلك عليه لقوله بل في نفسي أي سرا، لأن
القراءة في النفس دون تحريك اللسان ليست
بقراءة. فلو حقق عليه أنه ترك القراءة جملة أو
أنه لم يحرك بها لسانه لأوجب عليه وعليهم
الإعادة في الوقت وبعده على أصل مذهبه في أن
من لم يقرأ في صلاته أعادها أبداً. ولما فتحوا
عليه فلم يقرأ حمل عليه أنه ترك الجهر جاهلاً
متعمداً فقال: هذا جاهل،
(1/424)
وأمرهم
بالإعادة في الوقت مراعاة للاختلاف، إذ قد قيل
إن صلاة القوم غير مرتبطة بصلاته، وإنها لا
تفسد عليهم بفسادها عليه، وقيل يعيد في الوقت
وبعده، ومن مذهبه مراعاة الخلاف. وفي كتاب ابن
المواز أنهم يعيدون مطلقاً، فظاهره في الوقت
وبعده، ومن مذهبه مراعاة الخلاف. ولم يتكلم
مالك على ما يجب على الإمام في خاصته لأنه صرف
الأمر فيه إليه ودينه فيه لعيد الصلاة أبداً
إن كان لم يقرأ أصلاً، وإن كان قرأ وأسر
القراءة جهلا فعلى الاختلاف الذي ذكرناه في
ذلك من أن لا إعادة عليه أو الإعادة في الوقت،
أو في الوقت وبعده، وهو موجود في المذهب، م
ذلك ما وقع في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من
هذا الكتاب، فتدبر ذلك، وبالله التوفيق.
مسألة
وسألته عمن نسي في ركعة صلاها سجدة فلم يذكرها
إلا وهو راكع في الثانية، أيخر كما هو ساجداً
للسجدة التي نسي؟ أم يرفع رأسه من الركوع
فيمضي في صلاته ويلغي الركعة التي نسي منها
السجدة؟ فقال: إن اطمأن راكعاً قبل أن يذكر
وإن لم يرفع رأسه منها فأرى أن يلغي الركعة
التي نسي منها السجدة ويتم صلاته، فيرفع رأسه
من الركعة ثم يسجد ويبني على صلاته وقد ألغى
الركعة التي نسي منها السجدة، وإن لم يكن
اطمأن راكعاً حتى ذكر أنه نسي سجدة من الركعة
التي قبل هذه فإني أرى أن يخر ساجداً كما هو
قاضياً للسجدة التي نسي من ركعته، ويعتد بها
ولا يرفع رأسه من الركعة، فإذا قضى السجدة قام
مكانه للركعة الثانية فاستأنفها من أولها
بالقراءة والركوع.
(1/425)
قال محمد بن
رشد: اختلف قول مالك في عقد الركعة التي تحول
بين المصلي وبين إصلاح الركعة التي قبلها،
فقال في هذه الرواية إن ذلك التمكن في الركوع
وإن لم يرفع رأسه منه، وقال في رواية ابن
القاسم عنه في المدونة إن ذلك لا يكون إلا في
الرفع من الركوع. وقد حكى ابن القاسم عنه فيها
القولين جميعاً أيضاً في الذي يقوم في النافلة
إلى ثالثة ساهياً فلا يذكر إلا وهو راكع، وهذا
الاختلاف مبني على الرفع من الركوع هل هو فرض
من تمام الركوع أو سنة والركوع قد تم بالتمكن
فيه؟ على ما يأتي من الاختلاف في ذلك في رسم
التفسير من سماع عيسى، ومن المسائل ما يكون
فيه التمكن في الركوع عقداً للركعة باتفاق،
وذلك مثل أن ينسى السورة التي مع أم القرآن أو
يقدمها على أم القرآن، أو يقدم القراءة على
التكبير في العيدين، أو يسلم من ركعتين
ساهياً، أو يدخل في نافلة، فلا يذكر شيئا من
ذلك إلا وهو راكع. ومن المسائل أيضاً ما لا
يكون فيه عقد الركعة إلا تمامها بسجدتيها،
وذلك مثل أن يذكر صلاة وهو في صلاة، أو تقام
عليه الصلاة وهو في صلاة، على مذهب من يفرق في
ذلك بين أن يكون قد ركع أو لم يركع، ومثل أن
ينسى القراءة جملة في الركعة الأولى على مذهب
من لا يقول بالالغاء، فإنه إن ذكر قبل أن يتم
ركعة بسجدتيها قطع، وإن ذكر بعد أن كمل ركعة
بسجدتها أضاف إليها ثانية وخرج عن نافلة، وأتم
أربعاً وسجد قبل السلام وأعاد. واختلف إن ترك
القراءة في الركعة الثالثة، فقيل إنه يرجع إلى
الجلوس ويسلم من ركعتين ما لم يركع، وقيل ما
لم يرفع رأسه من الركوع، وقيل ما لم يتم
الثالثة بسجدتيها. فإن ركع على القول الواحد
أو رفع على القول الثاني أو أتم الركعة
بسجدتيها على القول الثالث تمادى إلى رابعة
وسجد قبل السلام وأعاد الصلاة، ومثل أن يرعف
على مذهبه في المدونة فإنه يلغي تلك الركعة ما
لم تتم بسجدتيها، وبالله التوفيق.
(1/426)
مسألة
قيل له: أرأيت الذي يصلي العشاء ثم يصلي بعدها
ركعات ثم يجلس ثم يبدو له بعد ذلك أن يوتر،
أيوتر بواحدة، أم يصلي اثنتين قبلها؟ فقال
أرجو أن يكون له سعة في أن يوتر بواحدة ولا
يصلي قبلها إذا كان قد ركع بعد العشاء. قيل له
وإنما الوتر واحدة يفصل بينها وبين الاثنين
بسلام؟ فقال نعم، وأنا كذلك أفعل.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يوتر بواحدة وإن
طال ما بين الركعتين والواحدة إذا كان ذلك في
الليل قبل الفجر صحيح على مذهبه أن السنة عنده
أن يفصل بين الوتر وما قبله من الشفع بسلام،
وهو خلاف ما في آخر رسم لم يدرك من سماع عيس،
وخلاف ما في المدونة من أنه يركع ركعتين قبل
أن يوتر إذا كان الأمر قد طال. ووجه هذا القول
مراعاة قول من يرى الوتر ثلاثاً تباعاً بغير
سلام. وأما لو كان ذلك بعد الفجر وقد ركع بعد
العشاء لأوتر بركعة واحدة على ما في أول رسم
أسلم من سماع عيسى قولاً واحداً، لما جاء من
أنه لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتا الفجر،
وبالله التوفيق.
مسألة
قال: وسئل فقيل له إنا نسافر بمصر وهي أرض طين
فربما غشينا المطر في السفر فتصير الأرض طينا
فتحضر الصلاة على ذلك، أفترى أن يصلي أحدنا
قائماً إيماء برأسه فإنه إن جلس في الطين فملأ
ثيابه، فقال لا، لا يصلي قائما، ولكن يجلس
فيصلي جالساً، ويسجد على الطين على قدر طاقته.
فقلت له: على قدر طاقته، فقال لي نعم على قدر
طاقته.
قال محمد بن رشد: هذا قول ابن عبد الحكم من
أصحاب مالك إنه
(1/427)
يسجد ويجلس على
الطين والخضخاص من الماء الذي لا يغمره ويمنعه
من السجود فيه والجلوس إلا إحراز ثيابه، فإن
صلى إيماء على مذهبهما أعاد في الوقت وبعده.
وحكى ابن حبيب عن مالك ومن لقي من أصحابه أنه
يصلي إيماء كالمريض الذي لا يقدر على السجود
ولا على الجلوس، إلا أنه استحب أن يؤخر إلى
آخر الوقت المستحب، ثم إن تخلص إلى موضع يمكنه
فيه الصلاة، في بقية الوقت أعاد، وهذا على
مذهبه في التيمم. والذي أقول به في هذه
المسألة على ما في المدونة في الذي لا يجد
الماء لوضوئه إلا بثمن أنه إن كان الرجل واسع
المال والثياب التي عليه ليست لها تلك القيمة
أو لا يفسدها الطين ولا ضرر عليه في جسمه في
الصلاة فيه لم يجز له أن يصلي إيماء، وإن كان
بخلاف ذلك جاز له الإيماء، لأنه في الموضعين
جميعاً انتقال عن فرض وجب عليه لحياطة ماله.
ولا اختلاف أحفظه في الراعف يتمادى به الرعاف
ويخشى إن ركع أو سجد أن تتلطخ ثيابه بالدم أنه
يصلي إيماء. ولا يبعد دخول الاختلاف في ذلك
على القول بأن رفع النجاسة من الثياب والأبدان
ليست بفريضة، لأن الركوع والسجود فرض، فلا
يترك فرض لما ليس بفرض. وقد روى زياد عن مالك
مثل ما حكى عنه ابن حبيب، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن غسل العيدين أقبل الفجر أم بعده؟ فقال
ذلك واسع، من الناس من يغدو قبل الفجر.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في هذا
الرسم، وقد مضى القول في توجيهها فلا وجه
لإعادته.
(1/428)
مسألة
قيل له: أرأيت الذي يغتسل للعيدين وينوي بذلك
الجمعة، أيجزئه؟ قال لا.
قال محمد بن رشد: قد روى أبو قرة عن مالك أنه
يجزئه، قاله ابن وهب في سماع زونان من هذا
الكتاب، والأول هو الصحيح، لأنه هو الذي يوجبه
ظاهر الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ((إذا
جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)) ولأن الغسل إنما
شرع في الجمعة للتنظف من التفل ورائحة العرق،
فإذا بعد الغسل ذهب معناه الذي شرع من أجله،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الرجل يخرج إلى ضيعة له منه على
ليلتين، أيقصر الصلاة؟ قال: نعم يقصر الصلاة،
وأبين ذلك البرد والأميال والفراسخ على كم
ضيعته منه من ميل أو فرسخ، فقيل على خمسة عشر
فرسخاً وذلك خمسة وأربعون ميلا، فقال نعم أرى
أن يقصر الصلاة إلى مسيرة ذلك، الصلاة تقصر في
مسيرة أربعة برد، وذلك ثمانية وأربعون ميلاً،
وهذا منه قريب، فأرى أن يقصر الصلاة إلى مسيرة
ذلك.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب مكان على
ليلتين على ثلاثين، وهو خطأ بما دل عليه
الكلام. والأصل عند مالك في أن الصلاة تقصر في
ثمانية وأربعين ميلا قول النبي صلى الله عليه
وسلم ((لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة
(1/429)
إلا مع ذي محرم
منها))، لأنه قصد صلى الله عليه وسلم إلى ذكر
أقل ما يكون سفراً، وكانت الثمانية والأربعون
ميلاً هو المقدار الذي يسار في اليوم والليلة
على السير المعتاد. ولما كان هذا المقدار
مأخوذاً بالاجتهاد دون توقيت حكم لما قرب منه
بحكمه. فإن قصر في أقل من خمسة وأربعين ميلاً
إلى ستة وثلاثين أعاد في الوقت، وإن قصر فيما
دون ستة وثلاثين ميلاً أعاد في الوقت وبعده.
والميل ألفا ذراع، وهي ألف باع، قيل بباع
الفرس، وقيل بباع الجمل. والثمانية والأربعون
ميلا هي أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً، لأن
البريد ثلاثة فراسخ، وهي اثنا عشر ميلا،
والفرسخ ثلاثة أميال، والميل عشر غلاء والغلوة
مائتا ذراع، وهي مائة باع. وقد قيل إن الميل
ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل عمن أم قوماً في العصر فقام من الركعتين
فاعتدل قائماً فأخذوا بثوبه من ورائه يجلسونه
فأبى أن يجلس لأنه اعتدل قائماً فأشار إليهم
أن قوموا فلم يزالوا يجبرونه من ورائه حتى
جلس، متى يسجد سجدتي السهو؟ فقال أرى أن
يسجدهما قبل السلام، فقيل له أرأيت إن كان
سجدهما قبل السلام فقال لا أرى عليه شيئا قد
سجدهما.
(1/430)
قال محمد بن
رشد: ظاهر هذه الرواية أنه يجب عليه أن يرجع
إلى الجلوس ما لم يعتدل، وقد مضى التكلم على
هذا في هذا الرسم وفيما يجب عليه إن رجع
جاهلاً أو متعمداً، وسيأتي القول في رسم العتق
من سماع عيسى فيمن وجب عليه سجود السهو بعد
السلام فسجد قبله، أو قبله فسجد بعده ناسياً
أو متعمداً إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.
تم كتاب الصلاة الثاني
* * * * * *
(1/431)
|