البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

كتاب المغارسة
من سماع ابن القاسم من مالك
من كتاب الرطب باليابس
قال ابن القاسم : وسمعت مالكاً قال في رجل قاضي رجلاً على أن يغرس له نخلاً في أرض له على أن له في كل نخلة تنبت جعلا قد سماه وأن ينبت غرسه فلا شيء له عليه ، ولا يلزمه العمل في ذلك إن شاء أن يتركه تركه فقال : لا أرى به بأساً إذا اشترطا للنخل قدراً يعرف ، أربع سعفات أو خمساً أو نحو ذلك .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال لأنه جعل محض ، والمغارسة على الجعل جائزة ، لأنها تجوز على الجعل وعلى الإجارة وعلى جزء من الأصل إذا بلغ الغرس حداً تجوز المغارسة إليه ، ولا اختلاف أحفظه في المذهب في إجازة المغارسة على الجعل لأن الجعل أصل في نفسه كالقراض والمساقاة لا تقاس على الإجارة ولا تقاس الإجارة عليه ، وإن أخذ شبها منها ، والأصل في جوازه قول الله عز وجل { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } وقول النبي عليه السلام يوم حنين (( من قتل قتيلا فله سلبه )) وقوله يوم

(15/401)


بدر من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا ومن فعل كذا وكذا فله كذا وكذا وإن كان مالك قد كره ذلك فإنما كرهه لئلا تفسد نيات الناس في الجهاد لا أنه عنده حرام وقوله عليه السلام للنفر من أصحابه الذين رقى أحدهم سيد حي من أحياء العرب مروا بهم من لدغة لدغ بها على قطيع من الغنم فرقاه فكأنما أنشط من عقال فسألوه عن ذلك : قد أصبتم اقتسموا واضربوا لي معكم بسهم .
ولجوازه أربعة شروط متفق عليها ، وهي أن يكون الجعل معلوماً وألا ينقد وألا يضرب للعمل أجل وأن لا يكون للجاعل فيه منفعة إلا بتمامه ، وشرط خامس مختلف فيه ، وهو أن يكون للجاعل فيه منفعة إذا تم ، وهذه الشرائط كلها موجودة في المغارسة على الجعل فوجب أن يجوز ، وقد قال ابن دحون : مسائل المغارسة لا أصل لها وفيها غرر وخطار ظاهر ، وقد أجازها مالك وأصحابه وللمخالفين عليهم فيها تعلق قوي ، لأن أصحاب مالك كلهم منعوا من الغرر والخطر في جميع مسائلهم وأجازوه في هذا وجعلوه من باب الجعل ، ومن أصلهم أن لا يجوز الجعل إلا في اليسير ، وأجازوه في هذا العمل الكثير ، وهو خطر عظيم ، وليس قول ابن دحون بصحيح لأنهم إنما منعوا من الغرر الكثير في البيع لنهي النبي عليه السلام عن بيع الغرر وعن الخطر والقمار في غير البيع لأنه من ميسر الجاهلية ، وأما الجعل فقد جوزته السنة وأجازته الشريعة على ما فيه من الغرر على الشروط التي ذكرناها ، وليس من شروط صحته ما ذكر من أنه لا يجوز إلا في اليسير ، وإن كان قد قاله عبد الوهاب وغيره ، بل يجوز في اليسر والكثير إذا لم يكن للجاعل فيه منفعة إلا بتمامه .
وإنما قال مالك لا يجوز الجعل على بيع الثياب الكثيرة وإنما يجوز على بيع الثوب والثوبين من أجل أن الثياب الكثيرة إذا أسلمها إليه ليبيعها له بالجعل

(15/402)


فلم يبعها وصرفها إليه كان قد انتفع بحفظه لها وحوزه إياها مدة كونها بيده ، فهذه هي العلة في أن لا يجوز الجعل على بيعها لا كونها كثيرة ، فقد يجوز الجعل باتفاق على طلب العبد الآبق وحفر البئر وما أشبه ذلك ، وإن كان العمل في ذلك كله كثير من أجل أنه إن لم يتم حفر البئر لم ينتفع الجاعل بما مضى فيها من عمل المجعول له ، وكذلك إن عني المجعول له في طلب العبد الآبق إلى البلاد البعيدة فلم يجده لم يكن للجاعل في طلب المجعول له إياه منفعة ، فهذا هو الشرط في جواز الجعل لا ما ذكره وبالله التوفيق .
ومن كتاب طلق بن حبيب
وسئل مالك عن الأرض البيضاء يعطيها الرجل للرجل على أن يغرس له أصولاً فإذا بلغت الأصول فهي بينهما نصفان نصف الأرض ونصف النخل ، قال : لا بأس بذلك أيضاً إذا اشترط للأصل قدراً معلوماً أن يقول حتى يثمر أو شيئاً معروفاً من قدرها ، فإذا اشترطا هذا فلا بأس به ، ولا خير فيه في بقل ولا زرع .
قيل له فبصل الزعفران يعطي على هذا النحو وهو يقيم تسع سنين ونحو ذلك ثم ينقطع ؟ قال : لا خير فيه إنما هو بمنزلة الثمرة وليس بمنزلة الأصل فلا ينبغي ذلك .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال إن مغارسة الرجل للرجل أرضه البيضاء على أن يغرسها أصولاً بجزء منها جائزة جوزها أهل العلم قياساً على ما جوزته السنة من المساقاة ، كما جوزوا قياساً عليها بناء الرحى الخربة بجزء منها ، فهي سنة على حيالها ليست بإجارة محضة ولا جعل محض لأنها أخذت بشبه منهما جميعاً ، أخذت بشبه من الإجارة في لزومها بالعقد ، وشبه من الجعل في أن الغارس لا يجب له شيء إلا بثبوت الغرس وبلوغه الحد

(15/403)


المشترط ، فإن بطل قبل ذلك لم يكن له شيء ولا كان من حقه أن يعيده مرة أخرى .
واختلف إن نبت منه يسير وبلغ الحد وبطل سائر ذلك أو بطل منه يسير وثبت سائر ذلك ، فقيل إن القليل تبع للكثير وهو رواية حسين بن عاصم في بعض الروايات من هذا الكتاب ، وقيل إن حقه يثبت في اليسير الذي بلغ ويبطل من اليسير الذي لم يبلغ ، وهو قول أشهب في سماع أصبغ ، وأما إن كان الذي ثبت أو بطل له قدر وبال فإن كان الأقل فلا يكون تبعاً ويثبت حقه فيما ثبت ويبطل فيما بطل ، ولا يجوز إلا على شروط قد حدها أهل العلم ، من ذلك أن يكون الحد في قدر الشجر إلى ما دون الإطعام ، واختلف إن كان حدها الإطعام ، فأجازه في هذه الرواية وفي رسم الجواب بعد هذا وفي كتاب محمد بن المواز ، وله في موضع آخر منه أن ذلك لا يجوز ، لأنه لا يدري منتى يثمر ، وكذلك اختلف أيضا إن كان حدها إلى أجل دون الإطعام ، فأجاز ذلك في أول سماع حسين بن عاصم ، ومنع منه في أثنائه بدليل ، وهو قول مالك في الواضحة .
وكذلك اختلف أيضاً إن سكتا عن الحد في ذلك ، ففي رسم الجواب من سماع عيسى أن ذلك لا يجوز ، وقيل إن ذلك جائز قاله ابن حبيب وجعل حده الإثمار .
وأما إن كان الحد أو الأجل إلى ما فوق الإطعام فلا يجوز باتفاق ، وكذلك إن اشترطا أن يكون الشجر أو الغلة بينهما دون الأصل لم يجز باتفاق .
ولا تجوز المغارسة في بقل ولا زرع ، وأما بصل الزعفران التي تقيم في الأرض أعواماً ثم تنقطع وما أشبه فلم تجز المغارسة فيه في هذه الرواية ، وأجازها سحنون في كتاب أبنه ، قال : ومن دفع أرضه إلى رجل يزرعها قطناً على أن للعامل نصف الأرض ونصف القطن فإن كان القطن يزرع في كل عام

(15/404)


ولم يكن له أصل ثابت فذلك فاسد ، وإن كان القطن يبقي السنين العدد وليس يزرع في كل عام ، فهذا إن أجلا آجلا دون الإطعام فإذا بلغاه كان القطن يعني الشجر والأرض بينهما فذلك جائز والله الموفق .
من سماع عيسى بن دينار من كتاب استأذن سيده في تدبير جاريته
قال عيسى : وسألت ابن القاسم عن رجل أعطى أرضاً له بيضاء لرجل يغرسها شجراً على الثمر بينهما بالسواء ، فغرس وأثمر واقتسما الثمرة زماناً ثم علم بفسخ ما صنعا ، قال يرد صاحب الأرض إلى العامل فيها ما أخذ من الثمرة مثلها إن كان يجد مثلها وإلا فقيمتها ، ويكون له كراء أرضه على العامل من حين أخذها منه ، وليس من حين أثمر الشجر ويقال لصاحب الأرض إن شئت فاغرم قيمة الغرس مقلوعاً وإن شئت فدعه يقلع غرسه .
قال محمد بن رشد : اختلف في المغارسة الفاسدة إذا لم يجعل للعامل فيها جزء من الأصل على قولين أحدهما أنه يحكم لها بحكم الكراء الفاسد ، لأنه كأن الغارس اكترى منه الأرض إلى أمد غير معلوم بنصف الثمرة التي يغرسها ليبقيها فيها ، وهو قوله في هذه الرواية ، فتكون الغلة على هذا للغارس يرد عليه رب الأرض ما أخذ منها : المكيلة إن عرفت أو خرصها إن جهلت ويقلع غرسها إلا أن يشاء رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعاً ، وقيل إن له قيمته قائماً ، قاله يحيى في سماعه من كتاب السداد والأنهار في المعاملة الفاسدة في بناء الأرحى ، ولا فرق بينهما ، ويكون عليه قيمة كراء الأرض قيل من يوم أخذها ، وهو قوله في هذه الرواية ، ومعناه عندي إن كان أخذها في وقت يمكنه وضع الغرس فيه ، لأنه إن كان أخذها قبل إبان يمكنه وضع الغرس

(15/405)


فيه فيها فالكراء إنما انعقد بينهما من يوم يمكنه وضع الغرس فيه فيها إذ لا منفعة له في الأرض قبل ذلك ، وقبضه إياها للاقبض ، وقيل من يوم وضع الغرس فيها وهو قوله في سماع يحيى بعد هذا ، ومعناه عندي من يوم يمكنه وضع الغرس فيها ، فليس رواية يحيى على هذا بمخالفة لرواية عيسى فتدبر ذلك تجده صحيحاً .
وقد كان الشيوخ يحملون ذلك على أنه اختلاف من القول فلا يوجبون عليه الكراء في رواية يحيى إلا من يوم وضع الغرس في الأرض وإن كان أخذها وقد أمكنه وضع الغرس فيها ، وهو محتمل ، وأما إن كان أخذها قبل أن يمكنمه وضع الغرس فيها فلا يصح أن يكون عليه الكراء من يومئذ ، وقيل من يوم أثمر النخل وهو قوله في سماع أبي زيد وسماع حسين بن عاصم بعد هذا من هذا الكتاب .
وجه قوله في هذه الرواية ورواية يحيى أنه كراء فاسد قد فات بانتفاع المكتري به فوجب أن تكون عليه قيمته من يوم قبضه ، وهو يوم يمكنه الانتفاع بما قبض .
ووجه رواية أبي زيد وحسين أن الأمر لما لم ينعقد بينهما نصاً على كراء فاسد ولا على أن يكون عليه كراء أصلاً فصرفناه إلى حكم الكراء الفاسد لم يجعل عليه الكراء إلا من يوم انتفاعه بالأرض ، وهو يوم أثمرت النخل ، والقول الثاني يحكم له بحكم الإجارة الفاسدة ، لأنه كأن رب الأرض استأجر الغارس على أن يغرس له هذه الأرض بنصف ثمرتها فيكون الحكم في ذلك أن يكون للغارس على رب الأرض قيمة غرسه يوم وضعه في الأرض مقلوعاً وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه ، وتكون الغلة كلها لرب الأرض يرد عليه الغارس ما أخذ منها : المكيلة إن عرفت أو خرصها إن جهلت .
وهذا الاختلاف مبني على ما غرسه الغارس من الغرس هل هو على

(15/406)


ملكه أو على ملك رب الأرض ، فمن علل بأن الغرس على ملك الغارس جعله كراء فاسداً ، ومن علل بأن الغرس على ملك رب الأرض جعله إجارة فاسدة وبالله التوفيق .
ومن كتاب يوصي لمكاتبه
وسئل عن الرجل يعطي أرضه رجلاً يغرس فيها شجراً على أنها إذا بلغت قدر كذا وكذا من قدر يسمونه فالأصل والشجر بينهما ، فتطعم تلك الشجر قبل أن يبلغ ذلك القدر .
قال ابن القاسم : لا يصلح أن يتعامل على مثل هذا ولا يصلح العمل فيها إلا على تسمية قدر يكون قبل الإطعام أو إلى الإطعام وأما أن يشترط للشجر من الطول والقدر ما لا يبلغه إلا بعد إطعام الشجر فإن ذلك لا يصلح .
قلت : أرأيت إن وقع على هذا كيف العمل فيه ؟ قال : وتكون الثمرة لصاحب الأرض ويعطي العامل أجر مثله فيما عمل ، وليس له في الأرض قليل ولا كثير .
قال محمد بن رشد : قوله إن المغارسة إلى حد من الأصول يثمر الشجر دونه لا يجوز بين ، لأنه يدخله بيع الثمر قبل أن تخلق ، لأنه باع منه نصف الأرض بغرسه النصف الآخر وبما يغتل من جميع الغرس إلى أن يبلغ الحد الذي شرطاه ، وقد مصى في رسم طلق من سماع ابن القاسم تحصيل القول فيما يجوز من الأجل في ذلك مما لا يجوز ، ومضى في الرسم الذي قبل هذا من هذا السماع القول في حكم المغارسة الفاسدة إذا وقعت دون أن يكون للعامل من الأرض شيء ، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك .

(15/407)


ونتكلم ها هنا على حكمها إذا وقعت فاسدة مع أنه قد جعل للغارس فيها جزء من الأرض كنحو هذه المسألة ، فالذي يتحصل فيها لابن القاسم ثلاثة أقوال .
أحدها أن العامل يرد إلى إجارة مثله في الجميع ، ولا يكون له في الأرض شيء ، فيعطي قيمة غرسه يوم وضعه في الأرض ، وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه إلى يوم الحكم ، ويرد إلى رب الأرض ما أكل من الثمرة : مكيلتها إن علمت أو قيمة خرصها إن جهلت ، هذا معنى قوله في هذه الرواية وإن كان لم ينص عليها فيها ، وهو مذهب سحنون ، وهذا القول يأتي على تعليل من علل أن الغرس في المغارسة الفاسدة كيفيما وقعت على ملك رب الأرض .
والقول الثاني أنه بيع فاسد في نصف الأرض قد فات بالغرس ، فيكون على الغارس فيه لرب الأرض قيمته يوم غرسه ، وإجارة فاسدة في النصف الثاني ، فيكون فيه على رب الأرض للغارس قيمته مقلوعاً يوم وضعه في الأرض وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه إلى يوم الحكم ، وقيل إنه يكون عليه للغارس نصف قيمة الغرس قائماً يوم الحكم فيه من أجل سقيه وعلاجه وهي رواية عيسى عن ابن القاسم بعد هذا في رسم الجواب ، وقيل إنه يكون عليه للغارس قيمة نصف غرسه يوم بلغ وتم ، وأجرته من يومئذ في قيامه عليه إلى يوم الحكم ، وهو قول ابن حبيب في الواضحة ، ويتحاسبان في ذلك فمن كان له الفضل بينهما على صاحبه رجع به عليه ، والغلة بينهما في جميع ذلك على ما اشترطاه ، والصحيح من ذلك ما بدأنا به من أنه يكون عليه نصف قيمة الغرس مقلوعاً يوم وضعه في الأرض وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه إلى يوم الحكم ، فالغرس على قياس هذا القول نصفه على ملك الغارس ونصفه على ملك رب الأرض .
والقول الثالث أنه بيع فاسد أيضاً في نصف الأرض قد فات بالغرس

(15/408)


فيكون على الغارس فيه قيمة يوم فوته بالغرس ، وتكون في النصف الثاني كراء فاسداً ، فيكون على الغارس فيه لرب الأرض كراء مثله يوم أخذها ، أو يوم وضع الغرس فيها ، أو يوم أثمرت ، على الاختلاف الذي قد ذكرناه في رسم استأذن ، وبينا فيه معناه ، ويقلع الغارس غرسه من النصف الذي لرب الأرض بعد أن تقسم إلا أن يشاء رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعاً أو بقيمته قائماً على قول يحيى ابن يحيى المتقدم في رسم استأذن ، وهو مذهب مالك في رواية المدنيين عنه ، ويكون على هذا القول الغلة كلها للعامل يرد عليه رب الأرض ما أخذ منها ، المكيلة إن عرفت أو خرصها إن جهلت ، وهذا هو قول ابن القاسم في رواية حسين عنه ، وهو يأتي على أن الغرس على ملك الغارس ، وهو أظهر من القول الثاني ، لأن اجتماع البيع والكراء في هذه السلعة أولى من اجتماع البيع والإجارة فيها ، لأنهما يصيران كأنهما قد تمما الفساد بينهما وبالله التوفيق .
ومن كتاب الجواب
وسألته عن رجل أعطى أرضه رجلاً يغرسها على النصف ، فاغترسها الرجل وأكل الثمرة نحواً من أربع سنين أو خمس سنين ، وأن صاحب الأرض باع نصفه ذلك من الغارس أو غيره ، ثم أراد البائع صاحب الأرض بعد ذلك أن يرجع في النصف الذي في يد الغارس الذي عمر به في الأرض وغرسه عليه .
قال ابن القاسم : ليس له أن يرجع فيه ، لأن أحدهما كان حلالاً حين أعطاه الأرض يغرسها له وله نصفها إذا كانا سميا للغرس شباباً أو قدراً معلوماً ، فإن لم يكونا سميا ذلك ولا حداه كان كبيع فاسد ، لأنه باعه نصف الأرض على أن يغرس له النصف الثاني ،

(15/409)


فلما لم يسميا ولا حداه فقد باعه إياه بشيء لا يدريان ما هو ، فهو بيع فاسد وقد فاتت الأرض كلها بالغرس ، والغرس فوت ، فيقوم على الغارس النصف الذي صار له يوم قبضه ، لأنه قد فات في يديه ، والغراس فوت ، ويكون للغارس على صاحبه الأرض نصف قيمة الغرس لأن له نصف الأرض ونصف الغرس لأن الغارس هو الذي غرسه له في نصف الأرض ، ويقوم الغراس قائماً على حاله يوم يحكم فيه لأن له سقياً وعلاجاً ، وبالسقي بلغ وتم .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في الرسم الذي قبل هذا فلا وجه لإعادته .
ومن كتاب العتق
قال عيسى : قلت لابن القاسم أرأيت لو قال له استأجرك على أن تغرس في أرضي هذه كذا وكذا نخلة فإن خرجت ونبتت فهي بيني وبينك .
قال : لا بأس به إنما هو جعل وليس بإجارة ، ولو شاء أن يذهب ذهب ، ولو غرسها ثم ماتت لم يكن له شيء حتى تنبت ، ولو لم يكن جعلا ما جاز لأنه شرط عليه شيئاً لا يدري أيتم أم لا يتم ؟ ولعله أن يعمل فيه ويبطل ولا يستطيع أن يخرج عنه فيكثر تعبه ويطول عناؤه ، ثم لا يخرج النخل فيكون قد ذهب عمله فيه بغير شيء أخذه ، ولكنه لو استأجره على أن يغرس له في حائطه هذا كذا وكذا نخله بنصف أرضه هذه لم يكن بذلك بأس ، وكانت إجارة ولم يكن له أن يخرج حتى يفرغ من غراسه ، فإذا غرسها وغيبها في الأرض

(15/410)


ثبتت له أجرته لا يبالي نبتت أو عطبت ، ولو كان لا يثبت له أجر حتى تخرج وتنبت ولا يستطيع هو أن يخرج كان قد منعه هو من منفعة نفسه بما لا يدري أيتم أم لا يتم ؟ ولعله لا ينبت إلا بعد سنتين أو ثلاثاً ، ولعلها لا تنبت أبداً فيكون قد ذهب عناؤه باطلاً ، فلا خير فيه إلا على ما فسرت لك.
قال محمد بن رشد : قوله استأجرك على أن تغرس في أرضي هذه كذا وكذا نخلة فإن خرجت ونبتت فهي بيني وبينك ، معناه وما نبت منها فهو أيضاً بيني وبينك بموضعه من الأرض ، إذ لا يصح أن يجوز الجعل إلا على هذا ، لأن من شرط جوازه أن لا يكون للجاعل فيه منفعة إلا بتمامه ، لأنا لو حملنا المسألة على ظاهرها من أن المجعول له لا يجب له شيء إلا بأن يخرج النخل كلها وتنبت لوجب إذا لم تنبت كلها ونبت بعضها أن لا يكون للغارس فيما نبت حق ، ويكون لرب الأرض الجاعل ، وذلك ما لا يجوز باتفاق ، ألا ترى أنه لا يجوز الجعل على خدمة شهر ولا خياطة ثوب من أجل أنه إن خدم بعض الشهر أو خاط بعض الثوب ثم ترك الخياطة أو الخدمة لم يجب له حق فيما خدم ولا فيما خاط فأخذ الجاعل باطلاً ، وذلك باطلاً لا يجوز ، ولم يلتفت إلى لفظ الإجارة في قوله استأجرك لما شرطاً فيها العمل على حكم الجعل ، وهذا قوله في المدونة إنه إنما ينظر إلى الفعل لا إلى اللفظ .
وقوله في هذه المسألة إن المغارسة في الأرض على خدمتها لا تجوز إلا على وجه الجعل بأن لا يلزم المغارس التمادي على العمل ويكون له أن يخرج ويتركه متى ما أراد خلاف المشهور من أن المغارسة في الأرض على جزء منها جائزة على أنها لهما جميعاً لازمة وإن كان لا يحملها الناس قياساً على المساقاة ، وهذا أظهر ، وإن كان فيه اعتراض لأن من شرط صحة المجاعلة أن يكون الجعل فيها معلوماً ، والجعل في هذه المغارسة غير معلوم ، لأنه الجزء الذي شرط له من الأرض بعد غرسها كيف يكون الغرس ، فالمغارسة على

(15/411)


هذه الرواية لا تجوز إلا على وجهين أحدهما الإجارة على وجهها من لزومها لهما جميعاً ، والثاني الجعل على وجهه من أن لا يلزم المجعول له العمل وإن كان فيه من الاعتراض ما ذكرناه وهو الجعل بالجعل إذا كان على الجزء من الأرض بعد غرسه ، إذ لا يدري كيف يكون الغرس ، فهذا كله بين ، والله الموفق .
مسألة
قلت : أرأيت لو قال له أغرس لي في أرضي هذه نخلاً ولم يسم عددها أو رماناً أو أصلاً من الأصول معيناً على وجه الجعل أو على وجه الإجارة قال : لا بأس بهما جميعاً .
قلت له : ألا ترى أنه لا يدري كم يغرس له فيها أيقل الغرس أم يكثر ؟ قال : بل ذلك عند الناس معروف غروس الأصول كلها لها قدر عند أهل المعرفة بها يغرسونها عليه أن يرد الغارس غرسه منع من ذلك وعلم أنه أراد الضرر ، وإن قارب بينهما علم أنه أراد تلافها أو هلاكها ، فمعرفة ذلك ثابتة عند الناس معروفة قيل لك أجرته .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه ، لأن العرف المعلوم في العمل يغني عن وصفه ، بدليل قوله تعالى : { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } فسمى الإجارة وضرب الأجل ولم يصف الخدمة والعمل لاستغنائهما عن ذلك بالعرف والعادة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من استأجر أجيراً فليعلمه أجره )) وقال (( من استأجر أجيراً فليؤاجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم )) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسمية الأجرة وضرب الأجل ، وسكت عن وصف العمل إذ قد يستغني عن ذلك بالعرف والعادة الذين يقومان مقامه .

(15/412)


ومن كتاب الصبرة
من سماع يحيى من ابن القاسم
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن الرجل يعطي الرجل أرضه البيضاء على أن يغرسها شجراً وتكون الثمرة بينهما يقتسمانها عند كل جناء أو يعامله فيها على ما لا يصلح مما أشبه هذا ، فيعملها العامل ويثمر الشجرة ويقتسمان الثمرة زماناً على شرطهما .
فقال : اخطئا وجه الصواب في تعاملهما الذي جاءت به السنة ، وذلك أن يكون للعامل نصف الأرض بما فيها من الغرس إذا تم نصفها أو ثلثها أو جزء من أجزائها على ما يقع به الشرط بينهما من هذا الوجه ، فإذا تركا هذا وتعاملا بما لا يصلح منها ، فلصاحب الأرض على العامل كراؤها لما مضى من السنين من يوم وضع فيها الغرس إلى يوم ينظر في أمرهما ، يقوم له كراؤها نقداً على قدر ما يرى من رغبة الناس فيها عاماً بعام ، ثم يدفع ذلك إليه ، ويكون على صاحب الأرض أن يغرم للعامل مكيلة ما أكل من الثمر إن كان أخذه يابساً ، وإن كان أخذه رطباً غرم قيمته على خرصه ، ثم يقال للعامل إقلع غرسك واصنع به ما بدا لك شرط أن لا يرضي صاحب الأرض أن يعطيه قيمة الشجر مقلوعاً ويكون أحق بها لأن قلعها فساد لا منفعة فيه للعامل ، قلت : ولم لا يجعل الشجر لرب الأرض ويغرم العامل ما أكل من الثمرة ويعطيه أجر ما عمل في قيامه بالسقي والعلاج كله ويكون صاحب الأرض أولى بثمرة شجر أرضه ؟ فقال : لأني سمعت مالكاً يقول إذا تعامل المتنازعان على ما لا يحل كان

(15/413)


الزرع لصاحب الحب ، ولم يكن لصاحب الأرض إلا كراء أرضه ، والشجر والزرع عندنا سواء ، ثمرة الشجرة للذي غرسها صلة من عنده ، كما أن الزرع لصاحب البذر إذا تولى عمله كما تولى صاحب الشجر غرسه .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في رسم استأذن من سماع عيسى فلا وجه لإعادته ، وما حكى عن مالك من أن الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب البذر إذا تولى عمله ، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة على ما تأول عليه أبو إسحاق التونسي من أن الزرع في المزارعة الفاسدة لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أصول ، وهي الأرض والعمل والبذر ، وفي ذلك اختلاف كثير قد ذكرته في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب المزارعة فأغني ذلك عن إعادته ها هنا وبالله التوفيق.
من سماع أصبغ من ابن القاسم
من كتابه الأقضية والأحباس
قال أصبغ : وسمعت أشهب وسئل عمن يدفع أرضه إلى رجل يغرسها نخلاً وسمى له سعفات معلومة وقدراً معلوماً على أن الأرض والشجر بينهما فيغرسها فتموت كلها إلا ثلاث نخلات .
قال : ما نبتت فهو بينهما ، وبقية الأرض لربها ، قال أصبغ : وهو قول ابن القاسم فيما أعلم ، وهو رأيي .
قال محمد بن رشد : لا فرق على هذا بين أن يكون الذي نبت هو الأقل أو القليل أو الأكثر أو الكثير يكون للمغارس حقه فيما نبت على كل حال ، ويبطل فيما بطل ولم ينبت على كل حال ، وفي سماع حسين بن عاصم

(15/414)


عن ابن القاسم أن القليل تبع للكثير إلا أن يكون الذي نبت أو بطل له قدر وبال وإن كان الأقل فلا يكون تبعاً ويثبت حقه فيما نبت ويبطل فيما بطل ، وهو قول سحنون ، وهو الذي يأتي على المشهور من أن المغارسة على جزء من الأجزاء جائزة على أنها لهما جائزة ، والقول الأول يأتي على القول بأن المغارسة في الأرض على جزء منها لا تجوز إلا على وجه الجعل الذي لا يلزم المجعول له فيه العمل وبالله التوفيق .
ومن نوازل سئل عنها أصبغ بن الفرج
وسئل عن رجل أعطى رجلاً أرضاً له ليغرسها بينهما فلما غرس بعضها أو جلها إلا أنه لم يتم العمل إلى الشرط الذي جعلاه بينهما عجز الغارس أو غاب فأدخل صاحب الأرض آخر في الغرس فعمله وقام به أو عمله صاحب الأرض بنفسه وتم ما بقي منه ، ثم قدم الأول فطلب حقه مما كان غرس فما ترى له إذا كان غائباً أو حاضراً ؟ قال أصبغ : إن كان غائباً أو حاضراً حضوراً لم يسلم في مثله ولم يرض فيما يرى ولم يقطع عليه برؤية التسليم أو الرضى أو الخروج منه على حقه ويعطي الذي كفاه ما كفاه به أو أتمه يأتيه به ما لم يسرف عليه بما يعمل مثله فيرد إلى الحق وإلى ما لو كان هو العامل لزمه مثله ولحقه .
قال محمد بن رشد : معنى هذه المسألة أنه أعطاه الأرض يغرسها على أنها إذا بلغت قدراً معلوماً كان له جزء منها فعجز بعدما عمل وغرس بعض الغرس ، فأدخل رب الأرض مكانه من يتم عمله بأجرة استأجره عليها أو عمل هو ذلك بنفسه ، فقال : إنه إذا لم يظهر تركه بما دخل فيه فهو على شرطه ، ولمن أتم العمل أجرته على الذي عجز ما لم يكن سرفاً فإن أسرف رب الأرض

(15/415)


فيما استأجر به رد إلى الحق ، وقول أصبغ فيها عندي خلاف لقول ابن القاسم في أول مسألة من سماع يحيى من كتاب البضائع والوكالات في الخصام ، ولقول ابن القاسم وسحنون في مسألة كتاب الجعل والإجارة في الرجل يستأجر الرجلين لحفر بئر فيمرض أحدهما ويحفرها الآخر إن الحافر متطوع ، قال ابن القاسم لصاحبه وقال سحنون لصاحب البئر لأن ابن القاسم حمل الإجارة على أنها مضمونة على كل واحد منهما ، وحملها سحنون على أنها معينة فانفسحت بالمرض ، ولم يفرق أحد منهم في شيء من ذلك بين أن يكون لصاحب الأرض أو البئر أو الشريك عبيد أو أجراء لا يحتاج من أجلهم على الاستئجار على ما عمل له ، كما فرق في ذلك في سماع أبي زيد من كتاب الجعل والإجارة ، فقيل رواية أبي زيد مفسرة للقولين ، وقيل إنها قول ثالث في المسألة وهو الأظهر والله أعلم ، ولو لم يطلب الأول حقه وانتبذ منه فقال لا حاجة لي به ، وطلب الذي كفاه ما كفاه به وأتمه لتخرج ذلك على الاختلاف في المغارسة على جزء من الأرض هل هي لازمة لهما قياساً على المساقاة أو لا تلزم المغارس منهما قياساً على الجعل وحملاً عليه ، وقد مضى ذكر الاختلاف في رسم العتق من سماع عيسى .
ولو عجز قبل أن يفوت المغارسة في الأرض مغارس رب الأرض فيها غيره لكان الأول على حقه ، ويؤدي قيمة عمل الثاني للثاني أو لرب الأرض إن لم يرد الثاني أن يرجع على رب الأرض وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل أصبغ عن رجل أعطى رجلاً أرضاً على أن يضرب حولها جداراً أو يحفر حولها سياجاً أو يزرب حولها ويغرسها ، فإذا بلغ الغرس كذا وكذا لأجل حدداه بينهما فله النصف من جميع الغرس والجدار والسياج والزرب والأرض فإنه لا يتم في موضعه ذلك إلا أن

(15/416)


يسدوا حوله من كثرة المواشي واختلاف الناس والمضيق في موضعهم ذلك ، وكيف إن كانت الأرض في موضع لا يخاف على الغرس فيه فساد ما ذكرت لك واشترط عليه السداد ؟
قال أصبغ : إن كانت مؤونة يسيرة فهو جائز ، وإن كانت مؤونة السياج والحائط والزرب يعظم ويكثر فلا خير فيه ، وهو زيادة في المجاعلة وهو غرر أيضاً لعله لا يتم من الغراس شيء فترجع الأرض بحيطانها وسياجاتها إلى ربها فيكونان قد تخاطرا ، ويكفيك أن يحمل هذا على ما تحمل على المساقاة من سد الحظار وسد الشرب وما لا تعظم مؤنته ولا تكثر نفقته فيجوز كذلك قال مالك فيما قد علمت ، وإلا لم يجز .
قال محمد بن رشد : قوله إنه لا يجوز لرب الأرض أن يشترط على المغارس إلا القدر اليسير الذي يجوز لرب الحائط أن يشترطه على المساقي في المساقاة صحيح ، لأن المغارسة على جزء من الأرض مقيسة عليها حسبما قد ذكرناه في رسم طلق من سماع ابن القاسم ، وهي على القول الثاني مقيسة على الجعل فلا يجوز أيضاً اشتراط الزيادة الكثيرة فيه إذ لا يجوز ذلك في الجعل لأنه متى أحيل عن سنته باشتراط الزيادة فيه من أحدهما خرج عن أصله وعاد إلى الإجارة الفاسدة ، وقد أجاز ابن القاسم في سماع حسين بعد هذا أن يشترط رب الأرض على العامل عمل نصيبه سنين مسماة بعد المقاسمة ، وأنكر ذلك سحنون ، فقوله في إنكاره صحيح على قياس قول أصبغ هذا ، ولأصبغ في الواضحة مثل قول ابن القاسم هذا في سماع حسين ، وزاد قال : وذلك أنه إذا غارسه على حد معروف واشترط أن يقوم له بحصته إلى أجل من السنين قد تمت المجاعلة بينهما وصار لك واحد نصفه يصنع فيه ما شاء ، وصار لصاحب الأرض على الغارس عمل وخدمة إلى أجل معروف في نصفه الذي صار له ، فجاز ذلك ، واعترض عليه الفضل قوله قد تمت المجاعلة

(15/417)


بينهما ، وقال : أرأيت إن أبطل الغرس من قبل أن يبلغ النبات الذي تعاملا عليه وأبى الغارس أن يعيد غرسه أتتم المغارسة بينهما ؟ واعتراضه صحيح والله الموفق .
ومن كتاب النسمة
وسئل عن رجل أعطى رجلاً أرضاً يغرسها شجراً على أن الشجر بينهما نصفان فلما غرس وأطعم الغرس أراد صاحب الأرض إخراجه حيث عمل ما عملا عليه ، هلل للغارس من إجارة عمله يوم يخرج ، أو قيمة غرسه ؟ قال : أرى له غرم قيمة غرسه الذي جاء به على صاحب الأرض ، وإجازته فيما عمل وسقى وأصلح ، ويقيم له ذلك أهل البصر ، ويأخذ إجارته تامة إن كان أقام في ذلك سنة أو سنتين أو أقل أو أكثر ، ويكون له مع ذلك قيمة الغرس الذي غرس في أرض هذا .
قال محمد بن رشد : قوله على أن الشجر بينهما نصفان يريد الشجر دون الأرض ، ولذلك حكم لها بحكم المغارسة الفاسدة ، فيردهما فيها إلى حكم الإجارة ، وقد مضى الاختلاف في ذلك في رسم استأذن من سماع عيسى فلا معنى لإعادته .
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
قال أبو زيد : قال ابن القاسم : في رجل دفع أرضه إلى رجل على أن يغرسها نخلاً حتى إذا أثمرت كانت النخل والأرض بينهما قال : لا بأس به .

(15/418)


قال محمد بن رشد : هذا مثل ما مضى في رسم طلق من سماع ابن القاسم أن المغارسة إلى الإطعام جائزة ، ومثله يأتي في رسم حسين بن عاصم ، وهو قول ابن حبيب في الواضحة واحد قولي ابن المواز في كتابه ، وله فيه قول آخر أن ذلك لا يجوز لأنه لا يدري متى يثمر ؟ إذ قد يعجل ذلك وقد يؤخر ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال : أرأيت لو دفعها إليه مبهماً ، فأدعى أحدهما الحلال والآخر الحرام ؟ قال : ينظر إلى عمل أهل ذلك البلد ، فإن كان الغالب عليهم الحرام سلك بهم سبيل الحرام ، إن كانت الثمرة لم تثمر أعطى العامل النخل مقلوعاً إلا أن يشاء صاحب الأرض أن يعطيه قيمتها مقلوعاً ولا شيء له في عمله ولا سقيه ، وإن كانت أثمرت كانت الثمرة للعامل وكان لصاحب الأرض كراء أرضه يوم أثمرت النخيل ، فإن كان عمل أهل ذلك البلد الحلال سلك بهم سبيل الحلال ، وإن كان أهل تلك البلدة يعملون بالحلال والحرام وهذا يدعي حراماً وهذا يدعي حلالاً حلفاً ويفسخ الأمر بينهما .
قال محمد بن رشد : تكلم في أول هذه المسألة على الفوات وفي آخرها على القيام ، وبنى قوله في ذلك كله على أنه لا مزية لمدعي الحلال في دعواه على مدعي الحرام إلا أن يشهد له العرف بمنزلة مدعي الحرام ، فقال في أول المسألة في الفوات إنه إن كان الغالب في البلد الحرام يسلك بهم سبيل الحرام يريد بعد يمين مدعي الحرام على ما يشهد له به العرف من الحرام فيعطي النخل مقلوعة إلا أن يشاء رب الأرض أن يأخذها بقيمتها مقلوعة ولا كراء على العامل في الأرض إذا لم يثمر النخل إذ لم ينتفع بها وأما إن أثمرت فعليه الكراء ، قال في هذه الرواية من يوم أثمرت ، وقد مضى ذكر

(15/419)


الاختلاف في ذلك وتوجيهه في رسم استأذن من سماع عيسى ، وقال إنه إن كان عم أهل البلدة الحلال سلك بهم سبيل الحلال يريد أنه يكون القول قول مدعي الحلال مع يمينه على ما يدعيه من الحلال لشهادة العرف له بذلك ، ولو لم يشهد العرف لواحد منهما أو شهد لهما لوجب على قياس هذه الرواية أن يكون قول من يدعي عليه منهما أكثر مما يجب عليه ما يقر به من الحرام والحلال .
وقال في آخر المسألة في الفوات وإن كان أهل البلد يتعاملون بالحلال والحرام حلفاً وفسخ الأمر بينهما ، وتحصيل القول في اختلافهما في الحلال والحرام إن اختلافهما في ذلك لا يخلو من أن يكون قبل الفوات أو بعد الفوات ، فإن كان قبل الفوات فعلى القول بأنه لا يراعي دعوى الإشباه مع القيام ، يتحالفان ويتفاسخان ، هذا نص قولهم ، والذي يوجبه النظر أن يحلف مدعي الحرام وينفسخ البيع ، وإن نكل عن اليمين حلف مدعي الحلال وثبت البيع إذ لا معنى لحلف مدعي الصحة إلا بعد نكول مدعي الفساد ، لأنه إذا حلف انتقض البيع على كل حال حلف مدعي الصحة أو نكل عن اليمين ، فلا معنى ليمينه إلا إذا نكل مدعي الفساد .
وأما على القول بأنه يراعي دعوى الإشباه مع القيام فيكون على هذه الرواية التي لم ير فيها لمدعي الحلال مزية في دعواه على مدعي الحرام القول قول من يشهد له العرف منهما دون صاحبه ، فإن شهد العرف لهما أو لم يشهد لواحد منهما حلفا وفسخ الأمر بينهما ، هذا نص قوله .
وقد مضى أن الذي يوجبه النظر أن يبدأ بيمين مدعي الحرام ، إذ لا معنى ليمين مدعي الصحة إلا إذا نكل مدعي الفساد ، وأما على المشهور في المذهب من أن المدعي الحلال مزية في دعواه على مدعي الحرام فيكون القول قول من يدعي الحلال منهما إلا أن يشهد العرف لمدعي الحرام دونه .
وأما إن كان اختلافهما في ذلك بعد الفوات فلا اختلاف في مراعاة

(15/420)


دعوى الإشباه في ذلك ، فيكون على المشهور في المذهب من أن لمدعي الحلال مزية في دعواه على من يدعي الحرام ، القول قول من يدعي الصحة إلا أن يشهد العرف لمدعي الفساد دونه ، ويكون على رواية أبي زيد الذي لم ير فيها لمدعي الحلال مزية في دعواه على مدعي الحرام القول قول من شهد له العرف منهما دون صاحبه ، فإن شهد العرف لهما أو لم يشهد لواحد منهما كان القول قول من يدعي منهما أكثر مما يلزمه على ما يدعي من الحرام أو الحلال وبالله التوقيق .
ومن سماع حسين بن عاصم من ابن القاسم
قال حسين : قلت لابن القاسم أرأيت الرجل يدفع أرضه إلى الرجل ليغرسها أصولاً معروفة على أن الشجر والأرض بينهما بنصفين ؟ قال : قال مالك : لا بأس بذلك إذا سميا للشجر قدراً معلوماً أو شباباً معروفاً ينتهي إليه . قال : قلت لابن القاسم ما هذا الشباب الذي وصفه مالك لكم ؟ قال : حد الشجر في ارتفاعها حتى كون تزيد قدراً معلوماً كالقامة والبسطة ونصف القامة وما أشبه ذلك في سعفات تلقيها الشجر معروفة أيضاً ، قال : فقلت له أيجوز هذا إذا كانت الشجرة تثمر قبل بلوغها لهذا الشباب والقدر الذي وصفت لك ؟ . قال : لا يجوز ذلك وتفسخ معاملتهما .
قلت له : لم فسخت ذلك بينهما ؟ قال من قبل أن العامل تكون له الثمرة التي تثمر تلك النخل إلى أن تبلغ الشباب والقدر الذي سمياه بينهما ثم يكون نصف تلك الشجر بأرضها للعامل مع

(15/421)


الثمرة كلها التي كانت قبل ذلك ، فصار أجيراً بثمرة لم يبد صلاحها وبنصف هذه الأرض بما ينبت فيها ، فلا يجوز .
قلت : فإن سميا عدة سنين يعملها العامل يغرسها ثم يكون بعد ذلك بنصفين ؟ قال : لا بأس بذلك إذا كانت أرضاً مأمونة قد عرفها الناس لأنها لا يخفى أمرها ونبات شجرها ، وذلك إذا كان السنون لا تتم الشجر قبلها ، فإن أثمرت قبل الأجل لم يصلح ، لأنه لا يدخله ما وصفت لك من بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحه إذا كان به أجيراً وبنصف الشجر إلى هذا الأجل .
قلت : فإن اشترط إلى أن تثمر ؟ قال : لا بأس بذلك .
قلت : لم والأثمار مختلف ؟ منه ما يتعجل فيقل عمل العامل فيه فيغبن رب الأرض وقد ظن رب الأرض أنه سيبطأ عمله ويكثر عمل الناس فيه ، ومنه ما يبطأ فيظن العامل أنه سيتم معجلاً ويقل عمله فيه ، فإن كان إثماره قريباً غبن العامل رب الأرض ، وإن كان غثماره بطيئاً غبن رب الأرض العامل .
فقال الإثمار معروف قدره ، وإنما يختلف منه الشيء اليسير فلا يحمل الناس على الخاص وإنما يحملون على العام .
قال محمد بن رشد : أما إجازته المغارسة على جزء من الأرض إلى قدر من الشجر دون الإطعام فلا اختلاف في جواز ذلك ، وكذلك منعه من جوازها إلى حد يكون الإطعام دونه أو إلى أجل يكون الإطعام دونه فلا اختلاف أيضاً فيه .
وأما إجازته إياها إلى أجل لا يكون الإطعام دونه فهو خلاف ما يأتي له في هذا السماع بعد هذا وجواز ذلك ها هنا على القول بلزوم

(15/422)


المغارسة قياساً على المساقاة ، والمنع من ذلك على ما يأتي له على القول بأن المغارسة على جزء من الأرض لا يجوز إلا على وجه الجعل الذي لا يلزم المجعول له فيه العمل ولا يجوز فيه الأجل ، ويكون له الخروج متى شاء على ما قد مضى القول فيه في رسم العتق من سماع عيسى.
وأما إجازته إياها إلى الإثمار فهو المشهور في المذهب قد مضى مثله في رسم طلق من سماع ابن القاسم ، وإليه ذهب ابن حبيب في الواضحة ، ومثله في كتاب ابن المواز ، وله في موضع آخر أن ذلك لايجوز إذ قد يتأخر الإثمار ويتعجل ، فهو غرر .
مسألة
قلت فإن أثمر بعضها وبقي بعض ؟ قال إذا أثمر الجل منهما وبقي الشيء التافه كان تبعاً لما أثمر منها ، ويكون العامل على شرطه ، قلت : فإن أخذها على شباب وحد معروف ينتهي إليه فغرسها مات بعضها وحيي بعضها ؟ فقال : إن كان الذي حيي منها ونبت جلها وأكثرها فالأرض وما فيها بينهما ، ولا يضره ما مات منها ، وإن كان الذي مات جلها أو أكثرها لم يكن له فيما نبت من ذلك الشيء اليسير شيء ، لأنه ليس وجه ما عامله ع ليه ، قال : قلت وما باله إذا كان الذي نبت منها الشيء الذي له بال وقدر في الأصول من الغرس وإن لم يكن جلها ولا أكثرها لا يكون العامل فيما نبت من ذلك على شرطه ؟ فقال : نعم ، أراه فيما نبت مما وصفت على شرطه ولا يكون له فيما لم ينبت قليل ولا كثير ، قال سحنون : لا يكون للعامل قليل ولا كثير إذا كان الذي نبت منه الشيء اليسير لا مما نبت ولا مما لم ينبت ، قال سحنون : وأصل قولنا في المغارسة إذا كان الذي نبت منها جلها وأكثرها وحسن منها

(15/423)


الشيء اليسير فجميع الأصل والأرض بينهما ما حسن منها وما لم يحسن ، وإذا كان الذي نبت إنما هو الشيء اليسير وحسن منها جلها وأكثرها فلا يكون للعامل منه قليل ولا كثير ، لا مما نبت ولا مما لم ينبت ، فكما يكون للعامل نصف الجميع إذا كان الذي حسن منها الشيء اليسير ما حسن منها وما لم يحسن ، فكذلك لا يكون له قليل ولا كثير إذا كان الذي نبت منها اليسير وحسن أكثرها لا مما نبت ولا مما لم ينبت .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفي في سماع أصبغ فلا معنى لإعادته والله الموفق .
مسألة
قلت فإن أخذها العامل على أن يغرسها على النصف ولم يسميا شباباً ولا قدراً موصوفاً ينتهي إليه أو أخذها إلى أجل تكون الثمرة دونه ولا تكون الثمرة أو لا تكون الثمرة دونه ففسخت أمرهما ومعاملتهما وقد نبت الغرس ؟ فقال لي أرى أن يقسم الغرس بينهما نصفين ، ثم يكون النصف للعامل بقيمته يوم قبض الأرض براحاً لا غرس فيها بتفويته إياها بالغرس ، لأنه مبتاع لذلك النصف بعمله في نصف الأرض إلا ما لا أمد له ولا وقت ، فصار بمنزلة من ابتاع أرضاً بثمن مفسوخ يفوتها بغرس أو بناء ، فإنها تقوم عليه بقيمتها يوم ابتاعها بلا غرس فيها ولا بناء ، فيعطي تلك القيمة البائع وتكون الأرض للمبتاع لتفوته إياها ، فهذا يدلك على ما وصفت لك ومما يدلك على ذلك أيضاً لو أن رجلاً أعطى رجلاً أرضاً في إبان القليب ليفلحها ويثنيها ويزرعها فقبلها وثنائها وزرعها في إبان الزرع على أن تكون الزريعة منهما والأرض غير مأمونة ويكون الزرع بينهما نصفين فإنه يفسخ عليهما إذا لم تكن

(15/424)


مأمونة لأنه أجير في نصف الأرض بالنصف الذي أخذ وهو لا يدري أيتم له الزرع فيها إن مطرت السماء أو لا يتم له إن قحطت السماء ، فإذا فسخت عملهما قسمت الأرض بينهما نصفين فيكون للعامل نصف تلك الأرض تلك السنة إن رويت الأرض في إبان الزرع بكراء مثلها لأن الحرث فيها فوت كما كان الغراس فوتاً هنالك ، ويكون للعامل على رب الأرض قيمة عمل مثله في قليبه وحرثه عطشت الأرض أو رويت فهذا يدلك على مسألتك أيضاً .
قيل : فإن أثمرت الشجر وقد إغتلاها زماناً ؟ قال : يكون ما اغتل للعامل من نصفه الذي ضمنه يوم فوته بالغرس له ، ولا كراء عليه فيه ، ويكون عليه الكراء في سهم شريكه من يوم اغتله ، وتكون له ثمرة ذلك النصف على رب الأرض يرجع بها عليه منذ يوم اغتلها ، لأنه إنما دفع إليه أرضا فصار الذي أخذ منها من الثمرة من كراء أرضه فدخل في ذلك كراء الأرض بالثمرة ، ففسخ ذلك وردت الثمرة إلى من أخذت منه ، وصار على أخذها كراء نصف الغرس براحاً لا غرس فيها منذ يوم اغتلها وهو العامل ، قال قال سحنون : لا تكون له الغلة وجميع الغلة لصاحب الأرض يردها عليه العامل ، ويكون على صاحب الأرض قيمة غرسه إن كانت له قيمة وأجرة عمل مثله ، قال سحنون : لو أني جعلت له الثمرة لكان بيعاً للثمرة قبل أن يبدو صلاحها .
قال محد بن رشد : أما حكمه بفساد المغارسة على جزء من الأرض دون أن يسميا شباباً ولا حداً ينتهي إليه المغارسة فهو المشهور في المذهب ، وأجاز ذلك ابن حبيب وجعل حدها الإطعام .
وأما حكمه بفسادها إلى أجل لا يكون الإطعام دونه فهو خلاف ما تقدم

(15/425)


في هذا السماع ، وقد مضى القول هنالك على ما يتخرج عليه كل قول منها على الأصول وقوله في مسألة البيع الفاسد الذي نظر بها إن القيمة تكون في ذلك يوم ابتاعها معناه إن كان البيع والقبض في وقت واحد لأن القيمة لا تجب في البيع الفاسد إلا يوم القبض لا يوم البيع هذا اختلاف ، ومسألة القليب الذي استدل بها على ما ذهب غليه من أنه بيع فاسد في نصف الأرض مسألة صحيحة إلا أنها لا حجة فيها إذ لا يلزم فيها على قياس القول بأنه يلزم المغارس قيمة نصف الأرض يوم فوتها بالغرس والكراء في النصف الثاني أن يلزمه الكراء في جميع الأرض لتفويته لها بالقليب.
وقوله إنه يكون له الكراء في سهم شريكه من يوم اغتله هو مثل ما تقدم في سماع أبي زيد خلاف ما في سماع يحيى وفي رسم استأذن من سماع يحيى وفي رسم استأذن من سماع عيسى ، وحكى ابن زرب أنه وجد في بعض الكتب لابن القاسم أنه لا كراء عليه في نصيب صاحب الأرض لأنه كأنه أباح له الغرس فيها ، قال فلذلك سكت عنه في غير هذا الموضع ، وقد مضى توجيه الاختلاف هناك فلا معنى لإعادته ومضى أيضا في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى تحصيل الاختلاف في هذه المسألة فلا معنى لإعادته وقول سحنون إنها إجارة فاسدة في الجميع هو أحد أقوال ابن القاسم في المسألة في رسم يوصي من سماع عيسى ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال قلت فإن أخذها على شباب معروف وحد ينتهي إليه وشرط عليه رب الأرض عمل شطره سنين مسماة بعد المقاسمة هل يجوز ذلك له أم لا ؟ فقال : إن كان عمل النصف محدوداً معروفاً وكان مضموناً على العامل عاش أو مات فذلك جائز ، وإن كان ذلك في عمل بدنه بعينه ما قام شخصه فلا خير فيه ويفسخ لأنها مخاطرة

(15/426)


ولا يدري أيعيش العامل إلى ذلك الأجل أو يموت قبله ؟ فإن مات غبن رب الأرض ، فإن عاش إلى الأجل غبنه رب الأرض فتخاطرا بهذا ، قال سحنون : هذا خطأ ولا يجوز هذا ، وأول خطإ هذا أنه جعل وبيع شيء ، فلا يجوز هذا على حال من الحال ، ويصنع في هذا كما وصفت لك في أول المسألة .
قال محمد بن رشد : في الواضحة لمطرف وأصبغ مثل قول ابن القاسم ، وزاد عن مطرف قال : فإن بطل الغرس بعد أن غ رسه قيل لرب الأرض أعطه غرساً مثله يغرسه لك ويقوم لك به إلى أجله ، وهذا هو قول سحنون وقول أشهب في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ من كتاب الجعل والإجارة ، وإليه ذهب ابن حبيب خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها من أن الإجارة لا تجوز في ذلك إلا بشرط الخلف وزاد عن أصبغ أنه أجاز ذلك ، لأن المغارسة قد تمت بينهما ، واعترض ذلك الفضل واعتراضه صحيح ، إذ لا فرق في القياس بين أن يشترط عليه في المغارسة عملاً يعمله قبل الغرس أو بعده ، فقول ابن القاسم في هذه الرواية وقول أصبغ في الواضحة معارض لما مضى من قول أصبغ في نوازله حسبما بيناه هناك .
ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال أحدها أن المغارسة على هذا الشرط لا تجوز كان العمل مضموناً على العامل أو في عينه غير مضمون عليه ، على حكم الإجارة في عين الأجير ، وهو الذي يأتي على قياس ما تقدم من ول أصبغ في نوازله ، الثاني أن ذلك جائز إن كان العمل مضموناً على العامل ، ولا يجوز إن كان في عيه غير مضمون عليه إلا أن يشترط الخلف إن بطل الغرس والثالث إن ذلك جائز في الوجهين جميعاً والحكم يوجب الخلف ، وأما إن اشترط العمل في بدنه ما قام شخصه فإن مات بطل عنه الشرط ولم يجب عليه لرب الحائط شيء فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز ، فإن وقعت المعاملة على ما لا يجوز باتفاق أو على ما لا يجوز عند من لا يجيزها على ما

(15/427)


وقعت عليه فسخت ، فإن فاتت بالعمل كان الحكم فيها على الاختلاف الذي قد مضى تحصيله في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى ، وقول سحنون فيها على أصل مذهبه وأحد أقوال ابن القاسم وبالله التوفيق .
مسألة
قلت : أرأيت إن عامله على النصف بحال ما ذكرت لك معاملة يفسخها بينهما فاغتلاها زماناً ثم ذهب الغرس وبطل ورجعت الأرض براحاً على حالها الأول ؟ فقال : يكون نصفها للعامل بقيمتها يوم أخذها براحاً ، لأنه ساعة فوتها بالغرس ضمنها بقيمتها فلا يسقط عنه الضمان رجوعها إلى حالها الأولى ويكون أيضا للعامل الغلة كلها ، وعليه كراء نصف الأرض منذ يوم اغتلها ، فلا يكون عليه في نصفها الذي قوم عليه كراء ويكون على رب الأرض للغارس في نصفه الذي ذهب أجر عمله فيها إلى أن يبلغ الشباب الذي سمياه ، هلك بعد ذلك أو كان قائماً ، وإن فات الغرس من قبل أن يبلغ ذلك الشباب فليس للغارس أجرة في غرسه نصف الأرض وما يدلك عليه قوله مالك في الرجل يستأجر حفار القبور على حفر قبر فينهدم القبر من قبل أن يفرغ الحافر منه : إن ذلك عليه حتى يحفر ويفرغ منه ، وإن انهدم القبر بعد فراغه منه فهو من المستأجر ، وعليه للحافر أجرته كاملة ، قال : قال سحنون : تكون جميع الغلة لصاحب الأرض ، ويكون للعامل منها شيء ويعطي العامل أجرة مثله بعد أن يرد جميع ما أخذه من الغلة من قبل أن الشجر لو نبتت لم أجعل له فيها ولا في الأرض شيئاً ، فكيف إذا لم تنبت حينئذ أخرى أن لا فوق هذه المسألة في القليب في الأرض غير المأمونة .

(15/428)


محمد بن رشد : قوله في هذه المسألة وتكون أيضاً للعامل الغلة كلها معناه إلى يوم بلغت النخل الحد الذي اشترط إتمام المغارسة إليه وأما فيما بعد ذلك إلى حين الحكم فتكون الغلة بينهما كما اغتلاها ، ولا شيء في ذلك على واحد منهما لصاحبه ، لأن العامل اغتل النصف الذي قد ضمن بالقيمة ، وصاحب الأرض اغتل النصف الآخر الذي قد صار بانقضاء أمد المغارسة إليه وتولي القيام لنفسه عليه .
وقوله فعليه كراء النصف لرب الأرض منذ يوم اغتلها معناه أيضاً إلى يوم بلوغ النخل الحد المشترط .
فأما قوله ويكون على رب الأرض للغارس في نصف الذي ذهب أجرة عمله فيه إلى أن يبلغ الشباب الذي سمياه هلك بعد أو كان قائماً وإن مات الغارس من قبل أن يبلغ ذلك الشباب فليس للغارس أجرة في غرسه نصف رب الأرض فإنه كلام لا يستقيم رده على ما تقدم من القول ، بأن الغلة كلها للعامل ، وعليه كراء نصف الأرض ، وإنما يصح على القول بأنه يرد في نصف رب الأرض إلى إجارة المثل فيؤديها إلى العامل وتكون غلة ذلك النصف له لا للعامل ، ويرد إليه مع ذلك قيمة الغرس يوم وضعها في الأرض ، فهو خروج من قول إلى قول دون واسطة ، وأراه سقط من الأم شيء من الكلام .
وأما قوله إن الغرس إن مات من قبل أن يبلغ ذلك الشباب للغارس أجرة في غرسه نصف رب الأرض فهو قول سحنون ومذهبه ، وخلاف المعلوم من مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها في أن له من الأجر بقدر ما مضى من العمل ، وإنما اختلف قوله في ذلك في المدونة إذا كانت الإجارة بما لا يملك من الأرض كالقبر يستأجر الرجل على حفره في المقبرة .
فإن صح هذا الكلام والاحتجاج لابن القاسم يحصل من مذهبه في ذلك ثلاثة أقوال أحدها أنه لا شيء له من أجرته إلا بعد تمام العمل ، والثاني أن له من أجرته بحساب ما عمل ، والثالث الفرق في ذلك بين ما يملك من

(15/429)


الأرضيين أو لا يملك ، وقول سحنون على ما اختاره من أقوال ابن القاسم أنه يرد في الجميع إلى أجرة مثله .
مسألة
قال : قلت فإن أخذها على أن يغرسها على النصف ولم يذكر الأرض ولا الثمر فاختلفا فقال العامل عاملتك على أن لي نصف الأرض بل على أن الثمرة بيننا وحدها أو الشجر بيننا وحدها دون الأرض ؟ فقال لي : إن كان للبلد سنة في معاملتهم حملوا عليها ، قلت : فإن كان البلد العامل فيه على الوجهين ، وهما يجريان به جميعاً ؟ فقال : القول في ذلك قول العامل مدعي الحلال منهما مع يمينه ، ورب الأرض مدعي لأنه يدعي سبباً يريد فسخ عملهما في ارتجاع الأرض ، وقد قال مالك في الرجلين يستأجران فيدعي أحدهما في مبايعة صاحب الحلال ويدعي الآخر الحرام : إن القول قول مدعي الحلال منهما مع يمينه ، والآخر مدعي لأنه يريد فسخ ما ثبت من يبيع الحلال .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفي في سماع أبي زيد فلا معنى لإعادة شيء منه .
مسألة
قال : قلت : فإن ثبتت بينة على أنهما تعاملا على أن الثمرة بينهما ما قامت الشجرة فإذا ذهبت الشجرة فلا شيء للعامل في الأرض أو على أن الشجر وحدها دون البياض .
فقال : لا يجوز ذلك ويفسخ متى ما عثر عليه وترد إلى ربها ويكون عليه للعامل قيمة غرسه مقلوعاً بالأرض أو يتركه يقلع غرسه إن

(15/430)


أبى أن يعطيه قيمته وتكون الغلة كلها للعامل ويكون عليه كراء الأرض كلها منذ يوم اغتلها ، قال : قال سحنون : الغلة كلها لصاحب الأرض ويعطي للعامل أجرة مثله .
قلت : ولم جعلت للعامل قيمة عمله مقلوعاً وهو إنما عمل على وجه شبهة ؟ فقال : من قبل أن رب الأرض إنما أكراه أرضه بثمرة تخرج منها على أن يغرسها أصولاً ما قامت الشجر ، فصار كراء لا أمد له ، وكراء الأرض بالثمرة أيضاً ، فلا بد من رد الأرض إلى صاحبها على حال ما خرجت من يديه براحاً لا غرس فيها ، لأنك إن لم تفعل وجعلت عليه فيها القيمة لعمل العامل أدخلت عليه ما يحجبه عن أرضه ، فإن لم يقدر عليها أو كره أن يعطيها إياه وألزمته إياها صرت أن بعت منه شيئاً للعامل في أجرته أو أعطيتها إياه فيها ، فصار ما خرج من يديه من أرضه منفوصاً حين رجع إليه محجوباً عنه حتى يعطي ما لزمته من الأجرة فهذا يبين لك ما سألت عنه ، ولأنه أيضاً إنما عامله على أن يعطيه في كرائها ثمرة أو أصلاً ما قام الأصل ، وفي المسألة الأولى إنما عامله على أن يغرس له نصف الأرض بالنصف الذي أعطاه منها ، فصار أجيراً في غرس نصفه بما أعطاه من نصف أرضه .
قلت فإن ذهب الغرس ورجعت الأرض إلى حالها أولاً براحاً لا غرس فيها والمسألة على حالها ؟
فقال : تكون الثمرة كلها للعامل ، ويكون عليه كراء الأرض منذ يوم اغتلها ، ولا يكون له على رب الأرض فيما هلك من الغرس قيمة ما عمل ، لأنه إنما كان يعطيه قيمته مقلوعاً بالأرض ، فقد ذهب وبطل لأنه إنما كان العمل له لا لرب الأرض ، وفي المسألة الأولى

(15/431)


إنما كان نصف الغرس الذي بطل بعد أن بلغ الشباب والقدر لرب الأرض لا للغارس ، ولذلك أو جنبت للغارس قيمة عمله فيه على رب الأرض فهذا شأنه ، قال سحنون : الثمرة كلها لصاحب الأرض ويعطي العامل أجرة مثله .
قال حمد بن رشد : قوله في هذه المسألة وفي المسألة الأولى إنما عامله على أن يغرس له نصف الأرض بالنصف الذي أعطاه منها يريد المسألة المتقدمة التي غارسه فيها على نصف الأرض إلى أجل تكون الثمرة دونه .
فقوله فيها ها هنا فصار أجيراً في غرس نصفه بما أعطاه من نصف أرضه وقوله بعد ذلك : وفي المسألة الأولى إنما كان نصف الغرس الذي بطل بعد أن بلغ الشباب والقدر لرب الأرض لا للغارس فلذلك أوجبت للغارس قيمة عمله على رب الأرض فهذا شأنه خلاف قوله في المسألة المتقدمة لأنه لم يجعله فيها أجبراً في نصف رب الأرض ، وإنما جعله فيها مكترياً له ، فأعطاه جميع الغلة ، وقوله سحنون على أصله في أنه يكون أجيراً في الجميع ، وقد تقدم هذا المعنى في مواضع ، ومضى تحصيل الاختلاف فيه في رسم يوصي لمكاتبة من سماع عيسى فلا معنى لإعادته وبالله تعالى التوفيق .
تم كتاب المزارعة والمغارسة بحمد الله تعالى وحسن عونه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الكريم اللهم عونك .
تم كتاب المغارسة بحمد الله تعالى

(15/432)