البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [: كتاب
الجنايات الثاني] [مسألة: مدبر جرح عبدا
فنزي في جرحه فمات العبد وقد عاش المدبر]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن
القاسم عن مدبر جرح عبدا فنزي في جرحه فمات العبد وقد عاش المدبر أيقتل به
أم تكون عليه قيمة العبد ويسقط القود عنه؟ فقال إذا جرح المدبر العبد عمدا
أو كان الجارح عبدا غير مدبر فالأمر فيهما سواء، إن ترامت بالعبد المجروح
جراحته فنزى فيها فمات حلف سيد العبد المجروح بالله يمينا واحدة لمات من
تلك الجراح واستحق قيمة عبده على سيد العبد الجارح إلا أن يسلمه إليه، فإن
كان عبدا أسلم إليه رقبته، وإن كان مدبرا أسلم خدمته يختدمه بالجرح، وإن لم
ينظر في أمره حتى يعتق المدبر بموت سيده كان ذلك دينا على المدبر يتبع به،
ويسقط عن ورثة سيده ما كان يلزمه من التخيير في ذلك، وذلك أن الدم لا يستحق
إلا بالبينة على القتل والقسامة مع اللوث، والعبيد ليست فيهم قسامة، فمن
أجل ذلك لم يستقد من المدبر أو العبد الذي جرح عمدا فنزى في جرحه فمات؛ لأن
دمه إنما استحق بيمين سيده وحده مع الجراحات التي كانت تثبت بالبينة.
(16/149)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا
إشكال فيه؛ لأن دم العبد ومن فيه بقية كالمدبر والمكاتب والمعتق إلى أجل لا
يستحق بالقسامة فلا يقتص له ممن قتله من العبيد إلا بإقرار القاتل بالقتل
أو قيام البينة على القتل المجهز ولو قتل العبد حرا لاقتص منه بالقسامة مع
قول المقتول أو مع شاهد على القتل أو بشاهدين على الجرح باتفاق، أو مع شاهد
واحد على الجرح أو على إقرار القاتل بالقتل على اختلاف، وقد مضى تحصيل
القول في هذا في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الديات.
[مسألة: الدية كاملة تجب في ذهاب العقل جملة
وفي ذهاب الكلام جملة]
مسألة قال يحيى قال ابن القاسم إنما يقدر نقصان الكلام والعقل باجتهاد
الناظر على ما يتوهم إذا ما اختبره أياما أهل العدل والتجربة فقالوا إنه
ليقع في أنفسنا قد ذهب نصف كلامه أو ثلثه أو ربعه فكان ذلك عندهم بينا
بتوهمهم واجتهادهم أعطي على قدر ذلك، فإن شكوا فقالوا هو الربع أو الثلث
أعطي على الثلث، وكان الظالم أولى أن يحمل عليه، قال: والعقل كذلك إن قالوا
إنه يفيق أكثر نهاره بإفاقته قدر ثلثي نهاره أو ثلاثة أرباعه أو نحو ذلك
أعطي على قدر ما رأوه، وإن شكوا احتيط له على الجاني مثل ما وصفت لك في
تجربة الكلام، وقد قال بعض الناس على الأحرف في البا والتا وهو أحب ما سمعت
إلي.
قال محمد بن رشد: الدية كاملة تجب في ذهاب العقل جملة وفي ذهاب الكلام جملة
أيضا، فإذا ذهب بعض العقل أو بعض الكلام أعطى من الدية بقدر ما ذهب من
كلامه أو من عقله على ما يقدر ذلك أهل المعرفة والبصر بعد التجربة لذلك
وبعد يمينه هو على ذلك على ما مضى في رسم العقول من سماع أشهب، وقوله إنهم
إن شكوا في ذلك بين الثلث أو الربع
(16/150)
أعطى الثلث وكان الظالم أولى أن يحمل عليه،
فالوجه في ذلك أنهم إذا شكوا في قدر ما نقص من عقله أو كلامه فقد شكوا في
قدر ما بقي من عقله أو كلامه، فإذا لم يعلموا هل بقي من عقله أو من كلامه
ثلثاه أو ثلاثة أرباعه وجب أن يعمل في ذلك على اليقين ويطرح الشك، والذي
يوقن به أنه قد بقي من كلامه ومن عقله ثلثاه فيكون له ثلث الدية وأن يؤخذ
من الجاني شيء من الدية بشك أولى من أن يسقط من حق المجني عليه شيء من
الدية بشك؛ لأنه إن أخذ من الجاني أكثر من دية ما جنى فبجنايته، وإن أسقط
من حق المجني عليه شيء فلغير سبب، إذ ليس بجان ولا متعد، ولو كانت الجناية
خطأ فشكوا في مقدار ما نقص من كلامه هل هو الثلث أو الربع لكان الأولى ألا
يحكم إلا بالأقل، وقول من قال إنه ينظر فيما نقص من كلام المجني عليه إلى
عدد الحروف ليس بصحيح لما قاله في المدونة من أن بعض الحروف أثقل على
اللسان من بعض، ولأن بعض الحروف لا حظ للإنسان فيها كالبا والميم.
[: يؤاجرعبده سنة ثم يعتقه فيجرح العبد رجلا أو
تكون أمة فتلد]
ومن كتاب الصبرة قال وسألته عن الرجل يؤاجر عبده سنة ثم يعتقه فيجرح العبد
رجلا أو تكون أمة فتلد بعدما عتقت وقبل أن يجنى، قال: أما العبد فإن سيده
يخير بين أن يفتديه ولا غرم عليه فيما أخذ من أجرته للسنة ويكون عتيقا بعد
السنة وإن كره افتداه خير المستأجر فإن شاء افتداه واختدمه بقية الأجرة،
وإن شاء فسخ الإجارة وحاسب سيده بما مضى منها وقبض منه ما بقي عليه ويكون
العبد حرا ساعة تنتقض الإجارة، وذلك أن المستأجر لو لم يجن العبد جناية غير
أن سيده أعتقه بعدما أجره منه فشاء المستأجر أن يفسخ الإجارة فعل، وعجلت
الحرية للعبد وغرم السيد للمستأجر ما بقي من استكمال
(16/151)
أجرته، فإن كان رضي بفسخ الإجارة وقد جنى
العبد فهو حر ساعة إذ يفسخ، ويكون عقل ما جنى العبد دينا على العبد يتبع
به.
قلت: أرأيت إن افتداه سيده أيكون ما غرم عنه من عقل الجناية دينا له على
العبد يتبعه به لأنه افتداه وقد أعتقه؟ قال: وأما ولد الأمة الذين ولدوا
بعد العتق وقبل الجناية.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر؛ لأن ما قاله في الذي يؤاجر عبده سنة
ثم يعتقه فيجرح العبد رجلا من أن المستأجر يخير إذا أبى السيد أن يفتديه
بين أن يفتديه بجنايته ويختدمه بقية الأجرة وبين أن تفسخ الإجارة ويحاسب
سيده بما مضى منها فيعجل له الحرية ويتبع بما جني دينا ثابتا في ذمته لا
يستقيم، ووجه العمل في هذا أن يبدأ بتخيير المستأجر بين أن يفسخ الإجارة
وبين أن يتمسك بها، فإن فسخها عجلت له الحرية واتبع في ذمته بالجناية، وإن
أبى إلا التمسك بالإجارة كان ذلك له وخير السيد حينئذ بين أن يفتكه
بالجناية وتكون له الإجارة، وبين أن يسلم الإجارة للمجني عليه لم يكن له
إلا أن يأخذها من جنايته، فإذا انقضت عتق العبد واتبعه بما بقي من جنايته
في ذمته، إذ ليس له أن يفسخ الإجارة لتقدمها على الجناية.
وقوله في الرواية إن المستأجر يخير فإن شاء افتداه واختدمه بقية الإجارة،
وإن شاء فسخ الإجارة يدل على أنه رأى أن من حق المجني عليه إذا أبى السيد
أن يفتكه بالجناية أن يفسخ الإجارة فيؤاجر له من غيره، إذ قد يجد من يؤاجره
بأكثر من ذلك، فيكون من حق المستأجر حينئذ أن يفتكه بالجناية ليبقى العبد
في إجارته.
ولما سأله في الرواية هل للسيد إذا افتداه بالجناية أن يتبع العبد ذلك في
ذمته سكت له عن الجواب في ذلك، والجواب في ذلك أنه ليس له أن يتبعه بذلك
لأنه إنما فداه ليستحق بذلك الإجارة إذ ليس يلزمه أكثر من أن يسلمها،
(16/152)
ولم يجب أيضا ما يكون حكم ولد الأمة الذين
ولدوا بعد العتق وقبل الجناية؟ هل يدخلون في الجناية أم لا؟ ولا إشكال في
أنهم لا يدخلون في الجناية؛ لأنهم ولدوا قبلها، ولو ولدوا بعدها لما دخلوا
في الجناية على المشهور في المذهب، فكيف إذا ولدوا قبلها، وإنما الكلام هل
تعجل حريتهم أو لا يعتقون إلا بعتق أمهم إذا انقضت الإجارة، والذي يوجبه
النظر أن تعجل حريتهم لأن الأم إنما منع من تعجيل حريتها ما سبق من الإجارة
فيها، والولد لا إجارة فيهم، فوجب أن تعجل حريتهم.
[مسألة: يجني مدبره جناية فيسلمه إلى المجروح
فيختدمه بعقل جنايته]
مسألة وقال في الرجل يجني مدبره جناية فيسلمه إلى المجروح فيختدمه بعقل
جنايته ثم يبدو للسيد بعد إسلامه إياه أن يفتديه بعقل الجناية أو بما بقي
على المدبر من عقل الجناية بعدما خدم المجروح زمانا إن سيده أحق بمدبره متى
ما بدا له في افتدائه فإنه يغرم ما بقي على المدبر من عقل الجناية ويكون
أحق به، ولا يضره إسلامه إياه أولا، وليس حاله في إسلام المدبر كحال السيد
إذا أسلم رقبة عبده الجاني؛ لأن سيد المدبر إنما أسلم خدمته ولم يكن له أن
يسلم رقبته ولا يسترق بإسلامه إياه ولا ينتقض بذلك تدبيره، وإنما للمجروح
استخدامه بالجراح، فهو إنما يقتضي عقل جرحه مفترقا شيئا بعد شيء، فإذا جمع
له ذلك سيد المدبر متى بدا له فلا حجة للمجروح إن أراد التمسك باستخدام
المدبر، فلذلك كان سيده أحق به، وأما العبد الذي ليس بمدبر فإذا أسلمه سيده
رق للمجروح، وإنما يسلم سيده رقبته، وليس يسلم خدمته، فلذلك كان المجروح
الذي أسلم إليه العبد أحق برقبته إذا أسلمه إليه سيده، ولا يجوز للسيد بعد
إسلامه أن يقول أنا أفتديه وأكون أحق به.
(16/153)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا
إشكال فيه؛ لأن المجني عليه إذا أسلمت إليه خدمة المدبر لا يستحقها
بجنايته، وإنما له أن يستوفى منها جنايته، ألا ترى أنه إن استوفى جنايته من
خدمته قبل موت سيده رجع المدبر إلى خدمة سيده، ولو أسلم المجني عليه خدمة
المدبر حياة سيده في جنايته على ألا يكون له سواها طالت حياة سيده أو قصرت
لكان ذلك من الغدر الذي لا يحل ولا يجوز.
[: تجني أم ولده ثم يتبين أنها أخته من الرضاعة]
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع للتجارة وسئل عن رجل تجني أم ولده ثم
يتبين أنها أخته من الرضاعة قبل أن يقام عليها بعقل جنايتها وقبل أن يعتقها
عليه الإمام على من يكون عقل ما جنت؟ فقال: على سيدها أن يخرج قيمتها، ولا
يتبع الأمة بشيء من ذلك؛ لأنه قد وجب عليه افتداؤها، وإنما عتقت عليه
للحرمة التي ثبتت لها، فلما تبين أن وطأها لا يحل له ولم يكن بقي له فيها
إلا الاستمتاع بها عتقت عليه، ولو أن قائلا قال لا يعتق لكان غير تارك لسنة
مضت، فعتقها ليس بالقوي الماضي المجتمع عليه، فلذلك وجب عليه غرم قيمتها،
قال سحنون الجناية عليها دينا تتبع به مثل أم ولد النصراني سواء، قال لابن
القاسم: فأم ولد النصراني تسلم ثم تجني جناية قبل أن تعتق عليه؟ قال: عقل
جنايتها عليها دينا تتبع به؛ لأنه لا ينبغي أن تعتق على سيدها لإسلامها
ويغرم عنها عقل جنايتها؛ لأن عتقها لازم ثابت عليه لا
(16/154)
ينبغي لها أن ترق له على حال، فلذلك لا
تتبع بشيء من جنايتها.
وسئل أصبغ عن أم ولد النصراني تسلم ثم تجرح رجلا قبل أن يحكم السلطان
بعتقها، قال: جنايتها دين على سيدها تؤخذ من ماله إن كان له مال وإلا اتبع
به دينا ويعتقها عليه السلطان بإسلامها إلا أن يسلم فيكون أولى بها تكون أم
ولد على حالها.
قلت ولم جعلت جنايتها دينا على سيدها وأنت تعتقها عليه وتخرجها من يديه؟
قال: من قبل أنها لو ماتت بعد إسلامها وقبل أن يحكم بعتقها لورثها؛ لأنها
لن تخرج من رقه بعد، ولو أنه أسلم قبل أن يحكم بعتقها لكان أولى بها، وتكون
أم ولده على حالها، ولو قتلت أيضا على تلك الحال كانت قيمتها قيمة أمة
لسيدها، فلهذا جعلت الجناية عليه، ولأنه أيضا لا يقدر على إسلامها إلى
المجروح لأنها أم ولده ويفتكها كما يفعل بالمسلمة.
قال محمد بن رشد: تفرقه ابن القاسم في هذه الرواية بين جناية أم ولد المسلم
قبل أن تعتق عليه بما ظهر من أنها أخته من الرضاعة وبين جناية أم ولد
النصراني بعد إسلامها قبل أن تعتق عليه أن أم ولد المسلم يلزم سيدها
افتكاكها ولا يصح له إسلامها في الجناية بحال تقدمت جنايتها للمعنى الموجب
لعتاقتها من ثبوت كونها أخته من الرضاعة وتأخرت عن ذلك فوجب ألا تنتقل
الجناية عنه بما وجب من وجوب عتقها عليه، وأم ولد النصراني لوجب قبل وجوب
العتق بإسلامها لم يكن عليه أن يفتديها وكان له أن يسلمها لجنايتها وإن
أسلمت،
(16/155)
وتكون رقيقا للمجني عليه، قال ذلك أبو زيد
في الثمانية إن إسلامها بعد الجناية ليس بالذي يمنعه من إسلامها، وقد قيل
إنه إنما له أن يسلمها بجنايتها ما لم تسلم بعد الجناية، فإن أسلمت بعد
الجناية عتقت، وكانت الجناية دينا عليها كما لو جنت بعد إسلامها، فوجب إذا
جنت بعد إسلامها أن تعتق لإسلامها وتكون الجناية دينا عليها، فهذا وجه
تفرقة ابن القاسم بين المسألتين وساوى سحنون بين المسألتين في أن الجناية
تكون عليها إذا أعتقت لا على السيد، هذا قوله في هذه الرواية إن الجناية
عليها دينا تتبع به مثل أم ولد النصراني سواء، يريد إن أسلمت، وله في كتاب
ابنه أنها تتبع بالأقل من قيمتها أو الجناية، وساوى أصبغ بين المسألتين في
أن الجناية تكون عليه لا عليها؛ لأنه إذا قال ذلك في أم ولد النصراني تجني
بعد أن أسلمت فأحرى أن يقوله في أم ولد المسلم إذا جنت ثم ثبت أنها أخته من
الرضاعة، فوجب أن تعتق عليه فإذا جنت أم ولد النصراني ثم أسلمت فقيل إن
سيدها يخير بين أن يسلمها فتكون رقيقا للمجني عليه أو يفتكها فتعتق عليه،
وهو قول لأبي زيد في الثمانية، وقيل إنها تعتق عليه وتكون الجناية [دينا
عليه لا عليها على القاسم تعتق بها عليه لا عليها] وهو قول أصبغ وبالله
التوفيق.
[مسألة: تصاب بعض أذنه فيذهب من ذلك بعض سمعه]
مسألة وسئل عن رجل تصاب بعض أذنه فيذهب من ذلك بعض سمعه، فقال: يكون له من
عقل السمع بقدر ما نقص سمعه، ومن عقل الذي أصيب من الأذن الاجتهاد، قيل له
فإن ذهب السمع واصطلمت الأذن؟ قال: تكون في السمع الدية كاملة ولا شيء في
اصطلام الأذن، قيل له: فلم جعلت فيما نقص من الأذن اجتهاد مع
(16/156)
غرم العقل على قدر ما نقص من السمع، وإذا
ذهب السمع كله سقط عقل اصطلام الأذن كله؟ قال ": أرأيت إن ذهب نصف السمع
وجميع الأذن أيسقط عقلها وعقل السمع لم يتم؟ قلت: كأنك إنما رأيت له
الاجتهاد فيما جاوز من الأذن قدر ما نقص من السمع إن كان أصيب جميع الأذن
وذهب نصف السمع عقلت له بالاجتهاد نصف الأذن وأسقطت النصف الذي أخذ من نصف
السمع وإن كان ذهب ثلثا الأذن عقلت له سدس الأذن، فعلى هذا الحساب يعقل له
ما أصيب من الأذن فوق ما يعطي من عقل ما نقص السمع، قلت له إن في ذهاب نصف
السمع نصف الدية كاملة وهو لو أصيب جميع السمع واصطلمت أذناه لم يكن لهما
عقل، وإنما يعطى عقل السمع أفلا يسقط الاجتهاد من الأذن إذا ذهب نصف السمع
وإن أصيبت كلها ويجعل جميع الأذن بما أخذ من نصف العقل ولا يجعل فيه
الاجتهاد حتى يكون الذي نقص السمع أقل من النصف فينظر حينئذ فيما أصيب من
الأذن وما ذهب من السمع فيجتهد فيما أصيب من الأذن فوق قدر ما نقص من
السمع.
قال محمد بن رشد: الدية إنما هي في السمع لا في الأذنين، فإن قطعت أذنا
الرجل ولم يذهب شيء من سمعه فليس في الأذنين إلا حكومة، وإن ضرب فذهب سمعه
ولم تذهب أذناه فله في ذهاب سمعه الدية كاملة، وإن قطعت أذناه وذهب سمعه
فله في ذهاب سمعه الدية كاملة، ولا شيء له في قطع أذنيه لأنهما تبع للسمع،
وكذلك إن قطعت أنصاف أذنيه وذهب من ذلك نصف سمعه فليس له إلا نصف الدية لما
ذهب من نصف سمعه، فإن قطع من أذنيه أكثر مما ذهب من سمعه فله فيما زاد على
ما ذهب من سمعه حكومة، مثال ذلك أن تقطع أنصاف أذنيه ويذهب ربع سمعه فله
ربع الدية لذهاب ربع سمعه، وله حكومة في نصف ما قطع من أذنيه وهو ربعها لأن
(16/157)
النصف الآخر وهو الربع دخل في دية ربع
السمع الذي أخذه، فمتى قطع من الأذنين مثل ما ذهب من السمع فأقل لم يكن
فيما قطع منهما شيء لدخولهما في دية ربع السمع، ومتى قطع منهما أكثر مما
ذهب من السمع كان له في الزائد على ما ذهب من السمع حكومة، هذا الذي يأتي
على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وإلى هذا يرجع ما
في هذه الرواية، ولا يلتفت إلى ما يظهر في ألفاظها من الاضطراب؛ لأنه إنما
وقع على غير تحصيل وبالله التوفيق.
[: يقطع أذن الرجل فيردها وقد كانت اصطلمت
فتثبت]
ومن كتاب الزكاة قال وسئل عن الرجل يقطع أذن الرجل فيردها وقد كانت اصطلمت
فتثبت أيكون له عقلها تاما؟ فقال إذا ثبتت وعادت لهيئتها فلا عقل فيها، فإن
كان في ثبوتها ضعف فله بحساب ما يرى من نقص قوتها.
قيل له فالسن تطرح ثم يردها صاحبها فتثبت فقال يغرم عقلها تاما، قيل له فما
فرق بين هاذين عندك؟ قال لأن الأذن إنما هي بضعة إذا قطعت ثم ردت استمسكت
وعادت لهيئتها وجرى الدم والروح فيها، وإن السن إذا بانت من موضعها ثم ردت
لم يجر فيها دمها كما كان أبدا ولا ترجع فيها قوتها أبدا، وإنما ردها عندي
بمنزلة شيء يوضع مكان التي طرحت للجمال، وأما المنفعة فلا تعود إلى هيئتها
أبدا.
قال محمد بن رشد: قد قيل أنه لا يقضي له فيهما بشيء إذا عادا لهيئتهما وهو
قول أشهب، وقيل إنه يقضي له فيهما جميعا بالدية وإن عادا لهيئتهما وهو ظاهر
قول ابن القاسم في المدونة، ولا اختلاف بينهم في أنه
(16/158)
يقتص من كل واحد منهما في العمد، وهو نص
قول ابن القاسم في المدونة وقول أصبغ، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة
في سماع أصبغ من كتاب الديات.
[: يعدو عليه آخر فيقطع يده المقطوعة بعض
أصابعها]
ومن كتاب المكاتب وسئل عن الذي يعدو على الرجل فيقطع بعض أصابعه عمدا أو
خطأ فيستقيد أو يأخذ العقل ثم يعدو عليه آخر فيقطع يده المقطوعة بعض
أصابعها، فقال إن كان الأول إنما أصاب من اليد أصبعا واحدة فإن المقطوعة
يده يستقيد من قاطعها ولا يغرم له شيئا من أجل ما كان نقص من أصابعه، ولا
يمنع القود لذلك، وإن كانت يده ناقصة أصبعين فما فوق ذلك لم يكن له أن
يستقيد من قاطع يده؛ لأن يده بينة النقصان، فليس له أن يقطع يد القاطع التي
لا نقصان فيها.
قلت له: أرأيت إن كان المتعدى عليه إنما أصيب أصبعه خطأ أو عمدا فاستقاد أو
أعطي العقل ثم قطعت يده خطأ أيأخذ عقل يده صحيحة أم عقل ما بقي من أصابعه
وقد قطعت من الكوع أو من المرفق فكيف إن كان الجاني هو الناقص أصبع من
أصابعه أو أكثر من ذلك والمجني عليه صحيح اليد أو يكون الجاني أشد اليد وقد
أخذ ممن فعل ذلك به عقلها؟ قال: وأما الذي تصاب يده وهي ناقصة أصبع وقد
استقاد ممن كان قطع أصبعه أو أخذ عقلها فليس له على من قطع يده خطأ بعد قطع
الأصبع إلا عقل ما بقي من اليد، وذلك عقل أربع أصابع وإن كانت ناقصة أصبعين
أو أكثر فليس على قاطع يده بعد نقص أصابعه إلا عقل ما بقي فيها من الأصابع
إلا أن
(16/159)
يقطعها وقد أصيبت أصابعه كلها فلا يكون على
قاطعها إذ ليس فيها شيء من أصابعها إلا حكومة يجتهد فيها الإمام، قال:
وسواء قطعها بعد أن ذهب بعض أصابعها من الكوع أو من المرفق أو المنكب ليس
فيها إلا عقل ما بقي من أصابعها، قال وإن كان الجاني هو الناقص بعض أصابعه
فإن كان ناقص أصبع واحدة فقط فليس للمقطوع يده إلا القود وليس على الجاني
أن يستقاد منه ويغرم عقل أصبعه الناقصة، قال: وإن نقصت أصابعه أكثر من أصبع
خير المقطوع يده فإن شاء استقاد وليس له مع القود غرم شيء من الأشياء، وإن
شاء ترك القود لنقصان يد قاطعه وأخذ العقل كاملا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها وبيان ما يتفق عليه من
وجوهها مما يختلف فيه منها في رسم أوصى من سماع عيسى قبل هذا ولا وجه
لإعادته.
[مسألة: الفصاص من الجاني الأشل]
مسألة قلت: فإن كان الجاني أشل؟ قال: يخير المجني عليه فإن شاء اقتص وقطع
الشلا التي فيها حقه، وإن شاء تركها وأخذ العقل، قد قال ابن القاسم في كتاب
الديات من كتاب أمر في الجاني إذا كانت يده شلاء ليس للمقطوعة يده إلا
العقل، وليس له إلى قطع اليد الشلا سبيل.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام فيها في رسم الجبائر والعقول من
سماع أشهب فلا وجه لإعادته.
[مسألة: في يده أصبغ زائدة كم عقلها]
مسألة قلت أرأيت الذي في يده أصبغ زائدة أو في رجله كم عقلها؟
(16/160)
قال: إن كانت قوتها تشبه قوة سائر الأصابع
فعقلها تام، قلت: ما تمامها؟ أعقل سدس اليد أم يكون عقلها عشر من الإبل؟
قال: بل يكون عشر من الإبل، قلت: إذا يكون عقل الأصابع ستين من الإبل، قال:
وإن قلت فإن قطعت يده أيكون عقلها ستين من الإبل كما كان يأخذ في أصابعها
كلها أم لا يزاد على خمسين؟ قال: يكون عقلها ستين من الإبل مثل عقل جميع
أصابعه الستة، قلت فإن كانت ضعيفة ليست على مثل قوة الأصابع لم يكن فيها
إلا حكومة؟ قال: نعم، ومن سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب استأذن
سيده، قال عيسى: قلت لابن القاسم فإن قطع ما بقي من الأصابع بعد أن أخذ لها
حكومة هل يقاص بما أخذ في الحكومة في دية اليد؟ قال: لا يقاص بالحكومة في
دية اليد وعلى من قطع تلك اليد بعد الأصبع الدية كاملة، قلت: فإن قطعت اليد
كلها وتلك الإصبع الزائدة فيها هل يكون فيها خمسمائة وحكومة الأصبع؟ قال:
لا ليس فيها إلا خمسمائة وليس فيها حكومة، قال عيسى: قلت له فهل فيها قود
إذا قطعت عمدا وهي في القوة والمنفعة كغيرها، قال: لا أرى فيها قودا لأنه
ليس لها نظير، والعمد والخطأ فيها سواء، قال ابن القاسم وقد بلغني جميع ما
فسرت لك في هذه المسألة عن مالك إلا في القود.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إن في الأصبع الزائدة عقلها تاما إذا
كانت في القوة كسائر الأصابع لأنه ليس ينتفع بها كلها انتفاعا واحدا وإن
قطعت نقصت منفعة يده، ولا قصاص فيها إذ لا نظير لها، وأما إن لم تكن
منفعتها كمنفعة سائر الأصابع فإنما فيها حكومة إذا أصيبت
(16/161)
مفردة، فإن قطعت يده بالإصبع الزائدة التي
إنما فيها حكومة فليس له إلا عقل يده دون حكومة للأصبع الزائدة.
وصفة الحكومة في الإصبع الزائدة التي إنما فيها حكومة أن ينظركم ينقص ذهاب
الأصبع من قيمته لو كان عبدا فيؤخذ ذلك القدر من ديته، فإن لم ينقص ذلك من
قيمته شيئا أو لعله يزيد فيه لكونه بعد اليد فإن كان ذلك، لم يكن فيه شيء
إلا الأعب في العمد، ولا يدخل في ذلك من الاختلاف ما في العبد يخصى فتزيد
قيمته لمخالفته في المعنى، وقد مضى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم ما
فيه بيان ذلك.
وقوله في الأصبع السادسة إذا كانت قوتها مثل قوة سائر الأصابع إن العمد
فيها والخطأ سواء معناه في ارتفاع القصاص فيه خاصة دية العمد مربعة ودية
الخطأ مخمسة، وقد تقطع الأصبع الزائدة مع غيرها مما يبلغ ثلث الدية فيكون
العقل في ذلك في الخطأ على العاقلة وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون خلقة يده من أربع أصابع كم عقل
أصبعه إذا قطعت]
مسألة قال يحيى: قلت لابن القاسم فالرجل يكون خلقة يده من أربع أصابع كم
عقل أصبعه إذا قطعت؟ قال: عشر من الإبل، قلت له: إذا لا يكون في جميع
أصابعه إلا أربعون من الإبل؟ قال وإن قلت فعقل يده أيكون قدر ما كان في
أصابعه أم يتم عقلها، قال: لا يكون له إلا عقل ما كان يكون في أصابعه
الأربع، وذلك أربعون من الإبل، قال: ولو لم يكن له إلا ثلاث أصابع أو
أصبعان ثم قطعت يده ما كان عقلها إلا على قدر ما كان يكون في أصابعه
الأربع، وذلك أربعون من الإبل إن كن ثلاثا فعقل يده ثلاثون من
(16/162)
الإبل، وإن كانت أصبعين فعقل يده عشرون من
الإبل، قلت أرأيت الذي يكون خلقته بنقصان الأصابع إذا قطع يد رجل أو قطعت
يده عمدا كيف يستقيد أو يستقاد منه؟ قال على نحو ما فسرت لك في الذي نقص
أصابعه من جناية، إن كان ناقص أصبع استقاد ممن قطعه ولم يكن لمن قطع يده
إلا القود أيضا، وإن كان النقص أكثر من أصبع كان له على قاطعه العقل ولم
يستقد، ولا يقطع له يد تامة بيده الناقصة، وإن قطع هو غيره خير المقطوعة
يده فإن شاء استقاد وإن شاء أخذ العقل.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله إذ لا فرق في نقصان الأصبع فما
زاد على ذلك بين أن يكون نقصانه خلقة أو جناية فيما يجب له أو عليه من
القصاص في العمد أو الدية في الخطأ، وقد مضت المسألة فوق هذا في هذا الرسم
ومضت أيضا والتكلم عليها في رسم أوصى من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أنملة الأصبع التي ليس فيها إلا
أنملتان]
مسألة قلت كم في أنملة الأصبع التي ليس فيها إلا أنملتان؟ قال: قال مالك:
فيها نصف عقل أصبع.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وفي الأنملة الثالثة التي في الكف
حكومة، وقد قيل إن في كل أنملة من أنامل الإبهام الثالث ثلث عقل الإصبع
وبالله التوفيق.
[مسألة: يفسد الثوب فسادا يجب عليه ضمانه]
مسألة قال يحيى: وسألته عن الرجل يكسر بقرة الرجل أو شاته فيخاف صاحب
البقرة أو الشاة عليها الموت فيذبحها ماذا يجب على
(16/163)
كاسرها؟ قال: إن كان كسرها كسرا معطبا يجب
من مثله على الكاسر غرم جميع القيمة فأراد ذبحه إياها رضا بحبسها ولا أرى
على الذي كسرها غرما قليلا ولا كثيرا، وذلك أن صاحبها كان مخيرا إذا أعطبها
الذي كسرها بين أن يأخذ جميع قيمتها ويبرأ منه إليها وبين أن يحبسها ولا
يأخذ قدر ما نقص الكسر من ثمنها، فلما كان مخيرا بعد كسرها في حبسها بلا
شيء يأخذه معها، أو تركها وأخذ جميع قيمتها فتعدى فذبحها بعد وجوب قيمتها
له على كاسرها كان ذلك منه رضا بحبسها فلا أرى عليه شيئا غير شاته، قال:
وإن كان الذي أصابها به غير عيب معطب لها فإنما له على الذي أصابها قدر ما
نقص العيب من ثمنها فذلك واجب له على الذي تعدى عليها ذبحها سيدها أو
تركها، وذلك أنه لم يكن مخيرا بين إسلام قيمتها وأخذها وبين حبسها بلا شيء
يأخذه وإنما وجب له ما نقص من ثمنها على كل حال، فذبحه إياها لا يسقط عنه
حقه الذي كان وجب له على الذي كان أصاب بالعيب.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة على خلاف المشهور من مذهبه
في الذي يفسد الثوب فسادا يجب عليه ضمانه أنه مخير بين أن يضمنه قيمته
ويسلمه إليه، وبين أن يمسك ثوبه ويأخذ منه ما نقصه؛ لأن الذي يأتي على قياس
قوله هذا في هذه المسألة أن يكون له أن يأخذ منه ما نقصها وإن ذبحها بعد أن
كسرها الجاني كسرا معطبا، وإنما يأتي جوابه في هذه المسألة على مذهب أشهب،
وما روي عن ابن القاسم من أنه إذا كان الفساد كثيرا فليس له أن يضمنه ما
نقص، وإنما له أن يضمنه قيمته أو يمسكه ولا شيء له، وهذا القول قائم لابن
القاسم من كتاب الحدود في الحذف، وفي المسألة قول ثالث أنه لا خيار له في
التضمين وإن كان الفساد كثيرا، وإنما له ما نقص كان الفساد قليلا أو كثيرا،
وهو قول مالك في رسم باع غلاما
(16/164)
من سماع ابن القاسم من كتاب العارية ويقوم
من قوله في المدونة: وقد كان مالك يقول يغرم ما نقص ولا يفرق بين قليل ولا
كثير.
[: عبد مأذون له في التجارة اشترى جارية مع رجل
ثم وطئها العبد فأولدها]
من سماع سحنون من ابن القاسم ونوازل سئل عنها قال سحنون: سئل ابن القاسم عن
عبد مأذون له في التجارة اشترى جارية مع رجل ثم وطئها العبد فأولدها، قال:
يقال للسيد إما أن تفتك عبدك بنصف قيمة الجارية وإما أن تسلمه وماله لصاحب
الجارية.
قال محمد بن رشد: رواية سحنون هذه عن ابن القاسم في أن إيلاد العبد الجارية
التي بينه وبين شريكه جناية منه على شريكه في نصفه منها، يخير سيده بين أن
يفتكه بنصف قيمة الجارية وبين أن يسلمه وماله لصاحب الجارية خلاف قوله من
رأيه في أول نوازله من كتاب الاستبراء أنها ليست بجناية لأنه كان مأذونا له
في ذلك أي لما كان مأذونا له في وطء ما ملكت يمينه وكان له شرط في الجارية
التي وطىء يقدر بهذه الشبهة ودرأ عنه الحد بها فخرجت من أن تكون جناية،
فقال إن الجارية تباع فيما لزمه من نصف قيمتها يوم وطئها، ولا يباع الولد
معها إذ ليس بملك له، فإن لم يكن في قيمتها وفاء بما لزمه من نصف قيمتها
اتبع بالباقي دينا ثابتا في ذمته ولا يكون في رقبته من ذلك شيء، وهذا أصل
قد اختلف فيه قول ابن القاسم هل الشركة شبهة لأحد الشريكين في حظ شريكه
حسبما مضى بيانه في سماع سحنون من كتاب المزارعة وبالله التوفيق.
[مسألة: يزعم العبد أنه دفعه إلى سيده أو تلف]
مسألة وسألت أشهب عن العبد يأتي الرجل فيقول له سيدي أرسلني إليك في كذا
وكذا فيعطاه، ثم يزعم العبد أنه دفعه إلى سيده أو تلف
(16/165)
وينكر ذلك السيد، قال: أراه فاجرا خلابا
وأرى ذلك في رقبته كالجناية، ولو كان حرا كان دينا عليه، وفي سماع عيسى من
كتاب البراءة أنه لا ضمان عليه، وسألت عنها ابن القاسم فقال لي: إنما هو
على أحد وجهين، إذا أقر السيد غرم، وإن لم يقر كان في رقبته لأنه خدع
القوم، ولقد سئل مالك عن رجل استأجر عبدا من سيده على أن يبعثه ببعير إلى
منهل من المناهل، فذبح العبد البعير بعدما سار به، وزعم أنه خاف على البعير
الموت، قال مالك: ومن يعلم ذلك؟ أراه في رقبة العبد، فهذا بمنزلته.
قال محمد بن رشد: وجه رواية سحنون هذه عن أشهب وابن القاسم أن ذلك يكون في
رقبة العبد إن أنكر سيده أن يكون بعثه معناه بعد يمينه على ذلك باتفاق إن
حقق عليه باعث المال الدعوى بذلك، وعلى اختلاف إن لم يحقق عليه الدعوى
بذلك، هو ما قاله في الرواية من أنه خلبه وغره، وفي ذلك اختلاف قد قيل إنه
لا يكون إلا في ذمته لأنه دفع إليه باختياره ولو شاء لم يفعل، وقيل إن ذلك
يكون في ذمته ولا يكون في رقبته إلا أن بالعدا خلاف ما ذكره من رواية عيسى
عن ابن القاسم في كتاب البراءة أنه لا ضمان عليه. وقد سقط في بعض الكتب
قوله إنه لا ضمان عليه، والصحيح ثبوته فبذلك تستقيم المسألة، وكذلك وقعت
الرواية في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب العارية، ووجه رواية عيسى هذه
أنه صدق العبد فيما ادعى من أن سيده بعثه مع يمينه فإذا حلف على ذلك كان
بمنزلة إذا كانت له بينة على أن سيده بعثه، واستدل ابن القاسم في رواية
سحنون عنه على أن ذلك يكون في رقبة العبد بقول مالك في الذي استأجر عبدا من
سيده على أن يبعثه ببعير إلى منهل من المناهل فذبح العبد البعير، ووجه
التنظير بينهما
(16/166)
استواؤهما في أن صاحب البعير دفع البعير
إلى العبد المستأجر باختياره، كما دفع صاحب المال إلى العبد باختيار، ولم
يصدق العبد في مسألة مالك فيما زعم أنه خشي على البعير الموت كما لم يصدق
العبد في مسألة ابن القاسم فيما زعم من أن سيده أرسله وقد مضى التكلم على
هذا كله في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب العارية وفي سماع سحنون منه،
وفي رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب البضائع والوكالات.
[مسألة: سيد العبد إذا جنى عبده ثم سباه العدو
فصار في سهمان رجل]
مسألة قيل لسحنون أرأيت العبد يجني الجناية ويركبه الدين من تجارة وقد كان
أذن له فيها سيده فيأسره أهل الحرب ثم يغنمه المسلمون فيصير في سهمان رجل
من المسلمين ثم أتى سيده يريد افتكاكه كيف يفتكه؟ فقال لي: يفتكه بالأكثر
من أرش الجناية أو مما صار لهذا الرجل في سهمانه، فإن كان الذي صار له في
السهمان عشرة دنانير، وأرش الجناية عشرون أفتكه بالأكثر وهو أرش الجناية
فيأخذ صاحب السهمان عشرة دنانير، ويأخذ صاحب الجناية عشرة دنانير، وإن كانت
الجناية عشرة والذي صار له في السهمان عشرون أفتكه السيد بالأكثر، وذلك
عشرون فيأخذها صاحب السهمان، وليس لصاحب الجناية شيء، وكذلك لو أن أم ولده
سباها العدو ثم غنمها المسلمون فصارت في سهمان رجل بمائتي دينار ثم سباها
العدو ثانية فغنهما المسلمون فصارت في سهمان رجل بمائة دينار ثم سباها
العدو ثالثة فغنمها المسلمون فصارت في سهمان رجل بخمسين دينارا ثم يأتي
السيد الأول وكل من صارت في سهمانه وهي في يد الذي صارت في سهمانه بخمسين
دينارا أن السيد الأعلى أولى بالخيار يأخذها بالأكثر مما صارت به في
المقاسم، وهي مائتا
(16/167)
دينار، فيعطى الذي هي في يديه خمسين دينارا
لأنه أولى بها من غيره، ولأنه أحدثهم ملكا، ثم يعطى الذي يليه مائة دينار
ثم يعطى الثالث ما بقي الذي كانت في يديه بمائتي دينار وإن كان أولى من
صارت في سهمانه بخمسين دينارا، والثاني بمائة دينار، والثالث بمائتي دينار
فإن السيد الأول أولى بالخيار يفتكها بأكثر الأثمان وهي مائتا دينار،
فيأخذها من الذي هي في يديه ويسقط حق صاحب المائة والخمسين، وكذلك لو كان
في موضع أم الولد عبد فاسلك به مسلك ما وصفت لك حرفا بحرف تصب إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قول سحنون إن سيد العبد إذا جنى عبده ثم سباه العدو فصار
في سهمان رجل إن سيده يأخذه من الذي صار في سهمانه بالأكثر من أرش الجناية
أو مما صار به لهذا الرجل في سهمانه خلاف مذهب ابن القاسم على ما حكاه عبد
الحق عن بعض شيوخه القرويين من أنه إنما يفتكه على أصل ابن القاسم ومذهبه
إن أحب افتكاكه بالثمن الذي المشتري وبالجناية جميعا؛ لأنه إذا أفتكه
بالأكثر وكان في العبد فضل كثير كيف يستبد بالفضل؟ ومثل هذا في كتاب ابن
المواز أن ربه لا يأخذه حتى يدفع الثمن والجناية، فإن أسلمه فاختلف هل يبدأ
صاحب الجناية على المشتري فيدفع إليه الثمن ويأخذ العبد، أو يبدأ المشتري
فيدفع الجناية إن شاء ويتمسك بالعبد، وكذلك مذهب ابن المواز في الذي سباه
العدو ثالثة أن سيده الأول أحق به بالثمانين جميعا إن أراد أخذه خلاف قول
سحنون هذا أنه يأخذه بأكثر الثمنين وخلاف ما في سماع سحنون من كتاب الجهاد
أن سيده الثاني أحق به من السيد الأول، وأنه يأخذه بما وقع به في القسم
الثاني، وقد مضى هذا في سماع سحنون من كتاب الجهاد.
(16/168)
[مسألة: عدا
عليه رجل فجرحه جرحا فعفا المجروح عن نصف جرحه]
مسألة قيل لسحنون ما تقول في رجل عدا عليه رجل فجرحه جرحا يمكن فيه القصاص
أو لا يمكن، فعفا المجروح عن نصف جرحه هل ترى النصف الباقي يرجع إلى دية أم
لا؟ قال: كل جرح لا يمكن فيه القصاص ولا يحكم على الجارح بالقصاص لما يخاف
منه فحكمه حكم الخطأ، فإن عفا عن نصفه فله النصف الباقي، وإن أمكن فيه
القصاص ويمكن إذا سقط النصف أن يقتص من نصفه اقتص وإن كان لا يمكن إذا سقط
نصفه أن يقتص من النصف الثاني فالجارح بالخيار إن شاء أجاز ذلك له فعليه
نصف عقل الجرح وإن قال لا أجيز لك عفوا قيل له إما أن تقتص وإما أن تعفو.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة على قياس القول بأنه ليس لولي المقتول أن
يجبر القاتل على غرم الدية فيدخل في هذه المسألة الاختلاف بالمعنى من مسألة
الأعور يفقأ عين الصحيح حسبما مضى بيانه في رسم القطعان من سماع عيسى
وبالله التوفيق.
[مسألة: أمر رجلا بقتل عبده فقتله]
مسألة قيل لسحنون إن أصبغ يقول من أمر رجلا بقتل عبده فقتله إن على القاتل
قيمته، فقال: ليس هذا القول بشيء لا قيمة على القاتل؛ لأن صاحب العبد هو
الذي عرض عبده للتلف فهو بمنزلة مال له عرضه للتلف، والعبد مال من الأموال
فليس على من أتلفها بأمر أربابها شيء، ويضرب قاتل العبد مائة ويسجن سنة،
ويؤدب السيد الآمر أدبا موجعا.
قال محمد بن رشد: لأصبغ في الواضحة مثل قوله ها هنا إلا أنه
(16/169)
قال إنما أغرمته القيمة لجرمه، وقال يضرب
القاتل والسيد مائة مائة سوط ويسجنان عاما، وقول أصبغ في الواضحة إنما
أغرمته القيمة لجرمه ليس بجيد؛ لأن إغرامه القيمة لجرمه على قوله إنما هو
من باب العقوبة في الأموال، وإذا عاقب القاتل بغرم ما لا يجب عليه غرمه
فالسيد أحق ألا يعطي القيمة لجرمه في الأمر بقتل عبده، فقول سحنون أظهر،
ولو قال أصبغ إنما أغرمته القيمة لإسقاط سيد العبد إياها عنه قبل وجوبها له
عليه إذ لا تجب عليه إلا بعد قتل العبد لكان ذلك وجها؛ لأن لزوم إسقاط الحق
قبل وجوبه أصل مختلف فيه والله الموفق.
[مسألة: جرحا عبدا لرجل جرحه أحدهما موضحة
والآخر منقلة]
مسألة قال سحنون لو أن رجلين جرحا عبدا لرجل جرحه أحدهما موضحة والآخر
منقلة أو قطع يده فمات العبد ولا يدري أمن أي ضربة مات، قال: يخير في أخذ
القيمة من جارحه الأول تامة، ويرجع الأول على الثاني فيأخذ منه ما نقص جرحه
من قيمة العبد فيكون له؛ لأنه قد غرم قيمته تامة، أو يأخذ القيمة من الثاني
قيمته بالجرح الأول، ويرجع سيد العبد فيأخذ من الجارح الأول ما نقص جرحه.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يخير في أخذ القيمة تامة من جارحه الأول أو
ناقصة من الجارح الثاني معناه أنه يصدق فيمن ادعى عليه منهما أنه مات من
جرحه مع يمينه، فيكون الحكم فيه على ما ذكر؛ لأن من جرح عبده فحيي بعد
الجرح ثم مات لا يستحق سيده قيمته إلا بعد يمينه أنه مات من ذلك الجرح على
ما مضى في رسم شهد من سماع عيسى من هذا الكتاب وفي رسم المجالس من سماع
أصبغ من كتاب الديات، وهو نص قول أصبغ في سماعه بعد هذا أنه يحلف على من
شاء منهما أنه مات من جرحه ثم يكون الحكم فيه
(16/170)
ما ذكره.
فإن قال لا أدري من جرح أيهما مات حلف على ذلك باتفاق إن حققت عليه الدعوى
فيه وعلى اختلاف إن لم تحقق عليه الدعوى فيه ووجبت له قيمة عبده على
الجارحين جميعا، إذ لا يشك في أنه مات من جرح أحدهما وحصل الدعوى بينهما
فيما يجب على كل واحد منهما لأن كل واحد منهما يقول لم يمت من جرحي فلا
يلزمني إلا ما يجب علي في جرحي إياه ولا مزية لواحد منهما في دعواه على ما
يدعيه من أنه لم يمت من جراحه، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا عن اليمين
وكان جرحهما سواء كانت القيمة عليهما بالسواء، وإن اختلفت جراحهما مثل أن
يجرحه أحدهما موضحة ويقطع الآخر يده وقيمة العبد مائة وقطع يده ينقص من
قيمته نصفها فيكون على الذي قطع يده خمسون نصف قيمته، وعلى الذي جرحه موضحة
خمسة نصف عشر قيمته، ويكون الباقي من قيمته وهو خمسة وأربعون عليهما جميعا
بالسواء؛ لأن كان واحد منهما يدعي أنها على صاحبه دونه، وإن حلف أحدهما
ونكل الآخر عن اليمين كان القول قول الحالف منهما، فإن كان الحالف هو الذي
قطع يده كانت عليه نصف قيمته لقطع يده، وكانت بقية القيمة على صاحبه الذي
نكل عن اليمين، وإن كان الذي حلف هو الذي [يدعي على صاحبه دونه] جرحه موضحة
كان عليه نصف عشر قيمته وكانت بقية القيمة على صاحبه الذي نكل عن اليمين،
فهذا تمام القول في هذه المسألة وقد قيل إنه إذا أبى السيد أن يحلف لم يكن
له إلا ديات الجراح لاحتمال أن يكون مات من شيء آخر دخل عليه غير الجرحين،
وهو قول أصبغ في سماعه بعد هذا، والذي ذكرناه هو على قياس رواية محمد بن
يحيى عن مالك في أن من جرح عبده فمات من جرحه بعد أيام أن سيده يستحق قيمته
على الذي جرحه دون يمين وبالله التوفيق.
(16/171)
[مسألة: أم
الولد إذا جنت جناية فلم يفتدها سيدها حتى جنت جناية أخرى]
مسألة وكتب إلى سحنون من طرابلس ما تقول ولي الله حفظك في أم ولد لرجل جنت
على رجلين موضحتين فعلم السيد بأحدهما وغاب الآخر ولم يعلم بالغائب فأسلم
السيد قيمة أم ولده إلى هذا الحاضر ثم جنت أيضا على رجل ثالث موضحة فقام
الثالث وجاء الغائب الثاني ما ترى على السيد؟ وما يكون للأول من القيمة
التي أسلمت إليه؟ وهل يدخل معه فيها الثاني أم لا؟ وما يكون للثالث؟ وكيف
يكون الحكم والقضاء؟ فقال سحنون: إن كان قيمتها يوم قام أحد المشجوجين
خمسين دينارا فأسلم سيدها خمسين وهي القيمة وهي دية الموضحة ثم قام المجني
عليه الثالث وقدم الغائب فإنه يرجع السيد على الأول بخمسة وعشرين دينارا؛
لأنه كان له يوم قام نصف الجناية، ثم ينظر إلى قيمتها اليوم فإن كانت ستين
دينارا قيل للثالث قد جنى عليك نصفها المفتك وهو قائم، والنصف الآخر وهو
مرتهن بجناية الغائب، فنصف موضحتك في النصف الفارغ ويفتكه منك سيده بخمسة
وعشرين دينارا لأن نصف جنايتك أقل من نصف قيمتها، وإنما يفتك السيد أبدا
بالأقل، فالنصف الثاني بينك وبين صاحبك على ما بقي لك وله، فالثلاثون بينك
وبينه أثلاثا، لك ثلثها وهو عشرة؛ لأن حقك خمسة وعشرون، ولصاحبك عشرون لأن
حقه خمسون دينارا وهذا أحسن ما نعرف في ذلك إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة قد بين سحنون فيها وجه قوله بما لا
مزيد عليه، وذلك أن أم الولد إذا جنت جناية فلم يفتدها سيدها حتى جنت جناية
أخرى يلزم سيدها أن يفتديها بالجنايتين جميعا أو
(16/172)
يسلم قيمتها إليهما، فتكون بينهما على قدر
جناية كل واحد منهما، وإذا جنت جناية فافتداها سيدها ثم جنت جناية أخرى بعد
ذلك على سيدها في الجناية الثانية ما كان عليه في الأولى من أن يفتديها
بجميع الجناية أو يسلم إلى المجني عليه قيمتها، فهذا هو الأصل الذي بنى
عليه سحنون قوله في هذه المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: باع عبده بعد أن جنى فحلف أنه لم يرد
حمل الجناية]
مسألة وكتب إليه أيضا يسألونه عن رجل تحته جارية لرجل ادعى سيدها أنه باعها
منه وقد أولدها وادعى الآخر أنه زوجه إياها وقد كانت الجارية إذ كانت عند
سيدها جنت على رجل موضحة فعلم بذلك السيد، ثم إنه باعها فيما زعم ولم يعلم
ذلك حتى قام المجني عليه والسيد الأول عديم أو مليء، وكيف إن جنت بعد إذ
كانت عند الثاني ما تقول في الوجهين؟ والحكم فيهما من ترى يلزم الجناية؟
وما حال الجارية وولدها؟ قال سحنون: إن كان السيد موسرا وزعم أنه باعها وهو
عالم بالجناية حلف بالله ما باعها وهو يريد حمل الجناية، فإن حلف قيل له
ليس ما ادعيت من بيعها بالذي يبطل ما وجب في رقبتها من الجناية إذا كان من
ادعى عليه جاحدا نافيا لقولك، فأنت بالخيار إن شئت فافتكه بالجناية وأنت
على خصومتك، وإن شئت فأسلمها برقبتها، فإن نكل عن اليمين أغرم رأس الجناية
وكان على خصومته، وإن كان فقيرا كانت الجارية لصاحب الجناية ولم تكن دعواه
تبطل ما وجب في رقبتها، وليس هو ممن يفدي وقد زعم أن مثلها لا يتسلط عليه
البيع حين زعم أنها أم ولد رجل، وإذا جنت عند الثاني قيل للسيد أيضا إن شئت
فافتك، وإن شئت فأسلم وليس في الولد جناية، وقد ذكر بعض أصحابنا أن الولد
أحرار.
(16/173)
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه ليس على
قياس قول ابن القاسم، وإنما هو على قياس قول غيره في المدونة، وأن الرجل
إذا أعتق عبده بعد أن جني وحلف أنه لم يرد حمل الجناية كان للمجني عليه
لأنه كذلك يلزم على قياس قوله إذا باع عبده بعد أن جنى فحلف أنه لم يرد حمل
الجناية كان العبد للمجني عليه وانتقض البيع فيه خلاف قول ابن القاسم في أن
المجني عليه بالخيار بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن في جنايته، وبين أن
يأخذ العبد، فإن أجاز البيع وأخذ الثمن مضى البيع، وإن أراد أخذ العبد كان
للمشتري أن يفتكه منه بجنايته ويرجع على البائع بالأقل من الثمن أو مما
أفتكه به، والذي يأتي في هذه المسألة على قياس قول ابن القاسم في المدونة
وما مضى في رسم شهد من سماع عيسى من هذا الكتاب إذا حلف البائع أنه ما علم
بالجناية أو ما باعها وهو يريد حمل الجناية أن يكون على خصومته ابتداء، فإن
صح له البيع كان المجني عليه بالخيار بين أن يجيز البيع وبين أن يأخذ
قيمتها من المشتري لفواتها عنده بالولادة، فإن أجاز البيع وأخذ الثمن مضى
البيع، وإن أخذ القيمة من المشتري انتقض البيع ورجع المبتاع على البائع
بجميع الثمن إلا أن تكون الجناية أقل من الثمن فيكون من حق المبتاع أن يؤدي
للمجني عليه جنايته ويتمسك ببيعه ويرجع على البائع بما أفتكها به إن شاء
وإن لم يصح له البيع وانتقض كان البائع مخيرا بين أن يسلمها في الجناية أو
يفتكها بها، فإن أسلمها فيها كانت ملكا للمجني عليه، وإن أفتكها بها عتقت
عليه لإقرارها أنها حرة بإيلاد المشتري إياها الذي ادعى أنه باعها منه
ويثبت نسب الولد من المشتري ويكونون أحرارا بإقرار البائع أنهم ولد المشتري
من أمته الذي ادعى أنه باعها منه هو الذي يأتي في هذه المسألة على مذهب ابن
القاسم، وفي قول سحنون في هذه الرواية، وليس في الولد جناية، وقد ذكر بعض
أصحابنا أن الولد أحرار، دليل على أنه لم يرهم أحرارا ورآهم له مماليكا
بإقرار أيهم له بملكهم إذ زعم أنه إنما زوجه الأمة ولم يبعها منه ألا تعتق
عليه الأمة إذا أفتكها خلاف ما ذكرناه من أنها تعتق عليها إذا أفتكها
(16/174)
على مذهب ابن القاسم، وقد مضى في رسم
العرية من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح وجه الحكم في التداعي المذكور
في الجارية وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد إذا جنى جناية بعد جناية]
مسألة وكتب إليه يسألونه عن رجل أودع رجلا جارية ثم إن المستودع عدا على
غلام لرب الجارية فغصبه إياه فجنى العبد عند هذا الغاصب جناية قتل رجلا خطأ
ثم قتل الجارية المستودعة خطأ فقام أولياء المقتول وقام رب الجارية يطلبون،
قال سحنون: لرب الغلام المغصوب أن يأخذ قيمة غلامه فارغا بلا جناية عليه،
وينظر إلى قيمة الجارية والدية، فإن كانتا معتدلتين ألفا ألفا قيل للغاصب
الذي صار إليه العبد إنما صار إليك والجنايتان في رقبته، فلك أن تفتدي نصفه
بدية المجني عليه أو تسلم نصفه ويبقى لك نصفه بدية المجني عليه أو تسلم
نصفه ويبقى لك نصفه، ويقال له أيضا إن شئت أن تفتدي النصف الباقي بقيمة
الجارية وهو ألف وإلا فأسلم الباقي في يديك، قيل له أرأيت إن جنى العبد
المغصوب على رجل خطأ ثم جنت الجارية على العبد أيضا جناية خطأ فقام أولياء
المقتول وقام أولياء الجارية على الغاصب كيف الحكم فيه؟ قال سحنون: إن أخذ
المغصوب حقه قيمة غلامه فهو يأخذ قيمته فارغا بغير جناية، قال: يقال لرب
الجارية تسلم جاريتك بما نقص العبد أو يفتك فإن سلم فإنه يقال للغاصب قد
صار العبد إليك والجارية التي جنت عليه، وهما جميعا مرتهنين بجناية الحر،
فإن شئت فأسلم العبد والجارية إلى أولياء الحر المقتول، وإلا فافتكهما
جميعا بالدية وهي ألف، فإن أفتك رب الجارية الجارية على نقص العبد وكان
الذي نقص
(16/175)
العبد ألف دينار فأكثر قيل لرب العبد ادفع
ألفا إلى أولياء الجناية فتصير كأنك افتككت العبد بالدية، وإن كان ما نقص
العبد أقل من ألف دينار قيل لرب العبد إن شئت فافتك العبد وارشه بالدية،
وإن شئت فأسلم العبد وارشه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم في أن العبد المغصوب بجنايته
والجناية عليه وفي أن العبد إذا جنى جناية بعد جناية يخير سيده بين أن
يفتكه بجميع ما جنى وبين أن يسلمه إلى أولياء الجنايات فيكون بينهم على قدر
جناياتهم، وفي أن العبد إذا جنى ثم جني عليه يخير سيده بين أن يفتكه وما
أخذ في الجناية عليه بما جنى وبين أن يسلمه وما أخذ في الجناية عليه بما
جناه وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد بين شريكين عدا عليه أحد الشريكين]
مسألة وعن عبد بين شريكين عدا عليه أحد الشريكين ففقأ عينه عمدا وأصابه
الشريك الآخر بضربة خطأ ففقأ بها عينه الأخرى وكيف إن كان الخطأ أولا
والعمد آخرا. إلا أن الشهود لا يعرفون الجاني الأول من الجاني الآخر، ولا
الخطأ من العمد، إلا أنهم يشهدون على الفعل، وأنكر السيدان ما شهد به
عليهما، وكيف إن أقرا بالخطأ وأنكرا العمد وادعى كل واحد منهما على صاحبه
جناية العمد وأقرا بالخطأ ما القول والحكم فيه؟ قال سحنون: سقطت شهادة
الشهود وسقطت مسألتك من أن تكون مسألة، وأنا أكره لكم مثل هذا وما قبله من
مسائل الطلاق فإن هذا ليس من مسائل الفقهاء، ولكن إن كان أحدهما فقأ العين
الأول عمدا وهو معروف ثم فقأ الآخر خطأ وهو معروف قبل أن ينظر في أمر الأول
فإن على الأول نصف ما نقصه يوم جنى عليه الآخر وهو مفقوء العين، فيقال ما
قيمته مفقوء العين
(16/176)
الأول؟ فيقال عشرون، ثم يقام وهو مفقوء
الآخر فيقال عشرة، فيرجع الفاقي في الأول على الفاقي الآخر بخمسة، ثم يقال
كم قيمته يوم يقام به فيعتق بالمثلة فيقال عشرة فيضمن نصفها ويعتق عليه
لأنه إنما يعتق عليه بالمثلة يوم يقام به ليس يوم جني عليه، ويكون عليه نصف
قيمة ما نقصته جناية العمد، وإن كان الفاقي الأول خطأ والثاني عمد أغرم
الأول للثاني نصف ما نقصه، ثم ينظر إلى قيمته يوم يقام به فيعتق على الممثل
به فيغرم نصفه للشريك ويعتق عليه.
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه المسألة سقطت شهادة الشهود وسقطت
المسألة من أن تكون مسألة ليس بصحيح إذ لشهادتهم فيما شهدوا به تأثير يوجب
إذ قد شهد عليه الشهود أنه هو قطع أحد يديه في المسألة حكما إذا شهدوا أن
أحدهما قطع يده عمدا وأن الآخر قطع يده الأخرى خطأ، فإن لم يثبتوا من كان
المتعمد منهما أن يكون جرحه أصلا وادعى هو على صاحبه أنه هو قطع يده جميعا
لم يصدق واحد منهما في أنه لم يجرحه أصلا، إذ قد شهد عليه الشهود أنه قطع
إحدى يديه ولا قبلت دعواه على صاحبه أنه قطع يديه جميعا، إذ قد شهد عليه
الشهود أنه هو قطع أحد يديه ويقال لهما قد أحقت الشهادة للعبد العتق
بالمثلة على أحدكما، فكان وجه الحكم في ذلك أن يحلف كل واحد منهما على ما
ادعاه، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا عن اليمين عتق العبد عليهما، وإن حلف
أحدهما ونكل الآخر عن اليمين عتق على الناكل منهما عن اليمين وغرم نصف
قيمته للحالف، ولولا البينة لحلف كل واحد منهما لصاحبه على ما ادعاه عليه
وبرئ، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين غرم الناكل للحالف نصف ما نقصه
قطع يديه جميعا، وإن أقر بالخطأ وأنكر العمد فادعى كل واحد منهما على صاحبه
أنه هو الذي جرحه عمدا وأنه هو الذي جرحه أولا أو أنه هو الذي جرحه آخرا
لكان وجه الحكم في ذلك أن يحلف كل واحد منهما على ما يدعيه من ذلك، فإن
حلفا جميعا أو
(16/177)
نكلا عن اليمين جميعا عتق العبد عليهما
جميعا بالمثلة التي قد تحققت بالبينة على أحدهما، ولم يكن لواحد منهما على
صاحبه شيء، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين عتق العبد على الناكل
منهما عن اليمين، فإن كان هو الأول منهما كان عليه لصاحبه نصف ما نقصته
جنايته وكان له هو على صاحبه نصف ما نقصته جنايته أيضا، ويكون عليه نصف
قيمته يوم يقام به فيعتق عليه بالمثلة.
وتفسير ذلك أن يقال ما قيمته صحيح العينين يوم جنى عليه الأول؟ فإن قيل
مائة قيل ما قيمته يومئذ مقطوع اليد الأول؟ فإن قيل ثمانون غرم الأول
للثاني ما بين القيمتين وذلك عشرة دنانير، ثم يقال ما قيمته يوم جنى عليه
الثاني مقطوع اليد الأولى؟ فإن قيل سبعون قيل ما قيمته يومئذ مقطوع اليدين
جميعا؟ فإن قيل ثلاثون غرم الثاني للأول ما بين القيمتين وذلك عشرون ثم
يقال ما قيمته مقطوع اليدين يوم يقام به للعتق بالمثلة فإن قيل عشرون كان
على الأول نصفها عشرة دنانير وعتق عليه وكان له ولاؤه، وعلى هذا المثال لا
يكون لأحدهما على صاحبه شيء؛ لأن الأول وجب له على الثاني في جنايته عليه
عشرون، ووجب للثاني على الأول عشرة في جنايته عليه، وعشرة في تقويمه عليه
للعتق، وهذا هو الحكم إذا ثبت أن جناية الأول كانت عمدا وجناية الثاني كانت
خطأ وهو معنى ما ذكره سحنون في الرواية.
وإن كان الناكل عن اليمين هو الآخر منهما كان له على الأول نصف ما نقصته
جنايته عليه يوم جني عليه، وكان للأول عليه نصف ما نقصته جنايته عليه يوم
جني عليه وعتق عليه بالمثلة، فكان عليه بذلك نصف قيمته يوم يقام عليه بذلك.
(16/178)
وتفسير ذلك أن يقال ما قيمته صحيح اليدين
يوم جنى عليه الأول؟ فإن قيل مائة قيل ما قيمته يومئذ مقطوع اليد الأولى؟
فإن قيل ثمانون كان للثاني على الأول ما بين القيمتين وذلك عشرة دنانير، ثم
يقال ما قيمته يوم جنى عليه الثاني مقطوع اليد الأولى؟ فإن قيل سبعون قيل
ما قيمته يومئذ مقطوع اليدين جميعا؟ فإن قيل سبعون قيل ما قيمته يومئذ
مقطوع اليدين جميعا؟ فإن قيل ثلاثون كان للأول على الثاني ما بين القيمتين
وذلك عشرون، ثم يقام يوم يقام عليه للعتق بالمثلة، فإن قيل عشرون كان عليه
نصف عشرة دنانير ويعتق عليه، وكان له ولاؤه، فيكون للأول على الثاني على
هذا المثال عشرون دينارا، وهذا هو الحكم فيه إذا ثبت أن جناية الأول عليه
كانت خطأ وجناية الثاني عمدا، فقول سحنون في الرواية وإن كان الفاقيء الأول
خطأ والثاني عمدا غرم الأول للثاني نصف ما نقصته، ثم ينظر إلى قيمته يوم
يقام به فيعتق على الممثل به فيغرم نصفه للشريك ويعتق عليه معناه إذا أقيم
عليه بالعتق مثل يوم جني عليه، وأما إن تأخر القيام عليه في العتق بالمثلة
فعلى ما ذكرناه؛ لأن القيم قد تختلف باختلاف الأيام، وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى قبل رجل أنه فقأ عينه خطأ فقال
المدعى عليه إنما فقأتهما عمدا]
مسألة وكتب إليه في رجل ادعى قبل رجل أنه فقأ عينه خطأ فقال المدعى عليه
إنما فقأتهما عمدا كيف الأمر والحكم فيه؟ قال سحنون لو أن الجاني ساعد
المجني عليه في أنه فقأ عينه خطأ ما كان عليه شيء لأن العاقلة لا تحمل
الإقرار.
قال محمد بن رشد: قوله إن الجاني لو لو ساعد المجني عليه في أنه فقأ عينه
خطأ ما كان عليه شيء لأن العاقلة لا تحمل الإقرار صحيح على
(16/179)
ما قاله، وكما لا يلزمه شيء بإقراره بالخطأ
كذلك، لا يلزمه شيء بإقراره بالعمد إذ لا يلزمه في العمد إلا القصاص وهو لا
يجوز له أن يقتص منه ما دام مقيما على قوله إنه إنما فقأ عينه خطأ، ولو كذب
نفسه فرجع إلى قول الجاني إنه فقأها عمدا لجرى ذلك على الاختلاف في الذي
يقر للرجل بالحق فينكر ذلك المقر له ثم يرجع إلى ادعاء ما أقر له به، وهذا
عندي في الجناية ما دام الجاني على إقراره بالعمد، وأما إن رجع عن إقراره
بالعمد قبل أن يقتص منه فلا يقتص منه، بخلاف الحقوق؛ لأن له في الحقوق أن
يأخذ منه ما أقر له بلا إذا رجع إلى تصديقه وإن رجع هو بعد ذلك عن إقراره،
وأما إذا رجع عن إقراره قبل أن يرجع هو إلى تصديقه فلا شيء للمقر له في
الحقوق ولا في القصاص وبالله التوفيق.
[مسألة: ليس على السيد إذا جنى عبده أكثر من أن
يسلمه بجنايته]
مسألة وكتب إليه أيضا في رجل شهد لعبد أن مولاه أعتقه فأصاب العبد الشاهد
بضربة خطأ فقأ بها عينه كيف الحكم فيه؟ قال سحنون ليس للمجني عليه في العبد
شيء والعبد لسيده.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إذ ليس على السيد إذا جنى عبده أكثر
من أن يسلمه بجنايته، والمجني عليه لا يصح له أن يأخذه لإقراره بأنه حر بما
شهد له به من عتق سيده إياه وبالله التوفيق.
[مسألة: يفقأ عين عبده أو عين امرأته فيقولا
عمدا ويقول خطأ]
مسألة وكتب إليه أيضا ما تقول في الرجل يفقأ عين عبده أو عين امرأته فيقول
العبد والمرأة فعل ذلك بنا عمدا، وقال السيد والزوج بل كنت أؤدبهما فأخطأت
من ترى القول قوله؟ قال: القول قول العبد والمرأة لأن العداء قد ظهر، قلت
له ولم؟ وقد أذن له في الأدب يؤدب عبده وامرأته رأيت الطبيب إذا قطع فجاوز
فقال زلت
(16/180)
يدي فأخطأت وادعى عليه العمد، فقال: الطبيب
قد ظهر فعله أنه بدا بما يجوز له، وهذا الزوج والسيد لم يظهر لنا منهما غير
العداء، ثم قال بعد ذلك: اكتب إليه أنه لا شيء على السيد ولا الزوج حتى
تظهر العداء والقول قولهما.
قال محمد بن رشد: أما الطبيب فلا شك ولا اختلاف في أن ما تجاوز فيه محمول
منه على الخطأ حتى يعلم خلاف ذلك، أما السيد في عبده والزوج في امرأته
فلكلا القولين المذكورين وجه من النظر، والأظهر في السيد أن يحمل أمره في
عبده على الخطأ فلا يعتق عليه بما ظهر من التمثيل به إلا أن تعلم أنه قصد
التمثيل به، ويباع عليه إن دعا إلى ذلك العبد، وأما الزوج في امرأته فالذي
أراه في ذلك ألا يحمل أمره على الخطأ، فيلزم ذلك العاقلة، ولا على العمد
فيقتص منه لها، ويجعل ذلك كشبه العمد الذي يسقط فيه القصاص. وتكون فيه
الدية على الجاني في ماله، وإن طلبت المرأة أن يفرق بينه وبينها وزعمت أنها
تخافه على نفسها طلقت عليه طلقة بانية، وقد مضى هذا المعنى في رسم يشتري
الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب العتق وبالله التوفيق.
[: أم ولد النصراني تسلم فتجني من قبل أن تعتق
عليه]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم أخبرنا محمد بن خالد قال: سألت ابن
القاسم عن أم ولد النصراني تسلم فتجني من قبل أن تعتق عليه أيكون عقل
جنايتها عليها تتبع به أم على سيدها؟ فقال: بل عليها وذلك قول عبد المالك
بن عبد العزيز.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تقدمت والكلام عليها في رسم يشتري الدور
والمزارع من سماع يحيى فلا معنى لإعادته.
(16/181)
[مسألة: جرحه
رجل عمدا فعقل له جرحه طوله وغوره وكتب له ذلك في كتاب]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل جرحه رجل عمدا فعقل له جرحه طوله وغوره وكتب
له ذلك في كتاب ليقتص له من صاحبه إن هو برئ فذهب منه الكتاب الذي فيه
معرفة جرحه وقد أصابه من ذلك الجرح عيب أو شلل والبينة لا تثبت طول غوره
ولا جرحه، قال يستنزل البينة في معرفة الجرح إلى ما لا يشكون فيه، فيقال
لهم قدروا ذلك على الذي ترون وتثبتون معرفته واطرحوا ما تشكوا فيه، فإذا
ثبتوا على أمر اقتص المجروح من الجارح ما استقرت عليه معرفتهم، فإن عابه
ذلك أو شله كما عاب الأول فذلك القصاص، وإن لم يعبه ولم يشله عقل للأول
عيبا وشلله فأخذ ذلك من الجارح، قيل له فهل ينتفع المجروح بشهادة الذي عقل
جرحه وعرف طول غوره إذا لم يكن له أحد يعرف قيس جرحه غيره؟ قال: نعم شهادته
له تامة إذا كان عدلا مع يمينه.
قال محمد بن رشد: وإذا استنزلت البينة فشهد على ما لا يشك فيه حلف الجارح
فيما ادعاه المجروح مما زاد على ذلك فاقتص منه على ما شهدت به البينة، فإن
نكل الجارح عن اليمين حلف المجروح على ما ادعى واقتص له منه، وهو قول أشهب،
قال أشهب في المجموعة وإذا جرح الرجل الرجل موضحة وعليه بينة لا يدري كم
طولها ثبت له موضحة وليس في العمد إلا القود فليوقف الشهود على أقل موضحة،
فإن وقفوا عنده ولم يجاوزوه حلف المشهود عليه على ما فوق ذلك وأقيد منه
بذلك، وإن لم يحلف حلف الآخر واستقاد على ما ادعى، وقاله سحنون فيمن جرح
رجلا عمدا ولو يؤخذ قياس من الجرح حتى يرى فليدع الجارح فيصف قدر ضربته
وأين بلغت ويحلف على ذلك ويقتص على ما أقر به، وإن لم يصف وأبى قيل للمجروح
(16/182)
صف ولا حلف ويقتص له على ما حلف وبالله
التوفيق.
[: يجرح الرجل وليس له شاهد أو يضربه أيستحلف]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم ونوازل سئل عنها قال أصبغ سئل ابن
القاسم عن الرجل يجرح الرجل وليس له شاهد أو يضربه أيستحلف؟ قال: لا ينبغي
أن يستحلف بقول المجروح والمضروب إلا أن يكون مشهورا بذلك فإن كان كذلك
رأيت أن يحلفه، فإن أبى سجن حتى يحلف، وقاله أصبغ وإن طال سجنه ولم يحلف
ولم يعثر عليه بشيء عوقب إن أبى ذلك وخلي سبيله إلا أن يكون مبرزا في ذلك
فيخلد في حبسه، قال أصبغ المبرز المتردد في ذلك الشيء المصر فيه بالحنث،
وقد كتب عمر بن عبد العزيز في بعض هذا المعروف بالسرقة بالمبرز فيها.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الروايات المبر وفي بعضها المبرز ومعنى المبرز
في الشيء الظاهر فيه المشهور به، مثل المبر فيه سواء في المعنى، يقال أبر
فلان بمعنى ظهر يبر فهو مبر، والمفعول به مبر، ويقال أبر فلان على خصمه
بمعنى ظهر، قال طرفة بن العبد:
يكشفون الضر عن ذي ضرهم ... ويبرون على الآلىء المبر
أي يظهرون على الآلئ الظاهر، يمدحهم بذلك، وقد مضى في رسم العقول والجبائر
من سماع أشهب قبل هذا تحصيل القول في إيجاب اليمين على الجارح بمجرد دعوى
المجروح دون سبب أو بسبب لا يبلغ أن يكون شاهدا عدلا، وكيف إن كان شاهدا
عدلا فلا معنى لإعادته.
(16/183)
[مسألة: يوضح
الرجل موضحة فيقتص له منه فيقصر الذي يقتص له عن حقه]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يوضح الرجل موضحة فيقتص له منه
فيقصر الذي يقتص له عن حقه، ثم يعلم بذلك، قال إن علم بحضرة ذلك قبل أن
يبرأ أو ينبت اللحم أتم له ذلك، وإن برأت فلا شيء له لتمام ذلك ولا عقل ولا
غير ذلك؛ لأنه أمر قد اجتهد فيه وأمكن من حقه واقتص وأتى بمن يقتص له
واجتهد، فلا أرى له شيئا، قال أصبغ: لا يعجبني ما قال جملة، وأرى إن كان
قصر عن القصاص شيئا يسيرا جدا فالقول ما قال ولا يقاد له ولا يعذب له قبل
برءه ولا بعده ولا شيء فيه، وإن كان شيئا كثيرا متفاوقا أو متفاحشا فإنه إن
كان في دمه وحرارته اقتص التمام واستتم له، وإن كان قد برد وأخذه الدواء
فلا يرجع إليه برأ أو لم يبرأ لأني أخاف أن يكون متلفا أو عذابا أو يجعل
الباقي عقلا ولا يبطل كنحو الذي يقتص ثم يترامى، ويبرأ المقتص منه وإن كان
هو المقتص لنفسه ممن تأتى له أو يجعله سلطان فذلك سواء.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ حسن ينبغي أن يحمل على التفسير لمذهب ابن القاسم
بأن يقسم ما قصر فيه من حقه على ثلاثة أقسام، يسير جدا كالعشر ونحوه، ويسير
كالربع وما دون الثلث، وكثير كالثلث فما فوقه، فإن كان يسيرا جدا فلا يقتص
له تمام حقه، وإن كان الأمر قريبا قبل أن يبرد ويأخذه الدواء ولا يكون له
فيه شيء كما قال أصبغ في اليسير جدا، وإن كان يسيرا كالربع وما دون الثلث
فإن كان بفور ذلك قبل أن يبرد ويأخذه الدواء وينبت اللحم اقتص له تمام حقه،
وإن كان قد فات ذلك وأخذه الدواء لم يقتص له تمام حقه ولا كان له فيه شيء
كما قاله ابن القاسم، وإن كان كثيرا كالثلث وما فوقه اقتص له تمام حقه إن
كان بفور ذلك قبل أن يبرد ويأخذه الدواء، وإن فات ذلك ولم يعثر عليه بفوره
حتى أخذ الجرح الدواء عقل له
(16/184)
تمام حقه كما قال أصبغ، وبالله التوفيق.
[مسألة: قطع يد رجل من المنكب ويد آخر من الكف]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عمن قطع يد رجل من المنكب ويد آخر من
الكف، فقام به صاحب المنكب فقطع، ثم جاء الآخر أنه لا شيء له؛ لأن القطع
الأول يأتي على القود لهما جميعا، وإن قام به صاحب الكف أولا فقطع له، ثم
جاء صاحب المنكب لم يكن له إلا أن يقطع ما بقي من العضد فقط، قال أصبغ
مثله، وأحب إلي ألا يقطع له لعذابه وقطع أرابه مرتين في فور واحد، ويعقل له
ما بقي إلا أن يشاء أن يمكنه من نفسه لذلك ويأبى العقل فليس عليه غير ذلك
إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: أما إذا قام به صاحب المنكب أولا فقطع له فبين أنه لا شيء
للثاني؛ لأن الذي كان حقه فيه قد ذهب، وأما إذا قام به أولا صاحب الكف فقطع
له ثم جاء الثاني فقول ابن القاسم الذي قال به أصبغ أولا أنه ليس له إلا
قطع ما بقي من العضد هو الصحيح في النظر، وأما ما استحسنه أصبغ ورجع إليه
من أنه لا يقطع له ما بقي من العضد ويعقل له ما بقي إلا أن يشاء أن يمكن من
نفسه لذلك ويأبى العقل فليس عليه غير ذلك فهو بعيد، وما اعتل به في ذلك من
أنه لا يعذب مرتين في قود واحد ليست بعلة صحيحة؛ لأنه قد عذب هو كل واحد
منهما بالقطع، فواجب أن يعذب بالقصاص مرتين؛ لأن ذلك حق لرجلين، ولو قال إن
الخيار في ذلك للذي قطعت يده من المنكب بين أن يقتص فيقطع ما بقي من العضد
وبين أن يأخذ العقل لكان لذلك وجه؛ لأن من حجته أن يقول لا أقطع بقية عضوه
بيدي الكامل، ولو قاما معا لكان الأشبه أن يقتص لهما جميعا قصاصا واحدا
فيقطع يده لهما جميعا من المنكب؛ لأن القصاص للذي قطع يده من الكوع، وفي
ذلك اختلاف، فقد قال أصبغ فيمن قطع أصابع رجل ثم قطع كفه تلك التي
(16/185)
قطعت منها الأصابع إنه يقطع أصابعه ثم كفه
إذا لم يكن ذلك في ضربة واحدة، وإذا قال ذلك أصبغ في رجل واحد فأحرى أن
يقوله في رجلين إذا قاما معا، وإذا قاله في الرجلين إذا قاما معا فأحرى أن
يقوله في الرجلين إذا قام صاحب الكف أولا فقطع له، ثم قام الثاني، فقول
أصبغ في هذه المسألة يرد ما استحسنه في هذه الرواية، وأما ابن القاسم فقال
في الذي قطع أصابع رجل ثم قطع بعد ذلك كفه إنه لا يقطع أصابعه ثم كفه، وقطع
الكف يأتي على قطع الأصابع كالذي قتل وقطع إنه لا يقطع ثم يقتل وبالله
التوفيق.
[مسألة: يشج الرجل موضحة فيصالحه على موضحة ثم
تعود منقلة]
مسألة وسمعت ابن القاسم يقول في الرجل يشج الرجل موضحة فيصالحه على موضحة
ثم تعود منقلة ليس يكون العقل في الجراح ولا الصلح إلا بعد البرء وتبين
الجرح، فإن كان هذا قد صالح قبل ذلك فأرى أن يرجع بفضل ما بين الموضحة
والمنقلة، فإن مات أقسم أولياؤه أنه مات منها وكان لهم عقله كاملا ويردون
ما أخذوا من الصلح. قال محمد بن رشد: قوله إنه يرجع بفضل ما بين الموضحة
والمنقلة صحيح لا اختلاف فيه؛ لأنه إنما صالح على الموضحة والعمد والخطأ في
ذلك سواء، وهذا الخلاف إذا صالح على قطع يده ثم تآكلت إلى العضو حسبما مضى
بيانه في رسم العرية من سماع عيسى، وأما إن مات من ذلك الجرح فيفترق فيه
العمد والخطأ على مذهب ابن القاسم، ففي الخطأ يرد أولياؤه على الجارح ما
أخذ منه في الصلح، ويقسمون فيستحقون الدية على العاقلة، وهو معنى قوله الذي
تكلم عليه في هذه الرواية والله أعلم، وفي العمد يخير ورثة المقتول بين أن
يتمسكوا بالصلح وبين أن يردوه ويقسموا فيقتلوا، وقد قيل إنهم يخيرون في
العمد والخطأ، وقيل إنهم لا يخيرون
(16/186)
في العمد ولا في الخطأ، وقد مضى في رسم
أسلم من سماع عيسى من كتاب الديات بيان هذا والقول فيه وفي المصالحة على
الجرح وعلى ما تراقى إليه مما دون النفس أو عليه وعلى ما تراقى إليه وإن
أتى ذلك على النفس فلا معنى لإعادته.
[مسألة: مدبرجرح رجلين موضحتين]
مسألة وسئل أصبغ عن مدبر جرح رجلين موضحتين فدفع السيد إلى أحدهما دية جرحه
ولم يعلم بذلك صاحبه ثم مات سيده ولم يترك مالا غيره فعتق ثلثه ورق ثلثاه،
فقام المجروح الذي لم يأخذ من المدبر شيئا يطلب دية جرحه، قال: أرى أن يرجع
إلى المجروح الذي أخذ من السيد دية جرحه فيؤخذ منه نصف ما بيده ثم يدفع إلى
ورثة السيد ثم يخير الورثة في أن يسلموا إلى المجروحين ثلثي العبد وفي أن
يفتدوه بثلثي دية الجرحين، فإن أسلموه إليهما ضرب فيه المجروح الذي لم يأخذ
من جرحه شيئا بجميع دية جرحه، وضرب الآخر الذي أخذ نصف جرحه بنصف جرحه الذي
لم يأخذ فيه شيئا ثم يرجعان بما بقي لهما من تمام دية جرحيهما على الثلث
الذي عتق من المدبر فيتبعانه به في ذمته يتبعه الذي لم يكن أخذ شيئا بثلث
دية جرحه، والآخر بسدس جرحه.
قال محمد بن رشد: قوله ثم يخير الورثة في أن يسلموا إلى المجروحين ثلثي
العبد وفي أن يفتدوه بثلثي دية الجرحين غلط ووهم؛ لأن الصحيح في ذلك على
قياس قوله أن يخيروا بين أن يسلموا إلى المجروحين ثلثي العبد وفي أن يفتدوه
بثلثي ما بقي من دية الجرحين إذ قد تأدى من ذلك إلى أحدهما نصف دية جرحه،
والمسألة كلها معترضة لا تصح في النظر، والواجب فيها على ما يوجبه القياس
والنظر أن يرجع إلى المجروح الذي أخذ من السيد دية جرحه فيؤخذ منه نصف ما
بيده فيدفع إلى المجروح الآخر لا
(16/187)
إلى ورثة سيد المدبر لاستوائهما فيما كان
لهما على المدبر فإذا رجع بذلك على صاحبه استويا فيما صار إليهما من دية
جرحيهما وفيما بقي لهما على المدبر، فيخير الورثة فيما رق لهما من المدبر
وهو ثلثاه بين أن يسلموه إلى المجني عليهما في ثلثي ما بقي لهما من دية
جرحيهما أو يفتكوه بذلك، فإن أسلموه ما كان بينهما بالسوية ثلثه لكل واحد
منهما، وإن أفتكوه بذلك كان ما أفتكوه به بينهما بنصفين، ثم يرجعان بما بقي
لهما من تمام دية جرحيهما على الثلث الذي عتق من المدبر فيتبعانه به في
ذمته على السواء فيما بينهما إذ لا فضل لأحدهما في ذلك على صاحبه، إذ قد
رجع الذي لم يأخذ منهما من السيد شيئا على صاحبه بنصف ما أخذه منه، وهذا
بين والحمد لله.
[مسألة: العبد إذا جرح فمات من جرحه بعد أن حيي]
مسألة وسئل عن رجل أوضح عبد رجل، وأن رجلا آخر أوضح العبد فمات ولم يدر من
أي الموضحتين مات، قال أصبغ: يحلف سيده على أيهما شاء لمات منها وتكون له
قيمته، وإن لم يحلف لم يكن له إلا ديات المواضح.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يكون له قيمته على الذي حلف أنه مات من جرحه
كلام مجمل يفسره ما تقدم من قول سحنون، في سماعه أنه إن كان الأول كان عليه
قيمته صحيحا، ورجع هو على الثاني بما نقصه جرحه، وإن كان الثاني كان له
عليه قيمته بالجرح الأول، ورجع على الأول بما نقصه جرحه، وقوله إنه إن لم
يحلف لم يكن له إلا ديات المواضح صحيح لاحتمال أن يكون مات من غير الجرحين،
ويأتي على ما روي عن مالك من أن العبد إذا جرح فمات من جرحه بعد أن حيي
يستحق سيده قيمته على جارحه دون يمين على ما ذكرناه في تفسير قول سحنون
المذكور في سماعه وبالله التوفيق.
(16/188)
[مسألة: حلف
بحرية غلامه ليضربنه فجنى جناية قبل أن يضربه]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل حلف بحرية غلامه ليضربنه فجنى جناية قبل أن يضربه،
قال: يخير في افتدائه أو إسلامه، فإن أسلمه رد وعتق عليه مثل البيع، ويرجع
المجروح على السيد بقيمته إلا أن تكون القيمة أقل فليس له إلا الأقل من
قيمة العبد أو الجناية.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا في هذه الرواية إنه إن أسلمه رد وعتق
عليه مثل البيع خلاف مذهبه وروايته عن مالك في المدونة في أن من حلف بعتق
غلامه ليضربنه فباعه يرد البيع ويبقى العبد في يده حتى يبر فيه بضربه أو
يموت فيعتق في ثلثه مثل قول ابن دينار في كتاب العتق الأول وكتاب الإيلاء
منها أنه إذا باعه يرد البيع ويعتق عليه ومثله لمالك في الواضحة من رواية
ابن الماجشون عنه، والذي يأتي في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم وروايته
عن مالك في المدونة أنه إن أسلمه في الجناية يرد ويكون عليه للمجني عليه
الأقل من قيمته أو الجناية ولا يعتق عليه، فإن لم يبر في ضربه حتى مات عتق
في ثلثه ولو لم يعثر على ذلك حتى أعتقه المشتري أو الذي أسلم إليه في
الجناية، يعتق في البيع على البائع ورد الثمن على المشتري، وفي الجناية على
سيده الذي أسلمه وغرم للمجني عليه الأقل من قيمته أو الجناية على مذهب مالك
وابن القاسم لم يختلف في ذلك قولهما وقد مضى من قولنا في رسم العتق من سماع
عيسى من كتاب العتق ما فيه بيان هذا لمن تدبره ووقف عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد لرجل جرح رجلين فأسلم إلى أحدهما
ولم يعلم بالآخر]
مسألة قال أصبغ سألت عبد الرحمن بن القاسم عن عبد لرجل جرح رجلين فأسلم إلى
أحدهما ولم يعلم بالآخر فجرح عند المسلم إليه رجلا فقام عليه هو والأول
الذي لم يعلم بجرحه، فقال ابن
(16/189)
القاسم يرجع المجروح الذي لم يكن علم به في
العبد بقدر جرحه ثم يخير هو والمسلم إليه العبد الأول في أن يفتكاه من
الثالث أو يسلماه إليه، فمن شاء منهما أفتك ومن شاء أسلم وليس للسيد الأول
الذي كان أسلمه في ذلك شيء، قال ابن القاسم: وإن لم يكن جرح ثالثا حتى قام
المجروح الثاني الذي لم يكن علم به فإنه يرجع في العبد بقدر جرحه ولا يكون
للسيد فيه افتكاك ما يصيب هذا الثاني من ذلك؛ لأنه لو مات العبد قبل أن
يقوم هذا بجرحه بطل جرحه إذا كان السيد لم يكن علم به، قال ابن القاسم ولو
كان علم به ثم أسلمه كله إلى الذي قام به دون العبد ثم مات العبد في يدي
المسلم إليه كان السيد ضامنا لجرح هذا المجروح؛ لأنه الذي أتلف حقه بإسلامه
العبد، قال أصبغ وكذلك قال عبد الله بن نافع وبه أقول.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة إن المجروح الذي لم يكن
علم به يرجع في العبد بقدر جرحه ثم يخيران جميعا في أن يفتكاه من الثالث أو
يسلماه إليه معارض لما تقدم من قول أصبغ قبل هذا في المدبر يجني على رجلين
موضحتين فيدفع السيد إلى أحدهما دية جرحه ولم يعلم بذلك صاحبه حتى مات سيده
إن ما وجب للذي لم يعلم به مما دفع السيد إلى المجروح يرجع إلى ورثة سيده،
ولا يكون للمجروح الذي لم يعلم به؛ لأنه إذا قال ابن القاسم في هذه المسألة
إن المجروح الذي لم يكن علم به يرجع في العبد بقدر جرحه فأحرى أن يقول في
مسألة المدبر إن المجروح الذي لم يكن علم به يرجع فيما دفع السيد إلى
المجروح الذي علم به فيأخذ منه نصفه على ما قلناه من أنه هو القياس والذي
يأتي في هذه المسألة على قياس ما قاله أصبغ في مسألة المدبر أن يرجع نصف
العبد إلى السيد؛ لأن المدفوع إليه إنما كان يجب له نصفه، ثم يقال للمدفوع
إليه العبد إن شئت فأسلم نصفه الذي بقي بيدك منه إلى الثالث في نصف جنايته،
أو أفده
(16/190)
بذلك، فإن أسلمه كان قد استوفى نصف جرحه
وبقي له نصف جرحه وبقي للذي لم يعلم به وبقي جرحه كاملا، فيخير السيد في
النصف الآخر بين أن يفتديه بجميع أرش الثاني وبين أن يسلمه إليهما فيكون
بينهما على قدر ذلك، للثاني ثلثاه وللثالث ثلثه إن كانت جراحهما مستوية؛
لأن الثالث قد استوفى نصف دية جرحه، وهذا هو قول سحنون في كتاب ابنه وقول
ابن المواز وقول ابن القاسم في هذه الرواية إنه إن لم يكن جرح ثالثا حتى
قام المجروح الثاني الذي لم يكن علم به يريد بعد أن أسلمه إلى الأول فإنه
يرجع في العبد بقدر جرحه ولا يكون للسيد فيه افتكاك ما يصيب هذا الثاني من
ذلك صحيح على قياس قوله إن نصف العبد لا يرجع إليه وأنه يكون للثالث، ويأتي
على قول سحنون وابن المواز أنه يكون مخيرا بين أن يسلم إليه نصفه أو يفتكه
منه بجميع جنايته، وأما إذا أسلمه كله إلى أحدهما وقد علم بجرح الآخر فمات
في يد المسلم إليه فقول ابن القاسم الذي تابعه عليه ابن نافع وقال به أصبغ
من أنه يضمن جرح المجروح لأنه الذي أتلف حقه بإسلامه العبد يدل على أنه قد
لزمته جنايته بإسلامه إليه وإن جاء الثاني والعبد قائم في يديه لم يفت لم
يكن له فيه شيء، وفي المجموعة لابن الماجشون مثل قول ابن نافع ولو كان من
حق الثاني إذا جاء بعد إسلامه إلى الأول وقد علم به أن يأخذ نصفه إن ألفاه
قائما بيده لوجب ألا يكون على السيد شيء إذا مات موته دون أن يقتله الذي
أسلمه إليه كما لو لم يسلمه ومات في يديه وإلا يكون عليه إذا قتله الذي
أسلم إليه إلا قيمة نصفه يوم أسلمه إليه.
[مسألة: العبد يجرح فلم يقم به حتى جرح فأخذ
السيد عقل جرحه ثم قيم به]
مسألة وسألت ابن القاسم عن العبد يجرح فلم يقم به حتى جرح فأخذ السيد عقل
جرحه ثم قيم به، فقال: السيد مخير، إن شاء فداه بعقل الجرح وإن شاء أسلمه
وما أخذ من جرحه، قال أصبغ: قلت له فإن جرح آخر بعد ما جرح وأخذ السيد عقل
جرحه وذلك قبل
(16/191)
أن يقوم به الأول؟ قال: السيد مخير إن شاء
أفتكه منهما بأرش جرحهما وإن شاء أسلم العبد إليهما وما أخذ من جرحه فيتحاص
فيه الأول والآخر جميعا في رقبته وفي ثمن جرحه جميعا؛ لأنه حكم وقع الساعة،
وقد كان يقول قبل ذلك إن الأرش للمجروح الأول خاصة، ويقتسمان العبد على قدر
جرحهما، قال أصبغ وأنا أرى أن يكون الأرش للأول وينظر كم هو من العبد إذا
اجتمعا، فإن كان سدسا فقد استوفى سدس جرحه، ويضرب بخمسة أسداسه في العبد
معيبا، والثاني بجرحه كله.
قال محمد بن رشد: أما إذا جرح العبد ثم جرح فأخذ السيد عقل جرحه ثم قام
عليه المجروح فلا اختلاف أحفظه في أن السيد مخير بين أن يفتكه بجنايته وبين
أن يسلمه وما أخذ من جنايته، وهذا بين إذا كانت الجناية عليه إنما فيها ما
نقص من قيمته مثل أن يقطع يده أو يفقأ عينه أو ما أشبه ذلك مما إنما فيه ما
نقص من قيمته، وأما إذا كانت الجناية عليه موضحة أو منقلة أو مأمومة
فالقياس أن يكون مخيرا بين أن يسلمه والأقل من ما نقصته الجناية من قيمته
أو مما أخذ فيها وبين أن يفتكه وما أخذ في جنايته بما جنى.
وأما إذا جنى العبد ثانية بعد أن يجنى عليه وأخذ السيد أرش ما جنى به عليه
ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها قول ابن القاسم الثاني الذي رجع إليه أن السيد
مخير بين أن يفتكه بأرش الجرحين جميعا وبين أن يسلمه وما أخذ من أرش جرحه،
ووجه هذا القول أن أرش الجناية عليه تجبر عيب نقصانه، فكأنه قائم على حاله
يخير بين أن يفتكه، وما أخذ من أرش الجناية عليه بالجنايتين، أو يسلمه وما
أخذ من أرش الجناية بالجنايتين، والثاني قول ابن القاسم الذي كان يقول به
ثم رجع عنه أن الأرش يكون للمجروح الأول خاصة، ويقتسمان العبد على قدر
جرحهما معناه إلا أن يفتكه السيد وأرش جرحه بالجنايتين جميعا، ووجه هذا
القول أن ما بقي من العبد بعد الجناية عليه
(16/192)
مرتهن بالجنايتين جميعا، فيكون بينهما إن
أسلمه السيد إليهما وأرش الجرح للأول قد استحقه بتقدم جنايته عليه والثالث
قول أصبغ إنه إن أسلمه السيد إليهما تحاصا فيه، الثاني بجميع جنايته،
والأول بقدر ما بقي من جنايته، إذ قد أخذ أرش ما نقصت الجناية منه، وهذا
قول ابن الماجشون، وإياه اختار ابن المواز، وهو أظهر الأقوال والله أعلم.
[مسألة: الفئتين يقع بينهما الجراحات]
مسألة قال أصبغ وسئل ابن القاسم عن الفئتين تأتيان القاضي كلتاهما مدعية
على صاحبتها جراحات بها ومنكرة لما بصاحبتها من الجراحات وهما مقرتان جميعا
بأصل النايرة بينهما، قال ابن القاسم: أرى كل واحدة منهما ضامنة لجراح
صاحبتها، قلت لابن القاسم: فإن كانت كل واحدة منهما مدعية على صاحبتها
الجراحات التي بها ولا يقران بأصل النايرة بينهما؟ قال: فإن قامت بينة على
نايرة بينهما ولم يشهدوا جراحات بعضها بعضا فأرى أن يحلف كل واحد منهما على
صاحبه إذا عرف أنه به، وأنه الذي جرحه ثم يستقيد منه، قال ابن القاسم: فإن
لم يعلم كل واحد منهما صاحبه تحالفوا على الجراحات أنها كانت من الفئة
المدعى عليهم وهم جرحوهم فإذا حلف كل الفريقين ضمن بعضهم جراحات بعض، فإن
لم تقم بينة بأصل نايرة ولا يقران بها بينهم إلا أن بعضهم يدعي على بعض أنه
جرحه من غير قتال كان بينهما أو أصل نايرة ويتبرأ كل واحد منهما من جارحات
صاحبه فلا أرى أن يعدى بعضهم على بعض حتى تقوم بينة على أصل النايرة أو
يتقاران بذلك، قلت فإن قال أحدهم جرحني صاحبي هذا ثلاث جراحات، وقال صاحبه
إنه إنما جرحته جرحتين ولم أجرحه الثالثة قال أرى أن يحلف على الجرح الثالث
(16/193)
بالله لجرحه إياه ثم يستقيد منها ثلاثتها،
وذلك أنه أقر بجراحه وأنه قاتله.
قال محمد بن رشد: قوله في الفئتين يقع بينهما الجراحات إنهما إذا أقرتا
بأصل النايرة بينهما أو قامت على ذلك بينة فإن لمن ادعى منهم أن يحلف على
من جرحه ويستقيد منه هو مثل ما تقدم في آخر رسم العقول والجبائر من سماع
أشهب وفي رسم البراءة مستوفى في رسم العقول والجبائر من سماع أشهب فلا معنى
لإعادته.
وأما قوله فإن لم يعلم كل واحد منهما صاحبه تحالفوا على الجراحات أنها كانت
من الفئة المدعى عليهم وهم جرحوهم فالمعنى فيه أن يحلف كل واحد من
المجروحين أن جرحه إنما كان من الفئة المنازعة لهم، وأنه لا يعرف من جرحه
منهم بعينه، فإذا حلف كل واحد منهم على ذلك من الطائفتين ضمنت كل طائفة
منهما جراحات الطائفة الأخرى على عددهم إن أقروا، وإن أنكروا فحلفوا كلهم
أو نكلوا عن اليمين وإن حلف بعضهم ونكل بعضهم عن اليمين برئ من حلف وكانت
ديات الجارحات على من نكل منهم إلا أن يكون الذي نكل منهم الواحد والاثنان
ومن لا عدد له ممن بدا أنه لا يشبه أن يختصوا هم بجراحاتهم دون من سواهم
ممن حلف، فتكون ديات الجراحات عليهم كلهم كما لو حلف جميعهم، هذا الذي يأتي
في هذه المسألة على أصولهم وقد مضى في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب
الديات وفي غيره من الأسمعة منه الحكم فيمن قتل بين الصفين، ومضى الكلام
على الكلام على ذلك مستوفى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم منه فلا معنى
لإعادته.
(16/194)
[مسألة: عبد
بين رجلين يجرحه عبد لأحدهما]
مسألة قال عيسى عن ابن القاسم في عبد بين رجلين يجرحه عبد لأحدهما: إن سيد
الجارح بالخيار إن شاء افتداه بنصف العقل وإن شاء أسلم العبد كله إلى
شريكه، قال أصبغ عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن العبد الجاني لما جنى على عبد
هو بين سيده وبين رجل آخر كانت نصف جنايته هدرا؛ لأنه لو جنى على عبد هو
كله لسيده لكانت جنايته كلها هدرا، فوجب لما جنى على عبد هو بين سيده وبين
رجل آخر أن يكون كله مرتهنا بنصف جنايته التي جناها على حظ شريك سيده من
العبد المجني عليه، فإن كانت جنايته عليه نقصت في التمثيل من قيمته أربعين
كان سيد العبد الجاني بالخيار بين أن يسلمه كله إلى شريكه في العبد المجني
عليه وبين أن يفتكه منها بعشرين التي نقصت جنايته عليه من حظه منه، ولو كان
العبد الذي بينهما هو الذي جنى على عبد لأحدهما لكان شريكه في العبد الجاني
مخيرا بين أن يسلم حظه منه إليه في نصف ما جنى على عبده وبين أن يفديه
بذلك، قاله ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وهو بين صحيح لا إشكال فيه
وبالله التوفيق.
[مسألة: عبدا بين رجلين جرح عبدا بين أحدهما
وبين أجنبي]
مسألة قال ابن القاسم: وكذلك لو أن عبدا بين رجلين جرح عبدا بين أحدهما
وبين أجنبي أنه يقال للذي له فيه النصف أفتك نصيبك منهما جميعا بنصف الجرح،
وإن شئت فأسلم نصيبك إليهما يقتسمانه، وإن شئت فأفتك من أحدهما نصيبه وأسلم
إلى الآخر ما يصيبه من نصيبك، وأما صاحب النصف الآخر الذي جرح هذا العبد
عبدا بينه وبين آخر فيقال جرحه نصيبك من العبد باطل كجرحه إياك لو جرحك،
وما لك جرحه بعضه بعضا فإن شئت فافتك نصيبك
(16/195)
من شريكك في العبد المجروح بنصف دية الجرح
أو أسلمه إليه كله ليس لك فيه شيء.
قال محمد بن رشد: هذا بين أيضا على ما قاله، ويزداد بيانا بالتنزيل، مثال
ذلك أن يكون عبد اسمه ميمون لزيد وعمر وبينهما بنصفين وقيمته عشرون، ويكون
لعمرو منهما عبد بينه وبين خالد رجل آخر اسمه موفق وقيمته أربعون، فيجني
ميمون على موفق جناية تنقص من قيمته ثلاثين، فإنه يقال لزيد منهما أفتك
نصيبك من ميمون بنصف جنايته التي جنى على موفق وهي خمسة عشر من سيديه جميعا
عمرو وخالد، فادفع إلى كل واحد منهما سبعة ونصفا أو أسلم نصيبك إليهما
فيكون بينهما بنصفين، وإن شئت أن تفتك نصف نصيبك ممن شئت منهما بسبعة ونصف
وتسلم إلى الآخر نصف نصيبك فذلك لك، ثم يقال لعمرو: والنصف الثاني من جناية
ميمون على موفق هدر لأن موفقا بينك وبين خالد، فالنصف الذي لك في ميمون
مرتهن كله بنصف جنايته على موفق وذلك سبعة ونصف، فإن شئت فأسلم النصف الذي
لك في ميمون إلى خالد في سبعة ونصف، وإن شئت فأفتكه بسبعة ونصف، وقد اختلف
بمن يبدأ به أولا منهما، فقال أشهب إنه يبدأ بالذي ليس له في المجروح حق،
وهو قول ابن القاسم. في هذه الرواية على ما نزلناه من البداية يريد الذي
ليس له في موفق شيء، ولابن القاسم في كتاب ابن المواز أنه يبدأ بالذي له
نصف العبد المجروح وهو عمرو على ما نزلناه فيخير أولا بين أن يسلم حظه من
ميمون إلى خالد بنصف ما جني على موفق، وذلك سبعة ونصف أو يفتكه بذلك، وذلك
يرجع إلى معنى واحد فلا وجه للاختلاف في ذلك.
[مسألة: الصبي الذي لم يثغر ينزع سنه خطأ]
مسألة قال عيسى: قال لي مالك في الصبي الذي لم يثغر ينزع سنه خطأ، قال: أرى
أن يؤخذ العقل كاملا فيوضع على يدي ثقة،
(16/196)
فإن عادت لهيئتها رد العقل إلى الجارح، وإن
هي لم تعد أعطى عقلها كاملا، فإن هلك قبل أن تنبت فالعقل كامل لورثته، وإن
نبتت أصغر من قدرها بالتي قلعت منه كان له من العقل قدر ما نقصت فإن نزعت
عمدا فإنه يوضع العقل أيضا ولا يعجل القود حتى يستبرى أمرها، فإن عادت
لهيئتها فلا عقل ولا قود، وإن لم تعد اقتص منه، وإن عادت أصغر من قدرها
أعطى عقل ما نقص، قال ابن القاسم وأرى في قياس قول مالك أنه إذا مات الصبي
ولم تعد اقتص منه وليس فيه عقل؛ لأنه إنما استؤني به النبات لرفع القود،
فإذا مات فهو بمنزلة ما لو لم ينبت.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم إذا مات الصبي قبل أن ينبت سنه إنه يقتص
منه وليس فيه عقل معناه أن الواجب في ذلك إنما هو القصاص لا العقل إلا أن
يتفقا فيه على شيء، والمسألة كلها صحيحة، وقد وقعت آخر كتاب الجراحات من
المدونة في بعض الروايات، وكذلك اللسان إذا قطع فنبت لا دية فيه في الخطأ
ولا قود في العمد، وذلك بخلاف سن الكبير تقلع فيردها فتنبت أو الأذن تقطع
فيردها صاحبها فتلتئم وتعود إلى هيئتها لا اختلاف في وجوب القصاص في ذلك
فيه في العمد ويختلف وجوب الدية فيهما في الخطأ على ثلاثة أقوال قد مضت في
رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد شاهد أنها موضحة وشهد آخر أنها
منقلة]
مسألة قيل لأصبغ ما تقول في رجل شج رجلا موضحة فلما برأت الشجة طلب صاحبها
عقلها فشهد شاهد أنها موضحة وشهد آخر أنها منقلة فأي الشاهدين يثبت؟ قال:
إن كانت الشجة لم تفت ببرء ولا زيادة ولا نقصان نظر إليها غيرهما من أهل
المعرفة والعدالة، فإن
(16/197)
فاتت عن ذلك كان للمجروح إن شاء حلف مع
شاهد المنقلة وكانت له دية المنقلة، وإن شاء فدية الموضحة بغير يمين؛ لأن
الموضحة قد اجتمعت عليها الشهادتان، ولأن المنقلة لا تكون منقلة حتى تكون
موضحة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن ذلك بمنزلة رجل يدعي على رجل
مائة فيشهد له شاهد بمائة وشاهد بخمسين أنه إن شاء أن يحلف مع الذي شهد له
بالمائة وإن شاء أن يأخذ الخمسين بغير يمين، بل هي أبين منها، فلا يدخل
فيها من الخلاف ما يدخل في الشاهد بالمائة والشاهد بالخمسين وبالله
التوفيق.
[مسألة: جرحا عبدا عمدا موضحتين قد شهد بذلك
شاهدان فمات ولم يدر من أيهما مات]
مسألة قيل لأصبغ فلو أن رجلين جرحا عبدا عمدا موضحتين قد شهد بذلك شاهدان
فمات ولم يدر من أيهما مات؟ قال: إن عرف الضارب الأول فالسيد بالخيار إن
شاء حلف عليه يمينا واحدة مع شاهديه أن من ضربته مات فأخذ منه قيمة عبده،
ويرجع الضارب الأول على الضارب الثاني فيأخذ منه نصف عشر قيمته وهو قيمة
الموضحة، وإن شاء رب العبد حلف على الثاني وأخذ منه قيمة عبده مغصوبا ويرجع
سيد العبد على الضارب الأول فيأخذ منه ما نقص العبد الجرح؛ لأنه إنما أخذ
من الثاني قيمته مغصوب، والأول قد جرحه موضحة فأخذ منه قيمتها، وإن كان
جرحاه في فور واحد ولم يدر الأول من الثاني فعلى كل واحد منهما نصف قيمته
بعد أن يحلف كل واحد منهما ما علم أنه الأول.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ إنه يحلف على من شاء منهما أنه مات من جرحه يبين
قول سحنون الذي تقدم في سماعه حسبما ذكرناه هناك،
(16/198)
وقوله إنهما إن كانا جرحاه في فور واحد لم
يدر الأول من الثاني فعلى كل واحد منهما نصف قيمته بعد أن يحلف كل واحد
منهما ما علم أنه الأول معناه وبعد يمينه هو أنه لم يمت إلا من جرحيها، فإن
لم يحلف لم يكن له إلا ديات المواضح، وقد مضى ذلك من قوله في صدر هذا
السماع مضى من قولنا هناك ما فيه بيان له، وقوله بعد أن يحلف كل واحد منهما
ما علم أنه الأول، يريد أو بعد أن ينكلا جميعا عن اليمين؛ لأن نكولهما
جميعا كحلفهما جميعا فإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين، نظر، فإن كان
يجب على الناكل عن اليمين بالمعرفة أنه هو الأول أو أنه هو الثاني أكثر من
نصف القيمة كان ذلك عليه.
[مسألة: عبدا جرح عبدا فأقام سيد العبد المجروح
شاهدا واحدا]
مسألة قال أصبغ لو أن عبدا جرح عبدا فأقام سيد العبد المجروح شاهدا واحدا:
إن سيده بالخيار إن شاء حلف مع شاهده وأخذ قيمة جرح عبده، وإن أراد القصاص
حلف العبد مع الشاهد واقتص.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على القول بوجوب القصاص في الجراح باليمين مع
الشاهد؛ لأن القصاص إنما هو حق للعبد فلذلك كانت اليمين في ذلك عليه، لا
على السيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي تقطع أنملته كيف تكون ديتها على
أهل الإبل]
مسألة قال أصبغ سئل ابن القاسم عن الذي تقطع أنملته كيف تكون ديتها على أهل
الإبل؟ فقال: أحب إلي أن يأتي بالعشرة من الإبل دية الأصبع كلها على
[أسنانها] ، يجبر على ذلك فيكون المقطوع شريكا له فيها بقدر ديته دية
الأنملة، ثم يقتسمان بعد أو يبيعان يجبر
(16/199)
على ذلك كما لو لم يكن عنده إبل، وكانت
عنده دنانير، وهو من أهل الإبل كان عليه أن يأتي بالإبل في الدية شاء أو
أبى.
قال محمد بن رشد: قوله أحب إلي أن يأتي بالعشرة من الإبل إلى آخر قوله يدل
على أن هذا هو اختياره مما قيل في ذلك، إذ قد قيل في ذلك بالقيمة لضرر
الشركة، وهو الذي يأتي على قولهم في الخلطاء يجب عليهم سن واحدة في الزكاة،
وعلى ما قاله مالك في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح يتزوج
بأرؤس ولا يبين حمران ولا سودان أن عليه نصف القيمتين يريد إذا كان رقيق
البلد الذي يتناكحون عليها حمرانا وسودانا وكان قد تزوج بعبد واحد أو
بثلاثة أعبد فتكون عليه القيمة في العبد الثالث حسبما مضى القول فيه هناك.
[مسألة: قطع يدا واحدة من عبد لرجل والعبد فاره
صناع]
مسألة قال أصبغ قال ابن القاسم فيمن قطع يدا واحدة من عبد لرجل والعبد فاره
صناع إنه يضمن قيمته ويعتق عليه.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه إذا قطع يديه جميعا أو يده الواحدة وهو
صناع أنه يضمن قيمته، واختلف في عتقه عليه، فقال في هذه الرواية إنه يعتق
عليه وهو مذهبه في المدونة؛ لأنه قال فيها إنما يعتق عليه إذا كان فسادا لا
منفعة معه فيه، وقال أصبغ عتقه استحسان، وقال ابن الماجشون لا يعتق عليه،
وأما إذا قطع يده الواحدة وهو غير صناع فلا يعتق عليه، واختلف فيما يلزمه
لسيده على ثلاثة أقوال قد تقدمت في رسم المكاتب من سماع يحيى وفي غير ما
موضع من هذا الديوان فلا معنى لإعادته ذلك.
[مسألة: عبد لرجل جرح رجلا جرحا خطأ فباعه سيده]
مسألة وسئل أصبغ عن عبد لرجل جرح رجلا جرحا خطأ فباعه سيده
(16/200)
قبل قيام المجروح، ثم جرح عند المشتري رجلا
آخر جرحا خطأ أيضا ثم قام المجروحان الأول والثاني، قال يبدأ بالبائع فيقال
له افتد من المجروح الأول الذي جنى عليه العبد وهو في ملكك وينفذ البيع
بينك وبين المشتري، فإن نفد البيع لم يكن للمبتاع عليه مقال ولا كلام ولا
قيمة عيب؛ لأن الجرح خطأ فليس فيه شيء ولا له عيب والاشتراء له لازم ثم
يقال للمشتري حينئذ إن شئت فافتك من المجني عليه الآخر عبدك، وإن شئت أسلمه
إليه، أنت مخير في ذلك بمنزلة عبد لك جنى جناية وليس فيه قبل ذلك جناية ولا
غيرها سواء، فإن أبى البائع الأول أن يفتك بدية الجناية قيل له فأسلم الثمن
كله، فإذا أسلمه فهو كإسلام العبد نفسه، ثم قيل للمجني عليه الأول إن شئت
فخذ الثمن بدية جرحك وسلم البيع للمبتاع، فإن فعل فهو سبيل ما وصفت لك في
افتكاك البائع بدية الجرح سواء، وإن أبى المجروح وقال لا أقبل الثمن قيل
للمشتري إن شئت فافد من المجني عليه آخرا والعبد عبدك؛ لأن ما جني العبد
وهو عندك فهو في ضمانك، وخذ الثمن كله وافيا وأسلم العبد إلى المجني عليه
أولا عند البائع، وإن شئت فافتد منهما جميعا بدية جرحيهما، ويكون لك الثمن
كله، والعبد أيضا أي ذلك شئت أن تفعل من هذا فهو لك وإن أبى المشتري أن
يفتدي منهما ويسلم له العبد والثمن أو من الآخر الذي جنى عليه وهو عنده
ويسلم له الثمن وافيا ويسلم العبد إلى المجروح الأول عن البائع نظر إلى
قيمة العبد صحيحا وقيمته وقد جنى الجناية التي جنى عند المشتري، فينظركم
بين ذلك؟ فما فضل من قيمة العبد عن دية الجرح كان للمشتري من الثمن بقدره،
وذلك أن الجرح الذي جرح العبد آخرا هو له ضامن فهو عليه، والباقي إنما خرج
من يديه من العبد باستحقاق الجرح
(16/201)
الأول، فهو يرجع به في الثمن، وليس له عليه
تمام ما بقي من الثمن عما فضل من قيمة العبد صحيحا وقيمته وقد جرح عند
المشتري وهو والعبد نفسه بين المجني عليهما جميعا يقتسمانه بينهما جميعا
على قيمة العبد صحيحا وقيمته وفيه جناية على قدر جنايتهما، فيضرب فيه
المجني عليه أولا عند البائع بقيمته صحيحا لأنه جرحه وليس لأحد فيه قبله
جرح، ويضرب بالثاني بقيمته وقد جرح جرحا قبله على جراحهما ومبلغ ذلك، فعلى
هذا يكون إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: وقع في سياقة هذه المسألة تطويل وتكرير وتقديم وتأخير،
وتلخيصها أن البائع يخير فإن أفتكه بالجناية التي جنى عنده أو أسلم الثمن
فرضي به المجني عليه في جنايته لزم المبتاع الشراء ولم يكن له فيه كلام،
وكان بالخيار فيما جنى عنده بين أن يفتكه أو يسلمه، فإن أبى البائع أن
يفتديه وأسلم الثمن فلم يرض به المجني عليه رجع الخيار إلى المشتري فكان
بالخيار بين أن يفتكه بالجنايتين جميعا ويكون له العبد والثمن وبين أن
يفتكه بأحد الجنايتين ويسلم العبد في الجناية الأخرى فيسلم له الثمن وإن
كان لم يتكلم في الرواية إلا على الوجه الواحد وهو أن يفتكه من الذي جنى
عليه وهو عنده ويدفع العبد في الجناية الأولى، فإن أبى المشتري من ذلك كله
كان ما ذكر له في الرواية من قوله إنه ينظر إلى قيمة العبد صحيحا وقيمته
وقد جنى إلى آخر قوله، وهو كلام فيه التباين، ومعنى ما ذهب إليه فيه أن
المبتاع يرجع على البائع من الثمن بالزائد على ما نقصت العبد الجناية عنده؛
لأن ما نقصته الجناية عنده ضمانه منه، فلا رجوع له به على البائع فيسلم إلى
المجني عليهما العبد لأنه مرتهن بالجناية التي جناها عنده وما رجع به على
البائع لأن ذلك مرتهن أيضا بالجناية التي جناها عند البائع، فيكون
(16/202)
ذلك كله بينهما على ما ذكر، ووجه العمل في
ذلك [أن يقال كم قيمة العبد سالما من الجنايتين فيقال مائة، ثم يقال كم
قيمته بالجناية التي جناها عند البائع؟ فيقال ثمانون، فالذي بين القيمتين
على هذا من القيمة الأعلى هو الخمس الذي ضمانه من المبتاع، لا رجوع له بما
نابه من الثمن، ويرجع عليه بأربعة أخماس الثمن، فيكون ذلك مع العبد بين
المجني عليهما، ولو لم تكن له قيمة بالجناية أصلا لما وجب أن يرجع على
البائع بشيء ولو كان العبد وحده بين المجني عليهما جميعا، فهذا بيان هذه
المسألة وبالله التوفيق.
تم كتاب الجنايات الثاني بحمد الله.
(16/203)
|