البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

كتاب اللقطة
من سماع ابن القاسم من مالك بن أنس
قال سحنون أخبرني ابن القاسم في اللقطة مثل المخلاة والحبل والدلو وأشباه ذلك أنه إن كان في طريق وضعت في قرب الأماكن إلى ذلك الموضع ، وإن كان في مدينة انتفع به وعرفه ، وإن تصدق به أحب إلى ، وإن جاء طالبه كان على حقه .
قال محمد بن رشد : قوله في اللقطة مثل المخلاة والحبل والدلو وأشباه ذلك من اليسير الذي له قدر وفيه منفعة ويعلم بمستقر العادة أن صاحبه شح به ويطلب أنه يعرفه ، وإن كان في طريق وضعه في أقرب المواضع إليه صحيح لا اختلاف في وجوب تعريف ذلك ، وإنما اختلف في حد تعريفه ، فقيل إنه يجب تعريفه حولاً كاملاً كالكثير الذي له قدر وبال ، وهو ظاهر ما حكي ابن القاسم عن مالك في المدونة ، بدليل أن النبي عليه السلام أمر بتعريف اللقطة حولاً ولم يفرق بين قليل ولا كثير ، وقيل إنه ليس عليه أن يبلغ بتعريف اليسير حولاً ، وهو قول ابن القاسم من رأيه في المدونة ، ورواية عيسى عن ابن وهب بعد هذا في رسم النسمة من سماعه في مثل الدرهمات والدينار أنه يعرف ذلك أياماً ، وأما اليسير جداً الذي لا قدر له ولا بال ويعلم بمستقر العادة أن صاحبه لا يشح به ولا يطلبه فإنه لا يجب على واجده أن يعرفه ، وله أن يأكله إن كان طعاماً وينتفع به دون تعريف إن كان عرضاً مثل

(15/349)


العصا والسوط وما أشبه ذلك ، وهو نص قول أشهب في الذي يجد العصا والسوط إنه يعرفه فإن لم يفعل فأرجو أن يكون خفيفاً .
وقوله في هذه الرواية في اليسير الذي له قدر وفيه منفعة إن كان في مدينة انتفع به وعرفه ، وإن تصدق به أحب إلى معناه عرفه وانتفع به يريد بعد التعريف ، فالكلام فيه تقديم وتأخير .
وقوله وإن تصدق به أحب إلى معناه بعد التعريف .
وقوله وإن جاء طالبه كان على حقه يريد في الصدقة والانتفاع جميعاً إن كان انتفاعه به وقد أنهكه أو نقصه فإن وجدها صاحبها في الصدقة بأيدي المساكين وهي على حالها لم يكن إلا أن يأخذها ، وهذا إن كان تصدق بها عنه ، وأما إن كان تصدق بها عن نفسه فله أن يضمنها قيمتها إن شاء ويدعها في أيدي المساكين ، وأما إن وجدها بأيدي المساكين وقد نقصت فهو مخير بين أن يضمن قيمتها يوم تصدق بها أو يأخذها من أيدي المساكين ولا شيء له في نقصانها ، وهذا إن كان تصدق بها عنه أيضاً ، وأما إن كان تصدق بها عن نفسه فهو مخير بين أن يضمنه قيمتها يوم تصدق بها وبين أن يأخذها من أيدي المساكين ناقصة ويرجع عليه بما نقصها ، واختلف إن أكلها المساكين هل له أن يضمنهم إياها أم لا ؟ فقال في المدونة ليس ذلك ، وقال أشهب له أن يضمنهم إن شاء ويدع الملتقط ، وإن شاء أخذ الملتقط بقيمتها يوم تصدق بها ، قال وسواء في هذا تصدق بها عن نفسه أو عن ربها ، وإن وجدها صاحبها بيد الملتقط وقد أنقصها بالاستعمال أخذها وما نقص منها ، وإن قد أنهكها به كان بالخيار بين أن يضمنه قيمتها أو يأخذها ناقصة ولا شيء له أو يأخذها وقيمة ما نقصها ، وقد قيل إنه ليس له إلا ما نقصها ، وقد مضى ذكر هذا الاختلاف في رسم باع غلاماً من سماع ابن القاسم من كتاب العارية وفي غيره من المواضع ، وإن وجدها صاحبها بيد الملتقط على حالها فلا كراء عليه

(15/350)


في استعماله إياها لقول النبي عليه السلام فإن جاء صاحبها إلا فشأنك بها .
واختلف هل للملتقط أن يستنفق اللقطة بعد التعريف أم لا على أربعة أقوال أحدها أنه ليس له أن يستنفقها غنياً كان أو فقيراً ، وهو مذهب مالك ، ومعنى قول النبي عليه السلام عنده ، فشأنك بها أنه مخير فيها بين أن يزيد في تعريفها أو يتصدق بها عن صاحبها فإن جاء كان مخيراً بين أن ينزل على أجرها أو يضمنه إياها ، والثاني أن له أن يستنفقها غنياً كان أو فقيراً على ظاهر قول النبي عليه السلام فشأنك بها ، فإن جاء صاحبها غرمها له ، وهو مذهب الشافعي ، والثالث أنه ليس له أن يستنفقها إلا أن يحتاج إليها ، وهو قول ابن وهب في رسم النسمة من سماع عيسى بعد هذا ومذهب أبي حنيفة وسائر أصحابه ، والرابع أنه ليس له أن يستنفقها إلا أن يكون له بها وفاء وبالله التوفيق لا شريك له .
ومن كتاب أوله حلف أن لا يبيع رجلاً سلعة سماها
وسئل عن الرجل تقوم عليه دابته في السفر فيسلمها على وجه اليأس منها فأخذها رجل فتعيش عنده وينفق عليها هل ترى لصاحبها أن يأخذها ؟ قال : نعم أرى ذلك له ، قيل له : أله أجرة في قيامه ؟ قال : لا أرى ذلك ، ولا أرى له إلا نفقته .

(15/351)


قال محمد بن رشد : قوله في الذي أسلم دابته على وجه اليأس منها إن له أن يأخذها من الذي أخذها فعاشت عنده بعد أن يدفع إليه ما أنفق عليها صحيح إذ لم تخرج عن ملكه بإسلامه لها ، فيكون له أن يأخذها ممن أخذها إلا أن يكون أسلمها على أنها لمن أخذها أو قام عليها ، فيلزمه ذلك ولا يكون له أن يأخذها ممن أخذها وقام عليها ، وقد قيل إنه إذا أسلمها على وجه اليأس منها فهو محمول على أنه إنما أسلمها لتكون لمن أخذها وقام عليها ، إلا أن يكون أسلمها في أمن وماء وكلاء فيكون أحق بها ، حكى ذلك ابن شعبان في كتابه عن ابن وهب والشعبي والأوزاعي ، فلا اختلاف إذا أرسلها في أمن وماء وكلاء أن له الرجوع فيها وإنما اختلاف إذا أرسلها في غير أمن ولا ماء ولا كلاء فقيل إن له الرجوع فيها . وقيل إن لا رجوع لها فيها ، واختلف إذا رجع فيها هل يرجع فيها بيمين أو بغير يمين ، والاختلاف في اليمين في هذا على اختلافهم في لحوق يمين التهمة .
وتحصيل القول في هذه المسألة أن إسلامه إياها على وجه اليأس منها لا يخلو من ثلاثة أحوال أحدها أن يسلمها على أن له الرجوع فيها إن أخذها أحد وعاشت عنده ، والثاني أن يسلمها على أنها لمن أخذها والثالث أن يسلمها ولا نية له .
فأما إذا أسلمها على أن له الرجوع فيها إن أخذها أحد فعاشت عنده ولم يشهد على ذلك فقيل إنه يصدق في ذلك ، وقيل إنه لا يصدق فيه إلا أن يكون إرساله إياها في أمن وماء وكلاء ، واختلف إذا صدق في ذلك هل يصدق بيمين أو بغير يمين حسبما ذكرناه من اختلافهم في لحوق يمين التهمة .
وأما إذا أسلمها على أنها لمن أخذها فلا سبيل له إلى أخذها ممن أخذها وقام عليها .
وأما إذا أسلمها ولا نية له ، فقيل إنه محمول على أنه إنما أسلمها على

(15/352)


أن له الرجوع فيها ، وقيل إنه محمول على أنه إنما أسلمها على أنها لمن أخذها وقام عليها إلا أن يكون إسلامه لها في أمن وكلاء وماء .
وإنما لم ير لمن أخذت منه أجرة في قيامه عليها لأنه إنما قام عليها لنفسه لا لصاحبها ، ولو شهد أنه إنما يقوم عليها لصاحبها إن شاء أن يأخذها ويؤدي إليه أجر قيامه عليها لكان ذلك له ، ولو لم يشهد على ذلك وإدعاه لصدق في ذلك على اختلاف ، قيل بيمين وقيل بغير يمين ، وأما النفقة فلا إشكال في أن له أن يرجع بها عليه إذ قد أثرت في الدابة وأحدث فيها نماء فلا يكون له أن يأخذها بنمائها ويخسر هذا نفقته وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمراً
وسئل مالك عن رجل دخل حانوت بزاز ليشتري منه ثوباً ثم خرج منه فاتبعه صاحب الحانوت فقال يا أبا عبد الله : هذا دينار وجدته في حانوتي ولم يدخل على اليوم أحد غيرك فعد الرجل نفقته فافتقد منها ديناراً أترى أن يأخذه ؟ فقال مالك : لا أدري هو أعلم بنفسه ، إن استيقن أنه ديناره فليأخذه ، قيل له : التاجر يقول لم يدخل على اليوم أحد غيرك ، وقد افتقد الرجل من نفقته ديناراً ، قال : إن استيقن أنه له فليأخذه .
قال محمد بن رشد : في قوله إنه إن استيقن أنه له فليأخذه دليل على أنه لا يأخذه إلا أن يستيقن أنه له زيادة على ما ذكر له فجعل له به اليقين أنه له ، وهذا على سبيل التورع والنهاية فيه إذ لم يعتره شك في أنه له فأخذه له حلال سائغ ، لأن الغالب على ظنه أنه له إذ قد افتقد من نفقته ديناراً ، ولو لم يعلم عدد نفقته لساغ له عندي أن يأخذه ، لقول صاحب الحانوت له إنه لم يدخل أحد على اليوم غيرك ، وإن كان التورع عن أخذه أولى وأحسن ،

(15/353)


وكذلك لو قال له صاحب الحانوت هذا الدينار وجدته في مكانك ولا أدري هل هو لك أو لغيرك ممن دخل الحانوت ، فعد الرجل نفقته فافتقد منها ديناراً ، وأما لو قال له صاحب الحانوت هذا الدينار وجدته في مكانك بعد خروجك عني ولا أدري هل هو لك أو لغيرك ممن دخل الحانوت والرجل لا يعلم عدد نفقته لما ساغ له أن يأخذه بشك .
ومن كتاب أوله حديث طلق بن حبيب
وسئل مالك عن اللقطة يجدها الرجل أيأخذها ؟ قال : أما الشيء الذي له بال فإني أرى ذلك ، فقال له الرجل : إني رأيت شنف قرط في المسجد مطروحاً فتركته ؟ قال : لو أخذته فأعطيته بعض نساء المسجد يعرفنه كان أحب إلي ، قال : فكذلك الرجل مجد الشيء فإن كان لا يقوى عليه فإنه يجد من يثق به يقبله منه فيعرفه ، وإن كان الشيء له بال فأراد أن يأخذه قال سحنون قال لي ابن القاسم وقال لي مالك غير مرة إذا كان شيئاً يسيراً فليتركه ، قال قلت لابن القاسم : أرأيت إذا دفعه إلى مثله في الأمانة والثقة فضاع منه ثم جاء صاحبه هل يكون على الذي وجده ضمان ، قال : لا .
قال محمد بن رشد : قال في اللقطة التي لها بال إن من وجدها يأخذها ولم يذكر هل ذلك واجب عليه أو مستحب له ، وفي ذلك تفصيل .
أما إذا كانت بين قوم مأمونين وإمام عدل لا يخشى منه إن هو عرفها أن يأخذها أخذها وتعريفها مستحب له ، مخافة أن تقع إلى غير مأمون فيذهب بها .
وأما إن كانت بين قوم غير مأمونين وإمام عدل فأخذها وتعريفها

(15/354)


لأن ذلك حفظها على ربها ن وحفظ أموال الناس واجب وفي تركها إضاعتها ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ، ولو كانت بين قوم مأمونين وإمام غير عدل فخشى أن هو عرفها أن يأخذها لكان الاختيار له أن لا يأخذها ، ولو كانت بين قوم غير مأمونين والإمام غير عدل لكان أخذها مباحاً إن شاء أن يأخذها مخافة أن يأخذها غيره فيذهب بها ، وإن شاء أن يتركها مخافة أن يأخذها السلطان إن هو أخذها فعرفها .
وأما اللقطة اليسيرة التي لا قدر لها إلا أنها مما قد بشح بها صاحبها ويطلبها ، فاختلف قول مالك هل الأفضل أخذها أو تركها ، وذلك إذا كانت بين قوم مأمونين فمرة رأي أخذها وتعريفها أفضل مخافة أن تقع إلى من يذهب بها ، ومرة رأي أن تركها أفضل رجاء أن يرجع صاحبها فيجدها ، وأما إذا كانت بين قوم غير مأمونين فأخذها وتعريفها أفضل واحداً والله أعلم .
وقد اختلف في حد تعريفها ، فقيل يعرفها حولاً كاملاً كالتي لها بال ، وهو ظاهر قول مالك في رواية ابن القاسم عنه في المدونة ، وقيل يعرفها أياماً ، وهو قول ابن القاسم من روايته في المدونة ورواية عيسى عن ابن وهب في رسم النسمة من سماعه من هذا الكتاب ، وأما اللقطة اليسيرة جداً التي يعلم أن صاحبها لا يشح بها ولا يطلبها فهي لمن وجدها ليس عليه أن يعرفها وإن شاء تصدق بها ، والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق ، فقال : لولا أن تكون من الصدقة لاكتلها ، ولم يذكر فيها تعريفاً وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن اللقطة بجدها الرجل فيعرفها سنة فلا يجد

(15/355)


صاحبها فيستنفقها ثم تحضره الوفاة فيوصي بها ويترك ديناً عليه ولا وفاء له كيف ترى ؟ قال أرى أن يحاص الغرماء بها أهل الدين بقدر ما يصيبها .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، لأن إقرار المديان بالدين عند مالك جائز لمن لا يتهم عليه ، كان إقراره في صحته أو في مرضه ، وإنما يفترق عنده الصحة من المرض في رهنه وقضائه بعض غرمائه دون بعض وفي إقراره بالدين لمن يتهم عليه فلا يجوز شيء من ذلك عنده في المرض ، واختلف قوله في جواز ذلك في الصحة فمرة أجاز ذلك كله ومرة لم يجزه ، ومرة فرق بين الرهن والقضاء والإقرار لمن يتهم عليه ، فأجاز الرهن والقضاء ولم يجز الإقرار ، ومرة أجاز القضاء خاصة ولم يجز الرهن ولا الإقرار .
وأما إن أقر أنه استنفق اللقطة ولا دين عليه ولم يقم بذلك عليه حتى مات ، فإن كان إقراره بذلك في صحته جاز ذلك من رأس ماله على ورثته ، وإن كان إقراره بذلك في مرضه فإن كان يورث بولد جاز إقراره من رأس المال أوصى أن يتصدق بها عن صاحبها أو توقف له ، واختلف إن كان يورث بكلالة ، فقيل إنه إن أوصى أن يحبس ويوقف حتى يأتي صاحبها جازت من رأس المال ، وإن أوصى أن يتصدق بها عنه لم يقبل قوله ولم تخرج من رأس المال ولا من الثلث ، وقيل إنه يكون من الثلث ، وقيل إنه إن كانت يسيرة جازت من رأس المال ، وإن كانت كثيرة لم تكن في رأس المال ولا في الثلث ، وقد مضى هذا المعنى مجوداً في رسم ليرفعن من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس .
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء في الحرس
وسئل مالك عن الرجل يجد الثوب ملقى فيأخذه وهو يظنه لقوم

(15/356)


يراهم فيسألهم عن ذلك ، فيقولون ليس هو لنا ، فيريد أن يرده حيث وجده فيضعه فيه ، قال لا أرى بذلك بأساً ، قيل لابن القاسم : فإن كانت دنانير أو دراهم ؟ قال : فلو أخذها فعرفها كان أحب إلي .
قال محمد بن رشد : قوله في الذي أخذ الثوب وهو يظنه لقوم فسألهم عنه فقالوا ليس هو لنا فرده في موضعه : إنه لا بأس بذلك معناه أنه لا ضمان عليه إن فعل ، والاختيار له أن لا يفعل ، كما قال في الدنانير والدراهم ، إذ لا فرق في ذلك بين الثوب والدنانير والدراهم ومعنى ذلك إذا أخذ الثوب على غير وجه الالتقاط ورده بالقرب أيضاً ، ولو أخذه على وجه الالتقاط لكان ضامناً له وإن رده بالقرب في موضعه ، هذا مذهب ابن القاسم ، وقال أشهب لا ضمان عليه إن رده في موضعه بقرب ذلك أو بعده ، فإن رده في غير موضعه ضمن ، والقول قوله في رده في موضعه مع يمينه على ذلك ، وقول أشهب في مساواته بين أن يرد الثوب في موضعه بالقرب أو بالبعد بعيد ، لا سيما إن كان أخذه على وجه الالتقاط وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله الشريكين يكون لهما مال
وسئل عن جمل قام ببعض الطريق فأخذه رجل فأنفق عليه وقام عليه ، ثم إن صاحبه رجع إليه فوجده قد صح ، قال مالك : يدفع إليه الذي قبضه ما أنفق عليه ويأخذ جمله .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة والقول عليها مستوفى في رسم حلف قبل هذا ، فلا معنى لإعادته ، ولو قال صاحب الجمل لرجل : قم عليه وأنفق ولك نصفه إن حيي لم يجز ، لأنه غرر في الثمن والمثمون ، فإن جاء ربه وقد أنفق عليه أخذ جمله وكان للمنفق قيمة نفقته وخدمته ، وكذلك إن مات الجمل كان على ربه قيمة ما أنفق أيضاً وما خدم وبالله التوفيق .

(15/357)


ومن كتاب أوله سن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال مالك لا أحب لأحد يجد اللقطة أن يأخذها ألا يكون لها قدر .
قال ممد بن رشد : قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم طلق بن حبيب ، فلا معنى لإعادته .
مسألة
وسئل عن رجل ماتت راحلته بفلات من الأرض فأسلم متاعه فأخذه رجل فاحتمله إلى منزله ثم وجد متاعه ، قال : أرى أن يأخذ متاعه ويغرم للذي احتمله أجر ما احتمله .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، إن كان أخذه واحتمله إلى منزله على وجه الحفظ لصاحبه والنظر له أو هو يرى أنه يستحقه بحمله إلى منزله إذ قد أسلمه صاحبه ، وأما إن كان أخذه واحتمله على وجه الاغتيال له والسرقة والتعدي وهو يعلم أن ملك صاحبه باق عليه إلى أن يرجع عنه فلا كراء له في حمله ، والقول قوله مع يمينه أنه لم يأخذه إلا على الوجه الذي يذكره من ذلك ، والله الموفق .
مسألة
وقال مالك في قوم خافوا على مركبهم غرقاً فطرحوا من متاعهم ، ثم وجدوها عند قوم أخذوها من ماء البحر ، قال مالك : يأخذون متاعهم منهم ، وهذا بين بأنهم يأخذونه وعليهم أجر إخراجه

(15/358)


من البحر إن كانوا غاصوا عليه وأجر حمله إن كانوا حملوه إلى مأمن .
قال محمد بن رشد : القول في هذه المسألة كالقول في التي قبلها ، ويدخل فيها من الاختلاف ما ذكرنا في رسم حلف من سماع ابن القاسم في الذي يقوم عليه دابته في السفر فيسلمها على وجه اليأس منها ، فلا معنى لإعادة ذلك ، وبينهما جميعاً ما مضى من التفصيل في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها ، لأن المعنى فيها كلها سواء ، وقال سحنون فيمن وقع له ثوب في بئر أو جب فنزل فيه رجل فأخرجه فأتى ربه فطلب منه أجرة فامتنع فرده مخرجه في البئر أو الجب فطلبه فيه ربه فلم يجده ، قال : يخرجه الذي كان رده فيه وإلا ضمنه ، قال محمد : وإذا أخرجه فينبغي أن يكون له أجره إذا كان ربه لا يصل إلى ذلك إلا بأجر ، وبالله التوفيق .
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك
من كتاب الأقضية
قال أشهب : سألت مالكاً عن قول عمر بن الخطاب في الذي وجد البعير ضالاً . أرسله حيث وجدته ، فقال لي مالك : نعم يرسله حيث وجد .
قلت له : يشهد عليه أم لا ؟ فقال : ما شأنه يشهد عليه ؟ كأنه لا يرى ذلك عليه ، قال ابن نافع وأرى أن يشهد على إرساله أحب إلي .
قال محمد بن رشد : ثبت عن النبي عليه السلام أنه قال في صالة الإبل : ما لك ولها ، معها حداؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى

(15/359)


يلقاها ربها ، فالاختيار فيها أن لا تؤخد فإن أخذت عرفت ، فإن لم تعرف ردت حيث وجدت ، جاء ذلك عن عمر بن الخطاب ، وأخذ به مالك في أحد قوليه وهو قوله ها هنا وفي المدونة ، وقيل إنها تؤخذ وتعرف ، فإن لم تعرف بيعت ووقف ثمنها لصاحبها ، فإن لم يأت وايس منه تصدق به عنه ، جاء ذلك عن عثمان بن عفان روي ذلك عن مالك أيضاً قال : من وجد بعيراً ضالاً فليأت به الإمام يبيعه ويجعل ثمنه في بيت المال ، يريد بعد أن يعرف ، وقال في مدونة أشهب : يوقف ثمنه حتى يأتي ربه ، وإن كان الإمام غير عدل خلي حيث وجد .
وإنما اختلف الحكم في ذلك من عمر بن الخطاب وعثمان بن عثمان لاختلاف الأزمان بفساد الناس ، وكان الحكم فيها في زمن النبي عليه السلام وخلافة عمر بن الخطاب إن لا تؤخذ ، فإن أخذت عرفت فإن لم تعرف حيث وجدت .
ثم كان الحكم فيها في زمن عثمان لما ظهر من فساد الناس أن تؤخذ وتعرف فإن لم تعرف بيعت ووقفت أثمانها ، وكذلك ينبغي أن يكون الحكم فيها اليوم إن كان الإمام عدلاً وإن كان غير عدل يخشى عليها إن أخذت لتعرف تركت ولم تؤخذ ، فإن كان إنما يخشى على ثمنها إن بيعت أخذت فعرفت وإن لم تعرف ردت حيث وجدت .
واختلف إن كانت الإبل الضوال بعيدة من العمران في موضع يخاف عليها السباع ، فقيل إنها في حكم الشاة ، لأن النبي عليه السلام قد ذكر العلة التي من أجلها فرق بين ضالة الغنم وضالة الإبل بقوله في الشاة : هي لك أو لأخيك أو للذيب ، وقيل إنها تؤخذ وتعرف بخلاف الشاة إذ لا مشقة في

(15/360)


حلبها ، وكذلك البقر إن كانت بموضع يخاف عليها السباع يدخل فيها من الخلاف ما دخل في الإبل إن كان المشقة في حلبها ، والمنصوص فيها في المدونة أنها بمنزلة الغنم .
وقوله في الرواية ليس عليه أن يشهد على إرسالها ، معناه في غير المتهم ، بدليل قوله بعد هذا في هذا الرسم إن المتهم يشهد ، وقول ابن نافع وأرى أن يشهد على إرسالها أحب إلى ظاهره وإن لم يتهم ليدفع عن نفسه الظنة ، وأما المتهم فإن لم يشهد لحقته اليمين .
مسألة
وسألته عن تعريف اللقطة في المساجد ، قال : لا أحب رفع الصوت في المساجد ، وقد بلغني أن عمر بن الخطاب أمر أن تعرف اللقطة على أبواب المساجد ، فأحب إلى أن لا تعرف في المساجد ولو مشى هذا إلى الخلق في المساجد يخبرهم بالذي وجد ولا يرفع صوته لم أر بذلك بأساً إن شاء الله .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأن رفع الصوت في المسجد مكروه حتى في العلم ، وقد بنى عمر بن الخطاب رحبة بناحية المسجد تسمى البطيحا فقال من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا ويرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة ، وفي فعله الأسوة الحسنة وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن ضالة الإبل تعرف فلا تعرف أترى أن يخليها ؟ قال : نعم أرى أن يخليها حيث وجدها ، قيل : أفترى أن يشهد على تخليتها ؟ قال : أما المتهم فهو خير إن شاء الله أن يشهد ، وأما الرجل المأمون فلا أرى ذلك عليه ، قيل له أفترى الأباق كذلك إذا

(15/361)


عرفه قال : نعم أرى إذا عرفه فلم يجد من يعرفه أن يخليه خيراً له من أن يبعيه فيهلك ثمنه ويوكل ، أو يطرح في السجن فيقيم ولا يجد من يطعمه .
قال محمد بن رشد : قد تقدم فوق هذا في هذا الرسم بعينه القول في حكم ضوال الإبل للتعريف وإرسالها حيث وجدت إذا لم تعرف والإشهاد على ذلك ، فلا معنى لإعادة القول في ذلك .
وأما الاباق فساوى في هذه الرواية بينهم وبين ضوال الإبل في أنهم يرسلون إذا عرفوا فلم يعرفوا ، وقال في المدونة : إنهم يحبسون سنة ثم يباعون فتحبس أثمانهم لأربابهم ولا يرسلون ، لأنهم إن أرسلوا أبقوا ثانية ، بخلاف ضوال الإبل ، فالظاهر أن ذلك اختلاف من القول ، وعلى ذلك كان يحمله الشيوخ ، والأولى أن يحمل على الخلاف فيكون الوجه في ذلك أنه إن خشي عليه أن يضيع في السجن بغير نفقة وأن يتلف ثمنه إن بيع كان إرساله أولى من حبسه على ما قال في هذه الرواية ، وإن لم يخش عليه أني ضيع في السجن ولا أن يتلف ثمنه إن بيع كان حبسه سنة ثم يبعه بعد السنة وإمساكه لصاحبه أولى من إرساله لئلا يأبق ثانية إن أرسل ، بخلاف ضوال الإبل على ما قاله في المدونة .
وموضع الخلاف في ذلك عند من حمله على الخلاف إنما هو إذا خشي عليه أن يضيع في السجن وأن يتلف ثمنه إذا بيع ، فمرة رأى إرساله أولى لئلا يضيع ويتلف ثمنه ، ومرة رأى حبسه وبيعه وإمساك ثمنه أولى من إرساله لئلا يأبق ثانية إن أرسل ، والاختلاف في هذا إنما هو بحسب الاجتهاد في أي الخوفين أشد ، وأما إن لم يخش عليه أن يضيع في السجن ولا أن يتلف ثمنه إذا بيع فلا يرسل لئلا بأبق ثانية قولاً واحداً والله أعلم ، ولو لم يخش عليه أن يضيع في السجن وحشي على ثمنه أن يضيع إن بيع لوجب أن يسجن سنة يعرف فيها ، فإن لم يأت له طالب سرح ولم يحبس أكثر من السنة التي هي حد

(15/362)


تعريف اللقطة ، ولو لم يخش على ثمنه ضياع إن بيع وخشي عليه إن سجن أن يضيع في السجن لوجب أن يباع ويوقف ثمنه رجاء أن يأتي صاحبه ولا يسجن مخافة أن يضيع في السجن وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن قول عمر بن الخطاب : من أخذ ضالة فهو ضال ما يريد بقوله ؟ قال : يريد هو مخطئ فلا يأخذها ، يرى أن يتركها ، وإنما يعني بذلك الإبل ، وليس يقول أحد ضل غلامي ، وإنما يقال الضالة الإبل ، وقد قال ابن شهاب : كانت ضوال الإبل في زن عمر إبلا مؤبلة .
قال محمد بن رشد : إنما رأي عمر رضي الله عنه أن لا تؤخذ الضالة وقال من أخذها فهو ضال أي مخطئ لنهي الرسول عليه السلام عن أخذها بقوله : مالك ولها ؟ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ، فقيل إن ذلك عام في جميع الأزمان ، وقيل بل هو خاص في زمن العدل وصلاح الناس ، وقد مضى القول على هذا في أول الرسم وبالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية الثالث
وسألته عمن أخذ ضالة فباعها وتصدق بثمنها وجاء صاحبها أيغرمه ؟ فقال : لم أقل في هذا شيئاً ، ولو جوز هذا للناس لعمد الفاجر فباعها وأكل ثمنها ثم قال تصدقت بها .
قال محمد بن رشد : أما الفاجر فلا يصدق أنه تصدق بها ، ويلزمه غرمها ، وإنما اختلف في غير الفاجر ، فقيل إن عليه الغرم لصاحبها إذا جاء

(15/363)


إلا أن يشاء أن ينزل على أجرها كلقطة الدنانير والعروض ، وهو دليل قوله في هذه الرواية : ولو جوز هذا للناس لعمد الفاجر فباعها وأكل ثمنها ثم قال تصدقت بها ، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك من رواية مطرف عنه أنه إذا وجد الشاة في العمران فعرفها فلم يجد صاحبها فأكلها أو تصدق بها أنه يغرم لصاحبها قيمتها يوم أكلها أو تصدق بها إلا أن يشاء أن يجيز الصدقة ويكون له أجرها ، وهو قول سحنون في نوازله من هذا الكتاب ، وقيل إنه لا ضمان عليه في المواشي إن تصدق بها أو بأثمانها بعد بلوغ ما عليه من التعريف بها ، بخلاف لقطة الدنانير والدراهم والعروض إذ لا يقدر على حبسها لعلفها ، وهو قول مالك في الرسم الذي بعد هذا ، ومثله في كتاب ابن ع بد الحكم عنه ، واختلف قول مالك أيضا هل له أن يأكلها بعد التعريف ؟ فقال مرة له أن يأكلها ويضمنها لصاحبها إن جاء ، وهو قوله في رواية ابن عبد الحكم عنه ، وفي رواية مطرف أيضا على ما حكي عنه ابن حبيب بخلاف لقطة الدنانير والدراهم ، وقال مرة ليس له أن يأكل لقطة الدنانير والدراهم لأن معنى قول النبي عليه السلام عنده : فشأنك بها أنه مخير بين أن يمسكها لصاحبها ويزيد في تعريفها ، وبين أن يتصدق بها ويضمنها لصاحبها إن جاء إلا أن يشاء أن يجز الصدقة ويكون له الأجر ، ومن أهل العلم من يجز له أن يأكلها على وجه السلف على ظاهر الحديث ، غنياً كان أو فقيراً ، وهو مذهب الشافعي ومنهم من لا يجيز له أكلها إذا كان محتاجاً إليها ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وقول ابن وهب في رسم السنة بعد هذا من سماع عيسى من هذا الكتاب ، ومنهم من لا يجيز ذلك له إلا أن يكون له بها وفاء إن جاء صاحبها وهو ظاهر الأقوال وأولاها بالصواب .
فيتحصل في المسألة على هذا أربعة أقوال أحدها أن له استنفاقها بكل حال والثاني أنه ليس له استنفاقها على حال ، والثالث أنه ليس له استنفاقها إلا أن يكون محتاجاً إليها ، والرابع أنه ليس له استنفاقه إلا أن يكون له وفاء بها ، والأظهر أن لا فرق بين لقطة الماشية إذا وجدها قريبة من العمران حيث يجب

(15/364)


تعريفها ، وبين لقطة الدنانير والدراهم في جواز أكلها على وجه السلف ولا في وجوب الغرم عليه فيها لصاحبها إن تصدق بها وبالله التوفيق .
وسئل عن الرجل يجد الدرهم مطروحاً أيأخذه أو يتركه ويمضي لوجهه ؟ فقال : لو أعلم أنه يجد صاحبه لكان أحب إلي أن يأخذه ، ولكن أخاف أن يلزمك فأحب إلي أن تدعه فلا تأخذه ، ولو وجدت من يأمره به رأيت ذلك .
قلت له : أفرأيت إن وجد دنانير لها بال أيأخذها فيعرفها أحب إليك أم يدعها فلا يأخذها ؟ فقال : إذا كانت دنانير أو شيئاً له بال فأحب إلي أن لا يدعها وأن يأخذها فيعرفها ، وليس هذا مثل الدرهم والشيء الذي لا بال له خفيف المئونة على صاحبه لا تناله كبير مؤنة وأما إذا كان الشيء الذي له بال فأحب إلي أن يأخذه فيعرفه .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته .
ومن كتاب الأقضية الثاني
وسئل عن الرجل يجد الضالة فتنتج عنده أيجوز له أن يأكل من نتاجها شيئا أو يأكل من ألبانها ؟ فقال : أما نتاجها فلا يأكل منه شيئاً ، فقال ألبانها فعسى أن يأكل منها ، فقيل له كيف يصنع بها ؟ فقال : إذا بلغ الذي عليه فيها فليتصدق بها ، قيل له فلا يحبس لنفسه منها شيئاً ؟ فقال : نعم لا يحبس لنفسه منها شيئا ولكن يتصدق بها ، فقيل له : فإن جاء صاحبها لم يغرم من ثمنها شيئاً

(15/365)


فقال : لا ، لأن المواشي في مثل هذا ليست كالدنانير والدراهم ، والمواشي تؤكل فلا يقدر على حبسها لعلفها ، فإذا تصدق بثمنها ثم جاء طالبها لم أر عليه شيئا ، قال : وكان عمر بن الخطاب يقول لمن أخذها خلها حيث وجدتها . وأول من أمر بيعها عثمان بن عفان ، قال تباع وقد عرف صفتها ثم توقف أثمانها ، فإن جاء طالبها أعطى ثمنها ، فقال الذين يعذرون عثمان فيما أمر به من بيعها : إنه أمر ببيعها لأن الناس سرقوها وذهبوا بها فلذلك أمر عثمان ببيعها ، قيل له : أفرأيت إن لم يأت من يعرفها ؟ فقال يتصدق بها .
قال محمد بن رشد : حكم نتاج الضالة حكم ألبانها لقول النبي عليه السلام : كل ذات رحم فولدها بمنزلتها ، فلذلك قال : إنه ليس له أن يأكل من نتاجها على وجه الاقتطاع ، وأما أكله منها على وجه السلف بعد بلوغ ما عليه من التعريف بها فعلى ما ذكرناه في الرسم الذي قبل هذا من الاختلاف في أمهاتها ، إذ لا فرق بينها وبين نتاجها .
وأما ألبانها فخفف أن يأكل منها يريد بقدر قيامه عليها والله أعلم لأنه ينزل في ذلك منزلة الوصي في مال يتيمه ، وقد قال ابن عباس في ذلك : إن كنت تبغي ضالة إبله وتتاجر بها وتلط خوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب . وأما الزائد على ذلك فإن كان له قدر يشح به صاحبه فحكمه حكم اللقطة نفسها ، وإن كان يسيرا لا قدر له ولا يعلم أن صاحبها لا يشح به فله أن يأكله ن وقد مضى ذلك والقول فيه في **** سماع ابن القاسم .
وقوله إنه لا شيء عليه في الضالة لصاحبها إن تصدق بها خلاف قوله في الرسم الذي قبل هذا ، قد مضى الكلام على ذلك مستوفى فلا وجه لإعادته ،

(15/366)


ومضى في الرسم الأول من هذا السماع القول في جواز أخذ ضالة لإبل للتعريف وفي وجوب ردها حيث وجدت بعد التعريف فلا معنى لإعادته .
مسألة
وسئل عمن يجد العصا والسوط أيعرف ؟ فقال ماله يأخذه ؟ لا يأخذه ، قيل : فقد أخذه ، قال : يعرف فإن لم يعرف فأرجو أن يكون خفيفاً .
قال محمد بن رشد : قوله في هذه المسألة فأرجو أن يكون خفيفا معناه عندي فأرجو أن يكون خفيفا أن ينتفع به على وجه التملك له ما لم يجد صاحبه ، وإن أبى الانتفاع عليه ، وهذا في التافه الذي لا قيمة له ، لأن تعريفه غير واجب ، فقوله يعرفه يريد على وجه الاستحباب والله أعلم ، ولو كان له قدر يجب تعريفه لما صح له تمليكه بعد التعريف ، وقد مضى بيان هذا في رسم طلق من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عمن وجد حديدة ، فقال : يعرفها ، فإن لم يعرف فليتصدق بها ، فإن جاء طالبها فليعطه قيمتها ، قيل له أفيتصدق بالحديدة بعينها أم يبيعها فيتصدق بثمنها ؟ فقال : إن شاء تصدق بها كما هي يجمع مساكين يطعمهم إياها يقول هذه بينكم ، قيل : أرأيت إن كانت من الحديد الذي يحتاج إليه بعض السفهاء مثل الخنجر ؟ فقال لك : والعصا أيضا يقاتل به ، أرأيت لو ورث ذلك أبيعه بأس ؟ قال ، ليس به بأس وما أرى عليه أن يكسرها ثم يبيعها ، وإنما يكره هذا في الموضع الذي يتحدث فيه أن يباع للعدو ، وقال إنه إنما خرج حين عمدت إليه فأقمته قيمة ثم كسرته

(15/367)


فذهبت به أفيجزي عني أن أتصدق بثمنه ؟ قال : نعم ذلك يجزيك منه .
قال محمد بن رشد : هذا كمال قال : لأن حكم لقطة العروض كحكم لقطة الدنانير والدراهم التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف عفاها ووكاءها وعرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها فإذا وجد حديدة وجب عليه أن يعرفها فإن لم يعرف فإن شاء حبسها وإن شاء تصدق بها ويكون صاحبها على حقه فيها إن شاء ضمنه ، وهو مخير إن شاء تصدق بها بعينها على مسكين واحد أو على مساكين تكون بينهم كما قال : وإن شاء باعها فتصدق بثمنها لزمه الأكثر من قيمتها يوم تصدق بها أو من الثمن الذي باعها به ، وليس عليه أن يكسرها إن كانت من الخناجر التي يتخذها السفهاء أو من السلاح التي يقاتل بها ، ويبيعها كما هي إلا أن يخشى أن يصل إلى العدو أو إلى ما يناوئ المسلمين من أهل الإسلام في الفتن التي تكون بينهم ، فيكره له أن يبيعها حتى يكسرها .
واختلف إن باعها قبل أن يكسرها من العدو أو ممن يقاتل بها المسلمين من أهل الإسلام أو ممن يعلم أنه يحملها إليهم ويبيعها منهم فيما يجب عليه في الثمن الذي أخذه فيها إن لم يقدر على استرجاعها على ثلاثة أقوال قد ذكرناها في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب التجارة إلى أرض الحرب فهو موضعها الأليق بها وبالله التوفيق .
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
قال ابن القاسم : الشأن والسنة في الآبق أن يحبس سنة إل أن يخاف عليه الضيعة فيباع .

(15/368)


قلت : أرأيت إذا انقطعت السنة ولم يخف عليه ضيعة أيباع قال : نعم ولا يحبس بعد السنة ز
قال محمد بن رشد : قوله إن الآبق يحبس سنة هو مثل ما في المدونة ، وقوله إنه إن خشيت عليه الضيعة بيع قبل السنة هو مفسر لما في المدونة ، وقد مضى في أول رسم من سماع أشهب أنه إن خشيت عليه الضيعة خلي سبيله ولم يبع ، وقد مضى القول على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق .
مسألة
وسألته عن الرجل في آبق له خمسة دراهم لمن جاء به فيذهب رجل فيأتي من إفريقية حتى إذا كان بطربوط أفلت له فأخذه آخر فأتى به ، قال ابن القاسم : قال لي مالك : إذا أفلت بعيداً من مكان سيده فالجعل كله للآخر الذي جاء به ، وليس للذي جاء به من إفريقية شيء ، وإذا أفلت منه قريباً من مكان سيده فأخذه آخر فأتى به فالجعل بينهما على قدر شخوص كل واحد منهما قدر ما يرى .
قال محمد بن رشد : قوله إن الآبق يحبس سنة هو مثل ما في المدونة ، وقوله إنه إن خشيت عليه الضيعة بيع قبل السنة هو مفسر لما في المدونة ، وقد مضى في أول رسم من سماع أشهب أنه إن خشيت عليه الضيعة خلي سبيله ولم يبع ، وقد مضى القول على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق .
مسألة
وسألته عن الرجل في آبق له خمسة دراهم لمن جاء به فيذهب رجل فيأتي من إفريقية حتى إذا كان بطربوط أفلت له فأخذه آخر فأتى به ، قال ابن القاسم : قال لي مالك : إذا أفلت بعيداً من مكان سيده فالجعل كله للآخر الذي جاء به ، وليس للذي جاء به من إفريقية شيء ، وإذا أفلت منه قريباً في مكان سيده فأخذه آخر فأتى به فالجعل بينهما على قدر شخوص كل واحد منهما قدر ما يرى .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله لأن المجعول له الثاني هو المنتفع بعمل الأول إذا أفلت قريباً من مكان سيده بخلاف المجاعلة على حفر الآبار وقد مضى الكلام على ذلك مستوفا في رسم أخذ يشرب خمراً من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة والله الموفق .
مسألة
قلت : أرأيت من اشترى داراً واشترط على بائعها إني اشتري

(15/369)


منك ما كان لك في هذه الدار من مجهول أو معلوم قليل أو كثير فيجد المشتري في الدار صخراً أو عمداً أو ورقاً أو ذهباً أو آنية مغيبة تحت الأرض والذهب والجوهر والآنية لا يعرفها البائع ولا المشتري ؟ فقال : ما أرى للمبتاع فيها حقاً ، وأما الفضة والذهب والجوهر والآنية فإن كانت في بلد فتحت عنوة فأراها للمسلمين ، وإن كانت بصلح فأراها لذمة أهل تلك القرية الذين صالحوا عليها إذا كان ذلك من دفن الجاهلية ، وإن كان ذلك مما يعرف أنه من دفن الإسلام فإنها مثل الفضة يجدها الرجل فإنه يعرفها السنة ونحوها ، فإن جاء طالب دفعها إليه وإلا لم أحب له أكلها أما أن يتصدق بها ويخير صاحبها إذا جاء في أخذها ويغرمها له أو أن يحبسها لصاحبها ما طمع به ، قال ابن القاسم : وإنما قلت لك هو لذمة تلك القرية لأن مالكاً سئل عن الكنز يوجد ، فقال : أما ما كان ببلد صالح غير أهله من بلدان أهل الذمة فهو لهم ، وما كان من ذلك عنة فهو للمسلمين ، وأما الكنز الذي يخرج منها الخمس فتكن لمن وجدها فهي التي تكون في أرض العرب وكل أرض لم يدخلها المسلمون بصلح ولا عنوة.
قال : وقد سئل مالك عن الرجل يجد القبر في أرض العدو فيه فضة وذهب وجوهر وغير ذلك فقال : هو لجميع أهل ذلك الجيش لأنه إنما وصل إليه بالجيش .
وأما ما ذكرت من العمد والخشب والصخر فإن كان أمراً يعرف أنه من دفن الجاهلية فهو عندي بمنزلة ما يوجد من ركائزهم فإن كانوا أهل صلح كان ذلك لأهل ذلك البلد من أهل الذمة ، وإن كانوا عنوة رأيته لجماعة المسلمين ورأيت لمن وجده أن يبيعه ويتصدق بثمنه ،

(15/370)


فإن كان أمراً يعرف أنه من متاع الإسلام لم أره للمبتاع .
وقلت للبائع فإن عرفت أنه لك أو قامت لك عليه بينة فهو لك ، وإن لم تدعه رأيت لمن وجده أن يعرفه كما يعرف اللقطة ، وما يوجد من دفن الإسلام وإن لم يوجد له أحد باعها عنه وتصدق بثمنه . قال ابن القاسم : إذا لم يوجد من أهل تلك القرية التي صالحوا عليها أحد وكانوا قد بادوا تصدق بما وجد من ذلك كله كما يتصدق بما وجد في القرية التي أخذت عنوة .
قال محمد بن رشد : سأله في هذه الرواية عما وجد المشتري في الأرض التي اشتراها واشترط مجهولها ومعلومه مما جهلاه من الصخر والحجارة والعمد والرخام والأبنة والذهب والفضة فقال : إن ذلك لا يكون للمبتاع ، ويكون حكمه حكم الركاز إن علم أنه من دفن الجاهلية على التفصيل الذي ذكرناه على أصل مذهبه في أن الركاز تبع للأرض الذي وجد فيها ، إن كانت مفتحة بصلح وغيره وأنه لا يكون لواجده بعد إخراج الخمس منه إلا أن يكون موجوداً في ارض حرة لم تفتح بصلح ولا عنوة وحكم اللقطة إن علم أنه من دفن الإسلام ، ومعنى ذلك إذا لم يدعه البائع أو إدعاه فلم يشبه قوله وتبين كذبه .
وأما إذا أدعاه فأشبه قوله فإنه يكون له مع إذا لم يكن له عليه بينة على قياس قوله .
وفي تكلم ابن القاسم على حكم ما وجد المبتاع في الأرض التي ابتاع على الشرط الذي ذكره وسكوته عن البيع دليل على جوازه عنده وأن الشرط لا يفسد ، وقد اختلف في ذلك ، فروى زياد قال : سألت مالكاً عن رجل ابتاع منزلاً أو حظاً من منزل فكتب المشتري مجهولاً أو معلوماً أو كتب يعلم أو لا يعلم قال : لا ينقض هذا البيع ** مما يتوثق به المشتري بعد أن ينص ما

(15/371)


اشترى نصفاً أو ربعاً أو جزءاً من الأجزاء ، وفي تفسير ابن مزين أن البيع فاسد في الأرض إذا اشتراها واشترط معروفها ومجهولها ، بخلاف إذا اشترى العبد واشترى مجهول ماله ومعلومه ، وقال إن الفرق بينهما أن مال العبد إنما يستثنيه المشتري ويشترطه للعبد لا لنفسه ، ألا ترى أنه يطا ملك يمينه ويكون له حتى ينتزعه منه سيده ، وأن مجهول الأرض إذا اشترطه المشتري قد اشترى ما لا يعرف ، ومحمد بن دينار يقول للمبتاع ما يوجد في الأرض الذي ابتاع مما جهلاه ، وهو قول سحنون في نوازله من كتاب جامع البيوع ، وهو قول ابن حبيب في الواضحة ، قال في الورثة يقتسمون الأرض فيجد أحدهم في حظه بئراً وبيتاً أو صخراً أو عمداً أو الرجل يشتري الأرض فيجد فيه شيئاً من ذلك إن ذلك لمن وقع في قسمه من الورثة وللمشتري في الشراء ، ولا حق فيه للبائع ، وهذا الاختلاف إنما هو في المجهول الذي لا يعلم صاحبه ، وأما إن ثبت أن ما وجد مغيبا في الأرض من متاع البائع أو متاع من ورثه عنه فلا اختلاف في أنه له ، وكذلك ما علم أنه من دفن الجاهلية يكون حكمه حكم الركاز الموجود في تلك الأرض بلا اختلاف فيكون تبعا للأرض على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك إن كانت مفتحة بعنوة أو بصلح ولواجده إن كانت حرة من أرض العرب ، ويكون لواجده على مذهب ابن نافع كانت الأرض حرة أو عنوة أو صلحية متملكة أو غير متملكة وبالله التوفيق .
ومن كتاب النسمة
قال ابن القاسم وابن وهب في الحاجة يجد اللقطة نحواً من عشرين ديناراً أو أكثر فيعرفها سنة فلم يجد لها طالباً هل يأكلها ، وفي العشرة دراهم أو النصف دينار يجده الرجل كم ترى له أن يحبسه ويعرفه ؟ قال ابن وهب : قد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(15/372)


وسلم قال في اللقطة : إنه يعرفها سنة فإن جاء لها طالب دفعها إليه ، فإن لم يأت لها طالب دفعها إليه ، فإن لم يأت لها طالب بعد اليوم أداها إليه إن كانت عنده ، وإن لم يكن عنده شيء كانت عليه دينا حتى يجد قضاءها ويكون صاحبها أسوة الغرماء ، وإن مات كان في سعة إن شاء الله إن لم يوجد له مال لأن النبي عليه السلام قد أذن له في أكلها ، وأما الشيء اليسير مثل الدريهمات والدينار فإني أرى أن يعرف أياما فإن لم يجد له صاحبا وكان محتاجاً أنفق ذلك على نفسه ، وإن كان غنياً عنه تصدق به عن صاحبه ، قال ابن القاسم : ما ينبغي أن ينفق على نفسه منه شيئاً قليلاً ولا كثيراً .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في أول رسم من سماع ابن القاسم وفي رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب فلا وجه لإعادته .
مسألة
وسئل ابن القاسم عما يقذف البحر من الخشب والحوت والقصاع ونحو هذا يجده الرجل على ساحل البحر هل هو له خاص ؟ قال : هو لمن وجده إلا أن يعرف صاحبه فيؤديه إليه .
قال محمد بن رشد : معنى هذا عندي في الشيء اليسير الذي يعلم أن صاحبه لا يشح به ولا يطلبه ، وأما الشيء الذي له قدر وبال فحكمه حكم اللقطة على ما يأتي في الرسم الذي بعد هذا ، وقد كان الشيوخ يحملون المسألتين على أنهما متعارضتان وليس ذلك بصحيح ، وقد مضى في أول سماع ابن القاسم من قولنا ما بين هذا الذي ذهبنا إليه في هذه المسألة .

(15/373)


ومن كتاب العتق
وسئل ابن القاسم عن ما لفظ البحر من المتاع فيجده الرجل مما حمله التجار ولا يعرفه ، فقال : إن كان من متاع المسلمين عرفه ، وإن كان من متاع أهل الشرك نظر السلطان فيه فوضعه على ما يرى ، ولم يكن لمن أخذه ، وإن شك فيه رأيت أن يعرفه ثم يتصدق به .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة بينة صحيحة لا اختلاف فيما لفظه البحر من أموال التجار المعطوبين فيه أن حكمه حكم اللقطة ، بخلاف مسألة رسم سن من سماع ابن القاسم فيما ألقوه بأيديهم من متاعهم لتجارة أنفسهم ، هذا قد قيل فيه إنه لمن وجده ، إذ قد ألقوه بأيديهم على وجه اليأس منه ، بمنزلة الذي تقوم عليه دابته في السفر فيسلمها على وجه اليأس منها على الاختلاف في ذلك ، وقد ذكرناه في مسألة حلف أن لا يبيع سلعة سماها من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق .
من سماع يحيى بن يحيى
من ابن القاسم من كتاب الكبش
قال يحيى وسألته هل ينبغي للذي يجد اللقطة أن يأتي بها إلى الأمام بعد تعريف سنة ليكون هو الذي يأمر ببيعها وتفرقة ثمنها صدقة على المساكين ، فقال : وما للإمام ولها ؟ ليس هو مما يلزم الناس أن يرفعوه إلى الإمام لأن المتصدق بها إن جاء صاحبها فأراد أخذ قيمتها أغرمها الذي كان وجدها وتصدق بها ، قال : فإن تعدى الإمام

(15/374)


فأخذها فباعها وتصدق بثمنها رأيت عليه غرمها إذا جاء صاحبها إن أحب أن يغرمه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله : إن الخطاب يوجه في اللقطة من النبي عليه السلام إلى واجدها بقوله له : أعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ، فإن أخذها منه وتصدق بها كان متعديا فيها وضامنها له إلا أن يعطيه إياها واجدها باختياره ليتصدق بها على سبيل الوكالة له فلا ينتقل عنه الضمان إن جاء صاحبها وبالله التوفيق .
من سماع موسى بن معاوية من ابن القاسم
وسئل مالك عن اللقطة توجد في قرية ليس فيها إلا أهل الذمة فقال : تدفع إلى أحبارهم .
قال محمد بن رشد : هذا قول فيه نظر : إذ في الإمكان أن تكون لمسلم وإن كانت وجدت بين أهل الذمة ، فكان الاحتياط أن لا تدفع إلى أحبارهم إلا بعد التعريف لها استحساناً لقلة الظن أنها لهم على غير قياس ، فإن دفعت إليهم بعد التعريف لها ثم جاء صاحبها غرموها له ، وإنما كان يلزم أن تدفع ابتداء إلى أحبارهم لو تحقق أنها لأهل الذمة بيقين لا شك فيه مع من يقولوا إن من ديننا أن يكون حكم اللقطة لأهل ملتنا مصروفا إلينا ، وأما إذا لم يتحقق ذلك فكان القياس أن لا تدفع إلى أحبارهم وتكون موقوفة أبداً وبالله التوفيق .
من نوازل سحنون
وسئل عن الرجل يجد الشاة قد اختلطت بغنمه فلا يجد لها

(15/375)


صاحباً ، قال : يكون سبيلها سبيل اللقطة يتصدق بها ، فإن جاء صاحبها ضمنها له ، قيل له فما يصنع بلبنها ؟ قال : يشربه ، وهذا خفيف لأنه يرعاها ويتفقدها .
قال محمد بن رشد : قول سحنون هذا إنه يضمنها لربها إن جاء إذا تصدق بها مثل قول مالك في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب ، خلاف قوله في رسم الأقضية الثاني منه ، وقوله في لبنها إنه يشربه لأنه يرعاها ويتفقدها يبين قول مالك في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب ، وقد مضى تحصيل القول في ذلك كله في الموضعين وبالله التوفيق .
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب
قال عبد الملك : سألت ابن وهب عن اللقطة يجدها الرجل فيستنفقها بعد السنة فيقوم عليه الغرماء ولم يأت صاحبها أترى أن يحاص بها الغرماء فقال : نعم أرى للسلطان أن يحاص بها الغرماء ، وسألت أشهب فقال لي مثله إلا أنه لم يذكر السلطان .
قال محمد بن رشد : ليس سكوت أشهب عن ذكر السلطان في هذا بمخالف لقول ابن وهب ، لأن السلطان هو الناظر في هذا لصاحب اللقطة لكونه في منزلة الغائب إذ لا يعرف ، ومعنى ذلك إذا عرف إقراره باستنفاقه اللقطة قبل أن يقوم عليه الغرمءا ، إذ لا يجوز إقرار المفلس بالدين بعد التفليس لمعين معلوم ، فكيف لغائب مجهول وبالله التوفيق .
من نوازل سئل عنها سحنون
وسئل أشهب عن الرجلين يدعيان اللقطة عند الرجل قد

(15/376)


وجدها فيصف أحدهما العفاص والوكاء ، ويصف الآخر عدد الدنانير ووزنها ، قال : فهي للذي عرف العفاص والوكاء ، وكذلك لو عرف العفاص وحده كانت له أيضاً بعد الاستبراء ، قيل : فلو أن رجلاً إدعاها وحده وعرف العفاص ؟ قال : فيستبرئ فإن لم يأت أحد أعطيها الذي عرف العفاص ، وإنما الحديث الذي جاء إعرف العفاص والوكاء فإن جاء طالبها فإنما ذلك مثل الخليطين إذا كان الدلو والراعي والمراح واحداً ، فهو إذا جمعا الراعي أو المراح أو الدلو فهما خليطان ، فكذلك إذا عرف هذا بعضا ولم يعرف بعضا .
قلت : فلو قال هي في خرقة حمراء وخيط أبيض فوجدت الخرقة كما قال والخيط أسود ؟ قال فيستبرأ أيضاً ثم يرجع بعد ذلك فقال لي : هذا قد أكذب نفسه إذا أدعى المعرفة بالوكاء والعفاص ثم وجد بعد ذلك على غير ما قال ، فلا يصدق ، وإنما يصدق إذا أصاب في بعض وأدعى الجهالة في بعض فيستبرأ فإن جاء أحد بأحق مما أدعى وإلا أعطيها ، قيل : فوضت العفاص والوكاء وأدعى إنها دنانير فوجد العفاص والوكاء كما قال ووجد فيها دراهم ؟ قال : لا يعطاها لأنه إنما أدعى دنانير ذهبت منه لم يدع دراهم ، قال لي : وكذلك لو قال خرقة حمراء وخيط أبيض والدنانير هاشمية فوجدت الخرقة والخيط كما قال ، ووجدت الدنانير عتق لم يكن له شيء .
قال محمد بن رشد : قال إنه إذا أدعى اللقطة رجلان ، فوصف أحدهما العفاص والوكاء ، ووصف الآخر عدد الدنانير ووزنها إنها للذي عرف العفاص والوكاء ، يريد مع يمينه ، والاختلاف في هذا ، وإنما لا اختلاف إذا جاء وحده فقيل إنها تدفع إليه بالصفة دون يمين ، وهو ظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة ، والوجه في ذلك أن الصفة في اللقطة التي لا دافع لها

(15/377)


كالبينة القاطعة فيما له من يدفع عنه ، وقيل إنه لا يدفع إليه إلا بيمين .
وقال : إن وصفها رجلان أحلفا ، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر فهي لمن حلف منهما ، وإن حلف جميعاً أو نكلا جميعاً قسمت بينهما ، فقوله إنه يقسم بينهما إذا نكلا رد لقوله إنه لا يدفع إليه إذا جاء وحده إلا بيمين ، واستحسن أصبغ في أحد قوليه إذا وصف أحدهما العفاص والوكاء ووصف الآخر عدد الدنانير والدراهم وصفتها أن تقسم بينهما بعد أيمانهما كما لو اجتمعا جميعاً على صفة العفاص والوكاء .
والاختيار أن صف مدعي اللقطة العفاص والوكاء وما اشتملا عليه من عدد الدنانير والدراهم وصفتها ، فإن وصف بعضا وجهل بعضاً أو غلط فيه ففي ذلك اختلاف وتفصيل : فأما جهله بالعدد فلا يضره إذا عرف العفاص والوكاء ، وكذلك غلطه فيه بالزيادة لا يضره لجواز أن يكون قد اغتيل في شيء منها ، واخلف في غلطه فيه بالنقصان إذا عرف العفاص والوكاء على قولين ، وكذلك واختلف في غلطه فيه بالنقصان إذا عرف العفاص والوكاء وأما إذا غلط في صفة الدنانير فلا أعلم خلافاً في أن لا شيء له .
وأما العفاص والوكاء إذا وصف أحدهما وجهل الآخر أو غلط فيه ففي ذلك ثلاثة أقوال أحدها أنه لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعاً . والثاني أنه يستبري أمره فإن لم يأت أحد بأثبت مما أتى به دفعت له ، والثالث أنه إن أدعا الجهالة استبرى أمره وإن غلط لم يكن له شيء ، وهذا أعدل الأقوال والله أعلم .
ولو جهل العفاص والوكاء جميعاً وعرف عدد الدنانير وصفتها ووزنها لتخرج على قول أصبغ الذي قاله على طريق الاستحسان إذا وصف أحد المدعيين العفاص والوكاء والآخر عدد الدنانير وصفتها ووزنها أن تقسم بينهما

(15/378)


أن تكون له إذا جاء وحده فوصف عدد الدنانير والدراهم وصفتها ووزنها وجهل العفاص والوكاء جميعاً وبالله التوفيق .
مسألة
قيل لأصبغ : الرجل يلتقط الشاة الضالة بفلاة من الأرض بموضع يجوز له أكلها فيذبحها ثم يأتي بها معه إلى الأحياء أعليه أن يعرفها ؟ قال : ليس عليه أن يعرفها ، وأكله لها طيب كان غنيا عنها أو لم يكن وكذلك جلدها .
قلت : فلو اعترفها ربها في يديه قبل أن يأكلها ، قال : فهو أولى بها إذا أدركها ، قيل : فلو كان ملتقطاً استحياها حتى قدم بها الأحياء أيكون له أن يعرفها ؟ قال : هذا مخالف لما ذكرت ، وعليه أن يعرفها أو يصرفها إلى أهل قرية يعرفونها ولا حق له فيها ولا يحل له حبسها ، لأنه أنما جاز أكلها وذبحها بالفلاة أو المنقطع لئلا تتلف إن تركها أكلتها السباع وإن تحملها أضرت به ، فلما تحمل من حملها ما لم يكن عليه حتى بلغها الأحياء كانت كما التقطها هنا ، تعرف ولا تؤكل .
قال محمد بن رشد : اعترض أبو اسحاق التونسي قول أصبغ هذا إذا قدم بها الأحياء مذبوحة فقال : الأصوب أن لا يأكل اللحم وأن يبيعه ويوقف ثمنه لأنه الإباحة إنما كانت له حيث لا ثمن له ، ولو تركه هناك لأكله الذئب وفي الحاضرة قد صار له ثمن ، وهو صحيح ، وبالله التوفيق .

(15/379)