البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [: كتاب الجناية الأول] [مسألة: شج رجلا موضحة فصارت منقلة فأراد أن يقتص له من الموضحة]
من سماع عبد الرحمن ابن القاسم من مالك من كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سئل مالك عن رجل شج رجلا موضحة فصارت منقلة فأراد أن يقتص له من الموضحة

(16/83)


ويأخذ فضل المنقلة فوقف فيها، ثم قال: أكتب إليه إن أراد أن يأخذ عقل المنقلة فذلك له، وذلك أنها إنما صارت منقلة لأن الضربة هشمت العظم والبط لا يأتي منه منقلة، وسكت عن القصاص، قال ابن القاسم: قد كان يقول قبل ذلك يقاد له من الموضحة فإن صارت منقلة فلا شيء له، وإن برأت موضحة ولم تصر منقلة عقل له ما بين عقل الموضحة والمنقلة ورأى أن يعجل فيها كما يعجل في الجراح إذا قطع كفه أو أصبعه فتآكلت أكثر مما قطع منها أقيد مما أصاب منه ثم استؤني به فإن برأت على حالها عقل له ما بينهما، وإن تآكلت أقل مما أكلت يد الأول عقل له على قدر ذلك وإن أكلت مثل أو أكثر من يد الأول لم يكن على الأول شيء، قال ابن القاسم: لم يزل مالك يقول يأخذ عقل منقلة ولا شيء له في القصاص، قال سحنون: وأنا أقول كل من جرح رجلا جرحا مما مثله يفرغ في بعض، مثل أن يجرحه ملطاة فتصير موضحة، أو يجرحه موضحة فتصير منقلة أو يجرحه منقلة فتصير مأمومة، فهذه الجراح كلها مما يفرغ بعضها في بعض، فإذا جرح رجل رجلا بعض ما وصفت لك

(16/84)


من هذه الجراح ثم ترامت إلى نحو ما وصفت لك مما يفرغ بعضه في بعض فاحكم له بالجرح الذي ترامى إليه كأن الجارح جرحه إياه، ولا يلتفت إلى الأول، وإذا ترامى الجرح إلى غير ما وصفت له مما لا يفرغ بعضه في بعض مثل أن يجرحه موضحة فيذهب منها عينه أو تشل منها يده فأحكم له بالجرح الأول موضحة كان أو غيره وبعقل اليد والعين جميعا كأن الجارح جرحه إياهما.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة في السؤال فأراد أن يقتص له من الموضحة ويأخذ فضل المنقلة معناه فأراد أن يقتص له من الموضحة ويأخذ فضل المنقلة إن برئ المقتص منه من الموضحة دون أن تصير منقلة، وقول مالك: أكتب إليه إن أراد أن يأخذ عقل المنقلة فذلك له، وذلك أنها إنما صارت منقلة؛ لأن الضربة هشمت العظم يدل دلالة ظاهرة أنه خيره بين أن يأخذ عقل المنقلة وبين أن يقتص من الموضحة ويأخذ عقل فضل ما بينهما وبين المنقلة إن لم تصر موضحة المقتص منه منقلة فهو خلاف قوله الثاني الذي حكى ابن القاسم عنه أنه رجع إليه من أنه يأخذ عقل المنقلة، ولا شيء له في القصاص، وهذا القول أقيس على تعليله بأن الضربة هشمت العظم والبط لا تأتي منه منقلة والتخيير بين أن يأخذ عقل المنقلة وبين القصاص استحسان.
وأما قول مالك الأول وما حكى سحنون أنه مذهب ابن القاسم من أن يقتص من الموضحة ويأخذ عقل فضل ما بين الموضحة والمنقلة إن برئ المقتص منه دون أن يترامى أمره إلى منقلة فهو القياس على ما أجمعوا عليه في الذي يترامى جرحه إلى شيء آخر مثل أن يجرحه موضحة فتذهب منها عينه، وكذلك لو جرحه ملطاة فصارت موضحة لكان بالخيار بين أن يقتص من الملطاة وبين أن يأخذ عقل الموضحة على أحد قولي مالك، وعلى قوله الآخر ليس له إلا عقل الموضحة لا القصاص منها، إذ لا يصح القصاص مما آل إليه

(16/85)


الجرح وإنما فيه الدية، وعلى قول مالك الأول ومذهب ابن القاسم يقتص له من الملطاة، بأن صارت موضحة وإلا عقل له ما بين الملطاة والموضحة وبالله التوفيق.

[مسألة: لو جرح عبد موضحة فأعتقه سيده بعد الجرح ثم ترامت بعد عتقه إلى منقلة]
مسألة قلت لسحنون: فلو جرح عبد موضحة فأعتقه سيده بعد الجرح، ثم ترامت بعد عتقه إلى منقلة، قال: يكون عليه عقل موضحة عبد وعقل ما بين الموضحة والمنقلة من دية الحر.
قال محمد بن رشد: قوله يكون عليه عقل موضحة عبد يريد لسيده، وقوله وعقل ما بين الموضحة والمنقلة من دية الحر يريد العبد المعتق، وقول سحنون في هذه المسألة هو على قياس قول ابن القاسم وقول مالك الأول في الذي يجرح رجلا موضحة فتصير منقلة أنه يقاد له من الموضحة ويعقل له ما بين الموضحة والمنقلة إن برئ المقتص منه دون أن يصير جرحه بالقصاص منه منقلة خلاف ما اختاره وأخذ به في ذلك من أنه يحكم له بالجرح الذي ترامى إليه كان الجارح جرحه إياه، والذي يأتي في الذي تصير موضحته منقلة بعد العتق على قياس قوله في هذه المسألة أن يكون على الجارح دية منقلة حر لسيد العبد المجروح، فقول سحنون في هذه المسألة معترض لقوله في المسألة المتقدمة وعلى خلاف أصله فيها، وقال ابن الماجشون: على جارحه دية منقلة حر للعبد المعتق يحكم للمجروح بما آل إليه الجرح من المنقلة، وهو أبعد الأقوال؛ لأنه جعل تراقي الجرح بعد العتق إلى ما فوقه كتراقيه إلى الموت على مذهب ابن القاسم الذي يرى في ذلك دية الحر كاملة وقد مضى الكلام على هذا في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى من كتاب الديات.

(16/86)


[مسألة: من حق الجارح أن يقتص ممن جرحه]
مسألة وقال مالك: إذا اقتص الرجل من الجراح فإني أرى أن يقتص له طبيب وأرى جعله على الذي يقتص له، ومثل ذلك بالدين، قال ابن القاسم وتفسير الدين أن يكون على الرجل الدين فيرسل إليه من يقبضه فعلى صاحب الدين جعله، وليس على الذي عليه الدين شيء.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله لأن من حق الجارح أن يقتص ممن جرحه، ولم يمكن من أن يأخذ ذلك بيده مخافة أن يتعدى في القصاص، فوجب أن يكون الجعل في ذلك على الذي كانت عنه النيابة، وقد قيل إن الجعل في ذلك على المقتص منه؛ لأن القصاص حق عليه يجب أن يوفيه لصاحبه فيكون عليه أجرة الذي يقتص منه، كما يكون على المطلوب بمكيل أو موزون أجرة الكيل والوزن، وهو مذهب الشافعي، وفيه بُعد إذ لا يجب على الجارح أن يقتص من نفسه للمجروح، وإنما الذي يجب عليه القصاص أن يمكن من نفسه للقصاص منه فذلك بخلاف توفية الحقوق المكيلة والموزونة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} [يوسف: 88] وبالله التوفيق.

[: ركب ورمحه في يده فأصاب به فرس رجل وهو لا يتعمده]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل مالك عن رجل كان في أرض العدو وأنه دخل وجماعة من المسلمين مضيقا فخاف على نفسه وعلى ميت معه فنزل وأمر أصحابه بالنزول فقالوا له: لا نفعل، فإنا نخشى أن يقطع بنا العدو، فاركب فركب ورمحه في يده فأصاب به فرس رجل وهو لا يتعمده

(16/87)


وصاحبه لا يعلم فلم يسيروا إلا يسيرا حتى سقط الفرس وصاحبه يظن أن العدو هم الذين أصابوه أفترى عليه شيئا؟ قال: ما أرى عليه شيئا، وما الدابة عندي بمنزلة الإنسان يصيبه ما لا يستطيع أن يدع سلاحه لموضع خوفه، فلا أرى عليه شيئا في ذلك، قال ابن القاسم: وإن كان أصاب إنسانا فعليه، ولو كان أصاب دابّة في حضر فعليه، قال سحنون: السفر والحضر واحد وعليه الغرم.
قال محمد بن رشد: تفرقة مالك في هذا بين الدابة والإنسان استحسان، والقياس على أصولهم في أن أموال الناس تضمن بالعمد والخطأ قول سحنون، ووجه ما ذهب إليه مالك أنه رآه مغلوبا عليه في هذه الحال، فلم يكن جناية فيها بقصد، فأشبه جناية المجنون فقوله في هذه الرواية على قياس القول بأن ما أصاب المجنون من الأموال هدر، وما أصاب من الدماء يكون حكمه فيها حكم الخطأ، تحمل العاقلة منه ما بلغ الثلث فصاعدا وهو قول ابن القاسم في رسم العشور من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب، وقد قيل: إن حكمه حكم الخطأ في الأموال والديات، وهو قول مالك في أول رسم من سماع أشهب بعد هذا، وقيل إنه فيما جنى في الأموال والدماء كالبهيمة وبالله التوفيق.

[: العبد يعدى عليه فيخصى فينقص منه أو لا ينقص أولا أو يزيد فيه]
ومن كتاب القبلة وقال مالك في العبد يعدى عليه فيخصى فينقص منه أو لا ينقص أولا أو يزيد فيه، قال: إن نقصه ذلك فله ما بين القيمتين كجراحه، وإن لم ينقصه وزاد فيه فإني أرى أن ينظر إلى ما ينقص الخطأ من مثله إذا خصي من أوسط صنفه فيحمله عليه، وإنما يكون ذلك أن ينظر إلى ما نقص الذي زيد فأجعله جزءا من ثمنه، فإن كان

(16/88)


عشرا كان له عشر ثمنه ثم على نحو هذا يكون في الأجزاء.
قال محمد بن رشد: أما إذا نقص الخصا من قيمته فلا إشكال ولا اختلاف في أنه يلزم الجاني عليه ما نقص ذلك من قيمته، وأما إذا زاد فيه فقوله إنه ينظر إلى ما نقص الخصا من مثله إلى آخر قوله ففيه إشكال، لقوله إنه ينظر إلى ما نقص الذي زيد فيجعل ذلك جزءا من ثمنه، فإن كان عشرا كان له عشر ثمنه، فقد تأول بعض الناس أن معنى ذلك أنه إن كان زاد الخصا في ثمنه الثلث كان على الجاني ثلث قيمته، وإن كان زاد فيه الربع أو النصف كان عليه ربع قيمته أو نصفها، وإن زاد فيه الخصا مثل ثمنه أو أكثر كان عليه غرم جميع قيمته وهو بعيد في المعنى فلا ينبغي أن يحمل الكلام على ذلك، وإن ساعده اللفظ، وإنما معنى قوله ينظر إلى ما نقص الذي زاد أن ينظر إلى ما نقص منه الخصا الذي زاد في قيمته كمن كان ينقص منه لو لم يرغب فيه من أجل خصائه إذ لا شك في أن الخصا ينقص بعض منافعه فتنقص قيمته من أجل ذلك ويرغب فيه الملوك أيضا فتزيد قيمته لذلك، فقد نفى الزيادة بالنقصان فتكون قيمته مخصيا وغير مخص سواء وقد يكون ما يزيد فيه الرغبة لخصائه أكثر مما ينقص منه الخصا، فتكون قيمته مخصيا أكثر، وقد يكون ما تزيد فيه الرغبة لخصائه أقل مما ينقص منه الخصا، فيكون قيمته مخصيا أقل من قيمته غير مخص فأراد في الرواية أنه ينظر إلى ما نقص منه الخصا لو لم يرغب فيه من أجل خصائه وقد قال سحنون: إنه إن أراد الخصا فإنه ينظر إلى عبد دني، وعبد ممن ينقص مثله الخصا فيقال ما ينقصه المخصي؟ فيقال خمسه فيغرم الجاني خمس قيمة العبد الذي جنى عليه، وفي قوله نظر؛ لأن الخصا ينقص من قيمة العبد النبيل الرائع أكثر مما ينقص من قيمة الوخش، فقول مالك على ما تأولناه عليه هو أصح في النظر، وقد قال ابن عبدوس: إذا لم ينقصه الخصا فلا غرم على الجاني، والذي أقول به في هذا أنه إذا لم ينقصه الخصا فيكون على الجاني جميع قيمته لأن الخصا

(16/89)


يقطع النسل وفي ذلك في الحر الدية كاملة، فيكون فيه في العبد قيمته كاملة قياسا على موضحته ومنقلته ومأمومته وبالله التوفيق.

[مسألة: إذا شهد لرجل شاهد واحد على جرح خطأ]
مسألة وقال ابن القاسم: إذا شهد لرجل شاهد واحد على جرح خطأ حلف مع شاهده واستحق دية جرحه إن كان مما فيه دية، وإن نكل عن اليمين فردها على الجارح حلف وإلا أدى إليه دية الجرح بمنزلة المال الدين، قال عيسى وسحنون: وذلك إذا كان جرحه أدنى من الثلث، فإن كان جرحه الثلث فأكثر فلا شيء عليه ولا يمين عليه، قال سحنون: وإنما أبطل ذلك عنه لأن الدية قد صارت على غيره.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يحلف مع شاهده على جرح الخطأ ويستحق ديته صحيح لا اختلاف فيه؛ لأنه مال من الأموال، وقد قال في الشهادات من المدونة وكل جرح لا قصاص فيه فإنما هو مال، ولذلك جازت فيه اليمين مع الشاهد.
وقوله إن نكل عن اليمين فردها على الجارح حلف وإلا أدى إليه دية الجرح لا اختلاف فيه إذا كان الجرح له دية وهو أقل من الثلث، وأما إذا كان الثلث فما عدا فقول سحنون إنه لا شيء عليه ولا يمين إذا نكل المجروح عن اليمين مع شاهده؛ لأن الدية قد صارت عليه هو على قياس قول ابن الماجشون في أن الأولياء إذا نكلوا عن القسامة في دم الخطأ لم ترجع الأيمان على العاقلة، والذي يأتي على مذهب ابن القاسم إذا نكل المجروح عن اليمين مع شاهده أن ترجع اليمين على الجارح وجميع عاقلته، فمن حلف منهم برئ مما يقع عليه من دية الجروح، ومن نكل غرم ما يجب عليه منها، وعلى قول مالك في رواية ابن وهب أن يحلف الجارح وحده، فإن حلف سقطت دية الجرح عنه وعن العاقلة، وإن نكل عن اليمين لزمه ما يلزم واحدا

(16/90)


من العاقلة، وقد مضى في أول سماع عيسى من كتاب الديات تحصيل القول في نكول الولاة عن القسامة في دم الخطأ وهو أصل لهذه المسألة وبالله التوفيق.

[مسألة: إذا جرحت أم الولد خطأ فتوفي سيدها]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: إذا جرحت أم الولد خطأ فتوفي سيدها أخذ عقلها وكانت مالا للورثة، قال ابن القاسم: ثم قال بعد ذلك أراه لها؛ لأن أم الولد ليست كغيرها لها حرمة وليست بمنزلة العبد، ولذلك إذا لم يقبضه سيدها حتى مات قال ابن القاسم: وقد رأيت مالكا كأنه يعجبه هذا القول ويستحسنه، قال ابن القاسم: وأنا استحسن قول مالك الذي رجع إليه.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في كتاب ابن المواز إن قوله الأول هو القياس، ونحن نستحسن ما رجع إليه، وكذلك لو أعتقها قبل أن تؤخذ دية الجناية كانت لها، وقال أشهب: بل ذلك للسيد، وقال سحنون في المبسوطة بالقول الأول أقول وهو الفقه فيها، وكذلك يختلف على هذا أيضا إذا جنت هي فتوفي سيدها قبل أن يحكم عليه بالجناية هل تؤخذ من ماله أو تكون عليها، فقال ابن القاسم في المدونة ورواه عن مالك إن ذلك يؤخذ من ماله ولا يكون عليها، وقال غيره فيها إذا لم يقم على السيد بالجناية حتى مات فهي عليها، فاختلاف قول مالك في المسألة الأولى يدخل في هذه، إذ لا فرق بينهما في القياس، ولا اختلاف في أنها إذا ماتت هي قبل أن يحكم على سيدها بما جنت فلا شيء عليه من جنايتها.

(16/91)


[: جراح الخطأ التي دون الثلث]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا قال ابن القاسم: كل ما كان من جراح الخطأ التي دون الثلث التي يستأنى بصاحبها خوفا أن يأتي فيها أكثر من الثلث مثل اليد يقطع منها الأصبع وما أشبه ذلك فما كان مما يصاب به مما هو دون الثلث أخذ عقله فوضع فإن برئ دفع إليه، وإن نزي فيها حتى يكون ذلك أكثر من الثلث رد إليه وحملته العاقلة وكان الجارح كرجل منهم يعقل معهم كما يعقلون، وما كان مما تحمله العاقلة استؤني به ولم يؤخذ له عقل حتى ينظر إلى ما يصير إليه أمره، ولأن العاقلة أمر مأمون ولأن الرجل في خاصته يخاف أن يذهب ماله وتلحقه الديون وبرئ فيكون أقل من الثلث فلا تحمل العاقلة شيئا ولا يوجد له مال، وإنما هو بمنزلة سن الصبي التي تنزع قبل أن يثغر، قال سحنون إذا كان الجرح مما تحمله العاقلة فإنه يفرض له ولا يستأنى به في الجرح ويكون منجما على العاقلة فإن آل الجرح إلى غير ما هو عليه زيد ذلك على العاقلة.
قال محمد بن رشد: قوله في جرح الخطأ إذا كان دون الثلث إن عقله يوضع حتى ينظر إلى ما يصير إليه، بخلاف إذا كان أكثر من الثلث لأن العاقلة أمر مأمون صحيح على معنى ما في المدونة؛ لأنه قال فيها في سن الصغير: إنه يوضع على يدي عدل حتى ينظر إلى ما يصير إليه، وأما قول سحنون إن الجرح إذا كان مما تحمله العاقلة إنه يفرض ولا يستأنى به برء الجراح ويكون منجما على العاقلة فإن آل الجرح إلى غير ما هو عليه زيد ذلك على العاقلة فهو خلاف نص ما في المدونة أن دية المأمومة لا تفرض على العاقلة حتى تعرف ما تصير إليه المأمومة لأنها ربما آلت إلى النفس فلم تجب الدية على العاقلة إلا بقسامة ولما سأله فيها عن المعنى في تأخير فرض

(16/92)


المأمومة على العاقلة وهي لا بد أن تفرض عليها عاش أو مات قال هذا الذي سمعنا، وإنما هو الاتباع ومع الاتباع قله وجوه صحاح في النظر، منها أن الجرح ربما آل إلى النفس فوجب فرض الدية على العاقلة في ثلاث سنين فإن فرض على العاقلة دية الجرح منجما كما قال قد يحل قبل موته فيؤول ذلك إلى قبض دية النفس من العاقلة قبل وجوبها؛ لأن الحكم فيها أن تفرض بعد الموت بالقسامة في ثلاث سنين فهي تجب لورثته فلا يصح أن تفرض له دية الجرح لا يدري أهل يعيش فتجب له؟ أو يموت فتجب لورثته، وهذه علة بينة صحيحة، وقد أجمع أهل العلم أنه لا يقتص من الجرح إلا بعد البرء فوجب على قياس ذلك ألا يعقل الجرح إلا بعد البرء، وقول سحنون في هذه المسألة بعيد وبالله التوفيق.

[: من قتل كلبا معلما أو كلب ماشية أو حرث]
ومن كتاب الرطب باليابس قال ابن القاسم: قال مالك: من قتل كلبا معلما أو كلب ماشية أو حرث غرم ثمنه، قيل لسحنون أيأكل ثمنه؟ قال: نعم، ويحج به إن شاء، قال أصبغ: لا يجوز بيع الكلب وإن احتاج صاحبه إلى ثمنه؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى عن ذلك والناس كانوا يومئذ أحوج إلى إجازته من اليوم فلم يؤذن لهم.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم عن مالك في هذه الرواية إن من قتل كلبا معلما أو كلب ماشية أو حرث يغرم ثمنه أي قيمته هو قول ابن القاسم وروايته عن مالك من قتله كان عليه قيمتها ولا يحل بيعها مثل قول أصبغ خلاف قول سحنون إن بيعها وأكل ثمنها جائز وأجاز ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع شراءها من أجل الحاجة إليها ولم يعجبه بيعها، وذلك نحو قول أشهب في المدونة في الزبل إن المشتري أعذر في

(16/93)


شرائه من البائع؛ لأن الحاجة تدعوه إلى شراء الكلب للصيد وشبهه مما جوز له اتخاذه له، وكذلك الزبل إذا لم يجد من يعطيه ذلك دون ثمن ولا حاجة بأحد إلى بيع ذلك؛ لأنه إذا لم يحتج إليه تركه لمن يحتاج إليه، فحمل مالك نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على عمومه في جميع الكلاب الضارية وغير الضارية التي لم يؤذن في اتخاذها، وجعل سحنون نهيه عليه السلام مخصصا في الكلاب المنهي عن اتخاذها، وهو قول ابن نافع وابن كنانة وأكثر أهل العلم، بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من اقتنى كلبا لا يغني عنه ضرعا ولا زرعا نقص من عمله كل يوم قيراط» والاقتناء يكون بالاشتراء وقد مضى في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع زيادات في هذه المسألة وبالله التوفيق.

[: الذي يقتص منه هل ترى عليه مع ذلك عقوبة]
ومن كتاب سلعة سماها وسئل مالك عن الذي يقتص منه هل ترى عليه مع ذلك عقوبة قال نعم أرى أن يعاقب.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنه لا عقوبة عليه مع القصاص لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فلم يذكر معه زيادة عليه وقوله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وهو الأظهر، ووجه قول مالك هذا في إيجاب الأدب عليه مع القصاص هو الزجر والردع ليتناهى الناس عن الجناية،

(16/94)


إذ منها ما لا يجب فيه القصاص، والأول أظهر؛ لأن في حسبه إن برئ الجرح فيقتص منه، إذ لا يقتص منه إلا بعد البرء وقد لا يبرأ إلا في المدة الطويلة ما فيه زجر له ولمن سواه وردع، وأما الجرح الذي لا قصاص فيه مثل المنقلة والمأمومة فيعاقب مع الغرم على ما قاله في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود، ولا اختلاف في ذلك.

[مسألة: الرجل يدفع المرأة فتسقط عذرتها ماذا ترى عليه]
مسألة وقال ابن القاسم في الرجل يدفع المرأة فتسقط عذرتها ماذا ترى عليه؟ قال: أرى عليه قدر ما شانها به، قلت له: أفرأيت إن صنع بها ذلك بأصبعه؟ فقال: ذلك سواء ليس عليه إلا قدر ما شانها به، وسواء فعل ذلك بها غلام أو رجل أو امرأة ليس لها في ذلك إلا قدر ما شانها به.
قال محمد بن رشد: يريد مع الأدب في ذلك كله، والأدب في الذي فعل ذلك بها بأصبعه أكثر من الذي فعله بالدفعة، ومعنى ما شانها به أي ما نقصها من صداقها بذلك عند الأزواج، ولا اختلاف في هذا، وإنما يختلف إذا فعل الزوج بامرأته ذلك بأصبعه، فقيل إنه يجب عليه بذلك الصداق، وقيل لا يجب به عليه الصداق وإنما يجب عليه ما شانها عند غيره من الأزواج إن طلقها ولم يمسكها على ما مضى من اختلاف قول ابن القاسم في ذلك بين رواية سحنون وأصبغ عنه من كتاب النكاح، وأما إن فعل ذلك الزوج بزوجته بالدفعة فلا يجب عليه بذلك الصداق، وإنما يجب عليه به ما شانها عند غيره إن فارقها ولم يمسكها وبالله التوفيق.
من سماع أشهب وابن نافع من كتاب القراض قال أشهب وابن نافع، قيل لمالك أليس النصراني بمنزلة

(16/95)


العبد يجرح الحر المسلم فلا يكون بينهما قود؟ فقال: إن العبد يؤخذ في ذلك أحيانا عبدا وإن النصراني لا يؤخذ في ذلك عبدا، ففي هذا تسليط للنصراني على المسلمين أن يعمدوا النصراني إلى المسلم فيفقأ عينه ثم يعطيه دراهم يعينه فيها أهل دينه ويحوطونه في ذلك، فأرى أن يجتهد في مثل هذا السلطان الرأي، وقد كان ربيعة وغيره يقولون في مثل هذا النصراني يزني بالمسلمة وما أشبه هذا.
هذا نقض لعهدهم، فقيل لمالك يا أبا عبد الله: أفترى أن يقاد منه؟ فقال: لا أدري الآن، وما هو بمنزلة العبد يؤخذ في ذلك أحيانا رقيقا، والنصراني لا يؤخذ في ذلك رقيقا، وقد يحتمي له أهل دينه فيفقأ عين مسلم فيعطيه دراهم وهو أيسرهما عليه، قال سحنون، قال ابن نافع: المسلم بالخيار إن شاء استقاد وإن شاء أخذ العقل.
قال محمد بن رشد: من شروط صحة القصاص في الجراح استواء الجارح والمجروح في المرتبة بالإسلام أو الكفر وبالحرية أو الرق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] يوجب ألا يقتص في الجراح من العبد للحر ولا من الحر للعبد وألا يقتص فيها من النصراني للمسلم ولا من المسلم للنصراني إلا أن مالكا وقف إذا جرح النصراني المسلم فأراد المسلم أن يقتص منه للعلة التي ذكرها وصرف ذلك إلى اجتهاد الإمام إن رأى يمكنه من القصاص منه أمكنه من ذلك، أو يحكم له بدية جرحه فعل، وصرف مالك الحكم في ذلك إلى اجتهاد الإمام يدل من مذهبه على القول بتصويب المجتهدين، وقال ابن نافع: إن من حق المسلم المجروح أن يقتص من جارحه النصراني إن شاء، ومثله لابن عبد الحكم في المختصر، وقد قال له الدية ولا قود بينهما، فالاختلاف إنما هو إذا أراد المسلم أن يقتص، هل له

(16/96)


ذلك أم لا، فمن جعل ارتفاع القصاص بينهما في الجراح عبادة لا لعلة اتباعا لما يدل عليه قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولم يوجب للمسلم أن يقتص من النصراني كما لا يوجب للنصراني أن يقتص من المسلم، ومن جعل ارتفاع القصاص بينهما لعلة الحرمة رأى ذلك حقا للمسلم في ألا يقتص منه النصراني لحرمته وفي أن يقتص هو منه إن شاء، إذ لا حرمة له عليه بل له هو الحرمة عليه بإسلامه قياسا على القصاص منه في القتل، وهو قول ابن نافع، ويأتي على مذهبه أن للحر أن يقتص من العبد في الجراح كما يقتص له منه في القتل، وسيأتي في سماع سحنون وعبد الملك من كتاب القذف القول فيما ينتقض به عهد المعاهد مما لا ينتقض به إن شاء الله وبالله التوفيق.

[مسألة: المجنون يكسر أمتعة الناس أعليه غرم]
مسألة قال سحنون أخبرني أشهب وابن نافع قال: سئل مالك عن المجنون المغلوب على عقله يخرج إلى السوق فيكسر أمتعة الناس ويفسد، أترى عليه لذلك غرما في ماله؟ قال: نعم، فقلت له: أفتراه شبيها بجراحه؟ فيكون ذلك خطأ يغرم لمن أصاب بذلك الجرح؟ قال: نعم أراه شبيها به، قيل له وتراه إذا أفاق يتوضأ؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في رسم مرض من سماعه من كتاب طلاق السنة مثل قول مالك هذا، وله في رسم العشور من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب خلافه أن ما أصابه المجنون المطبق والصبي الذي لا يعقل ابن سنة ونصف ونحوها من الأموال أنه هدر بخلاف الدماء، وفي كتاب ابن المواز، قول ثالث في المسألة أن ما أصابه في الدماء والأموال هدر كالبهيمة التي جرحها جبار، ولكل قول من الأقوال الثلاثة وجه، وقد مضى بيانه في رسم مرض من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، ولا اختلاف في أن

(16/97)


عليه الوضوء إذا أفاق، وإنما الاختلاف هل عليه الغسل؟ فقال في المدونة إنه لا غسل عليه، وقال ابن حبيب إذا أجنب في جنونه فلا بد من أن يغتسل، وعلى هذا يختلف فيمن لسعته عقرب أو ضرب بسيف فأمنى هل عليه غسل أم لا؟ وبالله التوفيق.

[مسألة: يستوفي المجروح من مال المدبر]
مسألة وسألت مالكا عن المدبر يجرح رجلا جرحا فيه عقل فيسلمه سيده إلى المجروح فيختدمه بجراحه ثم يموت المدبر ويترك مالا ولم يستوف المجروح دية جرحه كلها من يرث مال المدبر؟ فقال: يستوفي المجروح من مال المدبر بما بقي من عقل جرحه، ثم يكون ما فضل من مال المدبر لسيده.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه كما يسلم العبد في الجناية بماله فكذلك يكون ما مات المدبر عنه من مال لصاحب الجناية حتى يستوفي جنايته.

[مسألة: يتنازعان فيجرح كل واحد منهما صاحبه ثم يطلبا القود]
مسألة قال: وسألت مالكا عن الرجلين يتنازعان فيجرح كل واحد منهما صاحبه ثم يأتيان يطلب كل واحد منهما من صاحبه القود بجراحه كلها أو يطلب ذلك أحدهما أن يقاد منه أو يقاد له، فقال لي: كيف قلت؟ فقلت: يتنازعان فيجرح هذا هذا موضحة، وهذا هذا موضحة، أو يجرح كل واحد منهما صاحبه في جسده فيقولان أو يقول أحدهما أقيدوا مني وأقيدوا منه، فقال لي: يفقأ هذا عين هذا وهذا عين هذا ثم يأتي يطلب فيقول: افقئوا عين الآخر أو عين صاحبي الآخر أفليس ذلك له؟ فقيل لمالك أفيكون في ذلك الدية؟

(16/98)


فقال: لا، ولكن قد أخذ لنفسه قوده بيده، فليس بينهما قود فيما قد أخذه لنفسه.
قال محمد بن رشد: أما إذا أوضح كل واحد منهما صاحبه في الموضع الذي أوضحه فيه من رأسه أو جسده أو فقأ كل واحد منهما عين صاحبه اليمنى أو فقأ كل واحد منهما عين صاحبه اليسرى أو ما أشبه ذلك فلا إشكال في أنه لا قصاص بينهما إذ قد أخذ قوده بيده، وأما إذا أوضح أحدهما صاحبه في غير الموضح الذي أوضحه فيه، مثل أن يوضع أحدهما صاحبه في رأسه فوضحه هو في جسده، فلكل واحد منهما أن يقتص من صاحبه إن طلبا ذلك، ولمن طلبه منهما إن طلب ذلك أحدهما، وكذلك إن فقأ أحدهما عين صاحبه اليمنى فقأ هو عينه اليسرى إذ لا يقتص يمنى بيسرى ولا يسرى بيمنى، ويجري ذلك على الاختلاف في الأعور يفقأ عين الصحيح وفي الصحيح يفقأ عين الأعور، فيكون لكل واحد منهما أن يقتص من عين صاحبه الآخر في قول، ويكون مخيرا بين أن يقتص من عين صاحبه وبين أن يأخذ دية عينه التي بقيت، وذلك خمسمائة دينار في قول، ويكون مخيرا بين أن يقتص من عين صاحبه وبين أن يأخذ دية العين التي يترك، وذلك ألف دينار في قول حسبما يأتي من الاختلاف في ذلك في رسم القطعان من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

[مسألة: يجرح ملطا عمدا فتصير موضحة أيقاد له من موضحته أو من ملطا]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يجرح ملطا عمدا فتصير موضحة أيقاد له من موضحته أو من ملطا؟ قال: بل يقاد له من ملطا، فإن صارت موضحة كان ذلك، وإن لم تستوضح عقلت الموضحة؟ فقيل لمالك أيعقل له الموضحة كلها أم ما بين الموضحة والمطا؟

(16/99)


قال: لا أدري، قال سحنون: قال عبد الله بن نافع وأرى له عقل الموضحة كلها لأنه ليس دون الموضحة عقل.
قال محمد بن رشد: يدخل هذه المسألة من الاختلاف الثلاثة الأقوال التي تقدمت في أول سماع ابن القاسم في الذي يجرح رجلا موضحة فتصير منقلة، فقوله إنه يقاد له من ملطا فإن صارت موضحة كان ذلك، وإن لم تستوضح عقلت له الموضحة، هو على القول في الذي يجرح موضحة فتصير منقلة إنه يقاد له من الموضحة ويعقل له ما بين الموضحة والمنقلة إن لم تصر موضحة المقتص منه منقلة.
وقوله: إن له عقل الموضحة كلها بعيد خارج عن القياس إذ لا يصح أن يأخذ جميع عقل الموضحة إذ قد اقتص من بعضها، وإن لم يكن للمطاء دية مسماة عند مالك فيجب أن ينظر إلى قدر جرح الملطا ما هو من جرح الموضحة؟ فإن كان ثلثه أو ربعه حط من عقل الموضحة ثلثه أو ربعه إذ قد أخذه في القصاص، وقد روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أنهما قضيا في الملطا وهي السمحاق بنصف دية الموضحة، فعلى هذا إذا اقتصر من الملطا ولم تصر موضحة كان له نصف عقل الموضحة، وقد روي عن زيد بن ثابت أنه قال في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة أبعرة إذا كانت في الرأس، فعلى هذا يكون له إذا اقتص من الملطا ولم تصر موضحة بعير واحد، إلا أن مالكا لم ير هذا وقال في موطئه: ولم تقض الأئمة في القديم ولا في الحديث عندنا فيما دون الموضحة بعقل، فيحمل ما روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت في ذلك على وجه الحكومة بالاجتهاد لا على وجه التوفية ويأتي في هذه المسألة على القول الآخر أنه ليس له إلا عقل الموضحة، وعلى القول الثالث أنه مخير بين أن يقتصر من الملطا ويأخذ عقل الموضحة أو بقية عقلها

(16/100)


على ما بيناه من أنه هو القياس وبين أن يأخذ عقل الموضحة ولا شيء له في القصاص.

[مسألة: مملوك أيتام شج رجلا ثلاث مواضح وملطاوين]
مسألة قال: وسئل مالك عن مملوك أيتام شج رجلا ثلاث مواضح وملطاوين فوجب عليه في ذلك خمسون ومائة دينار، فأخذ ولي الأيتام العبد وأعطى المجروح الخمسين والمائة الدينار عقل الجراح، فقال: أخذه لنفسه أو للأيتام؟ فقال: بل لنفسه، قال بئس ولي الأيتام هذا، ولم غرر وليس هذا له ولا نعمة عين، قيل له: أفترده على الأيتام؟ قال: يرفع ذلك إلى السلطان حتى ينظر فيه.
قال محمد بن رشد: قوله فوجب عليه في ذلك خمسون ومائة دينار هو على مذهبه في أنه ليس فيما دون الموضحة عقل، وقد مضى في المسألة التي قبلها ما في ذلك من الاختلاف بين السلف وقوله: إن ذلك ليس للأيتام ولا نعمة عين، صحيح إذ لا يجوز لولي الأيتام أن يشتري شيئا من متاع أيتامه، فإن فعل نظر السلطان في ذلك كما قال، فإن رآه نظرا للأيتام أمضاه، وإن لم يكن نظرا يوم ابتاعه ولم يره نظرا للأيتام رده وإن كان نظرا يوم ابتاعه وبالله التوفيق.

[: عض رجل إصبع رجل فجبذ إصبعه فطرح ثنية العاض]
ومن كتاب الأقضية الثالث قال: وقال مالك: إذا عضّ رجل إصبع رجل فجبذ إصبعه فطرح ثنية العاض: إن على المعضوض عقل السن، وهذا من الخطأ، وروى يحيى بن يحيى عن الليث أنه قال: ليس على

(16/101)


المعضوض في ثنيتي الذي عضه عقل لأنه كان أظلم وأسوأ.
قال محمد بن رشد: رواية يحيى عن الليث بن سعد لم تثبت في جميع الروايات وهي مطابقة لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عمران بن الحصين «أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقال: يعض أحدكم أخاه كما يعض العجل لا دية لك» فيحتمل أن يكون الحديث لم يبلغ مالكا ويحتمل أن يكون بلغه فرأى القياس المعارض له مقدما عليه على ما حكى ابن القصار من أن مذهب مالك أنه إذا اجتمع خبر الواحد مع القياس ولم يمكن استعمالهما جميعا قدم القياس، والحجة فيه أن خبر الواحد لما جاز عليه النسخ والغلط والسهو والكذب والتخصيص ولم يجز على القياس من الفساد إلا وجه واحد وهو هل الأصل معلول بهذه العلة أم لا فصار أقوى من خبر الواحد فوجب أن يقدم عليه، وجه القياس في ذلك أن هذه جناية من عاقل حديث بفعله ما يجوز له فعله فوجب أن يكون خطأ ولا يكون هدرا، أصله إذا رمى طائرا فأصاب إنسانا، وأولى ما يقال في هذا عندي أنه حديث لا حجة فيه على مالك، إذ ليس هو لأمره من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بإسقاط الدية في مثل هذا الفعل فيجب امتثال أمره على من بلغه إياه، وإنما هو حكاية قضية منه في عين يحتمل أن يكون بمعنى، فلا يصح أن يعدى الحكم إلى غير تلك العين إلا أن يكون المعنى موجودا فيها، ويحتمل أن يكون النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما حرم العاض دية ثنيته وإن كانت واجبة له على المعضوض عقوبة له لعضه إياه حين كانت العقوبات على الجنايات في الأموال ثم نسخ ذلك فعادت العقوبات على الجنايات في الأجسام فيعاقب العاض بالأدب على ما يؤدي إليه اجتهاد للحاكم ويكون له دية ثنيته على مذهب مالك وبالله التوفيق.

(16/102)


[: اقتتلا فعض أحدهما لسان الآخر فقطع منه ما منع الكلام شهرين]
ومن كتاب العقول والجبائر وسئل عن رجلين اقتتلا فعض أحدهما لسان الآخر فقطع منه ما منع الكلام شهرين ثم تكلم وقد نقص من كلامه، أترى فيه قودا؟ فقال: أحب إلي ألا يقاد منه، ولم أسمع أنه أقيد منه، فلا أرى أن يقاد منه؛ لأنه ليس له قدر يعرف في القصاص أخاف أن تسرع الحديدة فيذهب كلامه ويستحسف فأحب إلي ألا يقاد منه وأن يعقل.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يقاد منه إذ ليس له قدر يعرف في القصاص مخافة أن تسرع الحديدة فيذهب كلامه يريد أو يذهب منه أكثر مما ذهب من المجني عليه أو أقل يبين مذهبه في المدونة أنه قال فيها: إنه يقاد منه إن كان يستطاع قود ذلك ولا يخاف منه، فبين هاهنا أن ذلك لا يستطاع عليه، وقال أشهب فيه إنه مخوف فلا يقاد منه وقوله: إنه يعقل يريد بقدر ما ذهب من كلامه؛ لأن الدية إنما هي في الكلام، فإن ذهب كلامه كله وجبت له الدية كلها، وإن بقي بعض جارحة لسانه وإن ذهب من كلامه بعضه كان له من الدية بقدر ما نقص من كلامه بعد أن يجرب صدقه فيما يدعي أنه ذهب من كلامه من كذبه ويحلف على ذلك على ما قاله بعد هذا في هذا الرسم، وإنما يقدر نقصان كلامه بالاجتهاد بعد الاختبار والتجربة، ولا ينظر في هذا إلى الأحرف على ما قاله ابن القاسم بعد هذا في رسم الكبش من سماع يحيى، وقد قيل: إنه يكون له من الدية بقدر ما لم ينطق به من حروف المعجم، وهو بعيد؛ إذ بعض الحروف أخف على اللسان من بعض؛ ولأن فيها أيضا ما لا حظ للسان فيه وبالله التوفيق.

[مسألة: تعلق أحدهما بالآخر وأصبعه مجروحة تدمي يزعم أنه عضها]
مسألة وعلى رجلين كان بينهما كلام ثم اصطلحا، ثم تعلق أحدهما

(16/103)


بالآخر وأصبعه مجروحة تدمي يزعم أنه عضها، فقال: إن لكل شيء سببا فليأت بشيء وإلا فيمين المدعي، وأرى إن كان من أهل التهمة أن يضرب.
قال محمد بن رشد: قوله: وأرى إن كان من أهل التهمة أن يضرب معناه إذا أتى على دعواه بسبب لا يبلغ أن يكون شاهدا عدلا على دعواه مثل أن يشهد له أنه مشهور بمثل ما ادعى عليه به وما أشبه ذلك، وتحصيل القول في هذه المسألة أنه إن لم يأت على دعواه بسبب ولا شيء فقيل إنه يحلف على تكذيب ما ادعى عليه به، وهو قوله في هذه الرواية، وقيل إنه لا يمين عليه وهو الذي يأتي على ما في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود في دعوى الفرية، فإن أتى على دعواه بسبب فقيل إنه يضرب وهو معنى قوله في هذه الرواية، وقيل إنه يحلف فإن أبى أن يحلف سجن حتى يحلف، قاله ابن القاسم في سماع أصبغ بعد هذا، قال أصبغ فإن طال سجنه وأبى أن يحلف أدب وخلي إلا أن يكون مبرزا في ذلك فيخلد في حبسه، وأما إن أتى على دعواه بشاهدي عدل فقيل إنه يحلف مع شاهده ويقتص، وقيل لا يحلف مع شاهده ويحلف المدعى عليه فإن أبى أن يحلف سجن حتى يحلف، والقولان في المدونة، وفرق ابن الماجشون وسحنون في هذا بين الجرح الصغير والكبير، فقالا: إنه لا يقتص باليمين مع شاهده في الجرح الصغير دون الكبير، وقد مضى التكلم على هذا المعنى في رسم القضاء من سماع أشهب من كتاب الشهادات.

[مسألة: ضربت يده بسيف فقطعت إحدى قصبتي يده]
مسألة وسئل عمن ضربت يده بسيف فقطعت إحدى قصبتي يده أترى فيه قودا؟ قال: نعم إن استُطيع ذلك وأرى الأطباء ومن يعرف ذلك يكون هو الذي يلي ذلك.

(16/104)


قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن كل جرح لم يكن متلفا فيقاد منه إلا ألا يستطاع على القود منه.

[مسألة: الكبير تصاب سنه فيأخذ ديتها ثم تثبت]
مسألة وسئل عن الكبير تصاب سنه فيأخذ ديتها ثم تثبت هل يتبع الدية قبله؟ فقال: لا أرى ذلك، إذا يقع في ذلك اتباع وتخليط، وإنما أخذ ذلك حين أخذه بوجه الحق، ولعلها تثبت ليس على مثل حالها.
قال محمد بن رشد: اعتلاله في أنه لا يرد ما حكم له به من دية السن إذا ردها صاحبها فثبتت بقوله ولعلها تثبت ليس على حالها يدل على أن هذه المسألة بخلاف الذي يضرب فتبيض عينه أو ينزل الماء فيه فيأخذ الدية ثم يبرأ بعد ذلك أنه يرد الدية على ما قاله في المدونة؛ لأن بصره قد رجع إليه على ما كان والذي يدل على الفرق بين المسألتين أيضا أن الذي ضرب فابيضت عينه أو نزل الماء فيها لو رجع إليه بصره قبل أن يحكم له بالدية لم يكن له شيء باتفاق، لا من دية ولا من قصاص، والذي قلعت سنه إذا ردها فثبتت يقتص منه في العمد باتفاق، وتكون له الدية في الخطأ على اختلاف، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في سماع أصبغ من كتاب الديات وبالله التوفيق.

[مسألة: جرح موضحة فصارت منقلة]
مسألة وسئل عمن جرح موضحة فصارت منقلة، قال: أرى أن يعطى عقل المنقلة فقط، قلت: أرأيت لو أصيبت من ذلك عينه فقال أرى أن يعطى عقل موضحة وعقل العين، قال: وقد كان أصيب بالمدينة رجل بمأمومة فسقطت من ذلك يده ورجله، فقضي له بعقل ذلك كله، عقل المأمومة واليد والرجل، قلت له: أرأيت

(16/105)


ذلك؟ قال: نعم رأيت ذلك، قلت له: وأعجبك؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: أما الذي أصيب بمأمومة فذهب منها يده ورجله فلا اختلاف في أن يقضى له بدية ذلك كله وكذلك الذي أصيب بموضحة فذهبت منها عينه لا اختلاف أيضا في أنه يقاد له من الموضحة فإن برأت ولم تذهب من ذلك يمينه كان له عقل العين، وأما الذي أصيب بموضحة فصارت منقلة فقد مضت والقول عليها مستوفى في أول سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.

[مسألة: أصاب يد رجل فقطع وهي سومة سليمة فأراد الاستقادة من يده]
مسألة وسئل عمن أصاب يد رجل فقطع وهي سومة سليمة فأراد الاستقادة من يده فأصابوا بها عيبا أو نقصا عثلا أو شلا وفيها استمتاع ومنفعة، فقال الذي أصيبت يده أنا أرضى أن أستقيد من يده هذه الناقصة فقال: أما الذي كان فيها استمتاع ومنفعة فإني أرى ذلك له وأما إذا لم يكن فيها استمتاع ولا منفعة فإني لا أرى ذلك له وأخاف أن يكون من العبث تكون العين بها النقص والضعف فيقول أنا أرضى أن استقيد منها فيكون ذلك له فإذا كانت ذاهبة قائمة فقال أنا أرضى أن استقيد بأبخسها منها لم أر له ذلك؛ لأن ذلك من العبث.
قال محمد بن رشد: أما إذا كانت جل منفعة عين الجاني أو يده باقية فلا اختلاف في أن المجروح بالخيار بين أن يستقيد منها بنقصانها وبين أن يأخذ عقل يده أو عينه.
وأما إذا كانت منفعتها كلها قد ذهبت أو جلها فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال أحدها أن له أن يقتص إن شاء وإن كانت منفعتها كلها قد ذهبت، وهو قوله في رسم المكاتب من سماع يحيى أنه إن شاء اقتص وقطع الشلاء التي فيها حقه، وإن شاء تركها وأخذ العقل، والثاني قول أشهب في

(16/106)


المجموعة وكتاب ابن المواز أنه ليس له أن يقتص منها وإن بقي فيها منفعة إذا كانت جل منفعتها قد ذهبت، والثالث قوله في هذه الرواية وهو مذهبه في المدونة أنه إن كانت قد ذهبت منفعتها كلها فليس له أن يقتص، وإن كان بقي فيها منفعة وإن قلت فهو بالخيار بين أن يأخذ العقل أو يقتص.

[مسألة: كل أمر لا يقدر على القود منه]
مسألة قال: وقال مالك: كل أمر لا يقدر على القود منه فليس فيه قود واللسان لا قود فيه فليس فيه قود، ويعقل له ذلك بقدر ما نقص من الكلام، فإذا قطع طرف اللسان فذهب منه الكلام كله ففيه الدية كاملة لا شك فيه، والعين تصاب فتكون قائمة قد ذهب بصرها ففيها الدية كاملة لا شك فيه، والذي قطع لسانه لا يقدر على القود منه وذلك مختلف، أخاف أن يؤخذ من لسانه مثل الذي قطع من لسان هذا فيمنعه ذلك الكلام، قال ويحلف الذي قطع طرف لسانه على ما ذهب من كلامه بعد تجربة ذلك، قال وسئل عن حد ما يعرف به ما ذهب من السمع والبصر إذا ادعى أن قد ذهب كذا وكذا فقال في الذي ادعى أن قد ذهب من بصره كذا وكذا، قال ينصب له شيء ويخلى عن عينه فإذا انتهى بصره ربطت عينه الصحيحة وقيل له انظر بعينك التي أصيبت فينصب له ذلك في موضع، فإذا انتهى ذلك حول ذلك إلى موضع آخر حتى يستوي ذلك، فإن اختلف ذلك لم يصدق، وإن استوى ذلك وثبت أعطي من الدية بقدر ما نقص بصره من الغاية الأولى إلى حيث انتهى بصره حين ربط على عينه الصحيحة فأعطى ذلك وأحلف عليه، وقال في الذي يقول: ذهب من سمعي كذا وكذا قال يتباعد منه إنسان فيصيح به حتى إذا قال قد سمعته تحول له في ناحية أخرى يجرب بذلك سمعه، فإذا اتفق

(16/107)


ذلك كان له العقل، وإن اختلف ذلك لم يكن له شيء، وإذا اتفق أعطي من ذلك بقدر ما نقص من سمعه ويستحلف على ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يقاد من اللسان إذ لا يستطاع على القصاص منه مخافة أن يزيد أو أن ينقص هو مثل ما تقدم من قوله قبل هذا، وقوله إنه يحلف على ما ذهب من كلامه بعد تجربة ذلك يبين ما تقدم أيضا، والتجربة في ذلك إنما معناه اختبار دعواه ليعلم صدقه فيه من كذبه، فإن لم يتبين كذبه فيما يدعي حلف مع ذلك لاحتمال أن يكون كذب فلم يتبين كذبه للمختبرين له، وسيأتي في سماع يحيى وجه تقدير ما نقص من كلامه كيف يكون وما يكون له إن شك الشهود في قدر ما نقص من كلامه إن كان الثلث أو الربع.

[مسألة: الصبي المدبر الذي لم يبلغ الخدمة يجرح إنسانا]
مسألة قال وسألته عن الصبي المدبر الذي لم يبلغ الخدمة يجرح إنسانا أيؤخر حتى يكبر ويبلغ العمل؟ فقال: نعم يؤخر حتى يكبر ويبلغ العمل، قيل أرأيت إن مات قبل أن يبلغ العمل أيذهب عقل جرح هذا المجروح؟ فقال: نعم، وكذلك الأمة التي لا عمل عندها إذا كانت مدبرة فجرحت تؤخر حتى تبلغ العمل وتكبر الجارية كيف تؤخر وما ينتظر بها؟ فقال: حتى يموت سيدها فتصيب مالا أو يكون شيء لها ألا ترى عثمان - رَحِمَهُ اللَّهُ - كيف جمعهما فقال: لا يكلف الصغير ولا المرأة غير ذات الصنعة الكسب.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا إشكال فيها ولا وجه للقول وبالله التوفيق.
وسئل فقيل له جاءني صبي قد أثغرت أسنانه كلها إلا سنا واحدة فإنها

(16/108)


تتحرك فقلت له أنزعها لك؟ فقال: نعم، فجعلت فيها خيطا ثم نزعتها فأقام ثلاثة أيام وقد كانت برجله قرحة؟ فقال له: أعتق رقبة فإن لم تجد فصيام شهرين متتابعين وما أدري أذلك عليك أم لا؟ إلا أنه إن كان أديته وإلا أجرت.
قال محمد بن رشد: إن علم أنه مات من قلعه لضرسه فالكفارة عليه واجبة، وإن علم أنه لم يمت من ذلك، وأنه إنما مات من القرحة التي كانت برجله أو من شيء عرض له فلا شيء عليه، وإن خشي أن يكون مات من قلعه لضرسه فهو الذي قاله في الرواية من استحباب الكفارة له، فإن كانت عليه وإلا أجر فيها، وبالله التوفيق.

[مسألة: قاس أصبع المقطوعة أصبعه وأخذ قياس ما قطع منه]
مسألة وسئل عن طبيب استقاد من أصبع رجل لرجل قطعت أصبعه فقاس أصبع المقطوعة أصبعه وأخذ قياس ما قطع منه فقطع من أصبع القاطع بقدر ذلك القياس، فنقص من أصبع المستقاد منه أكثر من الذي قطع من أصبع المستقيد لطول أصابع المستقيد وقصر أصابع المستقاد منه، فقال: أخطأ وبئس ما صنع، فقلت له فكيف يصنع بمثل هذا؟ فقال: بعض الناس أطول أصابع من بعض فليقس الأنملة التي قطع بعضها، فإن كان ما قطع منها ثلثها أو ربعها قطع من أنملة هذا الثلث أو الربع، فعلى هذا الحساب يكون هذا، كانت أنملة قصيرة أو طويلة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه لأنه كما قطع الأنملة بالأنملة كانت أطول منها أو أقصر فكذلك إذا قطع جزءا منها يقطع من أنملة القاطع مثل ذلك الجزء كان أطول أو أقصر وإنما اختلف في الجرح في الرأس وفي عضو من الأعضاء كالذراع أو العضد ونحوه هل ينظر إلى قدر ذلك الجرح من رأس المجروح وذراعه، فإن كان الثلث أو الربع شيء في

(16/109)


رأس الجارح أو ذراعه ثلثه أو ربعه أو ينظر إلى قدر الجرح فيؤخذ في رأس الجارح أو ذراعه ذلك القدر وإن أتى ذلك على رأسه كله أو ذراعه فقال أشهب الحكم في ذلك كالحكم في الأنامل إنما ينظر إلى ما يقع الجرح من رأس المجروح فيؤخذ من رأس الجارح مثل ذلك الجزء، واختلف في ذلك قول ابن القاسم، قال ابن المواز والأمر عندنا كما قال أشهب وقول ابن القاسم قديما إنه يقاس الشق حتى يؤخذ في رأس الجارح بطول الشق وإن استوعب رأس المستقاد منه يريد ولم يف بالقياس، قال فليس عليه غير ذلك وكذلك الجبهة والذراع يريد بطول ذلك ما لم يضق عنه العضو فلا يزاد من غيره، والصحيح عندي قول ابن القاسم هذا لا قول أشهب الذي اختاره ابن المواز؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فوجب أن يقتص من الجارح بمثل الجرح الذي جرحه في طوله وقصره؛ لأن الألم في الجرح إنما هو بقدر عظمه وطوله وقصره لا بقدره من رأس المجروح؛ لأنه إذا شق من رأس الجارح بطول ما شقه من رأس المجروح فقد استويا في الألم وإن كان الجرح من رأس أحدهما ربعه ومن رأس الآخر نصفه، ألا ترى أن الكافر يعظم خلقه في النار ليتضاعف عليه العذاب وبالله التوفيق.

[مسألة: تضرب فتطرح جنينين لم يستهلا]
مسألة وسئل عن المرأة تضرب فتطرح جنينين لم يستهلا، فقال: فيهما غرتان ولو استهلا لكان عليه ديتان.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وتستحق الغرتان في مال الضارب بشهادة شاهدين على الضرب أو بشهادة شاهد واحد مع يمين كل واحد من الورثة ويستوي فيه العمد والخطأ؛ لأنه أقل من الثلث فلا تحمله العاقلة، وأما الديتان إذا استهلا فتستحقا في الخطأ على العاقلة بالقسامة مع

(16/110)


شاهدين على الضرب باتفاق أو مع شاهد واحد على اختلاف، ويجب في العمد القصاص مع القسامة إن كان الضرب في البطن باتفاق، وإن كان في غير البطن على اختلاف، وقد مضى الكلام على هذا كله مستوفى في رسم أول عبد ابتاعه من سماع يحيى من كتاب الديات وبالله التوفيق.

[مسألة: ضربوه وشهود ينظرون فتفرقوا وقد شجوه أربع مواضح]
مسألة وسئل مالك عن نفر ثلاثة شرعوا جميعا في ضرب رجل واحد فضربوه وشهود ينظرون فتفرقوا وقد شجوه أربع مواضح، فقال مالك: إن أحب أن يحلف على أيهم شاء أنه شجه تلك الشجاج ثم أقيد منه، وقال ابن القاسم قال مالك: يحلف عليهم كلهم إن شاء ويقتص أو على من أحب منهم، فإن لم يحلف ونكل كانت عقول تلك الشجاج عليهم كلهم فإن كانت الشجاج ملاطي أو يقاد منه مما يكون دون الموضحة فله أن يحلف على أيهم شاء ويستقيد منه، فإن أبى أن يحلف بطل ذلك كله، وإنما يعطى اليمين إذا شهد الشهود أنهم شرعوا فيه، وكذلك لو شرعوا فيه فلم يشج إلا شجة واحدة وشهدوا عليهم بذلك حلف المشجوج على أيهم شاء واستقاد منه إذا لم يثبت الشهود أيهم شجه تلك الموضحة، فإن أبى أن يحلف عقلاه جميعا، قال ابن نافع: كل شيء لا يعقل فليس للمجروح إلا أن يثبت من جرحه فيستقيد، وإن لم يثبت وأبى أن يحلف حلف الجارح، وبرئ.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه الرواية إن أحب أن يحلف على أيهم شاء أنه شجه تلك الشجاج ثم يقاد منه هو مثل قول ابن القاسم في سماع أصبغ بعد هذا في الفئتين يقران بأصل النايرة بينهما أو يقوم بذلك

(16/111)


بينة ولا يشهد على جراحات بعضها بعضا أنه يحلف كل واحد منهما على صاحبه إذا عرف أنه به وأنه الذي جرحه ثم يستقيد منه، وهو الاستحسان على غير حقيقة القياس؛ لأنه مدع على الذي يدعي عليه منهم أنه جرحه، فالقياس ألا يكون له أن يحلف ويستقيد ممن يدعي عليه منهم أنه جرحه إلا بشاهد عدل على أنه هو الذي جرحه، فإن لم يكن عليه شاهد بجرحه إياه حلف المدعى عليه وبرئ ولم يكن على الأخر شيء لأنه لما ادعى على أحدهم أنه هو الذي جرحه فقد برأ الآخر، وكذلك إن نكل عن اليمين على قياس قوله إنه يحلف ويستقيد، يحلف المدعى عليه ويبرأ ولا يكون على الآخرين شيء إذ قد أبرأهما- بدعواه على الثالث وهو قول مالك في رواية ابن القاسم عنه، فإن لم يحلف ونكل كانت عقول تلك الشجاج عليهم كلهم، لا يصح إذا ادعى على واحد منهم أنه هو الذي جرحه، وإنما يصح ذلك إذا قال لا أحلف لأني لا أدري من جرحني منهم، ولا يكون عقل تلك الجراح عليهم إذا قال لا أدري من جرحني منهم إذا حلف كل واحد منهم أنه ما جرحه أو نكلوا كلهم عن اليمين، وأما إن حلف بعضهم ونكل بعضهم عن اليمين فيبرأ من حلف منهم، وتكون عقول تلك الشجاج على من نكل منهم عن اليمين، وقول ابن نافع في الملاطي التي لا عقل فيها في آخر المسألة وإن لم يثبت وأبى أن يحلف حلف الجارح وبرئ يبين ما قلناه من أنه إذا نكل عن اليمين في المواضح يحلف المدعى عليه ويبرأ ولا يكون على الآخر شيء، وبالله التوفيق.

[: العبد يكون بين الرجلين فيشج العبد أحدهما موضحة]
ومن سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب أوله استأذن سيده قال عيسى بن دينار وسألت ابن القاسم عن العبد يكون بين الرجلين فيشج العبد أحدهما موضحة أو يشج أحدهما ورجلا آخر

(16/112)


موضحتين أو شجهما جميعا موضحة موضحة، قال ابن القاسم: أما إذا أوضح أحد سيده قيل للآخر إن شئت فافتد نصفه بنصف دية الجناية، وإن شئت فأسلمه خالصا وإن جنى على أحد سيديه وعلى أجنبي بموضحتين أو منقلتين أو جائفتين كان العبد بينهما على أربعة أرباع فكان للأجنبي ثلاثة أرباعه، وللسيد ربعه، قلت لعيسى: أرأيت إن أوضح أحد سيديه بموضحة والآخر منقلة؟ قال: يقال للمجروح موضحة إن شئت فافتك نصفك بخمسين دينارا أو إن شئت فأسلمه، ولذلك تفسير.
قال محمد بن رشد: هذا بين كله على ما قاله، وذلك أنه إذا أوضح أحد سيديه بنصف موضحة هدرا لأنها جناية عبده عليه، فلا شيء له فيها، والنصف الآخر جنى عليه نصف شريكه، فوجب أن يكون شريكه مخيرا بين أن يسلم إلى شريكه المجني عليه النصف الذي له من العبد، وبين أن يفتكه بنصف أرش الموضحة كما قال، وأما إذا جنى على أحد سيديه وعلى أجنبي بموضحتين أو منقلتين أو مأمومتين فقوله إن العبد بينهما على أربعة أرباع للأجنبي ثلاثة أرباعه، وللسيد ربعه هو كما قال، وبيان ذلك أن الذي لم يجن عليه العبد من السيدين يخير في نصفه بين أن يسلمه إلى المجني عليهما شريكه والأجنبي فيكون بينهما بنصفين وبين أن يفتكه منهما بنصف جنايته عليهما، وذلك نصف موضحة نصف موضحة على كل واحد منهما إن كان جنى على كل واحد منهما موضحة موضحة ونصف منقلة نصف منقلة إن كان جنى على كل واحد منهما منقلة منقلة فإن أسلم نصفه إليهما ولم يفتكه كان بينهما نصفين لكل واحد منهما ربع العبد فيصير للمجني عليه من الشريكين ثلاثة أرباع الربع الذي صار إليه من شريكه والنصف الذي كان له، ثم يخير في النصف الذي كان له بين أن يدفعه إلى الأجنبي في نصف جنايته عليه موضحة كانت أو منقلة أو مأمومة، فإن دفعه إليه ولم يفتكه بقي في يديه

(16/113)


ربع العبد وكان للأجنبي المجني عليه ثلاثة أرباعه كما قال، فهذا تفسير قوله.
وأما إذا أوضح أحد سيديه بموضحة والآخر بمنقلة فقول عيسى إنه يقال للمجروح موضحة إن شئت فافتك نصفك بخمسين دينارا وإن شئت فأسلمه فهو صحيح، والتفسير الذي أراد بقوله ولذلك تفسير هو أن المجروح موضحة يقول للمجروح منقلة قد جرحني كما جرحك فلا مطالبة له قبلي إلا بما زاد جرحك على جرحي، إذ لو جرحك موضحة كما جرحني لم يكن لواحد منا على صاحبه شيء في حصته من العبد، لوجوب التقاصص في ذلك بيننا على ما قاله سحنون وأصبغ وغيرهما من أهل العلم، فوجب أن أقاصك من عقل المنقلة وهو خمسون ومائة بعقل الموضحة وهو خمسون، فتبقى الجناية عليك بمائة جناها عليك العبد الذي نصفه لي ونصفه لك، فلا يجب علي في نصفي إلا خمسون، فأنا مخير بين أن أسلم نصفي من العبد إليك بالخمسين، وبين أن أفتكه بها، وهذا بين والحمد لله.

[مسألة: يخدم الرجل عبدا له إلى أجل ثم يعدو عليه سيده الذي أخدمه فيقتله]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يخدم الرجل عبدا له إلى أجل ثم يعدو عليه سيده الذي أخدمه فيقتله عمدا أو خطأ أو يعدو عليه أجنبي فيقتله، فقال: إن قتله سيده خطأ فلا شيء عليه، وإن قتله عمدا أخرج قيمته فيؤاجر للمخدم منها من يخدمه إلى ذلك الأجل الذي أخدم إليه، فإن انقضى الأجل قبل أن تنفذ القيمة رجع ما بقي منها إلى سيده وإن نفذت القيمة قبل الأجل فلا شيء له غيرها، وإن قتله أجنبي عمدا أو خطأ فالدية للسيد وليس للمخدم منها قليل ولا كثير.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنه إن قتله السيد عمدا يأتي بعبد يخدم المخدم مكان العبد الذي قتل، فإذا انقضى أجل الخدمة رجع إليه

(16/114)


عبده، وإن مات قبل الأجل لم يكن عليه في بقية الأجل شيء، والقولان في آخر كتاب الأمهات من المدونة، وقد قيل: إنه يشترى بالقيمة عبد يخدم المخدم مكانه، وهو قول المخزومي، وأما إذا قتله خطأ فلا شيء عليه كما قال لأنه أخطأ على نفسه، وأما إذا قتله غيره فسواء كان قتله إياه عمدا أو خطأ، وقد مضت هذه المسألة في رسم يشتري الدور من سماع يحيى من كتاب الخدمة.

[: يصيبه الرجل بموضحة أو منقلة فينزى فيها فيموت]
ومن كتاب أوله أوصى لمكاتبه بوضع نجم من نجومه وسألته عن الرجل يصيبه الرجل بموضحة أو منقلة فينزى فيها فيموت وقد شهد على الضربة شهيدان، قال: إن مات في فوره ذلك ولم يعش بعد الضرب كانت له قيمته بلا يمين، وإن عاش بعد الضرب ثم مات فإنه لا يستحق قيمته بشهادة الشاهدين دون يمين، ولكن يحلف يمينا واحدة لمات من ذلك الجرح ويستحق قيمته، فإن نكل عن اليمين لم يكن على الذي جنى عليه إلا قيمة الموضحة أو المنقلة إن كانت منقلة، وقد ذكر بعض الناس أنه يستحقه بغير يمين، ولست أرى ذلك، قال: وكذلك النصراني يصاب بجرح فيشهد شهيدان على الجرح ثم يعيش، بعد ذلك ينزى في جرحه ثم يموت أن ولاته يحلفون يمينا واحدة ويستحقون ديته، ولا يستحقونها أبدا دون يمين إذا عاش بعد الضرب، فإن نكل وليه عن اليمين لم يكن له إلا عقل الجرح إن كان مما فيه عقل، وهذا كله قول مالك،

(16/115)


قلت وكذلك النصراني إذا قتل وليه فأتى بشاهد واحد إنما يحلف يمينا واحدة مع شاهده ويستحق ديته؟ فقال: نعم كذلك هو يحلف يمينا واحدة مع شاهده ويستحق ديته، قال: وكذلك للعبد أيضا إذا قتل فأتى بشاهد واحد أنه يحلف مع شاهده ويستحق قيمته، وكذلك قال لي مالك لأنهما إنما يستحقان مالا ولا يستحقان دما، قلت فإن كان أولياء النصراني غير واحد وسادة العبد واحدا فأتى بشاهد واحد أو شهد رجلان على جرحه ثم عاشا بعد ذلك ثم ماتا هل يجزي أن يحلف في كلا الوجهين رجل واحد من أولياء النصراني يمينا واحدة وواحد من أرباب العبد يمينا واحدة ولا يجزي يمين رجل واحد من النصراني حتى يحلف كل من يرث النصراني، يمينا يمينا وكل من له في العبد المقتول شقص يمينا يمينا مع شاهده الواحد أو مع شهادة الشاهدين إذا عاش بعد، قال: لا يجزي إلا أن يحلف جميع أولياء النصراني وجميع أرباب العبد، ومن حلف من أولياء النصراني وأرباب العبد أخذ حقه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصله في المدونة ومذهبه فيها وما يأتي في الرسم الذي بعد هذا وما مضى في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الديات وفي رسم المجالس من سماع أصبغ منه، وقد قيل إن دم النصراني لا يستحق بالشاهد مع اليمين، وهو قول أشهب وظاهر ما في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الديات، وفي المسألة قول ثالث وهو أن أولياء يحلفون مع شاهدهم خمسين يمينا ويستحقون ديته، وهو قول المغيرة، وقد مضى هذا كله مستوفى في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الديات، وقوله وقد ذكر بعض الناس أنه يستحقه بغير يمين هو قول مالك في المدنية من رواية محمد بن يحيى السبائي عنه، وقد ذكرنا ذلك أيضا في سماع أشهب من كتاب الديات.

(16/116)


[: العبد يقتل العبد ولم يشهد على قاتله إلا رجل واحد]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت قال عيسى قال ابن القاسم قال مالك في العبد يقتل العبد ولم يشهد على قاتله إلا رجل واحد، قال: يحلف رب العبد المقتول يمينا واحدة مع شاهده ويستحق بذلك العبد القاتل، كان قتله إياه عمدا أو خطأ ولا يقتل العبد القاتل بيمين سيد العبد، ولكن يستحقه بيمينه ويستحييه، وليس له أن يقتله، ولو شهد شاهد على أن عبدا ضرب عبد رجل فنزي في ضربة فمات، وشهد على ضربه رجل عدل ولم يشهد على قتله، قال: يحلف سيد العبد المقتول يمينا واحدة بالله الذي لا إله إلا هو لمات من ضربه ثم يستحق العبد بيمينه ولا يقتله ولكن يسترقه إن أحب.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يحلف يمينا واحدة لمات من ضربه معناه أنه يحلف لضربه ومات من ضربه، وإنما يحلف من ضربه لا أكثر إذا شهد بالضرب شاهدان على ما مضى في الرسم الذي قبل هذا، وقد مضى أيضا من معنى هذه المسألة زيادات في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الديات وبالله التوفيق.

[مسألة: الجارية تقتل رجلا فيبيعها سيدها ويكتم ذلك منها]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الجارية تقتل رجلا عمدا أو خطأ أو تجرح رجلا فيبيعها سيدها ويكتم ذلك منها أو لا يعلم بذلك البائع ولا المشتري حتى تلد من المشتري أولادا ثم يقوم عليها أهل الجناية، قال ابن القاسم أما إذا كان قتلها عمدا دفعت إلى أولياء المقتول فإن قتلوا نظر إلى قيمة ولدها، فإن كان قيمة ولدها مثل الثمن الذي اشتراها به فلا شيء للمشتري على البائع، وإن كان

(16/117)


قيمة ولدها أدنى من ذلك الثمن رجع عليه بما بين قيمة ولدها والثمن الذي اشتراها به، وإن كانت قيمة ولدها مثل الثمن أو أكثر لم يرجع الولد عليه بشيء، ولم يرجع البائع على المشتري بفضل قيمة الولد على الثمن، قلت أرأيت إن استحييت أيكون أولياء المقتول مخيرين بين ثمنها الذي باعها به وبين قيمتها يوم يحكم فيها؟ قال: نعم إذا استحيوها فهم مخيرون بين الثمن الذي بيعت به يأخذونه من البائع، وبين القيمة يوم يحكم فيها يأخذونها من المشتري، فإن اختاروا الثمن أخذوه ومضى البيع، ولم يكن لهم على المشتري قليل ولا كثير، وإن اختاروا القيمة أخذوا القيمة من المشتري ورجع المشتري على البائع فأخذ منه الثمن كله، قلت ولا ينظر في قيمة ولدها للبائع إذا استحييت كما ينظر له في قيمتهم إذا قتلت؟ قال: لا ينظر في قيمتهم إذا استحييت وليس يوضع عنه لقيمة ولدها من الثمن قليل ولا كثير، قلت أرأيت إن كانت القيمة التي أخذ من المشتري أقل من الثمن أيرجع المشتري على البائع بجميع الثمن أم بالقيمة التي أخذ منه؟ قال: بل بجميع الثمن الذي دفع إليه لأنه بمنزلة رجل باع جارية ليست له فاستحقت في يد المشتري وقد فاتت عنده فأخذ منه قيمتها، فهو يرجع على البائع بجميع الثمن كانت القيمة أكثر من الثمن أو أقل، قال ابن القاسم: إلا أن يشاء سيد الجارية أن يدفع إليه ألف دينار دية المقتول، ويكون له الثمن كله كان أكثر من الدية أو أقل، قلت: أرأيت إن كان البائع عديما والثمن الذي باعها به أكثر من القيمة؟ فقال: نحن نأخذ القيمة من هذا المشتري ونتبع البائع بما بين الثمن والقيمة أيكون ذلك لهم، قال ابن القاسم: لا يكون ذلك لهم، وإنما لهم أن يختاروا القيمة يأخذونها من المشتري أو الثمن يأخذونه من البائع، فإن اختاروا الثمن لم يكن لهم على

(16/118)


المشتري قليل ولا كثير وإن كانت القيمة أكثر من الثمن، وإن اختاروا القيمة لم يكن لهم من الثمن على البائع قليل ولا كثير وإن كان أكثر من القيمة والثمن كله للمشتري يأخذه من البائع إلا أن يشاء البائع أن يدفع إليه الدية ويكون له الثمن كله فذلك له، وليس للمشتري ولا لأهل الجناية من الثمن قليل ولا كثير وإن كان أضعاف الدية إذا رضي البائع أن يدفع الدية، قال وأما إذا كان قتلها خطأ أو جنايتها جراحات فإن الجراحات إذا كانت مما فيه العقل عمدا كانت أو خطأ والقتل خطأ سواء لأنه ليس في شيء من ذلك قصاص، فإنه يقال للبائع اغرم جناتها، فإن غرم جنايتها مضى البيع ولم يكن عليه أكثر من غرم الجناية، وفي سماع أصبغ قال ابن القاسم: فإن أبى أن يغرم الجناية أخذ منه الثمن فأعطيه المجني عليه، إلا أن تكون القيمة أكثر من الثمن فيرجع على المشتري ببقية القيمة عن الثمن لأنه كان له أن يأخذ المبتاع بالقيمة كلها إن شاء؟ قال أصبغ: فإن أخذ بقية القيمة من المبتاع رجع المشتري على البائع بقيمة العيب فقط إذا لم يكن المشتري علم به، وهو ما بين قيمتها جانية وقيمتها غير جانية فيرجع بالذي أصاب العيب إلا أن تكون قيمة العيب أكثر من الذي أخذ من المبتاع في بقية القيمة، فإن كان أكثر فليس له إلا ما أخذ منه؛ لأن الجناية لم تضر به، وإنما يرجع بالعيب حين أضرته الجناية فإذا لم تضره لم يرجع بشيء، فإن كان قيمة العيب أقل لم يكن على البائع غيره مع الثمن الذي أخذ منه، فإن وجد البائع المجني عليه عديما أخذ المشتري بالقيمة كلها ورجع المشتري على البائع بالثمن وبما بين القيمتين على التفسير الذي فسرت لك، والقيمة التي تؤخذ من المشتري أو يؤخذ تمامها إنما هو قيمتها يوم قام المجني عليه ليس قيمتها يوم جنت ولا يوم اشتراها

(16/119)


ولا يوم أحبلها لأنها لو ماتت قبل ذلك لم تكن تلزم المشتري، ولو ماتت في يدي البائع ولم يبع لم يضمن من الجناية شيئا.
قال محمد بن رشد: الجارية الجانية هذه تباع فتفوت عند المبتاع بولادة قبل قيام المجني عليه بجناية أصلها في المدونة، وهي مسألة حسنة إلا أن وجوهها غير مستوعبة، وفي بعضها اعتراض واختلاف، منه ما هو منصوص عليه، ومنه ما يتخرج بالمعنى على الأصول، فأما إذا كانت الجناية عمدا فيها القصاص فاقتص أولياء المقتول منها فقتلها فاختلف بماذا يرجع المشتري على البائع؟ فقال في الرواية إنه إن كان في قيمة الولد وفاء بالثمن الذي دفع رجع إليه لم يرجع عليه بشيء، وإذا لم يكن فيها وفاء بالثمن الذي رجع عليه ببقية الثمن، ومعنى هذا عندي إذا كان المشتري قد علم بجنايتها، وأما إن لم يعلم بذلك ودلس له به البائع فينبغي أن يرجع على البائع بجميع الثمن ولا يحاسب فيه بشيء من قيمة الولد وفي محاسبته بقيمة الولد إذا علم بجنايتها نظر؛ لأنه إما أن يحكم للولد بحكم الغلة أو بحكم أمه، فإن حكم له بحكم الغلة وجب له الرجوع بجميع الثمن، وإن حكم له بحكم أمه وجب أن يفض الثمن على قيمة الأم وقيمة الولد يوم البيع، فيرجع على البائع بما ناب الأم من الثمن، وأما إذا لم يرد صاحب الجناية القصاص أو كان القتل خطأ فيحلف البائع ما علم بالجناية أو ما باعها وهو يريد حمل الجناية على ما قاله في المدونة، فإن حلف ورد الدية ثبت البيع وصح له الثمن، وإن أبى أن يؤدي الدية كان أولياء الجناية بالخيار بين أن يجيزوا البيع ويأخذوا الثمن من البائع ويمضي البيع للمشترى وبين أن يأخذوا القيمة من المشتري لفواتها عنده على ما قاله في الرواية، ولم يكن لهم عليه من قيمة الولد شيء لأن الأمة إذا جنت ثم ولدت بعد الجناية لم يدخل ولدها في الجناية، فإن أخذوا القيمة منه رجع بجميع الثمن على البائع ولم يحاسبه البائع في ذلك بقيمة الولد، بخلاف إذا اقتص منها، والفرق بين الموضعين أنها إذا قتلت قصاصا فكأنها باقية على

(16/120)


ملك البائع إلى أن قتلت، فكانت له في الولد شبهة وجب أن يحاسب بقيمة الولد من أجلها وإذا لم تقتل وإنما أخذ أولياء الجناية منه قيمتها فالقيمة إنما يأخذونها منه يوم وطئها فحملت، وإذا أخذت القيمة منه يوم حملت وجب أن يرجع على البائع بجميع الثمن ولا يحاسب فيه بشيء من قيمة الولد لأنهم إنما حدثوا بعد موجب القيمة عليه فيها بحملها، وقد قال أصبغ في آخر المسألة: إن القيمة التي تؤخذ من المشتري ويؤخذ منه تمامها إنما هو قيمتها يوم قام المجني عليه ليس يوم جنت ولا يوم اشتراها المشتري ولا يوم أحبلها، فعلى قياس قوله: إذا رجع بالثمن يحاسب فيه بقيمة الولد كما إذا قتلت.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال أحدها أنه يحاسب البائع بقيمة الولد قتلت أو أخذت منه القيمة، والثاني أنه لا يحاسب بقيمة الولد قتلت أو أخذت منه القيمة فيها، والثالث الفرق في ذلك بين أن تقتل أو يؤخذ منه قيمتها، وللمشتري إذا أراد أولياء الجناية أن يأخذوا القيمة منه أن يؤدي إليهم الدية ويرجع على البائع بالأقل من الثمن أو الدية على ما قاله في المدونة ورواية أصبغ عن ابن القاسم في أن لأولياء الجناية أن يأخذوا الثمن من البائع وبقية القيمة من المشتري وبقية الثمن من البائع إن كان الثمن أكثر من القيمة خلاف رواية عيسى عنه في أنهم إذا أخذوا الثمن من البائع لم يكن لهم على المشتري شيء، وإذا أخذوا القيمة من المشتري لم يكن لهم على البائع شيء ورجع المشتري عليه بجميع الثمن، وقول أصبغ: إنهم إن رجعوا على المشتري بما زادت القيمة على الثمن يرجع المشتري على البائع بقيمة العيب إلا أن يكون ذلك أكثر من الذي رجعوا به عليه صحيح على قياس روايته عنه.
وأما قوله إنهم إن رجعوا على المبتاع بالقيمة وهي أكثر من الثمن رجع المبتاع على البائع بالثمن وبما بين القيمتين على التفسير الذي فسرت لك يريد بقوله على التفسير الذي فسرت لك أنه يرجع بالأقل من قيمة العيب وبما زادت القيمة على الثمن، فهو مفسر لروايته عن ابن القاسم ولرواية عيسى

(16/121)


عنه، وقد قيل إنه خلاف لرواية عيسى عنه وأن الذي يأتي لروايته عنه إذا رجعوا على المبتاع بالقيمة وهي أكثر من الثمن أن يرجع المبتاع على البائع بما رجع به عليه إن كان دلس عليه بالجناية وإن كان لم يدلس عليه بها لم يكن له أن يرجع عليه إلا بالثمن وبالله التوفيق.

[: حر جرح عبدا فعدا عليه العبد فجرحه والحر البادي]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وسئل عن حر جرح عبدا فعدا عليه العبد فجرحه والحر البادي، فقال: يأخذ سيد العبد من الحر قيمة دية الجرح الذي جرح عبده ويخير السيد في جرح الحر الذي جرحه عبده إن ما افتداه وإن شاء أسلمه.
قال محمد بن رشد: قوله يأخذ سيد العبد من الحر قيمة دية الجرح يريد إن كان من الجراح التي فيها الديات مثل الموضحة والمنقلة والمأمومة، فيكون عليه في الموضحة نصف عشر ثمنه وفي المنقلة عشر ونصف عشر ثمنه وفي المأمومة ثلث ثمنه، وفي ما سواه من الجراح ما نقص من قيمته، ثم يخير سيد العبد بين أن يسلمه إلى الحر معيبا أو يفتكه منه بدية جرحه؛ لأنه إنما جرحه وهو مجروح قد استوجب سيده دية جرحه، ولو كان العبد هو البادي لخير سيده بين أن يسلمه إلى الحر وما وجب له في جرحه إياه، وبين أن يفتكه منه بما جنى عليه ويقاصه في ذلك بما وجب له عليه في جرحه لعبده، مثال ذلك أن يقطع العبد يد الحر ثم يجرح الحر العبد موضحة فإن سيد العبد يخير بين أن يسلمه إلى الحر بجنايته عليه ولا يتبعه بما جني على عبده، وبين أن يفتديه بنصف الدية يقاصه منها بما وجب له عليه في جنايته على عبده وذلك نصف عشر ثمنه.

(16/122)


[مسألة: مقطوع الأصبعين من أصابعه قطع كف رجل تامة الأصابع]
مسألة وقال في رجل مقطوع الأصبعين من أصابعه قطع كف رجل تامة الأصابع مثل تلك اليد: إنه يقطع كفه تلك ويكون عليه عقل أصبعين، فإن قطع أصابع رجل الخمس من مثل تلك الكف قطعت الأصابع التي بقيت في كفه الثلاثة وعقل له أصبعان أيضا، وإن قطعت كفه تلك المنقوصة بالأصابع الباقية وحدها لم يكن له في ذلك كله إلا العقل ولا قود فيه.
قال محمد بن رشد: قوله في مقطوع الأصبعين من أصابعه يقطع كف رجل تامة الأصابع إنه يقطع كفه تلك ويكون عليه عقل أصبعين معناه إن أراد القصاص، فهو على هذه الرواية بالخيار بين أن يقتص ويأخذ عقل الأصبعين الناقصة من المقتص منه، وبين أن يترك القصاص ويأخذ دية هذه كاملة، وقد قيل إنه إنما هو بالخيار بين أن يقتص ولا شيء له، وبين أن يأخذ دية يده كاملة، وهو مذهبه في المدونة وقوله في رسم المكاتب من سماع يحيى بعد هذا، وكذلك إذا نقصت أصابع الجاني أكثر من أصبعين، وأما إذا لم ينقص من أصابعه إلا أصبع واحد فليس للذي جني عليه إلا القصاص لا يكون له أن يستقيد منه ويغرمه عقل أصبعه الناقصة، هذا مذهب ابن القاسم يختلف، ويأتي على مذهب أشهب أنه بالخيار بين أن يستقيد وبين أن يترك القود منه ويأخذ دية يده كاملة، وهو القياس، وسواء كان نقصان ما نقص من أصابعه خلقة أو بأمر من السماء أو بجناية جان عمدا، أو خطأ، وأما إن قطع المقطوع أصبعين أصابع يد رجل الخمس من تلك اليد فإنه يقطع أصابعه الثلاثة الباقية ويأخذ عقل الأصبعين كما قال في هذه الرواية، ولا اختلاف في ذلك، وأما إن كان المجني عليه هو المقطوع بعض أصابعه فإن كان الذي نقص من أصابعه أصبع واحدة فليس له على الذي قطع يده بالأربع الأصابع التي بقيت فيها إلا القصاص وليس عليه أن يغرم شيئا لنقصان أصبعه، هذا مذهب ابن

(16/123)


القاسم في رسم المكاتب من سماع يحيى وقوله في المدونة وروايته عن مالك، قال في المبسوطة: وما يحمل ذلك القياس، والقياس في ذلك ما قاله أشهب ألا يكون له القصاص إذا قطعت من يده أصبع واحدة عمدا أو خطأ، قال أشهب: وإنما استحسن على غير قياس إن كان الذي أصيب منه أنملة أو نحوها عمدا أو خطأ أن يكون له القصاص إن أصيب كفه عمدا وإن كان استقاد لتلك الأنملة أو أخذ لها عقلا قال: وإن أصيبت كفه خطأ نقص من الدية قدر الأنملة، وأما إن كان الذي نقص من أصابعه أصبعان فأكثر فلا قصاص له على من قطع كفه بما بقي فيه من الأصابع، وليس له على قاطع إلا عقل ما بقي فيه من الأصابع إلا أن يكون لم يبق في الكف إلا أصبع واحدة، فقيل إنه يكون له مع عقل الأصبع حكومة في الكف، وهو قوله في المدونة، وقال أشهب لا يكون في الكف حكومة ما بقي منها أنملة ويكون لها عقل، واستحسن ذلك سحنون، وهو ظاهر قول ابن القاسم في رسم المكاتب بعد هذا من سماع يحيى، وسواء أيضا كان نقصان ما نقص من أصابعه من خلقة أو من أمر من السماء أو من جناية عمدا أو خطأ، وأما إن أصيبت يده الناقصة أصبع أو أكثر أو أقل خطأ فليس على من أصابها إلا عقل ما بقي من أصابعه ولا اختلاف في ذلك.

[: عبد جرح رجلا ثم أبق]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل ابن القاسم عن عبد جرح رجلا ثم أبق، فقال المجروح لسيد العبد إما أن تدفع إلي قيمة جرحي وإما أن تخلي بيني وبين العبد أطلبه، فإن وجدته فهو لي، قال: لا خير فيه، هذا مخاطرة إن وجده غبن صاحبه وإن دفع إليه قيمة الجرح لم يدر لعل العبد قد مات فلا خير فيه، وقد بلغني أن مالكا قاله.

(16/124)


قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن الغرر فيه بين، والواجب في ذلك على قوله أن يرجأ الأمر إلى أن يوجد العبد فيخير سيده بين أن يفتكه أو يسلمه بدية الجرح، واتفاقهم على هذه المسألة يقضي بصحة قول أصبغ فيما اختلفوا فيه من مسألة الرجل يشتري العبد بثمن إلى أجل فيأبق منه ثم يفلس إذ قد قيل: إن البائع بالخيار بين أن يتبع العبد ويطلبه ولا شيء له غيره، وبين أن يحاص بالثمن إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه الثمن، وهو قول ابن القاسم في رسم أوصى من سماع عيسى ومن كتاب المديان والتفليس، وقيل: إنه يخير بين أن يحاص الغرماء وبين أن يطلب العبد فإن وجده وإلا رجع فحاص الغرماء، وقال أصبغ ليس له إلا المحاصة ولا يجوز له أن يتركها ويتبع العبد؛ لأنه دين بدين وخطأ وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب قياسا على هذه المسألة وبالله التوفيق.

[مسألة: إذا جنت المدبرة الصغيرة أو المدبر الصغير]
مسألة وقال ابن القاسم إذا جنت المدبرة الصغيرة أو المدبر الصغير تركا حتى يقويا على الخدمة فيخدمان إلا أن يشاء سيدهما أن يفتكهما.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم العقول والجبائر من سماع أشهب، وهي بينة لا إشكال فيها وبالله التوفيق.

[: مدبر قتل سيده]
ومن كتاب سلف دينارا
وقال في مدبر قتل سيده: إنه إن كان قتله عمدا فلا أرى أن يعتق إن استحيي ولا شيئا منه وكان عبدا لهم مملوكا، وإن كان قتله خطأ

(16/125)


فإنه يعتق في مال السيد إن حمله الثلث أو ما حمل منه، ويكون عليه من الدية بقدر ما أعتق منه، ولا يدخل شيء منه في رقبته وهو قول مالك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها، وقد مضت بزيادة في معناها في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الديات وفي رسم استأذن من سماع عيسى أيضا من كتاب المكاتب والله الموفق.

[: يجرح الرجل عمدا فيؤخر حتى يبرأ فيقتص من صاحبه ثم ينفجر جرح الأول فيموت]
ومن كتاب الثمرة وقال ابن القاسم في الرجل يجرح الرجل عمدا فيؤخر حتى يبرأ فيقتص من صاحبه ثم ينفجر جرح الأول فيموت، قال ابن القاسم: يقسم أولياؤه أنه مات من جرحه ويقتلون جارحه وإن كان قد اقتص منه ولا يكون له في الجرح شيء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ إذ ليس الخطأ في القصاص من الجرح بالذي يسقط حق الأولياء فيما يجب لهم من القود بقسامتهم إذ آل الجرح إلى النفس.

[: يجتمع عليه النفر فيقطع يده فلا يدري في الشهود من قطعها]
ومن كتاب البراءة قال: وسألته عن الرجل يجتمع عليه النفر فيقطع يده فلا يدري في الشهود من قطعها ويتعلق المقطوعة يده بواحد ويدعي عليه أو لا يدري هو أيضا من قطعها أو يعمدون لقطع يده جميعا عمدا فيقول المقطوعة يده فلان قطعني لواحد منهم إلا أنهم قد بطشوا به جميعا قال: إن كانوا إنما ضربوه ولم يجتمعوا على قطع يده ولم

(16/126)


يثبت الشهود من قطعه منهم وادعى ذلك هو قبل رجل منهم حلف واقتص، وإن لم يثبت من فعل ذلك به ولم يثبت الشهود من هو؟ كان على جميعهم الدية، وإن اجتمعوا على قطع يده فأمسكوه لذلك وقطعه واحد منهم قطعوا به جميعا إذا أمسكوه ليقطعه وعرف ذلك منهم، ورواها أصبغ وقال في الذي ضربوه واجتمعوا عليه لغير القطع ذلك الجواب فيه إذا شهدوا أنه كان سليما حين اجتمعوا عليه فانكشف مقطوعا.
قال محمد بن رشد: أما إذا اجتمعوا لقطع يده وتعاونوا على ذلك فإنهم يقطعون به جميعا، وإن كان الذي ولي القطع واحد منهم لا اختلاف في أن الأيدي تقطع باليد كما أن الأنفس تقتل بالأنفس، فقد قال عمر بن الخطاب: لو تمالئ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا، وأما إذا لم يجتمعوا على قطعه ولا قصدوا إلى ذلك ففي قبول دعواه على من ادعى منهم أنه هو الذي قطعه نظر، قد مضى بيانه في رسم الجبائر والأقضية من سماع أشهب فلا وجه لإعادته وبالله التوفيق.

[: الأعور يفقأ عين الصحيح]
ومن كتاب القطعان قال عيسى قال ابن القاسم: سألنا مالكا عن الأعور يفقأ عين الصحيح، قال لنا: إن أحب الصحيح أن يقتص اقتص، وإن حلف فله دية عينه خمسمائة دينار، ثم رجع بعد ذلك فقال: إن أحبّ الصحيحُ أن يقتص اقتص، وإن أحب فله دية عين الأعور ألف دينار، قال ابن القاسم: وقوله الآخر أحب إليّ وأحسن ما سمعت في ذلك أن يكون الأعور إذا بقيت عينه مخيرا على الجاني إن شاء فقأ عينه بعينه، وإن شاء أخذ الدية ألف دينار؛ لأنه لا يقتص من

(16/127)


عين تشبه عينه؛ لأن عينه كانت بصرَه كله، فلذلك خُيِّر.
وأما إذا فقأ الأعور عين الصحيح فليس للصحيح أن يقتص من عين الأعور؛ لأن العين التي تفقأ خير من عينه، فليس له إلا القصاص إلا أن يصطلحا على أمر فهو ما اصطلحا عليه؛ لأن الله تعالى قال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] قال ابن القاسم: فإن صالحه على الدية مبهمة فإنما له عليه عقل عينه التي بقيت وذلك خمسمائة دينار، ثم رجع ابن القاسم وأخذ بقول مالك الآخر أن يكون الصحيح أيضا إذا فقأ الأعور عينه مخيرا على الأعور في فقئ عينه بعينه، وأخذه بعينه ألف دينار ثمن عينه التي يترك، وقال قياسا على قول مالك هذا الآخر الذي به أخذ.
فإن فقأ الأعور عيني الصحيح جميعا فإنه إن فقأهما في فور واحد فالصحيح مخير إن شاء فقأ عينه وأخذ منه خمسمائة دينار دية عينه الآخر، وإن شاء ترك عينه وأخذ ألفا وخمسمائة دينار؛ لأن الأعور إذا فقأ عين الصحيح كان الصحيح عليه مخيرا في أن يفقأ عينه أو يأخذ عقل العين التي يترك له، وإن فقأهما في غير فور واحد، فقأهما في أيام مختلفة أو مجالس نظر، فإن كان التي فقأ أولا هي اليمنى وكانت عين الأعور الباقية يمنى كان مخيرا في أن يفقأ عينه أو يأخذ عقله منه ألف دينار، وإن كان الذي فقأ أولا اليسرى لم يكن له إلا عقلها خمسمائة دينار لأنه لا قصاص بينهما، ثم إن فقأ عينه الآخر بعد ذلك لم يكن له إلا القصاص إلا أن يصطلحا على أمر، وليس هو بمنزلة الصحيح يفقأ الأعور عينه فيخير الصحيح بين

(16/128)


أن يفقأ عين الأعور أو يأخذ ديتها لأن عينه مثل عينه، وإذا فقأ الصحيح عين الأعور كان الأعور مخيرا عليه في أن يفقأ عينه بعينه أو يأخذ ألف دينار لأنه لا يجد عينا تعدل عينه، قال: وإذا فقأ الأعور عين الصحيح اليمنى ثم فقأ بعد ذلك اليسرى فإنه إن شاء فقأ عينه وأخذ منه ألف دينار عقل عينه التي ترك له أيضا؛ لأن الأعور إذا فقأ عين الصحيح خير في أن يفقأ عينه أو يأخذ عقلها، فانظر في الأعور أبدا، فإذا بدأ بالتي فيها القصاص كان الصحيح مخيرا في أن يفقأ عينه أو أن يأخذ منه عقل عينه التي ترك وإن بدأ باليسرى التي لا قصاص له فيها فإنما عقلها خمسمائة دينار فإن بدأ باليمنى كانت له أَلْفَان ألف التي ترك له من عينه وألف آخر في عقل الآخر؛ لأن الأعور إذا فقأت عينه ففيها ألف دينار.
وإذا فقأ الصحيح العينين، عيني رجل جميعا فإن كان في فَوْر واحد فليس له إلا القود، وليس له من الدية شيء إن أرادها، وإن كان مرة بعد مرة كان له في الأولى القصاص، ولم يكن له غير ذلك إن طلبه من الدية، وكان في الأخرى مخيرا إن شاء اقتص منها، وإن شاء أخذ ديتها ألف دينار، ليس له إلا أن يفقأهما جميعا ولا شيء له، أو يفقأ الأولى ويأخذ ألف دينار أو يأخذ ألف دينار ويدعها إن شاء.
قال محمد بن رشد: اختار ابن القاسم من قولي مالك في الأعور يفقأ عين الصحيح قوله الآخر إن المجني عليه مخير بين أن يفقأ عين الأعور بعينه وبين أن يأخذ دية عين الأعور التي يتركها له ألف دينار، وأخبر أن أحسن ما سمع في ذلك أنه ليس له إلا القصاص من عين الأعور إلا أن يصطلحا على أمر فهي ثلاثة أقوال أحدها قول مالك الأول، أنه مخير بين القصاص وبين

(16/129)


أخذ الدية وهو على قياس القول بأن لولي المقتول أن يجبر القاتل على غرم الدية وهو مذهب أشهب وأحد قولي مالك، والقول الثاني أنه مخير بين أن يقتص منه وبين أن يأخذ منه دية العين التي يترك له وهو ألف دينار، وجه هذا القول مراعاة المعنى في إلزام القاتل الدية شاء أو أبى وهو أنه لما ألزمه أن يفدي نفسه من القتل بديتها إذا أراد ولي المقتول أن يأخذها منه ولا يقتله لزمه أن يفدي عينه من القصاص بديتها إذا أراد المجني عليه أن يأخذها منه ولا يقتص منها، ووجه القول الذي أخبر ابن القاسم أنه أحسن ما سمع القياس على أصل مذهبه وروايته من مالك في أنه ليس لولي المقتول أن يجبر القاتل على غرم الدية، وإذا لم يلزمه أن يفدي نفسه من القتل بديتها فأحرى ألا يلزمه أن يفدي عينه من القصاص منها بديتها، فلكل قول من هذه الثلاثة الأقوال وجه حسبما ذكرناه، ثم رجع ابن القاسم أخيرا إلى ما كان اختاره أولا وهو أن يكون الصحيح إذا فقأ الأعور عينه مخيرا بين أن يقتص منه وبين أن يأخذ منه دية العين التي يترك له وهي ألف دينار وإجراء ما ذكرناه من المسائل على قياس ذلك من تلك أنه إذا فقأ عيني الصحيح في غير فور واحد فإن بدأ بالتي فيها القصاص مثل أن يفقأ أولا اليمنى وعينه الباقية هي اليمنى فيكون مخيرا إن شاء أن يقتص من عين الأعور بعينه التي فقأها أولا ويأخذ دية عينه التي فقأها آخرا ألف دينار وإن شاء أن يترك القصاص من عينيه ويأخذ منه ألفي دينار وإن بدأ أولا بالتي لا قصاص فيها لم يكن له إلا خمسمائة دينار في العين التي فقأها أولا إذ لا قصاص فيها ولم يكن له في الثانية إلا القصاص إلا أن يصطلحا على شيء لأنها عين أعور بعين أعور، فلا يجب فيها إلا القصاص كما إذا فقأ الصحيح عين الصحيح لم يجب له إلا القصاص وبالله التوفيق.

[: أصيبت بعض عين رجل فأخذ عقل ما أصيب به منها ثم أتى رجل ففقأ ما بقي]
مسألة قال عيسى: وإن أصيبت بعض عين رجل فأخذ عقل ما أصيب به منها ثم أتى رجل ففقأ ما بقي منها وفقأ الأخرى جميعا معا

(16/130)


فإنه ينظر فإن كان الذي أصيب من العين أولا يسيرا اقتص من هذا الذي فقأهما جميعا معا فيفقأ عينيه جميعا إن كان عمدا يكون سبيلهما سبيل الصحيح وإن كان خطأ أخذ في الصحيحة خمسمائة دينار وأخذ في الأخرى ما بقي من عقله إن كان الذي أصابها أمر من السماء كان له ألف دينار فيهما جميعا، وإن كان فقأهما مرة بعد مرة فبدأ بالناقصة فقأهما عمدا فإنه يقتص إن كان الذي نقص منها قليلا، فإن كان ذلك كثيرا فلا قصاص فيها، وإنما له قدر ما بقي من العقل، وإن كان خطأ فله ما بقي من عقلها يسيرا كان النقصان أو كثيرا وإذا أصابها أمر من السماء ففيها القصاص إن كان عمدا أو جميع عقلها إن كان خطأ كان الذي نقص منها قليلا أو كثيرا ثم إن أصيبت الأخرى كان سبيلها سبيل عين الأعور في العمد والخطأ، وإن أصيبت الصحيحة أولا ففيها ما في الصحيحة، ثم إن أصيبت الناقصة بعد ذلك عمدا اقتص إن شاء قليلا كان نقصانها أو كثيرا وإن شاء أخذ عقل ما بقي منها على حساب ألف دينار إن كان الذي نقص منها ربعها كان له فيما بقي منها ثلاثة أرباع ألف دينار.
قال محمد بن رشد: رأيت لبعض أهل النظر أنه قال: تلخيص قول عيسى هذا أنه إن أصيبت بعض العين بأمر من السماء ثم أصيب باقيها بجناية ففيها القود إن كان عمدا أو جميع الدية إن كان خطأ كان الذي نقص منها بأمر من السماء يسيرا أو كثيرا، وأما إذا كان الذي نقص منها بجناية ثم أصيبت باقيها فإن كان أصيب باقيها خطأ ففيها باقي عقل العين كان النقصان يسيرا أو كثيرا، وإن كان عمدا ففيه القصاص إن كان النقصان يسيرا وإن كان كثيرا فله ما بقي من العقل وليس هذا التلخيص بصحيح.
وتحصيل القول في هذه المسألة ملخصا أن العين الناقصة إذا أصيبت عمدا فإن كان النقصان منها يسيرا كان فيها القصاص إلا أن يصطلحوا على

(16/131)


شيء إلا أن يكون المجني عليه أعور فيكون بالخيار بين أن يقتص وبين أن يأخذ عقل ما بقي بعدما نقص من عينه، إن كان نقص منها الربع كان له ثلاثة أرباع ألف دينار وإن كان كثيرا لم يكن فيها إلا ما بقي من عقلها سواء كان النقصان منها بجناية أو بأمر من السماء، وإنما يفترق ذلك إذا أصيبت خطأ فإن أصيبت خطأ والنقصان فيها بأمر السماء كان فيها جميع الدية كان النقص فيها يسيرا أو كثيرا إلا أن يكون النقصان قد أتى على أكثرها فلا يكون فيها إلا ما بقي من عقلها.
وإن أصيبت خطأ والنقصان فيها بجناية عمدا أو خطأ ففي ذلك ثلاثة أقوال أحدها أن فيها ما بقي من عقلها وهو أحد قولي مالك في المدونة، والثاني فيها أن العقل كامل وهو قول ابن نافع على قياس قولهم في السن إذا اسودت إن فيها العقل كاملا، فإن طرحت بعد ذلك كان فيها العقل أيضا كاملا، والقول الثالث الفرق بين أن يقتص للنقصان إن كان عمدا أو يأخذ له دية إن كان خطأ وبين ألا يقتص لذلك ولا يأخذ له دية، فإن لم يقتص لذلك ولا أخذ له دية كان له العقل كاملا، وإن اقتص لذلك وأخذ له عقلا لم يكن له إلا ما بقي من العقل.

[: العبد يطأ أم ولد ابنه أو أمة له بكرا فنقصها ذلك]
ومن كتاب أوله باع شاة وسألته عن العبد يطأ أم ولد ابنه أو أمة له بكرا فنقصها ذلك هل يكون في رقبة العبد من ذلك شيء؟ وما الأمر فيه؟ قال: أرى أن يدرأ عنه الحد وتكون قيمة أم ولد ابنه في رقبته لأنه قد حرمها عليه فتعتق أم الولد على سيدها ويخير العبد في أن يفتكه بقيمة أم الولد أو يسلمه فيعتق على الولد والبكر كذلك، فإن قال قائل فإنا نتهمه أن يكون إنما فعل ذلك ليكون عبدا لابنه فيعتق عليه فليس كذلك،

(16/132)


أرأيت لو جدع آذانهم أو قطع أيديهم ألم يكن ذلك في رقبته وتعتق على الابن إن أسلمه سيده، فكذلك ما سرق من مال ابنه أو حرَّمه عليه فهو في رقبته؛ لأنه بلغني عن بعض من أرضى به من أهل العلم أنه قال في الرجل يطأ أم ولد ابنه إنه يغرم قيمتها لابنه وتعتق على ابنه لأنه لا يستطيع وطئها ويدرأ عنه الحد، والحر والعبد في ذلك بمنزلة واحدة، وكذلك من سرق من مال ابنه الحر لم يقطع يده، وكان ذلك في رقبته، فهذا يدلك على الوطئ، قال ابن القاسم: ولو كان وطئ أمة لابنه ليست بكرا لم يكن في رقبته من ذلك شيء، ولو كانت بكرا فنقصها الافتضاض كان ذلك في رقبته.
قال محمد بن رشد: قوله إن العبد يعتق على ابنه الحر إذا أسلم إليه في جناية عليه في بدنه أو فيما استهلك من ماله أو حرمه عليه بالوطء من أمهات أولاده وإمائه، هو مثل ما مضى من قوله في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب الديات حسبما بيناه هناك من وجه قوله، وهو صحيح لأنه إنما يأخذه إذا أسلمه إليه سيده باختياره، ولو شاء لم يأخذه وتركه وأسقط التبعة عنه في جنايته إذ لا يلزم سيده أن يفتكه فإذا أخذه وجب أن يعتق عليه بمنزلة إذا اشتراه، وإن قلت إنه يجب له بنفس جنايته عليه إلا أن يشاء سيده أن يفتكه منه كان أبين لوجوب عتقه عليه إلا أن ذلك لا يصح أن يقال، إذ لو قيل ذلك لوجب أن يعتق عليه بنفس جنايته عليه وألا يكون لسيده أن يفتكه منه بجنايته ولما لم يكن مالكا له بنفس الجناية إلا أن يسلمه إليه سيده وارتفعت التهمة عنه بجنايته على ابنه ولم يكن كالقاتل الذي يقتل وارثه فيتهم أنه إنما قتله ليرثه لأن الميراث يجب له بالموت فاتهم فيه ومنع إياه.
وأما قوله لو وطئ أمة لابنه ليست بكرا لم يكن في رقبته إلا ما نقصها الافتضاض ففيه اختلاف؛ لأنه قد حرمها عليه، فقال إن له أن يحبس كل واحدة منهما ولا يحل له، ويكون ما نقص البكر منهما في رقبته وإن شاء. ألزمه

(16/133)


قيمة كل واحدة منهما وكان ذلك في رقبته وبالله التوفيق.

[مسألة: يتصدق بالأمة الحامل ويتصدق بجنينها على آخر فتجني قبل أن تضع]
مسألة وسئل عن الرجل يتصدق بالأمة الحامل يتصدق برقبتها على رجل ويتصدق بجنينها على آخر فتجني قبل أن تضع، قال ابن القاسم يخير الذي له الرقبة فإن فداها كان الجنين إذا وضعته للمتصدق عليه به، ولا يغرم من الجناية شيئا، وإن أسلمها كانت الأمة وجنينها للمجني عليه، وليس لصاحب الجنين قليل ولا كثير قلت: فإن قال صاحب الجنين إذا أسلمها الذي له الرقبة أنا أفتكها أيكون ذلك له؟ قال عيسى: أرى ذلك له، قلت لابن القاسم أرأيت لو لم تجن الأمة على أحد ولحق الذي له رقبتها دين قبل أن تضع أتباع في دينه ويذهب حق صاحب الجنين؟ قال ابن القاسم: لا تباع في دينه حتى تضع، قلت أرأيت لو أن صاحب الجنين أعتقه ثم جنت على رجل قبل أن تضع كيف يصنع بجنينها إذ لو أعتقت الأم والجنين في بطنها لم يعتق، ثم جنت على رجل قبل أن تضع، قال ابن القاسم أما إذا أعتقت الأمة فإن الجناية تكون دينا عليها تتبع به ويأخذ صاحب الجنين جنينه إذا وضعت وليس لصاحب الجرح فيه شيء، وأما إذا أعتق الجنين والأمة على حالها فجنت قبل أن تضع، قال أصبغ إن كان الجنين إنما صار لصاحبه بعطية من رب الرقبة فأرى إسلامه الأم إسلاما للجنين بمنزلة أن لو أعتقها بطل الجنين وكان حرا ولو افتداها رب الرقبة كان لصاحبه ولم يكن عليه في الجرح شيء وأما إذا كان الجنين صار لربه من عند غير صاحب الرقبة

(16/134)


مثل أن يهب لرجل رقبتها ولآخر جنينها قسم الجرح عليها وعلى جنينها، فجنينها منها العشر فيفتدي رب الرقبة بتسعة أعشار الدية ويفتدي صاحب الجنين بعشر قيمة أمه لا بعشر الدية؛ لأنه لو طرح كان على طارحه مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية في الذي يتصدق بأمته الحامل على رجل وبجنينها الذي في بطنها على رجل فتجني جناية قبل أن تضع إن الذي له الرقبة يخير بين أن يفتكها أو يسلمها، فإن أسلمها بطلت الصدقة بالجنين وكان للمجني عليه، هو على قياس قوله بأنه إذا أعتق صاحب الرقبة الأمة كانت حرة وما في بطنها وبطلت الصدقة بالجنين، وقد اختلف قوله في ذلك، فمرة قال هذا، ومرة قال يعتق الجنين بعتقها ويغرم صاحب الرقبة للآخر قيمة الولد يوم يخرج إن خرج حيا، وإن خرج ميتا فلا شيء له، فيأتي على قياس هذا القول أنه إن أسلم الرقبة في الجناية كان الولد للمجني عليه إن خرج حيا وغرم صاحب الرقبة قيمته يوم يخرج للمتصدق عليه، ومرة قال: عتقه موقوف حتى يخرج الجنين فيأخذه المتصدق به عليه وينفذ العتق حينئذ، وهو اختيار محمد بن المواز على هذا القول يأتي قوله في هذه الرواية إنها إذا أعتقت والجنين في بطنها لم يعتق ثم جنت على رجل قبل أن تضع فإن الجناية تكون دينا عليها تتبع به ويأخذ صاحب الجنين جنينه إذا وضعته إذ لا يصح أن تبتل حريتها ويكون ما في بطنها رقيقا للمتصدق به عليه فمعنى قوله أن يكون عتقه موقوفا حتى تضع فيأخذ صاحب الجنين جنينه وتبتل حينئذ حريتها، وتتبع بالجناية دينا ثابتا في ذمتها أو بما بقي منها إن استوفى بعضها من إجارتها في مدة حملها لأنها على هذا القول كالمعتقة إلى أجل فيأتي على قياس هذا القول أن يستأنى بها إذا جنت حتى تضع، فيأخذ صاحب الجنين جنينه ويخير صاحب الرقبة حينئذ بين افتكاكها بالجناية وإسلامها فيها، فقول أصبغ إن الجناية مفضوضة على الرقبة وعلى الجنين قول

(16/135)


رابع في المسألة، وكذلك اختلف قول ابن القاسم أيضا هل يباع في دين صاحب الرقبة قبل الوضع أم لا؟ فمرة قال إنها لا تباع في دينه حتى تضع فيأخذ صاحب الجنين جنينه، وهو قوله في هذه الرواية واختيار محمد بن المواز على ما اختاره من أن عتقه موقوف، ومرة قال إنها تباع في دين صاحب الرقبة بما في بطنها كما كانت تباع على سيدها الأول، وهو الذي يأتي على قياس قوله: إن ما في بطنها يعتق بعتقها وإن جنينها يكون للمجني عليه إن أسلمت إليه، فكان القياس أن ينتظر بها في الجناية حتى تضع كما ينتظر بها في الدين حتى تضع، ووجه التفرقة بين بيعها في الدين قبل أن تضع، وإسلامها في الجناية قبل أن تضع هو أن الجناية متعلقة برقبتها، والدين ليس بمتعلق برقبتها وإنما هو في ذمة سيدها، ولو تأخر النظر فيها حتى تضع لكان الولد لصاحبه لا تلحقه الجناية، ويخير صاحب الأم فإما فداها أو أسلمها وحدها، وهذا الخلاف كله إنما هو إذا صار الجنين لصاحب الجنين من غير صاحب الرقبة، وأما إذا صار إليه من عند صاحب الرقبة مثل أن يهب الرجل جنين أمته لرجل فلا اختلاف في أنها إذا جنت يخير صاحب الرقبة بين أن يسلمها بجنايتها فتبطل الهبة في الجنين بذلك، كما أنه لا اختلاف في أنه إن اعتقها سيدها بعد أن وهب جنينها لرجل يعتق ما في بطنها بعتقها وتبطل الهبة في الجنين، ولم يجب في هذه الرواية إذا أعتق صاحب الجنين الجنين فجنت قبل أن تضع، والجواب في ذلك أن الأمر يكون فيه كما لو لم يعتقه، إذ لا عتق لصاحب الجنين في الجنين قبل أن يوضع، وكذلك قال في كتاب ابن المواز، واختلف قول ابن القاسم وأشهب إذا أوصى الرجل بعتق جنين أمته وهي تخرج من الثلث فأعتق الورثة الأم فقال ابن القاسم عتق الميت أولى ولا الولد له، وقال أشهب عتق الورثة أولى ولا الولد والأم لهم، وقول

(16/136)


أشهب أظهر إذ لم يختلفوا في أنها إذا أوصى بجنينها لرجل والثلث يحملها فأعتق الورثة الأم أن الوصية بالجنين تبطل وبالله التوفيق.

[: أخدم عبده رجلا كذا وكذا ثم مرجعه إلى فلان بتلا فجرح العبد رجلا]
ومن كتاب العتق قال وسألته عن رجل أخدم عبده رجلا كذا وكذا ثم مرجعه إلى فلان بتلا فجرح العبد رجلا أو جرح، قال قد اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأما رأيي والذي أستحسن فإني أرى دية جراحه وقتله لسيده الأول، وليس لصاحب المرجع شيء، وإنما هو عندي بمنزلة ما لو قال هو حر بعد خدمة فلان، فأرى عقل جراحه لسيده، وقد ذكر عن مالك أنه ليس للسيد الذي بتل له وجعل له المرجع، والقول الأول أحب إليّ أن يكون ذلك للسيد الأول وإن جنى العبد جناية خير المخدم في أن يفتكه ويختدمه، فإن أفتكه اختدمه إلى الأجل الذي له فيه الخدمة ثم أسلمه إلى صاحب البتل، ولم يكن لصاحب الخدمة على الذي بتل له شيء مما أفتكه به من الجناية؛ لأنه إنما طلب الفضل والزيادة التي رجا في الخدمة، ولأنه لو أسلمه كان المبتول له مخيرا فإن أفتكه كانت خدمته له، وإن أسلمه كان المبتول له مخيرا إن أحب أن يفتديه ويكون عبدا له فذلك له، وإن أحب أن يسلمه فذلك له.
قال محمد بن رشد: اختلاف قول مالك في جرح العبد وميراثه إذا مات وقيمته لمن تكون إذا أخدمه سيده رجلا مدة ما ثم جعل مرجع رقبته

(16/137)


لغيره، هل يكون لسيده الذي أخدمه أو للذي إليه مرجع الرقبة اختلاف مشهور، وقد تقدم في سماع أصبغ من كتاب الخدمة، وعليه يأتي الاختلاف في مسألة العتق من سماع عيسى من كتاب الخدمة في الذي يخدم عبده فلانا سنة ثم هو لفلان وعليه دين هل يباع عليه في الدين قبل انقضاء السنة أم لا؟ وفي مسألة أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس في الذي يحبس الحبس على رجل فيقول هو لك حياتي ثم هو في سبيل الله هل يكون إذا مات في ثلثه أم ينفذ من رأس ماله حسبما مضى القول فيه مستوفى في الموضعين فلا معنى لإعادته، وأما إذا جنى جناية قبل أن ينقضي أجل الخدمة وتصير لصاحب الرقبة ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها أن الحق في الافتكاك لصاحب الخدمة من أجل أنه هو المقدم بها على صاحب الرقبة الذي المرجع إليه، وهو المبدأ بالتخيير وهو قوله في هذه الرواية، والقول الثاني أن الحق في ذلك لصاحب الرقبة الذي المرجع إليه إلا أنه يبدأ صاحب الخدمة بالتخيير من أجل أنه هو المقدم بها على صاحب الرقبة، فإن أفتكه على هذا القول واختدمه لم يكن لصاحب الرقبة إليه سبيل حتى يدفع إليه ما أفتكه به، والقول الثالث الحق في ذلك لصاحب الرقبة الذي المرجع إليه وهو المبدأ بالتخيير، وقد مضى بيان هذا كله وشرحه في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب الخدمة فلا معنى لإعادته.

[مسألة: عبد يجنى عليه في عهدة الثلاث لمن أرش الجناية]
مسألة وسألته عن عبد يجنى عليه في عهدة الثلاث لمن أرش الجناية؟ أو جنى هو على رجل فعلى من دية جنايته؟ أعلى البائع أم على المشتري؟ أو هلك بعض مال [العبد في عهدة الثلاث وقد كان اشتراه] ، بماله فقال المشتري أنا أرده إذ ذهب ماله، قال ابن

(16/138)


القاسم قال مالك: إن جنى عليه فعقل جنايته لسيده الذي باعه، والمشتري مخير إن أحب أخذه، وإن أحب تركه وإن تلف ماله أو بعضه فالبيع له لازم ولا يفسخ البيع بينهما لذهاب ماله، قال ابن القاسم: وأما ما جنى العبد فلم أسمع من مالك فيه شيئا إلا أني أرى أن سيده البائع بالخيار إن شاء أسلمه وإن شاء أفتكه، فإن أفتكه كان المشتري على بيعه ولا يضع ذلك منه شيئا إلا أن تكون تلك الجناية عمدا فيكون عيبا حدث إن شاء أخذه وإن شاء رده، بمنزلة العيب الذي يحدث في العهد، وإن أسلمه كان المشتري بالخيار إن أحب أن يفتكه من المجروح بدية الجرح أو يسلمه، فإن أفتكه بدية الجرح نظر، فإن كانت الدية أقل من ثمن العبد أسلم الزيادة إلى البائع، وإن كان كفافا أو أكثر لم يكن للبائع على المشتري شيء.
قال محمد بن رشد: قوله إن عقل ما جني على العبد في عهدة الثلاث للبائع صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن الضمان منه، فدية الجرح له، وأما قوله والمشتري مخير إن أحب أخذه وإن أحب تركه ففيه نظر إلا أن يكون البائع قد برأ الجاني من الجرح؛ لأنه إذا أبرأه من الجرح كان ضمانه من المشتري إن أخذه، وصار كمن اشترى عبدا مجروحا فيجوز باتفاق إن لم يكن الجرح مخوفا، وعلى اختلاف إن كان مخوفا، إذ قد قيل إنه لا يجوز شراء العبد المريض المخوف عليه الموت من مرضه حسبما مضى القول فيه في رسم أخذ يشرب خمرا من كتاب العيوب، وأما إن لم يبره من الجرح فضمانه من الجاني لأنه إن مات من الجرح لزمه قيمته للبائع وانتقض البيع، فرضى المشتري بأخذه إن صح من جرحه غرر لو عقد البيع على هذا ابتداء لم يجز، لكنه أجازه ابن القاسم لتقدم العقد على صحة، كنحو قوله في الكافر يشتري العبد الكافر من كافر على أنه بالخيار، فيسلم العبد في أيام الخيار: إنه إن اختار الشراء بيع على المبتاع، وإن لم يختره بيع على الكافر، فأجاز

(16/139)


للمشتري اختيار العبد بعد إسلامه وهو لا يجوز له ابتداء شراؤه، وقد أنكر ذلك عليه سحنون، وقد مضى على هذا المعنى في سماع سحنون من كتاب العيوب، وأما إن كان العبد هو الجاني فقوله إن البائع مخير بين أن يسلم العبد أو يفتكه، فإن أفتكه مضى البيع ولزم المشتري ولم يكن له أن يرده إن كانت الجناية خطأ، وإن أسلمه انتقض البيع فيه وسقط الثمن عن المبتاع إن كان لم يدفعه ورجع إليه إن كان دفعه إلا أن يشاء المشتري أن يفتكه بجنايته لماله فيه من الحق بشرائه إياه، فيكون ذلك له ويثبت البيع ويؤدي الثمن إن كان لم يدفعه، ولا يرجع على البائع بشيء مما أفتكه به، فإن كان لم يدفع الثمن، وهو أكثر مما أفتكه به أسلم الزيادة إلى البائع، وإن كان ما أفتكه به مثل الثمن أو أكثر منه لم يكن له أن يرجع على البائع بشيء؛ لأنه إنما أفتكه لنفسه على ما قاله في الرواية؛ لأنه إنما تكلم فيها على البائع لم ينتقد الثمن، ولا يصح انتقاده بشرط في العهدة وإن كان قد دفع الثمن للبائع ورجع عليه بالأقل منه أو مما أفتكه به لأنه لو أسلمه ولم يفتكه لرجع عليه بجميع الثمن، فإذا أفتكه بأقل من الثمن لم يكن له أن يرجع عليه إلا بما أفتكه به، هذا بيان ما قاله في الرواية ونص عليه فيها.
وفي قوله إن البائع مخير بين أن يفتكه فيمضي البيع أو يسلمه فينتقض إلا أن يشاء المبتاع أن يفتكه نظر إذ لا يملك البائع إسلامه لما انعقد فيه من البيع الذي لا خيار له في نقضه، وقد قال ابن حبيب من أجل هذا إنه إنما يخير بين أن يسلم الثمن أو يفتكه بعقل الجرح، فإن أفتكه مضى البيع، وإن أسلمه وكان مثل عقل الجرح أو أكثر منه لزمه، وإن كان أقل من عقل الجرح ولم يرض بذلك رجع الخيار حينئذ إلى المشتري في افتكاكه، فإن أفتكه لم يكن له على البائع رجوع بما أفتكه به، وإن أسلمه رجع على البائع بالثمن، هذا معنى قوله.
وقوله إن البائع يخير بين أن يسلم الثمن أو يفتكه بالجناية أظهر من قول ابن القاسم في هذه الرواية إنه يخير بين أن يسلمه الثمن أو يفتكه بالجناية،

(16/140)


لأنه إنما يملك الثمن لا الرقبة إذ قد عقد فيها البيع.
وظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية وما حكى ابن حبيب في الواضحة أنه لم ير للمجني عليه خيارا في إجازة البيع وأخذ الثمن إذا لم يفتكه البائع منه بالجناية.
والصحيح في النظر أن له في ذلك الخيار، وهو الذي يأتي على ما في كتاب الجنايات من المدونة في الذي يبيع العبد بعد أن جنى إذ لا فرق بين أن تكون جنايته قبل البيع أو بعده في عهدة الثلاث، والصحيح في هذه المسألة على ما قاله في المدونة أنه إن أفتكه البائع بالجناية مضى البيع، وإن لم يفتكه بها كان المجني عليه بالخيار بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن في جنايته، وبين أن يفسخ البيع ويأخذ العبد، فإن أجاز البيع وأخذ الثمن مضى البيع ولم يكن للبائع في ذلك كلام ولا للمبتاع إذا كانت الجناية خطأ وإن لم يجز البيع وأراد فسخه وأخذ العبد كان للمشتري حينئذ أن يفتكه بالجناية ويمضي البيع فيرجع على البائع، وإن كان قد نقده بالأقل من الثمن أو مما افتداه به، وإن كان لم ينقد رجع عليه البائع بما زاد الثمن على ما افتداه به إن كان افتداه بأقل من الثمن على ما قاله في الرواية، وقد يكون الثمن غير عين طعاما أو عرضا فيظهر وجه تخيير المجني عليه في إجازة البيع وأخذ الثمن في جنايته إذا لم يفتكه البائع منه بجنايته، وأما ما تلف من ماله في عهدة الثلاث فلا إشكال ولا اختلاف في أن البيع لا ينقض من أجل ذلك لأن ماله تبع له إذا استثنى وبالله التوفيق.

[: قطعت يده فأخذ عقلها أو صالح على بعض ديتها ثم تآكلت إلى العضد]
ومن كتاب العرية وقال في رجل قطعت يده فأخذ عقلها أو صالح على بعض ديتها ثم تآكلت إلى العضد، قال لا شيء له إلا ما أخذ؛ لأن عقل اليد قد قبله، وكذلك لو صالح منها على بعض الدية ثم تآكلت إلى العضد لم يكن له أكثر مما أخذ لأن عقل اليد قد صالح عليه.

(16/141)


قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن دية اليد سواء قطعت من الكوع أو من المرفق أو من المنكب سواء، فإذا أخذ دية اليد وقد قطعت من الكوع أو صالح على ذلك فلا شيء له إن نزا فيها بعد الصلح إلى المرفق أو إلى العضد، والعمد والخطأ في ذلك سواء، ولو تآكل الجرح إلى غير ما صالح عليه مثل أن يقطع من يده أربع أصابع فيأخذ ديتها أو يصالح على بعض ديتها ثم يتآكل الجرح بعد الصلح فتذهب الأصبع الخامسة لوجبت له ديتها إذ لم يصالح عليها، ولو قطعت أولا من يده أصبع أو أصبعان فصالح عليهما أو أخذ ديتها ثم تآكلت بعد الصلح فذهب بقية أصابع يده لافترق العمد في ذلك من الخطأ؛ لأنه يجب في الخطأ أن يرد دية الأصبع أو الأصبعين ويكون جميع الدية على العاقلة بعد أن كانت وجبت على الجاني في ماله، ولا يجب في العمد إلا أن يزاد المجروح على ما أخذ بقية دية اليد من مال الجارح، وقد مضى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب الديات تحصيل الاختلاف فيمن صالح على قطع يده خطأ أو عمدا ثم نزي فيها فمات فلا معنى لإعادته، ومضى هناك أيضا تحصيل القول فيمن صالح على جرح خطأ أو عمدا عليه وعلى ما يتراقى إليه مما دون النفس أو على ما تراقى إليه وإن تراقى إلى النفس وما يجوز من ذلك مما لا يجوز باتفاق أو على اختلاف.

[: تزويج أبيه له أو وليه المولى عليه وإن كان كبيرا]
ومن كتاب إن أمكنتني من حلق رأسك قال ابن القاسم في المولى عليه وإن كان كبيرا: إن تزويج أبيه له أو وليه جائز عليه كما يجوز على الصغير ومبارأتهما عليه جائزة ولا يستأمرانه، قلت لابن القاسم وإن زوجه أبوه ولا مال للمولى عليه يوم زوجه أبوه فالصداق في مال أبيه دينا عليه مثل ما يكون عليه في ابنه

(16/142)


الصغير إذا زوجه ولا مال له؟ قال: نعم هو بمنزلة الصغير في حالاته كلها إلا في الحدود والقتل، قال: وحاله كلها حال الصبي، ولا يجوز نكاحه ولا عتقه وإن داينه أحد بشيء لم يعد عليه بشيء وذهب ماله هدرا غير أنه إن كسر جرة أو أحرق بيتا أو أحرق ثوبا أو أفسد شيئا فهو في ماله بمنزلة الصبي إذا كان له مال إلا اتبع به دينا عليه، قال وانظر أبدا كل شيء يلزم العبد مما يكون في رقبته سوى النفس والجراحات فهو في مال الصبي والسفيه إن كان لهما مال وإن لم يكن لهما مال اتبعا به دينا عليهما، قلت فالكبير المولى عليه يسرق هل يقطع؟ قال: نعم يقطع إن سرق ويجوز عليه طلاقه.
قال محمد بن رشد: رأى ابن القاسم في هذه الرواية تزويج الأب لابنه البالغ إذا كان في ولايته والوصي ليتيمه البالغ الذي إلى نظره ومخالعتهما عليه بغير أمره جائزة عليه، وهو دليل قوله في النكاح الأول من المدونة إن إنكاحه إياه لا يلزمه إذا كان قد ملك أمره خلاف ماله في كتاب إرخاء الستور من المدونة من أنه لا يجوز إنكاحه إياه ولا مخالعته عليه بغير إذنه، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة، ولابن حبيب فيها من رأيه مثل قول ابن القاسم ههنا إن إنكاحهما إياه ومبارأتهما عليه لازمة له بغير إذنه كالصغير، ولا اختلاف في أن تزويجهما للصغير ومخالعتهما عليه لازمة، وإنما اختلف هل يطلقان عليه بغير مخالعة؟ ولا اختلاف في أن طلاقهما على الكبير لا يجوز وإنما اختلف هل يجوز خلعهما عليه ويدخل هذا الاختلاف في لزوم الصداق له إذا لم يكن له مال، فقوله إنه بمنزلة الصغير في حالاته كلها إلا في الحدود والقتل يريد أنه بمنزلة الصغير فيما يجوز عليه من فعل الأب والوصي على قياس قوله في هذه الرواية إنه لا يكون بمنزلته على القول الآخر.
وقوله بعد ذلك وحاله كلها حال الصبي يريد إلا في الطلاق؛ لأن طلاقه لازم له، بخلاف الصبي.

(16/143)


وقوله إنه لا يجوز نكاحه ولا عتقه صحيح إلا أن ذلك يفترق إذا وقع، فيرد عتقه على كل حال، وينظر الوصي في نكاحه، فإن رآه نظرا أجازه، وكذلك بيعه وشراؤه.
وأما قوله إنه إن داينه أحد لم يعد عليه بشيء وذهب ماله هدرا فظاهره أن ذلك سواء أنفق ما تداين به في شهواته ولذاته أو في وجود منافعه وما لا بد له منه من مصلحته، إذ لم يفرق بين ذلك، وهو نص قوله في المدنية والمبسوطة خلاف قول ابن كنانة فيهما، وخلاف قول أصبغ في نوازله من كتاب المديان والتفليس، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفى.
وأما قوله إنه يلزمه ما أفسد وكسر في ماله بمنزلة الصبي فهو كما قال، ولا اختلاف فيه إذا كان الصبي في سن من يعقل، وأما إن كان في سن من لا يعقل فهو كالمجنون يدخل فيما أفسد من الأموال وجناه من الجنايات ما يدخل في أفعال المجنون وجناياته، وهذا فيما أفسد مما لم يؤتمن عليه، وأما ما أفسد مما أؤتمن عليه ففي ذلك اختلاف.

[: العبد يقتل الحرعمدا فيسلم إلى وليه فيحييه أيباع عليه]
ومن كتاب العشور وسئل عن العبد يقتل الحر عمدا فيسلم إلى وليه فيحييه أيباع عليه؟ قال: لا إلا أن يخاف أن يمثل به بعد أن عفا عنه.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قاله لا إشكال فيه والحمد لله.

[مسألة: حكم الصبي الذي لا يعقل في جناياته]
مسألة قال وكل ما أصاب المجنون المطبق والمخبول والصبي الصغير الذي لا يعقل ابن سنة ونصف ونحوها من فساد أموال الناس فهو هدر ولا شيء عليهم في أموالهم كانت لهم أموال ولا يتبعون به في ذمتهم إن لم يكن لهم أموال مثل أن يأتي المجنون بنار

(16/144)


فيشعلها في بيت أو يهدم بنيانا أو يكسر آنية أو يهرق إداما أو نحو هذا والصبي أيضا مثله فيما أفسد من ذلك مثل أن يأخذ لؤلؤة فيكسرها بحجر أو يأخذ جوهرا فيلقيه في النهر، فجميع ما أصابوه من أموال الناس مثل ما أخبرتك من حرق ثوب أو غيره فهو هدر ولا شيء عليهم، وما أصابوه من قتل أو جرح يبلغ الثلث فصاعدا فهو على عواقلهم، وأما إن كان أدنى من الثلث فهو في أموالهم إن كان لهم أموال، وإلا اتبعوا به دينا مثل الصبي يحبو إلى الرجل النائم فيطعنه أو يقتله أو يفقأ عينه.
قلت فالمجنون هل يعقل ما عليه مع عاقلته؟ قال: لا، وهو بمنزلة الصبي لا يعقل معهم، قال: وكل ما أفسد الصبي الذي قد عقل أو الكبير المولى عليه من أموال الناس وأصابوه برميه تعمد ذلك من حرق ثوب أو كسر آنية وهدم بيت أو إهراق زيت أو غير ذلك من الإدام أو ما أفسد من أموال الناس أو ما أصابوه برمية تعمدوا ذلك أو لم يتعمدوا فذلك في أموالهم إن كان لهم مال وإلا اتبعوا به دينا، قال: وما أصاب الكبير المولى عليه به إنسانا من قتل أو جرح عمدا فإنه يقاد منه، وما أصاب به خطأ فهو على عاقلته إلا أن يكون أدنى من الثلث فهو في ماله.
وما أصاب به الصغير الذي لم يبلغ الحلم وإن كان يعقل به إنسانا من قتل أو جرح عمدا أو خطأ فهو على العاقلة، ولا يقتص منه إلا أن يكون الذي أصاب من ذلك أدنى من الثلث فيكون في ماله إن كان له مال أو يتبع به دينا إن لم يكن له مال.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن حكم الصبي الذي لا يعقل ابن سنة ونصف ونحوها في جناياته على الأموال أو في الجراح والدماء حكم

(16/145)


المجنون سواء، وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال، أحدهما أن جنايتهم على الأموال في أموالهم، وعلى الدماء على عواقلهم إلا أن يكون أقل من الثلث ففي أموالهم، والثاني أن ذلك هدر في الأموال والدماء، والثالث تفرقته في هذه الرواية بين الأموال والدماء حسبما ذكرناه سماع أشهب ولكل قول منها وجه قد مضى بيانه في رسم مرض من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، وأما إذا كان الصبي يعقل فلا اختلاف في أنه ضامن لما جنى عليه من الأموال بالعمد والخطأ وأن عمده فيما جناه في الدماء خطأ يكون عليه من ذلك من ماله ما كان وعلى عاقلته ما بلغ الثلث فأكثر، وأما الكبير المولى عليه فحكمه في جناياته في الأموال وفي الدماء حكم المالك لأمر نفسه الذي ليس في ولاية يضمن ما استهلكه من الأموال ويقتص منه فيما جناه عمدا في الدماء.

[: يؤاجر عبده سنة فيعتقه قبل السنة]
ومن كتاب إن خرجت وسئل عن رجل يؤاجر عبده سنة فيعتقه قبل السنة، قال: لا يعتقه حتى السنة، قيل له: فكراؤه لمن؟ قال: كراؤه لسيده استثنى مال العبد أو لم يستثنه، قيل له فلو كانت أمة هل كان له أن يطأها؟ قال: لا يطأها، قال أصبغ: لا أرى للسيد من الأجرة إلا ما وجب له قبل العتق كان قد قبضها أو لم يقبضها وسائرها للعبد.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يعتق حتى السنة، هو مثل ما في غير موضع من المدونة، ومثل ما في رسم يوصي لمكاتبه من سماع يحيى من كتاب الخدمة، وظاهر قول ابن القاسم أن الكراء لسيده قبضه أو لم يقبضه

(16/146)


خلاف قول أصبغ، وأما قوله إنه لا يطأها إن كانت أمة فهو بين لا إشكال فيه؛ لأنها معتقة إلى أجل، وقال ابن حبيب الإجارة أملك به وهو حر بتمامها ولا يلحقه دين، وأحكامه أحكام عبد، واختلف في إجارته لمن هي؟ فقال مالك السيد فإن أراد حرا بتمام الإجارة صدق والإجارة له قبضها أو لم يقبضها، وإن قال أردت تعجيل العتق فالإجارة للعبد قبضها أو لم يقبضها وفي المدنية لمالك من رواية داود بن جعفر عنه مثل ما حكى ابن حبيب عنه وزاد أنه يحلف إن أراد حرا بتمام الإجارة، وما حكى ابن حبيب عن مالك من أن السيد يسأل هل أراد تعجيل العتق الآن أو تأخيره إلى انقضاء أجل الإجارة يجب أن يحمل على التفسير لقول ابن القاسم، فإن مات قبل أن يسأل أو سئل- فقال لم تكن لي نية فيتخرج ذلك على قولين، أحدهما أنه محمول على أنه أراد حريته بعد تمام الإجارة ويكون له الإجارة وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية، وظاهر ما حكاه ابن حبيب عن مالك من أنه يصدق إن قال إذا سئل أردت حرا بتمام الإجارة إذ لم يقل يستحلف على ذلك، فالمعنى في قوله أنه رأى له الإجارة إلا أن يقول أردت تعجيل عتقه فيصدق في ذلك على نفسه، والقول الثاني أنه محمول على أنه أراد حريته من الآن فإن ادعى أنه أراد حريته بعد انقضاء أجل الإجارة صدق في ذلك مع يمينه، وهو معنى قول مالك في رواية داود بن جعفر عن مالك، فتحصيل المسألة أن فيها ثلاثة أقوال أحدها أنه يحكم عليه بما ظهر منه من تعجيل حريته ولا يصدق إن قال إنما أردت أنه حر بتمام الإجارة، وهو قول أصبغ، والثاني أنه يصدق مع يمينه أنه قال أردت أنه حر بتمام الإجارة، وهو قول مالك في رواية داود بن جعفر عنه، والثالث أن أمره يحمل على أنه إنما أراد حريته إذا انقضت الإجارة إلا أن يقول أردت تعجيل حريته فيصدق في ذلك على نفسه، وتكون الإجارة للعبد وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية وما حكى ابن حبيب عن مالك، وقال ابن نافع هو حر

(16/147)


وعليه أن يخدم وأما في الحد فحده حد عبد، وقول ابن نافع مثل قول أصبغ إذ لا اختلاف بينهم في أنه لا يعتق حتى تنقضي الإجارة وأن أحكامه كلها أحكام عبد في الحدود وغيرها كالمعتق إلى أجل وبالله التوفيق تم كتاب الجنايات الأول بحمد الله.

(16/148)