البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة بسم الله
الرحمن الرحيم،
وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وسلم تسليما
كتاب الصلاة
الثالث
صلاة الاستسقاء من سماع أشهب
مسألة
وسئل عن أهل برقة فقيل له إن أهلها يشربون من
ماء الأمطار، إذا كانت سال لهم واد يشربون
منه، وكانت أمطارنا تكثر فيزرع عليها فيسيل
بها وادينا فنشرب منه حتى كان عندك حديثاً قل
علينا المطر فنمطر ما يزرع عليه الزرع الكثير
ولا يسيل وادينا، أفترى أن نستسقي؟ فقال نعم
استسقوا ما بأس بذلك لا بأس به، فقيل له: إنه
قيل إنما الاستسقاء إذا لم يكن مطر وأنتم قد
سقيتم وزرعتم عليه زرعاً كثيراً؟ فقال ما
قالوا شيئاً ولا بأس بذلك.
قال: وسئل أنستسقي في العام المرتين والثلاث؟
فقال: ما في هذا حد ينتهى إليه وما بذلك بأس،
فاستسقوا ما بدا لكم. قيل له: أيحول الناس
أرديتهم في الاستسقاء إذا حول الإمام رداءه؟
قال: نعم إن ذلك لحسن.
قال: وسئل عن الاستسقاء بعد المغرب والصبح،
فقال: لا بأس به، وقد كان يفعل ها هنا وما هو
من الأمر القديم.
(1/433)
قال محمد بن
رشد: قوله في أهل برقة يستسقون إذا لم يسل
واديهم الذي يشربون منه وإن كانوا قد مطروا ما
زرعوا عليه الزرع الكثير، إنما يريد بذلك
الدعاء لا البروز إلى المصلى على سنة
الاستسقاء، لأن ذلك إنما يكون عند الحاجة
الشديدة إلى الغيث حيث فعله رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وقد روى أبو المصعب عن مالك
أن البروز إلى الاستسقاء لا يكون إلا عند
الحطمة الشديدة، فإذا كان ذلك وبرز الناس إلى
الاستسقاء فتأخر السقيا والوه كما قال مالك،
ولا حد في ذلك، لأن الدعاء عبادة. والله يحب
من عباده أن يتضرعوا إليه عندما ينزل بهم كما
أمرهم حيث يقول: ((ادعوني أستجب لكم)). وقد
أثنى الله عز وجل على الداعين إليه فقال:
((إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا
رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين))، وذم من قصر
في ذلك فقال: ((ولقد أخذناهم بالعذاب فما
استكانوا لربهم وما يتضرعون)). وكذلك قوله
أيضاً في الاستسقاء بعد المغرب والصبح إنما
يريد به الدعاء لا البروز إلى المصلى، لأن
السنة في ذلك لا تكون إلا في الضحى.
مسألة
قال: وسأله ابن كنانة عن التكبير في الأذان
أهو مثل الإقامة الله أكبر الله أكبر مرتين؟
أم الله أكبر الله أكبر أربع مرات؟ فقال: لا
هو مثله في الإقامة اكتب إليه هو مثل ما يؤذن
الناس عندنا اليوم.
قال المؤلف: اختلف أهل العلم من الأذان في
موضعين: أحدهما التكبير في أوله هل مثنى أو
مربع، والثاني الترجيع في الشهادة، فذهب أهل
العراق إلى أن التكبير في أول الأذان مربع على
ما روي عن أبي محذورة
(1/434)
((أن النبي صلى
الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة
الله أكبر الله أكبر الله أكبر)) الحديث إلى
تمام الأذان، وإلى أنه لا ترجيع في الشهادة إذ
لم يذكره في حديث عبد الله بن زيد في الأذان.
قالوا فلما لم يذكره فيه احتمل عندنا أن يكون
النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر به أبا
محذورة لأن لم يمد به صوته أولاً على ما أراد،
وذهب مالك رحمه الله إلى أن التكبير في الأذان
مثنى وإلى الترجيع في الشهادة، والحجة له مع
أن ذلك قد روي عن أبي محذورة، فكان ما فيه من
الترجيع زيادة على غيره من الأحاديث اتصال
العمل به بالمدينة منذ وفاة النبي صلى الله
عليه وسلم، وما اتصل به العمل من الأخبار فهو
أولى مما لم يتصل به عمل منها، لأن ذلك يقتضي
أنه هو الناسخ لها، والله أعلم.
مسألة
قال: وسئل عن التثويب في رمضان وغيره، فقال:
ليس ذلك بصواب، وقد كان بعض أمراء المدينة
أراد أن يصنع ذلك حتى نهي عنه فتركه.
قال محمد بن رشد: التثويب الذي أنكره مالك
وقال إنه ليس بصواب وحكى ابن حبيب وغيره عنه
أنه قال فيه إنه ضلال هو ما أحدثه الناس بعد
النبي صلى الله عليه وسلم من أن المؤذن كان
إذا أذن فأبطأ الناس قال: بين الآذان والإقامة
قد قامت الصلاة، حي على الصلاة، حي على
الفلاح. روي عن مجاهد أنه قال: دخلت مع عبد
الله بن عمر من المسجد وقال: اخرج بنا من عند
هذا المبتدع ولم يصل فيه، وذلك بين من قوله في
رواية ابن وهب عنه في المجموعة، وهو نحو مما
كان يفعل عندنا بجامع قرطبة من أن يعود المؤذن
بعد أذانه قبل الفجر النداء عن الفجر بقوله
حتى على الصلاة حي
(1/435)
على الفلاح ثم
ترك. وقيل إنه إنما عنى بذلك قول المؤذن في
أذانه حي على خير العمل، لأنها كلمة زادها في
الأذان من خالف السنة من الشيعة. وروي أن علي
بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ كان يقول ذلك في
أذانه بعد حي على الفلاح. قال ابن حبيب: وهو
خاص، ومن أ؛ب أن يقوله فلا حرج، ولا يحمل عليه
العامة. والأول هو التأويل الصحيح، يشهد له ما
وقع في المجموعة وأن التثويب في اللغة هو
الرجوع إلى الشيء، يقال ثاب إلي عقلي أي رجع،
وثوب الداعي إذا كرر النداء. ومنه قيل للإقامة
تثويب لأنها بعد الأذان. قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ((إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها
وأنتم تسعون)). وقد يقع التثويب على قول
المؤذن في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم.
روي عن بلال أنه قال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((لا تثويب في شيء من الصلوات إلا
في صلاة الفجر)). وليس هذا التثويب الذي كرهه
أهل العلم لأنه من السنة في الأذان، وبالله
التوفيق.
ومن كتاب الصلاة الأول
مسألة
قال أشهب: قيل لمالك كم الوقت الذي يجب فيه
النزول إلى الجمعة والعيدين؟ فقال أرى أن الذي
يجب فيه النزول إلى الجمعة فرسخ، وهو ثلاثة
أميال فما دونها. وإنما أخذنا ذلك من قبل أن
أهل العالية كانوا ينزلون يوم الجمعة إلى
الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
من العالية، وأقصى العالية على ثلاثة أميال،
(1/436)
ولم يعلم أن من
وراءهم نزلوا ولا لزمهم ذلك. قيل له: وكذلك
النزول إلى العيدين؟ قال: نعم وأرى الذي يجب
في النزول إلى العيدين ثلاثة أميال فدون ذلك،
ولقد رأيت ناساً من ولد عمر بن الخطاب ينزلون
للعيدين من ذي الحليفة، وما ذلك على الناس،
وليس العيدان كالجمعة، لأن العيدين إنما
يكونان في الزمان والجمعة تكون في كل سبعة
أيام.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية إن
النزول يجب إلى الجمعة وإلى العيدين من ثلاثة
أميال فدون خلاف قوله في المدونة إنها إن كانت
زيادة يسيرة فأرى ذلك عليه. والذي في المدونة
أولى، إذ ليس الحد في ذلك بنص وإنما أخذ
بالاجتهاد والتأويل من فعل أهل العالية. وقد
روي علي بن زياد عن مالك أنه إنما ينزل إليها
من ثلاثة أميال لأنه منتهى صوت المؤذن، وهذا
لمن كان خارج المصر، لقوله عز وجل: ((إذا نودي
للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله)).
وأما من كان في المصر الكبير فتجب عليه الجمعة
وإن كان بين منزله والجامع ستة أميال، وكذلك
روي ابن أبي أويس وابن وهب عن مالك. والثلاثة
الأميال تعتبر على ظاهر رواية علي بن زياد عن
مالك من موضع المؤذن، وقيل إنها تعتبر من طرف
المدينة حيث يقصر الخارج ويتم الداخل، وهو قول
محمد بن عبد الحكم. وقد روي عن رجل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل قباء أنه
قال: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
نشهد الجمعة من قباء)). وروي عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الجمعة على
من آواه الليل إلى أهله)) إلا أنه حديث لا
يصح، قد
(1/437)
ذكره أحمد بن
الحسن لأحمد بن حنبل فقال له: استغفر ربك
استغفر ربك. والخليقة بالقاف وهي خليقتان:
خليقة آل عمر، وخليقة آل المنكدر، وبالله
التوفيق.
مسألة
قال: وسئل عما يعلق في أعناق النساء من القرآن
وهن حيض، فقال: ليس بذلك بأس إذا جعل في كن في
قصبة حديد أو جلد يخرز عليه، وكذلك الصبيان
فلا أرى بذلك بأساً. قلت أرأيت إن علق عليها
هكذا ليس عليه شيء يكنه، فقال: ما رأيت من
يفعل ذلك، وليس يفعل هذا. قيل له أفرأيت
الحبلى يكتب لها الكتاب تعلقه؟ قال: أرجو أن
لا يكون بذلك بأس إذا كان ذلك من القرآن وذكر
الله شيئاًَ معروفاً، وأما ما ما لا يدرى ما
هو والكتاب العبراني وما لا يعرف فإني أكرهه.
قيل له: أفترى أن يعقد في الخيط سبع عقد؟
فكرهه.
قال الإمام: إنما استخف ما يعلق فيه أعناق
الصبيان والحيض من النساء من القرآن مع أن
السنة قد أحكمت أن لا يمس القرآن إلا طاهر
إكراماً له من أجل أن ذلك شيء يسير منه. وقد
مضى وجه الفرق بين جملته وبعضه في رسم شك في
طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء، فمن
أحب الوقوف عليه تأمله هناك. وإنما شرط في
إجازة ذلك أن يكون في كن من قصبة حديد وشبه
ذلك صيانة له أن تصيبه نجاسة أو أذى، لأن لذلك
عنده تأثيراً في جواز مسه على غير طهارة، لأنه
لا يجوز لغير الطاهر حمل المصحف بعلاقته ولا
على وسادة. وكره أن يعلق على الحبلى الكتاب
بما لا يدرى وبالعبراني الذي لا يعرف ما هو،
لأن الاستشفاء إنما يكون بكلام
(1/438)
الله تعالى
وبأسمائه الحسنى وبما يعرف من ذكره جل جلاله
وتقدست أسماؤه. وأما العقد في الخيط فكرهه لأن
الرقى إنما يكون بذكر الله لا بما أمر تعالى:
((ومن شر النفاثات في العقد)). وفي جواز تعليق
هذه الأحراز والتمائم على أعناق الصبيان
والمرضى والحبالى والخيل والبهائم إذا كانت
بكتاب الله تعالى وما هو معروف من ذكره
وأسمائه للاستشفاء بها من المرض أو في حال
الصحة لدفع ما يتوقع من العين والمرض بين أهل
العلم اختلاف، فظاهر قول مالك في هذه الرواية
إجازة ذلك، وروي عنه أنه قال: لا بأس بذلك
للمرضى، وكرهه مخافة العين وما يتقى من المرض
للأصحاء.
وأما التمائم بغير ذكر الله تعالى وبالكتاب
العبراني وما لا يعرف ما هو فلا يجزه بحال لا
لمريض ولا صحيح، لما جاء في الحديث من أن من
((تعلق شيئاً وكل إليه ومن علق تميمة فلا أتم
الله له ومن علق ودعة فلا ودع الله له))، ولما
رواه في موطأه من ((أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعث في بعض أسفاره رسولاً والناس في
مقيلهم: لا تبقين في رقة بعير قلادة من وبر أو
قلادة إلا قطعت)). ومن أهل العلم من كره
التمائم ولم يجز شيئاً منها بحال ولا على حال
لما جاء من هذه الآثار، ومنهم من أجازها في
المرض ومنعها في حال الصحة لما يتقى منه أو من
العين على روي عن عائشة، رضي الله عنها، أنها
قالت: ((ما علق بعد نزول البلاء فليس
بتميمة)).
(1/439)
وقول مالك في
هذه الرواية أولى الأقوال بالصواب من جهة
النظر، إذ يبعد إجازة تعليق تميمة لا ذكر الله
فيها في حال من الأحوال. ولا وجه من طريق
النظر للتفرقة فيما كان منها بذكر الله بين
الصحة والمرض إلا اتباع قول عائشة في ذلك إذ
لا تقوله رأيا والله أعلم . وقوله الثاني أتبع
للأثر لاستعمال الآثار كلها بحمل النهي على ما
ليس فيه ذكر الله تعالى، وقول عائشة على ما
كان منها بذكر الله، وبالله تعالى التوفيق.
مسألة
وسئل عمن صلى خلف رجل فلما قضى صلاته وجد منه
ريح نبيذ، فقال: إن كان لم يستنكر شيئاً من
عقله ولا صلاته فلا أرى أن يعيد، لعله نبيذ لا
بأس به.
قال محمد بن رشد: قوله إن كان لم يستنكر شيئاً
من عقله ولا صلاته فلا أرى أن يعيد، يدل على
أنه لو استنكر شيئاً من ذلك لوجبت عليه إعادة
الصلاة, وذلك صحيح، لأن السكران لا تجوز صلاته
لنفسه، إذ لا تصح منه نية لذهاب عقله، فلا
تجوز صلاته لغيره، فمن صلى خلفه أعاد، قاله
مالك في المدونة. وفي هذا الرسم متصلاً بهذه
المسألة في بعض الروايات يعيد في الوقت وبعده،
قاله سحنون وأصبغ. وفي قوله لعله نبيذ لا بأس
به دليل على أنه لو تيقن أنه نبيذ مسكر لوجبت
عليه الإعادة وإن لم يكن سكر منه، وهذا صحيح
على أصل مذهبه في أن ما أسكر كثيره من الأشربة
فقليله حرام كالخمر، يجب فيه الحد وإن لم يبلغ
به حد السكر، وتسقط به شهادته، ويجب على من
ائتم به إعادة صلاته كمن ائتم بشارب الخمر على
ما قال ابن وهب في سماع عبد الملك أو بفاسق
معلن بالفسق من أجل أنه لا يؤتمن على ما لا
تصح الصلاة إلا به من الوضوء والنية وشبه ذلك.
ولا يراعى في ذلك مذهب أهل العراق فيعذر أحد
به لبعده عن الصواب ومخالفته لما صح وثبت من
الآثار، وبعده في النظر والاعتبار.
(1/440)
مسألة
وسئل أحب إليك أن تصلي بعد المغرب في الليلة
المطيرة التي يجمع فيها بين الصلاتين بعد
المغرب نافلة؟ أم تثبت كما أنت حتى تصلي
العشاء؟ قال: بل أثبت كما أنا ولا أتنفل حتى
أصلي العشاء. وإنما جمع بين المغرب والعشاء
للرفق بالناس وليلاً ينقلبون ثم يرجعون إلى
العشاء.
قال محمد بن رشد: الوجه فيما اختاره مالك من
ترك التنفل بعد المغرب إذا جمع بين الصلاتين
هو أنه لو أبيح ذلك للناس لكثر ذلك من فعلهم،
فكان سبباً لتأخير صلاة العشاء ذريعة إلى ألا
ينصرفوا إلا بعد الظلام، وإنما أريد بالجمع
الرفق بالناس لينصرفوا وعليهم إسفار. وهذا من
نحو المنع من التنفل في المسجد بعد غروب الشمس
قبل صلاة المغرب، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الرجل يقرأ القرآن في اللوح وهو غير
متوضئ، فقال: لا أرى أن يمسه.
قال محمد بن رشد: معناه إذا كان يقرأ فيه على
غير وجه التعليم، لأن قد خففه في رسم شك في
طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء إذا
كان على وجه التعليم، ومضى هناك القول على وجه
تخفيفه، وحمل كلامه على أن بعضه مفسر لبعض
أولى من حمله على الخلاف ما أمكن ذلك، وبالله
التوفيق.
(1/441)
ومن كتاب
الأقضية الثالث
مسألة
قال: وسئل مالك عن الرجل تفوته ركعة من صلاة
الظهر مع الإمام فيصلي معه ثلاث ركعات، فإذا
جلس الإمام في الرابعة قام فقضى تلك الركعة
قبل أن يسلم جهل ذلك، قال مالك: أرى أن لا
يعتد بتلك الركعة ثم ليجلس مع الإمام حتى
يسلم، فإذا سلم قام فقضى تلك الركعة وسجد
سجدتين بعد السلام.
قال محمد بن رشد: قوله جهل ذلك، يريد أنه جهل
أن الإمام لم يسلم وظن أنه قد سلم، لأنه جهل
أن القضاء لا يكون إلا بعد سلام الإمام. ولو
جهل ذلك فصلى الركعة قبل سلام الإمام جهلاً
لأفسد صلاته. وفي المبسوطة لابن نافع أنه يعتد
بها ويجزيه، وهو نحو ما لابن القاسم في رسم
باع شاة من سماع عيسى، وذلك شذوذ. وإنما
الاختلاف المشهور فيمن صلى في حكم الإمام إذا
لم يدرك في صلاته شيئاً، ذكر ذلك ابن المواز
في كتابه، فتدبر ذلك. وقوله سجد سجدتين بعد
السلام خلاف ما في المدونة، وخلاف المشهور في
المذهب من أن كل سهو يكون من المأموم في حكم
صلاة الإمام يحمله عنه الإمام، وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل عن الرجل يدخل المسجد فيجد الإمام في
الركعة وهو منه على مثل ما يجوز للرجل أن يركع
فيه مع الإمام من البعد، فيركع مع الإمام
ويريد أن يمشي إلى أن يصل إلى الصفوف، قال: لا
يمشي حتى يفرغ من سجود تلك الركعة، ولا يمشي
فيما بين الركوع والسجود، ولا يجعل بينه عمل.
(1/442)
قال الإمام:
قوله وهو منه على مثل ما يجوز للرجل أن يركع
فيه مع الإمام من البعد، أي وهو منه على مثل
ما يجوز للرجل أن يركع فيه معه من البعد فيدب
راكعاً إلى الصف. فمعنى المسألة أنه إذا كان
على هذا الحد من البعد فركع دون الصف وعجل
الإمام بالرفع قبل أن يصل إلى الصف أنه لا
يمشي حتى يفرغ من سجود تلك الركعة. وقد مضى
القول في هذه المسألة مستوفى في أول رسم اغتسل
من سماع ابن القاسم، فقف على ذلك وتدبره،
وبالله التوفيق.
ومن كتاب الصلاة الثاني
مسألة
قال: وسئل عن الصلاة خلف الإباضية والواصلية،
فقال ما أحبه، فقيل له: فالسكنى معهم في
بلادهم؟ فقال: ترك ذلك أحب إلي.
قال محمد بن رشد: الإباضية والواصلية فرقتان
من فرق الخوارج الذين أعلم النبي صلى الله
عليه وسلم بخروجهم على المسلمين ومروقهم من
الدين. وقوله في الصلاة خلفهم، وهو قول سحنون
وكبار أصحاب مالك، وقيل إنه يعيد في الوقت،
وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقيل إنه يعيد
في الوقت وبعده، وهو قول محمد بن عبد الحكم،
وقاله ابن حبيب إلا في الوالي أو خليفته على
الصلاة لما في ترك الصلاة خلفهم من الخروج
عليهم وما يخشى في ذلك من سفك الدماء. وقد
تأول بعض الشيوخ ما في المدونة لمالك على عكس
تفرقة ابن حبيب لقوله وأرى إن كنت تتقيه
وتخافه على نفسك أن تصلي معه وتعيد ظهراً
أربعاً، والتفرقة بين ذلك استحسان، وكذلك
الإعادة في الوقت فالخلاف في
(1/443)
ذلك على وجه
القياس راجع إلى قولين: إيجاب الإعادة أبداً
على القول بأنهم يكفرون بمآل قولهم، وإسقاط
الإعادة جملة على القول بأنهم لا يكفرون بمآل
قولهم. وهذا فيما كان من الأهواء والبدع
محتملاً للوجهين، إذ منها ما هو كفر صريح فلا
يصح أن يختلف في أن الإعادة على من صلى خلفهم،
ومنها ما هو هوى خفيف لا يؤول بمعتقده إلى
الكفر، فلا يصح أن يختلف في أن الإعادة غير
واجبة على من صلى خلفهم. هذا وجه القول في هذه
المسألة، وإن كانت الروايات إنما جاءت في ذلك
مجملة. وكره السكنى معهم في بلادهم لوجوه
ثلاثة: أحدها مخافة أن ينزل عليهم من الله سخط
فيصيبه معهم، والثاني مخافة أن يظن أنه معهم
فيعرض نفسه لسوء الظن به، والثالث مخافة أن
يسمع كلامهم فيدخل عليه شك في اعتقاده لشبههم.
مسألة
وسئل عن الطويل الشعر يعتم على شعره بعمامة ثم
يصلي بها، فقال أما أن يكتفه فإنه يكره، وأما
أن يستدفئ فلا بأس به.
قال المؤلف: إنما كره أن يكتف شعره في الصلاة
لما روي ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى أن يصلي الرجل وشعره معقوص))، ولقول ابن
مسعود إن الشعر يسجد معه وله بكل شعرة أجر،
وذلك لا يكون رأياً، وهو مثل ما في المدونة،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الركاب في السفينة لا يقدرون على
الركوع والسجود إلا أن يركع أحدهم على ظهر
صاحبه ويسجد، فقال
(1/444)
لم يركبونها؟
فقيل إلى الحج والعمرة، فقال ما أرى أن
يركبوها لحج أو عمرة أيركب حيث لا يصلي، ويل
لمن ترك الصلاة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن السجود
إلا على ظهر صاحبه فلا ينبغي له ركوبها في حج
ولا عمرة، لأن لا يدخل على نافلة من الخير
لمعصية. فإن فعل وصلى فيها وسجد على ظهر أخيه
أعاد أبداً على قوله، لأنه قد جعل ذلك كتركه
للصلاة، وهو يأتي على مذهب ابن القاسم في
المدونة في الذي يقدح الماء من عينيه فيصلي
إيماء أنه يعيد أبداً. وقال أشهب لا إعادة
عليه، وكذلك يقول في الذي لا يقدر في الزحام
على سجود إلا على ظهر أخيه إنه لا يعيد إلا في
الوقت. ووجه ذلك أن الفرض عنده قد انتقل إلى
الإيماء من أجل الزحام، فكان كالمريض الذي لا
يستطيع السجود فرفع إلى جبهته شيئاً أومأ إليه
فسجد عليه أن ذلك يجزيه، وهو عند مالك بخلاف
المريض يعيد أبداً إن لم يسجد إلا إيماءً أو
على ظهر أخيه حتى قام الإمام سجد ما لم يعقد
الإمام عليه الركعة التي تليها، وإن كان ذلك
في الركعة الأخيرة سجد ما لم يسلم أو ما لم
يطل الأمر بعد سلامه على الاختلاف في سلام
الإمام هل هو كعقد ركعة أم لا.
مسألة
وسئل عن القوم يكونون في السفينة فينزل بعضهم
ويبقى بعضهم فيقيم الذين بقوا في السفينة
الصلاة ثم يجيء الذين كانوا نزلوا، أيجمعون
تلك الصلاة في السفينة؟ فقال برأسه: لا، فروجع
فيها فقال: إنما سأل الجمع مرتين فيها، ثم قال
برأسه لا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين، لأن الجماعة إذا
كانت بموضع
(1/445)
فلا يجوز لها
أن تفترق طائفتين، فتصلي كل طائفة منها بإمام
على حدة، لقول الله عز وجل: ((الذين اتخذوا
مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين
المؤمنين)). ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم
يبح ذلك للغزاة مع شدة الخوف وشرع لهم أن
يجتمعوا على إمام واحد، وكذلك أهل السفينة لا
يجوز لهم أن يفترقوا على طائفتين في الصلاة.
فلما كان ذلك لا يجوز لهم كره للذين نزلوا إذا
جاؤوا أن يجمعوا الصلاة لأنفسهم إذا كان الذين
بقوا قد جمعوا تلك الصلاة، ليلاً يكون ذلك
ذريعة إلى ما لا يجوز من تفرقة الجماعة، لا
سيما إن كان الذين بقوا إنما جمع بهم إمام
راتب لهم. وأجاز في المدونة أن يصلي الذين فرق
سقف السفينة بإمام والذين تحته بإمام آخر،
لأنهما موضعان، فليس ذلك بخلاف لهذه الرواية،
والله أعلم.
مسألة
وسئل عمن تبسم في الصلاة، فقال يسجد سجدتي
السهو، فقلت له: أقبل السلام أم بعده؟ فقال لي
قبل السلام.
قال محمد بن رشد: أوجب في هذه الرواية سجود
السهو قبل السلام في التبسم، ولم يفرق بين أن
يكون متعمداً أو جاهلاً أو مغلوباً أو ناسياً
يرى أنه في غير صلاة. ووجه ذلك أنه أسقط
الخشوع فهو في النسيان أظهر فيما عداه، فيحتمل
أن يكون ذلك وجه ما أراد على ما في المدونة،
وفي رسم البراءة من سماع عيسى لا سجود عليه
ناسياً كان أو متعمداً. وقد نص على ذلك في
سماع عيسى فقال: لو كان عليه سجود السهو إذا
نسي لكان عليه إعادة الصلاة إذا تعمد، وهو
الصواب، إذ لا سجود على من التفت في صلاته أو
عبث فيها بيده أو سوى الحصباء بنعله أو فعل ما
أشبه ذلك مما يفعله في الصلاة ترك الخشوع فيها
ناسياً كان أو متعمداً باتفاق. وسيأتي التكلم
(1/446)
على حكم
القهقهة في الصلاة في رسم استأذن ورسم البراءة
من سماع عيسى إن شاء الله، وبه التوفيق.
مسألة
وسئل عمن دخل مع الإمام في صلاته فسها لكثرة
الناس عن الركوع مع الإمام، وربما كان ذلك يوم
الجمعة فسها عن الركوع حتى رفع الإمام رأسه من
الركعة، فيعلم بذلك بعد أن يرفع الناس رؤوسهم،
أيعتد بها؟ فقال: إن أدركه وهو ساجد فليعتد
بها، وإن لم يدركه حتى رفع رأسه من السجود
فأحب إلي أن يقضي الركعة.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة
مستوفى في رسم كتب عليه حق من سماع ابن القاسم
فلا وجه لإعادته ها هنا، وتأتي متكررة في رسم
نقدها ورسم لم يدرك من سماع عيسى، وبالله
التوفيق.
مسألة
قال: وسئل عن الصلاة في المسجد الجامع في
الرداء والسراويل، فقال: لا والله إن الصلاة
في السراويل لقبيحة، فقيل له: أرأيت لو توشح
الرداء فصلى فيه؟ فقال: ما السراويل من لباس
الناس وكره ذلك، قال: وإنما يصنع ذلك ضعفة
الناس، وليست السراويلات من ثياب الناس التي
يظهرون إلا أن تكون تحت القميص. قال ولقد كنت
ألبسه فما كنت ألبسه إلا بعد القميص، إن
الحياء من الإيمان.
قال القاضي: هذا كما قال، إن تردي الرداء
وتوشحه على السراويل دون قميص مما يستقبح من
الهيئة في اللباس، ولا يفعله إلا ضعفة الناس،
لأن السراويل تصف ولا تستر كما يستر الإزار
الذي يعطف بعضه على بعض،
(1/447)
فلا ينبغي لأحد
أن يصلي في المسجد الجامع في الرداء والسراويل
دون قميص تردى الرداء أو توشحه، وإن كان توشحه
أخف لكونه أستر، لأن التجمل في الصلاة بحسن
هيئة اللباس مشروع، قال الله عز وجل: ((خذوا
زينتكم عند كل مسجد)). وروي عن مالك أنه قال
في تفسير ذلك: معناه لتأخذوا لباسكم عند كل
صلاة. قيل له: أفمن ذلك مساجد البيوت؟ قال:
نعم. وقد سئل عمر بن الخطاب عن الصلاة في ثوب
واحد، فقال: ((إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا
على أنفسكم جمع رجل عليه ثيابه))، الحديث .
وقال عبد الله بن عمر لنافع مولاه، وقد رآه
يصلي في ثوب واحد، إذا صليت فخذ عليك ثوباً
آخر، فإن الله أحق من تجملت له. هذا هو
المختار المستحب عند أهل العلم كلهم. ولو صلى
في ثوب واحد إزاراً كان أو قميصاً أو سراويل
لأجزأته صلاته. وروي عن أشهب أن من صلى في
السراويل وحدها وهو يجد الثياب يعيد في الوقت،
قال وكذلك من أذن في السراويل وحدها وهو يجد
الثياب يعيد في الوقت، قال وكذلك من أذن في
السراويل وحدها أعاد أذانه ما لم يصل، فإن صلى
لم يعد وكان كمن صلى بغير أذان.
مسألة
قال: وسئل عن العجمي يصلي ولا يعرف القرآن،
قال: ينبغي أن يتعلم، فأما أن يصلي ولا يعرف
فهو يصلي ولا يعرف.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن العجمي الذي
لا يعرف القرآن، أي لا يحفظ شيئاً منه، ينبغي
له أن يتعلم ما يصلي به ولا يتوانى في ذلك،
لأن القرآن من فروض الصلاة، وينبغي له أن لا
يصلي وحده ما لم يتعلم ما يصلي به، فإن صلى
وحده بغير قراءة وهو يجد من يأتم به ممن
(1/448)
يحسن القرآن أي
يحفظه لم تجزه صلاته وأعادها، قاله ابن
المواز. وإن ائتم به أحد أعاد الصلاة، قاله
ابن القاسم في المدونة. وكتاب ابن المواز في
الذي لا يحسن القرآن أي لا يحفظ شيئاً منها
ولا يعرفه، قال ابن المواز: ويعيد هو أيضاً
لتركه الائتمام به. وقد اختلف في الذي يحسن
القرآن، أي يحفظه ولا يحسن قراءته ويلحنه على
أربعة أقوال: أحدها أن الصلاة خلفه لا تجوز
وإن لم يلحن في أم القرآن إذا كان يلحن في
سواها، قاله بعض المتأخرين تأويلاً على ما
لابن القاسم في المدونة في الذي لا يحسن
القرآن، لأنه حمله على الذي لا يحسن القراءة،
وقال إن لم يفرق فيها بين أم القرآن وغيرها،
وهو بعيد في التأويل غير صحيح في النظر؛
والثاني أن الصلاة خلفه جائزة إن كان لا يلحن
في أم القرآن، ولا تجوز إن كان يلحن في أم
القرآن؛ والثالث أن الصلاة لا تجوز خلفه إن
كان لحنه لحناً يتغير به المعنى، مثل أن يقول
إياك نعبد بكسر الكاف، وأنعمت عليهم برفع
التاء وما أشبه ذلك، وتجوز إن كان لحنه لحناً
لا يتغير به المعنى، مثل أن يقول الحمد لله
بكسر الدال من الحمد ورفع الهاء من الله وما
أشبه ذلك، وهذا قول ابن القصار وعبد الوهاب؛
والرابع أن الصلاة خلفه مكروهة ابتداء، فإن
وقعت لم تجب إعادتها، وهذا هو الصحيح من
الأقوال، لأن القارئ لا يقصد ما يقتضيه اللحن،
بل يعتقد بقراءته ما يعتقد بها من لا يلحن
فيها، وإلى هذا ذبه ابن حبيب. ومن الحجة له ما
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل
المسجد يوماً فمر بالموالي وهم يقرؤون ويلحنون
فقال: نعم ما قرأتم ومر بالعرب وهم يقرؤون ولا
يلحنون فقال: هكذا أنزل. وأما الألكن الذي لا
تتبين قراءته والألثغ الذي لا يتأتى له النطق
ببعض الحروف، والأعجمي الذي لا يفرق بين الطاء
والضاد والسين والصاد وما أشبه ذلك، فلا
اختلاف في أنه لا إعادة على من ائتم بهم، وإن
كان الائتمام بهم مكروهاً إلا ألا يوجد من
(1/449)
يرضى به سواهم.
وسيأتي في آخر سماع موسى القول في صلاة الذين
لا يحسن القرآن مستوفى، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن النفر يكونون بموضع ليس عليهم إمام
يجمعون الجمعة؟ فقال: إن لم يكونوا أهل عمود
جمعوا، إنما يكون الجمع على أهل القرى. فقيل
له: فإن لم يؤمر عليهم؟ فقال: إي والله وإن لم
يؤمر عليهم ربما صلى أبو المثنى الجمعة بالناس
بغير أمر الإمام، يمرض الإمام أو يموت أو
تصيبه علة.
قال محمد بن رشد: قوله وإن لم يكونوا أهل عمود
جمعوا، ظاهره خلاف ما في أول رسم من سماع عيس
أن الخصوص والمحال إذا كانت مساكن لأهلها
كمساكن القرى في اجتماعها، لم يحل لهم أن
يتركوا الجمعة، وعلى ذلك كان يحملها الشيوخ
عندنا. ويحتمل أن يكون أراد بأهل العمود في
الرواية الذين ينتجعون الكلأ ولا يستقرون
بموضع، فتتفق الروايات ولا يكون بينها تعارض.
والأظهر أن ذلك اختلاف من القول، وأن لا جمعة
على أهل العمود، لأن الأصل أن الظهر أربع فلا
ينتقل عن ذلك إلا بيقين وهو المصر، لأن المتفق
عليه، لأنه أصل ما أقيمت الجمعة فيه، فوجب أن
لا يجمع إلا في المصر أو فيما يشبه المصر من
القرى التي فيها الأسواق والمساجد، إذ قد
اشترط ذلك مالك في بعض الروايات عنه. وأما
الوالي فليس من شرائط إقامة الجمعة عند مالك،
وقد روي عن يحي بن عمر أنه قال: الذي أجمع
عليه مالك وأصحابه أن الجمعة لا تقام إلا
بثلاثة: المصر، والجماعة، والإمام الذي تخاف
مخالفته، وهو قول عمرو بن العاص، رضي الله
عنه. روي أن قوماً أتوه فسألوه أن يأذن لهم في
الجمعة، فقال هيهات لا يقيم الجمعة إلا من أخذ
بالذنوب وأقام الحدود وأعطى الحقوق. وفي
(1/450)
المبسوط لمحمد
بن مسلمة أنه لا يصليها إلا سلطان أو مأمور أو
رجل مجمع عليه، وهو قريب من ذلك كله خلاف
المعلوم من مذهب مالك في المدونة وغيرها،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الصلاة بعد الجمعة في المسجد أمكروه؟
فقال: أما الناس فلا، وأما الأئمة فينصرفون
ولا يصلون فيه، وقد كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم والأئمة ينصرفون إذا فرغوا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب الصلاة
الثاني من المدونة في الإمام أنه لا ينبغي له
أن يركع في المسجد يوم الجمعة على إثر صلاة
الجمعة، وخلاف قوله فيه في الناس لأنه استحب
لهم فيه أن لا يركعوا ورأى ذلك لهم واسعاً إن
ركعوا، وخلاف قوله في الصلاة الأول منها لأنه
كره لهم فيه أن يركعوا ولم يوسع في ذلك. فتحصل
في ركوع الناس يوم الجمعة في المسجد لمالك
ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا كراهة في الركوع
ولا استحباب في الجلوس فإن جلس لم يؤجر وإن
ركع كان له أجر صلاته كاملاً كما لو صلى في
غير ذلك الوقت من الأوقات التي لا تكره فيها
الصلاة، وهو الذي يأتي على هذه الرواية؛
والثاني أن الجلوس مستحب والركوع واسع، فإن
جلس ولم يصل أجر على جلوسه، وإن صلى أجر على
صلاته، والله أعلم أيهما أعظم أجراً، وهو الذي
يأتي على قول مالك في الصلاة الثاني من
المدونة؛ والثالث أن الركوع مكروه والجلوس
مستحب، فإن جلس ولم يصل أجر، وإن صلى لم يأثم،
وهذا الذي يأتي على ما في الصلاة الأول من
المدونة، فالجلوس على هذا القول أولى من
الصلاة، والصلاة على القول الأول أولى من
الجلوس. وإنما جاء هذا الاختلاف لما روي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
(1/451)
صلى الجمعة لم
يركع في المسجد حتى ينصرف فيركع في بيته
ركعتين فاحتمل أن يكون هذا من فعله صلى الله
عليه وسلم خاصاً للأئمة، واحتمل أن يكون عاماً
لجميع الناس، بدليل ما روي أن ابن عمر رأى
رجلاً يصلي ركعتين بعد الجمعة فدفعه وقال:
أتصلي الجمعة أربعاً. وكره أن يصلي بعدها
ركعتين، ليجمع بين الحديثين، والله أعلم
بالصواب.
مسألة
وسئل عمن أوتر بالناس في رمضان، فقال: لو كنت
صانعه لم أسلم بين الاثنتين والواحدة، لأن بعض
الناس قد قالوا يوتر بثلاث، وإنه ليقال إن
معاذاً القارئ كان يوتر بثلاث يفصل بين
الاثنتين والواحدة.
قال محمد بن رشد: كذا وقعت الرواية: لو كنت
صانعه لم أسلم بين الاثنتين والواحدة، وحكاها
ابن حبيب لو كنت صانعه سلمت بين الاثنين
والواحدة على ما يوجبه مذهب مالك، رحمه الله.
والصحيح في الرواية لم أسلم بين الاثنتين
والواحد، بدليل اعتلاله لذلك بقول الذين قالوا
أنه يوتر بثلاث، فأراد أنه لو أوتر بثلاث لا
يفصل بينهن لما خالف فعله في ترك الفصل، إذ من
الناس من يقول ذلك. وهذا نحو قول ابن القاسم
في رسم
(1/452)
لم يدرك من
سماع عيسى في الذي يدرك الإمام في آخر ركعة من
الوتر وهو ممن لا يسلم أنه يضيف إليها ركعتين
بغير سلام، ونحو قوله في الواضحة فيمن فاتته
الركعة الأولى من شفع الوتر والإمام ممن لا
يفصل بين الشفع والوتر أنه لا يسلم مع الإمام
إذا سلم من الوتر ويقوم إلى الثالثة دون سلام
ليلاً يخالف فعل الإمام في ترك الفصل بالسلام
وإن كان قد فارقه في الوتر، إذ لم يدخل معه في
أول الشفع خلافاً لابن مطرف وابن الماجشون في
قولهما إنه يسلم مع الإمام إذا كان الإمام ممن
يفصل أو لا يفصل، إذ قد فارقه ولم يدخل معه من
أول الشفع. وقد اختلف الناس في الوتر فقيل إنه
ركعة واحدة، وقيل إنه ثلاث ركعات لا يفصل
بينهن بسلام، وقيل إنه ثلاث ركعات يسلم في
الاثنتين منهن وفي آخرهن. وذهب مالك إلى أن
ركعة واحدة عقب شفع أدناه ركعتان على ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عمر
قال: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم
الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن مس الذكر أتعاد منه الصلاة؟ فقال: لا
أوجبه وأبى، فروجع فيه فقال: يعيد ما كان في
الوقت وإلا فلا. قال سحنون: لا أرى على من مس
ذكره وصلى إعادة لا في وقت ولا في غيره، ولقد
قال لي ابن القاسم غير مرة أن إعادة الوضوء
عندي من مس الذكر ضعيف.
قال محمد بن رشد: هذا كله من رواية أشهب عن
مالك وقول سحنون وروايته عن ابن القاسم يرجع
إلى أن مس الذكر لا ينقض الوضوء
(1/453)
بحال خلاف ظاهر
ما في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من
كتاب الوضوء. ورواية ابن وهب عن مالك في سماع
سحنون منه في الفرق بين أن يمسه عامداً أو غير
عامد قول ثالث، وإليه ذهب ابن حبيب. وقد مضت
هذه المسألة موعبة في رسم اغتسل على غير نية
من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء فقف على
ذلك، وبالله التوفيق.
مسألة
قال: وسئل عن وقت الدم، فقال ليس له عندنا
وقت، فقيل له فقليله وكثيره سواء؟ فقال لا،
ولكن لا أجيبكم إلى هذا الضلال، إذا كان مثل
الدرهم، ثم قال أرأيت إن كان الدرهم من هذه
البغيلة، الدراهم تختلف تكون وافية كلها
وبعضها أكبر من بعض.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في هذا
السماع من كتاب الوضوء، ومضى القول عليها هناك
بما أغنى عن إعادته.
مسألة
وسئل عن الإمام يكبر في العيدين على المنبر،
أيكبر الناس بتكبيره؟ فقال: نعم، فقيل
أفينصتون كما ينصتون يوم الجمعة؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله إنهم يكبرون بتكبير
الإمام، يريد سراً في أنفسهم، وذلك حسن وليس
بواجب، قال ذلك في الحج الأول من المدونة، وهو
مفسر لما ها هنا. وقد مضى القول في وجوب
الإنصات في خطبة
(1/454)
العيدين وما في
ذلك من الاختلاف في أول هذا السماع وفي رسم
تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم، وبالله
التوفيق.
مسألة
قال ابن نافع عن مالك: ليس على من لم يسمع
قراءة الإمام أن يقول آمين إذا قال الإمام ولا
الضالين.
قال محمد بن رشد: قوله ليس ذلك عليه يدل على
أن له أن يقوله وإن لم يكن ذلك عليه، بأن
يتحرى الوقت كما يتحرى المريض الذي ترمى عنه
الجمار وقت الرمي عنه فيكبر. وذهب محمد بن
عبدوس إلى أن ذلك عليه، وذهب يحيى بن عمر إلى
أنه لا ينبغي له أن يفعل ذلك، فهي ثلاثة
أقوال، أظهرها قول يحي، لأن المصلي ممنوع من
الكلام، والتأمين كلام أبيح للمصلي أن يقوله
في موضعه، فإذا تحرى قد يضعه في غير موضعه.
مسألة
قال: وسئل عمن أدرك الإمام يوم الجمعة ساجداً
فلم يسجد معه في الركعة الآخرة، أيقيم الصلاة
لنفسه؟ قال: نعم لا يجزيه إقامة الناس.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه لم
يحرم مع الإمام، ولو أحرم معه لبنى على إحرامه
وأجزأته إقامة الناس ولم يصح له أن يقيم إلا
أن يقطع الصلاة ثم يستأنفها. ولو فعل ذلك في
هذه المسألة لأخطأ، إذ لا اختلاف في أنه لا
يصح له أن يبني فيها على إحرامه، بخلاف الذي
قد يجد الإمام ساجداً في الركعة الثانية فيحرم
معه وهو يظن أنه في الركعة الأولى، وقد مضى
القول على هذا في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن
القاسم.
(1/455)
مسألة
وسئل عن الذي يقول في دعائه يا سيدي، فكرهه
وقال: أحب إلي أن يدعو بما في القرآن وبما دعت
به الأنبياء: يا رب، وكره الدعاء بيا حنان.
قال محمد بن أحمد بن رشد: إنما كره الدعاء
بذلك للاختلاف الحاصل بين أهل السنة من أيمة
المتكلمين في جواز تسمية الله تعالى بسيد
وحنان وما أشبه ذلك من الأسماء التي فيها مدح
وتعظيم لله تعالى، ولم تأت في القرآن ولا في
السنن المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولا أجمعت الأمة على جواز تسميته بها، إذ
منهم من لم يجز أن يمسى الله إلا بما سمى به
نفسه في كتابه أو أسماه به رسوله أو أجمعت
الأمة على جواز تسميته به. ومنهم من أجاز
تسميته بكل اسم لله فيه مدح وتعظيم ما لم تجمع
الأمة على أنه لا يجوز أن يسمى الله تعالى به
كعاقل وفهيم ودار وما أشبه ذلك. وأما الدعاء
بيا منان فلا كراهة فيه لأنه من أسماء الله
تعالى القائمة من القرآن، قال الله تعالى:
((ولكن الله يمن على من يشاء من عباده)).
مسألة
قال: وقيل لعمر بن عبد العزيز أخرت الصلاة
شيئاً، فقال إن ثيابي غسلت.
قال محمد بن رشد: يحتمل إن لم يكن له غير تلك
الثياب لزهده في الدنيا وتقلله منها فلذلك أخر
الصلاة شيئاً بسبب غسلها، أو لعلة ترك أخذ
سواها مع سعة الوقت تواضعاً لله ليقتدى به في
ذلك ائتساءً بعمر بن الخطاب
(1/456)
إذ جعل يغسل
الاحتلام من ثوبه حتى أسفر، فقال له عمرو بن
العاص أصبحت ومعنا ثياب فدع ثوبك يغسل، فقال
واعجباً لك يا ابن العاص إن كنت تجد ثياباً
أفكل الناس يجد ثياباً، والله لو فعلتها لكانت
سنة، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر، فقد كان
أتبع الناس لسيرته وهديه في جميع الأحوال،
وأياً ما كانت فهي منقبة جليلة وفضيلة عظيمة
لا تستغرب منه، رضي الله عنه.
مسألة
قال محمد بن رشد: قوله إذا انقطع عنها الدم،
يريد دم الاستحاضة الذي كانت تصلي به. وقوله
اغتسلت وصلت، يريد اغتسلت استحباباً وصلت كما
كانت تصلي قبل انقطاعه، وذلك معلوم من مذهبه
ومذهب جميع أصحابه. وسواء كان انقطاعه في غير
أيام حيضتها أو في أيام حيضتها، إذ لا فرق بين
الموضعين، فمالك لا يرى على المستحاضة غسلاً
إلا في أول أمرها بعد الاستظهار أو بلوغ
الخمسة عشر يوماً، ويستحب لها الوضوء لكل
صلاة، فإن صلت صلاتين بوضوء واحد لم تعد، وقيل
إنها تعيد الآخرة في الوقت، حكى القولين ابن
المواز عن مالك. ومن أهل العلم من يوجب عليها
الغسل لكل صلاة، ومنهم من يوجبه من طهر إلى
طهر، ومنهم من يوجب عليها أن تغسل للظهر
والعصر غسلاً واحداً، وللمغرب والعشاء غسلاً
واحداً، على ما جاء في ذلك من الآثار، وبالله
التوفيق.
(1/457)
مسألة
وسئل عن المرأة تخرج من البحر عريانة، أتصلي
قائمة؟ قال: نعم في رأي إلا أن يراها أحد.
قال محمد بن رشد: وهذا كمال قال، لأنها مأمورة
بالصلاة قائمة مستقبلة القبلة، وقد سقط عنها
بعد الثياب ما يختص بالصلاة من فرض ستر العورة
عن عيون من سوى الآدميين، فوجب أن تصلي قائمة
إلا أن يراها أحد، كما لها أن تغتسل في الفضاء
قائمة إلا أن يراها أحد.
مسألة
وذكر يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم صلى صلاة ترك في قراءته آية، فلما انصرف
قال للناس: ما أنكرتم من قراءتي شيئاً فقيل
نعم، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن
يجرب حفظ الناس. قال مالك: وكان أسيد بن
الحضير وهو أحد النقباء يصلي فاضطرب فرسه
اضطراباً شديداً فنظر ما يزعرها فلم ير شيئاً
فرفع رأسه إلى السماء فرأى شيئاً يظله، فذكر
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تلك
الملائكة استمعت لقراءتك.
قال محمد بن رشد، فكأن النبي صلى الله عليه
وسلم أراد أن يجرب حفظ الناس، هو تأويل من
الرواي ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى
القول بتصحيحه يجوز للرجل أن يتعمد إسقاط آية
من قراءته في الصلاة، فعلى هذا لا ينبغي أن
يفتى في الصلاة من أسقط في قراءته شيئاً من
القرآن أو خرج من سورة إلى سورة، وإلى هذا ذهب
ابن حبيب، خلاف ما جاء عن النبي صلى الله عليه
وسلم من قوله
(1/458)
لأبي بن كعب
حين أسقط آية من سورة الفرقان: ((ما منعك أن
تفتح علي قال: خشيت أنها نسخت قال: فإنها لم
تنسخ)). وفيه أيضاً دليل على صحة ما ذهب إليه
مالك من أن الذي يقرأ السجدة وهو على غير وضوء
أو في غير وقت صلاة يختصرها. والصواب أن يختصر
جملة الآية لا موضع ذكر السجود خاصة، على ما
حكى عبد الحق عن بعض شيوخه، لأنه إذا فعل ذلك
لم يتسق الكلام وتغير معناه. وقصة أسيد بن
الحضير هذه وقعت ها هنا مختصرة، وهي في
المصنفات بكمالها، من ذلك قوله فيها: فرفعت
رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال
المصابيح، فعرجت إلى السماء حتى لم أرها. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تلك الملائكة
دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها
لا تتوارى منهم))، ثم قال: ((لقد أوتيت يا
أسيد من مزامير آل داوود))، يعني حسن الصوت.
وهذه كرامة عظيمة لأسيد بن الحضير، رضي الله
عنه، إلا أنها وما كان مثلها على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم فإنما هي ببركة النبي صلى
الله عليه وسلم، فهي معدودة من آياته ومن جملة
معجزاته. وفي القصة التحريض على تفريغ البال
لاستماع القراءة، ولذلك أدخلها مالك عقب حديث
يحيى بن سعيد، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الذي يكون له ثوب واحد، أترى أن يعقد
طرفيه إذا صلى ليلاً يسقط عنه؟ قال: لا بأس
بذلك إذا لم يكن له غيره ولم يكن محرماً، فإذا
كان محرماً فلا يفعل، وإن كان له ثوب غيره
فأحب إلي أن يأخذ ثوباً آخر أوسع منه، وأحب
إلي أن يتزر ويتردى إذا وجد، وكل من لم يجد
فيجزئ عنه ما وجده.
(1/459)
قال محمد بن
رشد: هذا كما قال، لأن السنة في الصلاة في
الثوب الواحد إذا لم يكن قميصاً أن يخالف بين
طرفيه على عاتقيه، فإن شاء رد طرفيه بين يديه،
وإن شاء تركهما على عاتقيه، فإن لم يثبت لقصره
إلا أن يعقده عقده، إلا أن يكون محرماً فلا
يعقده، وليتزر به، لأن العقد للمحرم مكروه،
وإن قصر عن أن يعقده على قفاه فليتزر به، ولا
شيء عليه في صلاته مكشوف الظهر والبطن إذا لم
يجد، فإن صلى كذلك وهو يجد فقد أساء ولا إعادة
عليه، وقيل يعيد في الوقت. وقد مضى ذلك في صدر
هذا الرسم والاختيار إذا وجد ألا يصلي في أقل
من ثوبين وإن لم يكن في جماعة الناس.
مسألة
وقال: يقال إن قبلة المسجد مسجد رسول الله،
عليه السلام، قبالة الميزاب.
قال محمد بن رشد: يريد أن المصلي بالمدينة
يستقبل من البيت الميزاب لأنه هو الذي يتفق،
فليس في هذا معنى يشكل.
مسألة
قال: ولقد سألت مالكاً عن آكل الثوم أيكره له
المشي في السوق؟ فقال: ما سمعت ذلك إلا في
المسجد، فقلت له: أرأيت من يأكل البصل والكراث
أيكره له من دخول المسجد ما يكره من الثوم؟
فقال: لم أسمع ذلك إلا في الثوم، وما أحب له
أن يؤذي الناس.
قال المؤلف: في قوله ما سمعت ذلك إلا في
المسجد دليل على أنه لا حرج عنده على آكل
الثوم في المشي في الأسواق، وإن كره له ذلك في
(1/460)
مكارم الأخلاق.
والوجه في ذلك أن النهي إنما ورد في المسجد له
حرمة يختص بها دون الأسواق، لقول الله عز وجل:
((في بيوت أذن الله أن ترفع))، ولما جاء من أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تنظف
وتطيب، فلم يصح قياس الأسواق عليه في منع آكل
الثوم من دخوله، وأما قياس الكراث والبصل على
الثوم في منع آكلها من دخول المسجد فصحيح إن
كانت تؤذي رائحتها، لأن النبي صلى الله عليه
وسلم قد نص على أن العلة في الثوم هي الإذاية،
فوجب أن يعتبر بها حيثما وجدت، وذلك بين من
مذهب ابن القاسم في رسم أوصى من سماع عيسى.
وعلى هذا يجب أن يحمل قول مالك، لأن قوله وما
أحب له أن يؤذي الناس تجاوز في اللفظ، ومراده
به ما يجوز له أن يؤذي الناس، لأن ترك إذاية
الناس من الواجب لا من المستحب، وبالله
التوفيق.
مسألة
قال: وسألته عن الذي ينسى الظهر ثم يذكرها وهو
في العصر يصلي لنفسه ليس مع الإمام، فقال يتم
ركعتين ثم ينصرف فيصلي الظهر ثم يصلي العصر.
قيل له: وإن كان إنما أحرم في العصر قط، فقال
نعم يتم ركعتين.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية إنه يتم
ركعتين ولا يقطع ركع أو لم يركع، وكذلك لو ذكر
صلاة قد خرج وقتها وهو في صلاة مكتوبة لأتم
أيضاً ركعتين ركع أو لم يركع. وفي المدونة أنه
يقطع ما لم يركع. وسواء على مذهبه فيها ذكر
وهو في العصر صلاة الظهر من يومه أو صلاة قد
خرج وقتها. وقد قيل أنه يقطع أيضاً في
المسألتين جميعاً ركع أو لم يركع، قاله مالك
في أحد قوليه في المدونة في النافلة، ولا فرق
بين النافلة والفريضة في القياس. وقد قيل إن
الفريضة في هذا بخلاف النافلة، فيقطع في
النافلة ركع
(1/461)
أو لم يركع،
ولا يقطع في النافلة ركع أو لم يركع، وقد قيل
إنه إن كان معه ركعة أتم ركعتين، وإن كان لم
يركع شيئاً أو ركع ثلاث ركعات قطع، وهو اختيار
ابن القاسم في المدونة. وفرق ابن حبيب بين أن
يذكر الظهر في العصر أو المغرب في العشاء،
وبين أن يذكر صلاة قد خرج وقتها وهو في صلاة،
فقال: إنه إن ذكر الظهر في العصر أو المغرب في
العشاء قطع ركع أو لم يركع، كان مع الإمام أو
وحده، وإن ذكر صلاة قد خرج وقتها وهو في صلاة
تمادى إن كان مع الإمام، وإن كان وحده أتم
ركعتين ركع أو لم يركع. وقد قيل إنه إن كان في
خناق من الوقت قطع ما لم يركع، وإن يكن في
خناق منه تمادى وإن لم يركع، فيتحصل في
المسألة من الاختلاف سبعة أقوال. وهو كله
اختلاف اختيار، إذ لا يتعلق بمن فعل شيئاً من
ذلك حكم عند من رأى خلافه إلا انتقاص الفضيلة.
وقد قيل إنه يخرج من قطع عند من رأى أن يتم
ركعتين لقول الله عز وجل: ((ولا تبطلوا
أعمالكم))، ويخرج من أتم ركعتين عند من رأى أن
يقطع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع
إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها))، فإن
الله عز وجل يقول: ((أقم الصلاة لذكرى)). فصار
من أخر الصلاة المنسية عن وقت ذكرها فيه
بالتمادي على التي ذكرها فيها آثماً، والأول
أظهر أنه لا يأثم بدليل أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم صلى ركعتي الفجر يوم الوادي بعد أن
طلعت الشمس قبل أن يصلي الصبح. وعلى هذا
الاختلاف يأتي اختلافهم فيمن ذكر صلاة وهو في
صلاة فتمادى عليها حتى أتمها، أو ذكرها فبدأ
بالتي حضر وقتها قبلها، هل يعيد أبداً أو في
الوقت؟ وأما من فرق بين أن يذكر الصلاة وهو في
صلاة أو قبل أن يدخل فيها فوجهه اتباع ظاهر ما
جاء
(1/462)
من أن من ذكر
صلاة وهو في صلاة فسدت عليه الصلاة، وهو حديث
مروي، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الذي يتنفل فيتعيا بالقرآن أفيقف
فيفكر أو ينصرف يسلم وينظر؟ قال: يتفكر تفكراً
خفيفاً يتذكر ولا يسلم. ولكن يخطرف ذلك أو
يستفتح بسورة أخرى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن القرآن
كله حسن سواء، فما قرأ منه كفى وأجزأ. قال
الله عز وجل: ((فاقرؤوا ما تيسر منه))، فإذا
تعايا في قراءته تذكر يسيراً، لأن التذكر
الكثير يخرجه عن الإقبال على صلاته، فإن ذكر
وإلا خطرف أو استفتح بسورة، إذ ليس موالاة
القراءة بواجب، فقد جاء أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أسقط آية من قراءته ليجرب حفظ الناس
وإن شاء ركع وسجد، ولا يسلم لينظر، إذ لا
ينبغي لأحد أن يقطع صلاته إلا من ضرورة، قال
الله عز وجل: ((ولا تبطلوا أعمالكم)). ولو كن
المصحف إلى جنبه ونظر فيه وتمادى على صلاته
لكان قد أساء ولم يكن عليه شيء. وجائز للذي لا
يحفظ القرآن أن يصلي في المصحف. والفرق بين
الموضعين أن الذي يشك في الحرف إذا نظره في
المصحف احتاج إلى فتش موضعه فكان ذلك شغلاً في
صلاته، والذي يصلي في المصحف يفتحه قبل أن
يدخل في الصلاة ويجعل أمامه الموضع الذي يريد
أن يقرأة في صلاته، فينظر من غير أن يشتغل
بشيء إلا بتحويل الورقة التي أكمل قراءتها،
وذلك يسير.
(1/463)
مسألة
وسئل عن الذي يركع فيتطأطأ جداً، فقال: ما ذلك
بحسن ، وأحسن الركوع اعتدال الظهر، لا يرفع
رأسه جداً ولا يخفضه جداً وينصب قدميه أحسن.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، فقد جاء أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع لو
وضع على ظهره ماء لاستقر.
مسألة
قال: سمعت نافعاً يذكر أن عمر بن الخطاب صنع
له طعام بالشام في كنيسة فأبى أن يجيب إليه
وكره دخول الكنائس وقال: لا أرى أن يصلى في
الكنائس. قال: وسئل عن الصلاة في الكنائس،
فقال: لا أحب أن يصلى فيها إذا وجد غيرها، هي
نجس قد دعي عمر بن الخطاب إلى طعام بالشام في
كنيسة فلم يأته وقال: أرى أن لا تدخل هذه
الكنائس التي فيها الصور.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول مستوفى في أول
رسم من سماع ابن القاسم في هذه المسألة،
فتأمله هناك.
مسألة
قال يحيى بن سعيد: سمعت ابن المسيب يقول: حولت
القبلة بعد بدر بشهرين. قال ابن المسيب إنهم
صلوا إلى بيت
(1/464)
المقدس ستة عشر
شهراً ثم حولت القبلة بعد بدر بشهرين. قال:
قال مالك: ذكر لي عبد الله بن دينار عن عبد
الله بن عمر أن الناس بينما هم قيام في الصلاة
إلى بيت المقدس، فجاءهم آت فقال: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه أن يستقبل
القبلة فاستقبلوها فاستداروا إلى القبلة.
قال محمد بن رشد: وقع ها هنا بعد بدر بشهرين،
وفي الموطأ قبل بدر بشهرين، فيحتمل أن يريد
بما ها هنا بدراً الأولى وبما في الموطأ بدراً
الثانية، لأن كان بينهما نحو أربعة أشهر،
فحولت القبلة بعد الأولى بشهرين وقبل الثانية
بنحو شهرين. وقد قيل إن ما في الموطأ هو
الصواب، والذي وقع ها هنا غلط، لأن بدراً إذا
طلقت دون وصف فالمراد بها الثانية المشهورة
المذكورة في القرآن. وقول ابن المسيب إنهم
صلوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً صحيح، لا
اختلاف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
صلى إلى بيت المقدس منذ قدم المدينة حتى حولت
القبلة، وإنما اختلفت الآثار في صلاته بمكة
قبل قدومه المدينة، فروي أنها كانت إلى مكة
وهو دليل قول سعيد بن المسيب هذا، وروي أنها
كانت إلى بيت المقدس، وقيل إنه كان يصلي إلى
بيت المقدس ومكة بين يديه، فكانت صلاته إليهما
جميعاً. وفي استدارتهم إلى القبلة في صلاتهم
معنى يجب الوقوف عليه، وذلك أن أهل العلم
بالأصول اختلفوا في الحكم إذا نسخ، فقيل إنه
يكون منسوخاً بورود الناسخ جملة، وقيل إنه لا
يكون منسوخاً عند من لم يعلم ورود الناسخ إلا
بوصول العلم إليه، فيلزم على القول بأنه منسوخ
بنفس ورود الناسخ جملة أن يستدير في صلاته إلى
القبلة من علم فيها أنه إلى غير القبلة على ما
فعل الصحابة، رضي الله عنهم، بقباء، وهو قول
الثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وقول مالك
(1/465)
إنه يقطع
ويبتدئ بخلاف ما فعل الصحابة يدل على أنه لم
ير الحكم منسوخاً عنهم إلا بوصول العلم إليهم،
إلا أن يفرق بين الموضعين، فإنهم وإن كان
الحكم منسوخاً عنهم بنفس ورود النسخ قبل
دخولهم في الصلاة فلم يكن منهم تقصير، بخلاف
الذي اجتهد في القبلة فبان له بعد الدخول في
الصلاة أنه على غير القبلة. وقد اختلف فيمن
صلى إلى غير القبلة مستدبراً لها أو مشرقاً أو
مغرباً عنها ناسياً أو مجتهداً فلم يعلم حتى
فرغ من الصلاة، فالمشهور في المذهب أنه يعيد
في الوقت من أجل أنه يرجع إلى اجتهاد من غير
يقين، وقيل إنه يعيد في الوقت وبعده، وهو قول
المغيرة وابن سحنون، كالذي يجتهد فيصلي قبل
الوقت، وكالأسير يجتهد فيصوم شعبان، وقاله
الشافعي إذا استدبر القبلة. وذكر عن أبي الحسن
القابسي أن الناس يعيد أبداً بخلاف المجتهد.
وأما من صلى إلى غير القبلة متعمداً أو جاهلاً
بوجوب استقبال القبلة فلا اختلاف في وجوب
الإعادة عليه أبداً. وكذلك من صلى بمكة إلى
غير الكعبة وإن لم يكن مشاهداً لها فهو
كالمشاهد لها في وجوب الإعادة عليه أبداً، من
أجل أنه يرجع إلى يقين يقطع عليه، إذ يمكنه أن
يصعد على موضع يرى الكعبة منه فيعلم بذلك
حقيقة القبلة في بيته. واختلف فيمن صلى بمكة
إلى الحجر، فقيل لا تجزئه صلاته لأنه لا يقطع
أنه من البيت، وقيل تجزئه صلاته لتظاهر
الأخبار أنه من البيت، وذلك في مقدار ستة أذرع
منه، لأن ما زاد على ذلك ليس من البيت وإنما
زيد فيه ليلاً يكون مركناً فيؤذي الطائفين،
وبالله التوفيق.
مسألة
[في رفع المصلي صوته بالقراءة في المسجد]
قال مالك: وكان عمر بن عبد العزيز يخرج في
الليل، أراه
(1/466)
آخره، وكان حسن
الصوت يصلي فقرأ، فقال سعيد بن المسيب لبرد:
اطرد هذا القارئ عني فقد أذاني، فسكت برد
فقال: ويحك يا برد: اطر هذا القارئ عن فقد
أذاني، فقال له برد: إن المسجد ليس لنا إنما
هو للناس، فسمع ذلك عمر فأخذ نعليه ثم تنحى.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذا ما روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم
يصلون في المسجد وقد علت أصواتهم بالقراءة
فقال: إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه
به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)). فلا
يجوز لمن تنفل في المسجد وإلى جنبه من يصلي أن
يرفع صوته بالقراءة لأن يخلط عليه صلاته وفي
ذلك إذاية له، وكذلك من فاته من صلاة الإمام
ما يجهر فيه بالقراءة فلا يجوز له أن يفرط في
الجهر إذا كان إلى جنبه من يعمل مثل عمله
ليلاً يخلط عليه صلاته فيؤذيه بذلك. ومن حق من
أوذي أن ينهى من أذاه عن إذايته، فلذلك أمر
سيعد بن المسيب برداً بما أمره به من طرد
القارئ عنه، يريد من جواره لا من المسجد جملة،
ولم يهبه لمكانه من الخلافة لجزالته وقوته
لتواضعه وخيره وفضله وانقياده للحق، وأخذ
نعليه وتنحى عنه. وقد استدل بعض الشيوخ بهذه
الحكاية على أن الأصوات من الضرر الذي يجب
الحكم على الجار بقطعه على جاره، كالحدادين
والكمادين والندافين وشبه ذلك، وليس بدليل بين
لأن ما يفعله الرجل في داره من ذلك فيتأذى به
جاره بخلاف ما يفعله في المسجد من رفع صوته
بالقراءة لتساوي الناس في الحق فيه. ولو صلى
رجل في داره فرفع صوته بالقراءة لما وجب لجاره
أن يمنعه من ذلك، والرواية منصوصة عن مالك في
أنه ليس
(1/467)
للرجل أن يمنع
جاره الحداد من ضرب الحديد في داره وإن أضر به
سماعه، فكيف بهذا؟ والله أعلم.
مسألة
وسئل مالك عن الذي ينسى تكبيرة الإحرام وهو
إمام فيذكر بعدما قرأ صدراً من قراءته، فقال:
يبتدئ تكبيرة الإحرام، قلت له: أترى أن يؤذن
من خلفه؟ قال: نعم يقول لهم إني لم أكن ذكرت
تكبيرة الإحرام، فهذا حين دخولي في الصلاة
فادخلوا معي، ثم يقول الله أكبر، فإن كانوا هم
قد كبروا فإن ذلك لا يجزئهم.
قال محمد بن رشد: قوله يبتدئ الإحرام، يريد
بغير سلام، ولا اختلاف في هذا، بخلاف ما لو
يذكر إلا بعد ركعة. وقوله إنه يؤذن من خلفه
صواب، لأن تكبيرهم قبله لا يجزئهم، إلا أنه
يختلف، هل يقطعون بسلام؟ أو يكبرون ولا
يقطعون؟ فقيل إنه بمنزلة من لم يكبر يكبرون
ولا يسلمون، وهو مذهبه في المدونة، وقيل إنهم
يسلمون ويكبرون ولا يسلمون، وهو مذهبه في
المدونة، وقيل إنهم يسلمون ويكبرون ولا
يسلمون، وهو مذهبه في المدونة، وقيل إنهم
يسلمون ويكبرون، ولو لم يؤذنهم فتمادوا معه
لأعادوا الصلاة على مذهب مالك. ولو علموا ذلك
بعد ركعة وقد كبروا للركوع لكان الاختيار أن
يتمادوا مع الإمام ويعيدون بمنزلة من نسي
تكبيرة الإحرام وهو مع الإمام فذكر بعد أن ركع
وقد كبر للكوع، وإن شاؤوا قطعوا بسلام وأحرموا
وكانوا كالداخلين في الصلاة معه يقضون ركعة
بعد سلامه، ولا يجزئهم أن يحرموا بغير سلام.
مسألة
وسئل مالك عن صلاة الخوف [والكسوف] إذا رفع
رأسه من الركعة الأولى أيقرأ بأم القرآن في
الركعة الثانية؟ قال: نعم.
(1/468)
قال محمد بن
رشد: هذا مثل ما في المدونة أنه يقرأ أم
القرآن في الأربع ركعات، وعبد العزيز بن أبي
سلمة لا يرى أن يقرأ أم القرآن إلا في الركعة
الأولى والثانية، وهو القياس، لأن القراءة
الثانية من الركعة الأولى إذ لم يفصل بينهما
سجود. ألا ترى أن من أدرك الركوع الثاني مع
الإمام حمل عنه الإمام القراءتين جميعاً وإن
كان بينهما ركوع، لأنهما في حكم القراءة
الواحدة. وقول مالك استحسان، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن المصلي لنفسه في المكتوبة، فقال: لا
يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. [قلت له: أرأيت
الذي يقرأ لنفسه في النافلة بعد المغرب ركعتين
أو غيرها من الصلوات، فقال: لا يقرأ بسم الله
الرحمن الرحيم] إلا أن يكون بجلاً يقرأ القرآن
عرضاً، يعني بذلك عرضه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة
في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم مستوفى فلا
وجه لإعادته هنا.
مسألة
وسئل عن الصلاة خلف من استؤجر لقيام رمضان
يقوم بالناس, فقال أرجوا أن لا يكون بذلك بأس،
إن كان بأس فعليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه لا بأس
بالصلاة خلف من استؤجر لقيام رمضان. لأن
الإجازة ليست عليه حرام فتكون جرحة فيه تقدح
في إمامته، وإنما هي له مكروهة، فتركها أفضل.
ولا تكره إمامة من فعل ما تركه أفضل، كما لا
تكره إمامة من ترك ما فعله أفضل من النوافل،
ولم يحقق الكراهية في هذه الرواية إذ قال
فيها: إن كان بأس فعليه، وخففها
(1/469)
في غير ما كتاب
من المدونة، ورأى ذلك في المكتوبة أشد لحرمتها
ووجوبها عليه، فلم يبح الإجارة فيها على
الإطلاق، إلا أن يكون في حيز التبع مما ينضاف
إليها من الأذان والقيام على المسجد لعمارته.
وقد روى على بن زياد عن مالك أنه لا بأس أن
يأخذ الرجل الإجارة على صلاة الفريضة، لأن
يلزمه أن يصليها لنفسه، ولا يأخذ ذلك في
النافلة، حكى هذه الرواية بكر القاضي، ووجهها
أن صلاة الفريضة لما كانت تلزمه علم أنه لم
يعط الأجرة على ما يلزمه، وإنما أعطيها على ما
لا يلزمه من أن يصليها في مسجدهم حيث يأتمون
به. ولما كانت صلاة النافلة لا تلزمه خشي أن
يكون إنما صلى بسبب الأجرة ولولاها لم يصل
فكرهها لذلك. ووجه ما في المدونة من أن ذلك في
الفريضة أشد هو أن الصلاة الفريضة وإن كانت لا
تلزمه في مسجد بعينه، فيلزمه من مراعاة
أوقاتها وحدودها ما يخشى أن يكون لولا الأجرة
لقصر فيبعضها، والنافلة لا تلزمه أصلاً، فكانت
الإجارة عليها أخف، لأن الإجارة على ما لا
يلزم الأجير فعله جائزة وإن كان في ذلك قربة.
أصل ذلك الأذان وبناء المساجد، والله أعلم،
وبه التوفيق.
مسألة
وسئل عن الإمام إذا قال سمع الله لمن حمده،
أيرفع يديه؟ قال: نعم. يرفع يديه ويرفع من
وراءه أيديهم إذا قالوا سمع الله لمن حمده.
قيل: أيرفع يديه إذا قال سمع الله لمن حمده أم
يرجئ ذلك حتى يقول ربنا ولك الحمد؟ فقال: إذا
رفع رأسه من الركوع رفع يديه، وكذلك يفعل من
وراءه، وليس رفع الأيدي بلازم، وفي ذلك سعة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول
فيها موعباً في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه
من سماع ابن القاسم، ومضى منه شيء في أول رسم
من هذا السماع، فلا معنى لإعادته شيء من ذلك.
(1/470)
مسألة
قال: وسئل مالك عن إمام صلى بقوم فقرأ: ((قل
الله أحد الله الصمد))، فقال رجل من ورائه:
كذلك الله، أيعيد الصلاة؟ قال: لا.
قال أبو الوليد محمد بن رشد: وهذا كما قال،
لأنه إقرار لله بالتوحيد وبما عليه من صفات
التنزيه، ولا يفسد الصلاة إلا ما كان من كلام
الناس بغير ذكر الله، وسيأتي هذا المعنى قرب
آخر هذا الرسم وفي سماع موسى بن معاوية،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل مالك عن رجل ذرعه القيء في مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقاء
قيئاً كثيراً ليس فيه طعام إنما هو ماء، أترى
أن ينصرف من ذلك؟ فقال: لا، والله أعلم، ما
أرى أن ينصرف إن كان ليس إلا ماءً. وأرى أن
يأمر من ينزع ذلك من المسجد. قلت له: أرأيت من
كان يصلي وهو أمامه أينصرف عنه؟ قال: ما ذلك
عليه.
قال محمد بن رشد: قوله أترى أن ينصرف من ذلك،
يريد أترى أن ينصرف عن صلاته ويقطعها لما
أصابه فيها من ذلك، لأن معنى المسألة أن ذلك
أصابه في الصلاة، فلم ير أن ذلك يقطع عليه
صلاته إن كان ماء، ويقطعها إن كان طعاماً، هذا
الذي يدل عليه قوله، وهو له في المجموعة نصاً
من رواية ابن القاسم عنه، فأفسد الصلاة بما لا
يفسد به
(1/471)
الصيام.
والمشهور أن من ذرعه القيء لا تفسد صلاته كما
لا يفسد صيامه، بخلاف الذي يستقيء طائعاً، وهو
قول ابن القاسم في أول رسم استأذن من سماع
عيسى. واختلف قوله إن رده[بعد وصوله في فساد
صلاته وصيامه، يريد إن رده ناسياً أو مغلوباً.
وأما إن رده] طائعاً غير ناس فلا اختلاف في أن
ذلك يفسد صومه وصلاته. وقد قيل إن المغلوب
أعذر من الناسي في فساد صومه وصلاته، ولا يوجب
ذلك الوضوء وإن كان نجساً بتغيره عن حال
الطعام إلى حال الرجيع أو ما يقاربه، إذ لا
يوجب الوضوء على مذهب مالك إلا ما خرج من
السبيلين من المعتاد على العادة باتفاق، أو
على غير العادة باختلاف. وقوله أرى أن يأمر من
ينزع ذلك من المسجد، يريد على التنزيه للمسجد
مما يستقذر لا على أن ذلك واجب إذ ليس بنجس.
وقد حكى مالك في موطأه أنه رأى ربيعة يقلس في
المسجد مراراً وهو في المسجد، فلو كان القلس
نجساً لما قلس في المسجد، فإذا لم يكن نجساً
وهو ما قد تغير عن حال الماء إلى أن صارت فيه
حموضة، فكذلك يجب أن لا يكون القيء نجساً وإن
تغير عن حال الطعام ما لم يكن تغيراً شديداً
يشبه الرجيع أو يقاربه، والله أعلم، وبه
التوفيق.
مسألة
وسئل عن الصلاة على البسط، فقال: ما يعجبني،
ولو صلى لم أر عليه شيئاً، ويصلي على غيرها
أحب إلي، وما البسط إلا مثل الثياب الأكسية
والسيجان، ولكن يصلي على الحصر والتراب
والخشب. قيل فالصلاة على ثياب الكتان؟ فقال:
ثياب الكتان مثل الكرسف، وكره الصلاة عليها.
(1/472)
قال محمد بن
رشد: الاختيار أن يصلي على الأرض دون حائل،
لأن ذلك من التواضع الذي هو الشأن في الصلاة.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((يا رباح عفر وجهك في التراب))، ولأنه العمل
القديم، لأن مسجد مكة والمدينة كان محصبين غير
مفروشين، فالصلاة على حائل مكروهة إلا أن يكون
الحائل مما يشاكل الأرض ولا يقصد به الترفه
والكبر، كحصر الحلفاء والبردي والدوم وشبه ذلك
مما تنبته الأرض بطبعها. وقد أجاز محمد بن
مسلمة الصلاة على ثياب الكتان والقطن لأنهما
مما تنبته الأرض. والأظهر ما ذهب إليه مالك،
لأن الأرض لا تنبتهما بطبعها، ولأن ذلك مما
فيه الترفه. وإذا كانت العلة في هذا القصد إلى
التواضع وترك ما فيه الترفه، فالصلاة مكروهة
على حصر السيجان وما أشبهها مما يشترى
بالأثمان العظام ويقصد به الكبر والترفه
والزينة والجمال، والله أعلم.
مسألة
وسألته عن الصلاة فوق السطوح التي ليست
بمحظورة، أيجعل بين يديه سترة أم يصلي ولا
يجعلها؟ فقال: يجعل سترة أحب إلي، فإن لم يقدر
فأراه واسعاً. وكذلك الصلاة في الصحارى إلى
سترة، فإن لم يجد صلى إلى غير سترة. قلت له:
ولا يجعل خطاً؟ قال: لا يجعل خطاً، وأرى ذلك
واسعاً. قلت له: فأدنى الذي يستر المصلي في
صلاته؟ فقال: مثل مؤخرة الرحل في الطول على
غلظ الرمح في الغلظ. قيل له: فعصا الحمار؟
فقال: ما أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: في هذه الرواية السترة من
هيئة الصلاة وشأنها وسنتها، فكره الصلاة دون
سترة، وإن كان بمكان يأمن أن يمر فيه أحد بين
(1/473)
يديه. وعلى ما
في المدونة إنما أمر المصلي بالسترة لتكون
سترة له ممن يمر بين يديه، [فإذا صلى بمكان
يأمن أن يمر أحد بين يديه] جاز أن يصلي إلي
غير سترة. وكذلك إن صلى على سطح غير محظور
أرفع من قامة الإنسان جاز أن يصلي إلى غير
سترة وإن مر الناس أمامه دون السطح. وقوله لا
يجعل خطا وأرى ذلك واسعاً، [أي أرى واسعاً أن]
يصلي إلى غير سترة إذ لم يجد سترة، لا أنه رأى
الخط إذ لم يجد سترة ووسع في تركه، لأن الخط
عند باطل لا يراه، وجد السترة أو لم يجدها.
وقد روي أن أمة بالمدينة نظرت إلى ابن جريج
وقد خط خطاً يصلي إليه، فقالت: واعجباً لهذا
الشيخ وجهله؟ قالت: لأنك تخط خطاً يصلي إليه،
فقالت: واعجباً لهذا الشيخ وجهله بالسنة!
فأشار إليها أن قفي، فلما قضى صلاته قال: ما
رأيت من جهلي؟ قالت: لأنك تخط خطاً تصلي إليه
وقد حدثتني مولاتي عن أمها عن أم سلمة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الخط باطل
وإن العبد إذا كبر تكبيرة الإحرام سدت ما بين
السماء والأرض))، فسألها تقفوه إلى مولاتها
ففعلت فحدثته بذلك فقال لها: تبيعينها مني
أعتقها فإنه ينبغي أن يحفظ من روى شيئاً من
العلم، قالت ذلك إليها، فعرض ذلك عليها فقالت
لا حاجة لي بذلك، لأن مولاتي قد حدثتني عن
أمها عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: ((إذا اتقى العبد ربه ونصح مواليه فله
أجران)) فلا أحب أن أنقص أجراً، ولو كان هذا
لقد كانت مولاتي عرضت ذلك علي على أن تعطيني
من مالها بالعقيق ما يكفيني. وقوله في قدر
السترة في الطول والغلظ هو مثل ما في المدونة،
ولم ير أن يجتزئ في ذلك بقدر عصا الحمار في
(1/474)
الغلظ، وهو
المنغاس، وكذلك لم ير في المدونة أن يجتزئ
بالسوط لرقته، لأنه لا يثبت إذا أقيم وقال ابن
حبيب: لا بأس أن تكون السترة دون مؤخرة الرحل
في الطول أو دون جلة الرمح في الغلظ، وقد كانت
العنزة التي كانت تركز لرسول الله صلى الله
عليه وسلم دون الرمح في الغلظ. وإنما يكره من
ذلك ما كان رقيقاً جداً. قال: ولا يكون السوط
سترة لرقته إلا أن يوجد غيره، وبالله التوفيق.
مسألة
قال: وكان عمر بن الخطاب يقعد بعد الظهر في
المسجد.
قال محمد بن رشد: يريد يقعد للناس يحدثهم بما
يأتيه من أخبار الأجناد، ويحدثونه عن أحاديث
النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك مالك في
سماع ابن القاسم من الجامع عندما ذكر الصلاة
بين الظهر والعصر. ففي هذا جواز التحدث في
المسجد في الأمر المباح دون لغط ولا رفع صوت،
وأن مذاكرة العلم في هذا الوقت أفضل من
الصلاة. وقد مضى القول في هذا في رسم صلى
نهاراً من سماع ابن القاسم. ويحتمل أن يريد
أنه كان يقعد فيه للحكم بين الناس والنظر في
أمور المسلمين. وقد جاء في بعض الآثار عنه أنه
بلغه أن أبا موسى الأشعري يقضي بالعراق في دار
سكناه، فبعث إليه رسولاً من المدينة وأمره أن
يضرمها عليه ناراً، فذهب الرسول إلى أن دخل
العراق فوافى أبا موسى بذلك فخرج فزعاً فقال
له: ما بالك؟ فقال: أمرني أمير المؤمنين أن
أضرمها عليك ناراً لإلتزامك القضاء فيها. ثم
انصرف الرسول من فوره ذلك، فلم يعد أبو موسى
إلى القضاء في داره. فلا ينبغي للقاضي أن يقضي
إلا في المسجد لأن ذلك أقرب إلى التواضع وليصل
الناس إليه، فإن ضمته ضرورة إلى القضاء في
داره فتح بابه ولم يحجب عنه أحداً، وبالله
تعالى التوفيقز
مسألة
قال: وسألته عمن ترك الصلاة، قال: يقال له صل
وإلا ضربت عنقه.
(1/475)
قال محمد بن
رشد: يريد أنه تضرب عنقه إن أبى أن يصلي حتى
خرج الوقت: مغيب الشمس للظهر والعصر أو طلوعها
للصبح، أو طلوع الفجر للمغرب والعشاء. وهذا ما
لا اختلاف فيه في المذهب، وإنما الاختلاف هل
يقتل على ذنب أو على كفر، فمن أهل العلم من
رآه بترك الصلاة كافراً يقتل على ذنب أو على
كفر، فمن أهل العلم من رآه بترك الصلاة كافراً
يقتل على الكفر فلا يرثه ورثته على ظاهر ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله:
((من ترك الصلاة فقد كفر، ومن ترك الصلاة فقد
حبط عمله، ومن ترك الصلاة حشر مع هامان
وقارون))، وقوله: ((من صلى صلاتنا واستقبل
قبلتنا فذلك المسلم له ذمة الله ومن أبى فهو
كافر وعليه الجزية))، وقوله لمحجن: ((ما منعك
أن تصلي معنا ألست برجل مسلم؟)). وقول عمر بن
الخطاب، رضي الله عنه: ولا حظ في الإسلام لمن
ترك الصلاة، وما أشبه ذلك من الآثار. وليس نفس
ترك الصلاة كفراً على الحقيقة، وإنما هو دليل
على الكفر. فمن رآه بترك الصلاة كافراً حكم له
بحكم الكفر ولم يصدقه في قوله إني مؤمن إذا
أبى أن يصلي، فهذا وجه تكفير تارك الصلاة، وهو
بين قائم من قول أصبغ في سماع عيسى من كتاب
المحاربين والمرتدين لمن تأمله. وأما من جحد
فرض الصلاة فهو كافر بإجماع، يستتاب ثلاثاً
فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وبالله التوفيق.
مسألة
قلت له سمعتك تكره للإمام أن يقرأ بسورة فيها
سجدة مخافة اختلاط ذلك على من وراءه، أرأيت إن
كان من خلفه قليلاً
(1/476)
لا يخاف أن
يخلط عليهم؟ فقال: لا أرى بذلك بأساً، وإن
ناساً ليفعلون ذلك.
قال محمد بن رشد: معناه فيما يجهر فيه، وكرهه
في المدونة بكل حال، إذ لا يأمن أن يخلط على
بعضهم وإن كانوا قليلاً. وكره ذلك ابن القاسم
للفذ وحكى أنه هو الذي رأى مالكاً ينحو إليه،
وذلك لما يخشى أن يدخل على نفسه بذلك من
السهو، والله أعلم، إذ قد روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يقرأ يوم الجمعة بسورة
السجدة فسجد فيها، وبسورة هل أتى على الإنسان،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسألته عن المصلي يهوي إلى السجود، فإذا أراد
أن يسجد ذكر أنه لم يركع، قال يرجع قائماً
فيركع مكانه ويسجد، ولو أنه قرأ قبل أن يركع
كان أحب إلي، ثم يركع ويسجد، فإذا قضى الصلاة
سجد سجدتي السهو بعد السلام.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو ذكر ذلك بعد أن سجد
يرجع قائماً فيركع ويلغي ما سجد، ولو ذكر وهو
قائم في الثانية لركع وكانت له أولى صلاته،
وسجد في جميع ذلك بعد السلام. ولا اختلاف
أحفظه في هذه المسألة، وإنما الاختلاف فيمن
كان مع الإمام فترك الركوع معه بسهو أو غفلة
أو نسيان أو زحام أو اشتغال حتى سجد الإمام.
وقد مضى القول في ذلك محدداً في رسم كتب عليه
ذكر حق من سماع ابن القاسم، وتأتي المسألة
متكررة في أول سماع عيسى في رسم لم يدرك منه.
مسألة
وسئل عن تشبيك الأصابع في المسجد أيكره ذلك؟
فقال:
(1/477)
لا، فقال له
أبو المثنى: أخبرني من رأى عبد الله بن هرمز
محتبئاً قد شبك بين أصابعه، فقال مالك: إن
ناساً ليصنعون ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة
في رسم أوله نذر سنة من سماع ابن القاسم
مجرداً فأغنى ذلك عن إعادته ها هنا.
مسألة
وسئل عن الذي يأتي والإمام راكع فيركع معه ولا
يدري أركع فاستمكن من الركوع قبل أن يرفع رأسه
أم لا، أيعتد بها؟ فقال: لا يعتد بها، وأحب
إلي إن كان مثل هذا وخاف أن لا يدري أركع معه
أم سبقه بالركوع أن يدع الركوع معه لئلاً يخلط
على نفسه فلا يدري أهي من صلاته أم لا. ومن
الأئمة يمكنون الناس حتى يركعوا، ومن الأئمة
أئمة يعجلون فلا يستمكن معهم.
قال محمد بن رشد: قوله لا يعتد بها، معناه،
أنه يلغيها ويقضيها بعد سلام الإمام ويسجد بعد
السلام، فجعله كمن شك في ركعة وهو مع الإمام،
ولم يراع قول من قال إن الركعة تجزئه وإن شك
في تمكنه فيها مع الإمام، أو لعله راعاه وأخذ
بالإلغاء كمن ترك قراءة أم القرآن في ركعة.
وقال ابن القاسم في رسم جاع من سماع عيسى إنه
يسلم مع الإمام ويعيد الصلاة ولا يأتي بركعة
مخافة أن تكون خامسة، إذ قد قيل الركعة مجزئة
عنه وإن شك في تمكنه فيها مع الإمام، وهو قول
مالك في مختصر ما ليس بالمختصر لابن شعبان،
قال: لا أحب أن يركع معه إذا خاف أن لا يدرك
الركعة مخافة أن يخلط على نفسه، فإذا ركع وشك
فلا أرى أن يعيد تلك الركعة وذكر عن مجاهد أنه
كان يقول إذا وضعت كفيك على ركبتيك فقد أدركت
الصلاة. فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال كمن
ترك قراءة الحمد في ركعة: أحدها أنه
(1/478)
يعتد بالركعة
وتجزئه صلاته، والثاني أنه لا يعتد بها
ويلغيها ويقضيها، والثالث: أنه يعتد بها ثم
يعيد الصلاة احتياطاً، وبالله التوفيق.
مسألة
قال: وقال لي مالك: قرأ عمر بن عبد العزيز:
((والليل إذا يغشى)) حتى انتهى إلى ((فأنذرتكم
ناراً تلظى)) فخنقته العبرة فسكت، ثم عاد فقرأ
حتى بلغها فخنقته العبرة فسكت، فلما رأى ذلك
تركها وقرأ: ((والسماء والطارق)).
قال محمد بن رشد: هذا من فعل عمر بن عبد
العزيز نهاية الخوف لله تعالى، ومن بلغ هذا
الحد فهو من أهل الجنة بفضل الله تعالى. قال
الله عز وجل: ((ولمن خاف مقام ربه جنتان)).
وقد روى الصلت عن ابن القاسم أنه لا يطلق على
من حلف بالطلاق أن عمر بن عبد العزيز من أهل
الجنة. وسئل مالك عن ذلك فتوقف وقال: عمر بن
العزيز إمام هدى أو قال رجل صالح، وفضائله،
رضي الله عنه، أكثر من أن تحصى. وقول ابن
القاسم بالصواب أولى، لأن الأمة قد أجمعت على
الثناء عليه والشهادة عليه بالخير، وهي
معصومة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لن تجتمع أمتي على ضلالة))، وقال: ((أنتم
شهداء الله في الأرض فمن أثنيتم عليه بخير
وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له
النار))، وبالله التوفيق.
(1/479)
مسألة
وسألته عن الذي يسبق الإمام بالسجود ثم يسجد
الإمام وهو ساجد، أيثبت الرجل على سجوده [أم
يرفع رأسه ثم يسجد حتى يكون سجوده بعد سجود
الإمام؟ فقال: بل يثبت على سجود كما هو] إذا
أدركه الإمام بسجوده وهو ساجد.
قال محمد بن رشد: وكذلك الذي يسبق الإمام
بالركوع يرفع ما لم يركع الإمام، فإن ركع
الإمام ثبت على ركوعه ولم يرفع رأسه حتى يكون
ركوعه بعد ركوع الإمام. ولا كلام في هذين
الوجهين، وإنما الكلام إذا سبق الإمام
بالسجود، أو الركوع يرجع راكعاً أو ساجداً حتى
يكون رفعه مع الإمام إلا أن يلحقه الإمام قبل
أن يرجع، فليثبت معه بحاله ولا يعود إلى
الركوع ولا إلى السجود، وهو محمول عند من
أدركنا من الشيوخ على أنه مذهب مالك ـ رحمه
الله ـ وقد رأيت له نحوه في النوادر من رواية
ابن القاسم. وقد روي عن عمر بن الخطاب وعبد
الله بن مسعود أنهما قالا: ((إذا رفع أحدكم
رأسه والإمام ساجد فليسجد فإذا رفع الإمام
رأسه فليمكث قدر ما رفع قلبه))، بدليل ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: ((لا
تبادروني إلى الركوع والسجود فإني قد بدنت
وإني مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني إذا
رفعت ومهما أسبقكم به إذا سجدت تدركوني به إذا
رفعت))، ومن قوله: ((إن الإمام يسجد قبلكم
ويرفع قبلكم فتلك بتلك)) لأن ذلك يدل على وجوب
قضاء ما سبقه به الإمام من الركوع والسجود حتى
يستوفي قدر
(1/480)
ركوع الإمام
وسجوده. فإذا وجب على من رفع من ركوعه أو
سجوده قبل الإمام فرجع إلى الركوع أو السجود
أن يثبت راكعاً أو ساجداً بعده قدر ما رفع
قبله ليستوفي قدر ركوع الإمام أو سجوده على ما
روي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود،
وعلى ما دل عليه ما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم وجب على من رفع من ركوعه أو سجوده
قبل الإمام فلحقه الإمام قبل أن يرجع إليهما
حتى يقضي ما فاته منهما. وقد حكى ابن سحنون
أنه رأى أباه سحنوناً يفعل ذلك.
فإن قال قائل: إذا لزمه أن يرجع إلى الركوع
والسجود ليستوفي ما فاته منهما فيلزمه أيضاً
في الذي يسبق الإمام بسجوده ثم يسجد الإمام
وهو ساجد أن يرجع إلى القيام ليستوفي ما فاته
منه.
قيل له: لا يلزم ذلك. والفرق بين الموضعين أن
الركوع والسجود شرع فيهما التطويل فانبغى أن
يقضي ما فاته منهما، والقيام بعد الركوع لم
يشرع فيه التطويل فلم يجب أن يقضي ما فاته
منه، وكذلك الجلوس بين السجدتين. ولا يلزمنا
على هذا القيام قبل الركوع إذ قد شرع فيه
التطويل لأن موضع مخصوص بالإجماع، والله أعلم.
مسألة
قال: وسألته عن حمل رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله
عليه وسلم على رقبته يحملها إذا قام ويضعها
إذا سجد، أذلك جائز للناس اليوم على حب الولد
أو الضرورة؟ فقال: ذلك جائز على حال الضرورة
إلى ذلك، فأما من يجد من يكفيه ذلك فلا أرى
ذلك ولا أرى ذلك على حب الرجل ولده.
قال محمد بن رشد: حمل مالك، رضي الله عنه، ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا على
أنه إنما فعله لحاجة وضرورة، فأجاز ذلك عند
الضرورة، ولم يجز ذلك لغير الضرورة ولا على حب
الرجل ولده. فإن فعل
(1/481)
ولم يشغله عن
صلاته فلا إعادة عليه، قاله ابن القاسم في
سماع موسى بن معاوية. وينبغي أن يحمل على
التفسير لقول مالك: وليس في الأحاديث ما يدل
على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك
من ضرورة، وظاهرها العموم. وقد ذهب بعض
العلماء إلى أن ذلك كان في أول الإسلام، وحين
كان يجوز في الصلاة الكلام، ثم نسخ ذلك كما
نسخ الكلام، فروي عن زيد بن أرقم قال: كنا
نتكلم في الصلاة حتى نزلت: ((وقوموا لله
قانتين))، فأمرنا بالسكوت والقنوت والخشوع
والإقبال على الصلاة وترك الاشتغال بغيرها من
فعل ومن قول. وقد مضى العمل في الصدر الأول
وما بعده على ترك مثل هذه الأفعال في الصلاة،
فدل على أنهم علموا النسخ فيها، إذ لا يجمعون
على خلاف ما فعله رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا بعد ثبوت نسخ ذلك عندهم، والله أعلم.
مسألة
وسئل عن الرجل يدخل المسجد يصلي والصبي أمامه
في الصف وهو ممن لا يتحفظ في الوضوء، فقال:
أرجو أن يكون ذلك واسعاً.
قال محمد بن رشد: قوله أرجو أن يكون ذلك
واسعاً يدل على أن الاختيار عنده أن يتنحى عنه
حتى لا يكون في قبلته، وسيأتي بيان هذا في رسم
الجواب من سماع عيسى.
مسألة
وسئل عن المسافرين ينزلون بالقرية، فيحبسهم
الرجل من أهل القرية فيريدون أن يقدموه ليتم
بهم الصلاة. فقال: لا أحبه،
(1/482)
أحب إلي أن
يقدموا رجلاً منهم ليقصر بهم. قال: وبلغني أن
سالم بن عبد الله كان يسافر فيقال له إذا نزل
القرية هذا أمير القرية، وهذه الصلاة وهذه
الجمعة فلا يأتيه، قلت له: ولم ترك ذلك يا أبا
عبد الله؟ فقال: أرى ذلك أنه يجب أن يصلي صلاة
المسافر ويكون على حاله، ما كان ألزم الناس
لما أدركوا عليه أوليتهم! وما ذلك بسواء. أما
إذا نزل المسافرون برجل في غنمه أو قريته
فأرادوا أن يجمعوا معه فأرى ذلك ولا أرى به
بأساً، لأن أحق بمنزله ومسجده. وكان ابن عمر
يصلي بمنى مع الإمام أربعاً، فإذا صلى وحده
صلى ركعتين. ولقد كان منزله واسعاً لو شاء صلى
وحده فما أرى بذلك بأساً. قال: وصاحب المنزل
أولى بالصلاة بهم، فقلت: وإن كان عبداً؟ قال:
نعم وإن كان عبداً. وقد كان عبد لعائشة يؤمها
في الصلاة وعندها ناس يصلي بها وبهم. قلت له:
أيؤم العبد في رمضان؟ قال: أما في مساجد
الجماعات فلا، وأما في أهله فلا بأس بذلك.
قال الإمام أبو الوليد: قد مضى في أول رسم من
سماع ابن القاسم وفي رسم شك ي طوافه منه القول
في تقديم المسافرين للمقيم ليتم بهم الصلاة،
وفي رسم باع غلاماً منه الوجه في كون صاحب
المنزل أولى بالإمامة فيه، فلا معنى لإعادة
شيء من ذلك هنا، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الذي يأتي المسجد المرتفع المعلق على
العمد والصلاة قائمة فلا يجد فيه موضعاً،
أيجزئه أن يصلى تحته بصلاته؟ فقال ما يعجبني
أن يصلي أمامه، ولكن لو صلى في الفضاء من
(1/483)
ورائه. فقلت
له: أرأيت القوم يكونون في السفينة فتضيق عنهم
فيكون بعضهم فوقها وبعضهم فيها، فقال: ليس
السفينة مثل هذا ولا بأس بذلك، صاحب السفينة
في البحر لا يجد بداً من ذلك. قيل له: فأين
أحب إليك أن يكون الإمام؟ فقال لا أدري أي ذلك
أصوب؟ أرأيت لو لم تضق السفينة أين كان يكون
الإمام؟ قيل أرأيت إذا كان القوم تضيق عليهم
السفينة حتى لا يقدروا أن يصلوا إلا جلوساً
أيصلون؟ قال: إن كانوا لا يقدرون على البر ولا
على الصلاة قياماً فأرى ذلك لهم.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك ـ رحمه الله ـ أن
الإمام إذا صلى بقوم في موضع مرتفع جاز للرجل
أن يصلي بصلاته في موضع أخفض منه إلا أن يكون
أمام الإمام فإنه يكره ذلك له ابتداءً، فإن
فعل أجزأته صلاته. هذا معنى قوله في المدونة.
وهو نص قوله في هذه الرواية في المسجد المرتفع
المعلق على العمد. وأجاز في السفينة إذا صلى
الإمام فوقها بمن معه أن يصلي من فيها بصلاتهم
وإن كانوا أمام الإمام إذ لا يجدون من ذلك
بداً كما قال، لأنه موضع ضرورة. وكذلك على
مذهبه إذا صلى الإمام بقوم في موضع منخفض جاز
للرجل أن يصلي بصلاتهم في مكان أرفع منه، لأنه
لم يكره في المدونة الصلاة على قيقعان وأبي
قبيس بصلاة الإمام في المسجد الحرام إلا من
أجل بعدهما عن الإمام مع ارتفاعهما، لا من أجل
ارتفاعهما خاصة، إلا أن يكون الموضع الذي صلى
عليه ظهر المسجد والإمام مع جماعته داخل
المسجد، فاختلف في ذلك قول مالك في المدونة
أجازه مرة وكرهه أخرى، بخلاف الجمعة، إذ لم
يختلف قوله في أن الجمعة لا يصليها أحد فوق
ظهر المسجد، فإن فعل أعاد في الوقت وبعده،
قاله ابن القاسم في المدونة، ومالك في
المبسوطة، وقبل لا إعادة عليه، وهو قول أشبه
ومطرف وابن الماجشون وأصبغ في المدنية، وقال
ابن الماجشون جائز للمؤذن أن
(1/484)
يصلي الجمعة
فوق ظهر المسجد لأنه موضع أذانه، وظهر السفينة
هو موضع الركوب، فإن ضاقت السفينة عن أهلها
فكان بعضهم فوقها وبعضهم أسفلها صلى الذين فوق
بإمام، والذي أسفل بإمام، قاله في المدونة،
لأنهما موضعان. فإن لم يكن لهم إلا إمام واحد
فالاختيار أن يكون فوق حيث معظم الناس، وهو
ظاهر قوله في هذه الرواية أرأيت لو لم تضق
السفينة أين كان يكون الإمام؟ بخلاف المسجد
إذا كان له طبقتان لا يجوز أن يصلي في كل طبقة
إمام، ويصلي الإمام بالجماعة في إحدى
الطبقتين، فإن لم تحمل الطبقة الواحدة الجماعة
في إحدى الطبقتين، فإن لم تحمل الطبقة من ضاقت
عنهم الطبقة فإن صلى الإمام أسفل، ويصلي فوق
من الناس من ضاقت عنهم الطبقة فإن صلى الإمام
فوق وصلى أسفل من الناس من ضاقت عليهم الطبقة
العليا جاز، ولا ينبغي أن يكون الإمام وحده
دون الجماعة في موضع أرفع منهم ولا أخفض إلا
أن يكون ذلك يسيراً، فإن فعل بقصد إلى ذلك
لتكبره عليهم أو تكبرهم عليه أعادوا في الوقت
وبعده، لنهم عابثون. وإن صلى الإمام في مكان
أرفع ممن خلفه من غير قصد إلى ذلك، مثل أن
يكون الإمام فوق سقف السفينة والقوم تحثه
فيصلون على حالهم فقد أساؤوا، وصلاتهم تامة.
وكذلك لو افتتح الرجل صلاته في موضع مرتفع
فأتى قوم فائتموا به. واختلف إذا كان الإمام
أسفل والقوم فوق السقف، فقال في المدونة لا
بأس بذلك. وعلى ما في سماع موسى بن معاوية لا
ينبغي ذلك، لأنه قال: إذا كان الإمام أرفع ممن
خلفه، أرفع منه فلا بأس به إذا تقارب ذلك
فساوى بين الوجهين.
مسألة
وقد رأى سعد بن أبي وقاص رجلاً بين عينيه سجد،
فدعاه فقال: منذ متى أسلمت؟ فقال: منذ كذا
وكذا، فقال له سعد فأنا قد أسلمت منذ كذا
وكذا، فهل ترى بين عيني شيئاً؟
قال محمد بن رشد: كره له سعد ـ رضي الله عنه ـ
أن يشد جبهته
(1/485)
بالأرض حتى
يؤثر فيها السجود فيبدو ذلك للناس، إذ ليس ذلك
المراد بقول الله عز وجل: ((سيماهم في وجوههم
من أثر السجود))، وإنما هو ما يعتريهم من
الصفرة والنحول بكثرة العبادة أو سهر الليل،
وقيل إن ذلك في الآخرة لا في الدنيا. ولعله
اتهمه أن يكون قصد بذلك ليعرف به، فلذلك وبخه
بما قرره عليه في الرواية والله أعلم. وقد روي
أن عمر بن عبد العزيز استعمل عروة بن عياض على
مكة، فاستعذاه عليه رجل ذكر أنه سجنه في حق
فلم يخرجه من السجن حتى باع ماله منه بثلاثة
آلاف وقد كان أعطاه به ستة آلاف فأبى أن يبيعه
منه واستحلفه بالطلاق ألا يخاصمه في ذلك
أبداً، فنظر عمر إلى عروة ونكت بالخيزارن بين
عينيه في سجدته ثم قال: هذه غرتني منك لسجدته،
ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي لأمرت
بموضع السجود فقور، ثم قال للرجل اذهب فقد
رددت عليك مالك ولا حنث عليك، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل أيكره من أذان الصبي وإقامته ما يكره من
إمامته؟ فقال: نعم، لا يؤذن الصبي ولا يقيم
إلا أن يكون مع نساء أو في الموضع الذي لا
يوجد غيره يغيب الرجل فيؤذن لهم ويقيم كذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن المؤذن
معلم بالأوقات مؤتمن على مراعاتها مصدق قوله
فيها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن)) فلا يصح أن
يؤتمن ويصدق إلا من تعلم أمانته وتجوز شهادته،
وبالله التوفيق.
(1/486)
مسألة
وسئل عن الذي يسهو فيتكلم وهو جالس قبل
السلام، قال يسجد سجدتين. قيل أرأيت إن أحدث
قبل السلام؟ قال: يعيد الصلاة.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على المذهب لا يخرج
من الصلاة إلا بسلام، لقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((تحريم الصلاة التكبير وتحليلها
السلام)) فسواء على المذهب تكلم أو أحدث بعد
التشهد قبل السلام أو في أثناء صلاته. وأهل
العراق يقولون إذا جلس في آخر صلاته مقدار
التشهد فقد خرج من الصلاة وإن لم يسلم،
ويتعلقون بما روي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: ((إذا أحدث الرجل وقد جلس في آخر
صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته)). فعلى
قولهم لا يضره الحدث ولا الكلام بعد الجلوس
وقبل السلام. وقد راعى ابن القاسم قولهم في
رسم يدير ماله من سماع عيسى فقال إن الإمام
إذا أحدث بعد التشهد فتمادى حتى سلم بهم
متعمداً أن صلاتهم مجزئة، يريد وتبطل عليه هو.
مسألة
قال لي: رأيت صفوان بن سليم يصلي وهو متوكئ
على عصا قد جعل على رأسها عصائب من خرق يمسك
عليها يديه جميعاً، فيجعل إحدى يديه على
الأخرى يجعلها أمام وجهه، فقلت لمالك: أفترى
ذلك في النافلة؟ فقال لا بأس بذلك في النافلة
(1/487)
والمكتوبة إذا
كان من ضعف. قلت له: فأحب إليك أن يصلي المرء
جالساً أو متوكئاً على عصا؟ فقال: إن قدر أن
يتوكأ على عصا فأحب إلي أن يصلي متوكئاً من أن
يجلس في المكتوبة والنافلة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأنه إذا لم
يقدر على أن يستقل قائماً إلا أن يعتمد على
شيء فقد سقط عنه فرض القيام وجاز له أن يصلي
جالساً في المكتوبة، وإن كان أحب إليه أن يصلي
قائماً متوكئاً لأنه لما سقط عنه فرض القيام
صار له نافلة وفضيلة كما هو في النافلة.
مسألة
قيل له أرأيت الرجل الضعيف أترى أن يصلي
قائماً بالسورة القصيرة: ((قل هو الله أحد))
أو أحب إليك أن يصلي جالساً ويقرأ من السور
الطوال في الصبح والظهر؟ قال أحب إلي أن يصلي
قائماً.
قال محمد بن رشد: قوله أحب إلي أن يصلي قائماً
لفظ فيه تجاوز وليس على ظاهره، بل الواجب عليه
أن يصلي قائماً] ولو لم يقدر منه إلا على قدر
ما يقع فيه أم القرآن لم تجزئه صلاته جالساً،
لأن القيام عليه فرض، والتطويل مستحب، فلا
يسقط الفرض عنه بضعفه عن الاستحباب، وهذا بين،
والله أعلم.
مسألة
وسألته عن المريض لا يجد من يعطيه الماء ولا
يقدر على أخذه، فقال يتيمم ويصلي. قلت له:
وترى أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها؟ قال: لا،
بل على وسط الوقت.
(1/488)
وسألته عن أبي
لؤلؤة حين طعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ
طعنه وهو في الصلاة أو قبل؟ فقال قبل أن يدخل
في الصلاة.
قال محمد بن رشد: قوله إن المريض الذي لا يجد
من يعطيه الماء ولا يقدر على أخذه يتيمم ويصلي
صحيح لا اختلاف فيه، لأنه غير واحد للماء ولا
قادر عليه، والله عز وجل يقول: ((فلم تجدوا
ماء فتيمموا صعيداً طيباً)). وإنما اختلفوا في
المريض الذي لا يقدر على مس الماء لمرضه وهو
واجد له، فمن حمل الآية على ظاهرها ولم يقدر
فيها تقديماً ولا تأخيراً رآه من أهل التيمم،
وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في
المدونة، ومن قدر فيها تقديماً وتأخيراً لم
يره من أهل التيمم لأنه يعيد شرط عدم الماء
على المرض والسفر، وهو قول مالك في أول رسم
الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء.
وقد مضى القول عليه هناك. وقوله إنه يؤخر إلى
وسط القول هو مثل ما في المدونة، ويريد به وسط
الوقت المختار. والوجه في ذلك أن فضيلة الماء
أفضل من فضيلة أول الوقت، فهو يؤخر الصلاة عن
أول وقتها رجاء أن يجد الماء الذي هو أفضل،
فإن لم يجده إلى وسط الوقت [المختار] أمر أن
يتيمم ليدرك فضيلة ما بقي من الوقت مخافة أن
يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت فلا يجد الماء
فتفوته الفضيلتان جميعاً. وذهب ابن حبيب إلى
أنه يؤخر على آخر الوقت المستحب ثم يتيمم
ويصلي، فإن وجد الماء في بقية من الوقت أعاد.
وقول مالك أظهر لما ذكرناه، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الرجل يدخل المسجد والإمام ساجد،
فقال:
(1/489)
الصواب أن يسجد
ولا يعتد بذلك من صلاته. قيل له: أرأيت الذي
إذا رآهم سجوداً أرفق في المشي حتى يسبقوه
بتلك السجدة؟ فقال ما أرى أن يفعل. قيل له:
أرأيت إذا جاء وهو ساجد فكبر ثم سجد معه إذا
قام أيبتدئ بتكبيرة الإحرام أم تكفيه تلك
التكبيرة؟ فقال: تكفيه تلك التكبيرة.
قال محمد بن رشد: قوله إن يسجد التي أدركها مع
الإمام ولا يعتد بها هو مثل ما في المدونة
وغيرها ولا اختلاف فيه، وإنما أوجب عليه أن
يسجدها مع الإمام لقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها
وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم
فصلوا)) وهو مدرك لها مع الإمام فوجب أن
يصليها. وإنما وجب أن يقضي الركوع الذي لم
يدرك وجب أن يقضي السجود المتصل به، لقول عبد
الله بن عمر: إذا فاتتك الركعة فقد فاتتك
السجدة، فهو مدرك للسجدة في وجوب اتباع الإمام
فيها، وفي حكم من لم يدركها في وجوب قضائها
بعد سلام الإمام. وقوله إ،ه يكتفي بتلك
التكبيرة التي كبر حين دخل مع الإمام ولا يكبر
إذا قام خلاف ما في المدونة من أنه إذا أدرك
الإمام في التشهد الآخر قام بتكبير، إلا أنه
صحيح على قياس ما أصله فيها من أنه إذا جلس مع
الإمام في موضع ليس له موضع جلوس قام بغير
تكبير، فهو تناقض من قوله في المدونة. وقد فرق
بين المسألتين بتفاريق لا تسلم من الاعتراض،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الذي يقرأ في نفسه في الصلاة لا يسمع
أحداً
(1/490)
ولا نفسه ولا
يحرك به لساناً، قال: ليست هذه قراءة، وإنما
القراءة ما حرك به اللسان. ولا بأس أن يرفع
المرء صوته بالقراءة إذا كان وحده وكان في
بيته، ولعل ذلك يكون أنشط له وأقوى له على
ذلك. وقد كان الناس بالمدينة يرفعون أصواتهم
بالقراءة من جوف الليل حتى إن القوم يريدون
السفر فيقولون موعدكم الساعة التي يقوم فيها
القرآن.
قال محمد بن رشد: أما قراءة الرجل في نفسه ولم
يحرك بها لسانه ليست بقراءة صحيح، لأن القراءة
إنما هي النطق باللسان، وعليها تقع المجازاة.
والدليل على ذلك قول الله عز وجل: ((لها ما
كسب وعليها ما اكتسب)) وقول النبي صلى الله
عليه وسلم: ((تجاوز الله لأمتي عما حدثت به
أنفسها، مما لم ينطق به لسان أو تعمل به يد))،
فكما لا يؤاخذ الإنسان بما حدثت به نفسه من
الشر ولا يضره، فكذلك لا يجازى على ما حدث به
نفسه من القراءة أو الخير المجازاة التي يجازى
بها على تحريك اللسان بالقراءة وفعل الخير.
وأجاز للذي يصلي من الليل أن يرفع صوته
بالقراءة وإن كان في ذلك إظهار لعمله لما في
ذلك من العون له على الصلاة والنشاط عليها
لقوله لا بأس بذلك، واستحب ذلك له في رسم شك
في طوافه من سماع ابن القاسم. وقد مضى القول
هنالك في وجه ذلك، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الذي يجد الإمام راكعاً، قال: أحب إلي
ألا يركع
(1/491)
حتى يصل إلى
الصف، قيل: أرأيت الذي يدخل وقد أحرم الإمام
أيحرم أم يمشي فيصل الصف، قال بل يؤخر ذلك حتى
يصل الصف ثم يكبر، لقوله تعالى: ((وقوموا لله
قانتين))، وهذا يمشي.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة
في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم
مستوفى فلا وجه لإعادته.
مسألة
قال وسألته متى يكبر في عيد الفطر؟ قال: يكبر
حين يغدو إلى المصلى إلى أن يرقى الإمام
المنبر وإلى أن يسكت الإمام عن التكبير. قال:
وينزل إلى العيدين من مثل ما ينزل به للجمعة
ثلاثة أميال.
قال محمد بن رشد: قد مضى في آخر رسم حلف بطلاق
امرأته من سماع ابن القاسم القول في التكبير
في العيدين، وفي رسم صلاة الاستسقاء من هذا
السماع القول في حد النزول إليها وإلى الجمعة،
فأغنى ذلك عن إعادتها هنا.
مسألة
وسئل عمن كان خلف الإمام فقال سبحان الله
بكرةً وأصيلاً، فقال: لا أحب أن يفعل ذلك ولا
أرى عليه إعادة الصلاة.
قال القاضي أبو الوليد: هذا من التسبيح الحسن،
فإنما كرهه ـ والله أعلم ـ إذا قاله والإمام
يسمع كالجواب لما سمعه من قراءته، كنحو ما مضى
في هذا الرسم من قول القائل في صلاته إذا قرأ
الإمام: ((قل هو
(1/492)
الله أحد)):
كذلك الله وما أشبه ذلك . وسيأتي في سماع ابن
معاوية نحو هذا المعنى.
مسألة
وسألته عن امرأة انقطع عنها الحيض سنين ثم رأت
صفوة، أترى أن تدع الصلاة؟ فقال: يسأل النساء
عن ذلك وتصف لهن شأنها، فإن قلن إن النساء
يرين مثل هذا من الحيضة فلتدع الصلاة.
قال المؤلف: الصفرة من الدم، فإن رأته وهي في
سن من تحيض من النساء أمسكت عن الصلاة. ولما
لم يكن في ذلك حد يرجع إليه في القرآن والسنة
وجب أن يرجع فيه إلى العادة، ولذلك قال إنه
يسأل عنه النساء وهذا معنى ما في المدونة
وغيرها، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الصبي إذا أثغر فقال إذا أثغر الصبي:
أمر بالصلاة وأدب عليها ولا يضرب بعض الضرب.
قال محمد بن رشد: ولا يضرب بعض الضرب، معناه
ولا يضرب بعض الضرب الذي يضربه كثير من الناس
فيتعدى في الضرب، يريد أنه لا يضرب إلا ضرباً
خفيفاً. ووقع في بعض الكتب مكان ولا يضرب وإلا
ضرب، وهو خطأ لا معنى له. قوله إنه يؤدب على
الصلاة إذا أثغر خلاف ظاهر ما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم من قوله: ((إذ بلغ الصبيان
سبع سنين فمروهم بالصلاة وإذا بلغوا عشر سنين
فاضربوهم عليها وفرقوا بينهم في
(1/493)
المضاجع)) وفي
رسم الجواب من سماع عيسى أنه يفرق بينهم في
المضاجع إذا أثغروا وهو خلاف ظاهر ما في
الحديث أيضاً والله أعلم.
مسألة
وسألته عن الحامل ترى الماء الأبيض على حملها،
فقال: ليس ذلك بشيء وأرى أن تصلي به.
قال محمد بن رشد: قوله ليس ذلك بشيء يدل على
أنه لم ير عليها غسلاً ولا وضوءاً، وهو
الصواب، خلاف قول ابن القاسم في رسم الجواب من
سماع عيسى من كتاب الوضوء إن عليها الوضوء.
وقد مضى القول على ذلك هناك، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن التسليمة الواحدة في الصلاة، فقال على
ذلك كان الأمر، ما كانت الأئمة ولا غيرهم
يسلمون إلا واحدة، وإنما أحدث تسليمتان منذ
كانت بنو هاشم.
قال المؤلف: قد مضى القول في هذه المسألة في
آخر رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، ومضى
من معناها في رسم نذر سنة ورسم المحرم منه.
مسألة
قال: وقد قال عمر بن الخطاب إن مسجدنا هذا لا
يرفع فيه الصوت.
قال محمد بن رشد: ليس في قوله ـ رضي الله عنه
ـ إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت دليل على
أن ذلك جائز في غيره من المساجد، لأن
(1/494)
معنى قوله إن
مسجدنا هذا الذي أحضره لا يرفع فيه الصوت،
لأني أمنع من ذلك، يريد وكذلك ينبغي لكل وال
أن يفعل بمسجد موضعه. والأصل في ذلك ما روي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((جنبوا
مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم وبيعكم
وسل سيوفكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم))،
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من سمع رجلاً ينشد
ضالة في المسجد فليقل لا أداها الله إليك فإن
المساجد لم تبن لهذا))، فرفع الصوت في المسجد
مكروه حتى في العلم. قال ابن حبيب: ولقد كنت
أرى بالمدينة رسول أميرها يقف بابن الماجشون
في مجلسه إذا استعلى كلامه وكلام أهل مجلسه في
العلم يقول: يا أبا مروان اخفض صوتك وأمر
جلساءك يخفضوا أصواتهم.
مسألة
قال وسألته عن الذي يقرأ بالناس في رمضان،
أيكره له أن يسر بالاستعاذة أو يجهر بها؟
فقال: أما في نفسه فليستعذ إن شاء، وأنا أكره
له أن يجهر بذلك ولا أجيزه، وأنا أحب له أن
يستفتح القراءة ((بالحمد لله رب العالمين)).
ووصف الذين يقولون أعوذ بالسميع العليم من
الشيطان الرجيم، ((وأعوذ بك رب أن يحضرون، إن
الله هو السميع العليم))، فعابه وكرهه
(1/495)
ونهى عنه، فقيل
له إنما يحتج بقول الله عز وجل: ((وإذا قرأت
القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)) قال:
أفرأيت قوله ((وأعوذ بك رب أن يحضرون إن الله
هو السميع العليم)). قلت له أفتجيز له أن
يستعيذ من الشيطان الرجيم؟ قال: لا ولكن هو
أيسر.
قال محمد بن رشد: كراهة الجهر بالاستعاذة في
قيام رمضان خلاف قوله في المدونة. ووجه هذا أن
الاستعاذة لما لم تكن من القرآن كره أن يجهر
بها في قيامه كما يجهر بقراءة القرآن فيه،
وأجاز أن يستعيذ في نفسه لقول الله عز وجل:
((فإذ قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان
الرجيم))، ولم ير ذلك واجباً عليه، لأن الأمر
بذلك عنده على الندب لا على الوجوب. ووجه ما
في المدونة الاتباع، وبذلك علل قوله فيها، ولم
يزل القراء يتعوذون. وأما استحبابه له أن
يستفتح القراءة ((بالحمد لله رب العالمين))
ولا يقول بسم الله الرحمن الرحيم، فقد مضى ما
في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، وبالله
التوفيق.
مسألة
وسألته عن المريض يكون في المحمل فلو نزل يصلي
المكتوبة في الأرض صلى إيماء، أيجزئ عنه أن
يصلي على المحمل؟ قال: أرجو أن يجزئ عنه ذلك،
ولكن يوقف له البعير موجهاً إلى القبلة، وأحب
إلي أن ينزل فيصلي بالأرض.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في رسم سن من
سماع ابن القاسم مثل قول ابن عبد الحكم فيه،
ورواية يحيى فيه أيضاً عن ابن القاسم
(1/496)
قول ثالث. وقد
مضى بيان ذلك كله في سماع ابن القاسم المذكور،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الذي يأتي إلى الجمعة والإمام جالس
فيكبر ويجلس وسلم الإمام فيقوم، أيكبر تكبيرة
أخرى أم تكفيه التكبيرة الأولى: قال: تكفيه
الأولى ولا إقامة عليه ويصلي أربعا.
قال محمد بن رشد: استحب في رسم طلق بن حبيب من
سماع ابن القاسم أن يبتدئ بتكبيرة أخرى، وقد
مضى القول هناك على ذلك فلا وجه لإعادته،
وبالله التوفيق.
ومن كتاب صلاة العيدين
مسألة
قال: وسئل عن أهل القرى الذين لا جمعة عليهم،
أيصلون العيدين؟ فقال ما رأيت أن يصلي العيدين
إلا من يصلي الجمعة.
قال محمد بن رشد: لم ير في هذه الرواية أن
يصلي العيدين بجماعة وخطبة من لا تجب عليهم
الجمعة، وقال في أول رسم من سماع عيسى إنه لا
بأس أن يجتمعوا ويصلوا صلاة العيدين بغير
خطبة، وإن خطب فحسن، خلاف هذه الرواية. وفي
المدونة في هذه المسألة اختلاف في الرواية.
وأما إذا كانوا ممن تجب عليهم الجمعة فلا
اختلاف في أنهم يصلون صلاة العيدين على وجهها
بخطبة، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن غسل العيدين أقبل الفجر أم بعده؟
فقال: ذلك واسع، من الناس من يغدو قبل الفجر.
(1/497)
قال محمد بن
رشد: قد مرت هذه المسألة في صدر رسم الصلاة
الأول وفي آخره من هذا السماع، ومضى القول
عليها في رسم الصدر المذكور بما أغنى عن
إعادته هنا، وبالله التوفيق.
ومن كتاب العقول
مسألة
قال: وقال مالك: سمعت ربيعة يسأل عن المصلي
لله ثم يقع في نفسه أنه يجب أن يعلم ويحب أن
يلفى في طريق المسجد ويكره أن يلفى في طريق
غيره، فلا أدري ما أجابه به ربيعة، غير أني
أقول إذا كان أصل ذلك ولوه لله فلا أرى به
بأساً، وإن المرء يحب أن يكون صالحاً، وإن هذا
ليكون من الشيطان يتصدق فيقول له إنك لتحب أن
يعلم ليمنعه من ذلك. قلت له: فإذا كان أصل ذلك
لله لم تر به بأساً؟ فقال: إي والله ما أرى
بذلك بأساً، وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم: ((ما شجرة لا يسقط ورقها شتاءً ولا
صيفاً))، قال عبد الله بن عمر: فوقع في قلبي
أنها النخلة فأردت أن أقولها، فقال له عمر:
لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا، فأي شيء
هذا إلا هذا، وإنما هذا أمر يكون في القلب لا
يملك، قال الله تبارك وتعالى: ((وألقيت عليك
محبة مني))، وقال: ((واجعل لي لسان صدق في
الآخرين)).
قال محمد بن رشد: وقع في هذه الرواية أنه لم
يدر بما أجابه به ربيعة، وقد وقع في سماع ابن
القاسم من كتاب الصدقات أنه أنكر ذلك من
(1/498)
سؤال السائل
ولم يعجبه أن يحب أحد أن يرى في شيء من
الأعمال الخير والبر. والذي ذهب إليه مالك
رحمه الله من أنه لا بأس بذلك إذا كان أصل ذلك
وأوله لله تعالى هو الصحيح إن شاء الله تعالى.
روي عن معاذ بن جبل أنه قال: ((يا رسول الله
ليس من بني سلمة إلا مقاتل فمنهم من القتال
طبيعته، ومنهم من يقاتل رياءً، ومنهم من يقاتل
احتساباً، فأي ذلك الشهيد من أهل الجنة؟ فقال:
يا معاذ بن جبل من قاتل على شيء من هذه الخصال
أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فتقل
فهو شهيد من أهل الجنة)). وهذا نص في موضع
الخلاف.
سماع عيسى بن دينار من كتاب أوله نقدها نقدها
مسألة
قال عيسى: سئل مالك عن الذي يحرم مع الإمام ثم
يسهو فيركع ويسجد والآخر ساه أو مشتغل أو
غافل، وذلك في الركعة الأولى أو غيرها،
أيتبعه؟ قال ابن القاسم: قال لي مالك: في هذه
أقاويل ثلاثة: أحدها أنه قال يتبعه ما لم يرفع
من الركعة التي نهض إليها، والثاني أنه يتبعه
ما لم يرفع رأسه من سجود الركعة التي غفل
عنها، والثالث إن كان في الركعة الأولى فلا
يتبعه رأساً، وإن كان في غيرها ابتعه إن طمع
أن يدركه في السجود، وإن لم يطمع فلا يتبعه،
وليس فيها قول أبين من هذا. قال: ثم سألته عن
الرجل يصلي مع الإمام فيزحم أو يغفل ينعس عن
الركوع مع الإمام حتى
(1/499)
يرفع الإمام
رأسه من ركعته، قال ابن القاسم: إن كان في أول
ركعة دخل مع الإمام في سجوده ولم يركع بعده
ويتبعه كما وصفت ويكون كالداخل، والزحام
والغفلة والنعسة في هذا سواء. قال ابن وهب
وأشهب مثله. قال ابن القاسم: وإذا عقد مع
الإمام الركعة الأولى وتمت له بسجدتيها ثم عرض
له في الركعة الثانية فإنه يركع ويتبعه ما رجا
أن يدركه في سجوده، إلا في الزحام فإنه في
الأولى والثانية والرابعة سواء، ويعمل في
الثانية كما يعمل في الأولى. قال ابن وهب
وأشهب: الغفلة والنعسة والزحام كل ذلك سواء،
يركع ويتبعه ما طمع أن يدركه في سجوده. قال
ابن القاسم: ولو اشتغل رجل بحل إزاره أو ربطه
حتى سبقه الإمام بالركعة، وذلك فيما بعد
الأولى، فأنا أرى أن يتبعه ما طمع أن يدركه في
سجوده.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول في
تحصيلها في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن
القاسم، فلا معنى لإعادة القول فيها ها هنا.
وضمت أيضاً في رسم الصلاة الثاني من سماع
أشهب، وستأتي متكررة أيضاً في رسم لم يدرك بعد
هذا.
مسألة
وقال في صلاة أهل البادية العيدين بجماعة
يجتمعون لذلك بحيث لا تجب الجمعة إنه لا بأس
بذلك، إن شاؤوا فعلوا، يصلي بهم رجل منهم
ركعتين ويكبر تكبيرة الفطر والأضحى وإن لم
يخطب، وإن خطب فحسن، ولا أرى الخطبة في مثل
هذا إلا في المدائن والقرى التي تجب فيها
الجمعة، وإن كانت قرية وبيوت متصلة يجوز أن
يجمع فيها الجمعة فلا يصلون العيدين إلا
بخطبة،
(1/500)
وإن لم يكونوا
يجمعون. ولا ينبغي لهؤلاء أن يتركوا الجمعة
كان عليهم وال أو لم يكن، أمرهم الوالي بذلك
أو لم يأمرهم، فإن الله حقوقاً في أرضه لا
تترك لشيء الجمعة من ذلك. قال والخصوص حقوقاً
في أرضه لا تترك لشيء الجمعة من ذلك. قال
والخصوص والمحال إذا كانت مساكنهم كمساكن
القرى في اجتماعها وكان لهم عدد لم يحل لهم أن
يتركوا الجمعة، وليخطب بهم رجل منهم، ويصلي
ركعتين كان عليهم وال أو لم يكن.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي لا جمعة عليهم
إن لهم أن يصلوا صلاة العيدين على سنتها
بالإمام والخطبة خلاف ما تقدم في رسم العيدين
من سماع أشهب، وقد ذكرنا ذلك هنالك. وأما قوله
في الذين يجب عليهم الجمعة إنهم لا يتركونها
كان عليهم وال أو لم يكن فهو مثل ما في
المدونة، وهو المعلوم في المذهب وقد ذكرنا
الاختلاف في ذلك في أول رسم الصلاة الثاني من
سماع أشهب. وأما قوله في الخصوص والمحال إذا
كانت مساكنهم كمساكن القرى في اجتماعها إنهم
يجمعون الجمعة، فهو خلاف ما مضى في الرسم
المذكور من سماع أشهب، وقد مضى القول على ذلك
هنالك، وبالله التوفيق.
مسألة
قيل لأصبغ ما تقول فيه قرية يجمع في مثلها
الجمعة وحولها المنازل على مسيرة ميلين أو
ثلاثة فاتتهم الجمعة فكيف يصلون؟ قال: يصلون
أفراداً ولا يجمعون الظهر لأنهم أهل الجمعة.
قلت: فإن صلوا جماعة ظهراً؟ قال بئس ما صنعوا
ولا أرى عليهم إعادة. قلت: فإن كان ذلك في
العصر مثل الفسطاط وغيرها؟ قال هو مثله يصلون
أفذاذاً، فإذا جمعوا الظهر فبئس ما صنعوا ولا
أرى عليهم إعادة، ولا أحب ذلك لهم، فإن فعلوا
فلا إعادة عليهم.
(1/501)
قال المؤلف:
قوله في الذين تجب عليهم الجمعة إنهم لا
يجمعون إذا فاتتهم الجمعة ويصلون أفذاذاً هو
المشهور في المذهب. وقوله لا إعادة عليهم إن
جمعوا صحيح، لأن منعهم من الجمع ليس بالقوي،
وذلك أنهم إذا منعوا من الجمع ليحافظوا على
الجمعة، لأنهم إذا علموا أنه يفوتهم بفواتها
فضل الجمعة والجماعة لم يتهاونوا بها. وقيل
إنهم إنما منعوا من الجمع ليلاً يكون ذلك
ذريعة لأهل البدع، وهذه العلة أظهر، فإذا
جمعوا وجب أن لا يعيدوا على كل واحدة من
العلتين. وقد روي عن مالك أنهم يجمعون، وهو
قول ابن نافع وأشهب في المجموعة، فلم يراع على
هذه الرواية واحدة من العلتين. وكذلك من تخلف
عن الجمعة لغير عذر غالب المشهور أنهم لا
يجمعون، إلا أنه اختلف إن جمعوا، فروى يحيى عن
ابن القاسم في رسم أول عبد أشتريه فهو حر من
هذا الكتاب أنهم يعيدون، وقال ابن القاسم في
المجموعة إنهم لا يعيدون، وقاله أصبغ في
المتخلفين من غير عذر، وهو الأظهر، إذ قد قيل
إنهم يجمعون لأنهم وإن كانوا تعدوا في ترك
الجمعة فلا يحرموا فضل الجماعة. والاختلاف في
الإعادة على من جمع في الموضع الذي يقوى فيه
ترك الجمع، وهو أن يتخلفوا عن الجمعة لغير عذر
أو لعذر غالب مبني على اختلافهم فيمن وجب عليه
أن يصلي فذاً فصلى بإمام، فعلى هذا لا يعيد
الإمام. والمشهور في المرضى والمسجونين أنهم
يجمعون لأنهم مغلوبون على ترك الجمعة. وقد روى
ابن القاسم أنهم لا يجمعون، وهو غير المعروف
من قوله. ووجهه أنهم وإن كانوا غلبوا على ترك
الجمعة فيمنعون من الجمع من ناحية الذريعة.
واختلف ابن القاسم ابن وهب في المتخلفين عن
الجمعة لعذر يجيز لهم التخلف عنها مع القدرة
على شهودها. وسيأتي هذا في رسم باع شاة من هذا
السماع. واختلافهما في ذلك على الاختلاف في
علة منع من فاتته الجمعة من الجمع هل هي من
أجل الذريعة أو ليحافظوا على الجمعة، وبالله
التوفيق.
(1/502)
مسألة
وسئل عمن فاتته صلاة الإمام وقد كان على
الإمام سهو يكون سجوده قبل السلام فسجد معه ثم
قام وقضى بعده فدخل عليه سهو يكون زيادة في
الصلاة أو نقصاناً، قال يسجد أيضاً. قلت أرأيت
إن كان سجود الإمام بعد السلام فلم يسجد معه
وقام يقضي فدخل عليه سهو يكون نقصاناً متى
سجد؟ قال: قبل السلام ويجزيه من سهو الإمام،
وإن كان أيضاً بعد السلام فسجدتان بعد السلام
تجزيانه. قال ابن القاسم: ولو كان سجد مع
الإمام قبل السلام فدخل عليه هو أيضاً فيما
يقضي نقصان فإنه يسجد أيضاً قبل السلام.
قال الإمام: اختلف في الذي يدخل مع الإمام في
آخر صلاته ولم يدرك منها شيئاً وعلى الإمام
سجود السهو، فقيل إنه يسجد معه إن كان السجود
قبل السلام ولا يسجد معه إن كان السجود بعد
السلام، وهي رواية زياد عن مالك وظاهر هذه
الرواية، لقوله فيها فسجد معه في السجود قبل
السلام، ولم يسجد معه في السجود بعد السلام.
وأراه قول مالك بدليل عطف قول ابن القاسم عليه
في المسألة نفسها. وقيل إنه لا يسجد معه كان
السجود قبل السلام أو بعده، وهو قول ابن
القاسم في المدونة وظاهر قوله ها هنا، لأن
قوله ولو كان سجد مع الإمام قبل السلام يدل
على أنه أراد لو فعل ذلك وهو ليس له أن يفعله،
والله أعلم، وقيل إنه يسجد معه بعد السلام
فأحرى أن يسجد معه قبل السلام وإن كان لم
يفعله إلا إذا أدرك بعض صلاته وهو عنده سواء.
وجه القول الأول أنه قد دخل مع الإمام فلا
يخالفه فيما فعل قبل السلام، لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل الإمام ليؤتم
به
(1/503)
فلا تختلفوا
عليه)). ووجه القول الثاني ما ذكر في المدونة
من أنه لم يدرك من الصلاة شيئاً فلا يلزمه من
سهو الإمام شيء. ووجه القول الثالث أن
السجدتين وإن كانتا بعد السلام فهي من تمام
صلاة الإمام، وقد دخل معه فيها فوجب ألا
يخالفه في شيء منها. وقوله إنه يسجد لسهوه
فيما يقضي من صلاته زيادة كان أو نقصاناً صحيح
لا اختلاف فيه.
مسألة
وسئل عن الرجل يحرم للنافلة ثم تقام فريضة كيف
يصنع؟ أيسلم قاعداً أو قائماً؟ قال: بل قائم،
قال عيسى: أحب إلي أن يصلي ركعتين إذا رجا أن
يفرغ قبل أن يركع الإمام الركعة الأولى، وإن
لم يرج ذلك فليسلم على أي حال أحب.
قال القاضي: اختلف فيمن أحرم في نافلة أو
فريضة فأقيمت عليه تلك الفريضة قبل أن يركع
على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يقطع في الفريضة
والنافلة وإن كان يطمع أن يتم ركعتين قبل أن
يركع الإمام، وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذه
الرواية في النافلة، ونص ما في المدونة في
الفريضة؛ والثاني أنه يتمادى إلى ركعتين إن
رجا أن يتممهما قبل أن يركع الإمام في الفريضة
أيضاً والنافلة، وهو قول مالك في المدونة،
وقول عيسى بن دينار هنا في النافلة، وقول ابن
حبيب وأشهب، ورواية ابن وهب عن مالك في
الفريضة؛ والثالث الفرق بين الفريضة والنافلة،
فيتمادى في النافلة ويقطع في الفريضة، وهذا
القول يتأول على أنه مذهب مالك في المدونة.
وحكى الفضل أنه مذهب أصحاب مالك. ولم يختلفوا
إذا أقيمت عليه الصلاة وقد عقد ركعة من
الفريضة والنافلة أنه يتمادى إلى تمام ركعتين
ولا يقطع، وهذا
(1/504)
فيما عدا
المغرب. وأما إذا أقيمت عليه صلاة المغرب فإن
كان لم يركع قطع قولاً واحداً، وإن كان قد ركع
فقيل إنه يقطع، وهو قول ابن القاسم وروايته عن
مالك في المدونة، وقيل إنه يتم الثانية وتكون
له نافلة ويدخل مع الإمام، وهي رواية سحنون عن
ابن القاسم، وقل ابن حبيب في الواضحة. وإن كان
قد صلى ركعتين فقيل إنه يتم الثالثة ويخرج من
المسجد، وهو قول ابن القاسم في بعض روايات
المدونة، وقول ابن حبيب في الواضحة. وقيل إنه
يسلم ويدخل مع الإمام وهي رواية سحنون عن ابن
القاسم. وإن كان قد أتم الثالثة سلم وخرج من
المسجد قولاً واحداً، وكذلك إن عقدها بالركوع
أو الرفع منه على الاختلاف في ذلك. قال في
سماع سحنون: ويضع يده على أنفه. فما في
المدونة مطرد على أنه وقت لا تصلى فيه نافلة،
وما في سماع سحنون مطرد أيضاً على أنه وقت
تصلى فيه نافلة، وقول ابن حبيب في الواضحة
متناقض لأنه قال إن كان قد صلى ركعة أضاف
إليها أخرى، وإن كان قد صلى ركعتين أتم
الثالثة وخرج من المسجد، فجعل الوقت مرة يصلح
للنافلة ومرة لا يصلح لها، والله أعلم.
ومن كتاب أوله استأذن سيده
مسألة
وسئل عن الذي يقلس طعاماً في الصلاة فيلقيه أو
يرده، قال: يتمادى في الصلاة ولا شيء عليه.
وقال أيضاً: إن كان بلغ مبلغاً لو شاء أن
يطرحه طرحه فأزدرده فأحب إلي أن يقضي يوماً
مكانه، والصلاة مثله.
قال محمد بن رشد: قوله في أخذ قوليه في الذي
يرد القيء بعد فصوله أنه لاشيء عليه في صلاته
وصيامه، معناه إذا رده ناسياً أو مغلوباً،
وأما إن رده عامداً وهو قادر على طرحه فلا
ينبغي أن يختلف في فساد صومه
(1/505)
وصلاته. وقد
روى ابن نافع عن مال أنه قال في القلس يظهر
على لسان الرجل فيبتلعه: بئس ما صنع، وكان
ينبغي أن يطرحه، ولكن لا قضاء عليه إن ابتلعه.
وهو بعيد، لأن ظاهره العمد. وأما إذ ذرعه
القيء أو القلس فلم يرده فلا شيء عليه في
صلاته ولا صيامه على هذه الرواية، وهو
المشهور. وقد مضى في رسم الصلاة الثاني من
سماع أشهب ما فيه، دليل على أن ذلك يقطع صلاته
في القيء بخلاف القلس، وبالله التوفيق.
مسألة
وسئل عن الإمام يحدث بعد التشهد الآخر أو
يرعف، قال: يقدم من يسلم بالقوم.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في معنى هذه
المسألة ووجه السؤال عنها في رسم الصلاة
الثاني من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته،
وبالله التوفيق.
مسألة
وسألته عن الذي ينسى الظهر فلما صلى العصر من
يومه ذلك وسلم منا ذكر الظهر ولم يعد العصر
جهل أو نسي فذكر أو انتبه لذلك بعد الوقت،
قال: إن كان خرج وقتها فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قوله جهل يريد جهل أنه مأمور
بإعادة الصلاة في الوقت. وكذلك لو جهل أنه في
الوقت مثل أن يكون ذكر الظهر قبل الغروب وقد
كان صلى العصر فلما صلى الظهر الذي ذكر ظن أن
الشمس قد غربت فلم يصل العصر، ثم انكشف أنه لو
صلاها لأدرك منها ركعة قبل الغروب. وقد قال في
رسم أسلم بعد هذا في الذي جهل الوقت وظن أنه
قد كان خرج، أن عليه القضاء بعد خروج الوقت،
فهو اختلاف من قوله في الوجوه الثلاثة، إذ لا
فرق بينهن، فمرة رأى أنه لا إعادة عليه فيهن
بعد خروج
(1/506)
الوقت، وهو
المشهور من قوله الذي يشهد النظر بصحته، لأن
الإعادة في الوقت إنما هي استحباب ليدرك فضيلة
الترتيب فيه، فإذا خرج الوقت لم يعد بعد الوقت
كما لا يعيد بإجماع إذا لم يفرغ من الصلاة
التي نسي حتى خرج الوقت؛ ومرة رأى أن الإعادة
واجبة عليه بعد الوقت، إذ قد كانت وجبت عليه
في الوقت، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في هذا الأصل
وحكاه عن ابن الماجشون عن مالك.
مسألة
وسئل عن أمة صلت ركعة من المكتوبة ثم أتاها
العتق ورأسها مكشوف فوجدت من يعطيها خماراً
فأبت أن تأخذه أو جهلت وهي قادرة أن تأخذه فلم
تأخذه، أو لم تجد من يناولها خماراً، أتعيد في
شيء من ذلك في الوقت أم لا؟ أو عريان صلى ركعة
ثم أتى رجل بثوب ففعل مثل ما فعلته الأمة
أيعيد الصلاة أم لا؟ قال ابن القاسم: أما إذا
لم تجد من يعطيها فلا إعادة عليها، وأما إذا
قدرت عليه فلم تأخذه أو أعطيته فلم تأخذه
فإنها تعيد ما كانت في الوقت؛ والعريان كذلك
إذا كان يقدر على ثوب. قال أصبغ: وأنا أرى قول
ابن القاسم في التي سبق لها العتق قبل دخولها
في الصلاة ، فأما التي أعتقت وهي في الصلاة
فتمادت وهي تجد سترة فلا إعادة عليها في وقت
ولا غيره، لأنها عقدت الصلاة بما يجوز لها وهي
من أهل الكشف، فهي على ما دخلت به فيها تمضي
عليه ويجزي عهنا، بمنزلة التيمم يعقد الصلاة
بالتيمم ثم يطلع عليه الماء وهو في صلاته
فيمضي على صلاته، وهو أشد من الأمة. وإنما
استحسن لها الاستتار عند ذلك إذا وجدته
استحساناً لأنه ليس عليها مضرة في تناوله ولا
قطع صلاة، وليس بواجب عليها، ولا يعجبني
(1/507)
قول ابن القاسم
هذا. قال أصبغ: ومثل الذي يسبق لها العتق قبل
الدخول في الصلاة مثل الذي يكون في رحله الماء
فلا يعلم به، فيقوم ويتيمم ويصلي أنه يعيد،
فكذلك هذه إذا كانت دخلت في الصلاة وهي حرة
تجد ستراً أنها تعيد في الوقت. وأنا أقول في
الذي صلى وفي رحله الماء إنه يعيد أبداً لأنه
كان من أهل الماء، فليس جهله الماء أو غفلته
أو نسيانه بالذي يخرجه مما وجب عليه.
قيل لسحنون في الأمة يعتقها سيدها وهي في
الصلاة وهي مكشوفة الرأس، فقال أرى أن تقطع
وتبتدئ الصلاة، وكذلك لو أن عرياناً ابتدأ
الصلاة فلما كان في بعض الصلاة وجد ثوباً إنه
يبتدئ ولا يبني.
قال محمد بن رشد: تأول أصبغ عن ابن القاسم أنه
إنما تكلم على التي سبق لها العتق قبل الصلاة،
إذ بعد عنده أن يوجب الاستتار على التي أعتقت
في الصلاة، وليس ذلك بصحيح، إذ قد نص في رواية
موسى عنه على أن الاستتار يجب عليها في بقية
صلاتها إذا أعتقت في الصلاة، فلا فرق على مذهب
ابن القاسم بين أن تعتق في الصلاة أو يأتيها
الخير فيها بأنها قد أعتقت قبل دخولها فيها.
ويتحصل في المسألة أربعة أقوال: أحدها أنها إ،
استترت في بقية الصلاة أو لم تقدر على
الاستتار فيها أجزأتها صلاتها. وإن قدرت على
الاستتار فلم تفعله أعادت في الوقت، وهو قول
ابن القاسم في هذه الرواية، فالاستتار عليها
في بقية الصلاة على هذا القول واجب مع القدرة
عليه ساقط مع عدمها؛ والقول الثاني أنها إن
استترت في بقية صلاتها أجزأتها، وإن لم تفعل
أعادت في الوقت، كانت قادرة على ذلك أو لم
تكن، وهو قول ابن القاسم في رواية موسى عنه،
فالاستتار على هذا القول في بقية الصلاة واجب
عليها بكل حال، فإن قدرت عليه فعلته، وإن لم
تقدر عليه خرجت عن نافلة وابتدأت الصلاة،
والقول الثالث أن الصلاة لا تجزئها وإن
(1/508)
استترت في
بقيتها وتبتدئ، فإن لم تفعل أعادت في الوقت،
وهو قول سحنون. ووجهه أنه قد حصل جزء من
صلاتها بغير قناع بعد عتقها أو بعد وصول العلم
إليها بذلك؛ والقول الرابع الفرق بين أن تعتق
في الصلاة أو يأتيها الخبر بعتقها بعد أن دخلت
فيها، فإن عتقت فيها لم يجب عليها الاستتار في
بقيتها إلا استحساناً إن قدرت عليه، فإن لم
تفعل فلا إعادة عليها، وإن أتاها الخبر بعتقها
بعد أن دخلت في الصلاة لم يجزها وإن استترت في
بقيتها، فتقطع وتبتدئ، فإن لم تفعل أعادت في
الوقت، وهو قول أصبغ هنا، فحكم لها أصبغ بحكم
الحرة من يوم أعتقت، ولم يحكم لها ابن القاسم
إلا من حين وصول الخبر بذلك إليها. وهذا على
اختلافهم في الحكم المنسوخ هل يكون منسوخاً
على المتعبد به بنفس ورود الناسخ أو بوصول
العلم إليه بذلك، وقل ابن القاسم في العريان
يجد ثوباً في الصلاة فيأبى أن يأخذه أو يجهل
ذلك إنه يعيد في الوقت، يأتي على القول بأن
ستر العورة في الصلاة من سننها لا من فرائضها،
كالقناع للمرأة الحرة. وأما على القول إنه من
فراضتها فتعيد أبداً كالمريض يفتتح الصلاة
جالساً ثم يصح في بقيتها فيتمها جالساً، ولا
يقطع إذا وجد ثوباً في الصلاة قياساً على
مسألة المريض، خلاف ما ذهب إليه سحنون، وبالله
التوفيق.
مسألة
وسئل عن مسافر دخل في صلاة قوم وهو يظنهم
مسافرين فصلى معهم ركعتين ثم تبين له أنهم
مقيمون سبقوه بركعتين، فقال. يسلم ويصلي صلاته
صلاة مسافر. قلت له: ولو مر بقوم فدخل في
صلاتهم فصلى معهم ركعتين ثم سلموا فلم يدر
أمقيمين كانوا أم مسافرين؟ قال: يتم صلاة
مقيمين أربعاً، ثم يقوم فيصلي صلاة مسافر.
قلت: فما فرق بينهما؟ لأي شيء قطع في الأولى
ولم تأمره أن يقطع في هذه؟ قال: لأنه نوى
بالأولى ركعتين.
(1/509)
قال محمد بن
رشد: قوله لأنه نوى بالأولى ركعتين يبين أنه
دخل في الثانية معهم وهو يظنهم مقيمين، وذلك
بين، إذ لو دخل معهم وهو يظنهم مسافرين لسلم
بسلامهم على أصله ثم أعاد. وقد تقدمت هذه
المسألة والقول فيها موعباً في آخر رسم من
سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته هنا، وبالله
التوفيق.
مسألة
قيل لسحنون: فلوا أن رجلاً دخل في صلاة الإمام
يوم الجمعة وقد سبقه بركعة ولم يدر أخطب
الإمام أم لا، فلما سلم الإمام وانفض الناس
عنه فلم يجد من يخبره إن كان اختطب الإمام أم
لا، فقال يصلي ركعة ثم يسلم، فإن كانت جمعة
أجزأت عنه، وإن لم يجد من يخبره أنها جمعة
صلاها ظهراً أربعاً احتياطاً.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأنه دخل مع
الإمام وهو يرى أنها جمعة، فوجب أن يأتي بركعة
رجاء أن تكون له جمعة، ثم يعيد مخافة أن لا
يكون الإمام خطب فلا تصح له جمعة. ولو دخل معه
وهو يظنه يصلي الظهر ثم يشك في أن يكون في
الجمعة وقد اختطب لوجب على قياس المسألة التي
قبلها أن يتم على الركعة التي صلى مع الإمام
أربعاً، ثم يعيد ثانية مخافة أن يكون الإمام
مصلياً للجمعة، وبالله التوفيق.
مسألة
وسألته عن القوم يصلي بهم الجمعة عبد، قال: إن
ذكروا في الوقت أعادوا الجمعة ركعتين بخطبة،
وإن لم يذكروا ذلك حتى يخرجوا من الوقت أعادوا
ظهراً أربعاً. قلت: فما وقتها؟ قال: النهار
كله إلى قدر ما تصلي به الجمعة ركعتين ومن
العصر ركعة.
(1/510)
قال الإمام: قد
مضت هذه المسألة والقول فيه موعباً في آخر رسم
من سماع ابن القاسم فقف عليه هناك.
مسألة
وسألت ابن القاسم عن رجل ركع ركعتين من صلاة
الظهر فذكر أنه سها عن سجدة من الركعة الأولى،
أيمضي في صلاته ويقضي صلاة الركعة التي نسي
منها سجدة في آخر صلاته أو يقضيها في الموضع
الذي يذكرها فيه وإن كان ذكره إياها وهو قائم
في الثانية أو ما ترى؟ قال: إن ذكرها في
الركعة الثانية في تشهده فإنه يركع ركعة
بسجدتيها يقرأ فيها بأم القرآن وسورة معها، ثم
يقعد ويتشهد ويجعلها ثانية ويلغي الأولى ويسجد
بعد السلام، لأن من نسي سجدة من ركعة فلم
يذكرها حتى رفع رأسه من الركعة التي بعدها
ألغى تلك الركعة التي نسي منها السجدة وصلى
ركعة مكانها، وإن ذكرها في الثالثة بعدما رفع
رأسه من الركوع جعلها ثانية وسجد سجدتين قبل
السلام. وقد كان مالك يقول فيها بعد السلام،
إلا أنه لما ترك السجدة الأولى ولم يقعد في
الثالثة التي هي له ثانية وقضى بعد الفراغ
ركعة بسجدتيها كان قد اجتمع عليه سهوان زيادة
ونقصان، والنقصان أولى بالسجود، وهو وجه ما
استحسناه وتكلمنا فيه.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة صحيحة مبنية على
المشهور في المذهب من أن ما بطل على الفذ وعلى
الإمام ومن معه من ركعة بإسقاط السجود أو
الركوع منها أو قراءة الحمد على مذهب من يقول
بالإلغاء حتى فاته إصلاحها، يلغيها ويبني على
ما صح له، ولا يقضي الركعة التي بطلت عليه
(1/511)
بعينها بعد
تمام صلاته، خلافاً لقول ابن وهب في رسم
القعطان من هذا السماع أنه يقضي ما بطل عليه
بعد تمام صلاته ولا يبني. وقوله فلم يذكرها
حتى رفع رأسه من الركعة التي بعدها ألغى تلك
الركعة، هو مثل ما في المدونة من أن عقد
الركعة رفع الرأس من الركوع. وقد مضى ذكر
الاختلاف في ذلك في رسم الصلاة الأول من سماع
أشهب. وقول ابن القاسم إنه إذا لم يذكر السجدة
من الأولى حتى قام من الثانية إن سجوده قبل
السلام هو الأظهر لتغليب حكم النقصان عند
اجتماع الزيادة والنقصان، وما حكي عن مالك من
أنه قد كان يقول فيها بعد السلام، ضعفه ابن
لبابة وقال لعل مالكاً إنما قال ذلك فيمن ذكر
وهو جالس في الرابعة سجدة لا يدري من أي ركعة،
فخر إلى سجدة ثم أتى بركعة لأنه على يقين من
الزيادة وشك من النقصان، فاشتبه ذلك على ابن
القاسم. وابن القاسم أعلم بما حكى عن مالك
وأجل من أن يحمل عليه الغلط، فهو اختلاف من
قوله، وإن كان تغليب حكم النقصان هو المشهور
عنه فمرة غلب الزيادة ومرة غلب النقصان، إذ من
أهل العلم من يرى السجود في السهو كله بعد
السلام، كان زيادة أو نقصاناً، ومنهم من يراه
كله قبل السلام كان زيادة أو نقصاناً. وقد وقع
له في المدونة في الذي يصلي النافلة خمساً دون
سلام ساهياً يسجد بعد السلام، وهو مثل ما حكي
عنه في هذه الرواية، لأنه نقص السلام وزاد
الركعة. وقول ابن القاسم في آخر المسألة: وقضى
بعد الفراغ ركعة بسجدتيها، لفظ ليس على ظاهره،
لأنه بان وليس بقاضٍ، فتدبر ذلك، وبالله
التوفيق.
مسألة
قال: وقال مالك لا ينبغي لأحد أن يؤم الناس
قاعداً. قال: ومن نزل به شيء وهو إمام قائم
حتى لا يستطيع أن يصلي بهم إلا قاعداً،
فليستخلف غيره يصلي بالقوم ويرجع هو إلى الصف
فيصلى بصلاة الإمام مع القوم. قال مطرف وابن
الماجشون: إن صلى بهم
(1/512)
قاعداً أجزأته
صلاته، وعليهم الإعادة أبداً، اختلف فيها قول
مالك، وروى موسى بن معاوية عن ابن القاسم في
المرضى والمقاعد أنه لا بأس أن يؤمهم رجل منهم
قاعداً. وذكر سحنون في روايته أنه لا يجوز
لأحد أن يؤم قاعداً بعد ما كان من فعل النبي،
عليه السلام، ومن أم قاعداً أجزأته وأعاد
القوم.
قال محمد بن أحمد: قد مضى القول فيما جاء في
إمامة المريض الجالس بالأصحاء قياماً وما في
ذلك من الاختلاف في رسم سن رسول الله صلى الله
عليه وسلم من سماع ابن القاسم موعباً، فأغنى
ذلك عن إعادته ها هنا. وأما إمامة المريض
جالساً بالمرضى الذين لا يقدرون على القيام
جلوساً فلا خلاف عندي في جواز ذلك. وما في
رواية سحنون من قوله إنه لا يجوز لأحد أن يؤم
قاعداً، معناه بالأصحاء قياماً، بدليل
استشهاده بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، يريد
ما روي من أنه ائتم بأبي بكر في مرضه ولم يكن
هو الإمام، وساقها ابن أبي زيد في النوادر
سياقة تدل على أنها في إمامة المريض بالمرضى،
وذلك وهم، والله أعلم.
مسألة
قال ابن القاسم: إذا قهقه الإمام متعمداً أعاد
الصلاة وأعادوا، وإن كان مغلوباً قدم غيره
فأتم بهم ويتم هو الصلاة معهم، ثم يعيد إذا
فرغوا في بعض الروايات ويعيدون.
قال محمد بن رشد: قوله وإن كان مغلوباً قدم
غيره، يدل على أنه إن لم يكن مغلوباً لم يصح
له التقديم ويقطع ويقطعون ويستأنفون الصلاة.
فمعنى قوله إذا قهقه الإمام متعمداً أعاد
الصلاة وأعادوا، أي قطع وقطعوا واستأنفوا
الصلاة من أولها. ويريد يقوله متعمداً أي
متعمداً لفعلها قادراً على الإمساك عنها. ولا
اختلاف في هذا أنه قد أبطل صلاته صلاة من خلفه
إن
(1/513)
كان إماماً
فيقطع ولا يتمادى عليها، فذاً كان أو إماماً
أو مأموماً. وروي عن يحيى بن عمر أنه قال:
قوله وإن كان مغلوباً لا يعجبني إلى آخره، ولا
وجه لإنكاره، لأن قوله يقدم غيره ويتم معهم
صحيح على قول ابن القاسم وروايته عن مالك في
المدونة وفي رسم البراءة بعد هذا في أن
المأموم يتمادى مع الإمام ولا يقطع، فإذا لم
يقطع المأموم لأجل فضل الجماعة التي قد دخل
فيها فالإمام بمنزلته، لأنه يحوط من فضل
الجماعة ما يحوطه هو والقوم الذين وراءه بذلك
أولى وأحرى. والأظهر أنه لا إعادة عليهم، وهو
ظاهر ما في الواضحة لمالك من رواية مطرف عنه.
وأما هو فيعيد على أصله في المدونة، وقوله في
المأموم وذهب الفضل إلى أنه إذا قدم من يتم
بهم الصلاة يقطع هو ويدخل معهم لأن الصلاة قد
فسدت عليه لضحكه فيها، فهو بخلاف الذي يعرض له
في صلاته ما يقعده، هذا يتم صلاته مع الذي
يستخلفه، لأنه لم يستخلف لفساد دخل عليه في
صلاته، ولذلك يؤمر المأموم بالتمادي عليها.
وكذلك الناسي كالمغلوب يقدم إن كان إماماً
ويتمادى مع الإمام إن كان مأموماً، قاله ابن
حبيب في الواضحة، وروايته عن مالك في رسم
البراءة من هذا السماع، لأنه ساوى فيه بين
المتعمد والناسي في أنهما يتماديان مع الإمام
إن كانا مأمومين، يريد بالمتعمد الذي يتعمد
النظر في صلاته أو الاستماع إلى ما يضحكه
فيغلبه الضحك فيها. وأما الذي يضحك مختاراً
لضحك ولو شاء أن يمسك لأمسك فلا اختلاف في أنه
قد أبطل على نفسه صلاته، لأن الضحك أشد في
إبطال الصلاة من الكلام، لما فيه من اللهو
وقلة الوقار ومفارقة الخشوع، ولذلك لم يعذر
فيه بالغلبة ولا بالنسيان عند ابن القاسم،
خلافاً لسحنون في قوله إن الضحك ناسياً بمنزلة
الكلام ناسياً. ولابن المواز أيضاً إذا صح
نسيانه مثل أن ينسى أنه في صلاة، فإذا
(1/514)
أبطلها الكلام
متعمداً باتفاق، فأحرى أن تبطلها القهقهة
تعمداً. وقد قال إسماعيل القاضي: إن الكلام في
قطع الصلاة أبين من الضحك، ألا ترى أن التبسم
لا يقطعها وإنما تقطعها القهقهة، لأنه يصير
فيها ما يشبه حروف الكلام، والأول أبين في أن
القهقهة أبين في قطع الصلاة من الكلام، والله
أعلم. وقال ابن كنانة: يستخلف الإمام إذا ضحك
في صلاته متعمداً ويقطع ويدخل مع القوم ويقضي
إذا سلم مستخلفه ما بقي من صلاته، فإن كان
يريد أنه تعمد النظر إلى ما يضحكه فغلبه الضحك
فهو الذي ذهب إليه الفضل، وإن كان يريد أنه
تعمد الضحك ولم يغلب عليه فهو شذوذ، وبالله
التوفيق.
ومن كتاب العرية
قال: ولا يومئ القاعد بالسجود إلا من علة، فإن
أومأ في النوافل من غير علة أجزأ عنه. قال
عيسى: لا يؤمىء من غير علة ولا عذر في نافلة
ولا مكتوبة.
قال محمد بن أحمد: قوله إن القاعد لا يومىء
بالسجود إلا من علة، يريد في الفريضة، صحيح لا
اختلاف فيه، لأن السجود فرض كالقيام، فلا يسقط
عنه إلا بعدم القدرة عليه. وإنما قال: إن له
أن يومىء في النوافل من غير علة لما جاء من أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى
قائماً فهو أفضل ومن صلى قاعداً فله نصف أجر
القائم ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد)).
ومعلوم أنه من صلى نائماً فإنه يومىء بالركوع
والسجود. فإذا جاز أن يترك القعود والسجود مع
القدرة عليهما جاز أن يترك السجود دون القعود.
وأما قول عيسى إنه لا يومىء في النافلة من غير
عذر ولا على بناء على ترك الأخذ بالحديث مثل
قول مالك في المدونة إنه لا يصلي مضطجعاً إلا
(1/515)
مريض، فلا يجوز
ترك الجلوس ولا السجود إلا من علة، ويحتمل أن
يكون لا يجيز الإيماء بالسجود مع القدرة عليه
إلا لمن صلى مضطجعاً، لأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: ((من صلى قاعداً فله نصف أجر
صلاة القائم))، فكان معناه عند أهل العلم
جميعاً من صلى قاعداً وساجداً، إذ لم يعلم أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحداً من
سلف الأمة ترك السجود في صلاة النافلة مع
القدرة عليه كما ترك القيام فيها مع القدرة
عليه. وإذا لم تكن صلاة القاعد مثل نصف صلاة
القائم إلا مع السجود، فلا تكون صلاة القائم
مثل نصف صلاة القاعد إلا مع عدم القدرة على
السجود، والله أعلم.
مسألة
وسألته عن النكاح يعقد بعد قعود الإمام يوم
الجمعة أيفسح؟ قال: لا، هو جائز دخل أو لم
يدخل، النكاح والصدقة والهبة جائزة نافذة في
تلك الساعة إلا البيع. قال أصبغ: فإن اشترى
سلعة بعد قعود الإمام على المنبر فباعها بربح
لم يجز له أن يأكل ذلك الربح، ويتصدق به أحب
إلي، وهو قول ابن القاسم. قال أصبغ: ولا
يعجبني قوله في النكاح وأرى أن يفسخ، وهو عندي
بيع من البيوع.
قال القاضي: وجه قول ابن القاسم إن العلة في
فسخ البيع لما كانت مطابقة للنهي لم يفسخ
النكاح إذ لم تتعد إليه العلة، ووجه قول أصبغ
قياس النكاح على البيع في الفسخ بالمعنى
الجامع بينهما، كما يقاس عليه في المنع ويفسخ
عند أصبغ ولو فات بالدخول، ويكون لها الصداق
المسمى، حكاه ابن مزين عنه. وهذا على القول
بأن البيع إذا فات مضى بالثمن ولم يرد إلى
القيمة. وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في رسم
حلف بطلاق امرأته من سماع ابن القاسم. وقوله
لم يجز له أن يأكل ذلك الريح لفظ
(1/516)
ليس على ظاهره
ويقضي عليه آخر الكلام قوله وأحب إلي أن يتصدق
به لأن الربح له حلال على قياس المذهب في
انعقاد البيع وانتقال الملك به إليه وكون
الضمان منه إن تلفت السلعة. فلو قال وأحب إلي
أن يدفع الربح إلى البائع إن وجده أو يتصدق به
عنه إن لم يجده لكان وجه القول والله أعلم،
وبه التوفيق.
ومن كتاب أوله يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه
وسألته عن رجل أم قوماً فصلى بهم ركعة ثم دخل
عليه حدث فخرج وقدم رجلاً فتوضأ ثم انصرف
فأخرج الذي قدم وتقدم، هل تجزئ عنهم صلاتهم؟
قال قد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه جاء وأبو بكر يصلي بالناس فسبح الناس
بأبي بكر فتأخر وتقدم رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فأنا أرى أن يصلي بهم بقية صلاتهم، ثم
يجلسون حتى يتم هو لنفسه ثم يسلم ويسلمون.
قلت: فلو كان ذكر قبح ما صنع بعد أن صلى ركعة؟
قال: يخرج ويقدم الذي أخرج. قلت: فإن لم يجده؟
قال: فليقدم غيره ممن أدرك الصلاة كلها. قلت:
أرأيت أنه لو أخرج هذا ودخل ابتدأ لنفسه صلاة
نفسه ولم يتبع صلاة الإمام إن كان قد سبقه
الناس بركعة لم يجلس هو حتى صلى لنفسه ركعتين
ثم جلس أترى صلاتهم تجزئهم أم لا؟ قال: أرى أن
لا إعادة عليهم اتبعوه أم لم يتبعوه.
(1/517)
قال القاضي:
الحديث الذي أشار إليه ابن القاسم هو حديث يوم
بني عمرو بن عوف إذ ذهب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ليصلح بينهم، فجاء وأبو بكر يصلي
للناس فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم معناه أنه تقدم أماما الناس فصلى أمام
الناس فصلى مؤتماً بأبي بكر لا إماماً بالناس،
ولو صح أنه تقدم فصلى بالناس ما بقي من صلاتهم
لكان ذلك خاصاً له أو منسوخاً من فعله بما
فعله في مرضه، إذا جاء وأبو بكر يصلي فصلى إلى
جنبه مؤتماً به على الصحيح من التأويلات في
الحديث وإنما جاز ابن القاسم صلاتهم إذا صلى
لهم بقيتها لأنه ابتدأها بهم فراعى مذهب أهل
العراق في إجازة البناء في الحدث. وأما لو لم
يبتدئ بهم الصلاة فجاء وهم يصلون فأخرج الإمام
وتقدم فصلى بهم بقية صلاتهم لبطلت صلاتهم
أجمعين باتفاق، أما هم فمن أجل أنهم أحرموا
قبل إمامهم، وأما هو فمن أجل أنه ابتدأ صلاته
من وسطها. والصحيح على المذهب أن صلاتهم
باطلة، لأنه بالحدث يخرج عن الصلاة، فإذا توضأ
وانصرف فأخرج الذي قدم وتقدم هو صار مبتدئاً
لصلاته من وسطها، وصاروا هم مؤتمين به وقد
أحرموا قبله، وذلك مبطل لصلاتهم إلا على مذهب
من يرى صلاة القوم غير مرتبطة بصلاة الإمام
الذي قدمه ثم أخرجه بعد ذلك عن الإمامة وتقدم
هو موضعه لصح جواب ابن القاسم على تأويله، وإن
كان تأويلاً بعيداً عن الظاهر. وكذلك لو حمل
ما في الحديث من استيخار أبي بكر وتقدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم على أنه إنما تقدم
صلى الله عليه وسلم مكانه بعد أن أحرم وراءه
ودخل معه في الصلاة لصح بذلك معنى الحديث
واستقام بناء المذهب عليه.
مسألة
قال ابن القاسم: لا يصلح للحائض أن تمسك
المريض للصلاة ولا ترقده، فإن فعلت أعاد في
الوقت.
(1/518)
قال محمد بن
رشد: إنما هذا من أجل أن ثياب الحائض في
الأغلب غير طاهرة ولو أيقن بطهارة ثيابها لم
تجب عليه إعادة.
مسألة
وسألت ابن القاسم عن الغرق يصلي عرياناً ثم
يجد ثوباً وهو في الوقت هل يعيد الصلاة؟ قال:
لا يعيد الصلاة.
قال المؤلف: هذا صحيح لأن الفرض في ستر العورة
في الصلاة قد سقط عنه لعدم القدرة عليه في
الوقت الذي صلاها فيه، إذ هو وقت الوجوب على
الصحيح من الأقوال. هذا إذا قلنا إن ستر
العورة من فراض الصلاة. وأما على القول بأنها
فرض في الجملة لا تختص بالصلاة فلا إشكال في
أنه لا إعادة عليه أصلا.
مسألة
وسئل عن الرجل يعرض له المرض فيصلي قاعداً ثم
يذهب ذلك عنه وهو في الوقت هل يعيد الصلاة؟
قال: لا يعيد الصلاة.
قال محمد بن رشد: الكلام في هذه المسألة
كالكلام في التي قبلها لما سقط عنه فرض القيام
بعدم قدرته عليه في الوقت الذي صلاها فيه وهو
مأمور بالصلاة فيه أجزأته ولم تكن عليه إعادة،
وبالله التوفيق.
مسألة
قال ابن القاسم في الذي تفوته ركعة من صلاة
العيد فيجد الإمام قائماً في الركعة الثانية
يقرأ، قال: يكبر تكبيرات، وقال ابن وهب: لا
يكبر إلا تكبيرة واحدة.
قال محمد بن رشد: وجه قول ابن القاسم أن
التكبير لما كان مما لا يحمله عنه الإمام وجب
أن يفعله ما لم يفته وقته بركوع الإمام، ووجه
قول
(1/519)
ابن وهب أن
وقته قد فاته لما فاته لما يلزمه من استماع
قراءة الإمام، لقوله عز وجل: ((وإذا قرئ
القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون))،
وهو الأظهر، والله أعلم، وبه التوفيق.
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده
وسئل عمن نسي صلاتين ظهراً وعصراً إحداهما
للسب والأخرى للأحد ولا يدري الظهر للسب
والعصر للأحد أو الظهر للأحد والعصر للسبت،
قال: أما أنا فأقول وهو رأيي أن يصلي أربع
صلوات ظهراً للسبت ثم عصراً للأحد ثم عصراً
للسبت ثم ظهراً للأحد.
قال ابن رشد: وإن شاء صلى الظهر والعصر للسبت
ثم الظهر والعصر للأحد، فقد قال ذلك ابن حبيب،
وهو صحيح أيضاً، لأن ذلك يأتي على شكه، وهذا
يأتي على مذهب من يعتبر تعيين الأيام المنسيات
فيها الصلوات، ولا يعتبر ترتيب الصلوات
الفائتات، وهو مذهبه في المدونة أنه لا يعتبر
الترتيب في الصلوات الفائتات، خلاف ما يأتي في
رمس بع ولا نقصان عليك، وعلى مذهب من يعتبر
الوجهين جميعاً لأن اعتبار الترتيب داخل تحت
اعتبار التعيين. وأما على مذهب من يعتبر
الترتيب دون التعيين فيصلي ظهراً وعصراً ثم
ظهراً وعصراً. ولو نسي ظهراً وعصراً إحداهما
للسبت والأخرى للأحد أو الأحد قبل السبت من
جمعة أخرى لتخرج ذلك على أربعة أقوال أحدها:
أن لا يعتبر التعيين ولا الترتيب فيصلي ظهراً
أو عصراً لا أكثر، والثاني: أن يعتبر التعيين
والترتيب جميعاً فيصلي ظهراً وعصراً للسبت ثم
(1/520)
ظهراً وعصراً
للأحد، [ثم ظهراً وعصراً للسبت]، وإن بدأ
بالأحد ختم به؛ والثالث: أن يعتبر التعيين دون
الترتيب فيصلي ظهراً وعصراً للسبت وظهراً
وعصراً للأحد؛ والرابع: أن يعتبر الترتيب دون
التعيين، فيصلي ظهراً ثم عصراً ثم ظهراً، أو
عصراً ثم ظهراً ثم عصراً، ثم يختم بالذي بدأ
به، وهذا كله بين وبالله التوفيق.
مسألة
وقال في إمام نسي القراءة في ركعتين إنه يعيد
ويعيدون متى ذكروا في الوقت وغير الوقت، وإن
ذكر في صلاة قطع وابتدأ.
قال المؤلف: لم يختلف قول مالك في أن من لم
يقرأ في ركعتين أعاد أبداً. وقوله وإذا ذكر
وهو في صلاة قطع وابتدأ، يريد بسلام وظاهره
على أي حال كان. وحكم الفذ حكم الإمام في
الإعادة والقطع. واختلف قول مالك إذا ترك
القراءة في ركعة واحدة فقال مرة يسجد لسهوه
قبل السلام ولا يعيد، وقال مرة يسجد له ويعيد،
وقال مرة يلغي الركعة ويسجد بعد السلام. قيل
كانت الصلاة من أي الصلوات كانت، وقيل إنما
هذا إذا كانت الصلاة ثلاثية أو رباعية، وأما
إذا كانت صلاة هي ركعتان فلم يختلف قوله إنه
يعيد الصلاة. والقول الأول هو ظاهر المدونة،
واختلف اختيار ابن القاسم، فمرة أخذ بالإلغاء،
ومرة أخذ بالإعادة. فعلى القول بالإعادة إن
ذكر أنه لم يقرأ قبل أن يركع استأنف القراءة
وسجد بعد السلام، وإن ذكر ذلك بعد أن ركع وقبل
أن يرفع فقيل إنه يقطع، وهو قول ابن القاسم في
كتاب ابن المواز، وقيل إنه ينصرف إلى القيام
فيقرأ ويركع ويسجد بعد السلام، وهو قوله في
سماع سحنون. وهذا على الاختلاف في عقد الركعة
هل هو بالركوع أو بالرفع منه. وإن ذكر بعد أن
رفع رأسه من الركوع قبل أن يسجد قطع، وإن
(1/521)
ذكر بعد أن سجد
فمرة قال: يقطع، وهو قوله في سماع أبي زيد،
ومرة قال: يتم ركعتين، وهو قوله في كتاب ابن
المواز. وإن ذكر وهو واقف في الثانية رجع إلى
الجلوس وسلم. وإن ذكر بعد أن صلى الثلاثة أتم
الرابعة وسجد قبل السلام وأعاد الصلاة وعلى
القول بالإلغاء إن ذكر أنه لم يقرا قبل أن يتم
الركعة بسجدتيها ألغى ما مضى فيها واستأنف
القراءة من أولها، وإن ذكر وهو واقف في الركعة
الثانية جعلها الأولى وألغى الأولى التي لم
يقرأ فيها. وكذلك إن ذكر وهو قائم في الثالثة
أنه لم يقرأ في الأولى جعلها ثانية وقرأ فيها
بالحمد وسورة، وجلس وتشهد وسجد بعد السلام.
وإن ذكر ذلك بعد أن ركع في الثالثة وإن لم
يرفع رأسه من الركوع تمادى وجعلها ثانية وجلس
وتشهد وسجد قبل السلام. وكذلك إن ذكر ذلك بعد
أن قام من الثالثة وهو واقف في الرابعة جعلها
ثالثة وسجد قبل السلام. وأخذ أشهب وابن عبد
الحكم وأصبغ بالإعادة في الركعة الواحدة
وبالإلغاء في الركعتين والثلاث، إذ لم يختلف
قول مالك في أن من ترك القراءة في ركعتين فما
زاد إنه يعيد.
مسألة
وقال في الذي يدرك ركعة مع الإمام من الجمعة
أو الظهر فيسلم الإمام ويقوم هو للقضاء ثم
يذكر قبل أن يركع أنه نسي سجدة من الركعة التي
مع الإمام، إنه يخر فيسجد سجدة ثم يبنى على
تلك الركعة، فإن كانت جمعة أجزأت عنه، وإن
كانت ظهراً فمثل ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا على القول بأن سلام
الإمام لا يحول بينه وبين إصلاح الركعة التي
أدرك معه بالسجدة التي نسي منها. وستأتي
المسألة متكررة والخلاف فيها في رسم أسلم بعد
هذا، وبالله التوفيق.
(1/522)
وسئل عن امرأة
طهرت عند غروب الشمس فقدرت خمس ركعات فبدأت
بالظهر فلما صلت ركعة غابت الشمس، قال: تضيف
إليها أخرى وتكون نافلة ثم تسلم ثم تصلي
العصر. قيل: فلو صلت ثلاث ركعات؟ قال: تضيف
إليها أخرى وتصلي العصر.
قال القاضي: هذه المسألة صحيحة لا إشكال فيها،
والأصل فيها قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب
الشمس فقد أدرك العصر)) فجعله مدركاً للصلاة
بإدراك ركعة منها قبل الغروب، فلا تكون المرأة
إذا طهرت في آخر النهار مدركة للصلاتين جميعاً
إلا إذا طهرت لمقدار خمس ركعات فأكثر، فلما
غابت الشمس لهذه المرأة التي قدرت أن عليها
الظهر والعصر وهي في الظهر قبل تمامها، تبين
لها أن الظهر ساقط عنها وأن صلاة العصر واجبة
عليها إذ كان الوقت لا للظهر، فصارت بمنزلة من
ذكر صلاة قد خرج وقتها وهي في نافلة تصليها،
فيدخل فيها من الخلاف ما فيها، فقيل إنها تقطع
بكل حال، وقيل إنها لا تقطع حتى تتم ركعتين أو
أربعاً إن كانت صلت ثلاثاً، وقيل إنها تتم
ركعتين إن كانت قد صلت ركعة وتقطع إن كانت لم
تصل ركعة أو كانت قد صلت ثلاث ركعات، وهو
اختيار ابن القاسم في المدونة، وقيل إنها تقطع
إن كانت لم تصل ركعة وتتم ركعتين إن كانت صلت
واحدة وأربعاً إن كانت صلت ثلاثاً، وهو قوله
في هذه الرواية، وهو أحسن الأقوال، لأنها إن
كانت قد صلت ركعة أو ثلاثاً كان الاختيار لها
أن لا تقطع حتى تخرج عن نافلة، لقول الله عز
وجل: ((ولا تبطلوا أعمالكم))، فإن كانت لم تصل
ركعة كان الاختيار لها أن تقطع لوجوب صلاة
العصر
(1/523)
عليها بذكرها،
وهي ليس معها من صلاتها عمل تام يبطل عليها
بالقطع. ولو علمت وهي تصلي الظهر قبل أن تغيب
الشمس أنها إن أكملت الظهر غابت الشمس لوجب أن
تقطع على أي حال كانت وتصلي العصر، ولا اختلاف
في هذا، وبالله التوفيق.
مسألة
وقال فيمن صلى مع الإمام فرفع رأسه من السجدة
الأولى فرأى الناس سجوداً في الثانية فظن أنهم
في الأولى كلهم، فرجع إلى السجدة الأولى ليرفع
منها برفعهم فرفعوا وقاموا، قال: ينبغي له أن
يسجد سجدة يخر ساجداً ويعتد بها، يعني ما بينه
وبين أن يركع الإمام في الثانية. قيل له: فإن
لم يفعل حتى سلم الإمام؟ قال: يعيد الصلاة إن
طال ذلك بعد سلام الإمام، وإن ذكر ذلك بحضرة
ذلك صلى ركعة بسجدتيها وسجد بعد السلام.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يسجد التي ترك من
الركعة الأولى ما بينه وبين أن يركع الإمام في
الثانية هو مثل ما مضى في رسم استأذن وفي غير
ما موضع، وكذلك إن ترك السجدة من غير الأولى
يسجدها ما لم يعقد الإمام الركعة التي تليها،
إما بالركوع وإما بالرفع منه على ما مضى من
اختلاف قول مالك في ذلك، ولا اختلاف في هذا،
وإنما الاختلاف إذا تركها من الركعة الآخرة،
فقيل: إنه يسجدها ما لم يسلم الإمام، فإن سلم
الإمام وكان بالقرب صلى ركعة وسجد بعد السلام،
وإن طال ابتدأ الصلاة، وهو ظاهر قوله في هذه
الرواية. وقيل: إنه يسجد السجدة بعد سلام
الإمام ما كان بالقرب، فإن طال بعد سلامه
ابتدأ الصلاة، وهو على ما مضى من قوله في هذا
الرسم، وبالله التوفيق.
(1/524)
مسألة
وسئل عمن صلى بقوم المغرب فسلم من ركعتين فسبح
به فقام فاستأنف الصلاة واتبعوه، فقال: أما هو
فقد تمت صلاته، وأما من خلفه فيعيدون في الوقت
وغيره إن كانوا لم يسلموا.
قال المؤلف: ظاهر قوله أما هو فقد تمت صلاته
يوجب أن سلامه على طريق السهو قد أخرجه عن
الصلاة. وقد روي عن ابن أبي زيد أنه قال: إنما
يصح هذا إذا سلم عامداً أو تعمد القطع بعد
سلامه ساهياً، فذهب ابن أبي زيد في قوله هذا
إلى أن سلامه على طريق السهو لم يخرجه من
صلاته مثل ما يأتي في رسم أسلم بعد هذا، فلهذا
قال: إنما يصح أن تكون صلاته قد تمت إن كان
سلم عامداً، يريد بعد سلامه ساهياً، أو تعمد
القطع بعد سلامه ساهياً، وإلى أن السلام على
طريق السهو لا يخرج المصلي عن صلاته ذهب ابن
المواز، وحكاه عن مالك، وعليه بنى مسائله فقال
فيمن دخل مع الإمام في التشهد الآخر فلما سلم
الإمام وقام وهو يقضي صلاته رجع الإمام فقال:
إني كنت أسقطت سجدة من صلاتي، إنه ينظر، فإن
ركع الركعة الأولى من قضائه في حد لو رجع
الإمام لصح له الرجوع إلى إصلاح صلاته ألغى
تلك الركعة، لأنه صلاها في حكم الإمام، وإن
كان لم يركع في الركعة الأولى من قضائه إلا
بعد أن فات الإمام الرجوع إلى إصلاح صلاته صحت
له الركعة وسجد قبل السلام، لأن قرأ الحمد في
حكم الإمام فكأنه أسقطها. فالسلام من الصلاة
ينقسم على قسمين أحدهما: أن يسلم ساهياً غير
قاصد إلى السلام والتحلل به من الصلاة،
والثاني: أن يسلم قاصداً إلى السلام والتحلل
به من الصلاة. فأما إذا كان ساهياً غير قاصد
إلى السلام والتحلل من الصلاة فلا يخلو من أن
يكون ذلك في غير موضع السلام أو في موضع
السلام، فهو سهو دخل عليه يسجد له بعد السلام،
وإن كان ذلك في موضع السلام أجزأه ذلك من
السلام وتحلل به من الصلاة إلا أن يقصد به
(1/525)
التحلل من
الصلاة، مثل أن ينسى السلام الأول ويسلم من
على يمينه أو يرد على الإمام، فلا يجزئه على
مذهب مالك، ويجزئه على ما ذهب إليه سعيد بن
المسيب وابن شهاب من أن تكبيرة الركوع تجزئ عن
تكبيرة الإحرام. وأما إن سلم قاصداً إلى
السلام والتحلل من الصلاة فلا يخلو من أن يكون
ذلك وهو يعلم أن الصلاة لم تتم، أو هو يظن أن
الصلاة قد تمت؛ فأما إن كان ذلك وهو يعلم أن
الصلاة لم تتم، أو هو يظن أن الصلاة قد تمت؛
فأما إن كان ذلك وهو يعلم أن الصلاة لم تتم
فذلك يقطعها عليه ويخرجه عنها، وإن كان ذلك
وهو يظن أن الصلاة قد تمت فكان ذلك كما ظن خرج
من الصلاة بالسلام، وإن تم ذلك على ما ظن
وتبين أنه قد سها فيما كان يظن وأنه لم يكمل
صلاته، فهنا هو الاختلاف المذكور في خروجه عن
الصلاة بالسلام، فهذا تحصيل القول في هذه
المسألة، والله أعلم.
مسألة
وقيل فيمن ترك التكبير كله من الصلاة سوى
تكبيرة الإحرام إنه لم يسجد السجدتين في ذلك
قبل السلام أعاد الصلاة، وإن ترك الجلوس أيضاً
في اثنتين فلم يسجد أعاد الصلاة لذلك، لأن هذا
نقصان. ولو أسر القراءة في الصلاة كلها لم ير
أن يعيد لذلك الصلاة إن لم يسجد وإن تطاول
لأنه قد قرأ.
قال المؤلف: سجود السهو يجب في السنن المؤكدات
في الصلاة، وهي ثمان: قراءة ما سوى أم القرآن،
والجهر في موضع الجهر، والإسرار في موضع
الإسرار، والتكبير سوى تكبيرة الإحرام،
والتحميد، والتشهد الأول، والجلوس له، والتشهد
الآخر، فإن ترك من هذه السنن ثلاث سنن فأكثر
سجد لها قبل السلام، فإن لم يسجد قبل فبعد،
فإن لم يسد بع حتى طال أعاد الصلاة وإن ترك
منها أقل من ثلاث ولم يسجد قبل ولا بعد حتى
طال فلا إعادة عليه. فهذا حكم هذه السنن
المذكورات ما عدا التكبير سوى تكبيرة الإحرام،
فإنه اختلف فيه، فقيل إنه كله سنة واحدة، وقيل
إن كل تكبيرة سنة
(1/526)
سنة. فمن قال
إنه كله سنة واحدة لم ير سجود السهو في تكبيرة
واحدة منه ولا أوجب الإعادة على من تركه كله
فلم يسجد له حتى طال، وهي رواية أبي زيد عن
ابن القاسم؛ ومن قال إن كل تكبيرة منه سنة
أوجب السجود في التكبيرة الواحدة وفي
التكبيرتين، والإعادة على من ترك منه ثلاث
تكبيرات فأكثر فلم يسجد حتى طال، وهو قوله في
هذه الرواية وأحد قوليه في المدونة. وقوله إن
ترك الجلوس في اثنتين فلم يسجد أعاد الصلاة
صحيح على ما أصلناه، لأنه يجتمع في تركه له
ثلاث سنن، وهي الجلوس والتشهد وتكبيرة القيام.
وقوله لأن هذا نقصان، يريد لأن هذا نقصان
كثير. وقوله لو أسر القراءة في الصلاة كلها لم
أر أن يعيد صحيح أيضاً على ما أصلناه من أنه
سنة واحدة، وبالله التوفيق.
مسألة
وقال مالك فيمن يأتي عليه السهو فلا يدري أسها
أم لا، قال: يسجد سجدتين بعد السلام.
قال المؤلف: معنى يأتي عليه السهو يكثر عليه
الشك فلا يدري أسها أم لا، وهو المستنكح بكثرة
الشك في السهو. وسيأتي له مثل هذا في رسم إن
خرجت، وقد مضى له مثله والقول عليه في رسم باع
غلاماً من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة
ذلك، وبالله التوفيق.
مسألة
قال مالك: من أكل الثوم فلا يقرب المسجد
رأساً. قال ابن القاسم: والكراث والبصل إن كان
يؤذي ويظهر فهو مثل الثوم ولا يقرب المسجد
أيضاً.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول
فيها في رسم
(1/527)
الصلاة الثاني
من سماع أشهب، فلا معنى لإعادة القول في ذلك،
وبالله التوفيق.
مسألة
قال: ومن صلى ببول الفارة فإنه يعيد ما كان في
الوقت. قال سحنون: لا إعادة عليه. وسئلت
عائشة، رضي الله عنها، عن أكل الفارة فتلت هذه
الآية: ((قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على
طاعمٍ يطعمه))، الآية كأنها رأت إجازته.
قال محمد بن أحمد بن رشد: قول ابن القاسم هو
القياس على المذهب، لأن الفارة من ذي الناب من
السباع، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أكل كل ذي ناب من السباع. والأبوال تابعة
للحوم، فوجب أن يكون بولها نجساً إذ لا يؤكل
لحمها، وأن يعيد في الوقت من صلى ببولها. وقول
سحنون استحسان مراعاة لقول عائشة، رضي الله
تعالى عنها، في إجازة أكلها لظاهر الآية التي
تلتها، إذ ليست الإعادة من النجاسات المتفق
عليه واجبة، والقول بالمنع من أكلها ونجاسة
بولها أظهر، لأن السنة مبينة للقرآن. روي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ألفين
أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري
فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من
حلال حللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا
وإنه ليس كذلك لا يحل ذو ناب من السباع ولا
الحمار الأهلي، وفي رواية أخرى: ((ألا وإن ما
حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مثل ما
حرم الله))، وبالله التوفيق.
((كمل كتاب الصلاة الثالث بحمد الله.))
(1/528)
نجز الجزء
الأول من كتاب البيان والتحصيل
للإمام ابن رشد ـ رحمه الله ـ من عمل ثمانية
عشر جزءاً
يتلوه أول الثاني: كتاب الصلاة الرابع
(1/529)
|