البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [: كتاب الديات الثالث] [: أيلزم القاتل عمدا من أهل الذهب والورق إذا قتل]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم وأشهب وابن نافع من كتاب الصبرة قال يحيى: وسألت أشهب عن تغليظ الدية في مثل ما فعل المدلجي بابنه أيلزم القاتل عمدا من أهل الذهب والورق إذا قتل

(16/5)


أجنبيا أن تغلظ عليه بقدر فضل ما بين أسنان دية الخطأ من الإبل؟ فقال: نعم إذا قتل الرجل الرجل عمدا فقبلت منه الدية، وهو من أهل الذهب والورق، نظرت إلى قيمة أسنان دية الخطأ، ثم قيمة أسنان دية العمد؛ فإذا عرفت ما بينهما من الفضل فإن كان خمس الدية أو سدسها أو عشرها أو جزءا من أجزاء الدية كائنا ما كان ذلك؛ فإنه يزاد على قاتل العمد بقدر ذلك مع الألف دينار إن كان من أهل الذهب أو الاثنا عشر ألف درهم إن كان من أهل الورق، فهذا تغليظها في هذا الوجه، وهو على قياس تغليظ الدية في مثل ما حكم به عمر بن الخطاب في المدلجي في ابنه، وعلى هذا الحساب تغليظ عقل الجراح في العمد إلا أن يصطلحوا على أمر يجوز بينهم، وسألت ابن نافع عنه فقال: لا تغليظ عندنا إلا في مثل ما صنع عمر بن الخطاب بالمدلجي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول مسألة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادة ذلك.

[مسألة: النفر يجرحون الرجل فيحمل مجروحا فيموت]
مسألة وقال في النفر يجرحون الرجل فيُحمل مجروحا فيموت فتجب القسامة عليهم: إنهم لو أقروا بقتله أجمعون لم يكن لهم أن يقتلوا منهم أحدا حتى يقسموا على أيهم أحبوا فقط، فيقتلونه، ولا يكون لهم وسائرهم بالإقرار، قال: وكذلك إذا لم يقر منهم إلا واحد قال: أنا قتلته لم يكن لهم أن يقتلوه حتى يقسموا عليه، ولا أن يقسموا على غيره، ويقتلوا المقر بإقراره، وليس لهم أن يقسموا إلا على واحد منهم فيقتلونه كما لو لم يقروا أو لم يقر أحد منهم.

(16/6)


قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: أيجوز للإمام أن يعفو عن القاتل]
مسألة وسئل على المسلم يقتل المسلم عمدا الذي لا ولي له إلا المسلمون أيجوز للإمام أن يعفو عن القاتل؟ قال: لا ينبغي له أن يهدر دم المسلم، ولكن يستقيد منه، قيل فالنصراني يقتل النصراني عمدا الذي لا ولي له إلا المسلمون ثم يسلم القاتل أترى أن يقتل به؟ قال: العفو عن مثل هذا أحب إلي من قتله، وذلك أن حرمته إذا أسلم أعظم من حرمة الكافر المقتول، قال: ولو كان للمقتول أولياء كان لهم القود؛ لأنهما كانا على دين واحد يوم قتله، فإذا صار أمره إلى الإمام فالعفو عندي أعجب إلي وإن كان القود قد لزمه، قيل له أفيعفو على أخذ الدية للمسلمين أو بغير دية.
قال محمد بن رشد: لم يجب عما سأله عنه من العفو الذي اختاره هل يكون على أخذ الدية للمسلمين أو بغير دية، والجواب عن ذلك على قوله أن يعفو عندي بغير دية للمسلمين، والدليل على أن ذلك مذهبه في هذه الرواية تفرقته فيها بين المسلم الذي يقتل المسلم ولا ولي له إلا المسلمون وبين النصراني يقتل النصراني ثم يسلم القاتل ولا ولي للمقتول إلا المسلمون، فقال في المسلم يقتل المسلم الذي لا ولي له إلا المسلمون إنه لا يجوز للإمام أن يعفو عن القاتل، وقال في النصراني يقتل النصراني ثم يسلم القاتل ولا ولي للمقتول إلا المسلمون: العفو أحب إليه فيه، فلو كان لا يجوز له أن يعفو عنه إلا على الدية لكان ذلك كالمسلم يقتل المسلم سواء؛ إذ ليس للإمام أن يعفو عنه إلا على دية يأخذها منه للمسلمين إن رأى ذلك على وجه نظر لهم، وعلى ما

(16/7)


تقدم من قوله في رواية عيسى عنه في أول سماعه لا يجوز له أن يعفو عنه إلا على الدية يأخذها منه إن كان له مال، وقد مضى بيان هذا هنالك وبالله التوفيق.

[مسألة: ارتحل عن البلدة التي وجبت فيها الدية على الجاني قبل فرضها]
مسألة وسألته عن عاقلة الرجل من أهل المدينة يقع عليهم عقله فيرتحل منهم رجال من أهل المدينة إلى مصر بعد وجوب الدية عليهم وقبل أن تقسم، أو يرتحل رجال من أهل مصر من قبيلتهم وقد وقعت الدية على أهل المدينة قبل ارتحال المصريين إليهم ولم يقسم بعد عليهم، قال: لا ينظر إلى ارتحال بعضهم إلى بعض قبل أن يقسم عليهم، فإنا نقول: إنما تجب الدية على من يوجد بالبلد الذي تجب على أهله يوم يقسم، وليس يوم يقع الحكم على العاقلة بغرم الدية. قلت: وما أسقطها على المرتحل وقد وجبت على عاقلته وأهل بلده قبل أن يرتحل عنهم؟ فقال: لأنها ليست بدين واجب عليه، ألا ترى أن الغرماء لا يحاصهم طالب الدية وهم يُبَدَّوْنَ عليه؟ (قلت: أرأيت من مات من بعدما تقسم الدية) ويعلم ما وجب عليه أيؤخذ ذلك من رأس ماله؟ قال: لا أرى ذلك على ورثته ولا في ماله واجبا؛ لأنه ليس يجب كوجوب الدين فيتبع به بعد موته، قلت: ولم لا نجعله في ماله بعد إخراج دينه كما تفرضها على الحي الذي لا دين عليه وقد كانت وجبت عليه وعرف ما كان يلزمه من الغرم مع عاقلته؟ قال: لا أرى أن تؤخذ من ماله، ولكن يرد غرم ذلك إلى بقية العاقلة، قلت: أيقسم عليهم أجمعين أم يجزأ على

(16/8)


أهل الغنى منهم، ويرى أن يؤخذ ذلك الجزء الذي يقتضي من عام قابل؟ فقال: أعدل ذلك ألا يؤخر لقابل من الجزء الأول بشيء، ولكن يجبر غرم ذلك على أهل الغنى من العاقلة.
قال محمد بن رشد: أما من ارتحل عن البلدة التي وجبت فيها الدية على الجاني قبل فرضها فلا اختلاف أحفظه في أنه لا شيء على المرتحل قبل فرضها إلا أن يرتحل فرارا منها فيلحقه حكمها حيث كان، وذلك يروى عن ابن القاسم وغيره، وكذلك من مات قبل فرضها لم يلزمه شيء من حكمها، ومن ارتحل إلى ذلك البلد من قبيل الجاني قبل فرض الدية لزمه حكمها، وإن كان ارتحاله بعد وجوبها، فإن ارتحل إليه بعد فرضها لم يلزمه شيء من حكمها؛ لأن الحكم في الدية أن تفرض على من كان في بلد الجاني من قبيلته يوم فرضها حيا بالغا ذكرا عاقلا غير مجنون، وأما إذا وضعت ووظفت فلا يسقط عمن غاب أو ارتحل ما صار عليه منها، ويؤخذ به حيثما كان.
واختلف إن أعدم على قولين، أحدهما: أنها تسقط عنه بالعدم ولا يحاص بها الغرماء ويرد ذلك على بقية الغرماء العاقلة أو يجزأ على الأغنياء منهم على ما اختاره ابن القاسم في هذه الرواية، والثاني أنه يتبع بما لزمه منها في ذمته ولا يرجع ذلك على العاقلة، وهو مذهب ابن الماجشون وسحنون.
واختلف إن مات على ثلاثة أقوال، أحدها قوله في هذه الرواية: إنها لا تؤخذ من ماله وإن كان له مال، ويرد غرم ذلك على بقية العاقلة أو يجزأ على أهل الغنى والوفر منهم، والثاني: أنها تؤخذ من ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أو كان له مال وعليه دين يستغرق ماله سقطت، ولم يحاص بها الغرماء، وجزئت على بقية العاقلة أو على أهل الغنى منهم، والثالث: قول ابن الماجشون وسحنون أن الدية إذا فرضت على العاقلة فقد وجبت على من فرضت عليه كثبات الدين لا يسقط بموت ولا فلس، فيتبع بها العديم في ذمته

(16/9)


ويحاص لها الغرماء في الموت والفلس، ولا يؤتنف ذلك في حكم بعدم أحد ممن فرض عليه ولا بموته ولا بيسر من لم يفرض عليه شيء منها لعدمه وبالله التوفيق.

[: وجبت لهم القسامة على نفر فأقسموا على أحد منهم ثم ادعوا أنه شبه لهم]
ومن كتاب يشتري الدور والمزارع قال: وسألته عن أولياء مقتول وجبت لهم القسامة على نفر فأقسموا على أحد منهم ثم ادعوا أنه شُبِّهَ لهم، وأنهم أيقنوا أن أحد الباقين كان هو الذي تولى أشد ما كان بصاحبهم من الجراحات، وأرادوا أن يقسموا عليه ويتركوا الأول أذلك لهم؟ فقال: أما الثاني فلا سبيل إليه بعد تركهم إياه ولا حين خيروا، وأما الأول فإن كانوا أبروه حين زعموا أن الآخر بصاحبهم فلا سبيل لهم إليه أيضا ولا يقسموا على واحد منهم وإن كانوا إنما أرادوا أن ينتقلوا إلى الآخر غضبا عليه وندامة على فوت قتله ولم يبروا الأول وأوقفوا أمره لينظروا، هل يمكنون مما دعوا إليه أم لا؛ فلهم أن يقتلوه بقسامتهم إن أحبوا؟
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله إن تبين أحد الأمرين من إرادتهم بإفصاح منهم به، وأما إن أشكل ذلك ووقع التداعي بينهم فيه فالقول قولهم مع أيمانهم أنهم لم يبروا الأول ويكون لهم أن يقتلوه بقسامتهم، وبالله التوفيق.

(16/10)


[مسألة: يقتل الرجلين عمدا فيثبت ذلك عليه فيصالح أولياء أحد القتيلين ويأبى الآخر]
مسألة وسئل عن الرجل يقتل الرجلين عمدا فيثبت ذلك عليه فيصالح أولياء أحد القتيلين على الدية وعفوا عن دمه، وأبى أولياء الآخر إلا أن يستقيدوا، فقال: القود لمن أحب أخذه، ولا يمنع من قتله الولي الذي لم يرد إلا القتل من أجل ما رضي به الذين صالحوا عن صاحبهم، ولكن إن استقادوا بطل صلح الذين صالحوا؛ لأنهم إنما صالحهم للنجاة من القتل، فإذا أبى الآخرون إلا القود فلا يجمع عليه القتل وذهاب المال في أمر لم يدخل عليه فيه مرفق.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة هاهنا في بعض الروايات وهي ثابتة في هذا الرسم بعينه، من كتاب الدعوى والصلح، وقد مضى هناك الكلام عليها فلا معنى لإعادته.

[مسألة: العبد يقتل أباه الحر عمدا فيسلمه سيده إلى أولياء المقتول فيستحيوه]
مسألة وسئل عن العبد يقتل أباه الحر عمدا فيسلمه سيده إلى أولياء المقتول وهم إخوة العبد القاتل أو ولده فيستحيوه أيعتق عليهم؟ قال: لا يعتق عليهم، ولكن يباع فيعطون ثمنه، قيل له فإن جرحه عمدا فأسلمه إليه سيده أيسترقه أبوه؟ فقال: بل يعتق عليه سواء جرحه عمدا أو خطأ، قلت فإن قتله خطأ فأسلمه إلى وارثه وهو ممن إذا ملكه عتق عليه؟ قال: يعتق عليه لأنه يقدر في الخطأ ولا يقدر في العمد، قلت له: أفيرث إذا أعتق؟ قال: لا، ألا ترى إن ملكه قد كان بيد سيده حتى أسلمه بعد موت المقتول، قلت:

(16/11)


أرأيت إن لم يكن للمقتول مال؟ وأنتم إنما رأيتم أنه إذا أسلم في العمد لم يعتق لما مضى من السنة أنه «لا يرث قاتل مَن قتل» وقال مالك: يرث من المال في الخطأ ولا يرث في العمد ولا من المال، قلت: فإذا قتل عمدا فأسلم إلى من إذا ملكه عتق عليه فإن عتق فكأنه قد ورث؛ لأن فك رقه إنما كان فيما ملك عنه المقتول، فإذا صار يعتق فيه فكأنه قد ورث منه قلت: فالذي يقتل خطأ ولا مال للمقتول فأسلم إلى من إذا ملكه عتق عليه فقلت يعتق في الخطأ أفما تراه الآن قد عتق في دية المقتول وهو لا يرث من الدية وإن كان القتل خطأ؟ ألا ترى أن المقتول لم يورث (شيئا عن دية فلما أسلم هذا العبد ... للقاتل صار هو دية المقتول؟ فإذا أعتق على الذي أسلم إليه إنما هو كمن ورث دية من قتل خطأ، قال سحنون: وكذلك أخبرني ابن القاسم في العبد يقتل ابنه الحر كما فعل المدلجي بابنه فإن الجناية في رقبته، قلت لابن القاسم: فإن أسلمه مولاه أيعتق عليه؟ قال: لا، ولكن يباع (فيكون ثمنه لورثة) ابنه قلت له: فإن جرح ابنه فأسلمه سيده لجنايته؟ قال: يعتق لأنه حكم لأن سيده كان مخيرا، قلت وكذلك لو أنه قتل ابنه خطأ فأسلم إلى ورثته ابنه، قال: كذلك يعتق عليهم، وكل من فعل هذا فأسلم إلى بعض من إذا ملكه عتق عليه، فهو يعتق؛ لأن ذلك حكم وقع؛ لأن سيده كان مخيرا في حبسه ودفع الأرش، فلما كان دفعه إلى (أولياء المقتول حكما) عليهم بأخذه فإذا أخذوه حكم عليهم بحريته.

(16/12)


قال محمد بن رشد: إنما لم يعتق العبد على ورثة أبيه الحر إذا قتله عمدا فأسلم إليهم وهو ممن يعتق عليهم؛ لأنه لم يجب لهم رقبة العبد، وإنما وجب لهم قتله بأبيهم إن كانوا ولده، أو بأخيهم إن كانوا إخوته، فإن لم يريدوا أن يقتلوه بيع لهم وأعطوا ثمنه، وقال إنه يعتق عليهم إن كان قتله خطأ من أجل أن رقبة العبد هي الواجبة لهم؛ إذ لا قصاص في الخطأ، فإن أخذوها في الجناية على أبيهم عتق عليهم، فهذا هو وجه تفرقته بين العمد والخطأ في القتل، ألا ترى أنه لما كانت الجراح لا يجب فيها دم العبد، وإنما تجب فيها للمجروح رقبته إلا أن يفتكها سيده بدية الجرح استوى في ذلك العمد والخطأ، وتفرقته بين العمد والخطأ بقوله؛ لأنه يعذر في الخطأ ولا يعذر في العمد يرجع إلى هذا الذي ذكرناه من الفرق بين العمد والخطأ في القتل؛ لأن قوله: لأنه يعذر في الخطأ ولا يعذر في العمد إنما معناه أنه في القتل الخطأ يعذر فلا يقاد منه، فيجب لهم فيه رقبة العبد، وفي العمد لا يعذر فيقاد منه فلا يجب لهم فيه إلا دم العبد، ولو كانت العلة في أنه يعتق في الخطأ أنه يعذر فيه، وفي أنه لا يعتق في العمد أنه لا يعذر فيه لافترق العمد من الخطأ في الجراح أيضا.
ولم يبين يحيى بن يحيى هذا الفرق وظن أن العلة في أنه لم يعتق عليه في العمد من جهة أن القاتل عمدا لا يرث من قتل، فاعترض على ابن القاسم بقتل الخطأ إذا لم يكن للمقتول مال بقوله: قلت أرأيت إن لم يكن للمقتول مال، وأنتم إنما رأيتم أنه إذا أسلم في العمد لم يعتق لما مضى من السنة أنه «لا يرث قاتل من قتل» إلى قوله: إنما هو كمن ورث دية من قتل خطأ، فلم يجبه على اعتراضه بشيء، والجواب عن ذلك أن نقول له: إنما لم نقل إنه لا يعتق من أجل ما مضى من السنة أنه «لا يرث قاتل من قتل» وإنما قلنا ذلك من أجل أنه لا يجب لهم رقبة العبد، وإنما يجب لهم دمه، وقول سحنون

(16/13)


وكذلك أخبرني ابن القاسم في العبد يقتل ابنه الحر كما فعل المدلجي بابنه فإن الجناية في رقبته يريد أن القتل كان يجب عليه لأنه من العمد؛ لأن القود صرف عنه في السنة فرأى أن يعتق عليهم العبد إذا أسلم إليهم لأنهم كأنهم إنما وجب لهم دمه لا رقبته إذ كان القياس أن يقتل لولا ما جاء فيه من السنة في تغليظ الدية وترك القود، وهذا من ابن القاسم في هذا الموضع استحسان، وكان القياس أن يعتق عليه لأنه أشبه بالخطأ منه بالعمد، لارتفاع القود فيه.
وقد قال محمد بن مسلمة تفسير قول ابن القاسم إن الجناية في رقبته أن سيده مخير في أن يفتكه أو يسلمه، فإن اختار فكه افتكه بدية التغليظ إن كان من أهل الإبل فعليه ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وإن كان من أهل الورق أو الذهب جبر عليه ما بين دية الخطأ من الإبل وبين دية التغليظ يغرمه مع الورثة من الذهب أو الورق، فإن أسلمه لم يعتق عليه في قول ابن القاسم، وفي قول سحنون وأشهب يعتق كأنه من الخطأ عندهما ليس من العمد إذا كان الورثة ممن يعتق عليهم، وإن كان فيهم من يعتق عليه وفيهم من لا يعتق عليه عتق نصيب من لزمه عتقه منهم ورق سائره للورثة، وهو قول المغيرة في التغليظ والعتق وقول محمد بن سحنون إن ما فعل المدلجي بابنه من العمد عند ابن القاسم، ولذلك لم ير أن يعتق عليه، ومن الخطأ عند أشهب وسحنون فلذلك لا يعتق عليهم عندهما فيه نظر إذ لا اختلاف بين ابن القاسم وغيره في أنه عمد لا أنه من العمد الذي قد أحكمت السنة صرف

(16/14)


القود فيه وتغليظ الدية فراعى ابن القاسم الأهل في وجوب القصاص فيه استحسانا، وراعى أشهب وسحنون ما أحكمته السنة من أنه لا قصاص فيه لأنه إذا لم يكن فيه قصاص وجب لهم ملكه إذا أسلم إليهم فوجب عتقه عليهم وهو القياس أنه لا فرق في وجوب ملكه إذا أسلم إليهم بينه وبين الخطأ المحض، وهو القياس وبالله التوفيق.

[: من لا وارث له إلا جماعة المسلمين يقتل أحدهم فلا يشهد على قتله إلا رجل واحد]
ومن كتاب المكاتب قال وسألته عن المنبوذ أو من لا وارث له إلا جماعة المسلمين مثل مسألة أهل الذمة وأشباههم يقتل أحدهم خطأ أو عمدا فلا يشهد على قتله إلا رجل واحد أيقسم على ذمه من قام بذلك من المسلمين أم هل ينبغي للإمام أن يأمر من يقوم به ويستحقه بالقسامة؟ فقال: لا يستحق دم من لا وراث له إلا جماعة المسلمين إلا بشهيدي عدل لا يستحق بالقسامة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إذ لا يحلف أحد عن أحد ولو كان للمقتول خطأ وارث معلوم مع جماعة المسلمين مثل الزوجة أو الابنة أو الأخت أو الأم لحلف الوارث المعلوم خمسين يمينا واستحق حقه من الدية وبطل الباقي منها وبالله التوفيق.

[مسألة: جنين النصرانية يطرحه المسلم فيستهل صارخا]
مسألة وسئل عن جنين النصرانية يطرحه المسلم فيستهل صارخا أيكون فيه القسامة؟ قال: لا قسامة لليهود ولا للنصارى ولا تجب دياتهم إلا بالبينة.

(16/15)


قال محمد بن رشد: قوله ولا تجب دياتهم إلا بالبينات ظاهر أن دية الجنين تبطل إذا استهل صارخا وإن كانت البينة على ضرب بطن أمه، وأن النصراني إذا قتل فأتى ولاته بشاهد من المسلمين عدل أنهم لا يحلفون مع شاهدهم، ويحلف المشهود عليه خمسين يمينا ويبرأ من الدية خلاف ما في المدونة من أنهم يحلفون مع شاهدهم يمينا واحدة ويستحقون ديته ويحلفون في الجنين إذا استهل صارخا يمينا واحدة لمات من ذلك ويستحقون ديته، ولو شهد على مذهبه في المدونة على الضرب شاهد واحد لحلفوا على الضرب وعلى أنه مات منه يمينا واحدة أيضا وخلاف ما في سماع سحنون بعد هذا من أن النصراني إذا ضرب فقال: فلان قتلني ثم مات لم يكن فيه شيء لا بقسامة ولا بيمين إلا أن يقوم شاهد واحد فيحلف ولاته يمينا واحدة ويأخذوا الدية، قال: وإلى هذا رجع، وهو خلاف لما في كتب المسائل، فيحتمل أن يكون الذي في كتب المسائل أنهم لا يحلفون مع شاهدهم ويحلف المشهود عليه خمسين يمينا مثل قول أشهب وظاهر هذه الرواية، ويضرب المشهود عليه مائة ويسجن سنة عند أشهب حلف أو نكل وعند ابن القاسم وإن غرم الدية بيمين أولياء المقتول، ولم ير ابن الماجشون ضرب مائة وسجن سنة إلا على من أشاطت القسامة بدمه فعفي عنه أو أقسم على غيره فترك هو، والمغيرة يقول: إنهم يحلفون مع شاهدهم خمسين يمينا ويستحقون ديته وهو قول ثالث في المسألة وبالله التوفيق.

[مسألة: شهد رجل عدل على جرح رجل فمات من ذلك الجرح]
مسألة قلت: فجنين الحرة المسلمة يطرح فيستهل ويشهد على الاستهلال امرأتا عدل ولا يشهد على ضربها إلا رجل واحد عدل

(16/16)


أتجب القسامة لأوليائه بشهادة واحد على الضرب؟ قال: لا وكذلك لو شهد رجل عدل على جرح رجل فمات من ذلك الجرح لم تجب فيه قسامة وإن صح المجروح حلف مع شاهده واقتص.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا قسامة مع الشاهد الواحد على الجرح خلاف نص قوله في المدونة، وفي نوازل سحنون بعد هذا القولان جميعا، فعلى القول بأنه يكون في ذلك القسامة يحلفون لقد جرحه ولقد مات من جرحه، ولا يحلفون مع الشاهدين على الجرح إلا لقد مات من ذلك الجرح، وأما مع الشاهد على القتل فيحلفون لقد قتله خاصة، فتفترق الثلاثة الوجوه في صفة الأيمان، وتختلف أيضا في القسامة مع الشاهد الواحد على إقرار القاتل بالقتل عمدا، فقال أشهب في ذلك القسامة، ولابن القاسم في كتاب ابن المواز أنه لا قسامة في ذلك، ومثله في آخر سماع سحنون، وهو ظاهر ما في المدونة، إلا أن سحنون أصلح ما في المدونة ورده إلى مثل قول أشهب لأن ابن القاسم قال فيها: وهذا عندي مخالف للدم، زاد سحنون في ذلك دم الخطأ على سبيل التفسير لقوله، وذلك خلاف المنصوص له في كتاب ابن المواز من أن القسامة لا تكون مع الشاهد الواحد على إقرار القاتل بالقتل في العمد، وإذا قاله في العمد فأحرى أن يقوله في الخطأ، وقد اختلف أيضا قوله في القسامة مع الشاهد الواحد على إقرار القاتل بقتل الخطأ، وقع اختلاف قوله في ذلك بعد هذا في سماع سحنون، وإذا قال بالقسامة مع الشاهد الواحد في قتل الخطأ فأحرى أن يقول ذلك في العمد.
فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: إيجاب القسامة مع الشاهد الواحد على إقرار القاتل بالقتل عمدا أو خطأ، والثاني: لا قسامة في ذلك لا في العمد ولا في الخطأ، والثالث: الفرق بين العمد والخطأ، وإلى هذا ذهب سحنون وعليه أصلح ما في المدونة، وهو الأظهر من الأقوال إذ قد قيل إن إقرار القاتل

(16/17)


بالقتل خطأ ليس بلوث يوجب القسامة، فكيف إذا لم يثبت قوله وإنما شهد به شاهد واحد، وأما القسامة مع الشاهد على القتل أو الشاهدين على الجرح أو على قول المقتول دمي عند فلان فلا اختلاف في المذهب في وجوب القسامة بذلك في العمد والخطأ، وقد مضى بعض هذا في أول رسم من سماع عيسى.
وأما قوله: وإن صح المجروح حلف مع شاهده ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها: هذا وهو قوله في كتاب الأقضية من المدونة. والثاني: أنه لا يقتص في الجراح مع الشاهد الواحد وهو قوله في كتاب الشهادات منها، وكل جرح لا قصاص فيه فإنما هو مال فلذلك جازت فيه اليمين مع الشاهد، والثالث: الفرق بين صغار الجراح وكبارها، وهو قول سحنون ومذهب ابن الماجشون وبالله التوفيق.

[مسألة: يجرحان رجلا أحدهما عمدا والآخر خطأ فتقوم عليهما البينة بذلك فيموت المجروح]
مسألة وسألته عن الرجلين يجرحان رجلا يجرحه أحدهما عمدا والآخر خطأ فتقوم عليهما البينة بذلك فيموت المجروح، قال: يخير الأولياء فإن شاءوا أقسموا على الجارح عمدا فقتلوه وأخذوا من الجارح خطأ عقل الجرح الذي جنى، وإن شاءوا أقسموا على الجارح خطأ وأخذوا الدية تامة من عاقلته واستقادوا من الجارح عمدا مثل الجرح الذي بصاحبهم، وليس لهم أن يقسموا عليهما فيستقيدوا من الجارح عمدا ويأخذوا الدية من عاقلة الجارح خطأ ولكنهم يخيرون فيما فسرت لك.

(16/18)


قلت: فإن لم يثبت الجرحان على الرجلين إلا أن الميت ادعى أن فلانا جرحه عمدا وأن فلانا جرحه خطأ بجرحين كانا به؟ فقال: أمره فيما يدعي عند موته مثل الذي تثبته البينة من أمر جرحيه - فيما فسرت لك سوى إن أقسموا على الجارح عمدا قتلوه وأخذوا عقل الجرح خطأ، وإن أقسموا على الجارح خطأ أخذوا الدية من عاقلته واقتصوا من الجارح عمدا بمثل جرحه.
قال محمد بن رشد: أما إذا قامت البينة على الجرحين فقوله إن الأولياء مخيرون بين أن يقسموا على الجارح عمدا فيقتلوه ويأخذوا من الجارح خطأ عقل الجرح الذي جنى، وبين أن يقسموا على الجارح خطأ فيأخذوا الدية من عاقلته ويقتصوا من الجرح صحيح على أصل ابن القاسم وروايته عن مالك في أن من قطع يد رجل عمدا فنزا فيه فمات أن الأولياء مخيرون بين أن يقسموا فيقتلوه، أو لا يقسموا فيستقيدوا منه بقطع يده، ويأتي فيها على قياس قول أشهب في أنه ليس للولاة أن يقتصوا منه بقطع يده إلا باختياره لأن الجناية قد عادت نفسا بما قاله في سماع أبي زيد أنهم إن أقسموا على الذي ضربه عمدا قتل به ولا شيء على الآخر، وإن أقسموا على الذي ضربه خطأ كانت عليه الدية كاملة يريد على العاقلة، وبرئ الآخر، وأما إذا لم تكن بينة على الجرحين وإنما كان ذلك بدعوى من الميت فقوله: إن ذلك بمنزلة البينة على الجرحين مخالف للأصول؛ لأن الجراح لا تستحق بالقسامة منها في العمد، ولا الدية في الخطأ، وهو نص قوله في المدونة إن الجراح ليس فيها قسامة، والصحيح فيه ألا سبيل إلى القصاص من الجرح ولا إلى أخذ الدية فيه، وإنما لهم الخيار في أن يقسموا على من أحبوا فإن أقسموا على المتعمد قتلوه ولم يكن على الآخر شيء ولا على عاقلته وإن أقسموا على المخطئ أخذوا الدية من عاقلته ولم يكن على الآخر شيء لأنه لا تكون قسامة في جرح فيستحقون بها أرشه أو القود منه بجرح صاحبهم، قاله محمد بن المواز،

(16/19)


وعاب رواية يحيى هذه وعابها أيضا يحيى بن يحيى، ولو شهد على كل واحد من الجرحين شاهد واحد لكان الحكم في ذلك على ما اخترناه وصححناه في الوجهين المتقدمين أن يكون الأولياء مخيرين، فإن أقسموا مع الشاهد على جارح الخطأ استحقوا الدية على عاقلته ولم يكن لهم على جارح العمد شيء إذ لا يقتص باليمين مع الشاهد إلا المجروح وأما ورثته فلا وإن أقسموا على جارح العمد قتلوه بقسامتهم وحلفوا مع شاهدهم على الجرح الخطأ فاستحقوا أرشه لأنه مال من الأموال كدين ثبت للميت بشاهد واحد فيستحقونه مع أيمانهم مع شهادته.

[مسألة: يجرح الرجل عمدا فيصالحه ثم ينزى في جرحه فيموت]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يجرح الرجل عمدا فيصالحه على شيء غرمه ثم ينزى في جرحه فيموت فيقول وليه: إنما كان صالحك في الجراح ولم يصالحك في دمه قال: أرى القود يجب لهم إن أقسموا إذا كان المقتول إنما صالحه بعد ثبوت الجرح عليه بإقرار أو بينة، ويرد عليه ما كان أخذ منه في الصلح، قال: وإن كان الجرح خطأ وكان قد صالحه فيما كان وجب عليه من عقل الجرح ثم نزي في جرحه فمات أقسموا لمات من ذلك الجرح وتمت لهم الدية على العاقلة ويرد على القاتل ما كان غرم بالصلح.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أنه خير ولي المقتول في العمد بين التمسك بالصلح أو الرجوع إلى القود ورد ما أخذ بالصلح ولم يخيره في الخطأ إذ من حق القاتل أن يرد إليه ما أخذ منه في الصلح لأن الجرح قد آل إلى النفس ووجبت فيه الدية على العاقلة وهو ظاهر ما في المدونة،

(16/20)


وأشهب لا يوجب له الخيار في العمد ولا في الخطأ، وحكى ابن حبيب في الواضحة أن له الخيار في العمد والخطأ"، وقد مضى بيان القول في هذا في رسم أسلم من سماع عيسى.

[: تحمل العاقلة مما يبلغ ثلث العقل]
ومن كتاب الأقضية وسئل عما تحمل العاقلة مما يبلغ ثلث العقل أذلك إذا بلغ عقل ما جنى الجاني ثلث عقل نفسه، أم ثلث عقل المجني عليه فإنه قد يختلف أحيانا فيكون الجاني رجلا والمجني عليه امرأة وتجني المرأة على الرجل فقلت: إلى ثلث عقل أيهما ينظر؟ أم لا تحمل العاقلة إلا أن تبلغ الجناية ثلث عقل الرجل ولا ينظر في ذلك إلى عقل الجاني والمجني عليه؟ فقال: إنما الأمر فيه أن ينظر إلى عقل المجني عليه إذا كان أحدهما رجلا والآخر امرأة، فإذا بلغت الجناية ثلث عقل المجني عليه حملت ذلك عاقلة الجاني. قلت: أرأيت إن كان المجني عليه مجوسيا أو نصرانيا أو يهوديا فبلغ عقل ما أصابه به المسلم ثلث عقل المجوسي والنصراني واليهودي أتحمل ذلك العاقلة؟ فقال: هذا مما لا تحمله العاقلة قل ما أصاب به المسلم المجوسي أو النصراني أو اليهودي أو كثر بلغ قتله فما دونه.
قلت له: ولم لا تحمل عاقلة المسلم ما جنى على أهل الكتاب ولا مجوسي؟ قال: لأن حالهم في ذلك عندنا كحال العبيد إلا أن دياتهم قد مضت السنة بنصها وفرضها وتسميتها بهم على ما مضى من دياتهم، ولا تحمل عاقلة مسلم أصابهم بقتل فما دونه.

(16/21)


قال محمد بن رشد: هذه المسألة لابن نافع لا لابن القاسم والله أعلم؛ لأنها في الأصل: وسألت ابن نافع في أولها وقلت لابن نافع في آخرها، وقد قال في أول السماع إنه لابن القاسم وأشهب وابن نافع.
وقوله فيها إن الأمر في ذلك أن ينظر إلى عقل المجني عليه إن كان أحدهما رجلا والآخر امرأة، فإذا بلغت الجناية ثلث ديته حملته عاقلة الجاني هو القول الذي قال به مالك في أول رسم من سماع أشهب وأنكر أن يكون قال إنه إن بلغت الجناية ثلث دية أحدهما حملته عاقلة الجاني، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك وقلنا: إنه كان الأظهر ألا تحمل عاقلة الجاني جنايته إلا أن تبلغ ثلث ديتهما جميعا وبينا الوجه في ذلك فلا معنى لإعادته.
وأما قوله: إنه لا تحمل عاقلة الجاني من المسلمين ما جنى على يهودي أو نصراني أو مجوسي قل ذلك أو كثر لأن أهل ذمتنا بمنزلة عبيدنا، فهو خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها وهو بعيد أيضا إلا أن يتأول على أنه إنما أراد أهل الذمة من أهل العنوة دون أهل الصلح فيصح قوله ويخرج على أحد قولي ابن القاسم في أنهم كالعبيد المأذون لهم في التجارة فلا يحرم تزويج إمائهم، وهو قوله في سماع سحنون عنه، وأما على قوله بأنهم أحرار فالقياس بأن تحمل عاقلة الجاني من المسلمين ما جنى عليهم إذا بلغ ذلك ثلث دية المجني عليه أو الجاني على الاختلاف المذكور إلا أن يقال إنها لا تحمل شيئا من ذلك مراعاة للقول بأنهم عبيد، فيكون لذلك وجه، فتأويل قول ابن نافع هذا على أنه إنما تكلم على أهل الذمة من أهل العنوة أولى من حمله على ما لا يصح وبالله التوفيق.

[مسألة: يرمى بقتل الرجل وتقوم عليه بذلك بينة]
مسألة قال وسألته عن الرجل يرمى بقتل الرجل وتقوم عليه بذلك بينة أو ثبت عليه لوث تجب به القسامة أو يرميه المقتول بدمه فيأتي

(16/22)


المتهم ببينة عدول يشهدون أنه قد كان معهم في اليوم الذي قتل فيه القتيل ببلد ناء بعيد لا يرى أن يبلغ المتهم من ذلك الموضع إلى الموضع الذي قتل فيه القتيل من ليلته ويرجع، فقال: أما إذا رماه بدمه أو لم يثبت عليه إلا لوث وكان الذين شهدوا له أنه كان معهم بمثل الموضع الذي وصفت عدولا فإن ذلك يدرأ عنه القسامة، قال يحيى: ولم يجبني في الذي تقوم البينة عليه بالقتل ومعاينة الضرب.
قال محمد بن رشد: أما التدمية والشبهة التي توجب القسامة فلا اختلاف في سقوطها بالشهادة للمدعى عليه أو المتهم بأنه كان في ذلك اليوم بغير ذلك البلد كما قال في هذه الرواية، ويحتمل أن يكون ابن وهب لأنه كذلك وقع في أصل السماع، ومثله في نوازل سحنون من كتاب الشهادات.
وأما الذي تقوم عليه البينة بالقتل أو معاينة الضرب فالمشهور في المذهب أن ذلك أعمل من شهادة من شهد له أنه كان في ذلك اليوم في ذلك البلد، وهو قول ابن الماجشون وسحنون في نوازله من كتاب الشهادات وقول أصبغ في نوازله منها أيضا، وذهب إسماعيل القاضي إلى أن الشهادة تبطل بذلك، وهو قول محمد بن عبد الحكم يريد والله أعلم إذا كانت مثلها في العدالة أو أعدل منها، وقد مضى الكلام على هذا المعنى مستوفى في الموضعين المذكورين من كتاب الشهادات فلا معنى لإعادته.

[: تكون به جراحات فيقول بي فلان وفلان ثم ينص ما أصابه به كل رجل منهم]
ومن كتاب أول عبد
وسئل عن الرجل تكون به جراحات وآثار ضرب فيقول بي فلان وفلان ثم ينص ما أصابه به كل رجل منهم فيقول: أما فلان فطعنني بالرمح وضربني فلان بالسيف وضربني فلان بالعصا فأوضحني،

(16/23)


وخنقني فلان فمن فعل هؤلاء أموت إن مت مما ترون بي، ثم يموت فيوجد بعض تلك الجراحات قد أثخنته وبلغت مقاتله وشأن الخنق خفي أيجوز للأولياء أن يقسموا على من أحبوا؟ وكيف إن قال الميت أشدهم ألما الخنق أو الركض الذي فيه بي فلان، أو قال ضربة فلان بلغت مقاتلي أو طعنة فلان أو نص ما صنع به كل واحد منهم ولم يذكر مبلغها منه؟ قال: إذا لم يرم بدمه واحدا دون دوم واحد ولكن نص ما جرحه به كل واحد منهم فإنه ينظر إلى ما جرحه به كل رجل منهم، فإن وجد جرح أحدهم قد أنفذ مقاتله دون ما صنع به أصحابه لم يكن لهم أن يقسموا إلا عليه وحده، ولا خيار لهم في أن يقسموا على غيره، وإن وجدوا مقاتله قد أنفذها جراحات اثنين أو ثلاثة أو أجمعين أقسموا على من أحبوا ممن رئي أنه قد بلغ مقاتله فلم يدر من جرح أيهم مات، ولم يكن لهم الخيار في أن يقسموا على من جرحه جراحات لم توهنه ورئي أن جراحات غيره كانت أخلص إلى نفسه وأنفذ لمقاتله قال: وإن كانت كلها منفذه لمقاتله أو كلها [غير موهنة له] فيما يرى حتى لا يدرى من فعل أيهم مات أقسموا على من أحبوا من جميع القوم وقتلوه، قلت: أرأيت من برئ من أن يقسم عليه حين رئي أن جرح غيره أنفذه أيجب عليه ضرب مائة سوط وسجن عام كما يجب على الذين يجب عليهم القسامة؟ فيقسم الأولياء على أحدهم ويضرب الآخرون مائة مائة ويسجنون عاما.
قال محمد بن رشد: قوله إذا نص ما أصاب به كل واحد منهم من

(16/24)


طعن برمح وضرب بسيف وركض وخنق أنه إن لم يرم واحد منهم دون غيره لم يكن لهم أن يقسموا إلا على من أنفذت جراحه مقاتله دون غيره ممن وصف ما أصابه به من الخنق والركض الخفي الشأن الذي لا يظهر يدل على أنه لو رمى بدمه الذي ركضه أو الذي خنقه لم يكن لهم أن يقسموا على سواه، وذلك مثل ما في سماع أبي زيد من أن التدمية بالركض والخنق وشبهه مما لا أثر له عاملة، وهو مذهب أصبغ قال: وقد قال مالك في الذي يلكز أو يضرب بالعصا أو يرمي بالحجر: إن فيه القسامة والقود إن كان عمدا بلا استثناء من ملك إن كان لذلك أثر أو جرح، والغالب من معرفة الناس أن اللكزة والعصا لا تجرح، وكذلك الركضة توهن داخل الجوف ولا تجرح، خلاف ما تقدم من قول ابن كنانة في آخر رسم العتق من سماع عيسى، وقد مضى هناك زيادة بيان فيه تتميم للمسألة.
ولم يجبه فيما سأله عنه من هل يجب على من برئ من أن يقسم عليه حين رئي أن جرح غيره أنفذ مقاتله ضرب مائة وسجن سنة أم لا؟ والجواب أن ذلك يجب عليهم؛ لأن الذي رماهم به من التعاون على قتله بالطعن والضرب والخنق لو قامت عليه البينة لقتلوا به جميعا، فإذا لم يكن إلا قوله فلم يمكنوا من القسامة [إن على واحد منهم وجب أن يضرب سائرهم مائة مائة ويسجنوا حولا كاملا إذ من أهل العلم من يرى أنهم يقتلون كلهم بالقسامة] كما كانوا يقتلون كلهم لو قامت على ذلك من فعلهم بينة. وبالله التوفيق.

[مسألة: دمي على رجل ثم برأه ودمي على غيره]
مسألة وسئل عن الرجل يضرب فيسأل من به؟ فيقول: فلان وفلان ثم

(16/25)


يقيم أياما فيقال له اتق الله ولا ترم بدمك بريئا فيقول بي فلان وفلان لغير الذين سماهما أولا بدمه، ولا يذكر تبرية الأولين أيخير الورثة بين أن يقسموا على من أحبوا من الأولين والآخرين؟ فقال: لا ولكن يكون قوله الذي رجع إليه تكذيبا لقوله الأول فتسقط القسامة عن الأولين والآخرين بما تبين من وهمه فيمن يرميه بدمه وجهالته بموضع حقه، ثم لا يقسم على دم مثل هذا إلا بلوث من بينة وهذا عندي بمنزلة رجل يرمي بدمه رجلا ثم يبرؤه ويرمي به آخر فتسقط القسامة عن الأول والآخر.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب ابن القاسم وأشهب أنه إن دمي على رجل ثم برأه ودمي على غيره أو دمي على غيره ولم يبرئه أو دمي على جماعة ثم برأ بعضهم أو دمي على رجل ثم دمي عليه وعلى غيره أو قال لا أدري من بي لأني كنت سكرانا ثم دمي على رجل أن القسامة تبطل في ذلك كله، وقال أصبغ إلا إذا دمي على رجل ثم دمي عليه وعلى غيره فقال: إن كان لم يقل أولا ليس بي غيره فيقبل قوله الآخر، وقال ابن الماجشون يؤخذ بقوله الآخر في ذلك كله ولو لم يقبل قوله الآخر ما قبل قوله الأول وهو بعيد يرده ما روي عن أنس بن مالك قال «عدا يهودي في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ورضخ رأسها فأتى بها أهلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي في آخر رمق وقد أصمتت، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قتلك فلان؟ لغير الذي قتلها فأشارت برأسها أي لا، فقيل لرجل آخر غير الذي قتلها فأشارت برأسها أي لا، فقال فلان لقاتلها فأشارت أي نعم، فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض رأسه بين جرحين» لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أعمل قولها إذ

(16/26)


لم تضطرب فيه عند الاختبار، وإذا كان الشاهد تسقط شهادته باضطرابه فيها وشهادته بها بعد إنكاره لها حسب ما مضى القول فيه في رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات فأحرى أن ترد تدمية المدمى باضطرابه فيها وقوله بها بعد إنكاره لها، ورأى أصبغ تدميته على الرجل ثم تدميته عليه وعلى غيره إذا لم يقل أولا ليس بي غيره من ناحية زيادة الشاهد في شهادته، فأجازها وإن كان ذلك لا يقبل إلا من المبرز في العدالة، فقول ابن القاسم أظهر والله أعلم؛ لأن التدمية أضعف من الشهادة وأما إذا قال بي فلان أو فلان على الشك منه في أحدهما فلا اختلاف في أن تدميته تبطل ولا يكون للأولياء أن يقسموا على واحد منهما وبالله التوفيق.

[مسألة: تجب لهم القسامة بالشاهد العدل فينكلون عن الأيمان]
مسألة قال يحيى: قلت له فالقوم تجب لهم القسامة بالشاهد العدل فينكلون عن الأيمان ويردونها على القاتل فيحلف ويبرأ ثم يجدون شاهدا آخر؟ قال: هم مثل الذي فسرت لك من أمر طالب الحق يشهد له عليه شاهد واحد فينكل عن اليمين ويرد اليمين على المطلوب ثم يجد شاهدا آخر أنه لا حق له ولا لأهل القسامة إذا عرضت عليهم حقوقهم بأيمانهم مع شاهدهم فنكلوا، قلت: أرأيت أهل القسامة لو لم تجب لهم إلا بقول المقتول فنكلوا ثم وجدوا شهداء على قاتل صاحبهم أيستحقون دمه بالشهداء أم لا حق لهم إذا نكلوا عن القسامة؟.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن نكول الأولياء على القسامة بالشاهد الواحد وردهم الأيمان على المدعى عليه بمنزلة نكول صاحب الحق عن اليمين مع شاهده ورده اليمين على المطلوب، وإذا كان بمنزلته وجب أن يدخل في مسألة القسامة من الاختلاف ما ذكرناه في رسم أول عبد من سماع

(16/27)


يحيى من كتاب الشهادات في مسألة صاحب الحق ينكل عن اليمين مع شاهده فيرد اليمين على المطلوب فيحلف ثم يجد شاهدا آخر أو شاهدين سوى الأول، ولم يجب إذا نكلوا عن اليمين مع قول المقتول وردوا الأيمان على القاتل فحلف ثم وجدوا شهودا على القاتل هل يكون لهم القيام بهم أم لا ولا فرق بين المسألتين يدخل فيهما من الاختلاف ما دخل في الذين نكلوا عن القسامة مع الشاهد فردوا الأيمان على المدعى عليه وفي الذي نكل عن اليمين في حقه مع شاهده فردها على المطلوب، إلا أنهم لم يجدوا إلا شاهدا واحدا على القتل، فلا يضاف إلى قول المقتول، إذ ليس بشاهد وإنما هو لوث أوجب القسامة لأوليائه على مذهب مالك وأصحابه.

[مسألة: كيف يحلف أهل القسامة]
مسألة قلت له كيف يحلف أهل القسامة أعلى البت أم على العلم؟ وكيف تكون أيمانهم؟ قال يحلفون بالله الذي لا إله إلا هو لمات من ضرب فلان بالبت لا يجزيهم أن يدخلوا في أيمانهم علمنا ولا ظننا ولا رأينا ولا شيئا غير أن يبتوا الحلف لمات من ضربه وتنتهي أيمانهم في ذكر الله والحلف باسمه تبارك وتعالى إلى أن يقولوا بالله الذي لا إله إلا هو وليس عليهم أن يقولوا الرحمن الرحيم ولا الطالب الغالب المدرك ولا شيء غير ما فسرت لك.
قال محمد بن رشد: قوله في أهل القسامة إنهم يحلفون لمات من ضرب فلان معناه إذا كانت القسامة بشاهدين على الضرب، وأما إذا كانت بشاهد واحد على الجرح على القول بوجوب القسامة بذلك فيحلفون لقد جرحه ولقد مات من جرحه، وكذلك إذا كانت القسامة بقول المقتول وقد حيي حياة بينة، وإما إن كانت بقوله وهو في غمرة الموت أو بشاهد واحد على القتل فيحلفون لقد قتله أو لقد جرحه الجرح الذي مات منه لا أكثر، قال ابن حبيب ويحلفون على قوله لقد ضربه ولمات من ضربه إن كان سمى ضربا، ولقد قتله

(16/28)


ولمات من قتله إن كان سمى الميت قتلا، وسواء كان به أثر أو لم يكن، وأما قوله في أيمانهم إنها تنتهي من ذكر اسمه إلى أن يقولوا بالذي لا إله إلا هو فهو قوله في المدونة المشهور من مذهبه وقد قيل إنه يزيد في يمينه عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، وهو قول ابن كنانة في المدنية، وفي كتاب ابن شعبان أن من حلف على المنبر فليقل ورب هذا المنبر، وقد روى ابن القاسم وابن وهب من مالك أن الحالف في القسامة يقول بالله الذي أحيى وأمات ذكر ذلك ابن حبيب في الواضحة، والزيادة على بالله الذي لا إله إلا هو عند من رأى ذلك إنما هو استحسان، إذ لم يختلف في أن من لم يزد على ذلك شيئا تجزيه يمينه، فالاختلاف إنما هو هل تستحسن الزيادة أم لا؟ واستحسانها أحسن، وأما إذا لم يزد على بالله أو قال والذي لا إله إلا هو فلا تجزيه اليمين، قاله أشهب في الحالف والذي لا إله إلا هو.
ولا يحلف في القسامة إلا قائما مستقبل القبلة، ويستحب أن يكون ذلك في دبر صلاة العصر، وأما في الحقوق فقيل إنه يحلف قائما مستقبل القبلة وهو قول ابن الماجشون، وقيل إنه يحلف قائما وليس عليه أن يستقبل القبلة وهو ظاهر ما في المدونة وما في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية، وقيل ليس عليه أن يحلف قائما وهو قول ابن كنانة وبالله التوفيق.

[مسألة: لم يكن للمقتول عمدا عصبة ولا وارث]
مسألة قلت: أرأيت إن لم يكن للمقتول عمدا عصبة ولا وارث أتقسم القبيلة التي هو منها وهو معروف الانتماء إليهم يعقل معهم ويعقلون معه؟ قال: لا قسامة لهم ولا لأحد إلا بوراثة بنسب ثابت أو مولى ولاء أهل نعمته عليهم، ولا يقسم الموالي الأسفلون ولا تقسم القبيلة التي لا تستوجب ميراثه بالانتماء إلى أب يلقاهم عنده بالبينة العادلة.

(16/29)


قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قاله، ولا اختلاف فيه أحفظه وبالله التوفيق.

[مسألة: تقول دمي عند فلان ثم تطرح جنينا ميتا]
مسألة وسألته عن المرأة تقول: دمي عند فلان ثم تطرح جنينا ميتا، فقال: إن ادعت دمها عمدا قتل بالقسامة، قلت أرأيت إن ضربها رجل عمدا فثبت عليه الضرب فطرحت جنينها ثم ماتت أيجب عليه عقل الجنين مع القود إذا سقط ميتا أو إذا ثبت عليه ضربها بالبينة خطأ فسقط ميتا ثم ماتت أيكون عليه عقله مع عقلها أو هل تكون الغرة في خاصة ماله أو على العاقلة؟ وكيف في ثبوت الضرب عليه عمدا أو خطأ بالبينة إن طرحت جنينها حيا فاستهل ثم مات؟ فقال: إذا ثبت عليه أنه ضربها خطأ فطرحت جنينها، ثم ماتت كان عقلها على عاقلته إذا أقسم أولياؤها لماتت من ضربه، ويحلف ورثة الجنين يمينا وحده لمات من ضربه إياها ثم يكون عليه لهم الغرة في خاصة ماله إذا طرحته ميتا، فإن طرحته حيا ثم مات كانت في الأم قسامة وفي الجنين أيضا قسامة، وكان عقلاهما تأمين على عاقلة الضارب، قال فإن قامت عليه البينة أنه ضربها عمدا فطرحت جنينها ميتا ثم ماتت أقسم عليه أولياؤها واستحقوا دمها، وحلف ورثة الجنين يمينا واحدة فأغرموه الغرة في ماله واستقيد منه بدم الأم، وإن طرحت حيا فاستهل ثم مات؛ فإن كان ضربه إياها عمدا في بعض جسدها كانت في الجنين القسامة واستحق بذلك عقله في ماله وأقسم أولياء المرأة على ضاربها عمدا فقتلوه، وإن كان ضرب بطنها حتى رأى الشهود أن عمد القتل الجنين فطرحته حيا واستهل ثم مات كانت فيه

(16/30)


القسامة وفي أمه كذلك، ووجب القتل على الضارب لأولياء المرأة وأولياء الجنين يعفون إن أحبوا أو يقتلون ولا يضر أولياء الجنين عفو أولياء المرأة، ولا يضر أولياء المرأة عفو أولياء الجنين وأولياء كل واحد منهما أحق بالاستقادة لدم صاحبهم إلا أن يعفو من أولياء كل واحد منهما واحد ممن يجوز له العفو فلا سبيل إلى القتل.
قلت فلم رأيت عقل الجنين في مال الضارب حين ثبت عليه أنه ضرب أمه عمدا في بعض الجسد فطرحته حيا ثم مات؟ قال: لأن الضرب إذا كان عمدا فصار منه هلاك الجنين ولم يعمد لقتل الجنين بخاصة فهو عندي بمنزلة الذي يقطع أصبع الرجل عمدا فيشل يده ثم يستقاد منه بقطع الأصبع فلا تشل يد المستقاد منه، فإنه يعقل للمجروح الأول عقل شلل اليد ويكون ذلك في خاصة مال الجارح.
قلت: أرأيت ما كان مثل هذا مما يجب في خاصة مال الجاني؟ من أي أسنان الإبل يؤدي أمن أسنان العمد الأربعة أم من أسنان الخطأ الخمسة؟.
قال محمد بن رشد: دية جنين الحرة المسلمة أو النصرانية من المسلم إذا ضربت أو ضرب بطنها فألقت جنينها ميتا وهي حية غرة عبد أو وليدة على ما جاءت به السنة، وقال أشهب: إذا ماتت من الضربة ففي جنينها الغرة خرج قبل موتها أو بعد موتها، وهو قول ربيعة والليث وقيمة الغرة على مذهب مالك خمسون دينارا أو ستمائة درهم وهو من الجراح ويستوي فيه العمد والخطأ؛ لأنه أقل من ثلث الدية فلا تحمله العاقلة، ولو كان الجاني عليه من المجوس لافترق فيه العمد من الخطأ لأنه أكثر من ثلث دية الجاني فيكون في الخطأ على عاقلته، ولا يثبت بالقسامة مع قول أمها، وإنما يثبت بشاهدين

(16/31)


على الضرب أو بشاهد واحد مع يمين كل واحد من الورثة لأنه مال من الأموال والذي يأتي في هذا على معنى ما في المدونة إذا تدبرته، والذي في هذه الرواية من أنه لا يستحق ورثة الجنين الغرة إلا بأيمانهم لمات من ضربه أظهر فإن لم يشهد على الضرب إلا شاهد واحد حلف الورثة على الضرب، وعلى أنه مات منه على هذه الرواية، وعلى معنى ما في المدونة إنما يحلفون على تحقيق ما شهد به الشاهد من الضرب خاصة إذ لوثبت الضرب لاستحقوا الغرة على معنى ما فيها دون يمين، هذا الذي رجع إليه مالك من أن دية الجنين لورثته، وقد كان يقول أولا إنها لأبويه خاصة على الثلث والثلثين فأيهما خلا بها كانت له كلها ولا شيء فيها لأحد من سائر ورثته، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة والمغيرة وابن دينار، وقال ربيعة إنه للأم خاصة؛ لأنه عضو من أعضائها وجرح من جراحها، فإن ماتت هي من الضرب كان فيها الدية في الخطأ على العاقلة والقصاص في العمد بالقسامة مع قولها أو مع شهادة شاهدين على الضرب أو شهادة شاهد واحد على الاختلاف في القسامة مع الشاهد الواحد على الجرح، وكذلك إن استهل الجنين بعد خروجه فمات كانت فيه الدية في الخطأ على العاقلة والقصاص في العمد إلا أنه لا يثبت بالقسامة مع قول أمه، وإنما يثبت بالقسامة مع شاهدين على الضرب لمات منه، وقد قال بعض المدنيين عن مالك: إنه لا قسامة فيه إذا استهل فمات مكانه وإنما تكون فيه القسامة إذا عاش ثم مات أو بشاهد واحد على الضرب على القول بأن القسامة تكون مع الشاهد الواحد على الجرح.
هذا إذا كان الضرب في البطن، وأما إذا كان في سائر أعضائها فقيل إنه لا قصاص في ذلك وإنما فيه الدية في مال الجاني، وهو قوله في هذه الرواية، ومثله في المدونة من قول ابن القاسم قال: لا يكون العمد في المرأة إلا أن يضرب بطنها خاصة تعمدا، فهذا الذي يكون فيه القصاص بقسامة،

(16/32)


إلا أن سحنون علم عليه فقال ليس من الأمهات، وهذا القول ينحو إلى القول بشبه العمد الذي قال به أكثر أهل العلم ورواه العراقيون عن مالك لأنه عمد في الضرب وخطأ في القتل إذ لم يقصد الضارب في غير البطن إلى قتل ما في البطن وشبه ذلك في هذه الرواية بما شبهه به، وهو بشبه العمد أشبه، وقيل: إن فيه القصاص إذا علم أن سقوطه كان من الضربة كانت في بطنها أو في ظهرها أو في أي عضو ما كان من أعضائها وقع ذلك لابن القاسم في النوادر، وهو القياس على أصل مذهب مالك في أن شبه العمد باطل.
ولما سأله عن الدية هل تكون في ماله مربعة أو مخمسة لم يجبه على ذلك، والجواب في ذلك أنها تكون في ماله مربعة كدية العمد إذ لا مدخل للخطأ في ذلك، بل لو قيل إنها تكون مثلثة لأنها دية شبه العمد عند من رآه من أهل العلم حسبما ذكرناه في أول سماع ابن القاسم لكان له وجه، فقوله في أول المسألة في المرأة تقول دمي عند فلان وتطرح جنينا ميتا إنها إن ادعت دمها عمدا قتل بالقسامة، يريد وإن ادعته خطأ كانت ديتها على العاقلة بقسامة أيضا، وسكت عن الجنين إذ لا يجب فيه شيء بالقسامة على ما ذكرناه خرج ميتا أو استهل صارخا إذ لا يقبل قول الأم في قتل ابنها، وقد أتى ما ذكرناه على سائر المسألة، وقد مضى في رسم المكاتب القول فيما يستحق به دية جنين النصرانية فلا معنى لإعادته.
واختلف في جنين الأمة فقيل فيه عشر قيمة أمه، وهو قوله في المدونة، وقيل ما نقصها وهو قول ابن وهب، وكذلك جنين أم الولد من غير سيدها ففيه الغرة كجنين الحرة من زوجها وبالله التوفيق.

(16/33)


[مسألة: يجرحه جرحا يبلغ مقاتله ثم يعدو عليه رجل آخر فيجهز عليه]
مسألة وسألته عن الرجل يشق بطن الرجل عمدا أو يجرحه جرحا يبلغ مقاتله ثم يعدو عليه رجل آخر فيجهز عليه، قال: يستقاد من الأول الذي بلغ مقاتله ويعاقب الثاني الذي أجهز عليه، ولا يقتل به إلا الأول، وأما الثاني فلا قتل عليه ولكن ليفظع في عقوبته فقد اجترم عظيما، قال وإنما ينظر في هذا إلى ما بلغ منه فإن أنفذ مقاتله حتى لا تعود له حياة لترجى كان أمره على ما وصفت لك وإن أكل وشرب وتكلم، قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن الرجل يضرب الرجل للبطن فيشق أمعائه أو يضربه ضربة يعلم أنه لا يحيى من مثلها ثم يجهز عليه آخر. قال: يقتل الأول ويعاقب الثاني وكذلك كل من ضرب ضربة يعلم أنه لا يحيى من مثلها ثم أكل بعد ذلك أو تكلم ثم مات فإنه قاتله يقتل بلا قسامة.
قال محمد بن رشد: في سماع أبي زيد بعد هذا أن القاتل الآخر هو الذي يقتل، ولا يكون على الأول إلا الأدب، وإيجاب القود على الأول أظهر، ولو قيل إنهما يقتلان جميعا لأنهما قد تشاركا في قتله لكان لذلك مطعن، ووجه رواية أبي زيد أنه بعد إنفاذ مقاتله معدود في جملة الأحياء يرث ويورث ويوصي بما شاء من عتق وغيره، فوجب أن يقتل قاتله وإن علم أن حياته لا تتمادى به كما لو قتل من بلغ به المرض مع الكبر إلى حال يعلم أنه لا تتمادى حياته معه، وقد روي عن سحنون أن وصية من أنفذت مقاتله لا تجوز، فعلى قوله لا يرث ولا يورث ولا يقتل به قاتله، وعلى رواية أبي زيد يرث ويورث ويقتل به قاتله ولم يتكلم ابن القاسم في هذه الرواية هل يرث بعد إنفاذ مقاتله ويورث أم لا؟ والقياس على قوله في أنه يقتل الأول به ألا يرث ولا يورث، والمنصوص من قوله على ما مضى في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى أنه يرث ويورث، فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال بالتفرقة

(16/34)


بين القصاص والموارثة وهي أحسن الأقوال والله أعلم.

[مسألة: الميت أحق بدمه من الأولياء]
مسألة قال يحيى: وسألته عن الرجل يقتله النفر عمدا فيعفو قبل موته عن بعضهم أو يأخذ الدية من بعضهم ويأمر بقتل بعضهم، فقال: عفوه جائز ومن عفا عنه أيضا على أخذ الدية منه فذلك جائز له ولازم للذي صالحه على غرم الدية، قلت: أرأيت إن مات فأراد الورثة العفو عن الذي أمر ألا يعفى عنه يكون لهم العفو وقد كان أمر بقتلهم إن مات من جراحاته التي أصابوه بها؟
قال محمد بن رشد: لم يقع على هذه المسألة جواب. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ أنه لا عفو للأولياء إلا أن يستحقوه بقسامتهم فيكون العفو إليهم، وقوله صحيح بين؛ لأن الميت أحق بدمه من الأولياء فلما لا يكون لهم أن يقتلوه إذا عفا عنه لا يكون لهم أن يعفوا عنه إذا أوصى ألا يعفى عنه، فإذا مات ولم يعف ولا أوصى بعفو ولا قتل نزل ورثته في ذلك بمنزلته فكانوا مخيرين بين القتل والعفو بدليل قول الله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] . وقد ذكر فضل عن أشهب أنه لا عفو للولاة إذا أقسموا، وهو بعيد إذ لا فرق بين أن يجب القود بإقامة البينة على القتل أو بالقسامة في جواز العفو لهم وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لا تقسموا إلا على فلان]
مسألة قلت: أرأيت إن لم يثبت الدم بقسامة أله أن يقول: لا تقسموا إلا على فلان فيلزمهم ألا يقسموا على غيره؟ قال: ما أرى ذلك إلا

(16/35)


له لأنه أعلم بأشدهم ضربا له وأيهم كان أشد عليه فلا أرى إذا قال لا تقسموا إلا على فلان أن يقسموا على غيره.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله واحتج به فلا وجه للقول فيه.

[مسألة: قال لا تقسموا إلا على فلان وضعوا القسامة عن سائرهم]
مسألة قلت أرأيت إن قال دمي خطأ عند فلان وفلان وفلان فسمى رجالا وقال: لا تقسموا إلا على فلان وضعوا القسامة عن سائرهم؟ فقال: إن كان ثلث المقتول يسع ما كان يصير من الدية على الذين أمر بوضع القسامة عنهم لم يكن للورثة أن يقسموا إلا على الذي أمر الميت أن يقسم عليه ويكون لهم على عاقلته بقدر ما كان يصير عليه من الدية بالقسامة لو أقسموا عليهم أجمعين، وتسقط القسامة عن الآخرين ويسقط عنهم ما كان يجب عليهم من الدية بالقسامة، قال: وإن لم يسع ذلك الثلث خير الورثة فإن أحبوا أن يقسموا على الذي أمر به وحده ويحوزوا وصية صاحبهم، فيسقطون من الدية ما كان يصير على الذين أمر الموصي ألا يقسموا عليهم، فذلك لهم وإن أبوا ذلك لضيق الثلث أقسموا عليهم أجمعين وتحاص الذين أوصى لهم المقتول ألا يقسم عليهم في الثلث ثم يوضع عن كل واحد منهم مما وجب عليه من الدية بقدر ما نابه من الثلث، وكان ما بقي على عواقلهم أجمعين وثبت على الذي أمر أن يقسم عليه ما ينوبه من جميع الدية على كل حال إن أقسموا عليه وحده أو عليهم أجمعين.
قلت: أرأيت إن قال الورثة لا نقسم إلا عليهم أجمعين وسع ذلك الثلث أو لم يسع، فإذا ثبت الدم أسقطها عن الذين وضعت

(16/36)


عليهم القسامة ما وجب عليهم من الدية أذلك لهم؟ وهل لعاقلة الذي يقسم عليه وحده إذا كان بعد ثبوت الدم لا يصير عليه إلا أقل من ثلث الدية أن يقولوا: لا نغرم شيئا إلا الذي وجب على صاحبنا لم يبلغ الثلث، والدم لم يرم به هو وحده، وأنتم لم تحلفوا على جميع من وجب لكم عليه القسامة.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إذا كان ثلث المقتول يسع ما يصير على الدية على الذين أمر بوضع القسامة عنهم لم يكن لهم أن يقسموا إلا على الذي أمر الميت أن يقسم عليه خلاف ما في سماع سحنون أنهم يقسمون على جميعهم، وليس لهم أن يقسموا على بعض دون بعض، فإذا أقسموا على جميعهم نظر حينئذ إلى الذين أمر ألا يقسم عليهم، فإن كان ثلث ماله يحمل ما يقع عليهم من الدية لم يكن عليهم شيء، يريد وإن لم يحمل ذلك ثلث ماله سقط عن كل واحد منهم ما حمل الثلث من ذلك، وكان الباقي على عاقلة كل واحد منهم.
ووجه هذا الاختلاف أنه حمل قوله في هذه الرواية على أنه إنما أمر بالقسامة على بعضهم من أجل أنهم كانوا أشد عليه فيما أصابوه به فوجب ألا يتعدى بالقسامة من أمر أن يقسم عليه؛ لأنه أعرف بقدر ما أصابه به كل واحد منهم، وحمل قوله في رواية سحنون على أنه إنما أراد الإحسان إلى الذين أوصى ألا يقسم عليه منهم مع تساويهم فيما أصابوه به، فلم يكن له أن يكلف الورثة القسامة على بعضهم دون بعض مع تساويهم فيما أصابوه به فتكون أيمانهم على ذلك أيمان غموسة، ولو بين فقال لا تقسموا إلا على فلان فإن الذي أصابني هو به أشد مما أصابني سائرهم لم يكن لهم أن يقسموا إلا عليه

(16/37)


قولا واحدا، ولو بين أيضا فقال: لا تقسموا إلا على فلان وإن كان هو وغيره سواء فيما أصابوني به لم يلزم الورثة وصيته بذلك وكان لهم أن يقسموا عليهم كلهم قولا واحدا والله أعلم.
وتفسير ما ذكره من التحاص إذا كان ثلث ماله لا يحمل ما يصير من الدية على الذين أوصى ألا يقسم منهم إلا على واحد ويكون المقتول قد ترك من المال سوى الدية مائتي دينار فمال الميت على هذا ألف دينار ومائتا دينار، وثلثه أربعمائة دينار والموصى لهم تسعة أنفس بتسعمائة دينار فيتحاصون في ثلث الميت فيصير لكل واحد منهم أربعة أتساع ما عليه من الدية فيسقط عن كل واحد منهم أربعة أتساع المائة التي عليه وعلى عاقلته، ويكون عليه وعلى عاقلته خمسة أتساع المائة التي كانت عليه وعليهم؛ لأنه كرجل منهم فيما يلزمهم.
وقوله في الرواية قلت: أرأيت إن قال الورثة: لا نقسم إلا عليهم أجمعين إلى آخر قوله لم يقع عليه فيها جواب، وذلك يجري على ما تقدم من الاختلاف، فلا يكون ذلك لهم على هذه الرواية ويكون ذلك لهم على ما في سماع سحنون وبالله التوفيق.

[مسألة: أولياء الدم الذين وجبت لهم القسامة يغيب بعضهم]
مسألة وسألته عن أولياء الدم الذين وجبت لهم القسامة يغيب بعضهم أيقسم من حضر منهم؟ فقال: إذا كان الذي غاب من أهل القعدد ممن يجوز عفوه على من حضر لو ثبت لهم دم وممن لو حضر فنكل ردت القسامة بنكوله على المدعى عليه فمن غاب من هؤلاء انتظر أبدا حتى يقدم فيقسم أو يعرف نكوله، ولا سبيل إلى القتل دون ذلك وإن أقسم من حضر ممن هو من الميت بمنزلته، وإنما يؤمر من حضر منهم أن يقسم وإن غاب صاحبه؛ لأنه إن نكل من عاجل سقطت القسامة عنه وعمن حضر من أصحابه أو غاب، وردت الأيمان على

(16/38)


المدعى عليه، وإن حلف الحضور ولم ينكل أحد منهم فذلك أمر قد احتيطت فيه لأولياء الدم لما يخاف عليهم من الموت قبل أن يقدم صاحبهم الغائب خوفا من أن يقدم ليقسم فيوجد هؤلاء قد ماتوا أو لا يوجد أحد يقسم معه فيبطل الدم، ولكن يتعجل القسامة ممن حضر ثم يحبس القاتل حتى يقدم على الغائب فيقسم أو يعرف نكوله ولا يعجل في القتل دون قدومه وإن كان الحضور الذين أقسموا اثنين فصاعدا، فليس ذلك بالذي يوجب لهم القتل بقسامتهم دون حضور الغائب منهم، قال: ولو كان الغائب منهم ممن لو حضر فثبت الدم لم يجز عفوه وإن نكل لم تسقط القسامة بنكوله حلف الحضور الذين هم أقعد واستحقوا الدم، وإن لم يكن الحاضر الأقعد إلا واحدا فوجد ثانيا فما فوقه ممن تجوز له القسامة حلف واستحق الدم ولم ينتظر الغائب، وإن كان في القعدد مثل الذي يستعين بقسامته الأقعد الحاضر مثل أن يكون الأقعد الحاضر ابن المقتول والمستعان به أخ أو ابن عم والغائب أيضا ابن عم أو أخا، فهذا الذي لا ينتظر وإن حضر فنكل لم يضر نكوله ابن المقتول إذا جاء بثاني فما فوقه من إخوة الميت أو بني عمه أو عصبته يقسمون معه.
قلت: أرأيت إن نكل أخو المقتول أن يحلف مع ابن أخيه فحلف مع ابن المقتول عم المقتول أو ابن عم أو مولاه الذي أعتقه أتسقط القسامة بنكول هذا الذي هو أقعد من الذين يريدون أن يقسموا مع ابن المقتول؟ فقال: لا تسقط قسامتهم ما لم ينكل الأقعد دنيا الذي يجوز عفوه على من معه وهو أطرف منه، ولكن يقسم هو والأطرف ولا ينظر إلى نكول الأوسط.

(16/39)


قال محمد بن رشد: قوله فمن غاب من هؤلاء انتُظر أبدا حتى يقدم، ظاهره وإن كان بعيد الغيبة، وهو ظاهر ما في المدونة أيضا بخلاف الصغير، وقد قيل: إنه ينتظر الصغير كالغائب، وقال سحنون إن قرب بلوغ الصغير أو مغيب الغائب انتظر، وإن بعد الغائب ولم يقرب بلوغ الصغير لم ينتظر واحد منهما، فحمل المسألتين بعضهما على بعض، والقياس أن ينتظر الصغير وإن بعد بلوغه والغائب وإن بعدت غيبته.
وقوله: وردت الأيمان على المدعى عليه ظاهره أنه هو يحلف وحده إذا ردت عليه الأيمان، ومثله في المدونة، وهو نص قول مطرف، وقد مضى الاختلاف في هذا وتوجيهه في أول رسم من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته وسائر ما ذكره في المسألة بيّن لا إشكال فيه ولا وجه للقول.

[مسألة: يقول دمي عند أبي خطأ أوعمدا]
مسألة وسألته عن الرجل يقول دمي عند أبي خطأ أو عمدا، قال: أما الخطأ فإن الورثة تستوجب عقله على عاقلة الأب بقسامتهم والقسامة تجب لهم على الأب بقول ابنه: دمي عند أبي خطأ، وأما قوله دمي عند أبي عمدا فإنه إن لم يفسر العمد وأبهمه رأيت أن يقسموا على قوله فإن استحقوا دمه درأ عنه القتل لإبهام ابنه العمد الذي رماه به وأغلظت عليه الدية كما صنع عمر بالمدلجي، وكانت في خاصة ماله.
قال: وإن قال أضجعني وذبحني ذبحا وأخذني فبقر بطني وما أشبه هذا مما لو صنع مثله فأثبتته عليه بينة أقيد منه (و) يقتل به، فإن القسامة تقسم على الأب بقول ابنه ويستحقون الدم، فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على المشهور من قول مالك في

(16/40)


أن القسامة تكون في الخطأ بقول المقتول قتلني فلان خطأ، وقد مضى الاختلاف في ذلك في رسم العتق من سماع عيسى ولا اختلاف في المذهب في أن قول المقتول قتلني فلان عمدا لوث يوجب القسامة والقود، وإذا وجب به القود في الأجنبي. فأحرى أن يجب به في الأب إذا بين في تدميته عليه أنه قصد إلى قتله بالوجوه التي ذكرها وشبهها.

[مسألة: من تغلظ عليه الدية أيرث من المال]
مسألة قلت: أرأيت الأب أو كل من تغلظ عليه الدية إذا غلظت عليه أيرث من المال؟ بمنزلة من قتل وليه خطأ أم لا يرث من المال ولا من الدية؟
قال محمد بن رشد: لم يقع لهذه المسألة جواب، والجواب فيها ما وقع من قوله في المدونة أنه لا يرث من ماله قليلا ولا كثيرا لأنه من العمد، وليس من الخطأ، ولو كان من الخطأ لحملته العاقلة، وقد مضى في أول سماع ابن القاسم، الاختلاف في كونها على العاقلة، ولا يدخل الاختلاف في الميراث من ذلك، والله أعلم.

[مسألة: الكبير يقول دمي عند فلان يرمي به صبيا]
مسألة وسألته عن الرجل الكبير يقول: دمي عند فلان يرمي به صبيا قال: يقسم القسامة مع قوله، ويكون العقل على العاقلة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن عمد الصبي خطأ وبالله التوفيق.

(16/41)


[: يقول قتلني فلان وقتل فلانا لرجل آخر]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول: قتلني فلان وقتل فلانا لرجل آخر، قال: يقبل قوله في نفسه وفي غيره، وتكون القسامة مع قوله في غيره إذا كان عدلا، وليس مثل الرجل يقول: قتلني فلان وقتل ابني أن قوله لا يقبل في ابنه ويقبل في نفسه، قلت وإن قال قتلني خطأ وقتل فلانا عمدا فسكت.
قال محمد بن رشد: الفرق بين أن يقول: قتلني فلان وقتل فلانا وبين أن يقول: قتلني وقتل ابني بين؛ لأنه شاهد لنفسه مدع دعوى قد أحكمت السنة إسقاط التهمة عنه فيها، فوجب أن تجوز شهادته مع ذلك لغيره، إذ لو شهد لغيره دون أن يشهد لنفسه لجازت شهادته له وألا تجوز لابنه إذ لو شهد لابنه دون أن يشهد لنفسه لم تجز شهادته له.
وأما إذا قال قتلني فلان خطأ وقتل فلانا عمدا فسكت عن الجواب في ذلك، وذلك يتخرج على الاختلاف في إعمال قوله قتلني فلان خطأ؛ لأنه إذا لم يتهم في قوله قتلني فلان خطأ وأعمل وجب إعمال قوله وفلانا عمدا، وإذا اتهم في قوله قتلني فلان خطأ في أنه أراد غنى ولده فلم يجز قوله، وجب ألا يعمل قوله وقتل فلانا عمدا؛ لأنها شهادة واحدة، فإذا سقط بعضها للتهمة سقطت كلها على المشهور في المذهب، وقد مضى في نوازل أصبغ من كتاب الشهادات تحصيل القول فيما يجوز فيه بعض الشهادة إذا رد بعضها مما لا يجوز وبالله التوفيق.

[مسألة: على من تكون الدية]
مسألة وسئل عن الرجل يجرح النصراني أو العبد ثم يسلم النصراني ويعتق العبد ويقول هذا العبد بعد العتق والنصراني بعد الإسلام دمنا

(16/42)


عند فلان أن أولياء النصراني إن كان له أولياء مسلمون أو العبد كذلك إن كان له أولياء أحرار من ولد وإلا فمواليه أقسموا واستحقوا الدية في النصراني وفي العبد ألف دينار (أ) واثنا عشر ألف درهم تكون للورثة الذين أقسموا.
قلت على من تكون الدية أعلى العاقلة أم في مال الجاني؟ قال: بل في مال الجاني.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن القاسم أنه لا قسامة في ذلك فإن ثبت الجرح حلف ورثته يمينا واحدة واستحقوا الدية في ماله، وهو قول له وجه؛ إذ لا يستحق بذلك الدم فيجب فيه القصاص في العمد أو الدية على العاقلة في الخطأ، وإنما يستحق به مال، وقوله إن الجناية في مال الجاني يريد كانت الجناية عمدا أو خطأ، وقد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم بع من سماع عيسى لتكررها هناك فلا معنى لإعادته.

[مسألة: قال الرجل دمي عند فلان قتلني خطأ]
مسألة وسألته عن القسامة وما تفسيرها إذا قال الرجل: دمي عند فلان قتلني خطأ فقيل لولاته وهم ورثته: أقسموا فأبوا وردوا الأيمان على المدعى عليهم من هؤلاء الذين ترد عليهم الأيمان المدعى عليهم أو العاقلة التي تحمل عقل الجناية؟ فقال لي: ذلك على المدعى عليهم الدم وعاقلتهم الذين يجب عليهم العقل، قلت فيحلف منهم خمسون رجلا أو يحلفهم كلهم؟ فقال لي: يحلف خمسون رجلا، قلت: فإن أبوا وتقدم عشرة وحلفوا؟ فقال لي: يبرأ هؤلاء ويكون العقل على من بقي، قلت: ما معنى هذا يبدؤون ويكون العقل على من بقي أيسقط خمس الدية لأن عشرة حلفوا؟ أو يسقط عنهم ما يقع عليهم على قدر العاقلة وكثرتهم؟ فقال لي غير القول الأول إن مالكا

(16/43)


قال لي هو مثل الحق، فإذا نكل أولياء الدم عن القسامة فهو حق قد وجب على عاقلة المدعى عليه، فليس يبرئهم إلا اليمين ولو كانوا عشرة آلاف، ومن حلف منهم سقط عنه بقدر ما يصيبه، ومن لم يحلف غرم بقدر ما يقع عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول رسم من سماع عيسى فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.

[مسألة: النصراني يضرب ثم يسلم فيقول قتلني فلان]
مسألة قال ابن القاسم في النصراني يضرب ثم يسلم فيقول قتلني فلان فقال: يقسم ورثته ويأخذون الدية، وليس لهم أن يقتلوا، وكذلك العبد يجرح ثم يعتق فيقول: فلان قتلني مثله، وأما النصراني لو ضرب فقال: فلان قتلني ثم مات فليس له فيه شيء لا بقسامة ولا بيمين إلا أن يقوم بشاهد واحد فيحلف أولياؤه يمينا واحدة ويأخذون الدية وهو خلاف لما في كتاب المسائل رجع إلى هذا، ورجع إلى أن قال إذا قال الرجل قتلت فلانا خطأ أنه لوث، فإن شهد على إقراره رجل أنه أقر أقسم مع شاهده ثم ترك هذا وقال: لا يجوز حتى يشهد على إقراره شاهدان ورجع في مسألة أم الولد عما في كتاب المسائل.
قال محمد بن رشد: قوله في النصراني يسلم والعبد يعتق بعد الجناية على كل واحد منهما، قد تقدم في هذا الرسم قبل هذا، ومضى الكلام عليه في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى.
وأما قوله في النصراني يضرب فيقول: فلان قتلني ثم يموت إنه ليس فيه قسامة ولا يمين فهو أمر لا اختلاف فيه، وأما إذا كان لولاته شاهد على قتله فقوله: إنهم يحلفون مع شاهدهم يمينا واحدة ويأخذون الدية مثله في المدونة،

(16/44)


وهو خلاف ظاهر ما تقدم في رسم المكاتب من سماع يحيى، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته ومضى الكلام أيضا في القسامة مع إقرار القاتل بقتل الخطأ ومع الشاهد الواحد على إقراره بذلك فلا معنى لإعادته، ومسألة أم الولد التي أشار إليها وذكر رجوعه عما قال في كتب المسائل فيها هي مسألة أم الولد تقتل سيدها والله أعلم، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في رسم سلف من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.

[مسألة: قال قتلني فلان ولم يقل عمدا ولا خطأ]
مسألة [قال وسمعت أشهب يقول إذا قال: قتلني فلان ولم يقل عمدا ولا خطأ وقال رجلان من ولاته قتل عمدا وقال الآخرون وهم اثنان أيضا قتل خطأ وهم في القعدد سواء أقسموا كلهم واستحق الذين أقسموا على الخطأ نصف الدية على العاقلة، واستحق الذين أقسموا على العمد نصف الدية في ماله.
[قال أشهب وكذلك لو قال اثنان منهم: قتل عمدا، وقال الآخرون: لا علم لنا أو نكلوا حلف الذين ادعوا العمد واستحقوا نصف الدية في ماله] .
وإنما نكولهم عن الأيمان عن القسامة قبل أن يجب لهم الدم كعفوهم عنها لو وجبت للميت فيصير لمن بقي نصيبهم من الدية ويسقط القتل، قلت لأشهب: فإن قال دمي عند فلان ولم يقل عمدا ولا خطأ أو شهد بذلك شاهد ولم يقل عمدا ولا خطأ وللميت بنات وعصبة فقال البنات: قتل عمدا وقال العصبة: خطأ؟ قال: فإن البنات لا يقسمن في العمد، ولا يكون لهن إلى الدم سبيل ولكن يقسم

(16/45)


البنات والعصبة فيكون للعصبة ثلث الدية على عاقلته، ويكون للبنات ثلث الدية في مال الجاني خاصة لأنهن يزعمن أنهم لا شيء لهن على العاقلة، وقلت لأشهب إنه يزعمن أنهن لا حق لهن في ماله وإنما حقهن في دمه؟ قال: إنه لما لم يكن لهن إلى القتل سبيل كان بمنزلة ما لو استحقوه ثم عفا بعض من يجوز له العفو وصار نصيب من بقي في ماله، فكذلك إذا لم يكن إلى الدم سبيل لأن البنات لا يقسمن في العمد ليقتلن، إنما أقسمن واستحققن الدية في ماله ولم يكن لهن على العاقلة شيء.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا إنه إن قال بعض الأولياء: قتل عمدا، وقال بعضهم: قتل خطأ وهو في القعدد سواء أقسموا كلهم واستحق الذين أقسموا على الخطأ نصف الدية على عاقلته، والذين أقسموا على العمد نصف الدية في ماله خلاف قول ابن القاسم في المدونة أنهم إن حلفوا كلهم كانت لهم دية الخطأ بينهم كلهم الذين ادعوا العمد والذين ادعوا الخطأ، ولكلا القولين وجه من النظر، فوجه قول أشهب أن المقتول لما أبهم الأمر في تدميته عليه فلم يقل عمدا ولا خطأ كان القول قول كل طائفة من الولاة فيما ادعوه من عمد أو خطأ إن حلفوا جميعا فإن نكل بعضهم أو قالوا لا علم لنا حلف من ادعى المعرفة منهم على ما يدعيه من عمد أو خطأ وكان القول قولهم في حظهم من الدية على القاتل في ماله إن ادعوا العمد وحلفوا عليه على أصله في أن نكول بعض الأولياء في العمد لا يبطل حق من لم ينكل من الدية، وعلى العاقلة إن ادعوا الخطأ وحلفوا عليه ولم يكن للذين نكلوا أو قالوا: لا علم لنا شيء، ولو كان بعضهم أقعد من بعض على مذهب أشهب لكان القول قول الذين هم أقعد فيما ادعوه من عمد أو خطأ يحلفون عليه ويستحقونه إما على العاقلة وإما في ماله، ولا سبيل لهم إلى القول على حال إذ لم ينص الميت على عمد ولا خطأ، ولا شيء للأبعد معهم في ذلك، ووجه قول ابن

(16/46)


القاسم أن الميت لما أبهم التدمية وجب أن تحمل على الخطأ؛ لأنه الأقل حتى يعرف الأكثر على الأصل في براءة الذمة فكان لمن ادعى الخطأ من الولاة أن يقسموا ويستحقوا الدية على العاقلة، فإن حلف الذين ادعوا العمد شاركوهم في الدية؛ لأنهم مقرون لهم بدخولهم معهم فيها وإن أبوا أن يحلفوا وقالوا: لا علم لنا لم يكن للذين ادعوا الخطأ وحلفوا عليه إلا حظهم من الدية، وإن نكل الذين ادعوا الخطأ وقالوا: لا علم لنا، لم يكن للذين ادعوا العمد أن يحلفوا على ما يدعونه من العمد إذ لم يقل ذلك الميت، بل لو قال ذلك الميت لم يكن لهم أن يحلفوا ويستحقوا الدم ولا الدية على مذهبه إذا نكل بعضهم عن اليمين أو عفا عن الدم، ولا فرق بين أن يعفوا على الدم أو [يقر] أنه خطأ، وهذا إذا كانوا في قعدد واحد، فإن لم يكونوا في قعدد واحد وكان الذين ادعوا الخطأ أقرب حلفوا واستحقوا الدية على العاقلة ولم يكن للذين هم أبعد منهم شيء؛ إذ لا دخول لهم معهم في الدية، وإن كان الذين هم أقرب هم الذين ادعوا العمد لم يكن لهم أن يقسموا على العمد إذ لم يقل ذلك الميت وإن كانوا بنات وعصبة فادعوا كلهم الخطأ حلفوا واستحقوا الدية على العاقلة، وإن ادعى البنات الخطأ والعصبة العمد حلف البنات واستحققن ثلثي الدية على العاقلة ولم يكن للعصبة شيء، وإن ادعى العصبة الخطأ حلفوا عليه واستحقوا ثلث الدية على العاقلة ولم يكن للبنات شيء؛ لأنهن ادعين العمد ولا قسامة لهن فيه هذا الذي يأتي في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم في المدونة وهو أظهر من قول أشهب، وقد كان القياس أن يبطل الدم ولا يكون في ذلك قسامة لا لمدعي الخطأ ولا لمدعي العمد؛ لأن العاقلة تنازع مدعي الخطأ تقول لهم ليس لكم أن تقسموا على الخطأ إذ لم يقل ذلك الميت والقاتل ينازع مدعي العمد يقول لهم: ليس لكم أن تقسموا على العمد إذ لم يقل ذلك الميت.

(16/47)


وكذلك القياس أن تبطل شهادة الشاهد إذا شهد بالقتل ولم يقل خطأ ولا عمدا خلاف قول أشهب في مساواته بين ذلك وبين قول الميت دمي عند فلان ولم يقل عمدا ولا خطأ، وأما قول أشهب إنه إذا كان له بنات وعصبة فادعى البنات العمد والعصبة الخطأ إن البنات لا قسامة لهن في العمد ولكن يقسمن على ما ادعين وتقسم العصبة على ما ادعت من العمد ويكون للعصبة الثلث ثلث الدية على عاقلته ويكون للبنات ثلثا الدية في مال الجاني خاصة لأنهن يزعمن أنهن لا شيء لهن على العاقلة فقد وجهه بما ذكره من التوجيه وهو ضعيف ولو ادعى على مذهبه البنات الخطأ والعصبة العمد لحلف البنات واستحققن ثلثي الدية على العاقلة، وحلف العصبة واستحقوا الثلث في مال القاتل، والصحيح ما ذكرناه من مذهب ابن القاسم في ذلك وبالله التوفيق.

[مسألة: ما أصيب من أصابع المرأة خطأ شيئا بعد شيء]
مسألة وقال أشهب في المرأة تقطع أصبعيها عمدا فتقتص أو تأخذ لذلك شيئا ثم يقطع ما بقي من أصابعها خطأ بقطع الثلاثة معا أو واحد بعد واحد أن لها في ذلك عشر عشر وإن كان في الأصبعين الأولين خطأ فإذا استكملت من ذلك الكف ثلث الدية دية الرجل رجعت إلى النصف.
قال محمد بن رشد: اختلف فيما أصيب من أصابع المرأة خطأ شيئا بعد شيء على ثلاثة أقوال، أحدها أنه لا يضاف شيء من ذلك إلى شيء، ويكون لها في كل أصبع عشر من الإبل كالرجل سواء إلا أن يقطع لها في مرة أربع أصابع فترجع في ذلك إلى عقل نفسها ويكون لها عشر من

(16/48)


الإبل وهو قول المغيرة وعبد العزيز بن أبي سلمة قالا: لا تضم مصيبة إلى مصيبة والثاني أن لها أيضا في كل أصبع يقطع لها عشرا إلا أن ينقطع لها في مرة أربع أصابع فترجع فيها إلى عقل نفسها فحينئذ يكون لها في الأصبع الخامسة خمس على حساب عقلها، وهذا القول حكاه ابن الماجشون عن مالك ونفى عنه ما سواه، والقول الثالث أنه يضاف بعض ذلك إلى بعض فإذا اجتمع من ذلك الدية رجعت إلى عقل نفسها فيكون لها على هذا القول وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها في الأصبع الأولى عشر، وفي الثانية عشر، وفي الثالثة عشر، وفي الرابعة خمس، وفي الخامسة خمس، واختلف على هذا القول هل يحسب عليها ما قطع من أصابعها عمدا فاقتصت به أو أخذت له عقلا، فقال أشهب في هذه الرواية: إنه يحسب عليها ويكون لها في الثلاثة الأصابع ثلاثون من الإبل قطعت معا أو شيئا بعد شيء، كما لو أصيب الأصبعان بأمر من السماء، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك لم يختلف في ذلك قوله، وقد روي عن أشهب أنه يحسب عليها من أصابها ما أصيبت عمدا، وهو قول سحنون وأبي إسحاق والبرقي ولم يروا ذلك بمنزلة ما ذهب بأمر من السماء، هذا تحصيل القول في هذه المسألة وبالله التوفيق.

[مسألة: دية التغليظ أتكون في المال أم على العاقلة]
مسألة وسألت ابن القاسم عن دية التغليظ مثل ما صنع عمر بالمدلجي أتكون في المال أم على العاقلة؟ قال: بل في المال وتكون حالة ولا تكون في ثلاث سنين.
قال محمد بن رشد: هذا مذهبه في المدونة وروايته عن مالك، وقد روي عنه أنها على العاقلة كدية الخطأ مؤجلة وقيل إنها على العاقلة

(16/49)


حالة، وقيل: إنها في ماله. إن كان له مال، وعلى العاقلة إن لم يكن له مال، وقد مضى هذا في أول سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.

[مسألة: دية العمد إذا قبلت ولم يشترطوا فيها شيئا]
مسألة قال ابن القاسم: ودية العمد إذا قبلت لم تكن في ثلاث سنين وكانت حالة.
قال محمد بن رشد: قد قيل في دية العمد إذا قبلت ولم يشترطوا فيها شيئا سن بها سنة دية الخطأ في التأخير، وهو قول مالك في رواية ابن نافع عنه، وقول ابن القاسم في رواية حسين بن عاصم عنه، وأما إذا صولح القاتل على دنانير أو دراهم أو عروض فلا اختلاف في أنها تكون حالة وبالله التوفيق.

[مسألة: قال أقسموا على فلان ولا تقسموا على من بقي]
مسألة وسئل عن ثلاثة نفر ضربوا رجلا عمدا فقال: أقسموا على فلان ولا تقسموا على من بقي، قال: ذلك له ألا يقسموا إلا على من قال؛ لأنه لو لم يقل لم يكن لهم أن يقسموا إلا على واحد يختارونه فهو أولى بدمه وبالخيار، قلت له وإن كان خطأ؟ [قال: وإن كان خطأ] فإن الذي يقع بالقلب أن ذلك لا يقبل منه ويقال للورثة أقسموا عليهم كلهم وليس لكم أن تقسموا على بعض دون بعض، فإن أقسموا نظر إلى الذين قال: لا تقسموا عليهم فإن كان ثلث ماله يحمل ما يقع عليهم لم يكن عليهم شيء، وكذلك لو قال: لا تقسموا على أحد قيل لهم أقسموا إن أحببتم فإن أقسموا فكان ثلث ماله يحمل الدية كان كالوصية تجوز في ثلثه مع غيره من الوصايا.

(16/50)


قلت: أرأيت لو لم يقل شيئا فقال أولياؤه نحن نقسم على واحد ونترك البقية؟ قال: ليس ذلك لهم وهو لا يدري من ضرب من مات منهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها في أول رسم عبد ابتاعه من سماع يحيى فلا معنى لإعادته والله الموفق.

[مسألة: شهد رجلان على رجل أنه جرح فلانا ثم مات من تلك الجراحات]
مسألة قال: وقال ابن القاسم فيمن قتل بين الصفين إذا شهد رجلان على رجل أنه جرح فلانا ثم مات من تلك الجراحات بعد ذلك بأيام فإن فيه القسامة، قال ابن القاسم: وإن شهد على قتله رجل واحد أو على إقراره رجل واحد فلا أرى فيه القسامة، قيل له فالرجل يقول: قاتلت فلانا وفلانا وأثرت فيهما ثم يموت هل تكون فيه قسامة؟ قال: لا، من قبل أنه بمنزلة من قتل بين الصفين؛ ولأنه زعم أنه قاتلهما وهو كشاهد، ولا يشهد لنفسه، وليس هو بمنزلة من يقول: ضربني فلان وفلان؛ لأنه لما قال قاتلتهما كان بمنزلة من قتل بين الصفين.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن قتل بين الصفين إنه إذا شهد رجلان على رجل أنه جرح فلانا ثم مات من تلك الجراحات بعد ذلك بأيام فإن فيه القسامة خلاف قوله عقيب ذلك وأن شهد على قتله رجل واحد فلا أرى فيه القسامة إذ لا فرق في القسامة بين الشاهدين على الجرح وبين الشاهد على القتل فمرة رأى القسامة فيمن قتل بين الصفين بكل واحد من الوجهين وبقول المقتول دمي عند فلان، ومرة لم ير القسامة فيمن قتل بين الصفين بواحد من الوجهين ولا بقول المقتول دمي عند فلان، ومرة رآها بالشاهد على القتل والشاهدين على الجرح ولم يرها بقول المقتول دمي عند فلان، وقد مضت

(16/51)


هذه المسألة في رسم الجواب من سماع عيسى ومضى الكلام عليها مستوفى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم، وأما شهادة الشاهد الواحد على إقرار القاتل بالقتل فلم ير في هذه المسألة الرواية بذلك قسامة وقد مضى بيان الاختلاف في ذلك في رسم المكاتب من سماع يحيى وبالله التوفيق.

[مسألة: قال شجني فلان ولم يسمع ذلك عنه إلا رجل واحد]
مسألة قال ابن القاسم: وأما إذا قال الرجل: شجني فلان ولم يسمع ذلك عنه إلا رجل واحد فشهد على ما سمع منه ذلك الرجل وحده، قال لا يقسم مع شهادة هذا وحده، ولا تكون قسامة حتى يشهد على قوله رجلان؛ لأن الذي قال فلان ضربني كأنه وقف موقف شاهد فلا يقسم على [الذي ادعى عليه حتى يشهد على قوله رجلان، وكذلك إذا قال فلان قتلني.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله لا إشكال فيه ولا اختلاف.

[مسألة: يضربه القوم فيحمل فيقيم أياما فيموت فيقرون أن من ضربهم مات]
مسألة قال ابن القاسم: في الرجل يضربه القوم فيحمل فيقيم أياما فيموت فيقرون أن من ضربهم مات أنه لا قتل عليهم لأنهم كذبة لا يصدقون.
قال محمد بن رشد: إنما قال إنهم لا يقتلون جميعا بإقرارهم أن من ضربهم مات لاحتمال أن يكون إنما مات من ضرب بعضهم لا من ضرب جميعهم أو من شيء عرض له غير ضربهم فلا يقتل واحد منهم إلا بالقسامة يقسم الأولياء على أحدهم أنه مات من ضربهم ويقتلونه، وكذلك لو كان الذي ضربه واحدا فعاش بعد ضربه إياه ثم مات فأقر أن من ضربه مات لم

(16/52)


يقتل بإقراره إلا مع القسامة على هذه الرواية وعلى ما تقدم في رسم الصبرة من سماع يحيى، وعلى قول المغيرة واختيار سحنون يقتل المقر أن من ضربه مات بغير قسامة وإن أقروا كلهم أن من ضربهم مات قتلوا بغير قسامة فعلى قول المغيرة يقتل المقر أن من ضربه مات بغير قسامة إلا أن يرجع عنه فيقبل رجوعه لأنه يقول ظننت أنه مات من ضربي ثم تحققت أنه لم يمت منه، وقد حكى ابن المواز أن قول ابن القاسم قد اختلف في ذلك، فمرة قال: إنه يقتل بقسامة، وقال مرة بغير قسامة، فقوله: إنه يقتل بغير قسامة هو مثل قول المغيرة، والأولى ألا يحمل ذلك على أنه اختلاف، وأنه إنما قال إنه يقتل بغير قسامة إذا لم تكن له حياة، وقد مضى هذا في أول رسم من سماع عيسى.

[مسألة: شهدا على رجل بقتل خطأ فأخذ الأب من العاقلة الدية ثم جاء ابنه حيا]
مسألة قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن شاهدين شهدا على رجل بقتل خطأ فأخذ الأب من العاقلة الدية ثم جاء ابنه حيا، قال يرد الدية التي أخذ من العاقلة لأنه وإن كان شهد له بمال فقد جاء من ينتزعه من يديه؛ لأنه لا شيء له أصلا، وقد يتقن إن شهد له به ليس كما شهد، قيل له: فإن وجد الأب عديما؟ قال: يغرمه الشاهدان.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة هاهنا في بعض، الروايات وهي ثابتة في كل رواية في الرسم الأول من سماع أصبغ وهي صحيحة بينة لا إشكال في أن الأب يرد ما قبض إذ قد تبين أنه قبض ما لم يجب له.
وأما قوله إنه يغرم الشاهدان إن وجد الأب عديما فهو بيّن إن كانا شهدا بزور إذ لا اختلاف في أن الشاهد يضمن ما أتلف بشهادته من المال إذا تعمد الزور وأما إن كانا شبه عليهما فقد قيل إنهما لا يضمنان وقد مضى تحصيل

(16/53)


القول في هذا في أول سماع عيسى من كتاب الشهادات، وإذا غرم الشاهدان للعاقلة في عدم الأب كان لهما أن يتبعا الأب بذلك وبالله التوفيق.

[: يجرحه الرجل فينزى في جرحه فيموت فيقوم لأوليائه شاهد واحد]
من نوازل سحنون وسئل سحنون عن الرجل يجرحه الرجل فينزى في جرحه فيموت فيقوم لأوليائه شاهد واحد أن فلانا جرحه ليس مع الشاهد غيره هل تثبت القسامة لهم؟ قال: نعم، بمنزلة ما لو شهد لهم على القتل، وقد قال لا تجب القسامة بالشاهد الواحد على الجرح حتى يشهد على القتل بعينه.
قال محمد بن رشد: وإذا ثبتت لهم القسامة مع الشاهد الواحد على الجرح على القول بوجوب القسامة وهو الذي في المدونة فيقسمون لجرحه ولمات من جرحه، وقد مضى القول على هذه المسألة وما يتعلق بها في رسم المكاتب من سماع يحيى فلا معنى لإعادته.

[مسألة: جرح في منازعة لا يدري من جرحه]
مسألة قال سحنون في قوم وقعت بينهم منازعة فدخل رجل يحجز بينهم فأصابه جرح لا يدري من جرحه؟ وكيف إن قتل؟ قال سحنون: إن جرح أو قتل فعلى الفريقين في القتل الدية على العاقلة وفي الجراح في أموالهم إلا أن يبلغ الثلث فيكون على العاقلة.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لا إشكال فيه في القتل أو الجراح إذا كان مما تحمله العاقلة لأنه يدري أنه لم يفعله غيرهم، فيفرق العقل على قبائلهم أجمعين، وأما الجرح فيما دون الثلث فيكون في أموال جميعهم إن حلفوا كلهم أو نكلوا كلهم عن اليمين، وإن حلف بعضهم ونكل

(16/54)


بعضهم عن اليمين برئ من حلف منهم وكان عقل الجرح على من نكل منهم وبالله التوفيق.

[مسألة: الحربي ينزل بأمان طالبا الفدا فيقتل رجلا مسلما خطأ]
مسألة وأخبرنا أبو إسحاق بن أبي الفياض البرقي قال: سمعت أشهب يقول في الحربي ينزل بأمان طالبا الفدا أو نازلا للتجارة فيقتل رجلا مسلما خطأ، قال: يحبس ويرسل إلى أهل موضعه وكورته التي هو بها يعلمهم بما أحدث صاحبهم وبالذي يجب عليهم في أحكام المسلمين فإن حملوا جنايته فبسبيل ذلك وإن أبوا لم يكن على الجاني إلا بقدر ما كان يصيبه لو أطاعوا بحملها على قدر الاجتهاد، قال سحنون: فسألت عنها أشهب فقال: الدية على الحربي في ماله، وليس على أهل بلده من ذلك شيء، وفي رواية أبي زيد قال سئل ابن القاسم عن حربي دخل بأمان فقتل رجلا من المسلمين خطأ، قال: ديته على أهل دينه يريد الحربيين.
قال محمد بن رشد: رواية أبي زيد عن ابن القاسم مثل رواية البزي عن أشهب خلاف رواية سحنون عنه ولكلا القولين وجه، فوجه قول ابن القاسم ورواية البزي عن أشهب أن السنة قد أحكمت أن الدية في قتل الخطأ على العاقلة فإذا أبى أهل الحرب من أن يؤدوا عنه ما يجب عليهم في ذلك عندنا لم يلزمه هو إلا ما يجب عليه في خاصته، ووجه قول أشهب في رواية سحنون عنه أن الأصل كان ألا يحمل أحد جناية أحد وأن تكون جنايته عليه في ماله عمدا كانت أو خطأ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وقوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] فخرج عن ذلك بالسنة

(16/55)


المسلمون، ومن تجري عليه الأحكام من أهل الذمة والمصالحين، وبقي من كان من لا يجري عليه أحكامنا من أهل الحرب على الأصل في كونه مطلوبا بجنايته، وأيضا فإنا ما أمَّناه على أن تمضي جنايته هدرا، فهذا القول أظهر والله أعلم.

[مسألة: قتل مرتدا عمدا ماذا يجب عليه]
مسألة وكتب إلي سحنون من طرابلس ما تقول- والى الله حفظك - في رجل قتل مرتدا عمدا ماذا يجب عليه؟ قال سحنون: من قتل مرتدا عمدا فلا غرم عليه لديته ولا شيء، وسواء قتله مسلم أو نصراني ولا دية عليه ولا قتل، وقد كان عبد العزيز يقتل المرتد ولا يستتيبه، ويذكر ذلك عن معاذ بن جبل ويقول غير أن السلطان يؤدب القاتل لما افتات عليه؛ لأن مثل هذا، الحكم فيه بيد السلطان، قال أبو إسحاق البرقي: عقله في الخطأ والعمد عقل مجوسي في نفسه وجميع جراحاته، وكذا قال أشهب وابن القاسم، وأخبرني بعض أصحابنا عن أصبغ مثله، وسأل عنها سحنون وذكر له رواية البرقي عن ابن القاسم وأشهب أنهما قالا: عقله عقل مجوسي فاذكر روايته عنهما وقال: سألت عنها أشهب غير مرة فقال لي: عقله عقل الدين الذي ارتد إليه.
قال محمد بن رشد: أما سحنون فقد بين وجه قوله أنه استحسان مراعاة لقول من لا يرى استتابته ويوجب عليه القتل ما لم يرجع إلى الإسلام والقياس على القول بوجوب استتابته ما رواه سحنون عن أشهب أن عقله عقد الدين الذي ارتد إليه؛ لأنه إن كان ارتد إلى النصرانية أو اليهودية فقد قتل نصرانيا

(16/56)


محرم القتل أو يهوديا محرم القتل فوجبت عليه الدية نصراني أو يهودي، وإن كان ارتد إلى المجوسية فقد قتل مجوسيا محرم القتل فوجبت عليه دية مجوسي، ووجه القول بأن ديته دية مجوسي هو أنه لما كان لا يقر على الدين الذي ارتد إليه وإن بذل الجزية عليه لم يعتبر به فكأن قاتله قد قتل كافرا محرم القتل فوجب أن يكون عليه أقل ديات الكافر وهى ديات المجوس؛ لأن الأقل واجب، وما زاد عليه مشكوك فيه، فوجب ألا يجب الزيادة على القاتل إلا بيقين وبالله التوفيق.

[مسألة: قال له أقتلنى فقتله]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يقول يا ليتني أجد من يقتلني فقال له رجل: أشهد لي على نفسك أنك قد وهبت لي دمك وعفوت عني وأنا أقتلك، فأشهد له على ذلك فقتله، فقال لي قد اختلف في ذلك بعض أصحابنا وأحسن ما رأيت في ذلك أنه يقتل القاتل؛ لأن المقتول عفا عن شيء لم يجب له، وإنما يجب لأوليائه ولا يشبه من قتل فأدرك حيا فقال أشهدكم أني قد عفوت عنه.
قيل له: فلو أنه قال: اقطع يدي فقطع يده؟ قال: لا شيء عليه لأن هذا ليس بنفس وإنما هو جرح.
قال محمد بن رشد: قد بين سحنون وجه ما اختاره من الاختلاف الذي ذكره، وهو أنه عفا عن شيء لم يجب له بعد، فلم يلزم، وفي المسألة ثلاثة أقوال أحدها قول سحنون هذا، والثاني أنه لا شيء على القاتل لأن المقتول قد عفا له عن دمه فسقطت عنه التبعة فيه على القول بجواز إسقاط

(16/57)


الحق قبل وجوبه، والثالث أنه لا يقتص منه لشبهة عفو المقتول له عن دمه وتكون عليه الدية في ماله، وهذا القول أظهر الأقوال والله أعلم.

[: يوقد تحت قدره فمات الصبى دون أن يره]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم قال محمد بن خالد: وسأل رجل ابن القاسم فقال له إني رجل أطبخ هذا القصب السكر، وإني جعلت حوالي قدري قصبا فسترته عن الناس، وإن صبيا قام خلف القصب ولا علم لي به فكنت أوقد تحت قدري ففارت القدر بما فيها، فأصاب الصبي ما خرج منها فمات فقال له ابن القاسم: لا أرى عليك شيئا، قال محمد بن خالد: ونزلت.
قال محمد بن رشد: قوله لا أرى عليك شيئا يريد لا في ماله ولا على عاقلته، وهو صحيح؛ لأنه فعل ما يجوز له، فلم يكن منه جناية على الصبي بعمد ولا خطأ على معنى ما قاله في المدونة في الذي يرسل النار في أرضه وأرض جاره بعيدة مأمونة من هذا النار فتحاملت النار أو حملتها الريح إلى أرض جاره فلا شيء عليه فيما أحرقت فيه، ولو كانت أرض جاره قريبة غير مأمونة من هذه النار لكان ما أحرقت فيه من الناس من الخطأ الذي [يكون على العاقلة على ما قاله في المدونة، والخطأ في الجنايات على الأحرار ينقسم على قسمين، خطأ لا شبهة فيه للعمد، وخطأ فيه شبهة للعمد فأما ما كان من الخطأ الذي] لا شبه فيه للعمد فهو على العاقلة باتفاق إلا فيما دون الثلث.
وأما ما فيه شبهة العمد فيفترق فيه الحكم بحسب قوة الشبهة وضعفها.

(16/58)


فمنها ما تقوى فيه الشبهة فتكون الدية فيه في مال الجاني، وذلك كالشاهدين يشهدان بالزور فيقتل المشهود عليه بشهادتهما، وقد قيل إن القصاص يجب عليهما، ولذلك وجه وهو أنهما بشهادتهما قد أكرها الحاكم على قتله، وقد مضى تحصيل في ذلك في أول سماع عيسى من كتاب الشهادات.
ومنه ما تضعف فيه الشبهة فتكون فيه الدية على العاقلة كالذي يرسل النار في أرض قريبة من أرض جاره فيحرق فيها ناسا.
ومنه ما تكون الشبهة فيه دون القوية وفوق الضعيفة فيختلف في الدية فيه هل تكون على الجاني في ماله أو على العاقلة كالطبيب يغر من نفسه فيخطئ على المريض فيموت من علاجه، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وكالكلب العقور يعدو على الناس بعد التقدم إليه فيه حسبما مضى القول فيه في رسم لم يدرك من سماع عيسى قبل هذا من هذا الكتاب وبالله التوفيق.

[: يقول هذا قاتل أخي ويسأل القاضى أن يسجنه]
من سماع عبد الملك من ابن القاسم قال عبد الملك: سئل ابن القاسم عن الرجل يتعلق بالرجل فيقول هذا قاتل أخي أو ابن عمي أو قريب لي فيأتي به إلى القاضي فيسأله أن يسجنه حتى يأتي بالبينة إلى ثلاثين ليلة أو أكثر من ذلك أو أقل فهل يسجن له بقوله حتى يستبرئ أمره والمدعى عليه من أهل الريبة والتهمة أو لا يكون من أهل الريبة والتهمة؟ قال ابن القاسم: إن كان المدعى عليه من أهل التهم والريبة رأيت أن يحبس ويضرب للمدعي أجل شهر أو نحوه ليس الشهر للمتهم المريب بكثير وإن كان

(16/59)


غير متهم فلا يكون له أن يحبس بقوله إلا الأمر القريب اليوم واليومين والثلاثة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.

[مسألة: النصراني يقتل العبد المسلم]
مسألة وسألت أشهب عن النصراني يقتل العبد المسلم، قال: يقتل به، قيل: فإن قال السيد لا أريد القتل وأنا أريد أن آخذ قيمة عبدي؟ قال: ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم سلف دينارا من سماع عيسى قبل هذا فلا معنى لإعادته.

[مسألة: يفر من موت إلى موت أيسر منه]
مسألة وأخبرني من أثق به من أصحابي عن ابن وهب أو عن أشهب أنه سأل عن الرجل يخرج بكفه ريشته فيذهب لذلك بعض كفه ويخاف على ما بقي من يده منها فيقال له: اقطع يدك من المفصل قال إن كان ذلك أمرا مخوفا يخاف عليه الموت من قطعه لم ينبغ له أن يقطع وإن كان أمرا لا يخاف عليه الموت فلا أرى بأسا.
قال محمد بن رشد: إما إذ لم يخف إذا لم يقطع يده من المفصل إلا على ما بقي من يده فلا يجوز أن يقطع يده من المفصل [إذا كان ذلك أمرا يخاف عليه منه الموت، وأما إن خشي إن لم يقطع يده من المفصل أن

(16/60)


يتراقى أمر الريشة إلى أن يموت منها فله أن يقطع يده من المفصل وإن كان ذلك أمرا مخوفا إذا كان الخوف عليه من الريشة أكثر وقد أجاز مالك في المدونة لأهل السفينة من المسلمين إذا أحرقها العدو أن يطرحوا بأنفسهم في البحر وإن علموا أن في ذلك هلاكهم وقال لا بأس بذلك إنما فروا من الموت إلى الموت فإذا أجاز أن يفروا من الموت إلى الموت فأحرى أن يفروا من الموت إلى ما يرجى فيه الحياة ويخاف فيه الموت، ولم يجز له ربيعة أن يفر من موت إلى موت أيسر منه، فلا اختلاف بينهم في أنه يجوز له أن يفر من أمر يخاف فيه الموت إلى أمر يرجو فيه النجاة وإن لم يأمن فيه الموت وبالله التوفيق.

[مسألة: جريحا يقال له من جرحك فيقول ما أعرفه ثم يقول فلان]
مسألة وسألت ابن وهب عن الذي يوجد جريحا فيقال له: من جرحك؟ فيقول: ما أعرفه غلبني السكر وظلام الليل ثم يسأل بعد يوم أو يومين فيقول: فلان جرحني هل يقبل ذلك منه؟ قال: لا يقبل قوله وقد نزلت هذه عندنا فرأينا ألا يقبل قوله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى، وأن المخالف في ذلك ابن الماجشون ويرد قوله الحديث المأثور في ذلك فلا معنى لإعادته.

[مسألة: النصراني يقتل العبد المسلم]
مسألة وسئل وأنا أسمع عن النصراني يقتل العبد المسلم، قال: يقتل به.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة فوق هذا وفي رسم سلف من سماع عيسى ومضى الكلام عليها هناك فلا معنى لإعادته.

(16/61)


[مسألة: يغرق رجلا فيهلك أترى أن يقتل بتلك القتلة]
مسألة وسألته عن الذي يغرق رجلا فيهلك أترى أن يقتل بتلك القتلة؟ قال: نعم، قلت له: فالذي يقتل بالسم هو عندك مثله؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله هو عندك مثله يريد أنه يقاد منه بالسم كما يقاد منه في التغريق بالتغريق، وهو نص قوله في المدونة: إنه يقاد منه بالسم إذا قتله بالسم، وقد تأول ابن أبي زيد هذه المسألة وحملها على غير ظاهرها، يعني يوجب القود بغير السم، وهو من التأويل البعيد، وكذلك حمل أصبغ قول مالك في الواضحة على غير ظاهره لأنه حكى عنه أنه قال: يقتل من سقي السم، فقال هو: غير أنه لا يقاد من ساقي السم بالسم ولا من حرق رجلا بالنار لم يقتل بالنار؛ لأنهما من المثل ولكن يقتل بالسيف، فقول أصبغ خلاف لقول ابن القاسم وروايته عن مالك في القود بالنار وبالسم؛ لأنه إذا قيد على مذهب مالك من القاتل بالسم بالسم فأحرى أن يقاد من القاتل بالنار بالنار، وقد مضى الكلام على هذا في أول سماع أشهب مستوفى فلا معنى لإعادته.

[: قتل وله وليان فقام أحد الوليين على القاتل فقتله]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الحدود قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن قتل وله وليان فقام أحد الوليين على القاتل فقتله، فقال: ليس عليه قتل ويغرم لصاحبه لأنه الذي أبطل حقه لعله يعفو عنه، يقول لعله كان يصالح عليه ويأخذه، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قال إنه يغرم لصاحبه، ولم يقل ما يغرم له؟

(16/62)


والذي يغرم- على مذهبه في أن القاتل لا يجبر على غرم الدية- نصف ما يرى أنه كان يرضى أن يصالح به عن نفسه، ولا يقتل، وعلى مذهب أشهب يغرم له نصف الدية إن كان القاتل مليا بالدية، أو نصف ما كان له من المال إن لم يكن مليا بها وبالله التوفيق.

[مسألة: الأب إذا اقتص من الذي شهد له عليه بقتل ابنه ثم جاء ابنه]
مسألة قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول فيمن شهد عليه شاهدان أنه قتل ابنه عمدا فأسلم إلى الولي وهو الأب فقتل ثم جاء ابنه فإذا هو حي، قال: يغرم الشاهدان الدية، وليس على الأب شيء؛ لأنه إنما هو دم شهد له به فأخذه، وقاله أصبغ وخطأ من الشاهدين، وهو كالرجوع فأراه إن تعمدا في أموالهما، وإن شبه عليهما فعلى عواقلهما، قيل له: فإن صالح الأب من ذلك على مال ثم قدم ابنه أيضا؟ قال: يغرم الأب إنما شهد له بدم ولم يشهد بمال فأخذ في ذلك الدم مالا فهو يرده، قيل فيوجد معدما أيؤخذ من الشاهدين؟ قال: لا أرى عليهما شيئا، وقاله أصبغ وهو الحق إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قوله إن الأب إذا اقتص من الذي شهد له عليه بقتل ابنه ثم جاء ابنه أنه لا شيء على الأب معناه إن ادعى أنه لم يعلم وظن أن الشاهدين شهدا بحق وصدّقه ورثة المستقاد منه في دعواه، فإن لم يصدقوه

(16/63)


وادعوا عليه أنه علم كذب الشهود لزمته اليمين في ذلك باتفاق إن حققوا عليه الدعوى في ذلك، وعلى اختلاف إن لم يحققوا عليه الدعوى وأرادوا أن يحلفوه بالتهمة في ذلك فإن نكل عن اليمين حلف ورثة الميت إن كانوا حققوا عليه الدعوى ولزمه غرم الدية مع الشاهدين يكون كل واحد منهم حميلا عن صاحبه بما يجب عليه منها.
وأما قوله: إن الغرم على الشاهدين فإن تعمدا ففي أموالهما وإن شبه عليهما فعلى عواقلهما فهو خلاف قوله في أول سماع عيسى من كتاب الشهادات إن ذلك في أموالهما تعمدا الزور أو شبه عليهما، وفي المسألة قول ثالث أنهما إن تعمدا اقتص منهما، وإن شبه عليهما كانت الدية في أموالهما، وهو قول ابن نافع وأشهب، وروى ذلك عن علي بن أبي طالب، وقول رابع أنهما إن تعمدا كانت الدية في أموالهما وإن شبه عليهما كان ذلك هدرا، وهو قول ابن الماجشون والمغيرة وابن دينار وابن أبي حازم وغيرهم.
وأما قوله إنه إن صالح الأب من ذلك على مال ثم قدم ابنه أن الأب يغرم ما أخذ إن كان له مال، فإن لم يكن له مال اتبع به دينا ولم يكن على الشاهدين شيء فهو على قياس قوله في أن القاتل لا يلزمه غرم الدية إلا برضاه، ويأتي على قياس قول أشهب وأحد قولي مالك في أنه مجبور على غرم الدية أن يرجع على الشاهد في عدم الأب فيغرمان ويتبعان الأب وبالله التوفيق.

[مسألة: شهدا على قتل رجل خطأ فأخذ الأب الدية من العاقلة ثم جاء ابنه حيا]
مسألة وسئل ابن القاسم عن شاهدين شهدا على قتل رجل خطأ فأخذ الأب الدية من العاقلة ثم جاء ابنه حيا، قال: يرد الدية الذي أخذ من العاقلة لأنه وإن كان شهد له بمال فقد جاء من ينتزعه من يديه؛ لأنه لا شيء له أصلا وقد تبين أن ما شهد به ليس كما شهد، قيل: فوجد الأب معدما، قال: يغرمه الشاهدان.

(16/64)


قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في آخر سماع سحنون والكلام عليها فلا معنى لإعادته.

[مسألة: يضرب فيذهب عقله أيستأنى بذهاب عقله]
مسألة وسألت أشهب عن الذي يضرب فيذهب عقله أيستأنى بذهاب عقله؟ قال: نعم، قلت كم؟ قال: سنة، قلت فإن أخذ العقل بعد السنة ثم رجع إليه عقله؟ قال: حكم قد مضى، أو قال مضى ما مضى أي لا يرد شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يستأنى بذهاب العقل سنة صحيح كما قال، والوجه في ذلك أن تمر عليه الفصول الأربعة، فإذا مرت عليه ولم يرجع إليه عقله حكم له بعقل عقله وهو الدية كاملة، ولا اختلاف في أنه ينتظر به سنة كما قال؛ إذ ليس في ذلك معنى سوى الرجاء في رجوع عقله إليه باختلاف الأربعة الأزمنة عليه، وإنما اختلف في الجراح، فقيل إنه ينتظر بها سنة وإن بريت قبل السنة، فإن أتت السنة عليها ولم تبرأ انتظر برؤها بعد السنة وهو مذهبه في المدونة، فقال ابن حبيب ينتظر بها بروها، فإن بريت [قبل السنة لم ينتظر تمامها إلا أن تبرأ على عثل فإن برئت على] عثل انتظر بها إتمام السنة ولا ينتظر بها بعد السنة، ويحكم فيها بالقود إذا انقضت السنة، وإن لم تبرأ فإن ترامى الجرح إلى ذهاب عضو آخر نظر فيه كما كان ينظر فيه لو حكم بالقود بعد البرء، وقول أشهب في هذه الرواية إنه لا يرد العقل برجوع عقله إليه بعد الحكم مثله قال في كتاب ابن المواز في الذي ضربت عينه فنزل الماء فيها أو ابيضت فأخذ الدية ثم بريت بعد ذلك إنه لا يرد شيئا، وهو اختيار ابن المواز إذا كان القضاء بذلك بعد الاستقصاء والأناة فلم ير بين

(16/65)


المسألتين فرقا، ورأى القضاء بذلك حكما وقع باجتهاد صحيح، فلا يرد، وأما ابن القاسم فقال في المدونة، في الذي ابيضت عينه أو نزل الماء فيها فحكم له بالدية ثم برئت أنه يرد ما أخذ، فقيل إنه هو الذي يأتي في مسألة العقل على مذهبه، وأنه لا فرق عنده بين المسألتين، وقيل إن المسألتين مفترقتان عنده وإن مذهبه في مسألة العقل كقول أشهب؛ لأن العقل يذهب حقيقة ثم يعود بعد ذهابه، فإذا حكم بالعقل فيه لذهابه لم ينقض الحكم فيه لرجوعه، وأما البصر فقد يستره ساتر دون أن يذهب حقيقة، فإذا حكم بالعقل فيه لذهابه في الظاهر ثم رجع علم أنه لم يكن ذهب حقيقة وإنما كان ستره ساتر، فانكشف برجوعه خطأ الحكم بالدية، فوجب ردها.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال أحدها أنه يرد الدية في المسألتين، والثاني أنه لا يردها في واحدة منهما، والثالث الفرق بينهما فيردها في رجوع البصر ولا يردها في رجوع العقل، ولا اختلاف بينهم في أنه إذا عاد البصر أو العقل قبل الحكم لا يقضى له بشيء.
وحكم السمع يذهب ثم يعود قبل الحكم أو بعد الحكم حكم البصر على ما ذكرناه فيه.
وأما الكبير تصاب سنه فيقضى له بعقلها ثم يردها صاحبها فثبتت فلا اختلاف بينهم في أنه لا يرد العقل إذ لا ترجع على قوتها، هذا مذهب ابن القاسم وقول أشهب في كتاب ابن المواز وروايته عن مالك في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب الجنايات.
والأذن بمنزلة السن في ذلك لا يرد العقل إذا ردها بعد الحكم فتثبتت واستمسكت، وإنما اختلف فيهما إذا ردهما فثبتتا واستمسكتا وعادتا لهيئتهما قبل الحكم على ثلاثة أقوال: أحدها: قوله في المدونة إنه يقضى له بالعقل فيهما جميعا إذ لا يمكن أن يعودا لهيئتهما أبدا، وقال أشهب إنه لا يقضى له فيهما بشيء إذا عادا لهيئتهما قبل الحكم، والثالث: الفرق بين السن والأذن فيقضي

(16/66)


بعقل السن وإن ثبتت، ولا يقضى له في الأذن بعقل إذا استمسكت وعادت لهيئتها، وإن لم تعد لهيئتها عقل له بقدر ما نقصت، وهو قول ابن القاسم في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب الجنايات، ولا اختلاف بينهم في أنه يقضى له بالقصاص فيهما وإن عادا لهيئتهما فإن اقتص بعد أن عادا لهيئتهما فعادت أذن المقتص منه أو عينه فذلك وإن لم يعودا أو قد كانت عادت سن الأول أو أذنه فلا شيء له، وإن عادت سن المستقاد منه أو أذنه ولم تكن عادت سن الأول ولا أذنه غرم العقل قاله أشهب في كتاب ابن المواز وبالله التوفيق.

[مسألة: أهل مكة والمدينة أهم أهل ذهب أو ورق أو إبل في الدية إذا وقعت عليهم]
مسألة قال أصبغ: وسألت أشهب عن أهل مكة والمدينة أهم أهل ذهب أو ورق أو إبل في الدية إذا وقعت عليهم؟ قال: لا بل هم أهل ذهب وقال أصبغ: هم اليوم أهل ذهب.
قال محمد بن رشد: هذا مما لا إشكال فيه؛ لأن أهل الإبل إنما هم أهل البوادي وأهل العمود، وأما أهل الأمصار والمدن فهم إما أهل ذهب أو أهل ورق، وقول أصبغ هم اليوم أهل ورق دليل على أن أحوال البلاد في ذلك قد تنتقل، وكذلك أهل الأندلس هم اليوم أهل ذهب وقد كانوا في القديم أهل ورق على ما يوجد في وثائقهم وقاله أهل تواريخهم وبالله التوفيق.

(16/67)


[: قول الغائب لا يثبت في شيء من الأشياء إلا بشاهدين]
ومن كتاب المجالس قلت: أرأيت أن أقمت شاهدا واحدا على قول ولي إن فلانا ضربه ومن ضربه يموت أيجب به القسامة؟ قال: لا، ولا يكون ذلك بأقل من شاهدين لأن الميت غائب، وقول الغائب لا يثبت في شيء من الأشياء إلا بشاهدين، قلت: أيجب على المرمى بالدم بهذه الشهادة حبس؟ قال: لا يلزمه بهذه الشهادة شيء.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في آخر سماع سحنون وهو مما لا إشكال فيه ولا اختلاف.

[مسألة: العقل على الرجال الأحرار البالغين من القبيلة]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في السفيه إنه يعقل مع العاقلة وقال في موالي القبيل إنهم يعقلون مع القبيل.
قال محمد بن رشد: العقل على الرجال الأحرار البالغين من القبيلة، ويعقل السفيه والمولى عليهم معهم، ويؤخذ من ماله ما نابه من العقل، ويعقل عن الموالي الأسفلين المنعم عليهم بالعتق، وجميع القبيلة لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مولى القوم منهم» واختلف هل يعقل المولى الأسفل مع القبيلة التي مواليه منها ما جناه مواليه وسائر أهل القبيلة أم لا؟ فقال في هذه الرواية في موالي القبيل أنهم يعقلون مع القبيل، وخالف في ذلك سحنون فقال إنه لا يعقل مع الجاني مواليه الذين أنعم هو عليهم لأنهم لا يرثونه، ويعقل عنه مواليه الذين أنعموا عليه وقومهم، هذا نص قوله، وإلى هذا ذهب محمد بن المواز فقال أجمع العلماء أن الموالي من أسفل لا يعقلون

(16/68)


مع من أعتقهم، قال: وهو معنى قول ابن القاسم، وليس قول ابن المواز بصحيح، بل يعقلون معهم على مذهب ابن القاسم، وهو نص قوله في هذه الرواية، وله مثله في جنايات العبيد من المدونة، ومثله لابن كنانة في المدونة، والذي في كتاب جنايات العبيد من المدونة هو قوله في المبتل في المرض إذا لم يكن لسيده أموال مأمونة إن جنايته جناية عبد لأن العاقلة لا تحمل له جريرة حتى يحمل هو مع العاقلة ما لزم العاقلة من الجراير، واعتلال سحنون في ذلك بأنهم لا يرثونه ليس بصحيح إذ ليس العقل مرتبطا بالميراث؛ لأن الرجل يعقل عمن لا يرثه من عشيرته، وكما لا يعقل عنه من لا يرثه من قبيلة مولاه فكذلك يعقل هو عمن لا يرثه من مواليه وسائر قبيلته والعقل في هذا بخلاف القيام بالدم لا اختلاف في أنه لا حق للمولى الأسفل في القيام بالدم والقسامة فيه، ولا عقل على النساء ولا على العبيد ولا على الصبيان والمجانين.

[مسألة: طبيب مسلم أو نصراني سقى رجلا مسلما دواء فمات منه]
مسألة قال أصبغ في طبيب مسلم أو نصراني سقى رجلا مسلما دواء فمات منه ليس عليه شيء إلا أن يعرف أنه سقاه شيئا أراد به قتله.
قال محمد بن رشد: قوله ليس عليه شيء إلا أن يعرف أنه سقاه شيئا أراد به قتله معناه إذا لم يخطأ ولا غر من نفسه وهو محمول على أنه لم يخطأ حتى يتبين خطأه، وعلى أنه لم يغر إذا أخطأ حتى يعلم غروره، وظاهر قوله أنه لا شيء عليه وإن أخطأ وغر حتى يعلم أنه أراد بما سقاه قتله، وإنما حمل قوله في هذا على ظاهره فيكون معنى قوله: إنه ليس عليه شيء أي ليس عليه شيء في ماله وإنما تكون الدية في ذلك على عاقلته إلا أن يعلم أنه سقاه شيئا أراد به قتله فيقتل به؛ إذ لا خلاف في أن الدية على عاقلته إذا أخطأ ولا ما إذا غر من نفسه، فقيل إن الدية في ماله وهو ظاهر قول مالك في رسم

(16/69)


كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وقيل إنها على العاقلة، وهو قول عيسى بن دينار هناك وظاهر قول أصبغ هاهنا وبالله التوفيق.

[مسألة: عبدا لامرأة ذات زوج ضرب بطن سيدته وهي حامل فألقت جنينا ميتا]
مسألة قيل لأصبغ: أرأيت عبدا لامرأة ذات زوج ضرب بطن سيدته وهي حامل فألقت جنينا ميتا؟ قال: تخير المرأة بين أن تدفع إلى زوجها ما يصيبه من دية الجنين وتحبس العبد، وبين أن تدفع جميع العبد إليه، قيل له ولم ودية الجنين بين أبيه وأمه؟ فلم لا يكون لها ثلث العبد وتخير في افتكاك ثلثيه من زوجها بثلثي دية الجنين أو تسلم ثلثيه إن أحبت؟ [قال: لا يكون لها ثلث العبد وتخير في افتكاك ثلثيه من زوجها بثلثي دية أجنبي، مع أن السيد يخير] قال: لا يكون لها ذلك لأن جناية العبد على سيدته هاهنا كجنايته على سيدته وعلى أجنبي معها وقد قال ابن القاسم في العبد يجني على سيده وعلى أجنبي معه أن السيد يخير، بين أن يفتكه كله بدية جناية الأجنبي وبين إسلامه كله في جناية الأجنبي ولا يقاصه بجنايته، فكذلك مسألتك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه وبالله التوفيق.

(16/70)


[مسألة: الرجل يدعي قبل الرجل أنه قتل عبده]
مسألة قال أصبغ قال ابن القاسم في الرجل يدعي قبل الرجل أنه قتل عبده فيقر المدعى عليه أنه رماه أو ضربه ويقول: لم يمت من ذلك، ويدعي الرجل أنه مات منه، قال ابن القاسم: يحلف المدعي يمينا واحدة لمات منه ويستحق ثمنه، قال ابن القاسم: وكذلك لو ثبت أنه ضربه أو رماه ثم مات أنه يحلف يمينا واحدة ويستحق ثمنه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها وعلى ما فيها من الاختلاف في أول رسم من سماع أشهب فلا معنى لإعادته.

[: عبد وحر اصطدما فماتا جميعا كيف يحكم فيهما]
من نوازل سئل عنها أصبغ وسئل أصبغ عن عبد وحر اصطدما فماتا جميعا كيف يحكم فيهما؟ قال: يكون في مال الحر قيمة العبد يدفع إلى سيده، ثم يقال لسيد العبد افتك قيمته بدية الحر أو أسلمها، فإن أسلمها لم يكن لولاة الحر غيرها وإن افتداها، افتداها بجميع الدية.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا في هذه المسألة يأتي على ما مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم من أن سيد العبد يخير في جنايته على الحر بين أن يسلمه بها أو يفتديه بها مؤجلة في ثلاث سنين لا حالة؛ لأن معنى قوله وإن افتداها، افتداها بجميع الدية معناه في ثلاث سنين، إذ لو لم تكن مؤجلة لوجب أن يكون مقاصة بالقيمة كما قال في المدونة، وقد مضى هذا مبينا في أول رسم من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول إن مت من جراحاتي ففلان غلام فلان بي]
مسألة وسئل عن الرجل يقول: إن مت من جراحاتي ففلان غلام فلان

(16/71)


بي، فيوجد لفلان ذلك غلام يسمى بذلك الاسم فيقر السيد باسمه بهذا الاسم ويزعم أنه لا غلام له غيره يسمى بهذا الاسم أو يزعم أنه كان له غلمان يسمون بهذا الاسم وليسوا اليوم في ملكه، أو يزعم في بعض من هلك من غلمانه أن هذا اسمه كذا وكذا لذلك الاسم الذي سماه المجروح، ولا يعلم ذلك إلا بقول السيد أو يرمي رجلا حرا ويسميه باسمه واسم أبيه ولا يعرفه الشهداء ويذكر مسكنه فيوجد في ذلك الموضع الذي سماه له مسكن ذلك الاسم وتلك النسبة أو لا يوجد بموضعه ذلك الاسم ولا تلك النسبة، وعلى من يرى طلب أنه ليس بهذا الموضع أحد غير هذا فنحن نقسم عليه، ويقول الآخر لا علم لي، فكيف إن كان لرجل غريم غائب أو أبق له عبده فأثبت دينه وصفة غريمه أو عبده عند القاضي فكتب له كتابا باسمه وحليته كلها على حال ما ثبت عنده ليطلبه به فتوجد تلك الصفة فأنكر أن يكون غريمه أو أن يكون عبده وهو عبد لرجل آخر بالمكان الذي وجد به، على من ترى طلب أنه ليس بذلك المكان من يسمى بذلك الاسم وعلى تلك الحلية أعلى المدعي أو على المدعى عليه أم يكون كشف ذلك على السلطان؟ وهل تأخذ بهذا القول أنه إن لم يوجد بذلك المكان مثله أن ذلك يلزمه إلا أن يأتي بالمخرج، فإنه بلغني عن عبد الملك أنه قال في العبد: إنه توضع قيمته ثم يأخذه فيسيره به إلى موضع شهوده، فإن عرفوه بعينه أخذوه وإلا رده، فإن رأيت قوله حسنا أرأيت إن وضع قيمته فأخذه فوجد شهوده قد ماتوا أيكون له شيء أم لا؟ قال أصبغ لا أرى أن يعبأ بقول السيد، وأرى أن يقع على ذلك الغلام الذي يعرف في ملكه بذلك

(16/72)


الاسم يوم قال المجروح مثل ما قال، ويوم ادعى أنه جرحه ولا يلتفت إلى ما قبل ذلك من دعوى السيد ولا الغلام إلا بأمر يعرف سببه فإن عرف السبب أنه قد كان يوم الجراح له مثل ذلك أشكل ذلك حينئذ وكف عنه حتى يقع على واحد معروف، وإلا فهو هو إذا لم يكن غيره من السبب ومعرفة الناس ولا بشبهة يذكر غير ذكر السيد والعبد، وكذلك أمر الحر في الحقوق وغيره يقع ذلك على المنسوب المعروف في موضعه وفي صفاته إذا لم يكن في الحارة أو في البلدة غير ذلك، فإن كان وأشكل ترك حتى يعرف ويستثبت، وهذا يجزيك من جميع مسألتك التي طولت فيها وأكثر.
قال محمد بن رشد: لم يأت أصبغ في هذه المسألة بجواب بين عما يسأله عنه إذا وجد في ملك الرجل الذي ذكر أنه قتله غلامه عبد يسمى بذلك الاسم فأنكر السيد أن يكون هو المدعى عليه وزعم أنه قد كان له عبيد يسمون بذلك الاسم أو وجد بالبلد الذي ادعى أن فيه الحر الذي دمى عليه رجل يسمى بذلك الاسم وينتسب بتلك النسبة فأنكر أن يكون هو المدعى عليه أو وجد بالبلد الذي ادعى أن فيه غريمه رجل يسمى بذلك الاسم فأنكر أن يكون هو غريمه على من يكون طلب أنه ليس بهذا الموضع أحد غير هذا يسمى بهذا الاسم أعلى المدعي أم على المدعى عليه لأنه قال: إن التدمية تلزم للغلام الذي يعرف في ملكه بذلك الاسم يوم دمى عليه، ولا يلتفت إلى قول السيد إلا بأمر يعرف سببه فيشكل الأمر حينئذ ويكف عنه حتى يعرف بعينه، قال وكذلك أمر الحر في الحقوق وغيره يقع ذلك على المنسوب المعروف في موضعه إذا لم يكن فيه غيره فإن كان فيه غيره أشكل الأمر وترك حتى يستثبت فيه، هذا معنى قوله وفيه دليل على أن على المدعى عليه أن يثبت أن في البلد سواه من يتسمى بذلك الاسم وينتسب إلى ذلك النسب، فإن لم يثبت ذلك لزمته التدمية إن كان مدعى عليه، أو الحق إن كان مطلوبا بحق، وهو

(16/73)


مذهب أشهب وقول ابن القاسم في المدنية، وقيل: إن على الطالب أن يثبت أنه ليس بالبلد سواه من يتسمى بذلك الاسم وينتسب إلى ذلك النسب يريد على العلم، فإن لم يثبت ذلك لم يلزم هذا شيء، وهو الذي يدل عليه قول ابن وهب في سماع عبد الملك بن الحسن من كتاب الأقضية، وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى هناك وفي رسم العتق من سماع عيسى من الكتاب المذكور فلا معنى لإعادته.

[مسألة: العبد يسلم للقتل ثم يستحيى]
مسألة قال أصبغ: اختلف قول ابن القاسم في العبد يسلم للقتل ثم يستحيى فمرة قال: لا يكون ماله تبعا له لأن إسلامه للقتل وإن استحيي كقتله، ومرة قال: يكون ماله تبعا له إذا استحيي، قال أصبغ: والقول الأول أحب إلي ألا يكون ماله تبعا له إذا استحيي، ثم رجع أصبغ وقال: إنه يسلم بماله؛ لأنه لما عفا عنه كان بمنزلة الخطأ وسواء قتل عبدا أو حرا أو كان جرحا أو نفسا قال أشهب: يؤخذ بماله في العمد والخطأ إلا أن يستقاد منه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم الأول الذي رجع عنه أصبغ أظهر من القول الثاني الذي رجع إليه؛ لأنه لما أخذه ليقتله وقد علم أنه إذا قتله يبقى ماله لسيده فإذا استحياه بعد أن أخذه ليقتله فقد رضي أن يأخذه في جنايته دون ماله، إلا أن يفتديه منه سيده بجنايته فعلى القول الأول يكون سيده مخيرا بين أن يسلمه دون ماله أو يفتكه بجنايته، وعلى القول الثاني يكون مخيرا بين أن يسلمه بماله كما لو استحياه قبل أن يأخذه ليقتله، وبين أن يفتكه وماله بجنايته، والحكم في مال العبد الجاني أن يكون معه في الجناية وكذلك ما أفاد بعد هذا أو كسب، قال ذلك ابن القاسم في المجموعة، قال سحنون: وقال غيره إن كان ماله عينا لم يخير سيده ووديت من ماله إن حملها وأما إذا لم

(16/74)


يحملها أو كان عينا غائبا أو عرضا فيخير سيده، ومذهب ابن القاسم أن يخير سيده على كل حال وإن كان ماله عينا يفي بالجناية والله أعلم.

[: الذي يطرح جنين الأمة ما عليه]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
قال أبو زيد بن أبي الغمر سئل ابن القاسم عن الذي يطرح جنين الأمة ما عليه؟ قال: عشر ثمن أمه، قيل له أرأيت إن استهل صارخا حين طرح؟ قال: يغرم ثمنه على قدر الرجاء فيه والخوف.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا خرج ميتا ففيه عشر ثمن أمه لا اختلاف في ذلك في المذهب، قال ابن نافع عن مالك: زادت عشر قيمتها على الغرة أو نقصت، وسواء كان أبوه حرا أو عبدا لأنه تبع لأمه، قال ذلك مالك في المجموعة وابن القاسم وأشهب، ومذهب الشافعي في ذلك كمذهب مالك، وقال أبو حنيفة إن كان ذكرا ففيه نصف قيمته لو كان حيا، وإن كان أنثى ففيها عشر قيمتها لو كانت حية، وذكر عن أبي يوسف أن فيه ما نقص من أمه كما يكون في جنين البهائم، وقال حماد: فيه حكومة وهو نحو قول أبي يوسف وقال سعيد بن المسيب فيه عشرة دنانير، وأما قوله إذا استهل صارخا أن فيه قيمته على الرجاء والخوف ففيه نظر، إذ لا يقوم على أنه يعيش أو يموت وقد خرج مطروحا بالجناية على أمه وإنما يقوم فيقال كم كانت تكون قيمته اليوم لو وضعته أمه من غير جناية عليه؟ فتكون عليه قيمته بالغة ما بلغت وبالله التوفيق.
مسألة وسئل عن رجل كان له ابن يجري الخيل فأتاه رجل فسأله إياه أن يجري فرسه فأذن له فوقع من الفرس فمات الصبي، قال: لا

(16/75)


نرى على الذي حمله شيئا إلا عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لأنه من الخطأ، وأما الدية فلا أرى عليه دية لأنه بمنزلة رجل عفا عن ديته فهو إذا أذن له أن يحمله على فرس فهلك فهو من الخطأ، وهو بمنزلة ما لو عفا عن ديته لأن الدية إنما تصير إليه وحده.
[قال محمد بن رشد: معناه إذا لم يكن له أم وذلك بيّن من قوله: لأن الدية إنما تصير إليه وحده] ولو كانت له أم لكان على عاقلته ثلث ديته لأمه وبالله التوفيق.

[مسألة: جرح رجلا جرحا فترامى جرحه فمات]
مسألة وعن رجل جرح رجلا جرحا فترامى جرحه فمات فاستحق وليه الدم فعفا عنه على أن يخرج من ذلك البلد فإن وجده فيه قتله فخرج ثم إنه وجده فيها قال: أرى أن يقتل به.
قال محمد بن رشد: زاد ابن حبيب فإن شرطوا إن لم يفعل أو فعل ثم عاد فله الدية، فإن كان الذي قد ثبت حين الصلح فذلك جائز في القود والدية، وإن كان لم يثبت لم يجز إلا أن يقولوا فإن لم يفعل أو فعل فعاد فنحن على حجتنا في الدم وكذلك الجراحات مثله وبالله التوفيق.

[مسألة: طلب غريقا فلما أخذه خشي على نفسه الموت فسرحه]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل طلب غريقا فلما أخذه خشي على نفسه الموت فسرحه، قال: لا شيء عليه، ولو أنه ذهب يعلمه العوم فلما خشي على نفسه سرحه قال: فذلك عليه، يريد الدية.

(16/76)


قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله في الوجهين جميعا؛ لأن الذي ذهب يعلمه العوم غره بما فعل، فوجب عليه الضمان بتسريحه إياه حين خشي على نفسه الموت، وهو من الخطأ، فقوله فذلك عليه يريد الدية على العاقلة والله أعلم، وأما الذي طلب الغريق لينجيه فلما خشي على نفسه سرحه فلم يغره بشيء، وإنما أراد الخير فيما فعل فلم يكن في تسريحه شيء، إذ لو لم يطلبه ولا أخذه لغرق أيضا، فلم يضره فيما فعل وبالله التوفيق.

[مسألة: يقتل فيوجد بمكة فيقوم أولياؤه أترى أن يقتل في الحرم]
مسألة وعن الرجل يقتل فيوجد بمكة فيقوم أولياؤه أترى أن يقتل في الحرم؟ وقد قال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] قال: نعم يقتل ولا ينتظر به الفراغ من حجه والحرم أحق ما أقيم فيه حدود الله.
قال محمد بن رشد: مثل هذا ما تقدم من قول مالك في آخر سماع أشهب، ولا أحفظ فيه اختلافا بين أحد من فقهاء الأمصار، وقول الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] إنما هو إخبار عما كان في جاهليتهم على ما قاله أهل التفسير، لو أن رجلا جرح حرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب ولم يتناول، فأما في الإسلام فإن الحرم لا يمنع من حد، من قتل قتل ومن أصاب حدا أقيم عليه، قال الحسن: أصابه فيه أو في غيره، وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا أصاب الرجل الحد في الحرم أقيم عليه، وإن أصابه في غيره ثم لجأ إليه فإنه لا يكلم ولا يجالس ولا يؤوى حتى يخرج منه فيؤخذ فيقام عليه الحد، وقيل إنه إذا لجأ إليه أخرج منه فأقيم عليه وبالله التوفيق.

(16/77)


[مسألة: يقتل ولا يترك إلا ولدا أصاغر أو لا ولي له إلا السلطان]
مسألة وقال في الذي يقتل ولا يترك إلا ولدا أصاغر أو لا ولي له إلا السلطان قال: يقيم لولده وليا فيجعله خليفة عليهم بعد أبيهم فيكون من ولاة السلطان ذلك من أمرهم بمنزلة الوصي الولي فإن رأى أن يأخذ للأيتام العقل أخذه وإن رأى أن يقتل قتل، ويمضي الذي رأى في ذلك إلا أنه إن عفا عن القاتل بغير شيء يأخذه للأيتام فرأى أن لهم فيه خطأ لم يجز ذلك؛ لأن ذلك ليس فيه نظر للأيتام أن يترك حقهم بغير شيء أخذه لهم، فلا عقل أخذه ولا قود فلا يجوز ذلك، وإن رأى أن يصالح بالدية كاملة صالح، ولا يكون له أن يصالح بدون الدية إن كان مليا بها، فإن لم يكن مليا بها جاز صلحه على ما يرى إذا كان على وجه النظر لهم، وإذا صالح بدونها والقاتل مليء بها لم يجز ذلك، ورجع على القاتل ولم يرجع القاتل على الولي بشيء.
قال محمد بن رشد: أجاز أشهب أن يصالح بأقل من الدية على وجه النظر ما لم يكن يسيرا جدا فتبين فيه المحاباة، وقول أشهب أصح على مذهب ابن القاسم، وقول ابن القاسم أصح على مذهب أشهب، أصل ذلك اختلافهم في القاتل هل هو مجبور على غرم الدية؟ فمن جبره على غرم الدية وهو المعلوم على مذهب أشهب فيلزمه ألا يجيز للوصي أن يصالح بأقل من الدية إذا كان مليا، ومن لم يجبره على غرم الدية وهو المعلوم من مذهب ابن القاسم أجاز صلح الولي بأقل منها لا على وجه النظر لأنه مال لم يملك أخذه وبالله التوفيق.

(16/78)


[مسألة: شق جوف رجل حتى بلغ إلى مقاتله ثم جاء رجل آخر فقتل الذي شق جوفه]
مسألة وقال في رجل شق جوف رجل حتى بلغ إلى مقاتله ثم جاء رجل آخر فقتل الذي شق جوفه وكان حينئذ حيا قبل أن يقتل القاتل الآخر، ولا يكون على الذي شق جوفه إلا الأدب فقط، قيل له فإنه لو لم يقتله لم يحيا، قال: وإن.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم أول عبد ابتاعه من سماع يحيى فلا معنى لإعادته.

[مسألة: استحقت عليها القسامة فجاء رجل آخر فقال أنا والله قتلته]
مسألة وقال في جماعة أربعة أو خمسة شهد عليهم شاهد أنهم قتلوا رجلا فاستحقت عليها القسامة فجاء رجل آخر فقال: أنا والله قتلته إنه لا يقتل واحد منهم إلا بقسامة لا الذي أقر ولا الآخرون إلا بقسامة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة عندي أن المقتول كانت له حياة بعد الجرح، وإنما وجبت لهم القسامة مع الشاهد الواحد على الجرح، ولذلك قال: إنه لا يقتل واحد منهم إلا بقسامة لا الذي أقر ولا الآخر، ولو لم تكن له حياة فقال المقر أنا قتلته قتلا مجهزا لكان لهم أن يقتلوه بلا قسامة، وقد مضى بيان القول في هذا في آخر سماع سحنون وفي أول سماع عيسى وبالله التوفيق.

[مسألة: ضرب رجلا خطأ وجاء آخرفضربه عمدا]
مسألة وعن رجل ضرب رجلا خطأ وجاء آخر فضربه عمدا إن مات مكانه قتل به الذي ضربه عمدا، وكان على الذي ضربه خطأ نصف

(16/79)


الدية، وإن عفا عن القاتل عمدا سجن عاما بعد مائة سوط، وإن عاش بعد ضربهما جميعا ثم مات "أقسم ولاته على أيهم شاءوا، فإن أقسموا على الذي ضربه عمدا قتل به ولا شيء على الآخر، وإن أقسموا على الذي ضربه خطأ كانت عليه الدية كاملة وبرئ الآخر، إلا أن يعلم أنه ضربه ضربة لا يموت من مثلها، فإن كان كذلك فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنهم إن أقسموا على الذي ضربه عمدا قتل به ولا شيء على الآخر وإن أقسموا على الذي ضربه خطأ كانت عليه الدية كاملة وبرئ الآخر خلاف ما تقدم في رسم المكاتب من سماع يحيى، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفى، وذكرنا هناك أن رواية أبي زيد هذه تأتي على أصل أشهب حسبما بيَّناه فلا معنى لإعادته.
وأما قوله إذا مات من الضرب مكانه إنه يقتل به الذي ضربه عمدا ويكون على الذي ضربه خطأ نصف الدية يريد على العاقلة، فهو بيّن لأنهما قد اشتركا جميعا في قتله، ودم الخطأ يتبعض ودم العمد لا يتبعض فإذا قتل الجماعة رجلا قتلوا به جميعا، وإذا قتلوه خطأ لم يكن فيه إلا دية واحدة على عواقلهم أجمعين وبالله التوفيق.

[مسألة: قال والله ما زلت من يوم ركضني فلان منها بشر وما قتلتني إلا ركضته]
مسألة وعن رجل ركض رجلا برجله البطن فمكث أياما فزعم أنه يجد من الركضة على فؤاده أمرا شديدا فمات، قال: ينبغي لمثل هذا أن يخوف ويذكر الله، فإن أصر وقال والله ما زلت من يوم ركضني فلان منها بشر، وما قتلتني إلا ركضته رأيت أن يقسموا معه ويستحقوا دمه إذا كان مضطجعا من يوم ركضه حتى مات، وإن لم يضطجع إذا رئي به ضرر ذلك وشينه كان بمنزلة الاضطجاع.

(16/80)


قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما تقدم من قول ابن كنانة في آخر رسم العتق من سماع عيسى، ومثل ما تقدم بالدليل من مسألة رسم أول عبد من سماع يحيى وقد مضى الكلام على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته.

[مسألة: الذي يدعي الدم قبله إذا نكل ولاة المقتول عن القسامة]
مسألة وقال في الذي يدعي الدم قبله إذا نكل ولاة المقتول عن القسامة وردوها على أولياء القاتل فحلفوا وبرأوا صاحبهم لم يكن بد من أن يجلد مائة ويحبس عاما.
قال محمد بن رشد: قوله وردوها على أولياء القاتل فحلفوا وبرأوا صاحبهم هو مثل ما في أول رسم من سماع عيسى، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك وذكر ما فيه من الاختلاف وتوجيهه فلا وجه لإعادته

[مسألة: قال عند موته فلان قتلني وناس معه]
مسألة وقال في رجل قال عند موته فلان قتلني وناس معه، قال يقسمون على الذي سمى ويقتلونه، وأما قوله وأناس معه فإن عرفوا وأثبتتهم البينة أنهم ضربوه معه أقسموا على أيهم شاءوا منهم.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم من المعلوم من مذهب مالك في غير ما موضع من أنه لا يقتل بالقسامة إلا رجل واحد والله الموفق.

[مسألة: ليس الشهر للمتهم المريب بكثير]
مسألة وقال في رجل اتهم بقتل رجل عمدا فحبس ولا بينة لهم على ذلك فأقر على نفسه أنه قتله خطأ أعليه البينة أنه قتله خطأ أم لولاة المقتول من الدية شيء أم يطال حبسه؟ قال: قال مالك: يطال حبسه لعله يأتي عليه بلطخ، فإن لم يأت عليه بشيء من ذلك أقسم

(16/81)


خمسين يمينا وخلي سبيله، ولو أنه أتى بشاهد من أول وهو ممن لا يتهم أنه يريد غنى ولده أقسم ولاة المقتول مع قوله: إني قتلت فلانا خطأ واستحقت الدية كاملة كذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يطال حبسه يريد الثلاثين يوما ونحوها على ما قاله في سماع عبد الملك من أنه ليس الشهر للمتهم المريب بكثير، وقوله لعله يأتي بلطخ يريد بلطخ يكون لوثا فيقسمون معه ويقتلونه أو لا يبلغ أن يكون لوثا فتستحق المرأة الطويلة حتى يتبين براءته وتأتي عليه السنون الكثيرة على ما قاله في الواضحة حسبما بيناه، وقال إنه إن لم يأت عليه بشيء يستحلف خمسين يمينا ويخلى سبيله يريد ولا يكون لهم عليه بإقراره على نفسه بالخطأ دية، ولا شيء؛ لأنهم لما ادعوا العمد فقد أقروا أن حقهم إنما هو في دمه لا في ماله ولا على عاقلته، وقوله ولو أنه أتى بشاهد من أول معناه ولو أن الولاة ادعوا الخطأ من أول ولم يدعوا العمد واستظهروا بشهادته على نفسه بأنه قتله خطأ وهو ممن لا يتهم بأنه أراد غنى ولد المقتول مثل أن يكون صديقا له ملاطفا على ما قاله في المدونة أقسموا مع قوله: إني قتلت فلانا خطأ واستحقوا الدية كاملة ولم يبين هل تكون في ماله أو على العاقلة فقيل: إنها تكون في ماله لأن العاقلة لا تحمل الإقرار، وقيل إنها تكون على العاقلة، والقولان في كتاب الصلح من المدونة وبالله التوفيق. تم كتاب الديات بحمد الله تعالى وحمد عونه.

(16/82)