البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [: كتاب الديات الأول] [مسألة: أهل الذهب والورق إذا وقعت عليهم الدية كيف تغلظ]
من سماع ابن القاسم من كتاب قطع الشجر قال وسئل مالك عن أهل الذهب والورق إذا وقعت عليهم الدية مثل ما وقع على المذحجي كيف تغلظ عليهم إن غلظت؟ قال: نعم تغلظ عليهم، وإنما يعتبر ذلك بفضل ما بين أسنان المغلظة وأسنان الخطأ على أهل الإبل، ينظر إلى قيمة المغلظة كم قيمة الثلاثين حقة والثلاثين جذعة والأربعين خلفة فيعرف؟ وينظر كم قيمة أسنان دية الخطأ الأخماس، عشرين بنت مخاض وكم قيمة عشرين بنت لبون، وكم قيمة عشرين ابن لبون وكم قيمة عشرين حقة وكم قيمة عشرين جذعة، فيعرف كم قيمة ذلك كله، فينظر كم فضل ما بين القيمتين؟ قيمة الأثلاث دية الخطأ، وقيمة الأخماس دية الخطأ، فإن كان خمسا أو سدسا أو ربعا أو ما كان فيزاد على أهل الذهب والورق بقدر ما زادت قيمة التغليظ في الإبل على دية الخطأ ينظر كم هو من دية الخطأ؟ إن كان ثلثا أو ربعا أو ما كان زيد مثل ذلك، قال مالك: فأرى الجراح مثل ذلك إذا كانت شبيها بذلك أن يزاد فيها للخرمة أو فقاء العين أو قطع الرجل كان عليه خمسة عشر حقة وخمسة عشر جذعة وعشرون خلفة، فإن فعل ذلك أحد من أهل الذهب أو الورق نظر أيضا إلى فضل هذه الأسنان التي سميتها

(15/433)


وإلى نصف قيمة دية الخطأ من الإبل فتغلظ عليه بقدر ذلك إذا صار ذلك ثلثا على أهل الإبل أو ربعا أو ما كان في القيمة، وصنع بأهل الذهب والورق مثل ذلك في الجراح والنفس، قال ابن القاسم: ليس يكون ذلك في الجراح إلا في الأب، قال سحنون: إلا الجائفة والمأمومة والمنقلة، فإن الأجنبي لا يقاد منه فكذلك الأم والأب والجد لا تغلظ عليهم الدية فيها.
قال محمد بن رشد: الديات على مذهب مالك وأصحابه ثلاث: دية الخطأ، ودية العمد إذا قبلت، ودية التغليظ في مثل ما فعل المذحجي بابنه، وهي دية شبه العمد على مذهب من يراه ويقول به، وهو قول أكثر أهل العلم ورواية العراقيين عن مالك.
فأما دية الخطأ فإنها على أهل الإبل مائة من الإبل على عاقلة القاتل سنة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا اختلاف بين أحد من أهل العلم في ذلك، وتؤخذ في ثلاث سنين وقيل في أربع بخمسة عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون ذكرا وعشرون حقة وعشرون جذعة، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة غير أن أبا حنيفة جعل مكان ابن لبون ابن مخاض، وقد ذهب جماعة من السلف منهم علي بن أبي طالب إلى أن دية الخطأ مربعة واختلفوا في أسنانها اختلافا كبيرا.
وأما دية العمد فليست بموقتة ولا بمعلومة بدليل قول الله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] وشيء نكرة تقع على القليل والكثير، فإن اصطلحوا على الدية مبهمة فإنها تكون حالة في مال القاتل مائة من الإبل على أهل الإبل مربعة: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة وخمس عشرون جذعة، وفي كتاب ابن المواز أنهم إن

(15/434)


اصطلحوا على دية مبهمة أو عفا بعض الأولياء فرجع الأمر إلى الدية فالدية في ذلك مثل دية الخطأ إلا أن العاقلة لا تحمل منها شيئا وهي في مال الجاني منجمة في ثلاث سنين، قال: وإنما تفترق دية الخطأ من دية العمد في أن العاقلة لا تحملها، وأما في الأسنان فلا، والأول هو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك وأصحابه، وذهب الشافعي إلى أن دية العمد إذا قبلت كدية شبه العمد مثلثة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة.
وأما الدية المغلظة في مثل ما صنع المذحجي بابنه وفي شبه العمد على مذهب من يراه من أهل العلم وهو قول مالك في رواية العراقيين فإنها على أهل الإبل مثلثة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها، قيل حالة في مال القاتل غير مؤجلة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك، وقد كان ابن القاسم يقول: إنها على العاقلة كهيئة دية الخطأ حكى ذلك عنه ابن حبيب، وقيل: إنها على العاقلة حالة تنجيمها وهو قول ابن الماجشون، قال: ومن تغليظها أن يطرح تنجيمها ويدل على ذلك قول عمر بن الخطاب سراقة بن جعشم المذحجي وهو غير القاتل إلا أنه رأس قومه: اعدد لي على ماء قديد عشرين ومائة من الإبل، وإلى هذا ذهب أشهب وسحنون، وقيل: إنها في ماله إن كان له مال وعلى العاقلة إن لم يكن له مال، وهو قول مطرف وإياه اختار ابن حبيب.
وأما الدية على أهل الذهب والورق فهي في الخطأ على ما قومها به عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ألف دينار على أهل الذهب واثني عشر ألف درهم على أهل الورق، هذا مذهب مالك وجميع أصحابه.
واختلف هل تغلظ على أهل الذهب والورق دية العمد المربعة إذا قبلت بفضل ما بين أسنانها وأسنان دية الخطأ أم لا؟ وهل تغلظ أيضا عليهما الدية المثلثة في مثل ما صنع المذحجي بابنه بفضل ما بين أسنانها وأسنان دية الخطأ أم لا على ثلاثة أقوال:
أحدها - أنها لا تغلظ واحدة منهما، حكى هذا القول

(15/435)


عبد الوهاب في المعونة.
والثاني - أنها تغلظ كل واحدة منهما، وهو الذي يأتي على ما في رسم الصبرة من سماع يحيى عن أشهب، لأنه إذا رأى التغليظ في الدية المربعة فأحرى أن يراه في الدية المثلثة.
والثالث - أنه لا يغلظ الدية المربعة وتغلظ الدية المثلثة، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وقول ابن نافع في رسم الصبرة المذكور من سماع يحيى وهو أولى الأقوال إذ قد قيل في دية العمد إذا قبلت إنها مخمسة مؤجلة على ما في كتاب محمد.
واختلف في صفة التغليظ على ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه ينظر إلى قيمة أسنان الدية المخمسة وإلى قيمة أسنان الدية المربعة أو المثلثة في ذلك البلد إن كان البلد بلد إبل، وإن لم يكن بلد إبل ففي أقرب بلدان الإبل إليهم قاله أصبغ في الواضحة، فما كان بين القيمتين سمي من قيمة أسنان الدية المخمسة فما كان من خمس أو ربع أو ثلث أو أقل أو أكثر أخذ ذلك الجزء من الألف المثقال أو الاثني عشر ألف درهم فزيد عليه، وهو قوله في هذه الرواية والمشهور في المذهب.
والثاني - أنه يزاد على الألف مثقال أو الاثني عشر ألف درهم ما كان بين القيمتين من العدد من غير تسمية، وهذا القول في المعنى أظهر، والأول أشهر.
والثالث أن يقوم أسنان الدية المثلثة أو أسنان الدية المربعة فتكون تلك الدية ما كانت إلا أن ينقص من الألف دينار أو اثني عشر ألف درهم فلا ينقص من ذلك شيء، وهذا القول حكاه عبد الوهاب وهو ينحو إلى مذهب الشافعي في أن الدية على أهل الذهب والورق قيمة الإبل على أسنانها وقت الحكم في كل زمن نقصت من الألف دينار أو زادت عليه، قال: لأن عمر قوم الدية ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم فالحكم أن يقوم في كل زمن.
ولا حجة له فيما روي عن عمر بن الخطاب في ذلك، إذ قد روي أنه قوم الدية، وأنه جعل الدية، وأنه قضى في الدية، وحكم للجراح في التغليظ في الديتين جميعا المربعة والمثلثة حكم الدية الكاملة يؤخذ ذلك من الاختلاف في التغليظ وفي صفته ما ذكرناه في الدية وفي صفته ما ذكرناه في

(15/436)


الدية الكاملة إلا الجائفة والمنقلة والمأمومة وما أشبهها من الجراح التي هي متألف فلا يقتص منها في الأجنبي فيستوي في حكم تغليظها الأب والأجنبي، فلا يغلظ على الأب إلا على القول بوجوب تغليظ دية العمد المربعة وجراحات العمد، فقول سحنون إلا الجائفة والمنقلة والمأمومة فإن الأجنبي لا يقاد منه. فكذلك الأب والأم والجد لا تغلظ عليهم فيها الدية هو على ما اختاره وأخذ به من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في أنه لا تغليظ على أهل الذهب والورق في دية العمد وجراحاته، والتغليظ عند ابن القاسم وأشهب وأصحابهما فيما صغر من الجراح أو كبر، وقد ذكر عن ابن القاسم أنه قال: إنما ذلك فيما يبلغ ثلث الدية فأكثر، وقول ابن القاسم ليس يكون ذلك في الجراح إلا في الأب يريد والأم، إذ لا يفرق أحد بين الأب والأم في هذا، فعلى ظاهر قوله هذا لا تغلظ الدية في جد ولا جدة خلاف قوله في المدونة إنما تغلظ في الجد يريد والجدة من قبل الأم ومن قبل الأب - والله أعلم - فلا يغلظ على مذهبه في المدونة في الجد للأم ولا في الجدة أم أب الأم والأم أب الأب، وهو قول أشهب، وذهب ابن الماجشون إلى أن الدية تغلظ في الأجداد والجدات كلهم من قبل الأب ومن قبل الأم وهو قول سحنون في نوازله من كتاب الأقضية إن الدية تكون له في ولده وولد ولده، والتغليظ يلزمه في ولده وولد ولده من الرجال والنساء، وقد روى عن ابن القاسم مثل قول ابن الماجشون، وروى عنه أنه توقف في الجد للأم.
والتغليظ تابع للقصاص فمن تغلظ الدية فيهم كلهم فلا يقتص من واحد منهم ألا أن يعمد لقتله مثل أن يضطجعه فيذبحه أو يأخذ سكينا فيقطع يده أو يفقأ عينه، ومن يرى أن لا تغلظ الدية على الجد للأم أو الجدة أم أب الأب أو أم أب الأم فهو يرى القصاص منهم في العمد الذي يشبه العمد وإن لم يعمد للقتل، إذ لا اختلاف في أنه لا يقتص من واحد منهم فيما هو من شبه العمد مثل أن يضربه بعصا فيموت من ذلك، أو بسوط فيفقأ عينه وما أشبه ذلك.

(15/437)


فالديات عند مالك ثلاث مخمسة ومربعة ومثلثة، وعلى ما في كتاب ابن المواز اثنتان مخمسة في الخطأ وفي العمد إذا قبلت الدية مبهمة، ومثلثة في مثل ما فعل المذحجي، وعند الشافعي اثنان مخمسة في دية الخطأ ومثلثة في العمد إذا قبلت وفي شبه العمد، وعند أبي حنيفة اثنتان مخمسة في دية الخطأ ومربعة في شبه العمد وفي العمد إذا قبلت الدية فيه مبهمة، وهذا كله لا مدخل للرأي والقياس في شيء منه، وكل يدعي التوقيف فيما ذهب إليه من ذلك.
ولا يؤخذ في الدية عند مالك وجل أهل العلم إلا الإبل والدنانير والدراهم. وقد روى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه وضع الدية على الناس في أموالهم ما كانت؟ على أهل الإبل مائة بعير، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الإبل مائتي حلة، وهو قول عطاء وقتادة وروى ذلك أيضا عن عمر بن الخطاب، وبالله التوفيق.

[مسألة: الأب إذا قتل ابنه خطأ مع رجلين معه هل ترى له من الدية شيئا]
مسألة وسئل مالك عن الأب إذا قتل ابنه خطأ مع رجلين معه هل ترى له من الدية شيئا؟ وكيف إن كان الابن لم يهلك ساعة أصابوه عاش شيئا من النهار ثم هلك وقامت البينة على ذلك وترك ابنه من الورثة أمه وأختيه وعصبته إن لم يرث الأب.
قال مالك: أرى أن يحلف ورثته خمسين يمينا لمات من ذلك ثم تكون الدية عليهم على عاقلة الأب الثلث وعلى عاقلتي الرجلين

(15/438)


ثلثا الثلث على عاقلة كل واحد منهما ثلث الدية، وأرى للأم السدس من الدية كلها وأرى للعصبة والأختين ما على عاقلة الأب بعد سدس الأم وبعد أن يحلفوا، وأرى من الدية للأب ثلثي الدية التي وقعت على عاقلتي الرجلين اللذين شركاه في القتل بعد سدس الأم، وبعد أن يحلف الأب لمات من ذلك، فإن الله تعالى يقول: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فأبوه من أهله، وأرى إذا لم يأت أهل الميراث جملة أهل الثلث وأهل الثلثين يحلف أهل الثلث الأختان والعصبة خمسين يمينا وأخذوا، ثم جاء الأب بعد ذلك فأرى أيضا أن يحلف خمسين يمينا فيكون سهمان الدية ستة وثلاثون سهما، للأم من ذلك سدس الثلثين اللذين يصيران للأب وهو أربعة أسهم وسدس الثلث أيضا الذي يصير للأختين والعصبة، وهما سهمان فذلك ستة أسهم من ستة وثلاثين للأختين ثلثا الثلث وهو ثمانية وللعصبة ما بقي وهما سهمان وللأب عشرون سهما وهو ما بقي من الثلثين بعد سدس الأم.
ورأيت أن لا يجمع على الأب أمران: مصيبة ابنه، وحرمان عقل ابنه يكون على عاقلة قومه يخرجونها إلى أهله قال الله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فأبوه وورثته من أهله، ولأن ذلك من الخطأ الذي لا شك فيه.
ولو ولي الأب قتله وحده لم يكن له من ديته شيء، قال ولو أنهم قتلوه عمدا قتلتهم به بثلاثتهم الأب والرجلين إذا عمد الأب للقتل متعمدا لذلك قتل به، وأما إذا كان من الضرب والرمية وأشباه

(15/439)


ذلك فإنه لا يقاد منه، وإذا كان مثل ذلك من الناس يرمي الرجلُ الرجل بحجر أو بعصا أو يضربه بذلك فيموت من ذلك فعليه القود ليس حال الأب في هذا كحال غيره.
وتكون الأيمان عليهم على قدر مواريثهم، فمن كان عليه كسر جبرها، قال مالك: وإن علم أنه هلك منه حين وقعت عليه الخشبة لم يتكلم في غمرته حتى هلك لم يكن في ذلك قسامة، قال ابن القاسم: ويحلف الأب على الرجلين لمات ابنه مما صنعا به، ويحلف العصبة والأختان لمات مما فعل الأب، وتحلف الأم أنه مات من فعلهم كلهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة صحيحة جارية على الأصول إلا أن في سياقتها إشكالا يفتقر إلى بسط وبيان، وهو أن دية الخطأ موروثة عن المقتول يرثها ورثته وبستحقونها على عاقلة القاتل بقسامتهم على قدر مواريثهم مع شاهد على القتل أو شاهدين على الجرح إذا حيي بعد ذلك حياة بينة، فإن كان القاتل من الورثة لم يرث منها ولا أقسم فيها، لأن القاتل الخطأ لا ميراث له من لدية، فإذا قتل الرجل ابنه خطأ مع رجلين سواه فلا ميراث له في ثلث ديته الواجبة على عاقلته بما شاركه في قتله، وله ميراثه في ثلثي الدية الواجبة على عاقلتي الرجلين المشاركين له في قتله، فثلث الدية الواجبة على عاقلة الأب ميراث لأمه ولأخته ولعصبته، لأمه السدس، ولأخته الثلث، ولعصبته النصف بعد أن يقسموا خمسين يمينا لمات من الجرح الذي أصابه به الأب تكون على العصبة منها خمسة وعشرون يمينا لأن لهم نصف الميراث، وعلى الأم ثمانية أيمان، وعلى الأختين ستة عشر يمينا ويجبر اليمين الباقية على أكثرهم حظا منها أو من الأيمان فإن جاءت الأختان والعصبة دون الأم لم يكن لهم أن يأخذوا حظهم من الدية إلا أن يحلفوا خمسين يمينا على ما قاله في الرواية من أن الأختين والعصبة يحلفون خمسين يمينا وثلثا

(15/440)


الدية للذان على عاقلتي الرجلين ميراث لأبيه وأمه لأمه السدس ولأبيه الباقي بعد أن يقسما خمسين يمينا لمات من الجرح الذي أصابه به الرجلان، تكون على الأم منها سدس الأيمان، وعلى الأب الباقي منها، فتحلف الأم ثمانية أيمان ويحلف الأب إحدى وأربعين يمينا، وتجبر عليه اليمين الباقية من الخمسين فسواء جاؤوا مجتمعين أو متفرقين لا بد أن تحلف الأم مع الأب خمسين يمينا لمات مما أصابه به الرجلان، وتحلف الأم مع الأختين والعصبة خمسين يمينا لمات مما أصابه به الأب.
وما في ظاهر أول المسألة من التفرقة بين أن يجيء أهل الثلث وأهل الثلثين جميعا أو مفترقين يقضي عليه ما في آخر المسألة.
وقول ابن القاسم: إن الأب يحلف على خلاف ما يحلف عليه العصبة والأختان وقوله وتحلف الأم أنه مات من فعلهم كلهم معناه أنها تحلف مع العصبة والأختين سدس الخمسين يمينا كما يحلفون، وتحلف مع الأب سدس الخمسين يمينا أيضا كما يحلف، لأنها تحلف سدس الأيمان مرة واحدة أنه مات من فعلهم كلهم.
وقوله من كان عليه كسر جبرها الظاهر منه أن اليمين المنكسرة تجبر على من كان حظه منها أكثر وهو الذي في الديات من المدونة، وفي الموطأ رواية يحيى أنها تجبر على من كان عليه أكثر الأيمان، وفي رواية ابن القاسم وابن بكير مثل ما في المدونة، فإن استوى الورثة في الميراث فانكسرت عليهم يمين أو أيمان مثل أن يكونوا ثلاثين من الإخوة؛ فيجب على كل واحد منهم من الأيمان يمين وثلثا يمين، فقيل إنه يجبر اليمين المنكسرة على كل واحد منهم فيحلفون يمينين يمنين، وهو قول ابن القاسم، وقيل يحلفون يمينا يمينا ويقال لهم: لا بد من أن تأتوا بعشرين رجلا منكم يحلفون يمينا يمينًا، وهو قول أشهب

(15/441)


فإن تشاحوا على قوله فيمن يحلف منهم، فقيل: إنه يقرع بينهم وقيل: إنه يقال لهم لا تعطون شيئا إلا أن تحلفوا بقية الأيمان، وهو قول ابن كنانة، وإن كان عدد العصبة أكثر من خمسين حلفوا كلهم يمينا يمينا على مذهب ابن القاسم، وعلى مذهب أشهب يقال لهم: لا بد من أن تأتوا بخمسين منكم يحلفون يمينا يمينا فإن تشاحوا في ذلك فعلى ما تقدم من الإسهام بينهم فيمن يحلف منهم، أو من أن يقال لهم لا تعطون شيئا حتى تأتوا منكم بخمسين يحلف كل واحد منهم يمينا يمينا، ولو كان الأخوة ثلاثة لحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا على مذهب ابن القاسم، وعلى مذهب أشهب يحلف كل واحد منهم ستة عشر يمينا، ويقال لهم: لا بد من أن تأتوا برجلين منكم يحلفان يمينا يمينا، فإن كان الورثة زوجات وبنات وأخوات وما أشبه ذلك من أهل السهام فلا يختلف ابن القاسم وأشهب في قسم الأيمان بين الزوجات والبنات والأخوات على سهام الميراث، وإنما يختلفان فيما حصل على كل فريق منهن من الأيمان إذا قسمت عليهن على ما تقدم من الاختلاف في قسمة الأيمان بين الإخوة وبالله التوفيق.

[مسألة: عبيد وأحرار وقعت عليهم الدية خطأ]
مسألة وسئل مالك عن عبيد وأحرار وقعت عليهم الدية خطأ فكان ما على العبيد من ذلك الثلثين وكان على الأحرار الثلث أو أدنى كيف الأمر في ذلك؟.
فقال: يقال لأرباب العبيد افتدروا عبيدكم بما يقع عليهم من الدية في ثلاث سنين أو أسلموهم فأي ذلك شاءوا فعلوا، قال سحنون: ويكون الثلث الذي وقع على الأحرار على عواقلهم في ثلاث سنين، وإن كان الذي وقع عليهم أقل من ثلث الدية فهو على العاقلة في ثلاث سنين، قال ابن القاسم: وإذا كانوا ثلاثة أو أكثر

(15/442)


فوقع عليهم ثلاثتهم ثلث الدية فيصير على كل إنسان ثلث الثلث من الدية وهو تسع الدية، فذلك تحمله العاقلة، قال: ولم يكن الأحرار إلا واحدا فوقع عليهم أكثر من الثلث أو أقل فهو على العاقلة في ثلاث سنين، وكان على العبيد ما بقي منها، يقال لأربابهم افتدوهم بما يقع عليهم من الدية في ثلاث سنين أو أسلموهم أي ذلك شاءوا فعلوا.
ويقسم ما يقع على العبيد على عددهم ولا يكون ذلك على قيمتهم فمن شاء من أرباب العبيد أن يفدي عبده بما يقع عليه من الدية وإن كانت قيمته أكثر مما وقع عليه فذلك له، ومن شاء منهم أن يسلمه بما وقع عليه وإن كانت قيمته أقل مما يقع عليه فذلك له.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية إن ما وقع على الأحرار من ثلث الدية فأكثر يكون على عواقلهم وإن كان أقل من الثلث هو خلاف روايته عن مالك مثل رواية أشهب عنه، حكى اختلاف قوله في ذلك ابن المواز، قال إن وقع على الأحرار أقل من ثلث الدية فذلك في أموالهم، قاله مالك مرة وروى عنه أن ذلك على العاقلة في ثلاث سنين، وبه قال سحنون، قال يحيى بن عمر: والأول رواية ابن القاسم والقولة الأخيرة رواها أشهب.
ولكلا القولين وجه من النظر، فوجه القول بأن ذلك على العاقلة القياس على ما أجمعوا عليه من أن الدية إذا وجبت على جماعة من الأحرار أنها على عواقلهم، وإن كان الذي يجب على كل واحد منهم أقل من ثلثها، ووجه القول بأن ذلك في أموالهم هو أن الأصل كان أن لا يحمل أحد جناية أحد لقوله عز وجل: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .

(15/443)


وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي رمثة في ابنه: «لا تجني عليه ولا يجني عليك» فوجب أن لا يخصص من هذا العموم إلا ما خصصته السنة والإجماع، وهو الثلث من الدية فأكثر إذا وقع على الواحد من الأحرار أو الجماعة منهم لأنهم في معنى الواحد لاستوائهم فيما يجب عليهم في ذلك.
وقوله ما وقع على العبيد منها يكون أربابهم بالخيار بين أن يفتدوهم بذلك في ثلاث سنين أو يسلموهم به هو خلاف روايته عن مالك في المدونة في الحر والعبد يصطدمان فيموتان جميعا إن ثمن العبد في مال الحر، ودية الحر في رقبة العبد، فإن كان في ثمن العبد فضل عن دية الحر كان في مال الحر وإلا لم يكن لسيد العبد شيء، والذي يأتي في الحر والعبد يصطدمان على قول ابن القاسم في هذه الرواية ما قاله أصبغ في أول نوازله بعد هذا من هذا الكتاب أنه يكون في مال الحر قيمة العبد تدفع إلى سيده ثم يقال لسيد العبد افتك قيمته بدية الحر أو أَسْلِمْها، فإن أسلمها لم يكن لولاة الحر غيرها، وإن افتداها افتداها بجميع الدية، معناه في ثلاث سنين، إذ لو لم تكن مؤجلة لوجب أن يكون مقاصة بالقيمة كما قال في المدونة، والأظهر أن يكون مؤجلة على ما قاله في هذه الرواية، لأن ثمن المقتول خطأ دية مؤجلة فوجب أن لا يلزم السيد أكثر مما جنى عبده.

[: تعرض عليهم الأيمان في القسامة فينكلون ثم يطلبون بعد ويقولون نحن نحلف]
ومن كتاب القبلة وقال مالك في الذين تعرض عليهم الأيمان في القسامة فينكلون ثم يطلبون بعد ويقولون نحن نحلف.

(15/444)


قال: كل من عرضت عليه اليمين: فأباها فقد أبطل حقه بتركه اليمين إلا أن يكون له في تركها عذر بين، قال سحنون: يريد بالعذر مثل أن يزعموا أن الميت عليه دين أو يكون أوصى بوصايا.
قال محمد بن رشد: لما سئل مالك عن الذين تعرض عليهم الأيمان في القسامة فينكلون ثم يطلبون بعد ويقولون نحن نحلف أجاب عن ذلك بجواب عام في الحقوق والدماء أن كل من عرضت عليه اليمين فأباها فقد أبطل حقه بترك اليمين إلا أن يكون له في تركها عذر بين ففسر سحنون العذر الذي يكون له في الحقوق فقال: يريد بالعذر مثل أن يزعموا أن الميت عليه دين أو يكون أوصى بوصايا، وقول سحنون بين لأنه إذا أبى أن يحلف مع شاهده على حق يدعيه على الميت من أجل أنه قيل له إنه أوصى لغيره بوصايا ثم علم أنه ليس على الميت دين ولا أوصى به بوصايا فمن حقه أن يرجع إلى اليمين، لأنه يقول: إنما نكلت عنها من أجل محاصة الغرماء لي في الدين أو من أجل محاصة أصحاب الوصايا لي في الوصية، وأما العذر الذي يكون لهم في نكولهم عن القسامة فعلى غير هذا لأن الدم إذا كان خطأ فإنما يستوجب الورثة بقسامتهم الدية على العاقلة، وإن كان عمدا فإنما يستوجب الأولياء بقسامتهم الاستقادة من المقتول.
وقوله: إن لهم أن يرجعوا إلى القسامة إن كان لهم عذر يتبين به أن نكولهم عن القسامة لم يكن على وجه العفو في العمد ولا على ترك حقهم من الدية الخطأ؛ ينبغي أن يحمل على التفسير لما في كتاب الديات من المدونة.
ولابن نافع في المدنية ما ظاهره أن من نكل عن اليمين فله أن يرجع إليها ما لم يرد اليمين على المطلوب، ويلزم في القسامة مثل هذا على ظاهر قوله، ولا اختلاف إذا نكل عن اليمين مع شاهده، وردها على المطلوب أو نكل المطلوب عن اليمين إذا لم يكن للطالب شاهد فردها على الطالب أن ليس لواحد منهما أن يرجع إلى اليمين، ومثل هذا يقال في المقاسمة إنهم إذا

(15/445)


نكلوا عنها فردوا الأيمان فيها لم يكن لهم أن يرجعوا إليها باتفاق، وسيأتي في أول رسم من سماع عيسى تحصيل الاختلاف على من ترجع الأيمان في القسامة إذا ردت في العمد والخطأ، وفي أي موضع ترجع باتفاق وعلى اختلاف إن شاء الله تعالى.
ولو نكلوا في القسامة عن الأيمان فردوها على المدعى عليهم فحلفوا فوجد الطالبون بينة تشهد لهم على القتل لجرى ذلك على الاختلاف في الذي ينكل عن اليمين مع شاهده فيرد اليمين على المطلوب فيحلف ثم يجد شاهدا آخر أو شهودا على حقه، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك في أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى من كتاب الشهادات.

[مسألة: مات المحبوس في دم العمد]
مسألة قال مالك: من حبس في قتل خطأ أو عمد ثم مات قبل أن يقسم عليه إنه يبطل العمد ولا يقام عليه ولا يبطل الخطأ يقسمون ويأخذون الدية، وقد قيل لا يحبس أحد بقتل الخطأ.
قال محمد بن رشد: قوله إذا مات المحبوس في دم العمد إنه يبطل ولا يقام عليه يريد أنه لا يقام عليه حكمه من أخذ الدية من ماله بعد القسامة عليه، وأما القصاص فيستحيل أن يقام عليه بعد موته فلا معنى لقوله إنه لا يقام عليه إلا ما ذكرته، وهذا عندي على القول بأنه ليس لولي المقتول أن يأخذ الدية من القاتل شاء أو أبى، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وأما على القول بأن من حقه أن يأخذ الدية منه شاء أو أبى وهو قول أشهب وأحد قولي مالك على ما ثبت من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودي، وإما أن يقاد» فلا يبطل الدم بموته قبل القسامة ويكون من حق الأولياء أن يقسموا بعد موته فيستحقون الدية في ماله.
وأما الدم الخطأ فلا إشكال ولا اختلاف في أنه لا يبطل بموت القاتل

(15/446)


قبل القسامة عليه، إذ الحق في ذلك إنما هو على عاقلته، وهو كرجل منهم فيما يلزمهم فيؤخذ من ماله بعد موته ما يلزمه من ذلك.
وأما قوله: "وقد قيل إنه لا يحبس أحد في قتل الخطأ" فليس ذلك باختلاف من القول، ومعناه أنه لا يحبس فيه إذا كان مشهور العين فلم يحتج إلى الشهادة على عينه، وأما إذا لم يكن مشهور العين فإنه يحبس حتى يشهد على عينه قال ذلك سحنون، وقوله صحيح ولا يبريه من الحبس هاهنا إلا حميل بوجهه ملي بالدية إن لم يحضره وبالله التوفيق.

[: غر الرجل الهابط في البئر بإمساكه أحد الحبلين اللذين تأمر بهما في البئر]
ومن كتاب أوله باع سلعة سماها وسئل عن رجل ربط رجلا بحبل ودلاه في بئر وربط حبلا آخر في خشبة فتدلى الرجل في البئر لموضع حمام يطلبه فانقطع الحبل الذي في الخشبة فخر هابطا فخشي الرجل أن يذهب به معه في البئر فخلى سبيل الحبل أترى عليه الدية؟
قال: نعم ولا أراه يشبه السفينة وسئل عن ثلاثة مراكب أصابتهم الريح فأتى أحدهم فربط مركبه بصخرة ثم أتى الآخر فربط بتلك الصخر، ثم أتى الآخر بعده فوضع قلعة قبل أن يبلغهما ثم نزل رجلان منهما بحبلين إلى المركبين فسأل أحدهما أن يربط له مركبه بحبله وأبى وقالوا: إنا نخاف الغرق، ثم سأل الآخر فأبى، ثم كلموهم، فقال صاحب المركب: اللهم إني إنما أربطه لك فجره المركب الذي كان في الغرق حتى كادوا أن يغرقوا فلما رأوا ذلك سرحوا المركب فذهب وغرق كل من كان فيه، أترى على الذين سرحوه شيئا.

(15/447)


قال: ما أرى ذلك، قد أرادوا خيرا حتى خافوا الهلاك فلا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي ربط الرجل في حبل ودلاه في بئر فلما انقطع الحبل الآخر الذي ربطه في الخشبة فخشي أن يذهب معه فخلى سبيل الحبل فمات؛ إن عليه الدية ولا يشبه السفينة يريد بالسفينة المسألة التي ذكر بعدها، والفرق بينهما بين لأن هذا غر الرجل الهابط في البئر بإمساكه أحد الحبلين اللذين تأمر بهما في البئر، فوجب عليه الضمان بتسريحه الحبل بما زعم من أنه خافه على نفسه والدية في هذا عليه في ماله ليس على العاقلة، لأن فيه شبهة من العمد، وأما صاحب المركب الذي ربط بمركبه المركب الذي كان في الغرق فلم يغره بما فعل، وإنما فعل ما فعل لله تعالى رجاء أن ينجيه من الغرق فلما خشي أن يذهب مركبه سرحه فلم يكن عليه شيء إذ لو لم يربطه بمركبه ابتداء لغرق كما غرق، فلم يضره ربطه بمركبه وبالله التوفيق.

[مسألة: يحمل ابنه في المركب ولم يستأذن أمه فيه فغرق]
مسألة وسئل عن عبد تزوج حرة فولدت غلاما وكبر حتى بلغ نحوا من عشر سنين أو قريبا منها وكان يسكن القلزم فركب البحر يريد الحجاز، فيحمل ابنه في المركب ولم يستأذن أمه فيه فغرق المركب فغرق الغلام ونجا أبوه فقامت أمه وأولياء أمه يتكلمون في ذلك ويريدون أخذ العبد فيما حمل ابنه في المركب.
فقال مالك: لا أرى عليه في ذلك شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إذ لم يمت في البحر بجناية من أبيه عليه في ذلك، لأن الله تعالى قد أباح ركوبه بدليل قوله:

(15/448)


{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] . لأنه يبعد أن لعدد الله من نعمه على عباده ما حظره عليهم، فإنما فعل أبوه ما يجوز له، فوجب أن لا يكون بذلك جانيا عليه، وبالله التوفيق.

[: صالح في دم على أن يعطي في كل سنة كذا وكذا وكان شرطه أن يعطاها جملة]
ومن كتاب شك في طوافه وسئل مالك عن رجل صالح في دم على أن يعطي في كل سنة كذا وكذا وكان شرطه أن يعطاها جملة، قال الذي عليه الإبل: آتيك بها رسلا رسلا يتبع بعضها بعضا، قال الآخر الذي له الإبل: أنا على شرطي أن لا آخذها إلا جملة واحدة.
قال مالك: ما أرى بأسا يأخذها كما قال رسلا رسلا، فرد عليه فرأى أن يعمل به، قيل له إنما شرط عليه في سنة ولم يسمها في شهر منها، قال: أرى أن يعطيه في وسطها يعني السنة.
قال محمد بن رشد: إنما وقع في الذي صالح في الدم على أن يعطى كذا وكذا من الإبل في كل سنة جملة فأراد الذي عليه الابل أن يأتي بها رسلا رسلا يتبع بعضها بعضا إن ذلك له لقول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] فرأى أن من الاتباع بالمعروف والأداء بإحسان الذي أمر الله تعالى به ما دعا إليه الذي عليه الإبل أن يأتي بها رسلا رسلا، وإذا كان من حق الذي عليه الحق إذا حل عليه الحق وأعسر به يؤجل فيه بالاجتهاد على ما مضى في أول سماع ابن القاسم من

(15/449)


كتاب المكاتب كان أحرى أن يكون الذي عليه الإبل في هذه المسألة ما دعا إليه من أن يأتي بالإبل رسلا رسلا.
وقوله ما أرى بأسا أن يأخذها كما قال رسلا رسلا معناه لا أرى بأسا بالقضاء بذلك إذ لا إشكال في أنه لا بأس أن يأخذها رسلا رسلا، ولو كان من حقه أن يأخذها جملة واحدة.
وأما قوله: "إنه يعطيه إياها في وسط السنة" إذ لم يسم أولها ولا أخرها ففيه دليل على أن من باع من رجل بيعا على أن يقضيه الثمن في شهر كذا أو في سنة كذا أنه بيع جائز ويحل عليه الثمن في وسط الشهر أو في وسط السنة خلاف ما يروى عن ابن لبابة من أنه قال: البيع على هذا فاسد لأنه أجل مجهول، وقد أجاز في المدونة وغيرها البيع إلى الحصاد والجداد وجعله أجلا معلوما يحل على المشتري في عظم الحصاد والجداد، وكذلك لو باعه على أن يحل عليه الثمن في الحصاد والجداد، فسواء باعه على أن يؤدي إليه في الحصاد والجداد في عظمى الحصاد والجداد إذ ليس لأول الحصاد والجداد من آخره حد معلوم محصور فيحمل في الوجهين جميعا على عظمه، بخلاف الشهر إذا باعه على أن يعطيه الثمن في شهر كذا جاز البيع وحل عليه الثمن في وسطه بدليل هذه الرواية من جهة المعنى أن الشهر لما كان أوله من آخره معلوما كان وسطه معروفا يقضى بحلول الثمن عنده، وإذا باعه إلى شهر كذا وكذا حل عليه الثمن بحلوله لأن إلى غاية وهذا بين والحمد لله.

[مسألة: المباشر للقتل خطأ لا يكون الدية عليه]
مسألة وسئل عن الرجل يحمل الغلام على دابته ابن اثنتي عشرة سنة إلى الماء يسقيها أو حيازة يخرج إليها وما أشبه ذلك فيصاب.
قال: أرى إن اتبع كان ذلك عليه، قلت له: فالرجل يأمر يتيما عنده أو ابن أخيه يركب دابته؟ قال: أراه مثله إن اتبع كان

(15/450)


ضامنا له، قلت: أتراه على العاقلة؟ قال: نعم، قال مالك: وعندنا قوم يأمرون الغلمان أن يرقوا النخل فيصاب أحدهم فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء أنه خطأ والدية فيه على العاقلة، وهو كما قال، لأنه إذا كان المباشر للقتل خطأ لا يكون الدية عليه وتكون على العاقلة كان هذا أحرى أن تكون الدية فيه على العاقلة، وذلك عندي بخلاف الذي دلى الرجل في البئر بالحبل ثم أرسله لما خشي على نفسه على ما تقدم في الرسم الذي قبل هذا ولو وطئ الصبي بالدابة على رجل لكانت ديته على عاقلة الصبي قال في المدونة: ولا ترجع عاقلة الصبي على عاقلة الرجل، وقال أشهب إنها ترجع عليه وبالله التوفيق.

[: الأم أحق بالقيام بالدم من العصبة]
ومن كتاب الشجرة وسئل مالك عن رجل ضربه رجلان فادعى الرجل، وذكر أن فلانا وفلانا ضرباه، وأن أحدهما لم يجرحه والآخر هو الذي جرحه وقتله، فحبسا فصالح أولياء الضارب الذي ادعى عليه بالقتل أولياء المقتول على ثلثي الدية، وكانت له أم فقال أولياء القاتل كيف أصالحكم وتم أمه؟ فقال أولياء المقتول صالحونا ونحن نبريكم من أمه، ففعلوا فأتوا الأم فأبت أن تصالح أو تعفو إلا أن يتموا الدية أو يقوم بالدم.
قال: ذلك لها، قيل له: فلا ينفع صلح الأولياء؟ قال: لا، قيل له: فإن الأم قد ماتت؟ قال: فورثتها يقومون بالذي كان لها من ذلك، إن شاءوا صالحوا وإن شاءوا قاموا بالدم ولا ينفع ما صالح عليه الأولياء.

(15/451)


قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن صلح الأولياء بما صالحوا عليه به من ثلثي الدية إنما كان بعد أن أقسموا واستحقوا الدم بقسامتهم، ولو كان صلحهم قبل أن يقسموا لم يكن للأم في ذلك كلام بوجه، إذ لا سبيل إلى قتل دون قسامة.
وقوله: "إن الأم أحق بالقيام بالدم من العصبة وإن كان الدم" إنما ثبت بقسامتهم هو مذهبه في المدونة أن الدم سواء ثبت ببينة أو بقسامة إذا كان الأولياء بنات وإخوة وأخوات وعصبة أو أما وعصبة فمن قام بالدم من البنات والإخوة أو الأخوات والعصبة أو الأم والعصبة فهو أحق فمن عفا ولا عفو إلا بالاجتماع منهم على العفو.
وفي المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها - هذا وهو مذهبه في المدونة.
والثاني - أن هذا إنما يكون إذا ثبت الدم ببينة، وأما إذا ثبت بقسامة العصبة فلا حق للنساء معهم في عفو ولا قيام لأنهم هم الذين استحقوا الدم بقسامتهم، وهو قول ابن القاسم ومذهبه في رسم الجواب من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب.
والثالث - أنه إن ثبت الدم ببينة فالنساء أحق بالعفو والقود من العصبة لأنهن أقرب منهم، فلا حق للعصبة معهن إذا لم يثبت الدم بقسامتهم، ولو ثبت بقسامتهم فمن قام بالدم كان أحق به ولا عفو إلا باجتماعهم والله الموفق.

[مسألة: القسامة لا تكون فيمن قتل بين الصفين]
مسألة وسئل عن رجل كان بينه وبين رجلين قتال فأتي وبه أثر ضرب وجراح فزعم أن فلانا وفلان قتلاه، وأنه قد أثر فيهما في مواضع سماها، وأنهما اللذان عملا به هذا، فأقام نحوا من يومين حيا ثم مات.
قال مالك: أرى أن يسجنا حتى يكشف أمرهما وإنه ليستحب

(15/452)


في مثل هذا أن يصطلحوا فأما القصاص في مثل هذا فلا أعلمه.
قال محمد بن رشد: إنما استحب في هذا الصلح بعد الكشف فيه والبحث ولم ير القصاص فيه بالقسامة وإن كان مذهبه أن قول المقتول دمي عند فلان لوث يوجب القسامة والقود من أجل ما ذكره من أنه قاتلهما فأثر فيهما فدل ذلك على أنه أراد قتلهما كما أرادا قتله فاتهمه - في تدميته عليهما من أجل ذلك، وقد روي عنه أنه لا قسامة فيمن قتل بين الصفين، فقيل معنى ذلك بالتدمية من أجل أنهم تقاتلوا على زحل وعداوة، فلم يقبل تدمية من دمى من أحد الطائفتين على أحد من الطائفة الأخرى من أجل ما بينهم من الزحل والعداوة، وهذا أحرى لظهور العداوة بين المدمي والمدمى عليهما بأعيانهما، وقيل معنى قوله إنه لا قسامة فيمن قتل بين الصفين بحال إلا بقول المقتول ولا بشاهد على القتل، وهو قول ابن القاسم من رواية سحنون عنه في رسم الجواب من سماع عيسى من هذا الكتاب، وقيل معنى قوله: إنه لا قسامة بينهم بدعوى أولياء المقتول على الطائفة التي نازعت طائفته، وأما إذا دمى المقتول على واحد منهم أو شهد عليه بالقتل شاهد واحد فالقسامة في ذلك واجبة، وهو قول ابن القاسم أيضا من رواية عيسى عنه في رسم الجواب المذكور، وقول مطرف وابن الماجشون وأصبغ في الواضحة وقول أشهب في المجموعة، قال: لأن كونه بين الصفين لم يزد دعواه إلا قوة، قال ابن المواز: وإلى هذا رجع ابن القاسم بعد أن كان يقول لا قسامة فيمن قتل بين الصفين بدعوى المقتول ولا بشاهد، ويحتمل أن يريد بقوله ولا بشاهد إذا كان الشاهد من طائفة المدمي؛ لأنه لا تجوز شهادة أحد من إحدى الطائفتين على أحد من الطائفة الأخرى، وإذا كان من إحدى الطائفتين على ما حكى ابن حبيب في الواضحة من أنه إذا جرح أحد منهم فعقل جرحه على الطائفة التي نازعته، وليس له أن يقتص من أحد بقوله إلا أن يكون له شاهد على ذلك من غير الطائفتين، فيحلف مع شاهده من غير الطائفتين، وأما مع شاهد من طائفة القاتل فيجري ذلك على الاختلاف في القسامة مع الشاهد الذي ليس بعدل، وأما مع شاهد من طائفة المقتول فلا

(15/453)


إشكال في أن القسامة لا تكون معه، وقد قال ابن المواز في قول ابن القاسم إنه لا قسامة فيمن قتل بين الصفين بقول المقتول ولا بشاهد على القتل أنه خطأ؛ لأنه حمل قوله على ظاهره من أن القسامة لا تكون فيمن قتل بين الصفين بحال وإن كان الشاهد الذي شهد على القتل من غير الطائفتين، وتأويل قوله أولى من تخطئته وبالله التوفيق.

[: الدية على العاقلة]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا وسئل مالك عن صبيين رمى أحدهما صاحبه بحجر؛ فنزي في رميته، فمات، فضمن عمه الدية عنه، ثم رفع ذلك إلى السلطان فقال له السلطان: ليس ذلك عليك، وإنما ذلك على العاقلة وإن عمد الصبي خطأ فضمن ذلك العاقلة وكتب بذلك كتابا إلى السلطان الذي في ناحيتهم فضمنهم ذلك وأخذ منهم أول نجم والثاني، ثم إن عاقلة صاحب الغلام لقوا الرجل الذي كان ضمن لهم عم الغلام بعد أخذهم نحوا من ثلثي العقل.
قال مالك: ليس ذلك لهم إذا كانوا قد رضوا واقتضوا فلا أرى شيئا يلزمك وليس عليك شيء.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة ثم إن عاقلة صاحب الغلام لقوا الرجل الذي كان ضمن لهم عم الغلام كلام فيه التباس؛ لأنه عبر عن الورثة بالعاقلة تجاوزا أو أضمر وقدم وأخر، ووجه الكلام أن يقول ثم إن ورثة الغلام المقتول صاحب الغلام القاتل لقوا الرجل عم الغلام القاتل الذي كان ضمن لهم، والمسألة فيها نظر؛ لأن الأمر إذا رفع إلى السلطان فحكم بإسقاط الضمان عن العم وألزم العاقلة الدية وكتب بذلك كتابا إلى السلطان الذي في ناحيتهم فقد لزم الورثة اتباع العاقلة؛ وسقط طلبهم عن العم، لأن الحكم قد

(15/454)


فسخ الضمان عنه وإن لم يرضوا ولا قبضوا لأنه حكم يلزمهم فالمعنى إنما هو أن العم هو الذي رفع الأمر إلى السلطان، وقال له: إني ضمنت الدية عن ابن أخي وأنا أظن أنها لازمة له، فقال له: ليس ذلك عليك لأنها إنما تجب على العاقلة، فضمن العاقلة إياها وكتب بذلك كتابا إلى السلطان الذي من ناحيتهم دون أن يحضر ورثة المقتول وتسمع حجتهم، فإن لم يقروا له بما ادعا من أنه ظن أنها كانت لازمة لابن أخيه استحلفه على ذلك، ونفذ حكمه بإسقاط الطلب عنه وتضمين العاقلة للدية، فلما قصر في ذلك بقي الورثة على حجتهم، وكان لهم اتباع العم بما ضمن لهم إلا أن يبين رضاهم باتباع العاقلة وإسقاط طلبهم للعم بقبض بعض النجوم من العاقلة كما قال في الرواية، ولو لم يرضوا ولا قبضوا من النجوم ما يتبين به رضاهم لكان من حقهم أخذ العم بما ضمن لهم.
إلا أن يقول لم أعلم أن الدية على العاقلة وظننت أنها على ابن أخي فيكون القول قوله في ذلك مع يمينه إذا كان يشبه أن يجهل ذلك، لأنه محمول على غير العلم حتى يثبت عليه العلم، أو يكون ممن لا يجهل مثل هذا على ظاهر الرواية وما في كتاب الصلح من المدونة، وقد قال ابن المواز: يلزمه ما ضمن حتى يعرف أنه جهل وظن أن الدية على ابن أخيه، قال ابن المواز: وأما إذا رد ذلك على العاقلة فقد لزمهم، والذي قاله ابن المواز صحيح إذا ردت الدية على العاقلة بحكم تام صحيح، وأما إذا لم يتم الحكم على وجهه فما قاله في الرواية من أن الورثة لا يلزمهم اتباع العاقلة إلا أن يرضوا بين على ما بيناه وكذلك لو حملت العاقلة شيئا ظنت أنه يلزمها ثم رجعوا فلهم الرجوع ما لم يطل الأمر بعد الدفع السنين الكثيرة التي يرى فيها أن قد علموا ذلك، قاله في كتاب ابن المواز والله الموفق.

(15/455)


[: الحدود التي تدرأ بالشبهات لا يسجن المدعي عليه فيها لمجرد الدعوى]
ومن كتاب تأخير صلاة العشاء وسئل مالك عن امرأة نزل بها رجل، فمات، فجاءت، فاتهمت به فجاء وليه يسأل مالكا عن ذلك ويتهمها ويقول إني اتهمتها بوجه لا أستطيع بته.
قال مالك: أرى أن يكشف أمرها فإن كانت غير متهمة لم أر أن تحبس يوما واحدا ويخلى سبيلها، فقيل له أتهدد؟ فقال: لا أرى ذلك إذا كانت غير متهمة، قال ابن القاسم: فإن كانت متهمة حبست ولم يعجل تسريحها لعلها لا يعثر عليها بشيء، فإن لم يوجد شيء وطال حبسها استحلفت خمسين يمينا وخلي سبيلها.
قال محمد بن رشد: ذهب بعض أهل النظر إلى أن رواية ابن القاسم عن مالك في هذه الرواية فإن كانت غير متهمة لم أر أن تحبس يوما واحدا مثل قوله في المدونة في الذي يدعي قبل الرجل حدا من الحدود فيقدمه إلى القاضي، ويقول بينتي حاضرة أجيك بها غدا أو العشية إن ذلك إن كان قرينا أوفقه ولم يحبسه إن رأى لذلك وجها وكان أمرا قريبا خلاف قوله في سماع عبد الملك بن الحسن بعد هذا من هذا الكتاب: إن غير المتهم لا يحبس في الدم إلا الأمر القريب اليوم واليومين والثلاثة، والذي أقول به أن ذلك ليس باختلاف من القول، والفرق بين هذه المسألة وبين مسألة سماع عبد الملك أن الطالب في مسألة عبد الملك ذكر أن له بينة على ما ادعاه عليه من القتل وسأل أن يحبس حتى يأتي ببينة، ولم يسأل ذلك الطالب في هذه المسألة، ولو سأل ذلك لكان من حقه أن يحبس اليوم واليومين والثلاثة كما قال ابن القاسم في سماع عبد الملك، لأن الدم شديد يلزم فيه من الشدة والأخذ بالشبهة ما لا يلزم في غيره، وإنما لم ير في مسألة المدونة على المدعي عليه السجن بمجرد الدعوى، وإن قال الطالب: إن له بينة على دعواه لأنه إنما سأله على

(15/456)


الحدود لا على القتل، والحدود بخلاف القتل؛ لأنها تدرأ بالشبهات فالحدود التي تدرأ بالشبهات لا يسجن المدعي عليه فيها لمجرد الدعوى على ما قاله في المدونة، والقتل بخلاف ذلك إذا قال المدعي: إن له بينة على دعواه حبس بمجرد الدعوى اليوم واليومين والثلاثة إن لم يتهم، وإن كان من أهل التهم حبس الشهر ونحوه، وإن قويت عليه التهمة بما أشبه به عليه معالم يتحقق تحققا يوجب القسامة حبس الحبس الطويل، قال ابن حبيب في الواضحة: حتى يتبين براءته أو يأتي عليه السنون الكثيرة، قال مالك: ولقد كان الرجل يحبس في الدم باللطخ والشبهة حتى إن أهله ليتمنون له الموت من طول حبسه، ويحتمل أن يقول: إنه إن كان المدعي عليه القتل ممن لا تقع عليه التهمة للمعرفة بحاله لم يسجن بمجرد الدعوى، وإن ادعى الطالب أن له بينة على ما ادعاه على ما قاله مالك في هذه الرواية، وإن كان المدعي عليه القتل ممن لا تقع عليه التهمة للجهل بحاله سجن بمجرد الدعوى اليوم واليومين والثلاثة إذا ادعى الطالب أن له بينة على دعواه على ما قاله في سماع عبد الملك، فهذا وجه يمكن أن يفرق به بين المسألتين ولا يجعل ذلك اختلافا من القول، ويحتمل أن يفرق بين هذه الرواية وبين ما في سماع عبد الملك أنه لم يحقق الدعوى في هذه الرواية وحققه في سماع عبد الملك.
وفي قوله في الرواية إنها لا تهدد إذا كانت غير متهمة دليل على أنها تهدد إذا كانت متهمة، والوجه في ذلك أنها قد تقر إذا هددت فتتمادى على الإقرار بعد ذلك وهي آمنة فتؤخذ به ما لم ترجع عنه، إذ لا يلزمها الإقرار بالتهديد.
وقوله في المتهمة: إنها تستحلف خمسين يمينا ويخلى سبيلها إذا طال حبسها. مثله في سماع أبي زيد وهو مبين لما سكت عنه من ذلك في سماع عبد الملك وبالله التوفيق.

(15/457)


[: الكفارة على الأم التي سقت ابنها الدواء فشرق به فمات]
ومن كتاب البز وسئل مالك عن امرأة يكون لها الصبي فتصيبه القروح في حلقه فتسقيه أمه الدواء فيشرق به فيموت أترى عليها كفارة؟
فقال: لا، ثم قال أما أن أراه واجبا عليها أو قضاء عليها فلا، وكذلك الطبيب مثلها يسقي الدواء الرجل فيموت، فلا أرى عليه شيئا، وإن كانا موسرين، فإذا أرادا أن يفعلا ذلك من غير أن رآه عليهما واجبا فهو حسن.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير الكفارة واجبة على الأم التي سقت ابنها الدواء فشرق به فمات؛ لأنها فعلت ما يجوز لها من سقيها إياه الدواء فلا فرق بين أن يشرق به فيموت أو بالطعام الذي تطعمه إياه أو بالماء تسقيه إياه.
ولو أخطأت عليه فسقته دواء لا يوافقه فمات منه لوجبت عليها الكفارة، وكذلك الطبيب إذا أخطأ على المريض فسقاه ما لا يوافق مرضه فمات لكانت عليه الكفارة، بخلاف إذا سقاه ما يوافق مرضه فمات، لأنه إذا سقاه ما يوافق مرضه فمات لم يخط كما لم تخط المرأة على ولدها في سقيها إياه الدواء الذي شرق به فمات.
والدية تابعة للكفارة تجب على العاقلة في المكان الذي تجب فيه الكفارة وتسقط في المكان الذي تسقط فيه الكفارة، وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفيا في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وتأتي المسألة أيضا في رسم المجالس من سماع أصبغ من هذا الكتاب وبالله التوفيق.

(15/458)


[: الحمل الذي يسقط على الجارية]
ومن كتاب باع غلاما وسئل مالك عن الحمل الذي يسقط على الجارية، قال: أراه ضامنا على الجمال إذا كان حرا فعليه، وإن كان مملوكا كان ذلك في رقبته إلا أن يفديه سيده بقيمتها.
قال محمد بن رشد: يريد مسألة المدونة في الجمال الذي حمل على بعير عدلين فسار بهما وسقط الزقاق فانقطع الحبل فسقط أحد العدلين على جارية فقتلها والحمل لغيره ولكنه أجير حمال.
قال مالك: أراه ضامنا ولا شيء على صاحب البعير فبين هاهنا وجه الضمان الذي أجمله في المدونة، فقال: إن كان حرا فعليه، يريد إن كان الجمال حرا فعليه قيمة الجارية وإن كان مملوكا كان ذلك في رقبته، وذلك بين على ما قاله؛ لأن الجناية على العبد والأمة تستوي فيما يلزم من ضمانها العمد والخطأ، ولو كانت الجارية حرة لكانت الدية في ذلك على عاقلة الجمال إن كان حرا وفي رقبته إن كان عبدا يفديه سيده بها أو يسلمه، وقد مضى في آخر الرسم الأول ذكر الاختلاف هل يفديه بالدية حالة أو مؤجلة فلا معنى لإعادته.

[: السن إذا أصيبت فاصفرت]
ومن كتاب سن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ابن القاسم في السن إذا أصيبت فاصفرت فإنها تعقل بقدر شينها وليس فيها العقل كاملا حتى تسود، وكذلك إذا تغيرت فليس فيها العقل حتى تسود.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم يبين مذهبه في

(15/459)


المدونة، إذ لم يعط في المدونة عن هذا جوابا بينا، ورد الأمر فيه إلى النكر فقال: ما سمعنا من مالك إلا إذا اسودت فقد تم عقلها فلا أدري ما الخضرة أو الحمرة أو الصفرة إن كان ذلك مثل السواد؟ فقد تم عقلها وإلا فعلى حساب ما نقص. وقال أصبغ مثل قول ابن القاسم في هذه الرواية ليس ذلك مثل السواد إنما فيه حكومة باجتهاد الإمام إلا أن له في اخضرارها أكثر مما ناله في احمرارها، وله في احمرارها أكثر مما له في اصفرارها وبالله التوفيق.

[: مات تحت الضرب أو بقي بعد الضرب مغمورا لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم]
ومن كتاب اغتسل من غير نية وسئل عن الرجل يضرب الرجل الرأس فيمكث مغمورا لا يفيق وقد شهد على ضربه ثم يموت، فقال إذا غمر فكان للموت ثم مات فلا قسامة فيه، وليست القسامة إلا فيمن أفاق أو طعم أو فتح عينه وتكلم وما أشبه ذلك.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة، أنه إذا مات تحت الضرب أو بقي بعد الضرب مغمورا لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم ولم يفق حتى مات، فهذا الذي لا قسامة فيه، وأما من أكل وشرب وعاش ثم مات بعد ذلك ففيه القسامة؛ لأنه لا يؤمن من أن يكون إنما مات من أمر عرض له مرض أو غير ذلك، وهذا ما لم ينفذ له مقتل وأما إذا نفد له مقتل بما أصيب به فلا قسامة فيه، وإن عاش بعد ذلك وتكلم وشرب وأكل كما أن البهيمة إذا أصاب السبع لها مقتلا فلا تذكى ولا تؤكل باتفاق، وإن كانت الحياة فيها بينة، وإنما اختلف إذا لم يصب لها مقتل إلا أنها قد بلغت من ذلك إلى حد يعلم أنها لا تعيش منه، وقد مضى بيان ذلك والقول فيه وفي المقاتل ما هي مستوفى في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الضحايا وبالله التوفيق لا شريك له.

(15/460)


[: الرجل يقتل الرجل بالعصا]
ومن سماع أشهب وابن نافع عن مالك
قال وسئل مالك عن الرجل يقتل الرجل بالعصا فيمكن منه ولي المقتول أيقتله بالعصا أو بالسيف؟
قال ذلك له، إن شاء قتله بالسيف وإن شاء قتله بالعصا، وقد سمعت ذلك أنه يقتل بالعصا، قيل له: أفله أن يقتله بالعصا؟ قال: نعم إذا ضربه ضربة واحدة يجهز عليه فيها لا يكون شيئا مختلفا يقطع عليه الضرب ولا يجهز عليه، فأما إذا كان هكذا يضرب ضربات فلا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة أنه يقتل بمثل ما قتل من عصا أو حجر أو خنق أو تغريق في نهر أو بسم وكذلك النار على قياس قوله في السم خلاف قول أصبغ إنه لا يقاد بالسم ولا بالنار، وسيأتي بيان هذا في سماع عبد الملك، وقال فيها: إنه إن كان ضربه عصوين فضرب القاتل عصوين فلم يمت إنه يضرب بالعصا يريد مع أن يقصد بكل ضربة منها الإجهاز عليه كما قال في هذه الرواية فبعض ذلك يفسر بعضا لا اختلاف في شيء من ذلك، والحجة لمالك فيما ذهب إليه من أن القاتل يقتل بمثل القتلة التي قتل بها اتباع ظاهر قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] لأن القصاص إنما أخذ من قص الأثر وهو اتباعه، فكان المعنى أن يتبع الجارح والقاتل فيفعل به ما فعل بالمجروح والمقتول، وقد جاء في السنة بيان ذلك وهو ما روى قتادة عن أنس «أن يهوديا رض رأس صبي بين حجرين فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرض رأسه بين حجرين» وهو ما روى هشام بن زيد

(15/461)


عن أنس بن مالك قال: «عدا يهودي في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ورض رأسها فأتى بها أهلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي في آخر زمن وقد أصمتت فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قتلك أفلان؟ لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها أن لا، قيل لرجل آخر غير الذي قتلها فأشارت برأسها أن لا، فقال لفلان لقاتلها فأشارت أن نعم، فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض رأسه بين حجرين» وما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لا قود إلا بالسيف» لم يأخذ به مالك إما لأنه لم يبلغه، وإما لأنه لم يصح عنده، فاتبع ظاهر قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] مع ما روي من قضاء من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليهودي الذي أمر برض رأسه قصاصا مثل ما فعل بالجارية.
وما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «أحسن الناس قتلة أهل الإيمان» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية شداد بن أوس: «إن الله تعالى كتب الإحسان في كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحدد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» لا حجة فيه على مالك؛ لأن المعنى فيه عنده إنما هو فيمن وجب عليه قتل في غير قصاص، وما احتج المخالف من أهل العراق على مالك في هذه المسألة من قوله: أرأيت لو نكح

(15/462)


رجل رجلا فقتله بذلك الجب للوالي أن يفعل بالفاعل ما فعل؟ هو من الاحتجاج المرغوب عنه الذي لا يصدق مثله عمن هو من أهل التحصيل لقوله.
وأما قوله: " أرأيت لو رمى إنسان رجلا بسهم فقتله أكان ينصب ثم يرمى حتى يقتل؟ وقد «نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أن يتخذ شيء فيه الروح غرضا» ونهى عن المجثتة وهي الشاة ترمى بالنبل حتى تقتل، فلا يلزم مالكا لأنه يقول بذلك، وإنما يقول إنه يجهز عليه بمثل القتلة التي قتل دون أن يقصد إلى تعذيبه فلو رمى رجل رجلا بسهم فقتله لكان الواجب في ذلك على مذهب مالك أن يقتل طعنا بمثل السهم الذي رماه به فقتله لا أن ينصب غرضا للسهام، وقد روى عن سحنون أنه قال إذا كان العصا والحجر يجهز قتل بمثله، وإذا كان غير مجهز لم يقتل به وقتل بالسيف، وكان القتل مما يأتي عليه لأن الحجر إذا لم يكن مجهزا فإنما هو عذاب، أرأيت لو أن رجلا رماه رجل بحجر فقتله برمية واحدة أكنت توقفه فيرمى رمية واحدة؟ فإن لم يمت رجم أبدا بالحجارة حتى يموت، لا يكون هذا ولا يقتل به، ولكن إذا كان الحجر مجهزا قتل به وإلا لم يقتل به، وقتل بالسيف، وكذلك العصا وجميع هذا الأصل فاحمله هكذا، وإنما يقتل على مذهب مالك بمثل القتلة التي قتل بها من حجر أو عصا أو غيره من ثبت عليه القتل بذلك، وأما من قتل بقسامة فلا يقتل إلا بالسيف وبالله التوفيق.

[مسألة: اللوث من الشهادة في القسامة أهو الشاهد الواحد العدل]
مسألة قال: وسئل عن اللوث من الشهادة في القسامة أهو الشاهد الواحد العدل؟ فقال: لا والله ما هو باللوث، فقيل له: أهو الشاهد إذا لم يكن عدلا؟ فقال: هاه أرجو ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله في الشاهد العدل لا والله ما هو باللوث

(15/463)


معناه ما هو باللوث الذي لا تكون القسامة بما دونه، إذ لا اختلاف في أنه لوث تجب القسامة به والقود في مذهب مالك وجميع أصحابه.
وإنما اختلف فيما دونه، فرأى في هذه الرواية الشاهد الذي ليس بعدل لوثا يوجب القسامة، وقد حقق القول بذلك بعد هذا في هذا الرسم، ومعنى ذلك في الشاهد المجهول الحال الذي لا يتوسم فيه جرحة ولا عدالة إذ من أهل العلم من يحمل الشاهد على العدالة حتى تعلم جرحته، وأما الشاهد المعروف بالجرحة أو الذي يتوهم فيه الجرحة فلا يكون على مذهبه في هذه الرواية لوثا، بدليل قوله بعد هذا في العبد إنه لا يكون لوثا يريد وإن كان عدلا، وكذلك الصبي على هذه الرواية لا يكون لوثا، وأما المرأة فقال فيها بعد هذا إنها لوث، وقد روى مطرف عن مالك في الواضحة أن اللوث اللطخ البين مثل اللفيف من النساء والسواد والصبيان قال مطرف: وقد قتل بذلك عندنا بالمدينة، قال مالك: ومثل الرجلين والنفر يشهدون على ذلك وهم غير عدول، قال مالك: والشاهد العدل على اللوث وأحقه، وليست رواية مطرف هذه بخلاف لرواية أشهب، وقد روى ابن وهب عن مالك أن اللوث الشهادة غير القاطعة من شهادة النساء أو شبهها، قال ومثل أن يرى المتهم بحذاء المقتول وقربه وإن لم يكونوا رأوه حين أصابه، وقد حكى الليث عن يحيى بن سعيد وربيعة أنهما قالا: كل ما شهد فيه النساء أو العبيد أو الصبيان أو اليهود أو النصارى أو المجوس من قتل يكون فجأة أو ضرب أو جراح وأشباه ذلك فلا يحضره غير أولئك فإن شهادتهم في مثل هذا لطخ ولوث بين يجب به القتل مع القسامة وبالله التوفيق.

[مسألة: الحمل إذا صاح وجب ميراثه]
مسألة وسئل عن استهلال الصبي فقال: الصياح فإذا صاح وجب ميراثه وتمت ديته وصلي عليه وليس العطاس باستهلال.

(15/464)


قال محمد بن رشد: عبد العزيز بن أبي سلمة وابن وهب يريان العطاس استهلالا، وأما الرضاع فهو استهلال إذ لا يمكن أن يرضع إلا بعد أن يستهل، وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى في أول سماع ابن القاسم من كتاب الولاء وبالله التوفيق.

[مسألة: أصابها رجل بجرح يكون ثلث ديتها هي أتحمله لها العاقلة]
مسألة وقال ابن كنانة لمالك: الذي كنا نعرف من قولك يا أبا عبد الله أن العاقلة تحمل ثلث الدية دية المجروح كائنا من كان رجل أو امرأة إذا بلغ عقل تلك الجراح ثلث عقل المجروح حملته للعاقلة، وإنه قد حمل هاهنا عنك أنك قلت إن المرأة إذا أصابت الرجل بجرح يكون ثلث ديتها وهو سدس دية الرجل المجروح حملته العاقلة، فقال: لا، لقد كذب من قال هذا، ولقد حمل قولي على غير وجهه، قيل له: أرأيت امرأة أصابها رجل بجرح يكون ثلث ديتها هي أتحمله لها العاقلة؟ قال: نعم في رأيي، قال ابن كنانة- ومالك يسمع- من أصيب من رجل أو امرأة بجرح يكون ثلث ديته حملته العاقلة، فأما أن تصيب المرأة رجلا بجرح يكون ثلث ديتها هي فلا تحمله العاقلة هذا الذي كنا نعرف من قول أبي عبد الله - ومالك يسمع-.
قال محمد بن رشد: هذا الذي أنكره مالك في هذه الرواية وقال فيه: إنه من تأوله عليه فقد حمل قوله على غير وجهه من أن العاقلة تحمل الجناية إذا بلغت ثلث دية الجاني كما تحملها إذا بلغت ثلث دية المجني عليه قد رواه عنه ابن القاسم في المدونة، وأنه قال فيه: إنه بين وإن كان الاعتبار بدية المجني عليه في ذلك أبين، وإنما قال إن ذلك أبين لأن الجناية بالمجني عليه أخص منها بالجاني فيما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من مراسل عمرو بن شعيب

(15/465)


وعكرمة أن «الجناية إذا بلغت ثلث الدية حملتها العاقلة» ولو قيل إنه إذا جنى أحدهما على صاحبه جناية خطأ لا تحملها العاقلة إلا أن يبلغ ثلث دية الرجل منهما كان الجاني أو المجني عليه لكان الأظهر، لأن الأصل كان أن لا يحمل أحد جناية أحد دم ولا مال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] «وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي رمثة في ابنه: لا تجني عليه ولا يجني عليك» فكان وجه النظر في ذلك أن لا يخص منه شيء إلا بسنة قائمة أو إجماع، والإجماع إنما يصح في ثلث دية الرجل منهما فوجب أن لا تحمل العاقلة دون ذلك، ووجه قوله الثاني الذي أنكره في هذه الرواية اتباع ظاهر الحديث بحمله على عمومه إذ لم يخص فيه دية ذكر من دية أنثى وبالله التوفيق.

[مسألة: اللوث الذي تجوز القسامة به من الشهادة]
مسألة وسئل مالك ما اللوث الذي تجوز القسامة به من الشهادة؟ فقال: الأمر الذي ليس بقوي ولا قاطع، قيل لمالك: أترى شهادة المرأة من ذلك؟ فقال: نعم أراه من ذلك، قيل له فشهادة الرجل الذي ليس بعدل من ذلك؟ فقال: نعم أراه من ذلك، قيل له أفترى شهادة العبد من ذلك ولا أرى فقال: لا، ليست شهادة العبد من ذلك ولا أرى شهادة العبد لوثا.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة قبل هذا في هذا الرسم فلا وجه لإعادته.

[مسألة: إقرار العبد بقتل العبد عمدا]
مسألة قال مالك وما اعترف به العبد من قتل فإن سيد المعترف يقول

(15/466)


لسيد المضروب إنما اعترف عبدي ليذهب من يدي فهات على ضربه عبدك البينة، فأرى أن يكشف عن ذلك وينظر فيه، قيل لمالك: أفترى السيد المقتول أن يحلف ويكون ذلك له؟ قال: لا أرى ذلك له إلا أن يأتي بشبهة، قيل له؟ فإن جاء بشاهد يحلف مع شاهده؟ قال: نعم يحلف ويكون ذلك له، قيل له: أرأيت إن أبى أن يحلف ورد اليمين على سيد العبد المشهود عليه بشاهد واحد يكون ذلك عليه؟ فقال: لا أظن ذلك.
قال محمد بن رشد: إقرار العبد بقتل العبد عمدا يجوز عليه إن أراد سيد العبد المقتول أن يستفيد منه كان ذلك له، ولا يجوز على سيده إن لم يرد أن يستفيد مكانه وأراد أن يأخذه بجناية عبده لأن العبد يتهم على أنه أراد الخروج من ملك سيده إلى الذي أقر بقتل عبده، فلا يكون لسيد العبد المقتول أن يحلف مع إقرار العبد ويستحقه كما قال، إذ لا تجوز شهادته على سيده بأن كان له شاهد على أنه قتل عبده كان له أن يحلف مع شاهده ويستحق العبد إلا أن يشاء سيده أن يفتديه بقيمة العبد المقتول فيكون ذلك له وهذا ما لا اختلاف فيه، ولو لم يمت من ذلك الجرح بفور ذلك وحيي بعده لما استحقه بيمينه مع الشاهد إلا بعد أن يحلف أيضا أنه مات منه على ما قاله في رسم شهد من سماع عيسى من كتاب الجنايات، وكذلك لو ثبت الجرح بشهادة شاهدين أو أقر به سيد العبد القاتل أو القاتل إن كان حرًّا لم يستحقه إلا بعد أن يحلف أنه مات من ذلك الجرح على ما قاله في رسم المجالس من سماع أصبغ بعد هذا، وفي المدنية خلاف هذا.
وروى محمد بن يحيى السبائي أنه سمع مالكا يسأل عن العبد يجرحه الحر فيقر الحر بجرحه أو تقوم عليه بينة ثم يمكث أياما فيموت العبد فيقول سيده إنه مات من تلك الجراح هل عليه في ذلك يمين أنه مات من ذلك، فقال: إذا أقر بذلك على نفسه أو قامت عليه بينة ثم مات العبد في ذلك فهو

(15/467)


ضامن وليس على سيده أن يحلف أنه مات من ذلك الجرح، قال عيسى بن دينار: قال ابن القاسم: قد سمعت هذا عنه، وسمعت أنا منه أنه يحلف وهو أحب قوله إلي.
وأما قوله إن أبى أن يحلف ورد اليمين على سيد العبد القاتل إن ذلك لا يكون له، فمعناه إذا لم يحقق عليه الدعوى إن علم أنه قتله فهي يمين تهمة فالاختلاف في لحوق يمين التهمة مرض وجوبها في هذه المسألة في هذه الرواية، فقال: لا أظن ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: الرجل يقتل الرجل وله أولياء كثير فعفا أحد الذين يجوز لهم العفو]
مسألة وقال في الرجل يقتل الرجل وله أولياء كثير فعفا أحد الذين يجوز لهم العفو فلا يكون إلى القتل سبيل، ويكون في ذلك الدية قيل له: بالقسامة؟ قال: بالقسامة وغيرها إذا عفا أحدهم لم يكن إلى القتل سبيل، وكذلك إن نكل أحدهم على القسامة، قال سحنون: وقال ابن نافع: إذا كان نكول الناكل إنما كان على وجه التورع والتحرج حلف من بقي وقتلوا، وإذا كان نكوله على وجه العفو والترك لحقه حلف من بقي وكانت له الدية وهذا الذي أرى.
قال محمد بن رشد: في قول مالك في رواية أشهب هذه التباس والظاهر عندي من معناه ومراده أن عفو أحد الأولياء إذا كانوا في القعدد سواء يبطل ولا تبطل الدية، فإن كان ذلك العفو ممن عفا منهم بعد القسامة كان لمن بقي حظوظهم من الدية، وإن كان قبل القسامة أقسم من بقي وكان لهم حظوظهم من الدية، وكان الشيوخ يختلفون في قول ابن نافع، فمنهم من كان يحمله على التفسير لقول مالك ويقول لا اختلاف في أن نكول الناكل عن القسامة إذا لم يكن على وجه العفو والترك وكان على وجه التورع والتحرج فلمن بقي من الأولياء أن يقسموا ويقتلوا، ومنهم من كان يحمله على الخلاف

(15/468)


له، ويقول إذا نكل أحد الأولياء عن القسامة فلا سبيل إلى القتل، وكان لمن بقي حظوظهم من الدية، وابن الماجشون يساوي بين أن يكون العفو قبل القسامة أو بعدها في أن الدية تبطل على كل حال، ولا يكون لمن بقي من الأولياء شيء من الدية، والنكول عن القسامة عند جميعهم كالعفو سواء كل على مذهبه، فهي ثلاثة أقوال في المسألة، ومن قول ابن القاسم في المدونة أن رجوع أحد الأولياء بعد القسامة وتكذيبه نفسه يبطل حق من بقي من الأولياء بمنزلة إذا عفا أو نكل قبل القسامة وبالله التوفيق.

[: تشرب الدواء وهي حامل فيسقط ولدها]
ومن كتاب العقول قال أشهب: وسئل مالك عن المرأة تشرب الدواء وهي حامل فيسقط ولدها أترى عليها شيئا؟ فقال: ما أرى به بأسا إذا كان دواء يشبه السلامة فليس به بأس إن شاء الله، قد يركب الإنسان الدابة فتصرعه، وقد «كوى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعدا فمات فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بئس الميت ليهود يفتنون به يقولون لم يغن عنه صاحبه» .
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله وهو على قياس ما تقدم في رسم البز من سماع ابن القاسم في الصبي الذي تسقيه أمه الدواء فيشرق به فيموت وبالله التوفيق.

(15/469)


[مسألة: قتل جنينا في بطن أمه فطرحت ميتا أعليه عتق رقبة]
مسألة وسئل عمن قتل جنينا في بطن أمه فطرحت ميتا أعليه عتق رقبة؟ فقال: ليس ذلك عليه.
محمد بن رشد: زاد في غير هذه الرواية وإن سقط حيا كانت فيه الكفارة، قال أشهب: وعليه الغرة واستحسن مالك في المدونة الكفارة في الجنين إن خرج ميتا وفي الذمي والعبد وفي جنينهما وبالله التوفيق.

[مسألة: فجر فتحمل فتضع فتلقيه في بير أتقتل به]
مسألة وسئل عن المرأة تفجر فتحمل فتضع فتلقيه في بير أتقتل به؟ فقال: إن لذلك وجوها أن ألقته في مهلك مثل البير الكثير الماء أو البحر أو ما أشبه ذلك فمات فما أحقها من أن تقتل، وإن قتلت كانت لذلك أهلا كأنه ينحو إلى أن تقتل ويراه قال أصبغ مثله هذه متعمدة للقتل كما لو ذبحته ذبحا فالغرق مثله، قال ابن القاسم: وإن كانت مثل البئر اليابسة التي يقدر أن يؤخذ منها أو ما أشبه ذلك فهذه لا تقتل إلا أن يكون البئر مهواة لا تدرك ولا تنزل وإن كانت يابسة فأرى أن تقتل.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين مثل ما في المدونة وغيرها من الأب يقتل بابنه إذا عمد لقتله، وإنما لا يقتل به وتغلظ عليه الدية إذا فعل به مثل ما فعل المدلجي بابنه من حذفه إياه بالسيف إذ قد يذهب الرجل على ابنه بالسيف ولا يريد قتله وبالله التوفيق.

[مسألة: النصراني يقتل المسلم خطأ على من ديته]
مسألة وسئل مالك عن النصراني يقتل المسلم خطأ على من ديته؟

(15/470)


فقال: على أهل دينه من أهل كورته الذين إذا جرحوا نصرانيا أدوا عنه، فكذلك يؤدون عنه إذا جرح المسلم.
قال: أما إذا لم يحمل أهل هذه المعاقل الدية لم يقو عليها رجل واحد قيل له: ربما كانت القرية ليس فيها إلا الذي جرح وحده أو قلة؟ قال: يضم بعض ذلك إلى بعض يحمل ذلك عنه الذين إذا جرح نصرانيا عقلوا عنه.
قال محمد بن رشد: هذا بين مثل ما في المدونة وغيرها فلا وجه للقول فيه.

[مسألة: نامت مع ولد لها من الليل فتمرغت فأصبح ميتا]
مسألة وسئل عن امرأة نامت مع ولد لها من الليل فتمرغت فأصبح ميتا، ولم تر به أثرا فخافت أن تكون هي قتلته؟ فقال: تكفر بعتق رقبة، قلت له: فما ترى على عاقلتها الدية؟ قال: ومن يطلب ذلك؟ ومن أين يعلم أنها هي قتله قيل له: أفرأيت إن تبين به خضرة من غمها إياها؟ فقال: إن تبين ذلك فعلم أنها قتلته فديته على عاقلتها.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين لا إشكال فيه إن علمت أنها هي قتلته كانت عليها الكفارة واجبة، وإن شكت أن تكون قتلته فالكفارة عليها مستحبة لها، وإن صح أنها قتلته بوجه لا يشك فيه كانت الدية على عاقلتها.

[مسألة: توحر ولدها أوتسقطه فيموت في يدها أترى له عقلا]
مسألة قلت أفرأيت المرأة توحر ولدها أو تسقطه فيموت في يدها أترى له عقلا؟ فقال: لا أرى في هذا عقلا لا على العاقلة ولا على عليها، ولا أرى عليها كفارة والطبيب يداوي الرجل فيموت فلا أرى

(15/471)


على عاقلته دية ولا عليه كفارة، وما ذلك بالبين وإن الطبيب ليداوي فيمات من دوائه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم مثل هذا والقول فيه في رسم البز من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.

[مسألة: العبد يكون أكثره حرا يصاب كم يغرم قاتله]
مسألة وسئل عن العبد يكون أكثره حرا يصاب كم يغرم قاتله؟ قال: قيمة رقيق كله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه لأن الحرية في العبد تبع لما فيه من الرق في جميع الأحكام من الميراث والشهادة والحدود فكذلك إذا قتل يكون على عاقلة قيمته رقيقا كله واختلف قول مالك إذا جنيت عليه جناية فمرة قال جنايته لسيده، ومرة قال تكون لسيده منها بقدر ماله فيه من الرق ويوقف بيده منها قدر ما فيه من الحرية يكون مالا له إن أعتق باقيه كان له، وإن مات قبل أن يعتق باقيه ورث ذلك سيده، والقولان لمالك في المدونة.
وأما إذا جنى هو؛ ففي ماله من الجناية قدر ما فيه من الحرية، وفي رقبته من ذلك قدر ما فيه من الرق يدفعه سيده بذلك أو يفتكه به وبالله التوفيق.

[مسألة: المكاتب يصاب كم يغرم قاتله]
مسألة قيل له: أرأيت المكاتب يصاب كم يغرم قاتله؟
قال: قيمته بما عليه من الكتابة مكاتب بألف دينار أو مائة درهم، وليس قيمته عبدا لو بيع يوم أصيب على هيئته وعليه ألف درهم أو مائة درهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن يقوم على أنه مكاتب عليه من كتابته بقية كذا وكذا على ما يعرف من قدرته على اكتساب المال وبصره

(15/472)


بذلك دون ما عليه له، لأن ماله يبقى لسيده، هذا معنى قوله في المدونة: إن المكاتب إذا قتل يقوم على هيئة في الحال التي كان عليها، يريد من قدرته على الاكتساب وبصره بجمع المال، لا من كثرة ماله وقلته، إذ لا يقوم بماله، ولا احتمال الحال المال طرح سحنون في المدونة قوله على الحال التي كان عليها فاللفظة صحيحة وتأويلها ما ذكرناه إلا أن في هذه الرواية أنه يغرم قيمته مما عليه من الكتابة خلاف ما في المدونة من قوله: إنه لا ينظر إلى ما أدى من كتابته ولا إلى ما بقي منها، فيقال على هذه الرواية كم قيمة هذا على أنه مكاتب وقوته على أداء كتابته كذا وكذا وعليه من كتابته كذا وكذا، ولا مال له، ويقال على ما في المدونة كم قيمة هذا على أنه مكاتب وقوته على أداء كتابته كذا وكذا ويسكت عن ما عليه من الكتابة ولا مال له أيضا، إنما يقوم المكاتب بماله في العتق إذا أوصى سيده بعتقه فيجعل في الثلث الأقل من قيمته بماله مكاتبا أو الأقل مما عليه من عدد الكتابة أو من قيمتها على الاختلاف الواقع في ذلك في الجنايات من المدونة، وقد مضى هذا المعنى في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب المكاتب.

[مسألة: يكون مع غير قومه في الديوان أيعقل معهم ولا يعقل مع قومه]
مسألة وسألته عن الرجل يكون مع غير قومه في الديوان أيعقل معهم ولا يعقل مع قومه؟ فقال: نعم أرى إذا كان الرجل في الديوان مع غير قومه أن يعقل عنهم ويعقلوا عنه إن كان رجل من الأنصار في قريش عقل عنهم وعقلوا عنه، قلت أفترى أن يعينهم قومهم ممن ليس معهم في الديوان؟ فقال: ما يفعلون ذلك، قلت له: أفتراه؟ قال: نعم ولقد انقطع الديوان وقل.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ظاهر ما في المدونة من قول مالك: إنما العقل على القبائل كانوا أهل ديوان أو غير أهل ديوان فجعل على هذه الرواية أهل الديوان الواحد كالقبيلة من القبائل وإن كانوا من قبائل شتى

(15/473)


يعقل بعضهم ما جنى بعض فإن لم يكن فيهم من يحمل العقل ضم إليهم قومهم من أهل الديوان الأقرب حتى يجتمع منهم من العدد ما يحمل العقل دون مشقة ولا كبر مؤنة لأن طريقها المواساة لحياطة الدماء فهي على ما لا يضر بالمواسي ولا يقع فيه المشاحاة في الغالب، وقد روى عن سحنون أنه إذا كانت العاقلة خمسمائة أو ألفا فهم قليل ويضم إليهم أقرب القبائل إليهم، وقال بعض الشافعين إن الحد في ذلك على وجه النظر باعتبار الحد فيما سواه بما قرره الشرع ربع دينار على المعسر؛ لأنه أول حدود الشيء الخطير؛ لأن اليد لا يقطع فيها، دونه ونصف دينار على الموسر لأنا وجدناه يجب في النصاب من الذهب زكاة، ولا يرى مالك هذا الحد في الدية، وإنما يرى أن يفرض بالاجتهاد على العاقلة على الموسر بقدره وعلى المعسر بقدره في ثلاث سنين، قال في كتاب ابن سحنون: وإذا وقعت الدية على أهل إبل فرضت على جميعهم ولا يقدحون حتى يشترك النفر في النفر، وأنكر قول الشافعي لا يزاد فيها على نصف دينار ولا ينقص من ربع دينار، وبالله التوفيق.

[مسألة: أتقام الحدود في الحرم]
مسألة وسألته أتقام الحدود في الحرم؟ قال: نعم ويقتل بقتل النفس في الحرم؟
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه بين فقهاء الأمصار، لأن حرم الله أحق ما أقيمت فيه حدود الله، وكذلك قال في سماع أبي زيد، وسنذكر هناك ما يؤثر فيه من الخلاف عن السلف وبالله التوفيق.

(15/474)


[: ستحق دمه بقسامة فقدم ليقتل فقال رجل أنا قتلته]
ومن سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
قال عيسى وسئل ابن القاسم عن رجل استحق دمه بقسامة فقدم ليقتل، فقال رجل: أنا قتلته، قال: بلغني عن ربيعة أنه قال: يقتل هذا بالقسامة وهذا بالإقرار، ولست آخذ به، قال ابن القاسم لم يقتله اثنان، وإنما قتله واحد، فيقال لهم: اقتلوا أيهما وخلوا سبيل الآخر.
قال محمد بن رشد: قد روى عن مالك وابن عبد الحكم وأصبغ؟ مثل قول ربيعة، حكى ابن المواز عنهم في كتابه أن القسامة إذا وجبت في نفر فأقر غيرهم بالقتل أن المقر يقتل بإقراره، ويقسمون على واحد من هؤلاء ويقتل، وحكي عن ابن القاسم مثل قوله هاهنا أنه لا يقتل إلا واحد إما المقر وإما أحد هؤلاء بقسامة، قال ابن المواز: وإذا قتل المقر فقال ابن القاسم مرة بقسامة ومره بغير قسامة، وأنكر ابن المواز وأصبغ قوله بقسامة، وقد قيل إن ذلك ليس باختلاف من قوله، وإنما معناه أنه يقتل بغير قسامة إن لم يكن للمقتول حياة، وإنما وجبت القسامة على غير المقر بشاهد على القتل وبقسامة إن كانت له حياة، وإنما وجبت القسامة على غير المقر بشاهدين على الجرح أو بقول المقتول دمي عند فلان بدليل ما وقع من قوله في رسم العتق بعد هذا من هذا السماع أنهم يقسمون على ذلك إن كانت حياة، وفي رسم الصبرة من سماع يحيى بعد هذا في النفر يجرحون الرجل فيحمل مجروحا فيموت فتجب القسامة عليهم إنهم لو أقروا بقتله أجمعون لم يكن لهم أن يقتلوا منهم أحدا حتى يقسموا على أيهم أحبوا فقط فيقتلونه، ولا يكون لهم أن يقتلوا واحدا بالقسامة وسائرهم بالإقرار، قال وكذلك إذا لم يقر إلا واحد قال أنا قتلته لم يكن لهم أن يقتلوه حتى يقسموا عليه، ولا أن يقسموا على غيره ويقتلوا المقر بإقراره، ليس لهم أن يقسموا إلا على واحد منهم فيقتلونه كما لو لم يقروا ولم

(15/475)


يقر واحد منهم فسواء على مذهب ابن القاسم كان المقر بالقتل من الذين وجبت عليهم القسامة أو من غيرهم ليس للأولياء أن يقتلوا المقر بإقراره ويقسموا على أحد ممن بقي، وسواء أيضا على مذهب ربيعة وما حكى ابن المواز عن مالك، وابن عبد الحكم، وأصبغ كان المقر بالقتل، ممن وجبت عليهم القسامة أو من غيرهم لهم أن يقتلوا المقر بإقراره ويقسموا على واحد ممن بقي فيقتلوه، وهو قول المغيرة في المجموعة، وفرق سحنون بين أن يكون المقر بالقتل من الذين وجبت عليهم القسامة أو من غيرهم فاختار قول ابن القاسم إذا كان المقر بالقتل من غير الذين وجبت عليهم القسامة واختار قول المغيرة، ومن قال بقوله إذا كان المقر بالقتل ممن وجبت عليه القسامة وقال: ليس قول ابن القاسم هاهنا شيئا وقد كان من مضى يقتلون بالقسامة النفر جميعا حتى كان معاوية ابن أبي سفيان أو عبد الملك فحكم أن لا يقتل بالقسامة إلا واحدا فرأى مالك وأصحابه ذلك واستحسنوه.
فإذا أقروا بالقتل جميعا قتلوا جميعا كما قال المغيرة، وإن أقر واحد منهم قتل المقر، وأقسموا على واحد من الباقين وقتلوه، وكذلك إن أقروا جميعا إلا واحد منهم قتلوا جميعا بالإقرار وأقسموا على المنكر وقتلوه إن شاءوا، والذي قال مالك في موطئه: إنه لم يعلم قسامة كانت قط إلا على رجل واحد، وإذا حملنا ما حكى ابن المواز عن ابن القاسم في المقر على نفسه بالقتل إنه يقتل قال مرة بقسامة ومرة بغير قسامة على ظاهره من أنه اختلاف من قوله فالاختلاف من قوله إنما يصح ويشبه إذا كانت للمقتول حياة فأقر القاتل أنه قتله ومن جرحه مات كان المقر بالقتل من وجبت عليه القسامة بقول المقتول أو بشاهدين على الجرح أو لم يكن منهم وكان من غيرهم، وأما إذا لم يكن للمقتول حياة، فأقر القاتل أنه قتله قتلا مجهزا؛ فإنه يقتل بغير قسامة قولا واحدا لا يصح في ذلك اختلاف، كان المقر بالقتل ممن وجبت عليه القسامة بشاهد على القتل أو من غيرهم والفرق بين الموضعين بين، ألا ترى أنه من أقر أنه قتل رجلا قتلا مجهزا لا يقبل رجوعه ومن أقر أنه جرح فلانا ومات من جرحه ثم رجع عن

(15/476)


إقراره يقبل رجوعه لأنه يقول كنت ظننت أنه مات من جرحي ثم تحققت أنه لم يمت منه، وهذا الذي ذكرناه من أنه يقبل. رجوع المقر بالقتل في هذا الموضع منصوص عليه لمالك في كتاب ابن المواز، وبالله التوفيق.

[مسألة: النصراني يقتل النصراني ثم يسلم]
مسألة وقال في النصراني يقتل النصراني ثم يسلم: إنه يقتل وأخبرنا يحيى بن يحيى قال: سألت ابن القاسم عن النصراني يقتل النصراني ولا ولي له إلا المسلمون ثم يسلم القاتل أترى أن يقتل به؟ فقال: العفو عن قتل هذا أحب إلي من قتله، وذلك أن حرمته إذا أسلم أعظم من حرمة الكافر الذي قتل، فلو كان للمقتول أولياء كان لهم القود لأنهما كانا على دين واحد يوم قتله. فإذا كان أمره إلى الإمام فالعفو عنه أعجب إلي وإن كان القود قد لزمه.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه في النصراني يقتل النصراني ثم يسلم: إنه يقتل، وإن لم يكن للنصراني المقتول أولياء إلا المسلمون، وهو قول مالك في رواية ابن نافع عنه: إن إسلامه لا يمنعه من القتل ولا يبريه منه، ويقتل مكانه؛ فعلى هذا لا يجوز للإمام إذا لم يكن له أولياء إلا المسلمون أن يعفو عنه إذا كان له مال على غير شيء، وهو القياس لوجوب القود، ويجوز له أن يصالحه على مال يأخذه منه للمسلمين، وإن كان أقل من الدية على القول بأن القاتل لا يجبر على غرم الدية، وأما على القول بأنه يجبر على غرم الدية فليس له أن يعفو عنه على أقل من الدية إذا كان بها مليا، وأمَّا على قوله في رواية يحيى عنه؛ فيجوز له أن يعفو عنه على غير شيء يأخذه منه، وإن كان له مال؛ لأنه استحب العفو عنه لحرمة إسلامه بخلاف المسلم يقتل المسلم الذي لا ولي له إلا المسلمون، هذا لا يجوز للإمام أن يعفو عنه إلا على شيء يأخذه منه نظرا للمسلمين كالوصي على الصغير لا يجوز له أن يعفو عن دم أبيه، ويجوز أن يعفو عنه نظرا ليتيمه على

(15/477)


الدية أو على أقل منها على الاختلاف الذي ذكرناه في القاتل هل يجبر على غرم الدية أم ولا؟ وسيأتي هذا في رسم أبي زيد وبالله التوفيق.

[مسألة: قال عند موته فلان قتلني وناس معه]
مسألة قال: وسئل عن رجل قال عند موته فلان قتلني وناس معه، قال: يقسمون على الذي سمى ويقتلونه إن شاءوا.
وأما قوله وناس معه فإن عرفوا وأثبتتهم البينة أنهم ضربوه معه أقسموا على أيهم شاءوا منهم.
قال محمد بن رشد: القسامة في العمد تجب بأحد ثلاثة أشياء على اتفاق، وبأحد وجهين على اختلاف.
فأما الثلاثة الأشياء التي تجب القسامة بكل واحد منها باتفاق فهي أن يقول الميت دمي عند فلان أو يشهد على قتله رجل واحد أو على جرحه رجلان.
وأما الشيئان المختلف في وجوب القسامة بكل واحد منهما أن يشهد رجل واحد على الجرح أو شاهد واحد على إقرار القاتل بالقتل فإذا وجبت القسامة على الجماعة بأحد هذه الأشياء التي تجب القسامة بها أو باختلاف على القول بوجوب القسامة به فلا اختلاف في المذهب في أنه لا يقتل بها إلا واحد منهم، واختلف هل لأولياء المقتول أن يقسموا على جميعهم أو على من شاءوا منهم، ثم يقتلون واحدا ممن أقسموا عليه أو ليس لهم أن يقسموا إلا على الذي يقتلونه، وهو مذهب ابن القاسم ونص قوله في هذه الرواية وغيرها، وقول مالك في موطئه: ولم نعلم قسامة قط كانت إلا على رجل واحد.
وإذا أقسموا عليه قالوا في قسامتهم عليه لمات من ضربه ولا يقولوا من ضربهم، وروى ذلك ابن القاسم عن مالك في المجموعة والواضحة، قال

(15/478)


عبد الملك إذ لا يدرى هل مات من فعلهم كلهم أومن فعل واحد منهم فلا بد لهم لأن يقسموا على الذي يريدون أن يقتلوه؛ لأنه مات من فعله، هذا معنى قوله: وقيل: لهم أن يقسموا عليهم كلهم أنه مات من فعله ثم يقتلون ما شاءوا منهم وهذا الاختلاف إنما هو إذا احتمل أن يكون مات من فعل بعضهم دون بعض، فإذا لم يحتمل ذلك مثل أن يصبوا عليه صخرة وهم جماعة تعاونوا على رفعها إذ لا يقدر بعضهم على ذلك فلا اختلاف عندي في أنهم يقسموا عليهم كلهم ثم يقتلون ما شاءوا، وإن كان ظاهر ما في المدونة أنهم لا يقسمون إلا على واحد منهم، فلا ينبغي أن يحمل على ظاهره لأنه بعيد.
وقد قيل إنهم يقتلون كلهم بالقسامة إذا كان القتل على هذا الوجه، وهو قول سحنون، وقد كان من مضى يقتلون بالقسامة النفر جميعا حتى كان معاوية بن أبي سفيان أو عبد الملك، فحكم أن لا يقتل بالقسامة إلا واحد فرأى ذلك مالك وأصحابه، وقع ذلك في كتاب سحنون وفي الموطأ ما يرد ذلك، وهو قول مالك: ولم يعلم قسامة كانت قط إلا على رجل واحد وبالله التوفيق.

[مسألة: توبة القاتل]
مسألة وسئل عمن كتب إليه والٍ في قتل رجل فقتله ثم أراد التنصل والتوبة فعرض نفسه على أولياء المقتول وأخبرهم، فقالوا له لسنا بقاتليك، إنا نخاف إن قتلتاك عاقبة ذلك ممن وراءك يعنون الموالي فعرض عليهم الدية فأبوا أن يقبلوها.
قال: أحب إلي أن يؤدي ديته إليهم وأن يعتق الرقاب وأن يبكي وأن يتقرب إلى الله بالدعاء والرغبة إليه ويلحق بهذه الثغور، ويحج ويكثر من العمل الصالح ما استطاع، فإن لم يقبل الدية فليعتق وليصنع هذا، ويمكن من نفسه ويتصدق بما استطاع ويكثر الحج والغزو وإن استطاع أن يلحق بهذه الثغور ويكون فيها أبدا حتى يموت

(15/479)


بها فهو أحب إلي وما الدية عندي بالقوي.
قال محمد بن رشد: اختلف السلف ومن بعدهم من الخلف في قبول توبة القاتل، وإنفاذ الوعيد عليه على قولين، فمنهم من ذهب إلى أنه لا توبة له، وأن الوعيد لاحق به، فممن روي ذلك عنه ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة أنهم قالوا لمن سألهم عن ذلك هل يستطيع أن يحييه؟ هل يستطيع أن يبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء؟ وإن ابن عمر سئل عن ذلك فقال: ليستكثر من شرب الماء البارد، وإن ابن عباس سئل عن ذلك فقال للسائل كالمتعجب من ذلك: ماذا تقول؟ فأعاد عليه قوله، فقال ماذا تقول مرة أو ثلاثا، ثم قال: ويحك وأنى له بالتوبة؟. وإلى هذا ذهب مالك فيما روي عنه من أن إمامة القاتل لا تجوز وإن تاب، ويؤيد هذا المذهب ما روى من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «كل ذنب عسى الله أن يعفو عنه إلا من مات كافرا أو قتل مؤمنا متعمدا» وذلك - والله أعلم - لأن القتل يجتمع فيه حق الله تعالى وحق للمقتول المظلوم، ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم ورد التباعات إليهم، وهذا ما لا سبيل للقاتل إليه إلا بأن يدرك المقتول قبل موته فيعفو عنه، ويحلله من قتله إياه طيب بذلك نفسه، ومنهم من ذهب إلى أن القاتل في المشيئة وأن توبته مقبولة، ومن روي ذلك عنه ابن عباس وأبو هريرة وعلي بن أبي طالب ومجاهد وغيرهم من السلف، وخص مالك في هذه الرواية للقاتل أن يعتق الرقاب ويبكي ويتقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة ويلزم الثغور والجهاد دليلا على الرجاء عنده في قبول توبة القاتل خلاف ما روي عنه من أن إمامته لا تجوز وإن تاب، ولكلا المذهبين وجه من النظر، وكفى باختلاف الصحابة في ذلك، فقل ما تجدهم يختلفون إلا فيما يتعارض فيه

(15/480)


الحج وتتكافأ فيه الأدلة، فينبغي لمن لم يواقع هذا الذنب العظيم أن ينتهي عنه ويستعيذ بالله منه مخافة أن لا يصح له متاب إن واقعه فيحق عليه سوء العذاب ويناله شديد العقاب، ولمن واقعة أن يتوب إلى الله ويستغفره ولا يأس من رحمته فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وقد كان ابن شهاب إذا سئل هل للقاتل توبة يتعرف من السائل هل قتل أم لا ويطاوله في ذلك، فإن تبين له منه أنه لم يقتل قال له لا توبة له، وإن تبين له من أنه قد قتل قال له توبة، وإن هذا لحسن من الفتوى، وأما من قال إن القاتل مخلد في النار أبدا فقد أخطأ وخالف السنة لأن القتل لا يحبط ما تقدم من إيمانه ولا ما اكتسب من صالح أعماله؛ لأن السيئات لا تبطل الحسنات، ومن مات على الإسلام فلا بد أن يجازيه الله على حسناته، فإنه يقول وقوله الحق {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] وقال: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] ومن مثل هذا في القرآن كثير.
واختلف أهل العلم أيضا في القصاص من القاتل هل يكفر عنه إثم القتل أم لا. على قولين، فمنهم من ذهب إلى أنه يكفر عنه بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الحدود كفارات لأهلها» فعم ولم يخص قتلا من غيره، ومنهم من ذهب إلى أنه لا يكفره عنه؛ لأن المقتول مظلوم لا منفعة له في القصاص، وإنما هو منفعة للأحياء عن القتل، وهو معنى قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فيكون القصاص في القتل على هذا القول مخصصا من

(15/481)


حديث عبادة: «الحدود كفارات لأهلها» ويبقى الحديث مخصصا فيما هو حق الله تعالى لا يتعلق فيه حق المخلوق وفي قول مالك في هذه الرواية دليل على القولين جميعا قوله في أولها أحب إلي أن يؤدي ديته إليهم يدل على أن القتل يكون كفارة له لأنه رآه حقا لأولياء المقتول تنوب عنه الدية إذا رضوا بها، وقوله في آخر المسألة وما الدية عندي بالقوي يدل على أنها لا تنوب مناب القصاص منه في الانتفاع به في الآخرة وبالله التوفيق.

[مسألة: نكل أحد من أولياء الدم عن القسامة في دم الخطأ]
مسألة قال سحنون وعيسى: قال ابن القاسم: إذا نكل المدعى عليهم في الخطأ غرموا الدية والقاتل كرجل منهم، ولا يستحلف هو، وفي سماع عيسى فإن نكل أحد من أولياء الدم عن القسامة في دم الخطأ فهو حق قد وجب على عاقلة المدعي عليهم فليس يبريهم إلا اليمين لو كانوا عشرة آلاف، فمن حلف منهم سقط عنه بقدر ما يصيبه، ومن نكل غرم ما يقع عليه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في رواية سحنون وعيسى عنه إذا نكل المدعي عليهم في الخطأ غرموا الدية والقاتل كرجل منهم يريد بالمدعي عليهم العاقلة كلها.
وقوله ولا يستحلف هو معناه ولا يستحلف هو وحده بل يحلف مع جميع العاقلة فيما يجب عليه من الدية، كما يحلف كل واحد منهم فيما يجب عليه منها.
وقوله في رواية عيسى عنه وحده فإن نكل أحد من أولياء الدم عن القسامة في دم الخطأ فهو حق قد وجب على عاقلة المدعي عليهم يريد أن حظ من نكل عن اليمين من الورثة من الدية قد وجب على جميع العاقلة ولو كانوا عشرة آلاف والقاتل كرجل منهم، فمن حلف منهم سقط عنه ما يصيبه من ذلك،

(15/482)


ومن نكل غرم ما يصيبه منه، ومن حلف من أولياء الدم وهم الورثة فقد استحق ما يجب له من الدية على جميع العاقلة والمدعي عليه كرجل منهم، وإنما يستحق منهم ما يجب له من الدية بعد أن يستكملوا جميع الأيمان، لأن من نكل من الورثة عن اليمين فهو بمنزلة من غاب لا يستحق من حضر حظه من الدية حتى يحلف جميع الأيمان، فإذا جاء من غاب حلف ما يجب عليه من الأيمان واستحق حظه من الدية، وإن نكل عن اليمين فكما قال في الرواية يكون حظه من الدية على جميع العاقلة، ولو كانوا عشرة آلاف والمدعي عليهم كرجل منهم فمن حلف منهم سقط عنه ما يجب عليه من ذلك، ومن نكل غرم ما يجب عليه منه، فليس قول ابن القاسم في سماع عيسى عنه بخلاف لما قبله من رواية سحنون وعيسى عنه، وإنما تكلم أولا على نكول الورثة، وتكلم آخرا على نكول العاقلة أيضا بعد نكول الورثة فقال إن جميع العاقلة والمدعى عليه الدم يحلفون في جميع الدية، ولو كانوا عشرة آلاف إذا نكل جميع الورثة وفيما بقي من الدية، ولو كانوا عشرة آلاف أيضا إذا نكل بعض الورثة وحلف بعضهم.
وفي سماع سحنون خلاف هذا القول أنه لا يحلف من العاقلة في الوجهين جميعا إلا خمسون رجلا يمينا لأنها جميع أيمان القسامة، فإن حلف منهم خمسون رجلا برئوا وسقطت الدية، وإن حلف بعضهم برئ من حلف معهم من الدية ووجبت الدية كلها على من بقي منهم إلا أن يأتوا بمن يحلف ما بقي من الخمسين يمينا، ولو حلف منهم تسعة وأربعون رجلا يمينا وبقيت يمين واحدة من الخمسين يمينا كانت الدية كلها على من لم يحلف حتى يأتوا منهم بمن يحلف اليمين الباقية من الخمسين، هذا معنى قوله في سماع سحنون مفسرا، وله فيه قول آخر مثل ما في هذه الرواية أن جميع العاقلة والمدعي عليه الدم يحلفون كلهم إذا نكل الورثة عن اليمين، وفي المسألة قول ثالث أنهم إن نكلوا لم يكن لهم شيء، وإن نكل بعضهم وحلف بعض لم يكن لمن نكل منهم شيء، ولا ترجع الأيمان على العاقلة

(15/483)


لأن الدية لم تجب عليهم بعد، وإنما تجب بالفرض وهو قول ابن الماجشون، وفي المسألة قول رابع " أنهم إن نكلوا حلف المدعي عليه الدم وحده، فإن حلف سقطت الدية عنه وعن جميع العاقلة، وإن نكل لزمه ما يلزم واحدا من العاقلة ولم يلزم العاقلة بنكوله شيء؛ لأن نكوله كالإقرار والعاقلة لا تحمل الإقرار، لأنه بنكوله شاهد على العاقلة، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه، وفي المسألة قول خامس أن الأيمان ترد على العاقلة، فإن حلفت برئت وإن نكلت عن اليمين غرمت نصف الدية قاله ربيعة، وهو قول على ما روى عن عمر بن الخطاب في قضائه على السعدين وبالله التوفيق.

[مسألة: نكل ولاة الدم في العمد]
مسألة وفي سماع سحنون قال ابن القاسم: إذا نكل ولاة الدم في العمد ردت الأيمان على أولياء القاتل، فإن حلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا برئ، ولم يكن على المدعي عليه أن يحلف معهم، ولا يجبر هؤلاء على الأيمان إلا أن يتطوعوا، فإن لم يجدوا خمسين رجلا ووجدوا أقل من ذلك العدد حلفوا خمسين يمينا إذا أطاعوا بحملها كلها وردت عليهم حتى يستتموا، فإن أبوا أن يحملوها كلها، وقالوا نحن نحمل بعضها واحمل أنت بقيتها، فليس ذلك لهم إما حملوها كلها ولا يكون على المدعي عليه منها شيء، وإما أن تسقط عنهم ويحملها المدعى عليه كلها وحده ويبرأ، فإن أبى سجن حتى يحلف، قال ابن القاسم ولا يحلف عنه أقل من رجلين.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها ثلاثة أقوال:
أحدها - هذا وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز.
والثاني - أن الأيمان ترد على المدعى عليهم فيحلف منهم رجلان أو أكثر خمسين يمينا تردد الأيمان عليهم ويحلف

(15/484)


فيهم المتهم، فإن نكلوا أو لم يوجد غير المتهم لم يبرأ حتى يحلف خمسين يمينا وحده، وهو قول ابن القاسم في المجموعة.
والثالث - أن المدعى عليه يحلف وحده ولا يكون له أن يستعين بأحد من ولاته في الأيمان كما يكون ذلك لولاة المقتول، وهذا قول مطرف في الواضحة وظاهر ما في رسم أول عبد من سماع يحيى وما في المدونة من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك، وهذا القول أظهر الأقوال من جهة القياس، لأن المدعي عليه حقيقة هو الذي يدعى عليه القتل ويطلب منه القصاص ويتعلق به حكم بالنكول، فوجب أن يكون هو الذي يحلف وحده لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» .
وللقولين الآخرين حظ وافر من النظر، وهو أنه لما كانت الدماء تقع فيها الحمية والعصبة صار عصبة المقتول هم الطالبون بدم المقتول بحق التعصيب لا بحق الوراثة، وصار عصبة القاتل هم المطلوبون معه لتعصبهم له ودفاعهم عنه، ووجب أن ترجع الأيمان إذا نكل عنها عصبة المقتول على عصبة القاتل إذ هم المطلوبون بما فعل وليهم، بدليل «قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للحارثيين في قتيلهم الذي قتل بخيبر أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ فلما قالوا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف نحلف ولم نشهد ولم نحضر؟ قال فتبريكم يهود بخمسين يمينا» فعمهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بالأيمان لما كانوا هم المدعى عليهم بأن صاحبهم قتل، فرأى ابن القاسم في الرواية الواحدة من حق القاتل أن يستعين في الأيمان بعصبة الذابين عنه المتعصين له المناصبين دونه كما كان من حق القريب من عصبة المقتول أن يستعين في الأيمان بالبعيد منهم.
ورأى في الرواية الأخرى من حق عصبة القاتل إذا ردت عليه الأيمان أن يتحملوها عنه ويحلفوها دونه إن دعوا إلى ذلك لجدهم في الدفاع عنه لما يزعمون من صحة يعنيهم ببراءته من قتله، فإن أبوا أن يحملون عنه جميعا وأرادوا أن يعينوه فيها بأن يحملوا عنه بعضا لم يمكنهم من ذلك لما تبين بمشاحتهم في ذلك من ضعف يقينهم في أنه بريء مما ادعى عليه وبالله التوفيق.

(15/485)


[مسألة: كان بعض عاقلة القاتل في غير الإقليم الذي هو به]
مسألة وعن الذي يقتل خطأ وبعض العاقلة بأطرابلس وبها قتل وبعضهم بأفريقية وهم كثير والذين بأطرابلس نفر يسير فهل يضم الذين بأطرابلس إلى الذين بإفريقية أو حتى يستوعب الدية بأفريقية، قال: أرى أن يضم بعضهم إلى بعض.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على ما في المدونة لأن أفريقية وطرابلس إقليم واحد، فوجب أن يضم من بأفريقية من عاقلة القاتل إلى من بطرابلس منهم، ولو كان بعض عاقلة القاتل في غير الإقليم الذي هو به، مثل أن يكون قتل القاتل في غير الإقليم الذي هو به، مثل أن يكون قتل بمصر وقومه بالشام أو بالشام وقومه بالعراق فعقل عنه أقرب القبائل إليه من الإقليم الذي هو من أهله، ولا يضم إليه أحد من عاقلته إذا كانوا في إقليم آخر، هذا قوله في المدونة وهو معنى قوله في هذه الرواية والله الموفق.

[مسألة: عفا أحد الأولياء عن الدم بعد وجوبه بالبينة أو بالقسامة]
مسألة قال ابن القاسم في رجل قتل وله ابنان وترك خمسمائة دينار ناضة وعليه دين خمسمائة دينار وعفا أحد الابنين عن القاتل بلا شيء فقضى على القاتل للذي لم يعف بنصف الدية.
قال ابن القاسم يقسم الخمسمائة الدين على الخمسمائة الناضة والخمسمائة الدية فيكون نصفها في الخمسمائة التي أخذ، هذا وهو مائتان وخمسون ويكون بقيتها له خاصة، فلا يدخل عليه فيها أخوه لأنه عفا، وتكون المائتان والخمسون الباقية تمام الدية في الخمسمائة الناضة، ويكون بقية الخمسمائة الناضة ميراثا بين الابنين، قال: وإن كانت الثلث والثلثين فعلى هذا الحساب، قال: وقد بلغني

(15/486)


ما فسرت لك في هذه المسألة عن مالك إلا في القود.
قال محمد بن رشد: قوله: فقضى على القاتل للذي لم يعف بنصف الدية صحيح على مذهبه وروايته عن مالك إنه إذا عفا أحد الأولياء عن الدم بعد وجوبه بالبينة أو بالقسامة فلمن لم يعف حظه من الدية، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك في أول رسم من سماع أشهب قبل هذا.
وقوله: إن الخمسمائة الدين تقسم على الخمسمائة الناضة والخمسمائة الدية فيكون نصفها في الخمسمائة الدية، ويكون بقيتها له خاصة لا يدخل عليه فيها أخوه الذي عفا ويكون نصفها في الخمسمائة الناضة، ويكون الباقي منها ميراثا بين الابنين صحيح على ما قاله، لأنه يجب على كل واحد منهما من الدين بقدر ما صار له من المال، فالذي عفا لم يصر له إلا مائتان وخمسون نصف الخمسمائة الناضة والذي لم يعف صار له مائتان وخمسون نصف الخمسمائة الناضة وخمسمائة حظه من الدية، فذلك سبعمائة وخمسون ثلاثة أمثال ما صار للذي عفا فيجب عليه من الدية ثلاثة أرباعه ثلاثمائة وخمسة وسبعون فتبقى له ثلاثمائة وخمسة وسبعون، ويجب من الدين على الذي عفا ربعه مائة وخمسة وعشرون فيبقى له مائة وخمسة وعشرون، فهذا بيان ما قاله، وبالله التوفيق.

[: جرحه رجل ثم ضربته دابته فلم يدر من أي الأمرين كان حتفه]
ومن كتاب العرية وسئل عن رجل جرحه رجل ثم ضربته دابته فلم يدر من أي الأمرين كان حتفه.
قال: أرى نصف الدية على عاقلة الجارح، قلت بقسامة أم بغير قسامة؟ قال أرأيت قسامة في نصف دية؟

(15/487)


قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن جرح الرجل له وضرب الدابة إياه كان في فور واحد ومات لحينه، فحمل أمره على أنه مات من الأمرين جميعا لاحتمال موته من كل واحد منهما احتمالا واحدا، لا يمكن أن يغلب أحدهما على صاحبه، ولابن القاسم في المجموعة أن في ذلك القسامة، قال: وهو كمرض المجروح بعد الجرح، يريد أن أولياء الميت يقسمون لمات من جرح الرجل إياه ويستوجبون جميع ديته على العاقلة إن كان الجرح خطأ أو الاستفادة منه إن كان الجرح عمدا، فإن لم يقسموا على هذا القول لم يكن لهم شيء.
قال: ومن شج موضحة فتراخى به برؤه حمى سقط عليه جدار فقتله أو قتل إن له نصف عقل الموضحة وذلك عندي من أجل أنه لا يدري لعله إنما مات من الموضحة ولو جرحه أولا ثم ضربته ذلك فلم يدر من أي الأمرين مات لكانت في ذلك القسامة والدية في الخطأ أو القصاص في العمد قولا واحدا؛ لأن الظاهر أنه مات من الأمر الآخر بمنزلة إذا جرح ثم مرض فمات وبالله التوفيق.

[مسألة: الرجل يجرح ثم يمرض فيموت]
مسألة قال وفي كتاب الصلح في الرجل يجرح ثم يمرض فيموت إن فيه القسامة.
قال محمد بن رشد: الدية على العاقلة في الخطأ، والقصاص في العمد، وهذا ما لا اختلاف فيه، لأنه لوحيي بعد الجرح حياة بينة ثم مات من غير أن يمرض لكان هذا هو الحكم فيه فكيف إذا مرض؟ وهذا إذا أثبت الجرح بشهادة شاهدين، وصفة اليمين في هذا أن يحلفوا لمات من الجرح الذي أصابه به لا من المرض الذي دخل عليه بعد ذلك، وسيأتي في أول نوازل سحنون الاختلاف ما إذا لم يشهد على الجرح إلا شاهد واحد ونتكلم على معناه - إن شاء الله -.

(15/488)


[مسألة: رجل قتل عمدا فأوصى أن تقبل ديته وأوصى بوصايا]
مسألة وقال في رجل قتل عمدا فأوصى أن تقبل ديته وأوصى بوصايا.
قال: ذلك جائز وتكون وصاياه فيمن يؤخذ من ديته وتكون الدية كغيرها من ماله.
قلت: أرأيت إن أوصى بالدية كلها لقوم بعد أن تقبض وليس له مال غيرها أتجوز وصيته فيها كلها كما كان يجوز له أن يعفو عن القتل والدية؟ فقال: لا يجوز له إلا في الثلث.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أوصى أن تقبل ديته وأوصى بوصايا إن وصاياه تكون فيما يؤخذ من ديته، وهو مثل ما قاله في أول رسم من سماع أصبغ من كتاب الوصايا، وإنما يصح ذلك على قياس القول بأنه إذا عفا عنه على الدية أو أوصى أن يعفا عنه على الدية إن ذلك يلزمه، وأما على القول بأن ذلك لا يلزمه إلا برضاه وهو المشهور من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك فلا يدخل فيها الوصايا، وإن أوصى أن تقبل، إذ ليس على يقين من أنه يرضى بذلك، كما لو قال: إن قبل ولاتي ديتي فوصيتي فيها، إذ ليس على يقين من قبول ولاته لديته.
وإنما لم تجز وصيته بالدية كلها إذا لم يمكن له مال غيرها، وإن كان يجوز له أن يعفو عن القتل والدية من أجل أن الدية ليس بمال للميت، غير أن السنة قد أحكمت أن يحكم لها بحكم مال الميت إذا قبلت، فلما لم تكن مالا للميت قبل أن تقبل كان للميت أن يعفو عنها، ولما صار حكمها إذا قبلت حكم مال الميت وجب أن لا تجوز وصيته، إذا أوصى بها لقوم إلا أن يحملها ثلثه، فإن لم يحملها ثلثه جاز لهم منها ما حمله الثلث وبالله التوفيق.

(15/489)


[مسألة: اتبعه الناس وهو قاتل فاقتحم بيتا فيه ثلاثة نفر لا يدري أيهم هو]
مسألة وعن رجل قتل إنسانا في وسط الناس، فاتبعه الناس وهو هارب فاقتحم بيتا، ودخلوا البيت بإثره فإذا فيه ثلاثة نفر لا يدري أيهم هو.
قال إن حلف كل واحد منهم خمسين يمينا أنه لم يقتله كان العقل عليهم ثلاثتهم، وإن نكل أحدهم كان العقل على من نكل.
قلت له: فإن حلفوا ثلاثتهم أنهم براء من قتله كيف تستحق عليهم الدية بقسامة أم بغير قسامة أو نكل أحدهم عن اليمين أيقسم عليه أم لا؟ قال بل تكون عليهم الدية بغير قسامة.
قال محمد بن رشد: قوله في آخر المسألة قال بل تكون عليهم الدية بغير قسامة، إنما هو جواب قلت له فإن حلفوا ثلاثتهم أنهم براء من قتله كيف تستحق عليهم الدية بقسامة أم غير قسامة لا جواب لقوله أو نكل أحدهم عن اليمين أيقسم عليه أم لا؟ لأنه لم يقع على ذلك جواب.
والجواب على ذلك إنما هو أنه لا يقسم على من نكل لأن اليمين في هذا لا ترجع في النكول على أولياء المقتول؛ لأن القتل قد ثبت على أحدهم من غير تعيين، فإن حلفوا كلهم أو نكلوا كلهم كانت الدية عليهم جميعا، وإن حلف بعضهم ونكل بعضهم عن اليمين كانت الدية على من نكل منهم واحدا كان أو اثنين، ولا يمين في شيء من ذلك كله على أولياء القتيل، وإيجاب القسامة على كل منهم هو على ما تقدم في تأخير العشاء من سماع ابن القاسم في أن المتهم بالدم يستحلف خمسين يمينا، لأن كل واحد منهم متهم بالدم إذ لم يعلم من هو القاتل منهم، هذا مذهب ابن القاسم في هذه المسألة، وسحنون يقول: إنه لا شيء عليهم، وشهادة البينة أنهم رأوه دخل فيهم ولا يعرفونه بعينه باطل.

(15/490)


[مسألة: قال أحد عبدي حر وهو صحيح مسلم فقتل أحدهما]
مسألة وسألته عن رجل قال أحد عبدي حر وهو صحيح مسلم فقتل أحدهما أو قتلا جميعا أو مات أحدهما وبقي الآخر وكان الذي قتلهما رجل واحد أو رجلان قتل كل واحد منهما رجل قبل أن يعلم بعتق واحد منهما، فقال السيد حين قتل الواحد، وبقي الآخر: إن المقتول هو الذي كنت أعتقته، وقال القاتل: أنت كاذب ومدعي الدية ومدرئ عن نفسك عتق هذا الباقي فلا يقبل قولك.
قال ابن القاسم القول قول السيد ويكون على القاتل قيمته عبدا ويصدق فيما زعم أنه كان أعتقه ولا يصدق في الدية، ويسترق الباقي منهما إذا ادعى السيد أن المقتول هو الذي أراد بالعتق، قال سحنون في العتق مثله إن القول قوله بعد أن يحلف بالله ما أردت إلا الميت ثم لا يكون للآخر من العتق شيء، وإن قال أردت الباقي حلف وعتق أيضا من جميع المال، وقال سحنون: ولو كان هذا القول منه في الصحة مثبتا بالبينة ثم قال في مرضه لم أكن أردت واحدا منهما بعينه عتق هذا الباقي من رأس المال وفيه تنازع، وهذا أصح ما نعلمه وبالله التوفيق.
قال عيسى: وقال لي: فقس ذلك بالرجل يقول إحدى امرأتي طالق فتموت إحداهما فيدعي الزوج أن الميتة هي التي أراد بالطلاق أن القول قوله ويمسك الباقية.
قال: ولو قال أيضا في العبدين لم أكن أعتقت بعد واحدا منهما حتى قتل إن الباقي من العبدين يعتق عليه، وتكون دية المقتول قيمة عبد.

(15/491)


قلت فلو قتلهما جميعا رجل واحد؟ فقال: إن السيد قد كنت أعتقت أحدهما كان على القاتل قيمتهما أيضا عبدين، ولو قال السيد: لم أكن أعتقت واحدا حتى قتلا لم يكن على قاتلهما إلا قيمتهما عبيدا أيضا؛ لأنهما عبيد حتى يعتق أحدهما بعد قوله أحدكما حر، قال: وسواء قتلهما واحد أو قتل كل واحد منهما رجل إن قال: لم أكن أعتقت منهما أحدا حتى قتلا لم يكن على قاتلهما إلا قيمتهما عبدين وقال قد كنت أعتقت أحدهما كان أيضا على ذلك لم يكن على قاتلهما إلا قيمتهما عبدين.
قلت أرأيت إن كان قال ذلك في وصية قال أحد عبيدي حر فقتل أحدهما أو جميعا قتلهما رجل واحد، وقتل كل واحد منهما واحد قيل أن يقوما ويعتقا.
قال ديتهما أبدا دية عبيد حتى يحكم فيهما بالعتق لأنهما لا يعتقان حتى يقوما، وإن قتل أحدهما أو مات وبقي الآخر فإنه يعتق في ثلث ما بقي، ويكون الذي مات منهما أو قتل كمن لم تكن فيه وصية، وهو بمنزلة الذي يقول عبد من رقيقي حر ثم يموتوا كلهم إلا واحدا أو مات منهم يكون كمن لم تكن فيه وصية ويعتق هذا الباقي في ثلث ما بقي من مال الميت.
قال محمد بن رشد: تلخيص هذه المسألة أنه إن قتل أحدهما فقال أردت بالعتق الذي قتل أو الذي بقي صدق في الوجهين جميعا مع يمينه، لأنه إن قال: أردت الميت؛ اتهم على أنه أراد إرقاق الباقي، وإن قال: أردت الباقي اتهم على أنه أراد أن يجر إليه ميراث الميت بالملك، إن كان له ورثة أحرار، وإن قال لم أرد واحدا منهما لم يكن له أن يجعل العتق لمن مات أو أعتق الباقي على كل حال، هذا هو قوله في هذه الرواية وفي رسم الصبرة من سماع يحيى من

(15/492)


كتاب العتق، وسواء قال: لم أرد واحدا منهما في صحته أو في مرضه على ما قاله سحنون، وقد حكى أن في ذلك اختلافا إذا قاله في مرضه، ويحتمل أن يكون الاختلاف الذي أشار إليه أن يعتق هذا الباقي، ويكون ما زادت قيمته على قيمة الميت في ثلثه.
وأما إن قتلا جميعا قتلهما رجل واحد أو رجلان فلا يصدق في أنه أراد واحدا منهما، ويكون على عاقلتهما قيمتهما عبدين، وإن كان قال ذلك في وصيته فقتلا جميعا كان على قاتلهما قيمتهما عبدين لأنهما عبدين حتى يقوما في الثلث، وإن قتل أحدهما أو مات فعتق الباقي منهما في الثلث وهو مما لا اختلاف فيه وبالله التوفيق.

[مسألة: جنين النصرانية من العبد النصراني]
مسألة وسئل عن جنين النصرانية من العبد النصراني.
قال: هو حر ديته دية جنين الحر.
قلت فما دية جنين الحر المسلم من النصرانية إذا طرح أو العبد المسلم من النصرانية قال دية جنين الحرة من الحر المسلم نصف عشر دية أبيه المسلم، ودية جنين النصرانية الحرة من العبد المسلم نصف عشر دية المسلم الحر، وهو بمنزلة أن لو كان أبوه حرا؛ لأنه على دين أبيه.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله؛ لأن الولد تبع لأبيه في الدين ولأمه في الحرية وبالله التوفيق.

(15/493)


[: شج موضحة فاستؤنى به البرء فسقط عليه جدار فقتله]
ومن كتاب أوصى
أن ينفق على أمهات أولاده قال: ومن شج موضحة فاستؤنى به البرء فسقط عليه جدار فقتله أو قتل: إن له عقل الموضحة.
قال محمد بن رشد: في المجموعة أن له نصف عقل الموضحة وقد ذكرنا ذلك في رسم العرية، وما في هذه الرواية من أن له عقل الموضحة أظهر، لأن الظاهر أنه مات من الأمر الآخر، ووجه ما في المجموعة أنه لما سقط عليه الجدار أو قتل قبل أن يبرأ من الموضحة لم يدر من أي الأمرين مات، وإن كان من الموضحة فلا يجب فيها شيء لأن الموت يأتي عليها، وإن كان من الأمر الآخر فالعقل فيها لازم فيجعل فيها النصف من أجل الشك، وهو ضعيف وبالله التوفيق.

[: يجرح فيعتقه سيده وهو مجروح ثم ينزى في جرحه فيموت]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك وسئل عن العبد يجرح فيعتقه سيده وهو مجروح ثم ينزى في جرحه فيموت، قال: قال مالك: عقله عقل حر الدية كاملة قلت: كان عمدا أو خطأ؟ قال: نعم كان عمدا أو خطأ، قلت بقسامة أم بغير قسامة؟ قال: بل بقسامة، وكيف يستحق دم من قد عاش صاحبه إلا بقسامة، قلت له: فما باله لا يقتل به في العمد؟ قال: القتل عظيم للشبهة التي دخلته، ولو قال قائل ديته دية عبد لكان له مطعن فلا أرى له في العمد والخطأ إلا الدية، فلو كان الجارح أنفذ مقاتله فأعتقه سيده على تلك الحال قال أليس يورث بالحرية قلت: بلى. قال فسواء أنفذ مقاتله أم لا أرى فيه الدية كاملة.

(15/494)


قال محمد بن رشد: لأشهب في كتاب ابن سحنون أن ديته دية عبد لسيده وهو القياس، لأنه وإن كان مات وهو حر فإنما مات من الجرح الذي أصيب به وهو عبد، وقول ابن القاسم وروايته عن مالك في هذا استحسان لأنه هو راعي حاله يوم الجرح فيوجب القيمة لسيده، ولا يوم الموت فيوجب القصاص على قاتله وأوجب الدية كاملة في ماله مع القسامة إذا ثبت الجرح أو بقول المقتول بعد عتقه أو بعد إسلامه على ما قاله في سماع سحنون يريد في العمد والخطأ لأن أصل الجناية في حال الرق والعاقلة لا تحمل الجناية على العبد، فكما لا يقتص من الجاني من أجل أن الجناية بحال الرق، فكذلك لا تكون الدية في الخطأ على العاقلة من أجل أن أصل الجناية في حال الرق، ولو لم يمت العبد بعد العتق من ذلك الجرح إلا أنه تراقى إلى مأمومة أو إلى شيء آخر فأما إذا تراقى إلى شيء آخر مثل أن يجرحه موضحة أو يقطع أنفه وهو عبد فيذهب من ذلك بعد عتقه عينه أو ما أشبه ذلك فللسيد في الموضحة نصف عشر قيمته، وفي قطع أنفه ما نقص من قيمته، وللعبد في ذهاب عينه دية عين حر خمسمائة في مال الحر أيضا إن كان الجاني حرا وفي رقبة العبد إن كان الجاني عبدا يخير سيده بين أن يفتكه بذلك أو يسلمه إلا أن يشاء السيد القصاص إن كانت الجناية عمدا والجاني عليه عبد فلا يكون له إلا ذلك وليس له هو قصاص فيما تراقى إليه جرحه بعد العتق للشبهة في ذلك بكون الجرح في حال الرق، كما لا يقتص منه في العمد إذا آل الجرح بعد العتق إلى النفس للشبهة التي دخلته، وأما إذا تراقى إلى زيادة في الجرح لا إلى شيء آخر مثل أن يجرحه وهو عبد موضحة فتصير بعد عتقه منقلة أو مأمومة أو منقلة فتصير مأمومة وما أشبه ذلك ففيه اختلاف قيل: إنه يكون عليه لسيده عقل موضحة العبد نصف عشر ثمنه، ويكون له هو ما بين الموضحة والمنقلة أو المأمومة من دية الحر بمنزلة إذا تراقى إلى شيء آخر، وهو قول سحنون في أول سماع ابن القاسم من كتاب الجنايات، والذي يأتي على مذهب ابن القاسم وأحد قولي مالك في أول سماع ابن القاسم من كتاب الجنايات في أن من

(15/495)


جرح موضحة فصارت منقلة يقتص له من الموضحة، ويكون له عقل ما بين الموضحة والمنقلة، ويأتي على قياس القول بأنه ليس له إلا عقل المأمومة أن يكون للسيد إذا اعتق عبيده بعد أن جرح موضحة فصارت منقلة عقل منقلة، وقال ابن الماجشون على جارحه دية منقلة حر يريد للعبد المعتق فحكم للمجروح بمال آل إليه المجروح من المنقلة، وهذا القول الثالث أبعد الأقوال، لأنه جعل تراقي الجرح بعد إلى العتق إلى مأمومة كتراقيه إلى الموت على مذهب ابن القاسم الذي يرى في ذلك الدية دية الحر كاملة.
وأما قوله إذا أنفذت مقاتله وهو عبد ثم أعتق إن فيه الدية كاملة؛ لأنه يورث بالحرية ففيه نظر، والقياس أن تكون قيمته لسيده وميراثه له بالرق، وقد روى عن سحنون فيمن انفذت مقاتله أن وصيته لا تجوز وقع ذلك من قوله في الجهاد من النوادر، فعلى قوله لا يرث ولا يورث، وقال غيره إن وصية جائزة وقد أوصى عمر حين طعن فجازت وصيته فقول ابن القاسم في هذا يأتي على قياس رواية أبي زيد فيمن أنفذ مقاتل رجل ثم أجهز عليه آخر إن الآخر يقتل به ويعاقب الأول.
فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال بالتفرقة بين أن يعتق العبد أو يسلم النصراني قبل أن تنفذ مقاتله أو بعد أن أنفذت مقاتله وبالله التوفيق.

[: حبس الرجل في القتل فعفي عنه بعد التثبت]
ومن كتاب لم يدرك وقال إذا حبس الرجل في القتل فعفي عنه بعد التثبت بالبينة أو بالقسامة جلد مائة واستقبل به حبس سنة من يوم يجلد ولا يحسب في السنة ما حبس قبل ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن الحبس الذي حبس قبل

(15/496)


العفو حق للولي والحبس الذي بعد العفو حق لله فلا يدخل أحدهما في الآخر وبالله التوفيق.

[مسألة: الثور العقور إذا عرف بالعداء على الناس]
مسألة وقال في الثور العقور والجمل الضول والكلب العقور أو شيء من العجماء إذا عرف بالعداء على الناس أمر صاحبه بذبحه وتقدم إليه، فإن عقر أحدا بعد التقدم فهو ضامن له في ماله. قلت فلو كان الثور قد قتل رجلا بعد التقدم إلى سيده ولم يشهد على قتله إلا شاهد واحد هل يحلف ورثة الميت مع شاهدهم ويستحقون الدم؟ قال: نعم يحلفون يمينا واحدة كما يحلف في الحقوق، ويستحقون الدم مع شهادة شاهدهم، وقال لا يكون شيء مما عدوا به على الناس على العاقلة، وإنما ذلك في ماله خاصة وإن بلغ الدية كاملة.
قال محمد بن رشد: قوله إن عدا بعد التقدم إليه فهو ضامن يريد وإن كان التقدم إليه بالجيران دون السلطان، وهو مثل ما في المدونة خلاف ما في سماع عبد الملك بن الحسن من كتاب السلطان أنه لا يضمن إلا أن يتقدم إليه في ذلك بالسلطان، وقد قيل إنه ضامن وإن لم يتقدم إليه ولا أشهد عليه، قاله أشهب وسحنون في الحائط إذا بلغ مبلغا يجب عليه هدمه فتركه، وكذلك يلزم على قياس قولهما في الكلب العقور والجمل الصؤول أنه لا ضمان على صاحبهما بحال، وإن تقدم إليه، فهو قول رابع في المسألة، وقد مضى هذا في سماع يحيى وعبد الملك من كتاب السلطان.

(15/497)


وقوله إنه لا يكون على العاقلة من ذلك شيء وإن كان المعقور حرا خلاف قول ابن وهب في سماع زونان من كتاب السلطان إن ذلك على العاقلة إن بلغ الثلث فصاعدا، وقول ابن القاسم أظهر أن لا يكون على العاقلة من ذلك شيء لأن العاقلة لا تحمل العمد وهذا فيه شبه من العمد؛ لأنه متعد في حبس هذا الحيوان المؤذي حيث لا يجوز له.
وقوله: إنه يستحق ذلك باليمين مع الشاهد الواحد كالحقوق صحيح على قوله في أنه لا يكون على العاقلة من ذلك شيء، ولا يحلف على قياس قوله مع قول العقور، وحكى ابن مزين عن أصبغ أن ذلك لا يثبت إلا بشهادة شاهدين وأنكر رواية عيسى هذه، ويأتي على قياس قول ابن وهب أن يستحق ذلك بما يستحق به دم الخطأ من القسامة وغير ذلك، روى عيسى عن ابن القاسم أنه إن قتل رجل الجمل الصؤول بعد التقدم إلى صاحبه فذكر أنه أراده وصال عليه فلا غرم عليه فيه، ويقبل قوله في ذلك، يريد مع يمينه بغير بينة إذا كان بموضع ليس يحضره الناس، وهذا على ما مضى تحصيل القول فيه في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع في الذي يدعي ضياع ما أؤتمن عليه مما لا يغاب عليه، وبالله التوفيق.

[مسألة: قوما أقسموا على رجل فقال أنا قتلته]
مسألة وسألته عن الرجل يقتل فيدعي دمه قبل رجل صالح فيصالح عليه ورثته على شيء يدفعه إليهم، ثم يقوم رجل فيقول أنا قتلته.
قال: إن شاء ولاة الدم تماسكوا بصلحهم وأمضوه وإن شاءوا قتل الذي أقر لهم وفسخ الصلح، قلت: وكيف يكون الصلح أبعد أن تثبت لهم القسامة؟ قال: وإن لم تثبت لهم القسامة إذا قال لهم المدعي عليه ما تصنعون بالبينة وطلبها؟ صالحوني فإذا صالحهم جاز الصلح فهم مخيرون في أن يمضوا الصلح وفي أن يقتلوا الذي أقر لهم.

(15/498)


قلت بقسامة أو بغير قسامة؟ قال: بغير قسامة قلت: فلو أن قوما أقسموا على رجل، فقال أنا قتلته؟ قال: ما أخذت الأول إلا من هذا، هم مخيرون إن شاءوا قتلوا الذي أقسموا عليه، وإن شاءوا الذي أقر لهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في أول سماع عيسى، إذ لا فرق بين أن يقر الرجل بقتل الرجل بعد أن صالحوا غيره، أو أقسموا عليه أو وجبت لهم القسامة عليه، فلا معنى لإعادة شيء منه.

[مسألة: أصاب الكلب العقور في الموضع الذي لا يجوز اتخاذه قبل التقدم إليه]
مسألة قال ابن القاسم: وما أصاب الكلب العقور في الموضع الذي لا يجوز اتخاذه قبل التقدم إليه فصاحبه ضامن.
قال محمد بن رشد: هذا بين أن الاختلاف الذي ذكرناه فيما تقدم في هذا الرسم إنما هو إذا اتخذه في الموضع الذي يجوز له فيه اتخاذه والله الموفق.

[: نصراني حر قتل عبدا مسلما عمدا]
ومن كتاب سلف دينارا وقال في نصراني حر قتل عبدا مسلما عمدا، قال فيه اختلاف، ورأى أن يقتل به، قال سحنون أرى عليه قيمته وهو سلعة من السلع.
قال محمد بن رشد: قوله وأرى أن يقتل به معناه إذا أراد سيد العبد المقتول أن يستفيد منه، وأما إن أراد أن يضمنه قيمة عبده ولا يقتله به فلا اختلاف في أن ذلك له، وإنما الاختلاف إذا أراد أن يقتله، فقيل: إن ذلك ليس له وهو الأظهر من جهة اتباع ظاهر ما في القرآن، وذلك أن الله تعالى قال

(15/499)


في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] فعم ولم يخص مسلما من كافر، والمعنى في قوله كتب عليكم القصاص أن كتب عليكم الحكم به، فوجب أن يحمل على عمومه في الكافر والمسلم، وقال عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] والولي المختص بالرجل هو العاصب والذي له الميراث والعبد لا عاصب له يرثه؛ لأن ميراثه لسيده الذي يملك رقبته وهو ماله، وقيل إن ذلك له، وهو الأظهر من جهة المعنى، وذلك أن القصاص إنما يكون في الموضع الذي تتكافأ فيه الدماء بالحرية والإسلام أو يكون دم المقتول أعظم حرمة من دم القاتل بحرية أو إسلام؛ لأنه إذا كان المسلم يقتل بالمسلم لتكافئ دمائهما بالحرية فالنصراني أحق أن يقتل به لنقصان مرتبته عن مرتبة المسلم، وإذا كان الحر يقتل بالحر لتكافئ دمائهما بالحرية، فالعبد أحرى أن يقتل به لنقصان مرتبته عن مرتبة الحر، فإذا قتل النصراني الحر العبد المسلم فللنصراني مزية على العبد بالحرية، وللعبد عليه مزية بالإسلام، وحرمة الإسلام أعظم من حرمة الحرية، فوجب أن يقتل به ويجعل الآية في قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] مخصوصة على المسلمين المخاطبين بها، بدليل قوله فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ} [البقرة: 178] .
وقوله: في آخر الآية الأخرى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] يحتمل أن يدخل فيه السيد؛ لأنه أحق بعيده، وهو يرثه فيكون له بمنزلة العاصب للحر، وهذا القول أظهر وهو قول ابن القاسم أيضا بعد هذا في هذا الرسم، وقول أشهب في سماع عبد الملك والله أعلم.

(15/500)


[مسألة: القصاص من حق أولياء المقتول]
مسألة وقال ابن القاسم إذا تساوق النصراني إلى حكم المسلمين في قتل وقع بينهم، فقال النصراني القاتل: ليس في ديننا قتل ولا قود.
قال: لا يقبل منه في ذلك لأنه من الفساد وعلى حكم المسلمين أن ينظر في ذلك، فإن شهد عنده على القتل شهيدا عدل من المسلمين مثل من شهد عليه قال عيسى: يسلم إلى أولياء النصراني فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا استحيوه، فإن عفوا رأيت الإمام أن يضربه مائة ويسجنه سنة.
قال محمد بن رشد: قول عيسى مفسر لقول ابن القاسم، لأن القصاص من حق أولياء المقتول، وضرب مائة وسجن سنة حق لله تعالى لا يجوز العفو عنه، والمسألة بينة صحيحة لا اختلاف فيها؛ لأن القتل العمد من التظالم الذي يجب على الإمام الحكم فيه بين أهل الذمة، وإنما اختلف فيما لم يكن من التظالم كالربا وشبهه من طلاقهم وحدودهم هل يجب على الإمام الحكم بينهم فيه إذا ارتفعوا إليه وحكموه، فقيل إن ذلك يجب عليه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقيل إن ذلك لا يجب عليه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] وقد مضى الكلام في الاختلاف في تأويل الآيات في هذا واختلاف العلماء في الحكم في ذلك لاختلافهم في تأويلها مستوفى في رسم لم يدرك من سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب فلا معنى لإعادته.

(15/501)


[مسألة: إذا قتل اليهودي الحر أو النصراني عبدا مسلما]
مسألة وقال ابن القاسم: إذا قتل اليهودي الحر أو النصراني عبدا مسلما قتلا به، وإن قتل العبد المسلم النصراني الحر أو اليهودي الحر لم يقتل به وخُيِّرَ صاحبه في أن يفتكه بديته أو يسلمه فيباع له، وقال غيره: لا يقتل واحد منهما؛ لأن العبد مال من الأموال ولكن يضرب ويغرم قيمة العبد.
قال محمد بن رشد: غير ابن القاسم هو قول سحنون الذي تقدم في أول الرسم، وقد مضى الكلام فوق هذا في قتل النصراني الحر العبد المسلم وتوجيه الاختلاف فيه فلا وجه لإعادته.
وأما إذا قتل العبد المسلم النصراني الحر فلا اختلاف في أنه لا يقتل به إذ لا تتكافأ دماؤهما؛ لأن حرمة الإسلام أعظم من حرمة الحرية، فهي جناية من العبد يخير سيده في إسلامه فيها فيباع له إذ لا يمكن النصراني من ملك العبد المسلم أو افتكاكه بها كما قال، وكذلك إذا جرحه يخير السيد في افتكاكه بالجناية أو إسلامه بها إلا أنه يختلف إن أسلمه بها فكان ثمنه أكثر من الجناية فقيل إنه يكون له ثمنه كله، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه في المدنية، قال وكذلك قال مالك، وروى محمد بن صدقة عن مالك مثل ذلك، وقال مطرف وابن الماجشون في ثمانية أبي زيد إذا أبى سيده أن يفتديه بيع وأعطي النصراني من ثمنه دية جرحه فإن فضل فضلٌ فهو لسيده، قال أصبغ بن الفرج: وقد كان مالك يقول هذا في موطئه، ثم رجع عنه وقال يعطى ثمنه كله للنصراني، وهو أصوب القولين عندنا وبالله التوفيق.

[مسألة: المدبر يقتل سيده عمدا أو خطأ]
مسألة وسئل عن المدبر يقتل سيده عمدا أو خطأ.

(15/502)


قال: إن كان قتله خطأ عتق في ماله ولم يعتق في ديته، وكانت الدية عليه دينا، وليس على عاقلته منها شيء لأنه إنما صنع ما صنع وهو مملوك قال أصبغ، وهذا إذا حمله الثلث، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه مبلغ الثلث، وكان عليه من الدية بقدر ما عتق منه، ويؤخذ من ماله إن كان له مال أو يتبع به دينا إن لم يكن له مال ولا يدخل فيما يؤخذ منه من الدية ولا يعتق فيها منه شيء، قال عيسى: قال ابن القاسم: وإن كان قتله عمدا قتل به، فإن كان استحياه الورثة بطل تدبيره وكان عبدا مملوكا قلت لسحنون: فلو فعلت ذلك أم الولد لسيدها خطأ؟ قال: تعتق في ماله، وتكون الدية عليه دينا تتبع به في ذمتها، ولا يكون على عاقلتها منها شيء، وإن كانت قتلته عمدا قتلت به إلا أن يستحييها الورثة على أمر يصطلحون به.
قال محمد بن رشد: أما مسألة المدبر يقتل سيده عمدا أو خطأ فكما قال: لا اختلاف فيه، وقول أصبغ تفسير له، وقد مضت المسألة في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب المدبر.
وأما قول سحنون في أم الولد تقتل سيدها خطأ إنها تعتق في رأس ماله، وتكون الدية عليها دينا تتبع به في ذمتها، ولا يكون على عاقلتها منه شيء ففيه اختلاف، حكى ابن حبيب عن أصبغ عن ابن القاسم أنها تعتق، ولا تتبع هي ولا عاقلتها بشيء بخلاف المدبر، وقال أصبغ من رأيه: إنها تتبع مثل قول سحنون، فغلب ابن القاسم في حقها حكم الحرية فلم يلزمها الدية لأن ما جنى الحر خطأ فهو على العاقلة لا عليه، ولم يوجب على عاقلتها شيئا إذ لا تحمل العاقلة إلا جناية من قد بتلت حريته، ويلزم على قياس قوله أن يلزمها من الدية ما يجب عليها منها مع العاقلة، وأما أصبغ وسحنون فغلبا في أمرها حكم الرق على حكم الحرية لأن أحكامها أحكام أمة حتى يموت سيدها، والجناية منها عليه متقدمة على موته منها، فأشبهت عندهما المدبر يجني على

(15/503)


سيده ثم يعتق في الثلث أن الورثة يتبعونه بما بقي عليه من جنايته بعد خدمته ولا يشتبهان؛ لأن أم الولد لا تتبع بما جنت على سيدها، وقد قال غير ابن القاسم في المدونة: إن المدبر لا يختدمه سيده بالجناية ولا يتبع بعد عتقه بها، فكيف بأم الولد.
واختلف أيضا في المكاتب يقتل سيده فيستحيى، فقال ابن القاسم إنه لا يتبع إلا بالكتابة، وقال عبد الملك جنايته على سيده كجنايته على أجنبي إما ودي الدية معجلة وإلا عجز.
وأما جناية المعتق إلى أجل ثم يخرج حرا ويتبع بما بقي، وقال عبد الملك: يتبع بجميع الدية ولا يحتسب على الورثة بخدمته وبالله التوفيق.

[: إذا وقع الذباب على الدابة فنفخت إنسانا]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار وقال ابن القاسم إذا وقع الذباب على الدابة فنفخت إنسانا لم يكن على راكبها شيء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مثل ما في المدونة وغيرها، لأن ما لم يكن له فيه سبب فهو هدر لأن جرح العجماء جبار بالسنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

(15/504)


[مسألة: أصاب رجلا بجراح فأراد أن يصالحه في الجراحات بشيء]
مسألة وسئل عن رجل أصاب رجلا بجراح فأراد أن يصالحه في الجراحات بشيء يعطيه عن الجراح والموت إن كان.
فقال لا يصلح الصلح على وضع الموت، ولكنه يصالحه على شيء معلوم ولا يدفع إليه شيئا فإن برئ كان له ما صولح عليه، وإن مات كانت فيه القسامة والدية إن كان خطأ بعد أن يقسموا أو القتل إن كان عمدا.
قال محمد بن رشد: لم يجز ابن القاسم في هذه الرواية الصلح في جراحات العمد، والخطأ عليها وعلى ما تراقت إليه من موت أو غيره جملة من غير تفصيل.
وفي ذلك تفصيل.
أما جرح الخطأ فيما دون الثلث كالموضحة وشبهها فلا اختلاف في أن الصلح فيها على ما تراقت إليه من موت وغيره لا يجوز، لأنه إن مات كانت الدية على العاقلة فهو لا يدري يوم صالح ما يجب عليه مما لا يجب، فإن وقع الصلح على ذلك فسخ متى ما عثر عليه، فإن برئ كانت عليه دية للموضحة، وإن مات كانت الدية فيه على العاقلة بقسامة.
وأما جرح الخطأ فيما فوق الثلث فيتخرج جواز الصلح فيه على ما يتراقى إليه من موت أو غيره على قولين أحدهما أن ذلك لا يجوز، وهو قوله في هذه الرواية وظاهر ما حكى ابن حبيب في الواضحة إذ لم يفرق في جرح الخطأ بين أن يكون أقل من الثلث أو أكثر منه، والثاني أن ذلك جائز إذ لا غرر فيه؛ لأن دية الجراح إنما تجب على العاقلة كما يجب عليه دية النفس، فكأنه إنما صالح عن العاقلة.

(15/505)


وأما جرح العمد فيما فيه القصاص فالمصالحة فيه على وضع الموت جائزة على ظاهر ما في الصلح من المدونة، وما نص عليه ابن حبيب في الواضحة خلاف قوله في هذه الرواية، والجواز فيها أظهر لأنه إذا كان للمقتول أن يعفو عن دمه قبل موته جاز أن يصالح عنه بما شاء.
وأما جرح العمد الذي لا قصاص فيه فلا يجوز الصلح فيه على وضع الموت، حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة ولا أعرف فيه نص خلاف.
وأما الصلح فيه على الجرح دون وضع الموت فأجازه ابن حبيب فيما له دية مسماة كالمأمومة والمنقلة والجائفة، قال في موضع واحد: إن الصلح فيه جائز على ما تراقى إليه مما دون النفس، وقال في موضع آخر لا يجوز إلا فيه بعينه على ما تراقى إليه من زيادة ولم يجزه فيما لا دية له مسماة إلا بعد البرء، فهذا تحصيل الاختلاف في هذه المسألة.
واختلف إذا صالحه على الجرح الخطأ أو العمد خاصة فنزي في جرحه فمات على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن أولياء المجروح بالخيار بين أن يتمسكوا بصلحهم وبين أن يردوا ما وقع به الصلح فيقسموا ويقتلوا في العمد ويأخذوا الدية في الخطأ من العاقلة، وهو قول أصبغ في الواضحة.
والثاني: أنه ليس لهم أن يتمسكوا بالصلح لا في العمد ولا في الخطأ إلا برضى القاتل، لأن من حقه أن يقول في العمد قد عادت الجناية فليس لكم أن تتمسكوا بالصلح، لأنه إنما لهم القسامة والقود، هو قول أشهب على أصله في أن من قطعت يده فنزي فيها فمات أن أولياء القتيل إنما لهم أن يقسموا ويقتلوا، وليس لهم القود في الجرح إن أبوا من القسامة، لأن الدم آل إلى النفس كما أن من حقه أن يقول في الخطأ قد عادت الجناية إلى النفس، ووجبت الدية على العاقلة بقسامتكم فردوا عليَّ مالي.
والثالث: الفرق بين العمد والخطأ وهو مذهب ابن القاسم وظاهر قوله في المدونة وفي رسم المكاتب من سماع يحيى بعد هذا فيخير ورثة المقتول في العمد بين أن يتمسكوا بالصلح وبين أن يردوه ويقسموا

(15/506)


فيقتلوا على أصله في أن من قطعت يده فنزي فيها فمات أن الورثة بالخيار بين أن يقسموا ويقتلوا وبين أن يقطعوا يده ولا يقسموا ولا يخيروا في الخطأ، فيردون على الجارح ما أخذ منه في الصلح ويقسمون فيستحقون الدية على العاقلة، وبالله التوفيق.

[: قتل عمدا وله مائة دينار وعليه مائة دينار وقد أوصى بوصايا]
وفي كتاب جاع فباع امرأته قلت: فلو قتل عمدا وله مائة دينار وعليه مائة دينار، وقد أوصى بوصايا فعفا عن القاتل فأخذت الدية.
قال: يقضي المائة الدين من المائة التي علم، وتكون الدية خالصة لورثة المقتول وتسقط الوصايا.
قلت: فلو كان ترك مائة دينار وخمسة وأربعين دينارا وعليه مائة دينار دين وأوصى بوصايا ثم طرأ له مال بعد الموت؟ قال يقضي المائة من هذا المال الذي علم به، وينظر إلى ما فضل وذلك خمسة وأربعون دينارا فتكون لأهل الوصايا خمسة عشر دينارا يتحاصون فيها على قدر وصاياهم، إلا أن يكون في الوصية عتق فيبدأ به في الخمسة عشر دينارا على أهل الوصايا، ويكون لورثة الميت ثلاثون دينارا، ويكون المال الطارئ لأهل ميراثه لا يدخل فيها شيء من وصاياه إلا أن يكون تدبيرا فإن كان مدبر ووصايا فإن المدبر يعتق بعد إخراج الدين فيما علم وفيما لم يعلم.
وتفسير ذلك أنه لا ينظر في ثلث هذا المال الذي علم به بعد إخراج الدين منه، فإن كان ثلثه مائة دينار وثلث المال الطارئ مائتان قسمت قيمة المدبر على الثلث والثلثين فعتق ثلثاه في ثلث الطارئ

(15/507)


وثلثه في ثلث المال الذي علم به، فإن فضل من ثلث المال الذي علم به بعد عتق ثلث المدبر فيه شيء كان ما فضل لأهل الوصايا، وإن لم يفضل شيء فلا شيء لهم، وإن أحاط الذين بجميع المال الذي علم به سقطت الوصايا، ورجع المدبر فعتق به في ثلث المال الطارئ أو ما حمل منه الثلث.
قال ولو كان الدين أكثر من المال الذي علم به الميت قضى صاحب الدين المال الذي علم به الميت، ورجع فتقاضى بقية حقه من المال الطارئ، ثم كان المدبر في ثلث ما بقي من المال الطارئ وسقطت الوصايا.
قال محمد بن رشد: لم يفرق في هذه الرواية بين تدبير الصحة والمرض، وقال إنه يدخل فيما علم الميت من المال، وفيما لم يعلم بظاهر قوله: إن المدبر في المرض يدخل فيما لم يعلم به الميت من المال، وهو نص قوله في رسم المدبر من سماع أصبغ من كتاب المدبر، ونص قوله أيضا في المدنية من رواية عيسى عنه خلاف مذهبه في المدونة من أنه لا يدخل فيما لم يعلم به الميت من المال إلا المدبر في الصحة.
واختلف في المبتل في المرض هل يدخل فيما لم يعلم به الميت من المال أم لا؟ فالمنصوص عليه لابن القاسم في رسم المدبر من سماع أصبغ من كتاب المدبر أنه لا يدخل فيما لم يعلم به من المال بخلاف المدبر في المرض، وقد مضى هناك الكلام إذا اجتمعا جميعا على هذا القول وللميت مال قد علم به ومال لم يعلم به، فلا معنى لإعادته.
وسائر ما ذكره في هذه الرواية من أن الوصايا لا تدخل فيما يطرأ

(15/508)


للميت من مال لم يعلم به صحيح لا اختلاف فيه.
وما ذكره من أنه إذا كان على الميت من الدين مثل ما ترك من المال وطرأ له مال لم يعلم به أن الدين يخرج من المال الذي علم به، ولا يكون لأهل الوصايا شيء من المال الذي لم يعلم به، بين لا إشكال فيه والحمد لله.

[مسألة: قتل عبدا وله وليان وترك مائة دينار وعليه مائة دينار دينا]
مسألة قلت: فلو أن رجلا قتل عبدا وله وليان وترك مائة دينار وعليه مائة دينار دينا، فعفا أحد الوليين عن الدم والدية وأخذ الذي لم يعف منها من الدية خمسمائة دينار؟
قال: تفض المائة الدين على المائة التي مات عنها الميت وعلى الخمسمائة التي أخذت من الدية، فيصيب كل مائة من الدين ما أصابها عنده، ثم يرجع الذي لم يعف فيقاسم صاحبه ما بقي من المائة التي مات عنها الميت بعد إخراج سدس المائة الدين منها.
وتفسير ذلك أن حسابها يقوم من اثني عشر سهما، ألا ترى لو أن الميت لم يكن عليه دين، وقد مات عن مائة دينار لكان لهذا الخمسمائة دينار من الدية خالصا، وكان له نصف المائة التي مات عنها، فصار له إذا ضمت الخمسمائة إلى المائة، ثم قسمت صار للذي لم يعف أحد عشر جزءا من اثني عشر جزءا، وللذي عفا جزء من اثني عشر جزءا، وذلك خمسون دينارا، فأحببنا أن نفرق بهذا ما يرجع به هذا الذي عفا على الذي كان لم يعف في الخمسمائة التي أخذ من الدية إذا قضيت هذه المائة الدينار التي مات عنها هذا

(15/509)


الغريم، فقلنا تقسم الخمسمائة على اثني عشر جزءا، فيكون للذي لم يعف أحد عشر جزءا، ويصير للذي عفا جزء، فيصير له في الجزء من الخمسمائة دينار من الاثني عشر جزءا أحد وأربعون دينارا وثلثا دينار.
قال محمد بن رشد: في قوله في هذه المسألة: فيصير له في الجزء من الخمسمائة دينار من الاثني عشر جزءا تقديم وتأخير يحصل منه بعض إشكال، وصوابه فيصير له من الخمسمائة في الجزء من الاثني عشر. وهي مسألة صحيحة مثل التي تقدمت في آخر أول رسم من هذا السماع، ومضى بيانها هناك على ما نزلها فيه من الدين كان خمسمائة، والذي ترك الميت من الناض خمسمائة، وهذه ذكر فيها أن الدين مائة، والذي ترك الميت من الناض مائة، فهي على قياس تلك سواء، لأن الواجب فيها أن يكون على كل واحد منهما من المائة الدين بقدر ما يجب له من المال، والذي يجب للذي عفا من الابنين خمسون دينارا لا أكثر نصف المائة الناضة التي ترك المتوفى، ويجب للذي لم يعف خمسمائة، وخمسون نصف المائة الناضة التي تركها المتوفى، والخمسمائة التي صارت له من الدية إذا لم يعف كما عفا أخوه، فيجب على الذي عفا من الدين بقدر ما صار له من المال، وذلك نصف سدسه: ثمانية وثلث، يبقى له من الخمسين أحد وأربعون وثلثان؛ ويجب على الذي لم يعف من الدين بقدر ما صار له أيضا من المال، وذلك خمسة أسداسه ونصف سدسه: أحد وتسعون وثلثان، يبقى له من الخمسمائة وخمسين أربعمائة وثمانية وخمسون وثلث، فإن قبض صاحب الدين المائة الناضة في دينه وبقيت بين الابن الذي لم يعف الخمسمائة التي صارت له من الدية، رجع عليه الذي عفا بالواجب له من الخمسمائة إذ قد أخذ صاحب الدين المائة الناضة، وذلك أحد وأربعون وثلثان كما قال في الرواية، ويبقى للأخ الآخر من الخمسمائة أربعمائة وثمانية وخمسون وثلث، وبالله التوفيق.

(15/510)


[مسألة: الدين يخرج من رأس المال والمدبر لا يخرج إلا من الثلث]
مسألة قلت: فلو قتل وله وليان وله مدبر، فعفا أحد الوليين عن الدم والدية، وأخذ الآخر الدية خمسمائة دينار، ولم يترك إلا المدبر وحده.
قال: (كذا) مخالف للدين، لأن الدين يخرج من رأس المال، والمدبر لا يخرج إلا من الثلث. ويقال للذي عفا كم كان يكون لك من هذا المدبر لو لم يكن دية ولا غيره ولم يترك مالا سواه؟ قلنا له: ثلاثة وثلاثون دينارا وثلث دينار، لأن قيمة المدبر مائة دينار، قلنا: فالمدبر سيتم عتقه في الخمسمائة دينار، فيعتق المدبر ويرجع هذا على صاحبه الذي لم يعف وأخذ الخمسمائة دينار بثلاثة وثلاثين وثلث دينار، ولا يكون سبيله هاهنا سبيل الذي مر كما قال من قال بفض قيمة المدبر على الخمسمائة دينار، وهذا خطأ، لا يكون الذي عفا أحسن حالا إذا لم يعف صاحبه وأخذ الدية منه لو قتلاه جميعا، ولم يأخذا دية، ألا ترى أنهما لو قتلاه لم يكن له إلا ثلاثة وثلاثون وثلث، ولصاحبه ثلاثة وثلاثون وثلث، ويعتق منه ثلاثة وثلاثون وثلث؟ فهذا أبين من ذلك، وهو الصواب - إن شاء الله -.
وهذا كله إذا كان القتل عمدا، لأن العمد لم يعف الذي عفا عن مال وإنما عفا عن دم، فلذلك جاز عفوه ولم يضمن الدين.
وأما إذا كان خطأ فليس لأحد عفو حتى يخرج الدين ويخرج ثلث ما

(15/511)


بقي بعد الدين للمدبرين ولأهل الوصايا وإن أحاطت وصاياهم بذلك أو بما أحاطت منه، ويكون ما بقي ميراثا لورثته يجوز عفوهم وقضاؤهم فيه، وأما إذا كان القتل عمدا فعفوا عن جميع الدم والدية فليس لأهل الدين ولا للمدبرين ولا لأهل الوصايا قليل ولا كثير، لأنهم إنما عفوا عن دم ولم يعفوا عن مال.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: هذا مخالف للدين؛ لأن الدين يخرج من رأس المال والمدبر لا يخرج إلا من الثلث، صحيح في أنهما يفترقان في أن أحدهما من الثلث والآخر من رأس المال، إلا أنهما وإن افترقا في هذا فهما يجتمعان في أنهما جميعا مفضوضان على ما علم به الميت من المال وعلى ما لم يعلم به مما أخذه أحد الوليين من الدية، فالقياس في المدبر أن يكون سبيله سبيل الدين، كما قاله بعض من قاله، فيفض قيمة المدبر على الخمسمائة دينار يريد وعلى قيمته، فإن كانت قيمته في التمثيل مائة عتق منه سدسه في قيمته وخمسة أسداسه في الخمسمائة، فيرجع الذي عفا على الذي لم يعف وأخذ الخمسمائة بخمسة أسداس قيمة المدبر، ولا يمتنع أن يكون الذي عفا في هذا أحسن حالا إذا لم يعف صاحبه وأخذ الدية منه أو قتلاه جميعا، ولم يأخذا دية ولو عفيا جميعا ولم يأخذ واحد منهما دية كما لم يمتنع أن يكون في الدين أحسن حالا إذا أخذ أحدهما دية منه إذا قتلا جميعا، ولم يأخذا دية ألا ترى أنه لو ترك مائة وعليه دين مائة إن قتلاه جميعا لم يحصل له من المائة شيء؛ لأن الدين يكون أولى بها وأن أخذ أحدهما دية كان الدين مفضوضا على المالين فيحصل له نصف ما بقي منهما بعد ما نابهما من الدين، فقول المخالف هذا القياس، وقول ابن القاسم استحسان.
وقوله: وهذا كله إذا كان القتل عمدا إلى آخر المسألة صحيح بين لا إشكال فيه ولا موضع للقول، لأن الدية في الخطأ واجبة.

(15/512)


فعفو المقتول خطأ عن دمه وصية منه بالدية يكون في ثلثه، وعفو من عفا من الورثة هبة لما وجب له منها بالميراث، وكذلك إن عفوا كلهم فلا يصح عفوهم إلا بعد أداء الدين وتنفيذ الوصايا.
وأما دية العمد فليست بواجبة فعفو الميت عن دمه جائز، وكذلك عفو الأولياء وعفو من عفا منهم.
فإن أوصى الميت بقبول الدية ورثت عنه على سبيل الميراث وأخرجت منها الديون وجرت فيها الوصايا، وإن عفا الأولياء فيها أو أحدهم على حظه منها دون من سواه كان حكمها أو حكم ما أخذ منها حكم مال طرأ للميت تؤدي منه الديون، ولا يدخل فيها من الوصايا إلا المدبر حسبما تقدم في المسألة التي قبل هذه وبالله التوفيق.

[: الأب والبنات إذا اجتمعوا في دم العمد]
ومن كتاب الجواب وسألته عن الأب والبنات إذا اجتمعوا في دم العمد فكان ما تقدم في المسألة التي قبل هذه بقسامة أو بينة من أولى بأخذ القود أو بالعفو؟ عن الجدود والأخوات على مثل ذلك؟
قال ابن القاسم: قال مالك: إذا اجتمع البنون والبنات في دم العمد وإن كان ببينة فلا كلام مع البنين فيه في عفو ولا قيام بالدم، والبنون أولى بذلك كله، وكذلك الإخوة والأخوات سواء يجرون إذا اجتمعوا مجرى البنين والبنات في ذلك كله لا اعتراض للأخوات مع الأخوة إذا كانوا كلهم في القعدد سواء في عفو ولا قيام، قال ابن القاسم: وإذا اجتمع الأب والبنات فلا عفو للبنات إلا به، ولا له إلا بهن، وأي الفريقين قام بالدم فهو أولى به الأب كان أو البنات، وإن كان الأب والأم فقط فلا حق للأم معه ولا كلام في عفو

(15/513)


ولا قيام، والأب هو أولى، وإذا كان الأب والإخوة والأخوات فعلى مثل ذلك أيضا لا اعتراض لهم معه بوجه من الوجوه في عفو ولا قيام والأب هو أولى، وإذا كان الأب والولد الذكور فلا حق للأب معهم في عفو ولا قيام بوجه من الوجوه، وهم أولى، والجد مع الإخوة يجري مجرى أخ إن عفا جاز عفوه عليهم والجد مع الأخوات أخ لا كلام لهن معه في عفو ولا قيام، وهو أولى بالعفو والقيام، قال عيسى: يعني إذا عفا الجد أنه لا سبيل للأخوة إلى الدم غير أن لهم نصيبهم من الدية، قال: والجد والبنات بمنزلة الأب والبنات لا عفو لهن إلا به ولا له إلا بهن ومن قام بالدم فهو أولى، والجد والولد الذكور لا كلام له معهم في ذلك بوجه من الوجوه ولا عفو ولا قيام، وهم أولى بذلك منه، والأم والإخوة لا عفو لها إلا بهم ولا لهم إلا بها، وأيهم قام بالدم فهو أولى الأم أو الأخوة والأم والأخوات والعصبة إن اجتمعت الأم والعصبة على العفو جاز ذلك، وإن كره ذلك الأخوات، وإن اجتمع الأخوات والعصبة على العفو وأبت الأم فالأم أولى بالقتل، وتقتل ولا ينظر إلى عفو الأخوات إذا أبت الأم لأن الأم أقعد من الأخوات وأقرب، وإنما الدم للأقعد فالأقعد والبنات والأم والعصبة إن عفا البنات والعصبة جاز على الأم وإن كرهت، وإن عفت الأم والعصبة لم يجز إلا بالبنات، ولا تجري الأم هنا مجرى ابنة عفت؛ لأن البنات أقعد وأقرب من الأم، وإن عفت واحدة من البنات وواحد من العصبة جاز على من بقي وسقط القتل، والبنات والأخوات إذا اجتمعن فلا كلام للعصبة معهن ولا حق في قيام ولا عفو لأنهن قد أحرزن الميراث كله، وذلك إذا كان القتل ببينة، فأما إن كان بقسامة فلا حق للنساء فيه بوجه من الوجوه ولا كلام لأنهن لا يحلفن فيه، وإنما العصبة هي

(15/514)


التي تستحقه بأيمانها، والجدة لا تجري مجرى الأم في شيء من الأشياء مما يكون لها في عفو ولا قيام لا جدة الأم ولا جدة الأب.
قال محمد بن رشد: تحصيل القول في هذه المسائل كلها أن ترتيب الولاة في القيام بالدم كترتيبهم في ميراث الولاء وفي الصلاة على الجنائز وفي النكاح لا يشد عن ذلك على مذهب ابن القاسم إلا قوله في الجد مع الإخوة إنه بمنزلتهم في العفو عن الدم والقيام به.
فأحق الناس بالقيام بدم الرجل ولده ثم ولد ولده، ثم أبوه ثم ولد الأب وهو الأخ، ثم ولذ الأخ ثم الجد ثم ولد الجد وهو العم، ثم ولده هكذا أبدا، فلا حق في القيام بالدم لأب مع الولد ولا مع ولده لولد الولد مع الولد ولا للأخ مع الأب ولا لولد الأخ مع الأخ، ولا للعم مع الجد ولا لولد العم مع العم.
فإذا اجتمع الأولياء في درجة واحدة بنون أو إخوة أو بنو أخوة أو أعمام أو بنو أعمام فعفا أحدهم ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها - أن عفو من عفا منهم يبطل الدم والدية كان عفوه قبل القسامة أو بعدها.
والثاني - أن عفوه يبطل الدم ولا يبطل الدية كان العفو أيضا قبل القسامة أو بعدها.
والثالث - أنه إن كان قبل القسامة أبطل الدم والدية، وإن كان بعد القسامة أبطل الدم، وكان لمن بقي حظه من الدية حسبما مضى بيانه في آخر أول رسم من سماع أشهب.
وأما النساء فلا حق لمن لا ميراث لها منهن في القيام بالدم كالعمات وبنات الإخوة وبنات الأعمام ومن أشبههن من القرابات ولا لمن يرث منهن ممن لو كان في مرتبتها رجل لم يرث بالتعصيب، وهن الأخوات لأم ولا لمن يرث منهن، ولو كان رجل في مرتبتهما ورث في حال دون حال، وهن الزوجات والجدات لأنهن لا يرثن إن كن من قوم المتوفى، وكذلك الأم عند ابن الماجشون وسحنون، لأنها قد تكون من قوم آخرين خلاف مذهب ابن القاسم في أن لها حقا في الدم لكونها بمنزلة الأب في القرب.
وأما ما يرث منهن لو كان في مرتبتها رجل ورث مثل البنات والأخوات

(15/515)


والأمهات فلهن في القيام بالدم حق، ولا يخلو أمرهن من ثلاثة أحوال:
أحدها - أن يكن مع من هو بمنزلتهن من الرجال كالبنات مع البنين، والأخوات مع الإخوة أو الأب مع الأم أو مع من هو أقرب منهن كالأخوات مع البنين.
والثانية - أن يكون مع من هو أبعد منهن إلا أنه وارث معهن كالبنات مع الأب والأم مع الإخوة.
والثالثة - أن يكون أيضا مع من هو أبعد منهن إلا أنه لا ميراث له معهن كالبنات والأخوات مع العصبة.
فأما إذا كن مع من هو بمنزلتهن أو أقرب منهن كالبنات مع البنين أو الأخوات مع الإخوة أو مع البنين فلا حق لهن مع الرجال في عفو ولا قود، والرجال أحق منهن بالقيام بالدم والعفو عنه.
وأما إذا كن مع من هو أبعد منهن إلا أنه وارث معهن كالأم مع الإخوة، والبنات مع العصبة فمن قام بالدم منهن كان أولى ممن عفا، إن عفت الأم فالإخوة أحق بالقود، وإن عفا الإخوة فالأم أحق بالقود، وإن عفا البنات فالعصبة أحق، وإن عفا العصبة فالبنات أحق بالقود إلا أن يكون بعض النساء أقرب من بعض كالأم أو البنت مع الأخوات والعصبة أو كالبنت مع الأم والعصبة، فيكون للأقرب منهن العفو إذا اجتمعت على ذلك مع العصبة.
وأما إن كن مع أبعد منهن إلا أنه لا ميراث له معهن كالأخوات والبنات مع العصبة، فإن اجتمعت البنات والأخوات على القتل أو العفو فهن أولى بذلك من العصبة لانفرادهن بالميراث دونها، فإن افترقن فأراد بعضهن القتل وبعضهن العفو رجع الأمر إلى العصبة فيما أرادوه من قتل أو عفو هذا كله سواء على مذهب ابن القاسم في المدونة ثبت الدم ببينة أو بقسامة وفي ذلك ثلاثة أقوال - قد مضى تحصيلها في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم.
أحدها - قوله في هذه الرواية إن الدم إذا استحق بقسامة فلا حق للنساء في ذلك مع العصبة في عفو ولا قيام، لأنها هي التي استحقته بأيمانها، واختلف في الجد مع الأخوة، فذهب ابن القاسم إلى أنه بمنزلة أخ عفا منهم جاز عفوه على من

(15/516)


بقي، وأنه أحق من بينهم قياسا على الميراث، وذهب أشهب إلى أن الإخوة وبنيهم أحق من الجد وهو الأظهر، لأن ترتيب الولاة في الدماء إنما هو على حسب ترتيبهم في ميراث الولاء لا في ميراث المال ولا مدخل للزوج في ذلك بسبب الميراث بإجماع.
وأما قول ابن القاسم في هذه الرواية إن الجدة لا تجري مجرى الأم في شيء من الأشياء، مما يكون لها في عفو ولا قيام لا جدة الأب ولا جدة الأم فهو على ما قسمناه من أنه لا حق في الدم لأحد من النساء إلا لمن يرث منهن ممن لو كان في مرتبتها رجل وارث، وابن الماجشون وسحنون يقولان إن الأم كالجدة لا حق لها في الدم مع العصبة لأنها من قوم آخرين وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول الرجل من إحدى الطائفتين أنا قتلته من غير طائفته]
مسألة وسألته عن الطائفتين يقتتلون فيفترقون على قتلى وجرحى فيقول الرجل من إحدى الطائفتين أنا قتلته من غير طائفته ما الأمر في ذلك؟
قال ابن القاسم ولاة المقتول مخيرون إن شاءوا قتلوه بإقراره، وإن شاءوا تركوه وألزموهم الدية، لأنه يتهم بإقراره في طرح الدية التي قد وجبت عليه وعلى طائفته وأصحابه.
قال محمد بن رشد: الجواب في هذه المسألة بين صحيح، والتعليل ضعيف إذ لو اتهم في إقراره لما ألزمه وهو له لازم على كل حال إن شاء ولاة المقتول أن يأخذوه به ويقتلوه كان ذلك لهم على ما قال، وإنما هو مقر على نفسه وشاهد بالبراءة لغيره فيلزمه إقراره على نفسه ولا تجوز شهادته بالبراءة للطائفة التي نازعت المقتول من قبله لأنه ليس بشاهد على فعل، وإنما هو شاهد على نفي فعل والشهادة بالنفي ليست بعامله.

(15/517)


[مسألة: لا قسامة فيمن قتل بين الصفين]
مسألة وإن افترقوا عن قتيل وزعم المقتول أن دمه قبل رجل من الطائفة التي نازعوه ونازعوا أصحابه، وأنه هو الذي ضربه أو قتله أو يشهد لهم بذلك شاهد واحد عدل كانت فيه القسامة مع شهادة الشاهد ومع قول المقتول أيهما كان، وإنما تفسير قول مالك لا قسامة فيمن قتل بين الصفين، إنما ذلك إذا لم يكن بكلام من المقتول، ولا بشهادة شاهد، وكان بدعوى من ولاة المقتول بأن يقولوا فلان قتله لرجل من غير طائفته، أو يقولوا إنما جاء قتله من قبل هذه الطائفة التي قاتلوه، لأنه يعلم أنهم الذين قاتلوه وقاتلوا أصحابه، فلم يمحضهم قتله فنحن نريد أن نقسم ونقتل واحدا منهم فليس لهم ذلك، ولا قسامة فيمن قتل بين الصفين إلا بكلام من المقتول إن سمى من قتله أو يقوم شاهد عدل على من قتله منهم، قال سحنون: قال: لي ابن القاسم فيمن قتل بين الصفين فشهد على قتله رجل واحد أو على إقراره فلا قسامة فيه.
قال سحنون وسألت ابن القاسم عمن يوجد قتيلا بين الصفين، قال مالك لا قسامة فيه وديته على الذين نازعوهم، قيل له: على عواقلهم أو في أموالهم؟ قال بل في أموالهم، قيل له: فإن عرف من قتله منهم أيقتل به؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.

[مسألة: القتيل الذي وجد بين الصفين إنما كانوا قوما يقاتلون على تأويل]
مسألة قيل له فإن كان القتيل الذي وجد بين الصفين إنما كانوا قوما

(15/518)


يقاتلون على تأويل؟ قال: فليس على الذين قتلوه قتل وإن عرفوا، قيل له فديته هل عليهم منها شيء؟ قال: لما سقط القتل عنهم سقطت الدية عنهم، وليس أهل التأويل كغيرهم.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في الأثر من كتاب الجهاد من المدونة من قول ابن شهاب: هاجت الفتنة الأولى فأدركت رجالا ذوي عدد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، فكانوا يرون أن يهدر أمن الفتنة فلا يقام على أحد قصاص ولأحد في سبي امرأة مست ولا يرى بينها وبين زوجها ملاعنة يريد إن نفى ولدها ولا يرى أن يقفوها أحد إلا جلد الحد، ومثله روى مطرف وابن الماجشون عن مالك أنه لا يقتل به ولا يقاد منه، ومن أهل العلم من يرى أنه يقاد به ويقتص منه، وهو قول أصبغ ومذهب عطاء، وهذا الاختلاف في القصاص منه سواء تاب أو أخذ قبل أن يتوب، ولا يقام عليه حد الحرابة وإن أخذ قبل أن يتوب ولا يؤخذ ما أخذ من المال وإن كان موسرا إلا أن يوجد بيده شيء بعينه فيرد إلى ربه، وأما من أوسر منهم في الحرب وهي قائمة لم يظهر بعد على أهل رأيه فللإمام أن يقتله إن رأى ذلك، لما يخاف من أن يعين مع أصحابه على المسلمين.
وإن كان ذلك بعد انقطاع الحرب والظهور على أهل رأيه فإنه لا يقتل، وحكمه حكم البدعي في جماعة المسلمين، الذي لا يدعوا إلى بدعته يستتاب في قول مالك، فإن تاب، وإلا قتل وهو قول مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ، وقال ابن الماجشون وسحنون ينهي عن بدعته ويؤدب عليها ويستتاب ويقبل منه ما أظهر من قليل التوبة وكثيرها، ولا يقتل وهو قول عطاء وبالله التوفيق.

(15/519)


[: يطلب الرجل بالسيف فيعثر المطلوب قبل أن يضربه فيموت]
ومن كتاب باع شاة وسألته عن الرجل يطلب الرجل بالسيف فيعثر المطلوب قبل أن يضربه فيموت قال: أرى أن يقتل به، وقال أبو حمزة عن المخزومي مثله.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون، وهو بين لا أعرف فيه نص خلاف في المذهب، ويدخل فيه الاختلاف بالمعنى لأنه من شبه العمد الذي اختلف في وجوب القصاص منه على ما مضى في أول سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.

[مسألة: رمي بحجرعمدا فيتقيه المرمى فيرجع الحجر فيصيب آخر فيقتله]
مسألة وسألته عن الرجل يرمي بحجر عمدا فيتقيه المرمى فيرجع الحجر فيصيب آخر فيقتله.
قال: إن كان إنما اتقى عن نفسه من غير أن يرد الحجر بشيء فعقله على الرامي، وإن كان دفع الحجر عن نفسه بشيء فرده حتى أوقعه على غيره فديته على المرمي وليس على الرامي شيء.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المجموعة من رواية علي بن زياد عن مالك، قال فيمن رمى رجلا بحجر فاتقاها بيده فرجع الحجر فأصاب رجلا فعلى الذي رده العقل، وهو من الخطأ، وقال أصبغ في الواضحة: بل ذلك على الرامي دون المرمي وأن دفع الرمية، إذ لا يتقي الرمية إلا بدفعها، وكما لو طلبه بسيف فهرب منه فوقع على صبي فقتله أو على شيء فكسره، فذلك على طالبه وهو من الخطأ إلا أن يعثر المطلوب نفسه فيموت فيكون فيه القود، وكذلك دافع الحجر عن نفسه بشيء بيده أو رجع الحجر عنه لشأنه

(15/520)


فأصاب رجلا غير المرمى فذلك من الخطأ وهو على الرامي فإن أصاب المرمي فهو من العمد إلا أن يكون الحجر قد كان قد مغره وانكسر حده قبل أن يرده فيكون على المرمى، وكذلك لا اختلاف أيضا إذا اتقى الحجر، ولم يرده أنه على الرامي، وإنما الاختلاف إذا دفعه من نفسه في اتقائه إياه وكيف ما كان فهو من الخطأ إلا أن يكون المرمي هو الذي مات فهو من العمد وبالله التوفيق.

[: حلفتا خمسين يمينا فأخذتا ثلثي الدية ثم نزعت إحداهما]
ومن كتاب العلق وسألته عن امرأة أقسمت خميس يمينا في قتل خطأ فأخذت قدر حصتها من الميراث ثم أنها نزعت وندمت وردت ما أخذت على الذي أقسمت عليه ثم أتت أخت لها فقالت: أنا أقسم بقدر نصيبي من الميراث.
قال: أرى أن تحلف بقدر مالها من الميراث، لأن يمين الأولى حكم قد مضى لا ينقضه نزعها، ألا ترى لو أنهما حلفتا خمسين يمينا فأخذتا ثلثي الدية ثم نزعت إحداهما لم يقل للباقية استكملي خمسين يمينا وإلا فردي ما أخذت لأنه حكم قد مضى.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه ولا اختلاف وبالله التوفيق.

[مسألة قال عند موته قتلني فلان]
مسألة وسئل عن رجل قتل خطأ فقال فلان قتلني خطأ، وقال الرجل بل قتلته عمدا أو قتلني عمدا، وقال الرجل بل قتله خطأ.

(15/521)


قال: قال مالك: فيمن قال عند موته قتلني فلان خطأ إنه يقسم عصبته مع قوله ويستحق الدية ولا يتهم لأنه لو قال قتلني عمدا أقسم مع قوله وقتل، قال ابن القاسم: وقد أخبرني من أثق به أنه كان قوله قديما أنه لا يقبل قوله لموضع التهمة أن يكون إنما أراد غناء ولده، فسئل عن ذلك فرجع، فقال أرى أن يقسم مع قوله ويستحق الدية، قال ابن القاسم فأما القاتل بالعمد فأرى الورثة بالخيار إن أحبوا أقسموا وأخذوا الدية، وإن أحبوا قتلوا بالإقرار، ويقسمون على ذلك إن كانت حياة.
قال محمد بن رشد: القسامة في العمد مع قول المقتول دمي عند فلان لم يختلف بأنه يلزمه ويؤخذ به بإقراره قيل بقسامة وقيل بغير قسامة، ومعنى ذلك إذا كانت للمقتول حياة، وأما إذا لم تكن له حياة فيقتل بإقراره دون قسامة قولا واحدا أو قد قيل إن ذلك ليس باختلاف من القول، وإنما معناه أنه يقتل بقسامة إذا كانت الحياة له حياة، وبغير قسامة إذا لم تكن له حياة، وقد مضى هذا في أول السماع، فإذا قال الرجل قتلني فلان عمدا أو أقر القاتل بذلك، فإن لم تكن له حياة قتل بإقراره دون قسامة قولا واحدا، وإن كانت له حياة قيل يقتل بغير قسامة وقيل بقسامة وهو قوله في هذه الرواية، وقسامتهم إنما هي أن يحلفوا لقد مات من الجرح الذي أقر القاتل به، بخلاف قسامتهم يقول المقتول قتلني فلان، لأنهم يقسمون مع قوله أنه جرحه وأنه مات من جرحه.
وأما القسامة في الخطأ مع قول المقتول قتلني فلان خطأ فالمشهور من قول مالك أنه لوث يوجب القسامة والدية على العاقلة، وقد حكى ابن القاسم فيما بلغه عنه على ما وقع في هذه الرواية أن قوله لا يقبل لموضع التهمة أن يكون أراد غناء ولده، وهو قول ابن وهب وابن أبي حازم من أصحاب مالك، وقد قال محمد بن المواز لم تثبت عندنا الرواية في منع القسامة مع قوله إلا في

(15/522)


قول الرجل أنا قتلت فلانا خطأ، وأما قوله قتلني فلان خطأ أو عمدا فما علمنا فيه اختلافا من قول مالك وأصحابه كلهم إلا ابن وهب.
واختلف إذا قال الرجل قتلت فلانا خطأ: فقيل إنه لوث يوجب القسامة والدية على العاقلة إذا لم يتهم أن يكون أراد غناء ولد المقتول على ما قاله في المدونة، وقيل إن الدية تكون عليه في ماله لأن العاقلة لا تحمل الإقرار قيل بقسامة وقيل بغير قسامة، وذلك إذا كانت للمقتول حياة، وأما إذا لم تكن له حياة فالدية عليه في ماله دون قسامة قولا واحدا هو الذي يجب أن يحمل عليه ما وقع من ذلك في كتاب الصلح من المدونة مجملا، وهذا الذي ذكرناه أصل هذه المسألة التي تنبني عليه، فإذا قال الرجل قتلني فلان خطأ، وقال فلان بل قتلته عمدا فعلى المشهور من المذهب أن قول المقتول قتلني فلان خطأ لوث يوجب القسامة والدية على العاقلة، يكون عصبة المقتول بالخيار بين أن يقتلوه بإقراره دون قسامة إن لم تكن له حياة، أو مع القسامة إن كانت له حياة على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك، وبين أن يقسموا مع المقتول فتكون الدية على عاقلته.
وإذا قال قتلني فلان عمدا، وقال فلان بل قتلته خطأ فعلى القول بأن قول الرجل قتلت فلانا خطأ لوث يوجب القسامة والدية على العاقلة يكون الأولياء مخيرين بين أن يقسموا مع قول المقتول فيقتلوا القاتل وبين أن يقسموا مع قوله فتكون لهم الدية على عاقلته، وعلى القول بأن قول الرجل قتلت فلانا خطأ يوجب الدية عليه في ماله يكون الأولياء مخيرين بين أن يقسموا مع قول المقتول فيقتلوا القاتل وبين أن يلزموا القاتل الدية في ماله بإقراره بالقتل دون قسامة إن لم تكن له حياة أو مع قسامة إن كانت له حياة على ما ذكرنا من الاختلاف في القسامة في ذلك، فهذا بيان وجه القول في هذه المسألة مستوفى.

(15/523)


[مسألة: ادعى أن رجلا سقاه سما]
مسألة وسئل ابن كنانة عن رجل ادعى أن رجلا سقاه سما وأشهد رجالا وقال لهم اشهدوا أن فلانا سقاني سما، وهو في جوفه فإن مت فدمي عنده، هل تكون القسامة في ذلك؟ قال: لا تكون القسامة في مثل هذا إلا في الضرب المشهود عليه أو الإشارة البينة من الجراح والضرب.
قال محمد بن رشد: قول ابن كنانة هذا في أن التدمية لا تكون عاملة إلا مع الشهادة على الضرب أو الآثار البينة منه أو من الجراح خلاف قول ابن القاسم في سماع أبي زيد ودليل قوله في رسم أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى وقول ابن كنانة إلا في الضرب المشهود عليه يريد الضرب الذي يثبت بالشهادة، فلو شهد على قوله شاهد واحد أنه ضربه فمات من ضربه، ولم يظهر به أثر منه أو أنه سقاه سما فمات منه ولم يظهر لذلك أثر من قيء أصابه منه لم يكن في ذلك قسامة كما لا يكون القسامة بذلك مع قول المقتول، وقال أصبغ: إن القسامة منه تكون في ذلك مع قول المقتول كما تكون فيه مع الشاهد الواحد.
فاحتجاج أصبغ لا يلزم ابن كنانة وإنما يلزم من يفرق بين الوجهين.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها - أن القسامة لا تكون إذا لم يكن بالمقتول أثر لا بشهادة واحد ولا بقول المقتول، وهو قول ابن كنانة.
والثاني - أن القسامة تكون لأولياء المقتول في الوجهين جميعا، وهو قول أصبغ.
والثالث - أنهم يقسمون في ذلك مع الشاهد الواحد ولا يقسمون فيه مع قول المقتول، وإذا أعملت، التدمية على نص رواية ابن زيد ودليل رواية يحيى دون أثر من جرح أو ضرب يكون بالمدمي فإنما تعمل بعد موته في إيجاب قتل

(15/524)


المدمى عليه بالقسامة، وأما في حياته فلا يلزم المدمى عليه بالتدمية سجن لأنه يتهم أن يكون أراد سجنه بدعواه.
وقول ابن كنانة في أن التدمية لا تعمل أصلا أظهر من قول ابن القاسم للاختلاف في أصل التدمية إذ لم يتابع مالكا على قوله في إيجاب القود بها إلا أصحابه وبالله التوفيق لا شريك له وصلى الله على من لا نبي بعده.
انتهى كتاب الديات الأول بحمد الله تعالى

(15/525)