البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [كتاب الجامع التاسع] [المفتين من التابعين في المدينة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتاب الجامع التاسع من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب أوله أوصى أن ينفق على أمهات أولاده في المفتين من التابعين في المدينة وسمعته يذكر عن مالك أنه كان بهذا البلد، يعني المدينة، أربعة عشر من تابعي أصحاب رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفتون في هذا الشأن. فقيل لابن القاسم: أتسميهم؟ فقال: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وهذان إماما الناس من التابعين، وقد اختلف الناس في أعلمهما: فأما ربيعة، وعبد العزيز بن أبي سلمة، ومن أخذ بناحيتهما وأهل الكوفة فكانوا يقولون سليمان أفقههما، وأما مالك بن أنس ومن أخذ بناحيته فيقولون سعيد. ثم ذكر ابن القاسم سليمان قال كان أعلم بالحلال والحرام، قال ولم يأت أحد من التابعين من الأحاديث والسنن بمثل ما جاء به سعيد وعبيد الله بن عبد الله. ثم عدد القاسم، وسالما، وعروة بن الزبير، وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ومحمد بن علي بن حسين، وخارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة. قال والصنف الآخر من التابعين في العبادة بشر بن سعيد، وكان يجالس عمر بن

(18/455)


الخطاب، وعطاء بن يسار، وتلك الطبقة. ثم كان من تابعي هؤلاء الأربعة عشر صفوان بن سليم، وأبو حازم بن دينار، وابن المنكدر. قال وكان من تابعي الأولين في العلم ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وابن هرمز، وأبو الزناد، وتلك الطبقة، إلا أن ربيعة كان تابعا [لبعض] أصحاب النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أدرك أنس بن مالك وسمع منه، وأبو حازم قد أدرك بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال محمد بن رشد: كذا وقع عن بشر بن سعيد أنه كان يجالس عمر بن الخطاب، وفي بعض الكتب أنه كان يجالس عبد الله بن عمر، وهو الصواب، لأنه لم يدرك عمر بن الخطاب. وذكر مالك أن المفتين من التابعين، يريد من كبار التابعين، أربعة عشر، سمى منهم ابن القاسم ثلاثة عشر رجلا، اشتهر منهم بالعبادة بشر بن سعيد، وعطاء بن يسار. والرابع عشر أراد، والله أعلم، أنه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، لأنه ذكر أنه تابع للأولين في العلم، ومن التابعين لأنه أدرك أنس بن مالك، وبالله التوفيق.

[ما يذكر من نجابة عمر بن عبد العزيز]
فيما يذكر من نجابة عمر بن عبد العزيز وسمعت ابن القاسم يذكر عن حفص بن عمر أن عمر بن عبد العزيز كان يؤتى به إلى عبد الله بن عمر وهو صغير، قال ابن القاسم: ابن خمس سنين ونحو ذلك بعدما عقل، قال فيدعو له ويمسح على رأسه فيرجع إلى أمه فيقول لها: يا أمه إني أحب أن أشبه خالي، فتقول له يا بني، أنى لك أن تشبه عبد الله بن عمر.

(18/456)


قال محمد بن رشد: كان عبد الله بن عمر من أخوال عمر بن عبد العزيز، لأن أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب الذي نازعت جدته في حضانته عمر بن الخطاب على ما جاء من أنه وجده يلعب بفناء المسجد فأخذه بعضده فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه حتى أتيا أبا بكر الصديق، فقال عمر: ابني، وقالت المرأة: ابني، فقال أبو بكرالصديق: خل بينها وبينه. قال: فما راجعه عمر الكلام. وهذا أصل في أن الجدة للأم أحق بالحضانة من الأب، وبالله التوفيق.

[ما يحكى من فضائل عبد الله بن عمر]
فيما يحكى من فضائل عبد الله بن عمر قال وذكر عن حفص أيضا أن عبد الله بن عمر كان له غلام، قال قد سماه، وبرذون يحتطب عليه ويستقي عليه الماء، ويركبه عبد الله بن عمر في حاجة إن نابته. قال فدخل على الغلام يوما فقال يا فلان كيف أصبحت؟ قال أصبح الناس كلهم بخير إلا أنا وأنت وهذا البرذون، قال فقال: اذهب فأنت حر فأعتقه.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما جاء عنه من أنه كاتب غلاما له يقال له يربى بأربعين ألف درهم، فخرج إلى الكوفة، فكان يعمل على حمر له حتى أدى خمسة عشر ألفا، فجاءه إنسان فقال له: أمجنون أنت؟ أنت ها هنا تعذب نفسك وعبد الله بن عمر يشتري الرقيق يمينا وشمالا ويعتقهم. ارجع إليه فقل قد عجزت. فجاء إليه بصحيفته فقال: يا أبا عبد الرحمن قد عجزت، فهذه صحيفتي امحها. فقال لا والله، ولكن امحها أنت إن شئت، فمحاها ففاضت عين عبد الله بن عمر ثم قال: اذهب فأنت حر. فقال:

(18/457)


أصلحك الله، أحسن إلى ابني، فقال: هما حران، فقال: أصلحك الله، أحسن إلى أمي ولدي، قال هما حرتان، فأعتقهم خمستهم جميعا في مقعده. وقعت هذه الحكاية عنه في المكاتب من المدونة. ويروى أنه انتهى عدد من أعتق من العبيد ألف رأس، وأنه حبس ألف فرس، واعتمر ألف عمرة، وحج ستين حجة، وأفتى الناس ستين سنة. وقد مضى في سماع ابن القاسم أنه عاش سبعا وثمانين سنة، رحمة الله عليه ورضوانه.

[خير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم]
في خير الأمة بعد النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وسألت مالكا عن خير هذه الأمة بعد نبيها، فقال: أبو بكر، أو في ذلك شك؟ قد أمره رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلاة ومعه غيره، وأمره على الحج ومعه غيره. قال: وسألت مالكا مخليا أنا وابن وهب عن التفضيل بين علي وعثمان، فقال: ما أدركت أحدا ممن أقتدي به إلا يكف عن ذلك، يريد التفضيل بينهما. فقلت لمالك: فأبو بكر وعمر؟ قال ليس في ذينك شك، يريد ليس في تفضيلهما على جميع أصحاب النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس بعد رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شك.
قال محمد بن رشد: الذي عليه أهل الخير والدين والفضل أن أفضل الناس بعد النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب، بدليل اجتماع أهل الشورى على تقديم عثمان على علي في الخلافة، وهو مذهب مالك على ما روي عنه في ذلك أيضا، خلاف ما تدل عليه هذه الرواية من أن مذهبه التوقيف عن التفضيل بين عثمان وعلي، وليس ذلك بصريح، إذ لم ينص على

(18/458)


أنه يعتقد ما حكاه عمن أدرك ممن يقتدى به من الكف عن التفضيل بينهما. فيحتمل أن يكون حكى ذلك عمن أدرك ممن يقتدي به في الرواية، وهو يعتقد تفضيل عثمان على علي بما بان له بقول من يقتدي به في العلم، أو لما بلغه عمن لم يدرك ممن هو أرفع مرتبة ممن أدرك. وقد وقعت هذه الحكاية في كتاب الديات من المدونة بخلاف هذا اللفظ، ونصه: قال ابن القاسم فقلت لمالك: فعلي وعثمان أيهما أفضل؟ فقال: ما أدركت أحدا ممن أقتدي به يفضل أحدهما على صاحبه، يعني عليا وعثمان، ويرى الكف عنهما، وفي بعض الروايات: ورأيته يرى الكف عنهما. فقوله ويرى الكف عنهما يحتمل أن يكون من قول مالك حكاية عمن أدركه ممن يقتدي به، ويحتمل أن يكون من قول ابن القاسم حكاية عن مالك. فإن كان من قول مالك حكاية عمن أدرك ممن يقتدي به فهو مثل ما في هذه الحكاية من قوله ما أدركت أحدا ممن أقتدي به إلا يكف عن التفضيل بينهما، وقد مضى الكلام على ذلك، [وإن كان] من قول ابن القاسم حكاية عن مالك فهو نص منه في التوقف عن التفضيل بينهما على ما حكاه عمن أدرك ممن يقتدي به، بخلاف المروي عنه من تفضيل عثمان على علي. فإن كان اختلف قوله في ذلك فقد قيل إن القول الذي رجع إليه هو تفضيل عثمان على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وليس في التوقف عن التفضيل بينهما شيء من الطعن على واحد منهما، وإنما هو إقرار لهما بالفضل جميعا.
ثم الفضل بعد هؤلاء الأربعة لبقية العشرة: الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكلهم بدريون. ثم التقدم بعد هؤلاء العشرة لبقية أهل بدر؛ ثم أهل بيعة الرضوان، وهم أصحاب الشجرة الذين قال الله عز وجل فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]

(18/459)


الآية، وكان فيهم أيضا ممن شهد بدرا خلق كثير، ثم جملة المهاجرين الأولين، ثم الأنصار. ومنهم من اتفق له هذه المواطن كلها، ومنهم من نال بعضها، ثم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، لقول الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] . ولا اختلاف في أن أمة النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل الأمم، قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي خيارا عدولا، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] يريد يوم القيامة. كما أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل الأنبياء والرسل وخاتم النبيين وسيد المرسلين، ورسول رب العالمين المبعوث إلى الخلق أجمعين. وقد مضى الكلام على هذا في رسم سن من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

[وطء المرأة في غير مخرج الولد]
في وطء المرأة في غير مخرج الولد
قال وسألت مالكا عن وهاطء في وهدبر مخليا، فقوه عهوه هوبوس بل حندل، وعه كن وهكا وهبورد، قال مالك وما أدركت أحدا ممن أقتدي به يشك فيه. قال مالك حدثني ربيعة بن أبي

(18/460)


عبد الرحمن عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عنه فقال لا بأس به. قال ابن القاسم: والمدنيون يذكرون الرخصة فيه عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن القاسم: فيما أعلم، وتلا هذه الآية: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 166] . قال مالك: أو في ذلك شك؟ أو ما تقرأ قول الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] . قال: أي شيء أبين من هذا؟ وقال ابن القاسم أيضا قال الله عز وجل: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37] وقوله: {أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أنى وأين واحد، كأنه تأول ذلك على أنه أين شئتم. ومثل ذلك {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37] من أين لك هذا. قال ابن القاسم: إلا أني لا أحب أن لي ملء هذا، يعني المسجد الأعظم، وأني أفعله، قال: وما آمر به، وقد جاءني غير واحد يستشيرني في ذلك فأمرته ألا يفعل، إلا أن العلماء يتكلمون في ذلك فما أخبرك وأخبرني مطرف عن مالك في الوطء في اهدبر ونل هوغسن حهيل وهوون ينزه، وقال تكلمنا لئلا نحرم ما ليس بحرام. قال: وقال لي مالك: وليس هذا بكلام يتكلم به عند كل من جاء.
قال محمد بن رشد: سأل ابن القاسم مالكا في هذه الرواية عن الوطء في الدبر مخليا، فقال: حلال لا بأس به عنده أحل من الماء البارد، ثم مشى في الكلام إلى أن قال: وقَوْله تَعَالَى {أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أنى وأين

(18/461)


واحد. ثم قال في آخر المسألة: وأخبرني مطرف عن مالك في الوطء في الدبر أنه لا غسل عليه إلا أن ينزل، فكتب ذلك كله في الكتاب على ما كتبه مصحفا معمى بقلب الأحرف، جعل الألف مكان الواو، والواو مكان الألف حيث وقع من الكلام، وفعل ذلك في الهاء واللام، وفي العين والحاء، وفي الكاف والميم، وأبقى سائر الحروف على حالها. فإذا تدبرت التعمية التي وقعت في الرواية على هذا الذي ذكرته أتى لك الكلام على ما حكيت، وفعل ذلك لئلا يقرأه كل أحد فيستبيحه الناس وليس بأمر متفق عليه، قد حرمه جماعة من العلماء، منهم الليث بن سعد، فإنه كان يرى إحلال هذه المسألة حراما، ومنهم ابن وهب فإنه قال كل من أتى امرأة في غير مخرج الولد ومن حيث تكون الحيضة فهو ملعون عند الله عز وجل. وإنما قال ذلك، والله أعلم، لما روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في محاشهن، ملعون من أتى النساء في غير مخارج الأولاد» إلا أنه حديث ليس من صحيح الحديث. وقد اختلف في ذلك قول مالك، فروي أنه قيل له حمل عنك أنك تبيح ذلك، فقال كذب علي من قاله، أما تسمع الله تبارك وتعالى يقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] هل يكون الحرث إلا في موضع الزرع، لا يكون الوطء إلا في موضع الولد. وهذا القول أصح في النظر، لأنه إذا لم يجز الوطء في الفرج في حال الحيض من أجل الأذى بنص قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]

(18/462)


وجب أن لا يجوز الوطء في الدبر من أجل ما فيه من الأذى الذي هو بمنزلة دم الحيض أو أشد منه. وعلى قياس هذا القول تأتي رواية مطرف عن مالك أن الغسل لا يجب في ذلك إلا بالإنزال. والذي يأتي على قياس إباحة ذلك أن يجب الغسل فيه وإن لم ينزل إذا جاوز الختان الشرج، وعليه يأتي ما وقع في كتاب الإيلاء من المدونة من أن المولي يكون فايئا بالوطء في الدبر ويسقط عنه به الإيلاء. وللخلاف الحاصل في هذه المسألة قال مالك في هذه الرواية: وليس هذا بكلام يتكلم به عند كل من جاء. والذي خشي مالك من هذا أن يسمع قوله بتحليل ذلك فيشيع في الناس فيستبيحه العوام دون امتثال ما يلزم كل واحد منهم في ذلك من تقليد من يستفتيه. وإذا استفتى فقد يستفتي من يرى خلاف مذهبه في ذلك فيكون أخذه بمذهبه أخلص له، لأن ما اختلف العلماء في تحليله وتحريمه فالأخذ بتحريمه أحوط، لأنه من المتشابه الذي قال النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى المشتبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» الحديث. وقد مضى في رسم التسليف في الحيوان والطعام المضمون من سماع ابن القاسم الكلام على معنى قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] وبالله التوفيق.

[شراء الماء وحكمه]
ومن كتاب أوله إن خرجت قال: ولا بأس باشتراء الماء إذا منعته ولم تقو عليه، فقلت إنهم يبيعونه منا على سقي دواب مسماة بدرهم، ومن الدواب ما يشرب الكثير ومنها ما يشرب القليل ومنها ما لا يشرب شيئا، فقال لا

(18/463)


بأس بذلك على وجه الضرورة.
قال محمد بن رشد: قوله لا بأس باشتراء الماء إذا منعته ولم تقو عليه، معناه لا بأس على البائع في بيعه، إذ له أن يمنعه ولا يمكن منه أحدا إلا بثمن، وذلك في مثل [الشراء] من البئر أو العين تكون في داره أو في جنانه الذي قد حظر عليه، لأن من حقه ألا يدخل أحد في داره أو في جنانه لاستقاء الماء منه إلا بإذنه، كان ذلك فيه فضل عن حاجته أو لم يكن. وأما إن كانت البئر والعين في أرضه التي لا ضرر عليه في الدخول فيها لاستقاء الماء منها فاختلف فيما يفضل من ماء ذلك عن حاجته هل له أن يبيعه أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها أن له أن يبيعه وأن يمنعه إلا بثمن، وجد له ثمنا عند سواه أو لم يجده، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية والمشهور في المذهب، وقيل ليس له أن يمنعه إلا أن يجد له ثمنا عند سواه، فإن لم يجد له ثمنا عند سواه لم يكن له أن يحبسه عنه وهو لا يحتاج إليه، والثالث أن ليس له أن يبيعه ولا أن يمنعه إذا لم يحتج إليه وإن وجد له ثمنا، وإلى هذا ذهب يحيى بن يحيى على ظاهر قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يمنع فضل بئر ولا يمنع رهو ماء، فقال: أربع لا أرى أن يمنعن: الماء، والنار، والحطب، والكلأ. وقد مضى هذا والقول فيه في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب السداد والأنهار.

(18/464)


وفي قوله في بيع الماء على سقي دواب مسماة إن ذلك لا بأس به على وجه الضرورة وإن كان منها ما يشرب القليل ومنها ما يشرب الكثير ومنها ما لا يشرب شيئا، يريد بالضرورة المشقة التي تلحق المتبايعين في اشترائه على الكيل، فأجيز ذلك لهذه الضرورة كما أجيز شراء الصبرة من الطعام جزافا لمؤنة الكيل ومشقته، لأن الغرر في ذلك يسير، إذ لا تسلم البيوع من يسير الغرر. ولو اشترى منه سقية دابة واحدة وهما لا يدريان هل تحتاج إلى الشرب أم لا لما جاز لكثرة الغرر في ذلك. ونظير هذا إجازة شراء لبن الشياه العدد الشهر والشهرين جزافا، بخلاف شراء لبن الشاة الواحدة جزافا الشهر والشهرين، وبالله التوفيق، لا شريك له.

[طعام الفجأة]
ومن كتاب النسمة وسئل ابن القاسم وابن وهب عن طعام الفجأة هل بلغك فيه شيء، يغشى الرجل القوم وهم يأكلون فيدعونه هل يأتيهم؟ فقالا: حسن جميل أن يجيبهم إذا دعوه، وإن غشيهم ولم يدعوه فلا يأكل لهم شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا مما ينبغي للرجل أن يعمل فيه بما يظهر إليه من حال الذين غشيهم يأكلون فدعوه للأكل معهم، إن ظهر منهم إليه استبشارهم بقدومه عليهم وسرورهم بأكله معهم استحب له أن يجيبهم إذا دعوه، وإن ظهر إليه منهم أنهم كرهوا غشيانه إياهم يأكلون وهم إنما دعوه استحياء منهم كره له أن يجيبهم، وإن لم يتبين له منهم أحد الوجهين كان له جائزا أن يجيبهم من غير استحباب ولا كراهة، وبالله التوفيق.

(18/465)


[التاريخ من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة]
ومن كتاب أوله إن أمكنتني من حلق رأسك
وقال مالك إنما التاريخ من مقدم رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن التاريخ إنما هو من مقدم النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وهو تاريخ الهجرة. وكان قدومه المدينة ضحى يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل يوم الإثنين الثامن من شهر ربيع الأول. وولد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفيل يوم الإثنين لثمان خلت من ربيع الأول، وبعث أيضا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الإثنين لثمان أيضا خلت من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل، فكان بين مولده إلى أن بعثه الله أربعون سنة [تامة، ومن مبعثه إلى أول المحرم من السنة التي هاجر فيها اثنتا عشرة سنة] وتسعة أشهر وعشرون يوما، ذكر ذلك الخوارزمي. وروي عن ابن عباس أنه قال: ولد نبيكم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الإثنين، وخرج من مكة يوم الإثنين، ودخل المدينة يوم الإثنين، وكانت بدر يوم الإثنين، وتوفي يوم الإثنين. وقال ابن عبد البر: الأكثر على أن وقعة بدر كانت يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من رمضان، وما رأيت من ذكر أنها كانت يوم الإثنين إلا في هذا الخبر من رواية ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران، عن حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس، وبالله التوفيق.

[إيمان الكافر وتوبة المسلم]
في إيمان الكافر وتوبة المسلم قال ابن القاسم: تذاكرنا مع عبد الرحمن بن خالد إيمان

(18/466)


الكافر ورجوعه إلى الإسلام، وما ذكر الله عز وجل في كتابه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وذكرنا ذنوب أهل الإسلام فقال: إني لأرجو أن يكون أهل الإسلام أفضل حالا في هذا من أهل الكفر، ولقد بلغني أنه يقال إن توبة المسلم كالإسلام بعد الإسلام.
قال محمد بن رشد: المعنى في قول عبد الرحمن بن خالد إني لأرجو أن يكون أهل الإسلام أفضل حالا في هذا من أهل الكفر بين، لأن الكافر يغفر له بإسلامه ما سلف من آثامه، فيكون كمن ولد حينئذ لا حسنة له ولا سيئة عليه، والمؤمن إذا تاب تغفر له ذنوبه التي سلفت وآثامه، وتبقى له حسناته. وإنما قال أرجو ذلك ولم يطلق القول بأنه أفضل منه دون أن يقيده بالشك والرجاء من أجل أن من الذنوب ما لا تكفرها التوبة، وهي ما كان منها يتعلق به حق بمخلوق، لأن الظلامات لا تصح التوبة منها إلا بردها إلى أربابها أو تحللهم منها، فلا يدري التائب إذا كانت عليه ظلامات هل تفي بها حسناته أم لا، فإن وفت بها دون زيادة ولا نقصان كانت حاله في توبته كحال الكافر في إسلامه، وإن وفت بها وزادت عليها كانت حاله أفضل من حال الكافر في إسلامه، وإن لم تف بها كانت حال الكافر في إسلامه أفضل من حاله، لأن الكافر إذا أسلم يسقط عنه بإسلامه جميع الآثام والتباعات، ويحتمل أن يكون إنما علق ذلك بالرجاء ولم يطلق القول بأن حال المسلم إذا تاب أفضل من حال الكافر إذا أسلم من أجل أنه قيل إن قبول الله عز وجل لتوبة التائب من عباده لا يقطع بها في حق كل تائب، لاحتمال أن لا يكون قول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] عاما في كل تائب، ويكون معناه فيمن سبق له من الله أنه يقبل توبته. وعلى هذا ينبغي للعبد إذا تاب أن يرغب

(18/467)


إلى الله عز وجل في قبول توبته. والذي عليه الجمهور أن الآية على عمومها في قبول الله عز وجل توبة كل تائب، وكذا سائر الآيات الواردة في هذا محمولة على عمومها في حق كل تائب، منها قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم: 8] ، وعسى من الله عز وجل واجبة، قال الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25] . والتوبة النصوح هي أن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه، قاله عمر بن الخطاب. وقد روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الندم توبة» وأنه قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» . وروي عن الشعبي أنه قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ثم تلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] . فإذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب، فإذا تاب الرجل من الذنب فإن ندم عليه ونوى ألا يعود إليه بنية صحيحة ثم لم يعد إليه كان قد تاب توبة نصوحا، فاستوجب بذلك ما وعده الله به من الغفران وإدخال الجنة. وإذا تاب من الذنب بأن ندم عليه ونوى بنية صحيحة أن لا يعود إليه غفر له ذنبه الذي تاب منه، فإن عاد إليه لم تكن توبة نصوحا، فحصل له بذلك الوعد بتكفير إثم الذنب الذي تاب منه، ولم يحصل له الوعد منه تعالى بدخول الجنة وكان في المشيئة، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.
وقد روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من استغفر من ذنبه غفر الله له ما لم يعد إليه» ومعنى هذا، والله أعلم، إذا استغفر الله منه ولم يتب منه بالندم عليه والعزم على ألا يعود إليه، وبالله التوفيق.

(18/468)


[الاستيناس ما هو]
ومن كتاب أوله باع شاة
وسألته عن الاستيناس ما هو؟ فقال: التسليم. قلت: فالرجل يؤذن له في مثل دار فيدخل في الدار بإذن، فإذا جاء إلى باب البيت أترى أن يستأذن؟ قال: ليس ذلك عليه إذا أُذن له مرة، وقال الاستيذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع. قلت: ما هذا؟ قال: تسلم ثلاث مرات فإن أذن لك وإلا فانصرف.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية إن الاستيناس هو السلام بعيد، لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] فلو كان الاستيناس هو التسليم لكان معنى الكلام حتى تسلموا وتسلموا، وذلك لا يصح. وقد روى ابن وهب عن مالك أن الاستيناس هو الاستئذان، وهو الصحيح الذي ذهب إليه أكثر المفسرين، أن معنى حتى تستأنسوا حتى تستأذنوا، وقالوا إنما تستأنسوا وهم من الكاتب على ما جاء عن ابن عباس من أنه قال: إنما هو حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها، وغلط الكاتب. واستدلوا على ذلك بقراءة أبي بن كعب وابن عباس والأعمش (حتى تستأذنوا) . وقال جماعة منهم أيضا إن المعنى حتى تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح [والتنخم] وما أشبه ذلك حتى يعلموا أنكم تريدون الدخول عليهم. وقال أبو جعفر الطبري: الذي أراه، والله أعلم، أن الاستيناس استفعال من الأنس، وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم مختبرا بذلك من فيه وهل فيه أحد، وليؤذنهم أنه داخل عليهم فيأنس إلى إذنهم له في ذلك، ويأنسوا إلى استئذانه إياهم. وقد

(18/469)


حكي عن العرب سماعا: اذهب فاستأنس هل ترى أحدا في الدار. وقال الفراء والكسائي: في الكلام تقديم وتأخير، معناه حتى تسلموا وتستأذنوا، وهو أن يقول السلام عليكم أدخل؟ وقال حتى تستأنسوا أي تستأذنوا وتعلموا من في الدار هل هو ممن يجوز أن يدخل عليه أم لا، من قول العرب اذهب فاستأنس هل ترى من أحد.
قال محمد بن رشد: وإنما قال الفراء والكسائي إن في الكلام تقديما وتأخيرا لما روي عن ابن عباس من أنه كان يقرؤها كما كان أبي ابن كعب وابن مسعود يقرآنها: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا، وليس تقديم السلام على الاستئذان على ما جاء في هذه القراءة بالذي توجبه البداية بالتسليم قبل الاستئذان كما قالا من أنه يقول السلام عليكم أدخل؟ لأن الواو لا توجب الرتبة، وإذا لم توجب رتبة فالبداية بما بدأ الله به من السلام أو الاستئذان إنما هو استحسان، لقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحج: «نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا» . وقد اختلفت الروايات في صفة استئذان أبي موسى الأشعري على عمر بن الخطاب، فروي أنه قال: السلام عليكم أأدخل، السلام عليكم أأدخل، السلام عليكم أأدخل؟ وروي أنه قال: يستأذن أبو موسى، يستأذن أبو موسى، يستأذن عبد الله بن قيس. وإذا كان قد قرئ حتى تستأذنوا وتسلموا، وحتى تسلموا وتستأذنوا، وكان الثابت بين اللوحين الذي يقطع أنه قرآن {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} [النور: 27] وكان معنى حتى تستأنسوا حتى تستأذنوا على ما روى ابن وهب عن مالك وقال إنه قول أكثر أهل التفسير، كان الصواب أن يقدم الاستئذان، فإن أذن له في الدخول سلم على من في البيت ودخل، لأنه قبل أن يؤذن له لا يدري على من يسلم، وقد لا يكون في البيت أحد يسلم عليه، لا كما قال في الرواية من أن معنى ما جاء في الحديث من أن الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع، هو أن يسلم

(18/470)


ثلاث مرات فإن أذن لك وإلا انصرفت. وقد روي عن ابن عباس «أن عمر قال: أتيت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في مشربة له فقلت السلام عليك يا رسول الله أيدخل عمر؟» . وروي أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تأذنوا لمن لم يبدأ بالسلام» . ففي هذا الحديث البداية بالسلام قبل الاستئذان، فيحمل على أن المعنى فيه إذا وقف على باب البيت فعلم من فيه ممن يصلح له الدخول عليه. وأما إذا وقف على الباب فلم يعلم من في البيت ولا هل فيه من يصلح له الدخول عليه أم لا، ولا هل فيه أحد أم لا، فالبداية بالاستيناس، وهو الاستئذان، على ما روى ابن وهب عن مالك أظهر وأولى على ما ذكرناه، وبالله التوفيق. لا شريك له.

[بشر بن سعيد وبعض فضائله]
من سماع من كتاب أوله نقدها نقدها وسمعته يقول كان بشر بن سعيد رأس العُبَّاد، كما كان سعيد بن المسيب رأس الفقهاء. قال وكذلك كنت أسمع.
قال محمد بن رشد: قد مضى ذكر فقهاء المدينة وعبادهم في أول رسم أوصى فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.

[تسري عَبِيد عبد الله بن عمر في أموالهم]
في تسري عَبِيد عبد الله بن عمر في أموالهم
قال ابن القاسم: حدثني عبد الله بن عمر عن نافع قال: كان عَبِيدُ عَبدِ الله بن عمر يتسرون من أموالهم ولا يستأذنونه. قال وسألنا مالكا عن ذلك فقال مثله.

(18/471)


قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب النكاح الأول من المدونة. ومعنى ذلك أنه كان قد أذن لهم في التجارة، لأن العبد المحجور عليه لا يجوز له بيع ولا شراء إلا بإذن سيده. وفي هذا دليل على أن العبد يملك، على ما قاله مالك وذهب إليه، خلاف ما ذهب إليه من خالفه في ذلك من فقهاء الأمصار، إذ لو لم يملك وكان ماله لسيده لما حل له أن يتسرى فيه، إذ لم يبح الله الوطء إلا بنكاح أو ملك يمين فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] وبالله التوفيق.

[وصية القاسم بن محمد لعمر بن عبد العزيز]
في وصية القاسم بن محمد لعمر بن عبد العزيز وما قاله له فيما عرض عليه
وسمعته يذكر عن مالك قال: التقى عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد في حج أو عمرة، فقال له أوصني، فقال له القاسم: عليك بالصبر في مواضع الصبر، فقال له عمر بن عبد العزيز: إن معنا فضلا من أزواد وأمتعة، أفلا نأمر لك بها؟ فقال له القاسم: إني امرؤ لا أرزأ أحدا شيئا.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والقول عليه في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادة القول فيه، وبالله التوفيق.

[كراهة الأخذ بالرخص]
في كراهة الأخذ بالرخص وسمعته يحدث عن بعض الحكماء أنه قال: لو كانت لي

(18/472)


نفسان أخذت بالرخص فقدمت إحداهما، فإن كان الأمر على ذلك وإلا رجعت على نفسي الأخرى فاستعنيت، إنما هي نفس واحدة.
قال محمد بن رشد: ليس معنى هذا في الرخص التي رخص الله فيها لعباده في كتابه أو على لسان رسوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التعجيل في يومين من قوله عز وجل: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] ، أو من الفطر في رمضان في السفر وما أشبه ذلك، إذ لا اختلاف في أن الأخذ بالرخص في مثل هذا جائز، بل قد قيل إن ذلك أفضل لما جاء من أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى شدائده.
وإنما معناه فيما اختلف العلماء فيه فأجازته طائفة منهم وحظرته أخرى، فهو إن أخذ بقول المحظرين لذلك الشيء فلم يستبحه سلم، وإن أخذ بقول من أجازه فاستباحه لم يأمن من مواقعة الخطأ والوقوع في المأثم. فلو كان له نفسان كما قال لم يبال من إثم الواحدة إذا سلمت له الثانية من الإثم. وأما وليس له إلا نفس واحدة فمن الحظ له الاحتياط لها، وبالله التوفيق.

[الاجتهاد في العبادة]
في الاجتهاد في العبادة وسمعته يحدث عن سليمان بن القاسم قال: يقولون لي: لو رفقت بنفسك، والله لأنا بما أنا فيه ألذ من أهل افتضاض العذارى لعذاراهم. وسمعته يحدث عن محمد بن يحيى الإسكندراني عن رجل كان يصلي في البحر ويتعلق بالحبل، وأنه غلبته عيناه فنام، فلما استيقظ قال لرجل: ما منعك أن توقظني؟

(18/473)


قال رحمتك، قال لو رحمتني لأيقظتني.
قال محمد بن رشد: أما قول سليمان بن القاسم ما قاله مما أخبر به عن نفسه فالمعنى فيه أنه قاله تنشيطا لغيره لا قاصدا إلى الإخبار بذلك عن نفسه، لأن ذلك مما يكره للرجل أن يخبر به عن نفسه. وأما ما كان يفعله الرجل من صلاته في البحر وتعلقه بالحبل فهو مكروه من الفعل لما يخشى على صاحبه من الانقطاع، وقد «قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المرأة التي سمعها تصلي وقيل له: إنها لا تنام الليل، فكره ذلك حتى عرفت الكراهية في وجهه، ثم قال: إن الله لا يمل حتى تملوا اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة» وقال: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» . وكان أحب العمل إليه الذي يدوم عليه صاحبه، وبالله التوفيق.

[ما يروى من فضل عمر بن عبد العزيز وشدة خشيته لله]
فيما يروى من فضل عمر بن عبد العزيز
وشدة خشيته لله عز وجل وسمعته يحدث عن مالك أن عمر بن عبد العزيز كان رجلا عيشه هذه القطاني، وأنه أكل يوما عدسا وشرب عليه ماء ثم استلقى فضرب على بطنه فقال: بطين بطيء عن أمر الله يتمنى على الله منازل الأبرار، شك ابن القاسم في ضرب بطنه عن مالك.
قال محمد بن رشد: في هذا بيان ما كان عليه عمر بن عبد العزيز

(18/474)


من الخوف لله عز وجل مخافة التقصير في أمره، مع الرجاء فيما عنده من أن يحله محل الأبرار. وهذا هو الواجب أن يكون الرجاء والخوف في قلب الرجل سيين، فلا يأمن من عذابه ولا يقنط من رحمته، وبالله التوفيق.

[تحسين بناء المساجد]
في تحسين بناء المساجد وذكر من أقام قبلة مسجد الفسطاط ومسجد الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
وسمعته يقول: المساجد كلها الوليد بناها، يعني كسرها وبنى هذا البناء. قال: وسمعت أنه أقام قبلة هذا المسجد مسجد الفسطاط الكبير نحو من سبعين رجلا من أصحاب رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتوا عليه بالتحرم والحبال. وسمعته يحدث عن مالك أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هو الذي أقام لرسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبلة مسجده.
قال محمد بن رشد: قوله كسرها وبنى هذا البناء، يريد أنه هدمها وبناها فحسن بناءها. وتحسين بناء المساجد وتحصينها مما يستجب، وإنما الذي يكره تزويقها بالذهب وشبهه والكتب في قبلتها، لأن ذلك مما يشغل المصلين ويلهيهم عن الصلاة. وقد مضى ذلك في رسم سلعة سماها، ورسم الشجرة تطعم بطنين في السنة، من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة. ولابن نافع وابن وهب في المبسوطة إجازة تزويق المساجد وتزيينها بالشيء الخفيف ومثل الكتابة في قبلتها، ما لم يكثر ذلك حتى يكون مما نهي عنه من زخرفة المساجد. وقد مضى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب القول في إقامة جبريل للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبلة مسجده فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

(18/475)


[تفسير قوله تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا]
ومن كتاب العرية قال سفيان في هذه الآية: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] يقول: قولوا أسلمنا مخافة السباء والقتل.
قال محمد بن رشد: نفى الله عز وجل الإيمان بهذه الآية وأوجب لهم الإسلام، فدل ذلك دليلا ظاهرا على أن الإيمان غير الإسلام، لأن الإيمان هو التصديق الحاصل في القلب، والإسلام هو إظهار الإيمان بالنطق بالشهادة والأعمال الظاهرة من الصلاة وغيرها. فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، فالإسلام أعم من الإيمان. وهذا في بلاد الإسلام حيث يجب على المؤمن إظهار إيمانه. وأما في بلاد الكفر حيث لا يمكنه إظهاره فهو مؤمن غير مسلم، إذ لا يمكنه إظهار سلامه. قال الله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28] وقال: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] . وقد قيل إن الإيمان والإسلام اسمان واقعان على معنى واحد. واحتج من ذهب إلى هذا القول بقول الله عز وجل، وقوله الحق: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 35] {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36] وهذا لا حجة فيه، لأن المؤمنين مسلمون، فسماهم مرة باسم الإيمان ومرة باسم الإسلام. والكلام في هذا يتسع، وقد أشبعنا القول فيه في صدر كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.

(18/476)


[رفع الأصبع ورفع اليدين في الدعاء ومدهما]
في رفع الأصبع، ورفع اليدين في الدعاء ومدهما قال سفيان: الإخلاص رفع الأصبع عند الشهادة، والدعاء رفع بطون الأيدي، والابتهال مد اليدين.
قال محمد بن رشد: [يريد] أن رفع الأصبع عند الشهادة لله عز وجل بالوحدانية دليل على الإخلاص له بذلك، ورفع بطون الأيدي إلى الله إنما يكون [في الدعاء والرغبة إليه، وأن مد الأيدي يكون] عند الابتهال في ذلك. وهذا كله بين ليس فيه ما يخفى، وبالله التوفيق.

[يحلف على امرأته في ثوب اشتراه ألا تدرعه]
في الذي يحلف على امرأته في ثوب اشتراه ألا تدرعه قال ابن القاسم عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عراك بن مالك، عن عمر بن الخطاب أن رجلا اشترى لامرأته ثوبا فأتى به فسخطته فقال لها: أنت طالق إن تدرعته، فرجع به فرده، فدست المرأة خادمها فاشترته فأخذته فتدرعته. فلما جاء زوجها ليدخل قالت له [إليك] قد حرمت عليك، هذا الثوب قد تدرعته. فأتى عمر بن الخطاب فقال: قد حرمت عليك. وقال مالك بن أنس: إن كان نوى أن لا تدرعه من قبله فلا شيء عليه، وإلا فهو حانث.
قال محمد بن رشد: قول عمر بن الخطاب قد حرصت عليك، يريد

(18/477)


قد حنثت فيما قد حلفت به من الطلاق، لأنها طلقة رجعية فلا تحرم عليه، ومن حقه أن يرتجعها. وقول مالك إن كان نوى أن لا تدرعه من قبله فلا شيء عليه وإلا فهو حانث، ليس بخلاف لقول عمر بن الخطاب، إذ لا اختلاف في أن الحالف إذا نوى أن لا تدرعه من ماله فلا حنث عليه إذا تدرعته من مالها. وإنما يختلف إذا لم تكن له نية. فوافق مالك في هذه الرواية عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أنه حانث ولم ينظر إلى بساط يمينه. ويأتي في هذه المسألة على القول بمراعاة البساط في اليمين إذا لم تكن للحالف نية أن لا حنث عليه. وقد اختلف في هذا قول مالك على ما هو منصوص عنه في غير ما مسألة من كتاب الأيمان بالطلاق من العتبية وغيره، وبالله التوفيق.

[رؤية الله عز وجل يوم القيامة]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك في رؤية الله عز وجل يوم القيامة قال ابن القاسم قال أبو السمح لمالك: يا أبا عبد الله، أنرى الله يوم القيامة؟ قال نعم. نجد الله تعالى يقول في كتابه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] ويقول لقوم {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] . قال وحدثني ابن أبي حازم عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن دون الله يوم القيامة سبعين ألف حجاب، منها حجب من ظلمة ما يفتقها بصر شيء، وحجب من نور ما يستطيع بصرها شيء، وإن منها لحجابا من

(18/478)


ماء لا يسمع صوت ذلك الماء أحد لا يربط الله عز وجل على قلبه إلا خلع.
قال محمد بن رشد: الذي عليه أهل السنة والجماعة من الموحدين أن رؤية الله عز وجل جائزة غير مستحيلة، وأن المؤمنين يرونه في الآخرة بأبصار وجوههم على ما جاء به القرآن وتواترت به عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآثار، خلاف ما ذهب إليه أهل الزيغ المعتزلة والقدرية والخوارج والجهمية من أن رؤية الله عز وجل مستحيلة لا تجوز عليه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. فمن الدليل الواضح على جواز رؤية الله عز وجل أن موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد سأل ذلك ربه فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] على ما أخبر الله عز وجل به عنه في كتابه العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] ومن المستحيل أن يسأله ما يعلم أنه لا يجوز في صفته أو أن يجهل هل يجوز ذلك في صفته أم لا، فتكون المعتزلة أعلم بصفات الله تعالى وما يجوز عليه مما لا يجوز منه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ودليل ثان هو قوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] لأنه عز وجل تمدح بأن الأبصار لا تدركه، فلو كان من المستحيل أن تدركه الأبصار لم يكن له في ذلك مدح، وإنما كان المدح له في ذلك لانفراده بخلق الآفة في الأبصار التي تمنع من إدراكه في الدنيا مع جواز ذلك عليه. وكما هو قادر على خلق الآفة في الأبصار المانعة من رؤيته في الدنيا، فكذلك هو قادر على رفع الآفة من أبصار المؤمنين يوم القيامة حتى يروه على ما نطق به القرآن وتواترت به السنن والآثار. وإذا جازت عليه الرؤية بما ذكرناه وجبت له، إذ لا يقول أحد إنها تجوز عليه ولا تجب

(18/479)


له، وإنما يقول أهل الزيغ والتعطيل إنها لا تجوز عليه. ومن الدليل على وجوب رؤية المؤمنين له يوم القيامة قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] ، وهو نص في النظر إليه حقيقة لا يحتمل المجاز. وقوله عز وجل في الكفار مهددا لهم: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] ، فلو كان هذا أمرا عاما للمؤمنين والكافرين لم يكن فيه تهديد للكافرين. وقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ، على ما قاله أهل التفسير: إن الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم، لأن الحسنى مستغرق لجميع الإحسان بدخول الألف واللام فيه، فالزيادة على ذلك يجب أن تكون من غير جنس المزيد عليه، ولا شيء يمكن أن يشار إليه في ذلك سوى رؤية الله عز وجل. ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه الثبت الثقات عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونقلوه عنه نقلا متواترا من رواية أبي بكر الصديق وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعمران بن حصين، وأبي هريرة، وعبد الله بن عباس، وجرير بن عبد الله البجلي، وغيرهم: أن المؤمنين يرون ربهم كما يرون القمر في ليلة القدر لا تضامون في رؤيته، وفي بعض الآثار: لا تضارون في رؤيته. وفي بعض الآثار ليس دونه حجاب. وأجمعت الأمة على أن الكافرين محجوبون عن الله تعالى يوم القيامة. وإنما اختلفوا في المؤمنين، فقال أهل الزيغ إنهم لا يرونه، وقال أهل السنة والجماعة إنهم يرونه على ما بيناه وصححناه، إلى أن نشأ رجل من أهل البصرة يعرف بأبي الحسن بن سالم، وكان من الوعاظ الذين يظهرون النسك ويظنه العوام من أهل العلم، فسألوه عن هذه المسألة فحملته الأنفة وما يعتقده العوام فيه من أنه من أهل العلم على أن أجاب فيها بغير علم، فأخطأ وقال: إن الكافرين يرون ربهم يوم القيامة، وأبى أن يرجع عن بدعته، وتبعه قوم على ذلك حتى قويت شوكتهم وصار قولهم مذهبا يذكر، والله أسأله العصمة برحمته.

(18/480)


وقول عبد الله بن عمرو بن العاص إن دون الله تعالى يوم القيامة سبعين ألف حجاب منها حجب من ظلمة ما يفتقها بصر شيء إلى آخر قوله، المعنى فيه أن الله تعالى يحجب الكفار عن رؤيته بهذه الحجب وبما يخلقه فيهم من المنع من إدراكها، لا أن الله تعالى يحتجب عنهم بهذه، إذ ليس بمحتجب ولا محجوب عن خلقه بشيء، لأن الحجاب إنما يستر الأجسام المخلوقة التي يحتوي عليها وتكون أكثر منها. ويشهد لهذا الذي قلناه ويؤيده قوله عز وجل: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فجعل الكفار هم المحجوبين عن رؤيته بما خلق فيهم من الحجب والمنع منها، ولم يصف نفسه بالاحتجاب ولا بأنه هو المحجوب. وقد روي أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر بقصاب وهو يقول: لا والذي احتجب بسبعة طباق، فقال له علي: ويحك يا قصاب، إن الله لا يحتجب عن خلقه بشيء، ولكن حجب خلقه عنه، فقال له القصاب: أفلا أكفر عن يميني يا أمير المؤمنين؟ قال لا، لأنك حلفت بغير الله تعالى، وبالله التوفيق.

[ما رئي لمالك من الرؤيا]
فيما رئي لمالك من الرؤيا قال عيسى وسمعت سليمان بن يزيد يحدث أنه قال، سمعت ابن الدراوردي يحدث قال: رأيت في منامي أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعطي مالكا خاتمه، قال فأتيت مالكا فأخبرته بذلك وهو في مجلس ربيعة.
قال محمد بن رشد: تأويل هذا ما كان عليه- رَحِمَهُ اللَّهُ - من اتباع سنته والتمسك بها، وتركه لمخالفة ما صح عنده منها، وبالله التوفيق.

(18/481)


[السنة لا تعارض برأي]
في أن السنة لا تعارض برأي وحدث عن مالك عن ابن شهاب أنه قال: دعوا السنة تمضي لا تعارضوا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن السنة تمضي ولا تعارض برأي، يريد إذا صحبها العمل. وأما ما كان من السنن التي اتصل العمل بخلافها فيقدم ما اتصل به العمل عليها، لأن اتصال العمل بخلافها دليل على نسخها. وإذا عارض القياس ظاهر السنة تؤولت على ما يوجبه القياس. واختلف إن لم يمكن تأويلها على ما يوجبه القياس على الأصول أيهما يقدم؟ فذهب مالك على ما حكاه ابن القصار إلى تقديم القياس عليها إذا كانت من السنن المروية من طريق الآحاد التي لا يقطع على صحتها، وذهب أبو حنيفة إلى تقديم السنة على القياس، وبالله التوفيق.

[اشتغال الإمام عن الفقه بأمور المسلمين]
في اشتغال الإمام عن الفقه] بأمور المسلمين وحدثني عن الثقة عن المغيرة بن أبي عبد الرحمن المخزومي أنه سمع مالك بن أنس يقول قال عمر بن عبد العزيز: من كان له شغل سوى هذا الشأن فإنه من شغلي الذي كتب الله لي أن ألزم، فعامل منه بما عملت ومقصر عنه عما قصرت، فما كان خيرا أتيته فبعون الله ودلالته، والله أرغب في تزكيته، وما كان سوى ذلك، فإني أستغفر الله لذنبي العظيم.

(18/482)


قال محمد بن رشد: معنى قول عمر هذا أنه أشقق من الاشتغال بأمور المسلمين عن التفقه، وخشي التقصير فيما اشتغل فيه من ذلك فاستغفر الله عز وجل منه. ومعنى قوله أستغفر الله لذنبي العظيم، أستغفر الله العظيم لذنبي، لأن الكلام فيه تقديم وتأخير. وقد مضت هذه الحكاية في صدر سماع أشهب، وبالله التوفيق.

[كراهة كثرة الكلام]
في كراهة كثرة الكلام قال وقال مالك: دخل رجل منا، يعني أهل العلم، على رجل من أهل الأدب، يعني الملوك، فلما خرج من عنده قيل له: كيف رأيت فلانا؟ قال: أما لولا أنه يأتي بكلام سنة في ساعة. قال مالك: ليس كثرة الكلام إلا في النساء والخدم. قال ابن القاسم: قعد أعرابي في مجلس ربيعة، فتكلم ربيعة وأكثر، فكأنه وصله بشيء، فقال للأعرابي: ما تعدون البلاغة؟ قال الأعرابي: قلة الكلام. قال: فما تعدون فيه العي؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إن البلاغة والفصاحة إنما هي في قلة الكلام مع إدراك الصواب به واستيفاء المعاني فيه. ومن عي الرجل ألا يقدر على أن يعبر عما في نفسه بكلام وجيز حتى يأتي فيه بكلام طويل يكون فيه ما يستغنى عنه [فقد يخفى الصواب في خلاله على السامع له، فمن العي أن يأتي بكلام كثير فيما يستغنى عنه] باليسير. ومن

(18/483)


التقصير أيضا ألا يأتي إلا بكلام يسير لا يستفاد منه ما قصد إلى بيانه. وقد حكي أن بعض الأمراء كتب إليه ملك الروم كتابا يرهب فيه عليه، فأغاظه ذلك وأمر كتابه بمراجعته، فكتب كل واحد منهم وأطنب وطول، فلم يستحسن شيئا من ذلك، وكتب إليه: الجواب ما ترى لا ما لا تسمع، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 42] ، والسلام على من اتبع الهدى.
ومن معجز كلام الله تعالى في البلاغة قوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وكله معجز لا يقدر أحد أن يأتي في معنى منه بكلام يشبهه أو يقرب منه في الفصاحة، وبالله التوفيق.

[تفسير قول الله عز وجل أو يأخذهم على تخوف]
في تفسير قول الله عز وجل:
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] قال ابن القاسم: قرأ عمر هذه الآية {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] فقال: ما التخوف؟ ما التخوف؟ ما التخوف؟ فأقام كذلك زمانا فأتاه أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين إن ابني يتخوفني

(18/484)


مالي، فقال له عمر: وما يتخوفك؟ قال يتنقصني مالي، فكبر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحمد الله.
قال محمد بن رشد: قد روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ما كنت أعرف معنى {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] ، حتى سمعت قول الشاعر يصف ناقة وإن السير ينقض سنامها بعد تمكنه واكتنازه:
تخوف السير منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن
ومعنى التنقص في قوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] أن يتنقصهم في أموالهم وثمارهم حتى يهلكهم. وقيل إن المعنى أو يأخذهم [على تخوف أي أو يأخذهم] بعد أن يخيفهم، بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها. وأن يكون التخوف بمعنى التنقص على ما جاء في الحكاية عن عمر بن الخطاب أظهر من تفسير الآية، لأن الله عز وجل ذكر فيها أصناف الإهلاك، فمنها أن يهلكهم بانتقاص ثمراتهم وأموالهم، وبالله التوفيق.

[كثرة الحسد في الناس]
في كثرة الحسد في الناس وحدثني عن ابن القاسم عن الثقة أن عمر بن الخطاب قال: ما من أحد عليه من الله نعمة إلا وله عليها حاسد، ولو كان الرجل أقوم من القدح لقال قائل لولا.

(18/485)


قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، وقد مضى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم القول في الحسد وتبيين الجائز منه من المحظور فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[قول القائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعدل]
في القائل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اعدل وحدثني ابن القاسم عن مالك «أن رجلا وقف على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: اعدل يا محمد، فقال له: ومن يعدل ويحك» .
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا الحديث بأكمل مما وقع ها هنا قرب آخر الرسم الأول من سماع أشهب والقول عليه هناك فلا وجه لإعادته. وبالله التوفيق.

[أهل البدع هل يخرجون ببدعهم من الإسلام]
في أهل البدع هل يخرجون ببدعهم من الإسلام؟ وقال ابن داود عن ابن كنانة أنه قال: أهل الأهواء أهل بدع وضلالة، وليس ذلك بالذي يخرجهم عندنا من الإسلام.
قال محمد بن رشد: قول ابن كنانة هو قول أصحاب مالك: أشهب، والمغيرة، وغيرهم، أن أهل البدع والأهواء لا يكفرون بمآل قولهم، ولا يعيد الصلاة من صلى خلفهم على ما وقع من ذلك في رسم يدبر ماله من سماع عيسى من كتاب المحاربين والمرتدين. ودليل هذا القول قول

(18/486)


رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتتمارى في الفوق، فأخبر- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يشك في خروجهم من الدين، ومن شك في خروجه من الدين فلا يحكم أنه خرج منه إلا بيقين. وقد جاء عن مالك ما يدل على أنه حكم لهم بحكم الكفار بمآل قولهم، وهو تأويله فيهم قول الله عز وجل: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ} [آل عمران: 106] على ما وقع له في أول سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين والمرتدين. وهذا ليس على عمومه في جميع أهل البدع والأهواء، إذ من البدع والأهواء ما لا يكفر معتقده بإجماع، وهو ما لا يؤول بمعتقده إلى الكفر إلا بالتركيب، وهو أن يلزم على قوله ما هو أغلظ منه، وعلى ذلك الأغلظ ما هو أغلظ حتى يؤول به ذلك إلى الكفر، فهذا لا يكفر بإجماع. وهذا مثل الذي يعتقد أن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ومنها ما هو معتقده كافر بإجماع، وهو ما كان كفرا صريحا، كالذي يقول إن جبريل أخطأ بالوحي وإنما كان النبي علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وما أشبه ذلك.
ومنها ما يختلف في تكفير معتقده بمآل قولهم، وذلك مثل القدرية الذين يقولون إنهم قادرون خالقون لأفعالهم بمشيئتهم وإرادتهم دون مشيئة الله وإرادته، وإن الله لم يرد الكفر ولا العصيان ولا شاءه ولا قدره عليهم ففعلوه بقدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم [دون مشيئة الله عز وجل وإرادته] وفي مثل

(18/487)


المعتزلة الذين ينكرون صفات ذات الباري جل وتعالى من علمه وحياته وكلامه وإرادته إلى ما سوى ذلك من الأشياء التي تسد عليهم طريق المعرفة بالله جل وتعالى، وأشباههم من الروافض والخوارج والمرجئة، لأن هؤلاء ونحوهم هم الذين يختلف في تكفيرهم بمآل قولهم. فيرى من يكفرهم بمآل قولهم على من صلى خلفهم إعادة الصلاة في الوقت وبعده، ويستتيبهم أسروا بدعتهم أو أعلنوها على ما قاله في رسم يدير ماله من سماع عيسى من الكتاب المذكور، فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بالمرتد. ولا يرى من لا يكفرهم بمآل قولهم إعادة الصلاة على من صلى خلفهم ولا استتابتهم، وإنما يفعل بهم كما فعل عمر بن الخطاب من ضربه أبدا حتى يموت. ومنهم من استحب له إعادة الصلاة في الوقت، ومنهم من يفرق بين أن يكون الإمام الذي تؤدى إليه الطاعة أو غيره من الناس حسب ما مضى القول فيه في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.

[أول ما يرفع من أعلام الإسلام]
في أول ما يرفع من أعلام الإسلام وحدثني شيخ من أعلام المدينة أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن يرفع الحديث إلى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أول ما يرفع من أعلام الإسلام كرم الأخلاق والحياء والأمانة» .
قال محمد بن رشد: قوله أول ما يرفع معناه أول ما يذهب من الناس فلا يوجد فيهم، وبالله التوفيق.

(18/488)


[ما تقع به الحرمة]
فيما تقع به الحرمة وحدثني عن ابن القاسم عن مالك أنه قال: إذا نظر الرجل إلى امرأة مما أحل الله له تلذذا فهي حرام على أبيه وعلى ابنه وعلى كل من تحرم عليه ما مس وإن كان لم يكن نظر إلا إلى وجهها. وقال مالك: ما يحرم بالنكاح فهو محرم بملك اليمين.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب مالك أن نظر الرجل تلذذا إلى شيء من محاسن المرأة التي تحل له بنكاح أو شبهة نكاح أو ملك يمين يحرمها على أبيه وعلى ابنه، وتحرم عليه أمها وابنتها. وقال ابن أبي ليلى والشافعي: لا يحرم شيء منهن بالنظر حتى يلمس، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي والليث. وقال الثوري: إذا نظر إلى فرجها متعمدا أو لامسها. وقال الحسن لا يحرم إلا بالوطء. واختلف في ذلك عن قتادة، واختلف في ذلك أيضا قول الشافعي: روي عنه أنه لا يحرمها إلا الوطء، وبه قال داود، واختاره المزني من قول الشافعي. ولا اختلاف فيما دون الوطء من الحرام أن الحرمة لا تقع به. وإنما اختلف هل تقع الحرمة بالوطء الحرام من الزنى، اختلف في ذلك قول مالك. قال في الموطأ إنه لا يحرم، وهو قول ابن شهاب وربيعة والليث بن سعد، وإليه ذهب الشافعي، وروي ذلك عن ابن عباس قال في ذلك: لا يحرم الحرام الحلال. وقال في المدونة: إنه يحرم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي؛ واختلف في ذلك عن سعيد بن المسيب. وكان عطاء يفسر قول ابن عباس: لا يحرم الحرام الحلال، أن معناه أن الرجل إذا زنى بالمرأة لا يحرم عليه نكاحها [وقد أجمع فقهاء الأمصار على أن الرجل إذا زنى بالمرأة لا يحرم عليه نكاحها] بعد الاستبراء، فنكاح أمها وابنتها أحرى أن لا يحرم، وبالله التوفيق.

(18/489)


[التوسع في الإنفاق]
في التوسع في الإنفاق وحدثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال الله تبارك وتعالى لابن آدم أنفق أنفق عليك» .
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا الحديث والقول فيه في الرسم الأول من سماع أشهب فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[أتي بخبيض فأدخله في فيه ثم طرحه]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
قال ابن القاسم: حدثني سليمان بن القاسم أن عمر بن الخطاب أتي بخبيض فأدخله في فيه ثم طرحه فقال: ما تبقى حسنات امرئ أدخل هذا في جوفه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه لما لاكه فوجد انصياغه وطيبه لم يرد أن يأكله مخافة أن تدعوه نفسه إليه فيصير له أكله عادة، فيصير بذلك من المسرفين المذمومين بظاهر قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ، فكره أكله لهذا، لا أن أكله حرام، فمن أكله لم يأثم، ومن تركه على الوجه الذي تركه عليه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجر. وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في رسم البز من سماع ابن القاسم.
وقوله ما تبقى حسنات من أدخل هذا في جوفه، معناه إن أكله كان من المسرفين في الإنفاق على نفسه، وكان ذلك سببا إلى أن يشح فلا يجود

(18/490)


بما كان يجود به، فلا تبقى حسناته على المرتبة التي كانت عليه من الكثرة، وبالله التوفيق.

[الخمر يكون من التمر]
في أن الخمر يكون من التمر وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن الله حين أنزل تحريم الخمر لم يكن بالمدينة خمر إلا خمر التمر» .
قال محمد بن رشد: في هذا نص على أن الخمر تكون من التمر خلاف ما ذهب إليه بعض أهل العراق من أن الخمر المحرمة لا تكون إلا من عصير العنب، وما سواه من الأنبذة والأشربة النيئة والمطبوخة ليس بخمر، فما دون السكر منها حلال، على ما روي عن ابن عباس أنه قال: حرمت الخمر بعينها والسكر من غيرها. ومنهم من ذهب إلى أن الخمر المحرمة العين إنما هي خمر العنب والتمر خاصة، على ما روي النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الخمر من الكرمة والنخلة» . ومنهم من ذهب إلى أن الخمر المحرمة العين إنما هي الخمر التي من عصير العنب، وأن نقيع التمر والزبيب المخمر من غير طبخ بمنزلة الخمر في تحريم العين بخلاف سائر الأنبذة والأشربة، للحديث المذكور. وقولهم خطأ صراح ترده السنة الثابتة عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قوله: «كل شراب أسكر فهو حرام» وقوله: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . والقياس الصحيح أنه لا فرق فيه بين

(18/491)


الأنبذة المسكرة وبين الخمر لوجود علة التحريم فيها، وهو الإسكار الذي دل على أنه هو العلة في التحريم قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وحديث ابن عباس لا حجة لهم فيه، لأن بعض رواته يقول فيه: والمسكر من غيرها. وعندنا أن كل ما خامر العقل فهو خمر محرم العين، كان من العنب أو من غيره من الأشياء، وبالله التوفيق.

[وصف الرجل نفسه بما هو عليه]
في وصف الرجل نفسه بما هو عليه
وحدثني سليمان بن يسار عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي أنه كان يقول: ما أبقى ذكر جهنم للدنيا في قلبي فرحا ولا حزنا.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه الحكاية عنه في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم عن مالك عنه، وزاد فيها قال مالك: ما يعجبني أحد يقول مثل هذا. ومضى الكلام على ذلك هنالك فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[أداء الأمانة]
في أداء الأمانة وحدثني [عن] سليمان بن القاسم، عن النبي- صلى

(18/492)


الله عليه وسلم- أكثر ظني وأنا شاك أنه قال: «لا تجحد من جحدك وأد الأمانة إلى من ائتمنك» وبه يفتي مالك ويأخذ.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في الذي يستودع الرجل الوديعة فيجحده فيها، ثم يستودعه وديعة أو يأتمنه على شيء هل يحل له أن يجحده فيها ويقتطعها لنفسه فيما جحده من وديعته على أربعة أقوال في المذهب؛ أحدها المنع من الأخذ، وهو قول مالك في المدونة اتباعا لظاهر الحديث؟ والثاني الكراهة لذلك، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه، والثالث الإباحة، وهو قول ابن عبد الحكم، ومذهب الشافعي؛ والرابع استحباب الأخذ، وهو مذهب ابن الماجشون، كان عليه دين أو لم يكن، وقيل إنما هذا إذا لم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين لم يكن له أن يأخذ إلا قدر ما يجب له في المحاصة، وهو قول خامس في المسألة. وأظهر الأقوال إباحة الأخذ، لأن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح ذلك لهند بنت عتبة [بن ربيعة] بن عبد شمس لما شكت لرسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن زوجها أبا سفيان بن حرب لا يعطيها من الطعام ما يكفيها وولدها، فقال لها: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» لأن معنى قوله بالمعروف أن تأخذ مقدار ما يجب لها ولا تتعدى فتأخذ أكثر مما يجب لها. وكذلك تناول قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تخن من خانك» أي لا تتعد! فتأخذ أكثر من الواجب لك فتكون قد خنته أخرى كما

(18/493)


خانك هو أولا، لأن من أخذ حقه الواجب له فليس بخائن، بل فعل المعروف الذي أباحه رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند، فعلى هذا يخرج الحديثان جميعا ولا يحملان على التعارض، وبالله التوفيق.

[ما يروى من الكرامات]
فيما يروى من الكرامات قال وقال مالك: رأى يعقوب بن عبد الله بن الأشج في المنام وهو في لجة البحر غاز أنه أدخل الجنة فشرب فيها لبنا، فلما استيقظ أخبر أصحابه ثم تقيأ فقاء لبنا، فلما نزلوا الساحل لقوا العدو فاستشهد.
قال محمد بن رشد: هذا من الكرامات الجليلة، وكرامات الأولياء يصدق بها أهل السنة لجوازها في العقل، والعلم بوجودها في الجملة من جهة النقل المتواتر [وإن لم يثبت منه شيء بعينه بنقل التواتر في جهة ولي من الأولياء في غير زمن النبوة] وقد ذكرنا هذا في الرسم الأول من سماع أشهب، وبالله التوفيق.

[ما يزع الله بالإمام]
فيما يزع الله بالإمام قال وقال مالك قال العبد الصالح عثمان بن عفان: ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن، يعني ما يكف الناس عنه بالحدود.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك لقول عثمان صحيح، والمعنى فيه أن الذين ينتهون من الناس عن محارم الله مخافة السلطان أكثر من الذين

(18/494)


ينتهون عنها انتهاء لأمر الله عز وجل، ففي الإمام صلاح الدين والدنيا. ولا اختلاف بين أحد من العلماء في وجوب الإمامة ولزوم طاعة الإمام. وقد مضى هذا في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

[حكاية عن سليمان بن داود عليهما السلام]
ُ - قال وقال مالك: مر سليمان بن داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقصر بأرض مصر فوجد فيه مكتوبا:
غدونا من فتى الصحر ... إلى القصر فنلناه
فمن سال عن القصر ... فمبنيا وجدناه
يقاس المرء بالمرء ... إذا مالمرء ما شاه
فلا تصحب صديق السو ... ء إياك وإياه
فكم من جاهل أردى ... حليما حين واخاه
قال ووجد عليه نسرا واقفا فدعاه فقال: من بنى هذا القصر؟
فقال: لا أدري، قال: فكم لك قد وقفت عليه؟ قال لي تسعمائة سنة وخمسون سنة.
قال محمد بن رشد: في هذه الحكاية عبرة لمن اعتبر، وعظة [وتذكرة] لمن تذكر وازدجر، وبالله التوفيق.

(18/495)


[حكاية عن عمر بن عبد العزيز]
قال وقال مالك: دخل زياد بن أبي زياد على عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ الخليفة، وعمر على سريره، فدخل زياد فقال: السلام عليك، ونسي أن يسلم عليه سلام الأمير. فلما رآه عمر نزل من على مجلس كان عليه، فقيل تنحيت عن مجلسك، فقال عمر: إني أكره أن أشرف في مجلس على رجل له الفضل علي. قال: فلما جلس زياد ذكر أنه نسي أن يسلم عليه سلام الأمير، فقال له بعد أن جلس: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له عمر: أما إني لم أنكر الأولى.
قال ابن القاسم: وحدثنا غير واحد أنه كان زياد عبدا فطلبه عمر ليشتريه، فأبى سيده وقال: ما أمسكته إلا لدين علي. قال: فقال له ناس: فإن أدينا دينك أتعتقه؟ قال نعم. وكان دينه سبعمائة أو ثمانمائة، فجمع له ألف وخمسمائة، فقضي عن سيده دينه وعتق وهو لا يعلم، فأتي بفضله ذلك المال فقيل له خذ هذا ما فضل، فقال: ما كنت في لآخذ منه شيئا، وما سألتكم من هذا شيئا. قال فأبى أن يأخذها، فردت على الناس على قدر أداء كل إنسان. قال فزعم لي مالك أن زيادا كتب أسماءهم، فكان يدعو لهم بعد ذلك. وهذا كله قول مالك إلا ما ذكرت أن عمر أراد أن يشتريه.
قال محمد بن رشد: في هذا ما هو معروف من فضل عمر بن عبد العزيز وتواضعه وإكرامه لأهل الفضل، ولا يعرف حق ذي الفضل لأهل الفضل إلا أولو الفضل. وما فعل زياد من ترك قبول فضل ما بقي مما جمع له

(18/496)


في دين سيده ليعتقه صواب، لأن كل من أعطى شيئا منه إنما قصد العون في عتقه، لا الصدقة عليه. وهذا هو مذهب مالك وقوله في المدونة في المكاتب يعان في كتابته فيفضل له من ذلك فضله، وبالله التوفيق.

[كراهة القضاء وولاية بيت المال]
في كراهة القضاء وولاية بيت المال قال ابن القاسم: حدثني من أثق به عن غير واحد عن مكحول الدمشقي أنه كان يقول: لو خيرت بين القضاء وبين بيت المال لاخترت القضاء، ولو خيرت بين القضاء وضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي.
قال محمد بن رشد: إنما اختار القضاء على بيت المال وإن كان ضرب عنقه أخف عليه من القضاء من أجل أن التخلص من القضاء عسير، لأن التخلص من بيت المال وإن كان أيسر من التخلص من القضاء ففي ولاية بيت المال تعريض بنفسه لسوء الظن، لأنه إذا- ولي على بيت المال لم يأمن أن يتهم فيه. ومن الحظ للرجل أن لا يعرض نفسه لسوء الظن، وأن يتوقى من ذلك جهده. وقد رأى رجل النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع صفية فقال: هذه صفية. وقد مضى هذا المعنى في رسم التسليف في الحيوان المضمون من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

[العبادة قد يمنعها الرجل فيكون ذلك خيرا له]
في أن العبادة قد يمنعها الرجل فيكون ذلك خيرا له وقال ابن القاسم: سمعت سليمان بن القاسم وغيره ممن أثق به يقول: بلغني أن الرجل ليريد أن يبلغ وجها من العبادة فيمنعه الله إياه نظرا له، ولو بلغها لكان فيها هلاكه.

(18/497)


قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، يشهد بصحته قول الله عز وجل: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] . وهذا مثل أن يوفق الله الرجل لعمل شيء من الخير فيعرف به فيولى القضاء من أجل ذلك فلا يتخلص فيه ويكون في ذلك هلاكه، وبالله التوفيق.

[من لا غيبة فيه]
فيمن لا غيبة فيه قال وحدثني عن ابن وهب عن عبد الله بن الشيخ عن رجل عن الحسن أنه قال: لا غيبة في الإسلام إلا في ثلاثة: صاحب بدعة، وإمام جائر، وفاسق معلن.
قال محمد بن رشد: معناه لا غيبة مباحة إلا في هؤلاء الثلاثة، فهؤلاء الثلاثة لا غيبة فيهم. وقد مضى هذا من قول عيسى بن دينار في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم والكلام فيه فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[ما جاء في أنه لا وضوء لمن لم يسم الله]
فيما جاء في أنه لا وضوء لمن لم يسم الله قال ابن وهب: وقد أخبرني ابن الدراوردي أن ربيعة كان يقول: تفسير حديث النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» قال ذلك أن يتوضأ ولا يذكر به صلاة

(18/498)


مكتوبة، أي يتطهر ولا يريد به الصلاة.
قال محمد بن رشد: قوله إن معناه أن يتوضأ ولا يذكر به صلاة، يريد أو ما كان في معنى الصلاة مما لا يصح فعله إلا بطهارة، كالطواف بالبيت ومس المصحف وشبه ذلك، لأن من توضأ لما لا يصح فعله إلا بطهارة فقد نوى الطهارة، فيكون معنى قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه لا وضوء إلا بنية، لأن النية هي إخلاص العبادة لله عز وجل، ومن شرطها ذكر الله، لأن من المستحيل أن يخلص أحد العبادة لله وهو لا يذكره في نفسه، كما أن معنى قول الله عز وجل: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] . فكلوا ما قصد إلى ذكاته بالنية، فكما تؤكل الذبيحة وإن لم يسم الله على ذبحها إذا نوى تذكيتها، فكذلك يصلى بالوضوء وإن لم يسم الله عليه إذا نوى به الصلاة أو ما لا يصلح فعله إلا بطهارة، فهو بين من التأويل. وقد يحتمل أن يكون معنى قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وضوء لمن لم يسم الله» : لا وضوء متكامل الأجر لمن لم يسم الله، مثل قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» «ولا إيمان لمن لا أمانة له» وما أشبه ذلك، وبالله التوفيق لا شريك له.

[قول الحسن ليس العجب ممن عطب كيف عطب]
ومن كتاب أوله حمل صبيا في وسوسة الشيطان قال وقال الحسن: ليس العجب ممن عطب كيف عطب،

(18/499)


ولكن العجب ممن نجا كيف نجا من شياطين حرست منهم السماوات. وقال سفيان بن عيينة: كان رجل سائرا إلى بيت المقدس، فناداه مناد يسمع صوته ولا يراه، فناداه يا فلان أو يا ابن فلان، ألا ترى إلى هذا اللعين أخرج أبوينا من الجنة، ثم ها هو ذا يزهدنا فيما في الدنيا من نعم ربنا ليقل في ذلك شكر ربنا، ويرغبنا فيما في أيدي غيرنا لتطول فيه حسرتنا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، قال الله عز وجل: حاكيا عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] ، وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» يريد فيما أقدره الله عليه من الوسوسة التي قد أمرنا بالاستعاذة منها بقوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 2] {إِلَهِ النَّاسِ} [الناس: 3] {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 4] {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6] فالوسواس الخناس هو إبليس- لعنه الله-، والناس في قوله من الجنة والناس معطوف على الوسواس الخناس، فأمر عز وجل بالاستعاذة من شر الناس ومن شر الوسواس الخناس، [والكلام فيه تقديم وتأخير تقديره: قل أعوذ برب الناس من شر الوسواس الخناس] من الجنة الذي يوسوس في صدور الناس، فالناس معطوف، على الوسواس الخناس كما ذكرناه، أمر عز وجل بالاستعاذة من شرهما جميعا. ومناداة الرجل السائر إلى بيت المقدس بما نودي به وهو يسمع الصوت ولا يرى المنادي مما هو معدود في كرامات الصالحين، لأن في ذلك له تنبيها من الله

(18/500)


عز وجل بما أسمعه على التوقي من إبليس والتحفظ من وسوسته، وبالله التوفيق لا شريك له.

[مما روي عن سعيد بن المسيب]
ومن كتاب العشور قال ابن القاسم سمعت عن سعيد بن المسيب أنه كانت له ذهب يتجر فيها، فلما حضرته الوفاة قال: يا بني، هذه نفقتي التي كنت أكف بها وجهي وأتقوى بها على عبادة ربي.
قال محمد بن رشد: في هذا دليل على أن المال عون على العبادة، وإذا كان كذلك فهو خير من الفقر. وقد مضى التكلم على الأفضل من الفقر والغنى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[الحض على الرفق في العبادة]
في الحض على الرفق في العبادة قال: وذكر ابن القاسم عن الليث وعبد الرحمن بن شريح أنه سمعهما وأحدهما يزيد على صاحبه، أن عمرو بن العاص خطب الناس على المنبر بمصر فقال: يا أيها الناس، إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، خافوا الله خوف من يظن أنه يموت غدا، واعملوا عمل من يظن أنه لا يموت إلا هرما، فإن المنبت لا أبقى ظهرا ولا قطع بعدا. قال وقال لي مالك في تفسير الحديث وشيء من الدلج الغدو إلى صلاة الصبح.
قال محمد بن رشد: الحديث المروي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما هو: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أبقى

(18/501)


ظهرا ولا قطع بعدا» أو كما قال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأدخل عمرو بن العاص في خطبته في أثناء الحديث ما أدخل فيه من قوله: خافوا الله خوف من يظن أنه يموت غدا واعملوا عمل من يظن أنه لا يموت إلا هرما، يحضهم بذلك على القليل الدائم، وينهاهم عن الكثير الذي يخشى انقطاعه على ما دل عليه الحديث. فقد كان أحب العمل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي يدوم عليه صاحبه. وقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لا يمل حتى تملوا أكلفوا من العمل ما لكم به طاقة» . والآثار في هذا المعنى كثيرة، وبالله التوفيق.

[الفتوى ورواية الأحاديث قلما يجتمعان]
في أن الفتوى ورواية الأحاديث قلما يجتمعان قال ابن القاسم وسمعت مالكا يقول: قلما اجتمع في رجل الفتيا والحفظ، يريد رواية الأحاديث.
قال محمد بن رشد: يريد أن الاشتغال برواية الأحاديث والإكثار منها وبحفظها يشغل عن التفقه فيما يحتاج إلى التفقه فيه منها، وهو ما تقتضيه الأحكام والحلال والحرام، فقلما يوجد من يتحقق بالقيام على الوجهين. وقد قال بعض العلماء: ما نظرت قط ذا علم إلا غلبني، ولا ناظرت ذا علمين إلا غلبته. فالتقلل من الروايات مع التفقه فيها أولى من الإكثار منها مع قلة التفقه فيها، فقد قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» . والذي يروى الأحاديث ولا يتفقه فيها كالحمار يحمل أسفارا وبئس مثل السوء، وبالله التوفيق.

(18/502)


[لا نقصية على من كان ابن أم ولد]
في أنه لا نقصية على من كان ابن أم ولد
قال ابن القاسم: بلغني أن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلي بن حسين بن علي بن أبي طالب كانوا بني أمهات الأولاد.
قال محمد بن رشد: إنما ذكر ابن القاسم هذا ليبين أن هذا مما ليس يعاب به أحد، وهو بين. قال الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وقال عمر بن الخطاب: كرم المؤمن تقواه، ودينه حسبه، ومروءته خلقه الحديث. وروي «أن أبا الدرداء توفي أخ لأبيه وترك أخا لأمه، فنكح امرأته، فغضب أبو الدرداء حين سمع ذلك، فأقبل إليها فوقف عليها فقال: أنكحت ابن الأمة؟ يردد ذلك عليها، فقالت: أصلحك الله، إنه كان أخا زوجي وكان أحق بي فضمني وولده، فسمع بذلك رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقبل إليه حتى وقف ثم ضرب على منكبه فقال يا أبا الدرداء يا ابن ماء السماء، طف الصاع، طف الصاع، طف الصاع» . وتطفيف الصاع هو تقصيره على الامتلاء. ومنه قول الله عز وجل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] وقال أبو عبيد: هو أن يقرب من الامتلاء ولما يمتلئ. فمعنى الحديث أن أبا الدرداء لما انتقص أخا أخيه لأبيه بأنه ابن أمة، كان في

(18/503)


ذلك وصفه لنفسه بالكمال من جهة النسب، فرد النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله بأن أعلم بتساويه معه ومع الناس جميعا في النقصان بقوله: طف الصاع طف الصاع طف الصاع، وإن تباينوا في النقصان بقدر أعمالهم المحمودة، إذ لا يدرك أحد بنسبه درجة الكمال. قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» ففي هذا دليل أنهم إذا لم يفقهوا كان من فقه ممن دونهم أرفع منهم، وفي هذا علو مرتبة أهل الفقه على من سواهم. وقد قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روي عنه: «ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين أو عمل صالح» الحديث، وبالله التوفيق لا شريك له.

[الحديث في أخبار سعد بن معاذ في العرش]
ومن كتاب أوله يدير ماله قال وسألت مالكا عن الحديث في أخبار سعد بن معاذ في العرش، فقال لا تتحدث به، وما يدعو الإنسان أن يتحدث به وهو يرى ما فيه من التعزيز. وعن الحديث إن الله خلق آدم على صورته، وعن الحديث في الساق، وذلك كله قال ابن القاسم: لا ينبغي لمن يتقي الله ويخافه أن يحدث بمثل هذا، فقلت له: إن الله تبارك وتعالى يضحك، فلم يره من هذا وأجازه وقال: قد جاء فيه حديثان وحديث ينزل مثل ذلك، وقال هو على شيء، وهو في كل مكان، وهو ملء كل شيء {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 84] .

(18/504)


قال محمد بن رشد: حديث سعد بن معاذ في العرش الذي أشار إليه هو ما يروى عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه قال: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ،» وأنه قال: «اهتز له عرش الرحمن» . وما يروى من أن أمه بكت وصاحت لما أخرجت جنازته، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ألا يرقأ دمعك ويذهب حزنك فإن ولدك أول من ضحك الله له واهتز له العرش» وما يروى من «أن جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء إلى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات وفتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش، قال فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا سعد بن معاذ قد مات» .
والحديث في الساق الذي أشار إليه هو ما روي أنه «يتجلى للخلق [فيلقاهم] فيقول من تعبدون فيقولون ربنا فيقول هل تعرفون ربكم فيقولون سبحانه إذا اعترف لنا عرفناه» وفي بعض الآثار: «إذا عرفنا بنفسه عرفناه. قال فعند ذلك يكشف عن ساق فلا يبقى مؤمن إلا خر لله جل ذكره ساجدا» . وإنما نهى مالك أن يتحدث بهذين الحديثين وبالحديث الذي

(18/505)


جاء بأن الله خلق آدم على صورته، ونحو ذلك من الأحاديث التي يقتضي ظاهرها التشبيه مخافة أن يتحدث بها فيكثر التحدث بها وتشيع في الناس فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها فيسبق إلى ظنونهم التشبيه بها. وسبيلها- إذا صحت الروايات بها- أن تتأول على ما يصح مما ينتفي به التشبيه عن الله عز وجل بشيء من خلقه، كما يصنع بما جاء في القرآن مما يقتضي ظاهره التشبيه، وهو كثير، كالإتيان في قوله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة: 210] ، والمجيء في قوله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] والاستواء في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] . وكما يفعل أيضا بما جاء من ذلك في السنن المتواترة، كالضحك، والتنزيل، وشبه ذلك مما لم يكره روايتها لتواتر الآثار بها، لأن سبيلها كلها في اقتضاء ظاهرها التشبيه وإمكان تأويلها على ما ينتفي به تشبيه الله عز وجل بشيء من خلقه سواء. وأبعدها كلها من التشبيه ما جاء من أن عرش الرحمن اهتز لموت سعد بن معاذ، لأن العرش مخلوق خلق من خلق الله عز وجل، فلا يستحيل عليه الحركة والاهتزاز، وإضافته إلى الله تعالى إنما هي بمعنى التشريف له، كما يقال: بيت الله وحرمه، لا بمعنى أنه يحل فيه وموضع لاستقراره، إذ ليس في مكان ولا مستقرا بمكان، فقد كان قبل أن يخلق المكان، فلا يلحقه عز وجل باهتزاز عرشه ما يلحق من اهتز عرشه من المخلوقين وهو جالس عليه من تحركه بحركته، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ويحتمل أن يكون الكلام مجازا فيكون المراد بتحرك العرش تحرك حملته استبشارا وفرحا بقدوم روحه، وهذا جائز في كلام العرب أن يقال: اهتز المجلس لقدوم فلان عليه، أي اهتز أهله لقدومه، كقوله عز

(18/506)


وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يريد أهلها، ومثل قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذا جبل يحبنا ونحبه» أي يحبنا أهله ونحب أهله. وقد قيل: إن المراد باهتزاز العرش سريره الذي حمل عليه؛ وهذا يرده النص الذي في بعض الآثار من إضافة العرش الذي اهتز بموته إلى الرحمن عز وجل.
وأما قوله في حديث الساق: فيكشف عن ساق، فلم يضف الساق فيه إلى أحد، ومعناه عن شدة، لأن مثل هذا الكلام يستعمل في اللغة على معنى شدة الأمر كما قال الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق
وقال ابن عباس في قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] أي عن شدة من الأمر. وقال الحسن في قَوْله تَعَالَى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة: 29] أي التفت ساق الدنيا بساق الآخرة؛ وقال الضحاك: معناه أمر الدنيا بأمر الآخرة؛ وقال عمر بن الخطاب: أعمال الدنيا بمحاسبة الآخرة، وذلك أمر عظيم.
وأما قوله: إن الله خلق آدم على [صورته] فإنه يروى على وجهين: أحدهما أن الله خلق آدم على صورته، الثاني أن الله خلق آدم على، صورة الرحمن. فأما الرواية: إن الله خلق آدم على صورته، فلا خلاف بين أهل النقل في صحتها لاشتهار نقلها وانتشاره من غير منكر لها ولا طاعن فيها.

(18/507)


وأما الرواية: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن، فمن مصحح لها ومن طاعن عليها، وأكثر أهل النقل على إنكار ذلك وعلى أنه غلط وقع من طريق التأويل لبعض النقلة، توهم أن الهاء ترجع إلى الله عز وجل فنقل الحديث على ما توهم من معناه. فأما الرواية المحفوظة وهي: إن الله خلق آدم على صورته فتحتمل وجوها من التأويل: منها أن الهاء من قوله: إن الله خلق آدم على صورته عائدة على رجل مر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه وأبوه أو مولاه يضرب وجهه لطما ويقول قبح الله وجهك، فقال: «إذا ضرب أحدكم عبده فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته» . وقد روي أنه سمعه يقول: قبح الله وجهك فزجره النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك بقوله ذلك وأعلمه به أنه قد سب آدم لكونه مخلوقا على صفته، ومن دونه من الأنبياء أيضا. ومنها أن الكناية في قوله على صورته ترجع إلى آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولذلك ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون معنى الحديث وفائدته الإعلام بأن الله عز وجل لم يشوه خلقه حين أخرجه من الجنة بعصيانه كما فعل بالحية والطاووس اللذين أخرجهما منها معه، على ما روي من أنه سلب الحية قوائمها وجعل أكلها من التراب، وشوه خلق الطاووس؛ والثاني أن يكون معناه وفائدته إبطال قول الدهرية الذين يقولون إنه لا إنسان إلا من نطفة، ولا نطفة إلا من إنسان، ولا دجاجة إلا من بيضة، ولا بيضة إلا من دجاجة، لا إلى أول؛ والثالث أن يكون معناه وفائدته إبطال قول أهل الطبائع والمنجمين الذين يزعمون أن الأشياء بتأثير العناصر والفلك والليل والنهار، فأعلم النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الحديث أن الله عز وجل هو المنفرد بخلق آدم على ما كان عليه من الصورة والتركيب والهيئة لم يشاركه في شيء من ذلك فعل طبع ولا تأثير فلك، وخص آدم بالذكر تنبيها على سائر المخلوقات لأنه أشرفها.

(18/508)


فإذا كان الله عز وجل هو المنفرد بخلقه دون مشاركة فعل طبع أو تأثير فلك، فولده ومن سواهم على حكمه كذلك. وقد قيل في ذلك وجه رابع وهو أن فائدة الحديث تكذيب القدرية فيما زعمت من أن صفات آدم منها ما خلقها الله تعالى، ومنها ما خلقها آدم لنفسه، فأخبر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتكذيبهم وأن الله خلق آدم على جميع صورته وصفاته ومعانيه وأعراضه. وهذا كما تقول: عرفني هذا الأمر على صورته إذا أردت أن تعرفه على الاستيفاء والاستقصاء دون الاستثناء. وقد قيل فيه وجه خامس وهو أن يكون معناه إشارة إلى ما يعتقده أهل السنة من أن الله عز وجل خلق السعيد سعيدا والشقي شقيا، فخلق آدم على ما علمه وأراد أن يكون عليه من أنه يعصي ثم يتوب فيتوب الله عز وجل عليه. ففي الحديث دليل على أن أحوال العبد تتغير على حسب ما يخلق عليه وييسر له من الخير والشر، وأن كل شيء بقضاء وقدر. وقد قيل إن الكناية في قوله على صورته راجعة إلى بعض المشاهدين من الناس، وأن المعنى في ذلك والفائدة فيه هو الإعلام بأن صورة آدم كانت على هذه الصورة إبطالا لقول من زعم أنها كانت مباينة لخلق الناس على الحد الزائد يخرج عن المعهود من متعارف خلق البشر، إذ لا يأتي ذلك من وجه صحيح يوثق به.
وأما الرواية الثانية التي جاءت وهي: «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» فقد ذكرنا أن بعض أهل النقل لا يصحح الرواية بذلك، وأن الراوي لها ساق الحديث على ما ظنه من معناه. وقد قال بعض الناس إن ذلك لا يصح أيضا من طريق اللسان، لأن الاسم إذا تقدم فأعيد ذكره كني عنه بالهاء من غير أن يعاد الاسم. ألا ترى أنك تقول إذا أخبرت عن ضرب رجل لعبده: ضرب زيد غلامه ولا تقول: ضرب زيد غلام زيد، لأنك لو قلت ضرب زيد غلام زيد لفهم من قولك أنه لم يضرب غلامه وإنما ضرب غلام

(18/509)


رجل آخر اسمه زيد؛ وليس ذلك بصحيح، لأن القرآن قد جاء بذلك، قال الله عز وجل: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85] ولم يقل: إلينا، فإنما يضعف الحديث من جهة النقل، ومع ضعفه فله وجوه كثيرة محتملة ينتفي بها التشبيه عن الله عز وجل:
منها أن يكون المراد بالصورة الصفة، لأن آدم موصوف بما يوصف به الله عز وجل من أنه حي عالم قادر سميع بصير متكلم، ولا توجب مشاركته له في التسمية والوصف تشبيهه به، لأن صفة الله عز وجل قديمة غير مخلوقة، وصفات آدم مخلوقة محدثة؛ وتكون فائدة الحديث على هذا الإعلام بتشريف الله إياه بأن أبانه عن الجمادات وعن سائر الحيوانات.
ومنها أن تكون إضافة الصورة إليه إضافة تشريف وتخصيص، لأن الإضافة قد تكون بمعنى التشريف والتخصيص على طريق التنويه بذكر المضاف إذا خص بالإضافة إليه، وذلك نحو قوله: {نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس: 13] فإنها إضافة تخصيص وتشريف تفيد التحذير والردع من التعرض لها. ومن ذلك قوله عز وجل: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] ، وقوله في المسلمين: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] إلى ما وصفهم به. وقول الناس للكعبة: بيت الله، وللمساجد بيوت الله، فشرفت صورة آدم بإضافتها إلى الله عز وجل من أجل أنه هو اخترعها وخلقها على غير مثال سبق، ثم سائر وجوه الشرف التي خص بها آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من فضائله [المعلومة] المشهورة. فالتشبيه منتف عن الله عز وجل بهذا الحديث على جميع الوجوه، من إعادة الضمير في صورته إلى الله عز وجل، أو إلى

(18/510)


آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أو إلى من خرج عليه الحديث على ما روي من أنه خرج على سبب، أو إلى بعض المشاهدين، والحمد لله رب العالمين.
وقد ذهب ابن قتيبة إلى التمسك بظاهر الحديث فقال: إن لله صورة لا كالصور، وكما أنه شيء لا كالأشياء؛ فأثبت لله تعالى صورة قديمة زعم أنها ليست كالصور، ثم قال: إن الله جل ذكره خلق آدم على تلك الصورة، فتناقض في قوله وتوغل في تشبيه الله عز وجل بخلقه، فهو خطأ من القول لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه.
وأما قول ابن القاسم في هذه الرواية: وهو كل شيء وهو في كل مكان- وهو ملء كل شيء، فهو كلام غير محصل لا يصح أن يحمل على ظاهره، فيقال إن قوله وهو كل شيء معناه وهو خالق كل شيء، وإن قوله وهو في كل مكان معناه وهو عالم بما في كل مكان، وإن قوله وهو ملء كل شيء معناه وهو قيوم كل شيء، أي لا يستغني شيء من الأشياء في قيامه عنه، وبه التوفيق، لا شريك له.

[سؤال عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمن]
وفي كتاب القطعان قال ابن القاسم عن العمري «أن عائشة قالت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله من المؤمن؟ قال الذي إذا أصبح سأل من أين قرصته، قالت يا رسول الله من المؤمن؟ قال الذي إذا أمسى سأل من أين قرصته، قالت يا رسول الله لو علم الناس أنهم كلفوا علم ذلك لتكلفوه قال قد علموه ولكنهم غشموا بالمعيشة غشما» .

(18/511)


قال محمد بن رشد: سؤال عائشة النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المؤمن؟ معناه من المؤمن الممدوح بالإيمان، إذ لا يقال فلان مؤمن على سبيل المدح له إلا إذا كان حسن الإيمان يتوقى به من الآثام. وقوله: سأل من أين قرصته في الغداء والعشاء، معناه بحث عمن اشتريت له منه حتى يعلم إن كان طيب المكسب أم لا، فلا يأكل إلا ما تيقن أنه لا تباعة لأحد عليه فيه، بتوقيه المتشابه وتركه ما يربيه إلى ما لا يربيه. وإنما ذكر القرصين اللذين لا فضل فيهما عما يحتاج إليه ليبين بذلك أن ما فيه فضل عما لا بد له منه فذلك عليه فيه آكد، فهذا معنى الحديث عندي، والله أعلم، وبه التوفيق، لا شريك له.

[قول ابن مسعود المراء لا تؤمن فتنته]
في سماع يحيى من كتاب الأقضية قال يحيى وأخبرني ابن أبي كثير عن ابن عيينة أنه قال: كان ابن مسعود يقول: المراء لا تؤمن فتنته، ولا تفهم حكمته.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لأن المراء هو مخالفة الرجل في القول ومنازعته فيه، والذهاب إلى تصويب قوله بإقامة الحجة على خصمه. وهذا من الفعل المذموم، لأن من قصد إليه لم يأمن أن يفتتن بقوله ولا يفهم وجه قول خصمه بالحرص على الرد عليه. ولا ينبغي لأحد أن يناظر أحدا إلا ليتبين له الحق هل هو فيما يعتقده فيثبت عليه، أو فيما يقوله مناظره فيصير إليه، وبالله التوفيق.

(18/512)


[الإسلام يسر كله]
في سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب أخبرنا محمد بن أحمد عن عبد الملك بن الحسن، عن ابن وهب عن مالك أنه قال: سمعت رجلا من أهل العلم يذكر أن الإسلام يسر كله، وأن غيره من الأديان عسر كله.
قال محمد بن رشد: هذا قول صحيح يشهد بصحته قول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وبالله التوفيق.

[المراد بالأوابين]
في الأوابين قال ابن وهب في الأوابين هو العبد يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب، وقال: الأواب الحفيظ الذي إذا ذكر الله استغفره.
قال محمد بن رشد: قال الله عز وجل: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] ، وقال: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق: 32] ، وقال عن سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] يعني أنه رجاع إلى طاعة الله تواب إليه مما يكرهه منه؛ لأن أوابا فعال من أبنية التكثير، كما تقول: ضراب وصوام وقوام وقوال. والفعل منه آب يؤوب أي رجع. ومعنى قول ابن وهب في الأواب إنه العبد يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب، معناه كلما وقع

(18/513)


في ذنب تاب منه ولم يعد إليه ورجع إلى طاعة ربه، لا أنه الذي يتوب من الذنب ثم يعود إليه بعينه ثم يتوب منه. وقال مجاهد في الأواب الحفيظ: هو الذي يذكر ذنبه في الخلاء فيستغفر منه. وروي عن ابن عباس أنه الذي حفظ ذنوبه ثم رجع عنها، وبالله التوفيق.

[معاملة الذي يعمل بالربا ويبيع الخمر]
في معاملة الذي يعمل بالربا ويبيع الخمر قال وسألته عن المسلم إن كان معروفا بأكل الربا والعمل به وببيع الخمر، هل ترى أن يتسلف منه أو يقبض الدين منه؟ فقال: شأن المسلم عندي أعظم من شأن النصراني إذا كان المسلم معروفا بأكل الربا والعمل به وببيع الخمر لم أر لأحد أن يتسلف منه ولا يقتضي دينه منه ولا يخالطه ولا يؤاكله. قال ابن وهب قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تخالطن إلا مؤمنا» .
قال محمد بن رشد: قوله في المعروف بأكل الربا والعمل به وببيع الخمر إن شأن المسلم في ذلك أعظم من شأن النصراني، يريد أشد من شأن النصراني في معاملة كل واحد منهما، صحيح. وإنما كانت معاملة المسلم الذي يعمل بالربا ويبيع الخمر أشد من معاملة النصراني وهو يبيع الخمر ويعمل بالربا، من أجل أنه غير مخاطب بالشرائع على الصحيح من الأقوال، بدليل إجماعهم على أنه إذا أسلم يحل له ما أربى فيه في حال كفره، وثمن ما باع فيه من الخمر. وقد أمر الله أن تؤخذ الجزية [منهم] ، وكره مالك في

(18/514)


كتاب الضحايا من المدونة أن يتسلف الرجل من النصراني دينارا باع به خمرا أو يبيع به منه شيئا، مراعاة للقول بأنهم مخاطبون بفروع الشرائع، ولم يحرمه. والقياس جوازه؛ لأنه لو أسلم لحل له ذلك الدينار. ولم ير في هذه الرواية ابن وهب لأحد أن يتسلف من المعروف بأكل الربا أو بيع الخمر شيئا ولا يقبض منه دينا ولا يخالطه ولا يؤاكله، ومعناه إذا كان الغالب على ماله الحلال، وابن القاسم يجيز ذلك، وهو القياس؛ وأصبغ يحرمه، وهو تشديد على غير قياس؛ لأنه جعل ماله كله حراما لأجل ما خالطه من الحرام، فأوجب عليه الصدقة بجميعه وقال: إن من عامله فيه وجب عليه أن يتصدق بجميع ما أخذ منه. وأما إن كان قد غلب على ماله الربا وثمن ما باع من الخمر فلا يعامل ولا تقبل هديته ولا يؤكل طعامه، قيل على وجه الكراهة، وقيل على وجه التحريم. ولو ورث سلعة أو وهبت له لجاز أن تشترى منه وأن تقبل منه هبة باتفاق. واختلف إن كان الربا وثمن الخمر قد أحاط بجميع ما بيده من المال في مبايعته ومعاملته على أربعة أقوال قد ذكرناها ووجه كل قول منها في مسألة قد شخصناها في هذا المعنى حاوية لجميع وجوهها ومعانيها، فتركت ذكرها هنا اختصارا. ومعنى قوله في الحديث الذي احتج به: «لا تخالطن إلا مؤمنا» أي لا تخالطن في الأخذ والإعطاء إلا مؤمنا ممدوح الإيمان لتورعه عن اكتساب الحرام، وبالله التوفيق.

[تفسير آية الصدقة]
في تفسير آية الصدقة
قال وسألته عن تفسير قوله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] ، فقال: الفقراء المتعففون وهم

(18/515)


أهل فاقة وحاجة؛ والمساكين الذين يسألون الناس على الأبواب والطرق وهم السائلون؛ والعمال الذين يستعملون عليها ويشخصون فيها؛ والمؤلفة قلوبهم قوم كان النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتألفهم إلى الإسلام بالصدقة من الزكاة؛ وفي الرقاب المكاتبون، والغارمين ناس كانت تكون عليهم الديون فلا يجدون ما يقضون به دينهم، [فأمر الله تعالى نبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعطوا من الزكاة ما يقضون به دينهم] ؛ وفي سبيل الله: الغازي في سبيل الله، وابن السبيل: المنقطع به الذي لا يجد دابة لركبها ولا ثمنا يتكارى به.
قال محمد بن رشد: قد مضى في آخر أول رسم من سماع أشهب في الفقراء والمساكين ستة أقوال: أحدها قوله في هذه الرواية: إن الفقير المتعفف الذي لا يسأل، والمسكين المحتاج الذي يسأل، وهو أظهرها. ولا اختلاف في أن العاملين عليها هم الذين يستعملون عليها ويشخصون فيها كما قال في الرواية. وأما المؤلفة قلوبهم فقد مضى القول فيهم في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم.
وأما قوله وفي الرقاب ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يجوز أن يعان بها المكاتبون وإن لم تتم بذلك حريتهم، وهو قول المغيرة وظاهر هذه الرواية؛ والثاني أنه لا يجوز أن يعان بها المكاتبون وإن تمت بذلك حريتهم من أجل أن الولاء للذي كاتبهم، وهو قول ابن القاسم في الواضحة وظاهر روايته عن مالك في المدونة؛ والثالث أنه يجوز أن يعان بها المكاتبون إن تمت بذلك حريتهم. فالقول الأولى ضعيف، والقول الثاني هو القياس، والقول الثالث استحسان.

(18/516)


وأما الغارمون فقال في هذه الرواية: إنهم الذين تكون عليهم الديون، يريد من غير فساد، فلا يجدون لها قضاء، يريد أو يجدون لها قضاء فلا يفضل لهم من المال بعد قضائها ما تحرم به عليهم أخذ الصدقة؛ لأنهم إن لم يجدوا لديونهم قضاء فهم فقراء غارمون تكون لهم الصدقة بحق الفقر وحق الدين، وإن وجدوا لها قضاء ولم يفضل لهم بعد قضائها من المال ما تحرم به الصدقة عليهم كانت لهم الصدقة بحق الدين لا بحق الفقر؛ لأنهم أغنياء بما كان عندهم من المال مكافئا لما كان عليهم من الديون، وهم الذين قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم: «لا تحل الصدقة [لغني] إلا لخمسة» فذكر فيهم الغارم. واختلف إن لم يكن مع الغريم ما يفي بدينه إلا دارا يسكنها أو خادما يخدمه، لا فضل في ذلك عما يحتاج إليه في سكناه واختدامه، هل يحسب الدين في ذلك فيأخذ من الزكاة لحق الفقراء خاصة، أو لا يحسبه في ذلك فيأخذ من الزكاة لحق الفقر والدين جميعا؛ واختلف إن كان له من المال ما يفي بدينه سوى الدار والخادم اللذين لا فضل فيهما، فقيل: إن الدين يحسب فيهما ويبقى له المال فلا تحل له الصدقة، وقيل: إنه يحسب الدين فيما له من المال سوى الدار والخادم اللذين لا فضل فيهما، فيأخذ من الزكاة لحق الفقير. والقولان قائمان من المدونة في المسألتين جميعا.
وأما قوله: وفي سبيل الله إنه الغازي في سبيل الله، فهو صحيح لا اختلاف فيه، وإنما يختلف هل يعطى منها الغني في الغزو؟ فقال في المدونة: إنه يعطى منها وإن كان غنيا، وهو قول محمد بن سلمة: إن الغني يأخذ من الصدقة ما يتقوى به للجهاد، وهو مذهب أصبغ. ولعيسى بن دينار في تفسير

(18/517)


ابن مزين أنه لا يعطى من الزكاة إلا إذا احتاج في غزوه ولم يحضره وفره ولا شيء من ماله. والأول هو الصحيح، لقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة» فذكر فيهم الغازي في سبيل الله. وابن السبيل هو المنقطع به في السفر لحج كان أو غيره، وإن كان غنيا في بلده، وبالله التوفيق.

[تفسير قوله عز وجل كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ]
في تفسير قوله عز وجل:
{كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]
وسئل عن تفسير قول الله عز وجل: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] ، قال إذا جاء السحر تركوا الصلاة وأقبلوا على الاستغفار.
قال محمد بن رشد: قد مضى قرب آخر الرسم الأول من سماع أشهب الكلام على قوله: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] وتفسير قوله: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] فما فسره به في الرواية صحيح بين لا إشكال فيه، وبالله التوفيق.

[تفسير قوله وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ]
في تفسير قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وسئل عن تفسير قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] يقول: أيها الزارع اتق الله، وأد حق ما رفعت. وأنت أيها الوالي لا تأخذ أكثر من حقك فتكون من المسرفين.

(18/518)


قال محمد بن رشد: أما قوله عز وجل: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فلا اختلاف في أن الخطاب فيه لأصحاب الأموال. واختلف في المراد بذلك الحق ما هو، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنه الزكاة المفروضة في الأموال، وروي ذلك عن ابن عباس وجماعة [من أهل التفسير] ، وقال آخرون: بل ذلك حق أوجبه الله عز وجل في الأموال غير الزكاة المفروضة، فنسخه الله بالزكاة، فلا حق في الأموال سوى الزكاة.
وأما قوله عز وجل: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] فقيل: إن الخطاب فيه لآخذي الزكاة فلا يتعدوا من الزكاة أكثر من الواجب فيها فيكونوا من المسرفين، وهو قوله في هذه الرواية. وقيل: الخطاب بذلك للولاة أن لا يأخذوا أكثر من الواجب لهم فيكونوا من المسرفين، ولأصحاب الأموال أن لا ينقصوا من الواجب عليهم فيكونوا من المسرفين؛ لأن الإسراف يكون في الزيادة على الحق وفي النقصان منه. وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال في تأويل الآية: معناها لا تمنعوا الصدقة فتعصوا. وفي قوله عز وجل: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] على القول بأن المراد بالحق الزكاة بعد أن ذكر في الآية الزمان، دليل على إيجاب الزكاة في الفواكه. وإلى هذا ذهب ابن حبيب. وفي قوله عز وجل: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] بعد أن ذكر الثمار والزرع، دليل على أن الزكاة لا تجب في الثمار إلا يوم جذاذها؛ لأن الحصاد في الثمار هو جذاذها، وأنه ليس على الرجل أن يحصي في الزكاة ما أكل من ثمر النخيل والأعناب قبل الجذاذ ولا من الفريك والفول الأخضر وشبهه قبل الحصاد، وهو قول الليث بن سعد ومذهب الشافعي تعلقا بظاهر هذه الآية

(18/519)


مع ما جاء عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع» . فعلى هذا يحسن أن يتأول أن قول الله عز وجل: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] إنما يعود على أصحاب المال في الأكل الذي أباحه الله عز وجل لهم ولم يوجب عليهم فيه زكاة، فيكون المعنى في قوله عز وجل {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] كلوا من ثمره إذا أثمر ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، وآتوا حقه يوم حصاده. فإذا أكل الرجل على هذا من ثماره بعد طيبها اليسير بغير إسراف لم يحصه في الزكاة، وإن أسرف في الأكل منها أحصاه وأخرج زكاته. وهذا ظاهر في التأويل، يؤيده الحديث المذكور، وبالله التوفيق.

[تفسير قوله عز وجل يُرَاءُونَ]
في تفسير قوله عز وجل: {يُرَاءُونَ} [الماعون: 6]
وسئل عن تفسير قوله عز وجل: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] قال هم المنافقون يراءون بالإسلام ويمنعون زكاة أموالهم.
قال محمد بن رشد: قد قيل في الماعون إنه ما فيه منفعة، كالفأس والقدر والدلو وشبه ذلك مما يعيره الناس بعضهم بعضا بكرم أخلاقهم ولا يشحون به ولا يمنعونه. فالآية نزلت في المنافقين بدليل قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] لأنه لا يرائي بأعماله ويريد

(18/520)


بها غير وجه الله عز وجل إلا منافق، فالوعيد يتعلق بهم على من تأول أن الماعون الزكاة، على النفاق وعلى منع الزكاة، وعلى مذهب من يتأول أن الماعون عارية متاع البيت، على النفاق وعلى منع العارية من المسلمين بغضا لهم، لا على نفس المنع لمجرده، وبالله التوفيق.

[تفسير قوله عز وجل وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ]
في تفسير قوله عز وجل:
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وسئل عن تفسير قوله عز وجل: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] فقال: إن ذلك أن يطأ الرجل امرأته إذا تبين له أنها حائض، فقال: لا جناح عليك فيما لم تتعمد.
قال محمد بن رشد: التلاوة إنما هي: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] والآية نزلت في الأمر بدعاء الرجل إلى أبيه إلا أن لا يعلم أبوه فيدعى إلى مواليه، فإن لم يكن له موال فهو أخ للمسلمين بالإسلام. قال الله عز وجل: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] فرفع عز وجل بهذه الآية الحرج عمن أخطأ بأن نسب الرجل إلى مواليه أو إلى أنه أخ للمسلمين بالإسلام إذا لم يعلم أبوه، وأوجب الحرج في ذلك عليه إذا علم أباه فتعمد بقلبه نسبته إلى غير أبيه. وقيل: إن معنى الآية إنما هو رفع الحرج فيها عمن ينسب الرجل إلى غير أبيه وهو يظنه أباه، وأوجب الحرج عليه إن تعمد بقلبه نسبته إليه وهو يعلم أنه غير أبيه. وقيل: إن معنى الآية إنما هو أن الله رفع الإثم والحرج عمن أخطأ بأن نسب الرجل إلى من تبناه قبل أن يعرف كراهة الله عز وجل لذلك ونهيه عنه، وأوجب الحرج على من تعمد مخالفة أمر الله عز وجل بعد أن أعلمه

(18/521)


بالخطأ الذي رفع الله فيه الحرج عن هذه الأمة بهذه الآية، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان وعما استكرهوا عليه» وهو على وجوه: منها أن يفعل المحظور وهو يظنه مباحا؛ ومنها أن يفعل المحظور في وقت يظنه مباحا كالذي يفطر في رمضان وهو يظن أن الشمس قد غابت، وكالذي يطأ الحائض وهو يظن أنها طاهر؛ ومنها أن يفعل الفعل المحظور من غير قصد إليه ولا إرادة، كالذي يرمي الحجر حيث يجوز له فيصيب به حيوانا أو إنسانا فيقتله، وما أشبه ذلك، وبالله التوفيق لا شريك له.

[ما جاء من أن السلطان ظل الله في الأرض]
فيما جاء من أن السلطان ظل الله في الأرض قال: وأخبرني الليث يرفع الحديث إلى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: إن «السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم، فإذا عدل فيهم كان له الأجر وعلى رعيته الشكر، وإذا جار عليهم كان عليه الوزر وعلى رعيته الصبر» . وقال: «من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصحة حرم الله عليه ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام» .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا كله بين، وفيه: أنه لا يجوز الخروج على الإمام وإن جار، لما يؤدي إليه ذلك مما هو أشد من جوره، وبالله التوفيق.

(18/522)


[عيب الإكثار]
في عيب الإكثار قال: وأخبرني عن عبد الرحمن بن القاسم أنه قال: كنا جلوسا عند مالك يوما إذ مر بنا ابن وهب فلحظه مالك ببصره ساعة ثم قال: سبحان الله أيما فتى لولا أنه مكثر، ثم قال: بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني مما أتخوف على أمتي العصبية والقدرية وكثرة الرواية» .
قال محمد بن رشد: المعنى في كراهة ذلك بين؛ لأن من أكثر رواية الأحاديث ولم ينتق من يحملها عنه لم يأمن أن يحدث عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما لم يقله؛ ومن اشتغل برواية الأحاديث عن التفقه فيها ومعرفة ما عليه العمل منها فما وفق لما له الحظ فيه. وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: العلم الذي هو العلم معرفة السنن، والأمر المعروف الماضي المعمول به. وكان ابن سيرين يقول: إنما هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تحملون دينكم. وقال يحيى بن يحيى: سمعت مالكا يقول: لقد أدركت بهذا البلد أكثر من سبعين شيخا كلهم أهل فضل ما حملت عن واحد منهم حرفا. قيل له: ولم ذلك يا أبا عبد الله؟ فقال: إن هذا الأمر ليس يؤخذ إلا من أهله، إنما هي كلمة تغير فيستحل بها حرام أو يحرم بها حلال.
ومخافة هذا المعنى -والله أعلم- قال عمر بن الخطاب: أقلوا الحديث عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا شريككم. وقد مضى الكلام على قول عمر هذا في رسم حلف أن لا يبع رجلا سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

(18/523)


[التوقي في الفتوى]
في التوقي في الفتوى قال وحدثني عن بعض أصحاب مالك قال: كنا عنده جلوسا إذ أتاه ابن أبي حازم فأدناه وقربه وأقبل عليه بكلامه وحديثه، ثم قال له: يا ابن أبي حازم، إذا جاءك أحد فإن قدرت أن تنجي نفسك قبل أن تنجيه فافعل. وحدثنا عن ابن وهب أنه قال: لما ودعت مالكا قال لي: لا تجعل ظهرك للناس جسرا يجوزون عليه إلى ما يحبون، فإن أخسر الناس من باع آخرته بدنيا غيره.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، وهو مثل أن يستفتي العالم الرجل من إخوانه في أمر يرجو أن يجد عنده فيه رخصة، وذلك الأمر مما تعارضت عنده فيه الأدلة في الحظر والإباحة، وفي وجوب شيء وسقوطه، فيغلب من الدلائل ما يوجب إباحة المحظور أو سقوط الواجب ويفتيه بذلك، فينقلب عنه مسرورا بما أفتاه به ورخص له فيه، ويبقى هو مشغول البال بذلك. وقد قال عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم لرجل أفتى في الرضاعة بشيء كأنه يقول لم يرها إلا من قبل الأم: لا تفت بفتوى لا تتقلب من الليل على فراشك إلا ذكرته. وقعت هذه الحكاية في سماع ابن القاسم من كتاب الرضاع. وسأل ابن وهب مالكا عن الذي يجعل على نفسه صيام الإثنين والخميس فيمرض أو يمر به الإثنين والخميس وهو يوم فطر أو أضحى، فقال: أرى أن يقضي بعد ذلك إلا أن يكون نوى الفطر إذا مرض وإذا مر به الفطر والأضحى، وقال: إنه يقال إن أخسر الناس من باع آخرته بدنياه، وأخسر منه من باع آخرته بدنيا غيره، ومعناه في القاضي والمفتي، وبالله التوفيق.

(18/524)


[الذي يحلف على أن عمر بن الخطاب من أهل الجنة]
في الذي يحلف على أن عمر بن الخطاب من أهل الجنة وأخبرني عبد الملك بن الحسن عن غير واحد من المصريين أن ابن القاسم سئل عن رجل قال: امرأته طالق إن لم يكن عمر بن الخطاب من أهل الجنة، فقال ابن القاسم: لا حنث عليه. وأخبرني من أثق به عن ابن القاسم في أبي بكر وعمر مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: لا شك ولا ارتياب في أنه لا حنث على من حلف بطلاق امرأته في أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما من أهل الجنة. وكذلك القول في سائر العشرة أصحاب حراء الذين شهد لهم رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة، وكذلك من جاء فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أثر صحيح أنه من أهل الجنة، كعبد الله بن سلام، فيجوز أن يشهد له بالجنة. وإنما توقف مالك فيمن حلف في عمر بن عبد العزيز أنه من أهل الجنة فقال: هو إمام هدى، أو قال هو رجل صالح ولم يزد على ذلك، إذ لم يأت فيه نص يقطع العذر. وقال ابن القاسم: إنه لا حنث عليه. ووجه ما ذهب إليه التعلق بظاهر ما روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «إذا أردتم أن تعلموا ماذا للعبد عند ربه فانظروا ما يتبعه من حسن الثناء» وقوله: «أنتم شهداء الله في الأرض فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار» . وقد حصل الإجماع من الأمة على حسن الثناء عليه، والإجماع معصوم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تجتمع أمتي على ضلالة» . وقد مضى في رسم

(18/525)


الرهون من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق القول فيمن حلف أنه من أهل الجنة أو أنه ممن يدخل الجنة، وهو مما يتعلق بهذا المعنى، وبالله التوفيق.

[أيمان البيعة لا تلزم من أكره عليها]
في أن أيمان البيعة لا تلزم من أكره عليها قال ابن القاسم: ولقد قلت لمالك إنه تأتينا بيعة هؤلاء القوم فتغلق علينا أبواب المسجد فيضهدوننا فنبايع، قال: إذا علمت بذلك فلا تبرح واجلس في بيتك. قلت: أفكان مالك يقول: إذا أكرهوه على البيعة إن ذلك لا يلزمه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا خاف على نفسه إن لم يبايع على ما يستحلف عليه جاز له أن يبايع ولا تلزمه الأيمان في ذلك ما كانت. قال الله عز وجل: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . وإن أمكن من امتحن بذلك أن يداري فيما يستحلف فيه كان حسنا من الفعل. فقد روي أن أبا حنيفة فر من بيعة المنصور، فلما أخذ المنصور جماعة من الفقهاء، قال أبو حنيفة: لي فيهم أسوة، فخرج مع أولئك الفقهاء، فلما دخلوا على المنصور أقبل على أبي حنيفة وجذبه من بينهم وقال له: أنت صاحب حيل، فالله شاهد عليك أنك تبايعني صادقا من قلبك، قال: الله يشهد علي حتى

(18/526)


تقوم الساعة، قال حسبك. فلما خرج أبو حنيفة قال له أصحابه: حكمت على نفسك ببيعته حتى تقوم الساعة، فقال: إنما أردت حتى تقوم الساعة من مجلسك إلى ما تحتاج إليه من بول أو غائط أو غير ذلك، أي حتى يقوم من مجلسه ذلك، وبالله التوفيق.

[ولد المسلم الصغير يولد مخبولا أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل]
من سماع أصبغ بن الفرج من عبد الرحمن بن القاسم من كتاب الزكاة والصيام
قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن ولد المسلم الصغير يولد مخبولا أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل، قال: ما سمعت فيه شيئا، إلا أن الله تبارك وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] الآية، وأرجو أن يلحقهم الله بهم. فأما من احتلم وجرى عليه القلم ثم أصيب بعد ذلك فإني سمعت بعض أهل العلم والفضل يقول إنه يطبع على عمله بمنزلة من قد مات.
قال محمد بن رشد: الذي يولد مخبولا أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل فهو بمنزلة من قد مات صغيرا من أولاد المسلمين، إذ لم يلحق بالمكلفين، فهو مولود على الفطرة وصائر بفضل الله ورحمته إلى الجنة. وما رجاه ابن القاسم بتأويل الآية من أن يلحقوا بآبائهم مروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وروي عن ابن عباس أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في جنته وإن لم يبلغها بالعمل ليقر بهم عينه ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] .» .

(18/527)


وأما من أصابه الخبل بعد أن احتلم وجرى عليه القلم فما حكى أنه سمعه من بعض أهل العلم فيه من أنه يطبع على عمله بمنزلة من مات صحيح في المعنى لارتفاع القلم عنه بالخبل، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» فذكر فيهم المجنون حتى يفيق، وبالله التوفيق.

[ما حرست السماوات قط منذ خلقهن الله حتى بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم]
ومن كتاب الجامع قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يذكر أنه سمع أنه يقال: ما حرست السماوات قط منذ خلقهن الله ولا رمي عنهن بالشهب والنجوم حتى بعث الله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقرأ قول الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8] {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] .
قال محمد بن رشد: وقد قيل: إنه كان قبل بعث النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رمي الشهب شيء يسير، فلما بعث النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثر ذلك واشتهر وظهر. وقيل إن ذلك لم يكن أصلا قبل بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومن الدليل على ذلك أنه لا يوجد في شيء من أشعار الجاهلية ذكر ذلك والتشبيه به. وقد روي عن أبي رجاء العطاردي أنه قال: كنا قبل أن يبعث النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما نرى نجما يرمى به، فبينما نحن ذات ليلة إذ النجوم قد رمي بها، فقلنا ما هذا؟ إن هذا لأمر حدث، فجاءنا أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث، وأنزل الله هذه الآية

(18/528)


في سورة الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] . روي عن سعيد ابن جبير «عن ابن عباس أنه قال: كان للجن مقاعد في السماء يستمعون الوحي، فكان إذا نزل سمعت الملائكة كهيئة الحديد يرمى على الصفوان، فإذا سمعت الملائكة ذلك خروا لجباههم فإذا نزل عليهم أصحاب الوحي: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] فتنادوا بما ينزل، فإذا نزل إلى السماء الدنيا قالوا: يكون في الأرض كذا وكذا من موت عظيم أو من أمر يحدث من جدب أو خصب، فنزلت الجن بذلك فأوحوه إلى أوليائهم من الإنس. فلما بعث الله عز وجل محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منعوا من الاستماع وفزع لذلك إبليس، وقال: لم يكن هذا إلا لظهور نبي، ففرق جنده في البحث عن ذلك، وكان فيمن بعث تسعة من جند نصيبين، فأتوا رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ببطن نخلة قائم يصلي ويتلو القرآن فسمعوه ورقت إليه قلوبهم، فاشتهوه ودنوا منه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبا للقرآن حتى كادوا يركبونه وهو- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يشعر بهم، وذلك قوله عز وجل: {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] وكانوا مؤمنين بموسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فآمنوا بالله ورسوله، ثم رجعوا إلى قومهم ولم يذهبوا إلى إبليس، فقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم في الأحقاف: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} [الأحقاف: 30] فاستجاب لهم جماعة من قومهم، فأقبلوا بهم إلى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم نحو من سبعين جنيا، وهو - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ببطن نخلة، فلما بلغه أمرهم خرج إليهم ومعه عبد الله بن مسعود» .

(18/529)


روي «أن ابن مسعود قال: قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه وهو بمكة: من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجان فليفعل فلم يحضره منهم أحد غيري. وروي عنه أيضا أنه قال: استتبعني رسول الله- صلي الله عليه وسلم- فخرجنا حتى انتهينا إلى مكان كذا فخط لي خطا وقال: لا تخرج منه فإنك إن خرجت منه هلكت وأقبل يكلمهم ويقرأ عليهم القرآن فآمنوا به وصدقوه. فلفا أراد الرجوع قالوا يا رسول الله إنا خرجنا إليك في سنة جدبة والأرض بيننا محل ودنا قال فأعطاهم روثة وعظما وقال لكم بالروثة من خصب كل أرض تمرون عليها فيها روثة مثل ما كانت عليها قبل ذلك» .
ونهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث. وروي: «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينما هو جالس بين أصحابه إذ سمع سلاما ولم ير شخصا فقال من أنت؟ قال همام بن هم بن أفلح بن إبليس، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: على إبليس لعنة الله وعلى أتباعه وما ولد، فقال همام رويدك إني قد أسلمت وقد دعوت نفرا فتابعوني وها هم أولاء معي، منهم سويد بن قارب، وكان عفريتا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف كان إسلامك؟ قال: مررت بنوح وقد خنقه قومه فوثبت له وكشفتهم عنه وكنت معه حتى أغرق الله عز وجل قومه، ثم لم أزل مع الأنبياء- عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - إلى هلم جرا، وسمعت بك فأتيت سويدا ومن معه فدعوتهم إليك فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما تقول يا سويد فيما يقول همام؟ فسمع- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جوابا ولم ير شخصا أتاني بريدي، يعني هماما، بعد هجعة فقال لي: يا سويد بن قارب أتاك نبي من لؤي بن غالب فارحل إلى مكة تبغي الهدى، ما مؤمنو الجن ككفارها، وليس قداماها كذناباها، فدعا لهم النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: ما حاجتكم؟ فقالوا: أن تخرج فتصلي بنا الليلة لنقتدي بك فأنعم لهم، وسمعها أنس بن مالك وقال لأرتصدن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الليلة فإنه قد أنعم لهم. فلما صلى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء الآخرة قال لأصحابه انهضوا إلى رحابكم. قال أنس: فعلمت أنه يريد أن

(18/530)


ينهض لوعده فترصدته حتى مضى، ثم تبعت أثره- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعمي علي حتى سمعت قراءته، فقصدت نحو القراءة فإذا خيمة عظيمة تخرج قراءة رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها، فوقفت على باب الخيمة فإذا أنا بصفوف ورسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤمهم فشققت صفا وقمت معهم، وإذا إنا بقوم كأمثال الزط، فلما انفتل رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم أر أحدا. ورجع همام وسويد إلى قومهما يجاهدانهم حتى يؤمنوا فأنزل الله عز وجل: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1] الآية» وبالله التوفيق.

[للجن الثواب والعقاب]
في أن للجن الثواب والعقاب
قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول: للجن الثواب والعقاب، وتلا قول الله عز وجل: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14] {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] . «وذكر ابن مسعود في ليلة الجن حين خط له: [أتاهم] النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سمعت الجن تقول له: من يشهد أنك رسول الله؟ وكان قريبا من ذلك شجرة، فقال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرأيتم إن شهدت هذه

(18/531)


الشجرة أتؤمنون؟ قالوا: نعم فدعاها النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقبلت. قال ابن مسعود: فلقد رأيتها تجر أغصانها، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم أشهد أنك رسول الله. قال أصبغ: وأنا أشهد أنه رسول الله. قال وأعطاهم النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عظما وروثة، قال حسبته قال زادا. قال وليس عظم يأخذونه إلا كان كهيئته يوم كان ولا روثة إلا كانت ثمرة كهيئتها التي عليها بحالها.» قال أصبغ: نهي عن الاستنجاء بهما [فيما بلغني] من أجل ذلك فيما نرى.
قال محمد بن رشد: استدلال ابن القاسم على ما ذكره من أن للجن الثواب والعقاب بما تلاه من قول الله عز وجل: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} [الجن: 14] إلى قوله {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] استدلال صحيح بين لا إشكال فيه، بل هو نص جلي في ذلك. والقاسطون في هذه الآية هم الجائرون عن الهدى والمشركون، بدليل قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} [الجن: 14] ، ففي الجن مسلمون، ويهود، ونصارى، ومجوس، وعبدة أوثان، قاله بعض أهل التفسير في تفسير قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} [الجن: 11] قال يريد المؤمنين، {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] قال يريد غير المؤمنين. وقَوْله تَعَالَى: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11] أي مختلفين في الكفر يهود ونصارى ومجوس وعبدة أوثان.
وقول أصبغ: نهي عن الاستنجاء بهما فيما بلغني من أجل ذلك فيما نرى، هو مذكور في بعض الآثار أنهم لما سألوا النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زادا فأعطاهم العظم والروث قالوا له: إن أمتكم تنجسهما علينا بالاستنجاء،

(18/532)


قال سأنهى أمتي عن الاستنجاء بهما، فنهى عن ذلك. وقد روي أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالعظم والجلد والبعرة والروثة والحممة، فكره من ذلك مالك في رسم سن من سماع ابن القاسم في كتاب الوضوء العظم والروث، وخفف العظم في رواية أشهب عنه من الكتاب المذكور، وخفف الروث في المجموعة. قال ابن حبيب: واتباع النهي في تجنب ذلك كله أحب إلي.
وقد اختلف فيمن استنجى بشيء مما نهي عن الاستنجاء به، فقيل: إنه لا إعادة عليه، وهو قول ابن حبيب؛ وقيل: إنه يعيد في الوقت، والوقت في ذلك وقت الصلاة المفروضة، وروي ذلك عن أصبغ، وكذلك عنده من استنجى بعود أو خزف أو خرق.
وجه القول الأول أن الاستنجاء إنما هو لعلة إزالة الأذى عن المخرجين، فإذا زال الأذى بما عدا الأحجار ارتفع الحكم كما لو زال بالأحجار. ووجه القول الثاني أن إزالة الأذى عن المخرجين مخصوص بالأحجار، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أوَلا يجد أحدكم ثلاثة أحجار» ، فلا يجزئ فيه ما عداها إلا الماء، لقوله: الماء أطيب وأطهر. ومما أجمعوا عليه أنه لا يجوز الاستنجاء بكل ما له حرمة من الأطعمة، وكل ما فيه رطوبة من النجاسة؛ فإن استنجى بشيء مما له حرمة أعاد في الوقت عند أصبغ، وإن استنجى بما فيه رطوبة من النجاسات أعاد في الوقت قولا واحدا، وبالله التوفيق.

(18/533)


[مبايعة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما]
في مبايعة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول: بايع علي بن أبي طالب لأبي بكر وهو كاره على ما أحب أو كره ومن معه من أهل البيت.
قال محمد بن رشد: إنما توقف علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أول وهلة عن مبايعة أبي بكر لما كان يعتقد من أنه أحق بالخلافة منه لمكانه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم بايعه باختياره غير مكره على ذلك لما رأى من أنه هو الواجب عليه، إذ قد انعقدت له الإمامة بمبايعة من [تنعقد بمبايعته، كما أنه لو بويع هو أولا انعقدت له الإمامة بمبايعة من] بايعه ممن تنعقد به الإمامة، كما أنه لو بويع هو أولا وانعقدت له الإمامة لبايعه أبو بكر الصديق وغيره منشرح الصدر بمبايعته إياه؛ لأن كل واحد منهما ومن سائر العشرة أصحاب حراء الذين شهد لهم رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة، ممن قد اجتمعت فيه شروط الإمامة، فإذا بويع من اجتمعت فيه شروط الإمامة انعقدت له الإمامة وإن كان غيره أحق بها، وبالله التوفيق.

[كثرة عدد أهل الهند]
في كثرة عدد أهل الهند
قال أصبغ: حدثنا ابن القاسم عن الليث بن سعيد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: غزاة الهند مثل سائر العالم، قال ابن القاسم غير أنهم قط أو مثل الخلق أو أكثر.
قال محمد بن رشد: "هذا مما لا يعرف إلا بالتوقيف من النبي

(18/534)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ لا مدخل للرأي فيه، وبالله التوفيق.

[ما جاء من أن آدم عليه السلام نبيء]
فيما جاء من أن آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نبيء قال أصبغ وسمعت ابن القاسم يقول: «بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنبيء هو؟ فقال نعم نبيء مكلم» . قال ابن القاسم: فذكرت ذلك لأبي شريح المعافري، قال ذلك في كتاب الله. قال أصبغ يعني مكلما حيث يقول الله تبارك وتعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف: 22] ، {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف: 19] .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لأن القرآن يعضد السنة فيه، وبالله التوفيق.

[ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على من أثنى عليه بثبوت الإيمان في قلبه]
في ثناء النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على من أثنى عليه بثبوت الإيمان في قلبه قال ابن القاسم: سمعت من يذكر أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من أصحابي مَنِ الإيمانُ أثبت في قلبه من الجبال الرواسي» .

(18/535)


قال محمد بن رشد: في هذا دليل واضح، بل هو نص جلي في أن الإيمان وإن كان هو التصديق الحاصل في القلب فإنه يتفاضل في الرسوخ والقوة والثبوت والبعد من طروء الشكوك عليه، فليس من آمن بالله ولم يعرفه بالاستدلال عليه كمن عرفه به، ولا من عرفه بوجه واحد من وجوه الأدلة كمن عرفه من وجوه كثيرة، ولا من عرفه بالأدلة دون معاينة الآيات كمن شاهدها وعاينها بحضرة النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوة اليقين في القلب وبعده عن أن يفتن فيه أو يدفعه الشيطان، وقد أعلم الله عز وجل بزيادة الإيمان فقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124] وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] ومعنى ذلك زيادة اليقين في القلب والبعد من أن تطرأ عليه الشكوك فيه، وهذا أولى ما قيل في معنى زيادة الإيمان الذي نص الله تبارك وتعالى عليه. وقد روي عن مالك أنه كان يطلق القول بزيادة الإيمان ويكف عن إطلاق نقصانه، إذ لم ينص الله تعالى إلا على زيادته، فروي عنه أنه قال عند موته لابن نافع وقد سأله عن ذلك: قد أبرمتموني، إني تدبرت هذا الأمر، فما من شيء يزيد إلا وهو ينقص، الإيمان يزيد وينقص. وهذا بين على القول بأن زيادة الإيمان إنما هو زيادة اليقين، إذ قد يضعف اليقين بالإيمان من غير أن يداخله شك فيه، فيكون ذلك هو نقصانه. وقد قيل إن معنى زيادة الإيمان زيادة العدد بتكرره؛ لأن إيمان شهر أقل عددا من إيمان شهرين، فعلى هذا القول لا يتصور في الإيمان نقصان إلا على تأويل وهو نقصانه على المرتبة التي كان عليها من الكثرة. وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.

(18/536)


[تأديب الرجل عبيد امرأته]
في تأديب الرجل عبيد امرأته
قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن الرجل يضرب عبيد امرأته ويأمرهم وينهاهم على وجه الأدب وهي لذلك كارهة، قال: لا أرى ذلك إلا بإذن امرأته.
قال محمد بن رشد: معناه في تأديبه إياهم على التعوق عن الخدمة وترك الاستقامة على الشغل، وما أشبه ذلك مما يأمرهم به فيعصونه فيه. وأما ما كان من حقوق الله تعالى كالوضوء والصلاة فله أن يؤدبهم على تضييع ذلك، ويأمرهم في ذلك وينهاهم فيه دون إذن امرأته، لقول الله عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] وبالله التوفيق.

[الركوب على الدابة العري]
في الركوب على الدابة العري قال وسألت ابن القاسم عن ركوب الرجل خلف الرجل على الدابة العري، قال سمعت أبا شريح ينكر ذلك، وما يعجبني لأحد أن يفعله إلا من ضرورة.
قال محمد بن رشد: هذا على سبيل الاستحباب؛ لأن الدواب محمولة على الطهارة، وقد قال مالك في المدونة: لا بأس بعرق البرذون والبغل والحمار. وقد جاء بأن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب على فرس عري بوب البخاري على ذلك ركوب الفرس العري، وأدخل الحديث بذلك قال: حدثنا عمرو بن عون، حدثنا حماد عن ثابت عن أنس قال:

(18/537)


«استقبلهم النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فرس عري ما عليه سرج في عنقه سيف» وبالله التوفيق.

[الذي ينقطع قبال إحدى نعليه]
في الذي ينقطع قبال إحدى نعليه وسئل عن الرجل ينقطع قبال نعله فيقف في نعل واحدة ولا ينزعها حتى تصلح الأخرى، قال إنما جاء في الحديث: «لا يمش أحدكم في النعل الواحدة» فإذا كان واقفا فلا بأس بذلك في رأيي إن شاء الله. وقاله أصبغ إذا قرب ولم يطل جدا، فإن طال كان بمنزلة المشي عنده ومثل ما كره له المشي به.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم إنه لا بأس أن يقف في النعل الواحدة ما دام يصلح الأخرى هو الذي يدل عليه الحديث كما قال، فلا بأس بذلك على مذهبه وإن طال، خلاف قول أصبغ في جعله الوقوف إذا طال بمنزلة المشي، وهو بعيد؛ لأنه إنما يكره المشي. روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية جابر بن عبد الله أنه قال: «إذا انقطع شسع نعل أحدكم فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلح شسعه» وقد روي «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسم- ربما انقطع شسع نعله فمشى في نعل واحدة» إلا

(18/538)


أنه حديث ضعيف لا يصححه أهل العلم بالحديث. وروي أيضا عن علي أنه رئي يمشي في نعل واحدة وهو يصلح شسعه. ورواه مسلمة أيضا عن عبد الله بن عمر، والذي أراه في هذا أن تستعمل الآثار كلها ولا يطرح شيء منها فنقول على استعمالها: إنه لا يمشي الرجل في نعل واحدة إذا انقطع شسع إحداهما، وإذا انقطع شسع إحدى نعليه وهو يمشي فلا بأس أن يمشي في النعل الواحدة ما دام يصلح الأخرى؛ لأن ذلك يسير، بخلاف ابتداء المشي في النعل الواحدة. والنهي عن المشي في النعل الواحدة نهي أدب وإرشاد لا نهي تحريم، خلاف ما ذهب إليه أهل الظاهر من أنه من مشى في نعل واحدة فهو آثم عاص. وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تجيز المشي في النعل الواحدة وتنكر حديث أبي هريرة في النهي عن ذلك، روي عنها أنها كانت تمشي في الخف الواحد وتقول: لأحنثن أبا هريرة، وبالله التوفيق.

[الشيء من الفضة يجعل في الآنية ونحوها]
في الشيء من الفضة يجعل في الآنية ونحوها قال أصبغ سمعت ابن القاسم وسئل عن الرجل يجعل في بعض آنيته الشيء من الفضة أو يجعل في ميزانه الحلقة من الفضة أو يجعل ذلك في لجامه أو ركابه، قال: أما الآنية التي يؤكل فيها ويشرب فإن ذلك مكروه، وقد جاء فيه النهي عمن مضى، وكان مالك يكرهه. وأما الحلية في السيف والمصحف من الفضة فإني أرجو أن يكون ذلك خفيفا لا بأس به، ولا خير في اللجام ولا في الركابين ولا السكين يجعل في نصابه، وأكره ذلك في المرآة والمداهن. قال أصبغ لا للرجال ولا للنساء.

(18/539)


قال محمد بن رشد: معنى هذه الرواية أنه فرق بين أن يجعل الفضة اليسيرة في الآنية التي يؤكل فيها أو يشرب فيها، وبين أن يجعل في الركابين واللجام والسكين؛ لأنه قال في جعلها في الآنية التي يؤكل فيها ويشرب إن ذلك مكروه، وقال في جعلها في اللجام والركابين والسكين إن ذلك لا خير فيه. والمعنى في ذلك سواء؛ لأن المكروه لا خير فيه، بل الخير في تركه، وما لا خير فيه فهو مكروه؛ لأن ترك ما لا خير فيه خير من فعله، والكراهية في ذلك كله سواء؛ لأنه إنما جاء النهي عن الأكل والشرب في آنية الفضة والذهب من جهة التشبه بالأعاجم، وكذلك اللجام والسرج المحليان بالفضة والذهب إنما لم يجز الركوب بهما من أجل ذلك. وكذلك الميزان من الفضة والسكين يكون نصابه كله فضة، فإذا لم يكن في شيء من ذلك كله من الفضة إلا اليسير، كالتضبيب في شفة الإناء أو الحلقة تكون فيه أو في الميزان، أو الشيء اليسير من الفضة في طرف اللجام أو طرف نصاب السكين وما أشبه ذلك، جرى ذلك على الاختلاف في العلم من الحرير يكون في الثوب، كرهه مالك ورأى تركه أحسن، وأجازه غيره من غير كراهة فرآه من حد الجائز. وأما السيف والمصحف فلا اختلاف في جواز تحليتهما بالفضة؛ لأنهما للرجل بمنزله الحلي للنساء، يجوز اتخاذه للقنية والاستعمال ولا تكون فيه زكاة، بخلاف سائر السلاح من الدرق والحراب والقسي لا يستخف في شيء من ذلك من الفضة إلا ما يستخف في الإناء الذي يؤكل ويشرب فيه.
وكذلك المرآة والمداهن. وقول أصبغ في ذلك إن الرجال فيه بمنزلة النساء صحيح؛ لأن ذلك ليس من ناحية لباسهن كالذي يتخذنه لشعورهن ولإقفال ثيابهن على ما قاله ابن شعبان، وبالله التوفيق له الحمد.

(18/540)


[شراء المغنيات وبيعهن]
في شراء المغنيات وبيعهن قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول في الذي يشتري المغنية ولا يريدها لعملها ذلك إلا للخدمة وما أشبه ذلك، إنه إذا كان لم يزد في ثمنها لموضع غنائها فلا بأس به. قال أصبغ: وكذلك البائع إذا باع كذلك فباع على رأسها بغير غناء ولم يزد في قيمتها لغنائها فالثمن له حلال، وكذلك ينبغي أن يبيع إذا باع، وإلا حرم عليه البيع والثمن كله. وثمن المغنيات حرام محرم، قال أصبغ قد حدثني عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن نصر عن علي بن زيد، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة الباهلي، عن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يحل شراء المغنيات ولا بيعهن ولا تعليمهن ولا التجارة فيهن، وثمنهن حرام، ثم تلا هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] الآية» . وأخبرني بذلك ابن وهب عن الحارث بن نبهان عن محمد بن ثواب، عن أبي إسحاق السبيعي، عن علي بن أبي طالب، عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فكسبهن حرام.
قال محمد بن رشد: الذي عليه معظم أهل التفسير في قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] أن المراد به الغناء واستماعه. من ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] فقال: الغناء، والذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات. وهو قول مجاهد وعطاء. وقال القاسم بن

(18/541)


محمد: الغناء من الباطل، وهو في النار. وقال مكحول: من كانت له جارية مغنية فمات لم يصل عليه لقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] إلى قوله: {عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6] ، وفي بعض الروايات في حديث أبي أمامة الباهلي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه قال في المغنيات: أكل أثمانهن حرام ولا يحل تعليمهن» . وقد يدل على تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] الآية. وقد اختلف في معنى قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] فقالت طائفة: هو الشراء على الحقيقة بالأثمان، بدليل ما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن» والمعنى على هذا في قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] ، أي ومن الناس من يشتري ذات لهو الحديث، فحذف ذات أو ذا وأقام اللهو مقامه، مثل قوله عز وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي أهل القرية. وقال قتادة وطائفة من العلماء: معنى الآية ومن الناس من يختار لهو الحديث ويستحبه، ولعله أن لا ينفق فيه مالا ولكن اشتراؤه استحسانه. قال قتادة: وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل عن حديث الحق، وما يضر على ما ينفع. وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث العبدري وكان يشتري من كتب أحاديث العجم فارس والروم وصنيعتهم ويحدث بها قريشا فيستحلونها ويعجبهم ما يسمعون منها فيلهون ويلهيهم بها. وقال جماعة من أهل التفسير، منهم الحسن والضحاك وابن زيد: إن الآية نزلت في أهل الكفر، ألا ترى إلى قوله عز وجل:

(18/542)


{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان: 7] فليس هكذا أهل الإسلام. قالوا: فمعنى لهو الحديث الشرك، كقوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] فمن ذهب إلى هذا رأى الغناء مكروها منهيا عنه غير محرم في القرآن. وقال أبو جعفر الطبري: الذي أراه وأقول به في هذا أن الله عز وجل عنى به كل ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله مما نهى الله عز وجل عن استماعه أو رسوله؛ لأن الله عز وجل عم بقوله لهو الحديث ولم يخصص بعضا دون بعض، فذلك على عمومه في الغناء والشرك حتى يأتي ما يدل على خصوصه. وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر الطبري أولى ما قيل في تأويل الآية؛ لأنها وإن كانت نزلت فيما كان يفعله النضر ابن الحارث، فهي عامة تحمل على عمومها، ولا تقصر على ما كان سبب نزولها مما كان يفعله. وقد دل على حملها على عمومها ما روي من أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال-: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن» وقد نزل على تصديق ذلك في كتاب الله، يريد ما فهمه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عموم قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] . وقوله في الحديث: «ولا يحل شراء المغنيات ولا بيعهن» معناه إذا اشتراهن لغنائهن أو باعهن بزيادة في قيمتهن من أجل غنائهن، وأما إذا اشتراها للخدمة وما أشبهها ولم يزد في ثمنها من أجل غنائها فذلك جائز للبائع والمبتاع. وإن اشتراها للخدمة لا لغنائها بأكثر من قيمتها لأجل غنائها] فذلك حرام على البائع ومكروه للمبتاع. وظاهر قوله في الحديث أن الثمن كله محرم على البائع، والذي يحرم عليه منه إنما هو ما ازداد على قيمتها من أجل غنائها، كمن باع خمرا وثوبا صفقة واحدة بدنانير، فلا يحرم عليه من الدنانير التي باعها بها إلا ما ينوب الخمر منها. فالمعنى في

(18/543)


ذلك أن الحرام من ثمن المغنية لما كان مشاعا في جملة لم يحل له أن يأكل منه قليلا ولا كثيرا حتى يخرج الحرام منه فيخلص له الحلال؛ لأنه إذا أكل شيئا فهو عليه حرام من أجل ما خالطه من الحرام، وإن كان باقي الثمن عنده وفيه وفاء بجميع الحرام، وذلك في التمثيل كرجل سرق دينارا من مال بينه وبين شريكه فأكله فهو عليه حرام من أجل ما خالطه من مال شريكه حتى يتحلله منه أو يرده إليه. وهذا هو معنى قول أصبغ في الرواية: وإلا حرم عليه الثمن كله، وثمن المغنيات حرام محرم، وبالله التوفيق.

[قصة الشعر للمرأة]
في قصة الشعر للمرأة قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول: أكره قصة الشعر للمرأة كراهية شديدة. قال وكان فرق الرأس أحب إلى مالك فيما أظن.
قال محمد بن رشد: قصة الشعر للمرأة هو أن تترك على جبهتها ما أنسدل من الشعر إلى وجهها فتقصه على حاجبيها، وفرق الشعر هو أن لا تقصه فتقسمه بالمشط فتلقي نصفه إلى أحد الجانبين، والنصف الآخر إلى الجانب الآخر فتنكشف الجبهة من الشعر. وإنما كره ذلك للمرأة لما جاء من أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سدل ناصيته ما شاء الله ثم فرق بعد ذلك. وروي عن ابن عباس أنه قال: «كان أهل الكتاب يسدلون شعرهم، وكان المشركون يفرقون، وكان رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فسدل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناصيته ثم فرق بعد» . ففي حديث ابن عباس هذا دليل على أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يترك في آخر أمره ما كان عليه

(18/544)


من موافقة أهل الكتاب في السدل إلا لشيء أمر به، فهذا وجه ما ذهب إليه مالك في كراهية القصة للمرأة. ويدل على ما ذهب إليه من ذلك حديث «معاوية بن أبي سفيان إذ خطب الناس بالمدينة عام حج، فتناول قصة من شعر كانت بيد حرسي فقال يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن مثل هذه ويقول إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم؛» لأن المعنى فيها، والله أعلم، أنها كانت قصة معمولة من شعر تضعها المرأة التي قد سقط شعرها على رأسها فينسدل على جبهتها مقصوصا ترائي به أنه شعرها، فنهى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك في حديث معاوية؛ لأنه من ناحية النهي أن تصل المرأة شعرها بشعر غيرها، وقد قال ابن عبد البر: إن معنى النهي في حديث معاوية هو أن تصل المرأة شعرها بشعر غيرها. وقد جاء عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «لعن الواصلة والمستوصلة» . والذي قلته أبين من ظاهر الحديث، وبالله التوفيق.

[مخارجة الأمة]
في مخارجة الأمة قال ابن القاسم: ولا أرى بأسا أن يأمر الرجل جاريته أن تأتيه بالخراج وإن لم تكن لها صنعة، مثل أن تستقي الماء أو تحتطب وما أشبه ذلك، وقاله أصبغ، هذه صناعات، وإنما المكروه أن يهملها تأتي بالخراج من غير وجه معروف من وجوه الكسب، لا بعمل ولا بصنعة ولا بيع ولا ابتياع تؤديه وتكتسب به، فلعل هذه تكتسب بالزنا أو مهر البغي أو تأتي به، وكذلك قال عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تكلفوا الأمة غير ذات الصنعة الكسب فإنكم متى كلفتموها

(18/545)


كسبت بفرجها خوفا من ذلك إذا لم يكن لها عمل تكسب منه. ونهى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مهر البغي فهو يدخل في هذا ولا يحل. فإن كانت ذات صنعة بعينها إذا أهملت، وكيف أن تترك في الكسب بفرجها وفسادها أن تخارج ولا توكل ولا تعان عليه ولا تهمل ولا يدقق في ذلك بتأويل الصنعة، وهو يكون داعية ويكون عونا، مثل الجواري اللاتي تهمل تعمل الحجامة والمشط واللعب المجون ونحو ذلك، والفساد منهن فيه ظاهر ومتوقع، لا يؤمن ولا تخفى تهمته وظنونه، فلا أرى اتخاذهن لمثل هذا يحل، ولا إهمالهن ولا كسبهن فيه لأنه مشترك والله أعلم، وأراه عظيما من الفعل والعمل. قال أصبغ قال ابن القاسم والغلام الصغير عندي ذو الصنعة مثل الجارية، يعني في الاستقاء والاحتطاب وشبههما، فلا بأس به ما لم يكلفهما في ذلك ما لا يقويان عليه. قال وحدثني ابن وهب عن إبراهيم بن نشيط أن حذيفة قام في الناس فقال: يا أيها الناس، انظروا في ضرائب أرقائكم فما طاب منها فكلوه، وإلا فاتركوه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا كله بين لا إشكال فيه ولا موضع للقول وبالله التوفيق لا شريك له.

[دخول الحمام وأحكامه]
في دخول الحمام قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن دخول الحمام فقال: إن وجدته خاليا أو كنت تدخل مع النفر يستترون ويتحفظون لم أر

(18/546)


بدخوله بأسا، وإن كان يدخله مع من لا يبالي لم أر أن تدخله وإن كنت متحفظا في نفسك. قال أصبغ: أدركت ابن وهب يدخله مع العامة، ثم ترك ذلك، ثم كان يدخله مخليا.
قال محمد بن رشد: أما دخول الرجل الحمام إذا كان خاليا فلا كراهة فيه، وأما دخوله مستترا مع مستترين فقال في الرواية لا بأس بذلك أي لا حرج عليه في ذلك، وتركه أحسن. فقد قال مالك في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب وقد سئل عن الغسل من الماء السخن من الحمام فقال: والله ما دخول الحمام بصواب، فكيف يغسل بذلك الماء. ووجه الكراهة في ذلك وإن دخله مستترا مع مستترين مخافة أن يطلع على عورة أحد بغير ظن، إذ لا يكاد يسلم من ذلك من دخله مع عامة الناس. وأما دخوله غير مستتر أو مع من لا يستتر فلا يحل ذلك ولا يجوز؛ لأن ستر العورة فرض، ومن فعل ذلك كان جرحة فيه. والنساء في هذا بمنزلة الرجال، هذا هو الذي يوجبه النظر؛ لأن المرأة يجوز لها أن تنظر من المرأة ما يجوز للرجل أن ينظره من الرجل، بدليل ما روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي سعيد الخدري أنه قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب» . وما روي أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يفضي رجل إلى رجل ولا امرأة إلى امرأة،» خرج الحديثين أبو داود، فجعل- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم المرأة مع المرأة فيما يجوز لها أن تنظر إليه منها كحكم الرجل مع الرجل فيما يجوز له أن ينظر إليه منه.

(18/547)


وقد أجمع أهل العلم فيما علمت على أن النساء يغسلن المرأة الميتة كما يغسل الرجال الرجل الميت، ولم يختلفوا في ذلك كما اختلفوا في غسل النساء ذوي محارمهن من الرجال، وفى غسل الرجل ذوات محارمه من النساء، حسبما ذكرناه في رسم الجنائز والصيد والذبائح من سماع أشهب من كتاب الجنائز. وقال ابن أبي زيد في الرسالة ولا تدخل المرأة الحمام إلا من علة. وقال عبد الوهاب في شرحها: هذا لما روي أن الحمام محرم على النساء، فلم يجز لهن دخوله إلا من عذر؛ لأن المرأة ليست كالرجل؛ لأن جميع بدنها عورة، ولا يجوز لها أن تظهر لرجل ولا امرأة، والحمام يجتمع فيه النساء ولا يمكن الواحدة أن تخليه لنفسها في العادة، فكره لها ذلك إلا من عذر. هذا نص قول عبد الوهاب، وفيه نظر. أما ما ذكره من أن الحمام محرم على النساء فلا أعلمه نصا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن كان ذلك من قول أحد من العلماء فمعناه في دخولهن إياه على ما جرت به عادتهن من دخولهن إياه غير مستترات. وأما ما قاله من أن بدن المرأة عورة لا يجوز أن يراه رجل ولا امرأة فليس بصحيح، إنما هو عورة على الرجل لا على المرأة، بدليل ما ذكرناه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما روي من أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح: إنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين قبلك يدخلن الحمام مع نساء المشركين، فانه عن ذلك أشد النهي، فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يرى عورتها غير أهل دينها، وما أجمع عليه العلماء من أن النساء يغسلن النساء كما يغسل الرجال الرجال. وإنما قال ابن أبي زيد إن المرأة لا تدخل الحمام إلا من علة لما جاء عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: «إنها ستفتح لكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات فلا يدخلها الرجال إلا بالأزر وامنعوا منها النساء إلا مريضة أو نفساء» .

(18/548)


وإنما أمر، والله أعلم، أن تمنع النساء من دخوله إلا مريضة أو نفساء لأن إباحة ذلك لهن ذريعة إلى أن يدخلنه غير مؤتزرات [لا من أجل أن عليهن حرجا وإثما في دخولهن إياه مؤتزرات] فدخول النساء الحمامات مكروه لهن غير محرم عليهن. وعلى هذا يتأول ما روي في ذلك عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن عائشة، من ذلك حديث عائشة أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن دخول الحمامات، ثم رخص للرجال أن يدخلوها بميازر» فيتأول أنه إنما لم يرخص في ذلك للنساء بدليل هذا الحديث حماية للذرائع في دخولهن إياه بغير ميازر؟ ومنها ما روي «عن عائشة: أنها أتتها نساء من أهل الشام فقالت: لعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمامات؟ قال: قلن: نعم، قالت: سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيتها فقد هتكت ما بينها وبين الله، أو ستر ما بينها وبين الله؛» لأنها إنما تكون قد هتكت سترها إذا وضعت ثيابها حيث لا تأمن أن يطلع أحد من الرجال عليها مكشوفة الرأس أو الجسم إن تجردت عريانة، وإن أمنت أن يطلع عليها أحد من الرجال أو كان معها النساء في الحمام وشبهه، فقد قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء إن هذا النهي إنما كان في الوقت الذي لم يكن للنساء حمام مفرد، فأما اليوم فقد زال ذلك فيجب أن يجوز. وقد روي عن أم كلثوم قالت: أمرتني عائشة فطليتها

(18/549)


بالنورة ثم طليتها بالحناء من رأس قرنها إلى قدميها في الحمام من حضر كان بها. قالت فقلت لها: ألم تكوني تنهين النساء عن الحمامات، قالت إني سقيمة، وأنا أنهى الآن أيضا أن لا تدخل امرأة حماما إلا من سقم، فدل ذلك من قولها وفعلها على أنها كرهت للنساء دخول الحمامات مستترات من غير تحريم، وكانت تنهى عن ذلك ولم ترخص لهن فيه إلا من مرض. ولو كان عليهن حراما لما جاز في المرض، فهو لهن مع المرض جائز ومع الصحة مكروه إذا كن مستترات متزرات؛ لأن بدن المرأة إنما هو عورة على الرجل لا على المرأة. وإنما اختلف في بدن الرجل هل هو عورة على المرأة؟ فقيل إنه لا يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه [من المرأة، والصحيح أنه يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه] من ذوات محارمه، بدليل «قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس: اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» فلولا أنها في النظر إليه بحكم الرجل في النظر إلى ذوات محارمه لما أباح لها النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاعتداد عنده، وهذا بين والله أعلم، وبه التوفيق لا شريك له.

[عمل الأسكركة وبيعها]
في عمل الأسكركة وبيعها
قال أصبغ: حدثنا أشهب بن عبد العزيز، عن الليث عن بكير بن الأشحم أنه كانت له مولاة تعمل الأسكركة وتبيعها، قال

(18/550)


فنهاها ووعظها وقال لها اتقي الله، فقالت سيدي فمن أين أعيش؟ قال لها ويلك، يرزقك الله إذا عصيته ولا يرزقك إذا أطعته.
قال محمد بن رشد: الأسكركة هي الغبيراء التي سئل عنها النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما ذكره مالك في موطئه عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، فقال لا خير فيها ونهى عنها. وهو شراب يعمل من الأرز. روي عن صفوان بن محرز قال، سمعت أبا موسى يخطب على هذا المنبر وهو يقول: ألا إن خمر أهل المدينة البسر والتمر، وخمر أهل فارس العنب، وخمر أهل اليمن البتع وهو العسل، وخمر الحبشة الأسكركة وهو الأرز. وقد قيل في الأسكركة: إنه نبيذ الذرة، وقيل: إنها التي تسمى بمصر فقاع الشعير. فالأسكركة وسائر الأنبذة والأشربة التي تسكر بمنزلة الخمر في تحريم القليل والكثير منها.
«سئل رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البتع قال: كل شراب أسكر فهو حرام» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . فلا يحل عمل شيء من الأنبذة المسكرة ولا بيعها؛ لأنها بمنزلة الخمر في تحريم عينها، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها» . وخالف أهل العراق في ذلك فأباحوا من

(18/551)


الأشربة المسكرة ما دون السكر، وقالوا الخمر المحرمة العين إنما هي خمر العنب. ومنهم من قال خمر العنب والتمر، وتعلقوا فيما ذهبوا إليه من ذلك بما روي عن ابن عباس أنه قال: حرمت الخمر بعينها والسكر من غيرها أو من كل شراب. وهذا لا حجة فيه؛ لأن بعض الرواة يقول فيها: والمسكر من غيرها أو من كل شراب على اختلاف الرواية في ذلك. وقولهم خطأ لا وجه له؛ لأنهم خالفوا الآثار الثابتة عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك التي ذكرناها وتركوا القياس الذي يعتمدون عليه، وهو أن العلة التي من أجلها حرمت الخمر هي الإسكار والشدة المطربة المؤدية إلى العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة موجودة في الأنبذة المسكرة، فوجب أن يكون لها حكمها ووجود العلة فيها. وإذا كان الذي لا يسكر لما دون عشرة أكواس من النبيذ إنما يحرم عليه الكأس العاشر وحده عندهم من أجل أنه سكر به، وجب بالقياس الصحيح أن تحرم عليه جميع العشرة الأكواس، إذ لم يسكر بالعاشر وحده، وإنما سكر بإضافته إلى التسعة المتقدمة. ألا ترى لو اجتمع تسعة رجال على حجر فلم يقدروا على رفعه فجاء رجل عاشر فرفعه معهم لا يصح في عقل عاقل أن يقال إن العاشر هو الذي رفعه، وهذا أبين من أن يحتاج إلى بيانه، وبالله التوفيق.

[انتقاص الخير من الناس]
في انتقاص الخير من الناس قال أصبغ: وحدثنا أشهب بن عبد العزيز عن ابن لهيعة أن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: لقد كنا وما أحدنا أولى بديره من أخيه المسلم، ثم ذهب ذلك فكانت المواساة، ثم ذهبت المواساة فكانت العينة.
قال محمد بن رشد: يشهد بصحة قول ابن عمر هذا قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم

(18/552)


الذين يلونهم» وقول عبد الله بن مسعود: ما من عام إلا والذي بعده شر منه ولن تؤتوا إلا من قبل أمرائكم، وليس عبد الله أنا إن كذبت. وبالله التوفيق.

[ما يلزم من تحسين الظن]
في ما يلزم من تحسين الظن قال وحدثني أشهب [عن شخص] عن نافع بن عمر الجمحي أنه حدثهم عن ابن أبي مليكة أن عمر بن الخطاب قال: لا يحل لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة أن يظن بها سوءا وهو يجد لها شيئا من الخير مصدرا، حدثناه أشهب مرارا.
قال محمد بن رشد: هذا كلام صحيح يشهد لصحته قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] وقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وبالله التوفيق.

[كراهة عمر رضي الله عنه أن يستأثر بمنفعة شيء في مال الله عن المسلمين]
في كراهة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أن يستأثر بمنفعة شيء في مال الله عن المسلمين قال أصبغ وحدثنا [أشهب] عن سعيد بن عبد الله عن نافع

(18/553)


بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة أن عمر بن الخطاب أتي بمسك فجعل يقسمه ويجعل يده على أنفه يغطيه هكذا ووضع أشهب بذارعه وكمه على أنفه، فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما عليك من ذلك؟ فقال: وهل ينتفع من المسك إلا برائحته. وقد فعله عمر بن عبد العزيز في خلافته.
قال محمد بن رشد: لأن هذا من فعلهما جميعا نهاية في الورع والزهد؛ لأن حرمان أنفسهما من أن يشتما ما يثور من رائحة المسك في قسمته لا يزيد في المسك ولا في رائحته ولا ينقص من ذلك شيئا، وبالله التوفيق.

[البداية بالأيمن فالأيمن]
في البداية بالأيمن فالأيمن وسئل أشهب: أيستحب أن يبتدئ الرجل بالأيمن فالأيمن في الكتاب والشهادات تكون في المسجد أو الوضوء وما أشبه ذلك؟ فقال: يستحب ذلك على مكارم الأخلاق، وأما الشيء في دين، يعني محض فقه أو علم، فلا.
قال محمد بن رشد: استحب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يوجبه في محض الدين والفقه والعلم، إذ قد يكون في غير اليمين من يكون أحق أن يبدأ به لعلمه وخيره وسنه، فإذا استوت أحوال المجتمعين أو تقاربت كانت البداية باليمين مما يستحب في مكارم الأخلاق، لما في ذلك من ترك إظهار ترفيع بعضهم على بعض بالتبدئة به. وأما إذا كان فيهم العالم وذو الفضل

(18/554)


والسن فالسنة في ذلك أن يبدأ به حيثما كان من المجلس، ثم يناول هو من كان على يمينه كما فعل رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذ أتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشربه ثم أعطاه الأعرابي، وقال الأيمن فالأيمن» ولا يعطي الذي على يساره وإن كان أحق بالتبدئة من الذي على يمينه لعلمه وخيره وسنه إلا بعد أن يستأذنه في ذلك، كما فعل رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذ أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام أتأذن لي أن أعطي هؤلاء فقال لا والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا فتله رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يده.» وقوله في الرواية: أو الوضوء، يريد غسل اليد في الاجتماع للطعام، وبالله التوفيق.

[اتباع عمر بن عبد العزيز سنن عمر بن الخطاب]
في اتباع عمر بن عبد العزيز سنن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال أصبغ: سمعت أشهب يحدث أن عمر بن عبد العزيز كان لا يبلغه شيء عن عمر بن الخطاب إلا أحب أن يعمل به، حتى لقد بلغه أن عمر بن الخطاب دعا على نفسه بالموت، فدعا عمر بن عبد العزيز على نفسه بالموت، فما لبث الجمعة حتى مات.
قال محمد بن رشد: كان عمر بن عبد العزيز يتبع عمر بن الخطاب

(18/555)


ويقتدي به في أقضيته وأفعاله. وقد سمع عمر بن الخطاب وهو يقول: عمر عمر، من ذا عمر، يسير بسيرة عمر. وذلك نحو ما جاء عنه من قوله وهو يخطب بالمدينة: يا سارية الجبل، حسبما مضى القول فيه في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم. أما دعاء عمر بن عبد العزيز على نفسه بالموت فقد تكرر ذكر ذلك عنه، ومضى القول فيه في رسم البز ورسم طلق ابن حبيب من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[ما يحكى عن بعض المتقدمين قوله في سجوده]
فيما يحكى عن بعض المتقدمين أنه كان يقوله في سجوده
قال أصبغ: سمعت أشهب يقول إنه سمع سفيان بن عيينة يحدث أن رجلا سمع من جوف الليل وهو ساجد فيما أحسب وهو يقول: يا رب إن كنت ساخطا علي فيا كرباه على سخطك، وإن كنت راضيا عني فيا سروراه وقلة شكراه.
قال محمد بن رشد: إنما يبعث على هذا القول شدة الخوف لله، واليقين بما عند الله، مع الاجتهاد في عبادة الله، وبالله التوفيق.

[العبد بين الجنة والنار لا بد له من أحدهما]
في أن العبد بين الجنة والنار لا بد له من أحدهما قال أصبغ: سمعت أشهب يحدث قال، قال مالك بن دينار: إنما هي النار والجنة. وقال له محمد بن واسع: ليس هذا، إنما هي النار، أو رحمة الجبار.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، قال الله عز وجل:

(18/556)


{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] طريق الخير والشر، فإن عمل بطاعة الله صار برحمة الله عز وجل إلى رحمة الله، وإن عمل بمعاصيه استوجب العقاب من الله. وقال عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] وقال: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] وبالله التوفيق.

[السوداء السائلة]
في السوداء السائلة لمالك قال وسمعت أشهب يحدث قال: ما رأيت مالكا قط رافعا بصره إلى امرأة، وما هو إلا ناكس هكذا إذا أتته امرأة تسأله، وما رأيته قط رافعا بصره إلا مرتين في سوداوين: إحداهما امرأة خلف ابن عمر، وكانت سوداء وغدة أرسلتها مولاتها إليه في شيء أو قال تسأله عن شيء، وامرأة أخرى سوداء كبيرة أتته وهي ترعد فقالت: يا أبا عبد الله إن صاحبي، أو قالت ابني استرفعني دراهم فكانت إلى جنبي فنمت ثم قمت أكنس البيت فإذا بها فأخذتها فجعلتها تحت الحصير، فأتاني بعد ذلك فطلبها مني، فقلت ما دفعت إلي شيئا، فقال: بلى والله، فقلت لا والله ما أخذتها منك، فقال بلى، فقلت علي المشي إلى بيت الله، ثم ذكرت ما كان. فقال لها مالك: عليك المشي فامشي، فقالت: يا أبا عبد الله ما أقدر، قال تركبين وتهدين، قالت: يا أبا عبد الله ما أقدر على شيء. قال وهي في ذلك ترعد فزعة، فرأيت مالكا صعد فيها البصر وردده فقال: اذهبي

(18/557)


فليس عليك شيء. فلما أدبرت قال مالك: لئن دخلت هذه الجنة ما ضرها سوادها شيئا، هذه في سوادها وحالها خائفة وجلة مما وقعت فيه، وأخرى أهيأ منها وأقبل وأنطق وأعقل وأعرف منها، لعلها لا تخاف ما خافت هذه، لئن دخلت هذه الجنة ما ضرها سوادها. ثم قال أشهب بأثر ذلك: ما الدين أو ما الأمر إلا الخوف. قال أصبغ: وهو الخشية، قال الله تبارك وتعالى: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21] ، قال أصبغ: وبلغني عن ابن مسعود أنه كان يقول: كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار به جهلا.
قال محمد بن رشد: إنما لم يوجب عليها في يمينها بالله الكفارة لأنها كانت ناسية، فكانت اليمين لغوا، وأوجب عليها المشي إلى بيت الله لأنه لا يكون اللغو في المشي ولا فيما سوى اليمين بالله. فلما قالت له إنها لا تقدر على [المشي، قال تركبين وتهدين، فلما قالت له إنها لا تقدر على] شيء وهي ترعد فزعة من أن تكون قد وقعت من الإثم فيما لا مخلص لها منه، قال لها لا شيء عليك، أي لا إثم عليك في ركوبك إذا لم تقدري على المشي، ولا في ترك الهدي إذا لم تقدري عليه، يريد حتى تجدي وتقدري، [بين ذلك قوله لها في سماع أشهب من كتاب الحج: وليس عليك عجلة حتى تجدي وتقوي] وأمرها أن تركب وتهدي ولم يقل بعد أن تمشي ما قدرت وهي إرادته، ولم يقل إنها ترجع ثانية، فيحتمل أن يكون إنما لم يأمرها بذلك لأنه رأى من حالها أنها لا تقدر على أن تمشي الطريق

(18/558)


كله في مرة واحدة ولا تقدر عليه في مرتين، إذ لم يختلف قوله في أن الحالف بالمشي إذا لم يقدر على أن يمشي الطريق كله في مرة واحدة وقدر عليه في مرتين، أن عليه أن يرجع ثانية لإتمام المشي، ويرى عليه مع ذلك الهدي لتفريق المشي. وأهل المدينة سواه يرون عليه الرجوع ثانية دون الهدي، وأهل مكة يرون عليه الهدي دون الرجوع. ومن أهل العلم من لا يوجب الهدي ولا الرجوع، ومنهم من لا يوجب عليه المشي باليمين ويرى فيه كفارة يمين، ومنهم من لا يرى فيه كفارة ولا شيئا. ومذهب مالك أن ما لزم بالنذر يلزم باليمين. وما ذكره عن مالك من أنه كان لا يرفع بصره إلى امرأة هو الواجب، لقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] وقد صرف رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجه الفضل إلى الشق الآخر لما أتته امرأة من خثعم تسفتيه وهو راكب خلفه فجعل ينظر إليها وتنظر إليه، وبالله التوفيق.

[بيع الكتاب فيه التوراة والإنجيل]
في بيع الكتاب فيه التوراة والإنجيل وسئل عن الكتاب تكون فيه التوراة أو الإنجيل أترى أن يبيعه من اليهودي أو النصراني؟ قال أصبغ: وكيف يعرف أنه توراة أو إنجيل؟ لا أرى أن يبيعه ولا يأكل ثمنه، ولا يحل لك أن تبيع لهم ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يحل له أن يبيع الكتاب الذي فيه التوراة أو الإنجيل من اليهود أو النصارى ولا يأكل ثمنه صحيح بين لا إشكال فيه؛ لأن دين الإسلام ناسخ لجميع الأديان، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] ،

(18/559)


والقرآن ناسخ لجميع الكتب المنزلة على من تقدم من الأنبياء- عليهم الصلاة السلام- فلا يحل أن يباع شيء منها ممن يعتقد العمل بما فيها ويكذب بالقرآن الناسخ لها، هذا ولو صح أنها توراة أو إنجيل، فكيف ولا يصح ذلك، إذ لا طريق إلى معرفة صحته، بل قد علم بما أعلم الله في محكم كتابه أنهم غيروا وبدلوا. قال الله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] وقد أعلم الله عز وجل اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل بالنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنه مبعوث بنسخ ما تقدم من الشرائع سوى الإيمان والإسلام، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] يريد بالنعت الذي نعت لهم في التوراة والأناجيل. وقال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] وقال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] عرفوا أنه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبي بصفته التي وصفه بها لهم في التوراة فبدلوا وغيروا وكفروا. ويروى أنه كان من صفته في التوراة أنه أسمر ربعة، فكتبوا صفته آدم طويل. وقيل: إنهم محوا اسمه منها. فلو آمنوا بالتوراة والإنجيل على ما أنزلا على موسى وعيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - لكانوا بالنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤمنين، وبالله التوفيق لا شريك له.

(18/560)


[الحض على نكاح ذات الدين]
في الحض على نكاح ذات الدين ابن أنعم يرفعه إلى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكحوا المرأة لجمالها ولا لمالها فلعل جمالها لا يأتي بخير ولعل مالها لا يأتي بخير وعليكم بذوات الدين فاتبعوهن حيثما كن» . قال محمد بن أحمد العتبي: حدثنا محمد بن خالد بإسناده أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح المرأة لمالها فلعل مالها أن يطغيها، ولا لجمالها فلعل جمالها أن يرديها، وعليكم بذوات الدين فإنهن في النساء مثل الغراب الأعصم» .
قال محمد بن رشد: النهي من النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: لا تنكحوا المرأة لجمالها نهي أدب وإرشاد لا نهي تحريم، إذ لا حرج على أحد من أن يرغب في نكاح ذات المال والجمال. فمعنى الحديث إنما هو الحض على إيثار ذات الدين على ذات المال والجمال. وقد جاء في غير هذا الحديث: تنكح المرأة لمالها ولجمالها فعليك بذات الدين، فقال: تنكح المرأة لمالها وجمالها على سبيل الإخبار لا على سبيل النهي، وحض على إيثار ذات الدين، وهو بين من هذا الحديث، وبالله التوفيق.

(18/561)


[المدعو إلى الوليمة يقال له ائت معك بمن تحب]
في المدعو إلى الوليمة يقال له: ائت معك بمن تحب قال: وإذا دعي الرجل إلى الوليمة وغيرها وقيل له: ائت معك بمن تحب، إنه لا بأس أن يستصحب من إخوانه من شاء.
قال محمد بن رشد: هذا بين أنه إذا قال له الداعي: ائت بمن تحب، أن له أن يستصحب من إخوانه من شاء، ولا يجب على المستصحب أن يصحبه إلا أن يشاء، إذ لم يقصد صاحب الوليمة إلى دعائه، فلا يلزمه الإتيان إليها على ما قاله مالك في رسم الطلاق من سماع أشهب من كتاب النكاح في الرجل يدعوه صاحب الوليمة يقول له: اذهب فانظر من لقيت فادعه، أن من دعاه الرسول في سعة من إجابته، إذ لم يتعمده صاحب الوليمة ولا عرفه بعينه، وبالله التوفيق.

[الذي يبيع زفته ممن يجعلها في أواني الخمر]
في الذي يبيع زفته ممن يجعلها في أواني الخمر وما أشبه ذلك قال أصبغ: لا يبيع الرجل زفته لمن يجعله في أواني الخمر، وكذلك عنبه لمن يعصره خمرا ودابته لمن يركبها إلى الكنيسة، وكذلك عصيره لمن يخمره، وكذلك كبشه لمن يذبحه لعيده وكفره، وزيته لمن يجعله في الكنيسة، أو قصيله أو مرعاه لمن يريده للخنازير، أو الطوب لبنيان الكنائس، ولا يحل شيء من ذلك ولا المعاونة عليه.
قال محمد بن رشد: ساوى أصبغ بين هذه المس ائل وقال فيها كلها إنها لا يحل شيء منها، فعلى قوله يفسخ البيع فيها كلها ما لم يفت، فإن فات

(18/562)


حرم الثمن على البائع ووجبت عليه الصدقة به، وهو شذوذ من القول لا يوجبه القياس. وفرق غيره من أصحاب مالك بينهما. فأما بيع العنب ممن يعصره خمرا، وبيع العصير ممن يخمره، وبيع الزفت ممن يجعله في أواني الخمر فلا يجوز لفاعله، وهو آثم في فعله، ويتخرج في الحكم فيها على مذاهبهم إذا وقعت ثلاثة أقوال: أحدها أن البيع لا يفسخ إذا وقع، إذ لا فساد فيه في ثمن ولا مثمون، ويمنع المبتاع من عصر العنب وتخمير العصير إن كان مسلما، ويباع ذلك عليه إن كان نصرانيا؛ والثاني أن البيع يفسخ ما لم يفت، وإن فات مضى [بالثمن] ؛ والثالث أن البيع يفسخ ما لم يفت، وإن فات رد إلى القيمة، إلا أن يفوت عند المبتاع بالعصر على ما باعه عليه البائع فلا يرد إليه ما زاد الثمن على القيمة ويتصدق بذلك، فإذا مضى البيع بالثمن كان على البائع أن يتصدق من الثمن بما ازداد فيه من أجل بيعه على أن يعصر.
وأما كراء الدابة ممن يركبها إلى الكنيسة وبيع الكبش ممن يذبحه لعيده وكفره فاختلف في ذلك قول مالك: مرة أجازه، ومرة كرهه. وقع اختلاف قوله في ذلك في سماع سحنون من كتاب السلطان. وقد ذكرنا هناك وجه اختلاف قول مالك في ذلك. فعلى القول بأنه كرهه يدخل في ذلك من الاختلاف ما ذكرناه في الذي يبيع العنب ممن يعصره خمرا. وحكم بيع الطوب لبنيان الكنائس أو الزيت لوقيدها أو المرعاة للخنازير حكم الذي يبيع شاته لتذبح في أعياد النصارى. وقد تقدم ذكر ذلك، وبالله التوفيق.

[اكتراء القيساريات المغصوبة أو المبنية بمال حرام والتجارة فيها]
في اكتراء القيساريات المغصوبة أو المبنية بمال حرام والتجارة فيها وسئل أصبغ عن اكتراء القيساريات والحوانيت المغصوبة

(18/563)


والمبنية بالمال الحرام، وعن السكنى فيها والتجارات بالبز وغير ذلك، قال: لا أرى ذلك يحل. وهذا مثل ما وصفت لك من كسب الحرام. ومن اكتسب فيه شيئا فهو خبيث قليله وكثيره، وقال لا أرى القعود عندهم في تلك الحوانيت، ولا أرى أن تتخذ طريقا إلا المرة بعد المرة إذا احتاج إلى ذلك ولم يجد منه بدا. وذكر أن ابن القاسم كان في جواره مسجد بني من الأموال الحرام، فكان لا يصلي فيه ويذهب إلى أبعد منه ولا يراه واسعا لمن صلى فيه. والصلاة عظم الدين، وهذا أحق ما احتيط فيه، وأهل الورع يتقون هذا ودونه.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا إن الاكتراء في القيساريات المغتصبة والمبنية بالمال الحرام والتجارة فيها لا يحل، والكسب فيها خبيث قليله وكثيره، هو على أصله في أن المال الذي يشوبه حرام حرام كله، يلزم الصدقة بجميعه، وهو شذوذ من القول وتشديد فيه. وإنما الذي يشبه أن يقال إنه ما لم يتمح منه بإخراج ما فيه من الحرام، ورده إلى أربابه إن عرفهم، أو الصدقة به عنهم إن لم يعرفهم، فلا يجوز له أن يأكل منه شيئا وإن كان فيما بقي منه ما يفي بما فيه من الحرام؛ لأن ما أكل منه فبعضه حرام؛ لأنه كله مشاع، فلا يطيب له منه شيء حتى يخرج منه الحرام فيرده إلى أربابه إن عرفهم، أو يتصدق به عنهم إن لم يعرفهم. فإن كان أصبغ أراد هذا فلقوله وجه، وهو أن الحرام شائع في المال متيقن فيه حتى يخرج منه. وأما إن كان أراد المال كله يصير عينه حراما لما خالطه من الحرام فلا يطيب له منه شيء ويلزمه أن يتصدق بجميعه فهو بعيد خارج عن الأصول. والذي يوجبه النظر بالقياس، على الأصول ألا يحرم عليه شيء مما اكتسب بالتجارة في الحانوت من القيساريات [المغتصبة] ويلزمه كراء الحانوت، لأرباب القيسارية للمدة

(18/564)


التي مضت، ولا يحل له المقام فيه إذا علم أنها مغصوبة، وتكره معاملته وأكل طعامه ما لم يتمخ من الواجب عليه في ذلك لأهل القيسارية من غير تحريم؛ لأن ما عليه من التباعة في ذلك متعين في ذمته لا في المال الذي بيده على الصحيح من الأقوال.
وقد ذكرنا ما يجوز من معاملة من خالط الحرام ماله مما لا يجوز في مسألة ملخصة في هذا المعنى كتبتها لمن سألني ذلك من المريدين. وأما إن كان أصل القيسارية حلالا وإنما بنيت بمال حرام فليس اكتراء حانوت منها للتجارة فيه بحرام، وإنما هو مكروه لا إثم في فعله ويستحب تركه؛ لأن البنيان لبانيه والحرام مترتب في ذمته. وكذلك المسجد المبني من المال الحرام يستحب ترك الصلاة فيه كما كان يفعل ابن القاسم من غير تحريم؛ لأن التباعة في ذلك إنما هي على الباني. وقد قيل إن سبيل المال الحرام الذي لا يعلم أصله سبيل الفيء لا سبيل الصدقة على المساكين، فعلى هذا القول تجوز الصلاة دون كراهة في المسجد المبني من المال الحرام المجهول أصله، وبالله التوفيق.

[الذي يريد الغزو والجهاد وله عيال وولد]
في الذي يريد الغزو والجهاد وله عيال وولد وسئل عن الرجل يريد الغزو والجهاد وله عيال وولد، أترى أن يفعل؟ قال أصبغ: إن كان يخاف عليهم الضيعة وليس عنده من يخلف لهم ولا من يقوم له بأمرهم إذا خرج فلا أرى له أن يخرج ويدعهم هكذا ضائعين بلا شيء، وإن كان عنده من يخلف لهم ويقوم بأمرهم ويكفيهم ذلك ولا عورة فيهم أن يخرج، فأرى أن يخرج ولا يدع ذلك إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله لمالك في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد؛ لأن قيامه على

(18/565)


أهله وولده وترك إضاعتهم واجب عليه، بخلاف الغزو والجهاد في الموضع الذي يكون فيه الجهاد فرضا على الكفاية؛ لأن فروض الأعيان لا تترك لفروض الكفاية؛ لأن الفرض على الكفاية إذا قيم به سقط عمن سواه وكان له نافلة، ولا يصح ترك فريضة لنافلة، وبالله التوفيق.

[الغاصب يغتصب السلعة فيستهلكها وماله حرام]
في الغاصب يغتصب السلعة فيستهلكها وماله حرام وفي رجل غصب رجلا متاعا وليس كسبه إلا الغصب والحرام، ولم يجد الرجل متاعه بعينه، فيحكم على الغاصب بثمنه، كيف يكون أخذه؟ أيتصدق به أم يتركه؟ قال أصبغ: يتبعه به دينا ولا يأخذه، أيأخذ ما في أيدي اللصوص مما اقتطعوا على الناس وهو يعرفهم ليست لهم أموال؟ ولا يحل أخذها. أرأيت لو أن لصا قطع على قوم فأخذ متاعهم فتضرع إليه رجل منهم فرده عليه فلم يجد متاعه بعينه فأعطاه غيره أيأخذه؟ قال لا يحل له ذلك، قال: فإن رؤساء اللصوص ربما فعلوا هذا بالناس في الرد والعوض كما يسمع وفيما يسمع، فلا يحل لأحد أن يأخذ من غير متاعه شيئا.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا فيمن غصبه غاصب ليس كسبه إلا الغصب متاعا فلم يجده عنده بعينه فحكم له عليه بثمنه إنه لا يحل له أن يأخذه، هو على أصل مذهبه في أن من خالط ماله حرام فهو كله حرام، لا يحل أن يعامل فيه ولا أن يؤكل منه شيء. وقد مضى بيان هذا من مذهبه في سماع عبد الملك، فكيف بمن لم يكن كسبه إلا الغصب. وإنما قال إنه يتبعه به دينا رجاء أن يفيد مالا حلالا بميراث أو هبة فيجوز له عنده أن يأخذ من ذلك المال الحلال ثمن سلعته التي غصبه إياها. والذي يوجبه القياس والنظر أنه يجوز له أن يأخذ قيمة متاعه الذي غصبه إياه أو جحده إياه وإن كان مستغرق

(18/566)


الذمة بالحرام. وكذلك لو غصبه دنانير أو دراهم أو طعاما فغاب عليه ولم يعرف بعينه لساغ له أن يضمنه في ذلك كله المثل على ما يوجبه القياس والنظر. لأنه لا يدخل على أهل بياعاته بما أخذ نقصا. وأما لو جنى على دابة رجل فقتلها أو على ثوبه فخرقه أو أفسده لما ساغ له أن يضمنه القيمة في ذلك إلا على مذهب من يرى أن مبايعة من استغرق ذمته الحرام وقبول هبته وأكل طعامه جائز لوارثه سائغ؛ لأن الحرام قد ترتب في ذمته وليس في غير المال الذي بيده، إذ ليس هو المغصوب بعينه. وكذلك لا يسوغ لأحد أن يأخذ منه أجرة في خدمته إياه، ولا لحجام إجارة في حجامته إلا على هذا القول؛ لأنهم يدخلون بذلك على أهل بياعاته نقصا. ولو كان فيما يتعلق بماله لجرى ذلك مجرى مبايعته على الاختلاف الذي ذكرناه في سماع عبد الملك، وبالله التوفيق.

[خدمة الرجل أصحابه في السفر]
في خدمة الرجل أصحابه في السفر وسمعته يقول: خرج عمر بن الخطاب إلى الحج، فلما كان ببعض المناهل نام أصحابه فقام من الليل فعبأ على إبله وإبل أصحابه وهو يرتجز ويقول:
لا يأخذ الليل عليك بالهم ... والبس له القميص فيه واعتم
وكن شريك رافع وأسلم ... ولتخدم الأقوام حتى تخدم
قال محمد بن رشد: في هذا تواضع عمر بن الخطاب مع أصحابه وخدمته إياهم ومباشرته لهم وحسن جريه معهم، وما كان عليه من حسن الأخلاق وكرم الطباع. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن

(18/567)


الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم الليل الظامئ بالهواجر» وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بعثت لأتمم حسن الأخلاق» وقال: «من تواضع لله رفعه الله ومن كان في عون أخيه كان الله في عونه» . وفضائله أكثر من أن تحصى، فهو من خيار الأمة الذين قال الله عز وجل فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الآية، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] . وبالله التوفيق.

[السفر في طلب العلم]
في السفر في طلب العلم وسمعته يقول: كان سعيد بن المسيب يخرج في طلب الحديث الواحد يبلغه الليالي والأيام.
قال محمد بن رشد: هذا من اجتهاده في طلب العلم وفضله، وبذلك ساد أهل عصره وكان يسمى سيد التابعين. وقد مضى هذا في رسم الأقضية الأول من سماع أشهب، وفي رسم الأقضية الثاني أيضا، ومضى أيضا والقول فيه في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

(18/568)


[التحليل من المظالم]
في التحليل من المظالم قال: وكان سعيد بن المسيب لم يكن يحلل أحدا ركبه بمظلمة ولا جحده مالا ويقول: دعه، ميعاد ما بيني وبينه الآخرة. وكان القاسم ابن محمد بن أبي بكر لا يركب أحد منه شيئا إلا حلله، وربما قام عليه الرجل في شيء يريد مخاصمته فيه فيقول له: خذ، فإن يكن لي فأنت منه في حل، وإن يكن لك فحقك أخذت.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[ثناء ابن هرمز على مالك]
في ثناء ابن هرمز على مالك، وابن أبي سلمة قال: وكان ابن دينار يختلف إلى ابن هرمز، وكان غلاما، فكان مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة يسألانه فيجيبهما، وربما سأله ابن دينار فلا يجيبه. فوجد في نفسه لذلك، فتصدى له يوما في طريقه إلى المسجد، فلما مر به أخذ بلجام حماره وقال: يا أبا بكر: تجوز لنفسك أن تجيب مالكا وابن أبي سلمة فيما يسألانك، فإذا سألتك لم تجبني. فقال له: يا ابن أخي أو قد كان ذلك؟ فقال له: نعم، فقال له ابن هرمز: إني رجل كبير، وأنا أخاف أن يكون نقص من علمي مثل الذي نقص من بدني، وهما عالمان، فإن أنا أخبرتهما بشيء عرفا ما يحملان، وإن يكن حسنا ذكراه.
قال محمد بن رشد: في هذا أنه لا يلزم العالم أن يجيب الناس في كل ما يسألونه عنه. وقد كتب إلى بعض الفقهاء يسأل عن كفتي الميزان مم هي؟ فكتب إليه، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حسن إسلام

(18/569)


المرء تركه ما لا يعنيه» وسترد فتعلم، والسلام؛ وأن له ألا يجيب من أصحابه من سأله عما يخشى إذا أجابه فيه ألا يفهمه فهما صحيحا عنه فيحمله على غير وجهه. وكان ابن هرمز إمام الناس في العلم، وكان قد ترك الفتوى قبل أن يموت، فقيل له: يرحمك الله لم تركت حظك من عظيم هذا الأمر؟ فقال: إني نظرت إلى جسدي فرأيته قد تغير، وقلبي إنما هو عضو من بعض أعضاء جسدي، فخشيت أن يكون قد تداخله من الوهن ما تداخل سائر جسدي، فتركت ذلك، وبالله التوفيق.

[تفريق المرأة قصتها]
في تفريق المرأة قصتها وسئل مالك هل يكره للمسلمة أن تفرق قصتها كما يصنعن نساء أهل الكتاب؟ فقال: لا.
قال محمد بن رشد: قد مضى في هذا السماع عن ابن القاسم أنه كان يقول: أكره القصة للشعر للمرأة كراهية شديدة. قال: وكان فرق الرأس أحب إلى مالك، وهو يبين قوله في هذه الرواية، إذ لم يذكر فيه إلا أنه لم يكره للمرأة تفريق قصتها. فالمعنى فيها أنه لم يكره ذلك لها، وأنه اختاره لها على السدل. وقوله كما يصنعن نساء أهل الكتاب خلاف ظاهر ما روي «عن ابن عباس من أنه قال: كان أهل الكتاب يسدلون شعورهم، وكان المشركون يفرقون وكان رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فسدل رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناصيته ثم فرق بعد ذلك» . وقد يحتمل أن يكون حديث ابن عباس هذا في سدل

(18/570)


أهل الكتاب شعورهم في الرجال دون النساء، فلا يكون على هذا التأويل خلاف ما وقع في هذه الرواية من أن نساء أهل الكتاب كن يفرقن قصصهن، أي شعورهن، وبالله التوفيق.

[مراتب الناس في العلم]
في مراتب الناس في العلم وقال إنما الناس في العلم أربعة: فرجل علم علما فعمل به وعلمه، فمثله في كتاب الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ؛ ورجل علم علما فعمل به ولم يعلمه، فمثله من كتاب الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] ؛ ورجل علم علما فعلمه وأمر به ولم يعمل به، فمثله في كتاب لله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] ؛ ورجل لم يعلم علما ولم يعمل به فمثله في كتاب بالله: {إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 44] .
قال محمد بن رشد: قوله في العالم الذي علم علما فعمل به ولم يعلمه إن مثله في كتاب الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] معناه في الذين لم يعلموه فكتموه وجحدوه؛ لأن الآية إنما عني

(18/571)


بها علماء اليهود وأحبارها وعلماء النصارى لكتمانهم الناس أمر محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونبوءته، وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل، والبينات التي أنزلها عز وجل هي ما بين من أمر نبوة محمد ومبعثه وصفته في الكتابين اللذين أعلمنا الله أنهم وجدوه فيهما. وكذلك قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [البقرة: 174] الآية عني بها أحبار اليهود الذين كتموا أمر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم يجدونه مكتوبا في التوراة بما كانوا أعطوا على ذلك، فقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [البقرة: 174] إلى قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] فلا يتعلق الوعيد المذكور في الآية بالعالم إلا إذا كتم ما علمه الله تعالى من العلم وجحده. وأما من علم وعمل به ولم يعلمه إلا لمن سأله في خاصته في شيء منه، فهو مثاب على علمه والعمل به، غير مؤاخذ على ترك الجلوس لتعليمه. وهذا هو الذي شبهه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالثمرة طعمها طيب ولا ريح لها. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها» وبالله التوفيق.

(18/572)


[اللعب المصورة وحكمها]
في اللعب المصورة وسئل أصبغ عن اللعب المصورة يلعب بها النساء والجواري، أيحل لهن ذلك؟ قال: ما أرى بأسا ما لم تكن تماثيل مصورة مخروطة فلا يجوز؛ لأن هذا يبقى، ولو كانت فخارا أو عيدانا تنكسر وتبلى رجوت أن تكون خفيفة إن شاء الله، كمثل رقم الثياب بالصور لا بأس بها لأنها تبلى وتمتهن. قلت أليس قد ذكر «عن عائشة أنها كانت تلعب بهن؟ فقال نعم، أخبرني بذلك عبد الله بن وهب يرفعه عن عائشة زوج النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: كان يأتيني جوار يلاعبنني بالبنات، فإذا رأين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحيين وتقنعن فكان رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج ويسيرهن إلي» . فقلت أترى بعملها بأسا وببيعها بأسا؟ قال: أما الذي أجزت لك منها فلا أرى ببيعها بأسا.
قال محمد بن رشد: قوله ما أرى بأسا لما لم تكن تماثيل مصورة مخروطة، معناه لا بأس بها إذا لم تكن صورا مخروطة مجسدة على صورة الإنسان، وإنما كانت عظاما أو عيدانا غير مخروطة على صورة الإنسان إلا أنه عمل فيها شبه الوجوه بالتزويق، فجاز ذلك لأنه أشبه الرقم. هذا معنى قول أصبغ بدليل تشبيهه ذلك برقوم الثياب بالصور، إلا أنه علل ذلك بعلة فيها نظر، فقال لأنها تبقى، قال ولو كانت فخارا أو عيدانا تتكسر وتبلى رجوت أن تكون خفيفة إن شاء الله كمثل رقوم الثياب بالصور، لا بأس بها لأنها تبلى

(18/573)


وتمتهن. والصواب أن لا فرق في ذلك بين ما يبقى أو يبلى فلا يبقى مما هو تمثال مجسد له ظل قائم يشبه الحيوان الحي بكونه على هيئته. وإنما استخفت الرقوم في الثياب من أجل أنها ليست بتماثيل مجسدة لها ظل قائم يشبه الحيوان في أنها مجسدة على هيئتها، وإنما هي رسوم لا أجساد لها، ولا يحيى في العادة ما كان على هيئتها. فالمحظور ما كان على هيئة ما يحيى ويكون له روح، بدليل قوله في الحديث: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم» . والمستخف ما كان بخلاف ذلك مما لا يحيى في العادة ما كان على هيئته، فالمستخف من هذه اللعب المصورة للعب الجواري بها، لما جاء من أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تلعب بها بعلم رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا ينكر ذلك عليها، بل كان يسرب الجواري إليها ما كان مشبها بالصورة وليس بكامل التصوير، وكلما قل الشبه قوي الجواز، وكل ما جاز اللعب به جاز عمله وبيعه على ما قاله في الرواية، وبالله التوفيق.

[يمر بالحائط أو بالجنان أيأخذ من ثمره]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد بن أبي الغمر: سئل ابن القاسم عن الرجل يمر بالحائط أو بالجنان أيأخذ من ثمره؟ قال: لا يصلح أن يأخذ من ثمره. قيل له: فإن وجده في أصل الحائط قد سقط؟ قال وإن كان قد سقط. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحلب أحد ماشية أخيه إلا بإذنه» .

(18/574)


قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم فأغنى ذلك عن إعادته هنا مرة أخرى، وبالله التوفيق.

[سلخ الشاه الميتة]
في سلخ الشاه الميتة قال ابن القاسم في الميتة تموت هل يحل للمسلم أن يبطش بها فيسلخها لينتفع بإهابها أم لا ينبغي للمسلم أن يمس الميتة؟ قال لا بأس أن يسلخ المسلم الميتة، ولا يصل إلى الانتفاع بها إلا بسلخها، وليطهر كل ما أصابه منها.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين؛ لأن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الميتة: ألا انتفعتم بجلدها، ولا سبيل إلى الانتفاع بجلدها إلا بسلخه عنها، وبالله التوفيق.

[الانتفاع بجلد الميتة]
في وجه الانتفاع بجلد الميتة وسئل عن جلد الميتة هل ينتفع به من غير دباغ للجام أو غير ذلك أم لا ينتفع به من غير دباغ كيف ذلك؟ قال قال مالك: ترك ذلك أحب إلي. قال ابن القاسم: لا ينتفع به حتى يدبغ.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن جلد الميتة قبل الدباغ نجس لا تجوز الصلاة به ولا عليه. واختلف في جواز بيعه والانتفاع به على

(18/575)


ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به، وهو مذهب ابن الماجشون والمعلوم من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك؟
والثاني: أنه يجوز بيعه والانتفاع به، وهو مذهب ابن وهب، ويقوم مثله من رواية ابن القاسم عن مالك في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من كتاب الصلاة في مسألة الصابون؟
والثالث: أنه لا يجوز بيعه ويجوز الانتفاع به، وهو دليل قوله في هذه الرواية: ترك ذلك أحب إلي. ولا اختلاف في جواز الانتفاع به بعد الدباغ. واختلف هل يطهر بالدباغ أم لا على قولين: فذهب مالك في رواية ابن القاسم عنه أنه لا يطهر بالدباغ إلا للانتفاع به خاصة، وقد رويت عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه آثار متعارضة في الظاهر، منها أنه: «أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت؛» ومنها أنه قال: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» ومنها أنه: «أمر ألا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب» . فلم يحملها مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ابن القاسم عنه على التعارض، وجعل ما روي عنه من أنه أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت مفسرا للحديثين الآخرين فقال: فمعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» أي طهر للانتفاع به، وقوله: إنه أمر ألا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب، معناه قبل الدباغ. هذا تأويل شيخنا الفقيه ابن رزق - رحمه لله- على مالك في هذه الأحاديث. وقال ابن لبابة: بل أخذ مالك بحديث عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر أن ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت» وأسقط الحديثين الآخرين فلم يأخذ بهما. وقول الفقيه أبي جعفر أولى؛ لأن حمل الأحاديث بالتأويل على أن بعضها مفسر لبعض واستعمالها كلها أولى من حملها على

(18/576)


التعارض وإسقاط بعضها. وأكثر أهل العلم يقولون: إن جلد الميتة يطهر بالدباغ طهارة كاملة، يجوز بها بيعه والصلاة بها عليه، وهو قول ابن وهب من أصحابنا في سماع عبد الملك من كتاب الصلاة. وفي المدونة دليل على هذا القول، وروى مثله أشهب عن مالك في كتاب الضحايا في جلود الأنعام خاصة. وقد اختلف في جلد الخنزير فقيل: إنه لا يطهره الدباغ، وقيل: إنه يطهره لعموم الحديث. وقد قال النضر بن شميل من أهل اللغة: إن الإهاب إنما هو جلد الأنعام خاصة، وما سواه من جلود الحيوان إنما يقال له جلد ولا يقال له إهاب. وقال أحمد بن حنبل: لا أعرف ما قال النضر، وبالله التوفيق.

[الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند العطاس والعجب بالشيء]
في الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند العطاس والعجب بالشيء
وسئل عن الذي يرى الشيء يعجبه أو يعطس فيحمد الله عز وجل، أيكره له أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: لا، أنا آمره أن لا يصلي على النبي، إذا أقول له لا تذكر الله. قيل له: إنه يذكر في ذلك حديث، قال ما أكثر ما تحدث به، كأنه لا يرى ذلك الحديث بشيء.
قال محمد بن رشد: قد أمر الله بالصلاة على النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] ، فالصلاة على النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الوجه الذي أمر الله به من التعظيم لحقه والرغبة في

(18/577)


الثواب في الصلاة عليه عند ذكره أو ذكر شيء من أمره مرغب فيه ومندوب إليه. وأما الصلاة عليه عند العجب بالشيء للتعجيب به دون القصد إلى اكتساب الثواب في ذلك فهو مكروه، قاله سحنون في رسم يدبر ماله من سماع عيسى من كتاب المحاربين والمرتدين. وأما الصلاة عليه مع حمد الله عند العطاس فيحتمل أن يكون الفاعل بذلك لم يرد به القربة ولا احتسب فيه الثواب ولا قصد به إلى تعظيم حق النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيكون ذلك من فعله مكروها؛ ويحتمل أن يكون لما عطس فحمد الله تذكر سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمر العاطس بحمد الله عند عطاسه وصلى عليه داعيا له على ما سنه من ذلك لأمته، فيكون ذلك من فعله حسنا مستحسنا. ولما احتمل صلاته على النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الحال وجها صحيحا توقف في الرواية أن يقول: إنه يكره ذلك وقال: إن قلت ذلك كنت قد أمرته أن لا يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبالله التوفيق.

[يرث المال عن أبيه بعضه حلال وبعضه حرام وقد اختلط الحلال بالحرام]
من نوازل سحنون وسئل سحنون عن الذي يرث المال عن أبيه بعضه حلال وبعضه حرام وقد اختلط الحلال بالحرام، أترى له أخذه؟ فقال: أيهما الأكثر والغالب؟ فقيل له الحرام، فقال أحب إلي أن يتنزه عنه. فقيل له: فالرجل يكون له المال قد ورثه عن أبيه من القرى والحوانيت وغير ذلك، وهو ممن يصحب السلطان ويلتبس بأمورهم ويأخذ من الجورة، هل يجوز أن أقبل منه صلة إن وصلني، أو أكل له طعاما؟ قال: إن كان الذي في يده من السلطان هو الأكثر فلا خير فيه، وأحب إلي أن ينزه نفسه عن أخذ صلته وإن كان الذي ورث أكثر إذا كان صاحب سلطان.

(18/578)


قال محمد بن رشد: قال في الذي ورث المال عن أبيه بعضه حلال وبعضه حرام إنه إن كان الغالب عليه الحرام فأحب إليه أن يتنزه عن ذلك يدل ذلك من قوله: على أنه له حلال بالميراث وإن كان الغالب عليه الحرام، إلا أنه استحب له أن يتنزه عنه، وأنه إن كان الغالب عليه الحلال فهو له سائغ حلال ليس عليه أن يتنزه عن شيء منه. وقال في الذي يرث المال عن أبيه إنه إن كان يصحب السلطان ويلتبس بأمورهم ويأخذ من الجورة، فإنه إن كان الذي في يده من السلطان هو الأكثر فلا خير في قبول صلته ولا أكل طعامه، وإن كان الذي ورث هو الأكثر فأحب إليه أن يتنزه عن أخذ صلته وأكل طعامه؟ ففرق بين المال الذي جله حرام أو جله حلال بين الهبة والميراث، فأباحه بالميراث إلا أنه استحب أن يتنزه عنه إن كان جله حراما، ولم يبحه بالهبة والعطية إذا كان جله حراما، وقال لا خير فيه، واستحب أن يتنزه عن قبول الهبة منه إن كان جله حلالا. والقياس أن ينزل الوارث في المال الموروث منزلة الموروث، فإن كان المال كله حراما لم يسغ له بالميراث ولزمه فيه ما كان يلزم موروثه من الصدقة على المساكين بجميعه؛ وإن كان بعضه حراما تصدق منه بمقدار الحرام، كان الأقل أو الأكثر، كما كان يلزم الذي ورثه عنه أن يفعله. وقد قيل إنه يجوز قبول هبة المستغرق الذمة بالحرام وأكل طعامه. فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المستغرق الذمة بالحرام لا يجوز قبول عطيته ولا أكل طعامه ولا يسوغ لوارثه ميراثه.
والثاني: أن المستغرق الذمة بالحرام يجوز قبول هبته وأكل طعامه ويسوغ لوارثه ميراثه.
والثالث: أن المستغرق الذمة بالحرام لا يجوز قبول هبته ولا أكل طعامه، ويسوغ لوارثه ميراثه.
وجه القول الأول أن ما عليه من الظلامات والتباعات لما كانت مستغرقة لما بيده من المال كان كمن أحاطت الديون بماله، لا تجوز هبته ولا عطيته ولا معروفه، ولا يسوغ لوارثه ميراثه، لكون ما عليه من التباعات أولى بماله،

(18/579)


لأنها كالديون عليه، وقال الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] .
ووجه القول الثاني: أن ما عليه من الظلامات والتباعات وإن كانت مستغرقة لماله فليست متعينة فيه، إذ قد ترتبت في ذمته، فساغت عطاياه لمن أعطاه إياها وساغ ماله لوارثه، وكان هو المسئول المؤاخذ بما عليه من المظالم والتباعات إذ لم يؤدها أو لم يتمح منها في حياته.
ووجه القول الثالث أن ما عليه من المظالم والتباعات [أحق بماله؛ لأنه مأمور بردها منه عاص لله عز وجل في ترك] ذلك وتأخيره، فلا يجوز له فيه عطية ولا معروف، ولا يسوغ ذلك للمعطي. فإذا لم يفعل ذلك حتى مات بقيت عليه التباعات يطلب بها في الآخرة، وساغ ماله لوارثه، إذ ليست التباعات التي عليه ديونا لمعينين يطلبونها فيجب إخراجها من ماله قبل الميراث. وقد أفردنا للتكلم على حكم مال من خالط الحرام ماله في حياته وبعد وفاته مسألة حاوية لجميع وجوهها، فمن أراد الشفاء منها في نفسه طالعها، وبالله التوفيق.

[سبب سكنى اليهود الحجاز]
في سبب سكنى اليهود الحجاز
قال مالك: لم تكن اليهود تسكن الحجاز ولم تكن لهم دار إلا أنهم كانوا يجدون عندهم أن الله عز وجل يبعث نبيا من بين حرتين، فاتخذوا الحجاز دارا رجاء أن يكون منهم، فأخلف الله ظنهم في أنفسهم، وبعثه من غيرهم، صلوات الله وسلامه على محمد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، وبالله التوفيق.

(18/580)


[ما يرتفع به القوم]
فيما يرتفع به القوم قال سحنون: بلغني أن عروة بن الزبير قال لبنيه: يا بني إنه لم يرتفع قوم بمثل تقوى الله العظيم، ويرفع القوم مناكحهم، ولن يتضع قوم بمثل معاصي الله، وتضع القوم مناكحهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، قال الله عز وجل: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] ، وقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189] . ومثل هذا في القرآن كثير. وقال عمر بن الخطاب: كرم المرء تقواه، ودينه حسبه. وإذا كان التقى يرفع، فالمعاصي لا شك تضع، والمناكح أيضا ترفع وتضع، قال عروة بن الزبير؛ لأن الرجل إذا نكح إلى من هو أشرف منه تشرف بهم، وإذا نكح إلى أهل الضعة كان ذلك وصمة فيه تضع عند الناس منه، وبالله التوفيق.

[النفقة من المال الحرام]
في النفقة من المال الحرام قال سحنون: وبلغني عن عبد الله بن عامر بن كريز أنه قال لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن، أما لنا أجر في هذه المياه التي أجرينا والعقاب التي سهلنا؟ فقال له ابن عمر: أما علمت أن خبيثا لن يكفر خبيثا.
قال وبلغني أن عائشة أم المؤمنين مرت بموضع بناحية منى يقال له الياقوتة فقالت: ما هذا؟ فقيل لها هذه الياقوتة بناها

(18/581)


عبد الله بن عامر، قالت: [من أين؟] فإني والله لأعرفه صعلوكا، فقيل لها: فإن عثمان بن عفان ولاه اليمن أو بعض النواحي، فقالت؛ لا تسرق ولا تنفق في مثل هذا.
قال وبلغني أن عبد الله بن عمر عاد عبد الله بن عامر مع جماعة، فلما خف الناس قال له: يا أبا عبد الرحمن، ما ترى في هذه المياه التي أجريناها، والوعر الذي سهلنا؟ فقال له عبد الله بن عمر: سترد فتعلم، إن طابت المكسبة زكت النفقة.
وكان آدم يقول: كنا نسلا من نسل السماء، غير أن الخطيئة سبتنا، فليس لنا الفرح إلا الهم والحزن حتى نرجع إلى الدار التي منها سبينا.
قال محمد بن رشد: عبد الله بن عامر بن كريز هذا قرشي من بني عبد شمس بن عبد مناف، وهو ابن خال عثمان بن عفان، فعثمان بن عفان ابن عمته. ولد في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأتي به إليه، فجعل يتفل عليه ويعوذه، فتسوغ ريق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنه لمسقي، فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء. حدث عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يصح له سماع منه. قال ذلك ابن عبد البر. وكان عبد الله هذا كريما ميمون النقيبة كثير المنافق، فتح خراسان، وقتل كسرى في ولايته، وأحرم من نيسابور شكرا لله. وهو الذي عمل السقايات بعرفة، وشق نهر البصرة، وكان واليا عليها لعثمان إلى

(18/582)


أن قتل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقول عبد الله بن عمر له فيما سأله عنه: أما علمت أن خبيثا لن يكفر خبيثا، معناه أن المال الخبيث وهو المأخوذ من غير حله إذا فعل الخير من بعضه لا يطيب له ذلك باقيه، وإنما يُطَيِّبُ له المالَ الخبيثَ المالُ الطيبُ، وذلك مثل أن يرث مقدار المال الخبيث أو يوهب له أو يتصدق به عليه فيتصدق به على المساكين تمحيا عن المال الخبيث الذي لا يعلم أهله، فيطيبه ذلك. وكذلك إن لم يتصدق به على المساكين وصرفه في وجه من وجوه البر، كتسهيل العقاب وإجراء المياه على القول بأن حكم المال المأخوذ من غير حله المجهول أهله حكمه حكم الفيء لا حكم الصدقة.
وقوله في سؤاله الآخر: إن طابت المكسبة زكت النفقة، أخذه، والله أعلم، من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من «تصدق بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيبا، كان إنما يضع صدقته في كف الرحمن» الحديث. وقد قيل في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] ، إن المراد بطيبات ما كسبتم التجارات والحلال، وإن المراد بالخبيث الحرام، أمروا أن يتصدقوا من الكسب الحلال، ونهوا أن يتصدقوا من الحرام، فإن الله لا يقبله. وقد قيل في تفسير قوله: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وقوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] إن معنى ذلك في الزكاة أن تؤدي زكاة العين من جيد العين، وزكاة التمر من طيب التمر لا من رديئه.
وقول عائشة لا تسرق ولا تنفق، معناه أنه لا يفي فعل الخير من المال

(18/583)


المكتسب من غير حله بإثم كسبه من غير حله؛ لأنه إذا فعل ذلك نزل أصحاب التباعات له على الأجر في ذلك وخلص هو من إثم إمساكه فيما بينه قبل، فصحت بذلك توبته فيما بينه وبين خالقه، وبقي مرتهنا بإثم إمساكه عن أربابه وظلمه لهم في ذلك. وأراد عبد الله بن عمر بما ذكره من أن آدم كان يقوله التحريض على التمحي من التباعات والتوبة منها، والله أعلم، وبه التوفيق.

[الحض على تعلم العلم ونشره]
في الحض على تعلم العلم ونشره قال ابن القاسم: سمعت مالكا إذا ودعناه ربما قال لنا غير مرة: اتقوا الله وانشروا هذا العلم ولا تكتموه وعلموه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لا اختلاف في أن نشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، قال الله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] [معناه: يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم درجات،؛ لأن من آمن ولم يؤتى العلم لا تستوي درجته مع درجة من آمن وأوتي العلم. وإنما رفع الله درجات الذين أوتوا العلم بتعليمهم إياه، وقد قال أبو هريرة: من غدا أو راح إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانما. وروي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما أعمال البر كلها في الجهاد إلا كبصقة في بحر وما أعمال البر كلها والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر» . ومعناه في الموضع الذي يكون فيه الجهاد فرضا على الكفاية لا

(18/584)


في الموضع الذي يكون متعينا على الأعيان. وروي: أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن «أفضل الأعمال فقال: الصلاة لأول ميقاتها» معناه في الفرائض، وأما النوافل فطلب العلم أفضل منها، بدليل الحديث الأول. وقد روي عن مالك أن الصلاة أفضل من القعود لمذاكرة العلم، وروي عنه أن العناية بالعلم أفضل من الصلاة، وليس ذلك باختلاف من قوله، ومعناه أن طلب العلم أفضل من الصلاة لمن ترجى إمامته، وأن الصلاة أفضل من طلب العلم لمن لا ترجى إمامته إذا كان عنده منه ما يلزمه في خاصة نفسه، من صفة وضوئه وصلاته وصيامه وزكاته إن كان ممن تجب عليه الزكاة. وأما كتم العلم فلا يحل ولا يجوز، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] ، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبالله التوفيق.

[الإيمان قول وعمل]
في أن الإيمان قول وعمل قال فقلنا لمالك: فالإيمان قول وعمل أو قول بلا عمل؟ قال مالك: بل قول وعمل. قال ابن القاسم وحدثني عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم عن ابن ذكوان عن الأوزاعي قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فرقتان من أمتي في النار مكذب بقدر الله

(18/585)


ومفرق بين إيمان وعمل» . قلت فهل كان مالك يقول لا تكفروا أهل التوحيد بذنب، ولا تشركوهم؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: لما سأله عن الإيمان هل هو قول وعمل أو قول بلا عمل فقال بل قول وعمل، أوجب أن الإيمان لا يكون إلا بالقول مع العمل، وأنه لا يكون بالقول وحده إذا تجرد عن العمل، وهو صحيح؛ لأن العمل ينقسم على قسمين: أحدهما عمل القلب، والثاني عمل الجوارح. فأما عمل القلب فإنه شرط في صحة الإيمان؛ لأن الإيمان هو التصديق الحاصل في القلب بأن الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. فمن قال بلسانه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولم يعتقد تصديق ذلك بقلبه فليس بمؤمن. وأما أعمال الأبدان من الوضوء والصلاة وسائر الطاعات، فإنها ليست بشرط في صحة الإيمان، وإنما الإيمان، هو شرط في صحتها إذا وجبت عليه بدخول وقتها؛ لأن الرجل إذا أسلم وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له واعتقد تصديق ذلك بقلبه، فهو مؤمن كامل الإيمان بإجماع من أهل العلم إن مات بفور ذلك قبل أن تجب عليه الصلاة بدخول وقتها كان من أهل الجنة، وإن لم يمت حتى وجبت عليه الصلاة بدخول وقتها لم تصح له الصلاة إلا بمقارنة الإيمان لها الذي هو شرط في صحتها كما ذكرناه. هذا ما لا اختلاف فيه ولا امتراء في صحته. وإن ترك الصلاة فلم يصلها بسهو أو نوم أو غفلة أو نسيان لم يقدح ذلك في صحة إيمانه، وكذلك إن تركها عمدا وهو مقر بفرضها ووجوبها لم يقدح ذلك أيضا في صحة إيمانه إلا أنه آثم عاص لله عز وجل، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد في

(18/586)


اليوم والليلة فمن جاء بهن لم يضيع شيئا منهن استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة» بيانا لما في كتاب الله عز وجل من قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . فقول مالك إن الإيمان لا يكون إلا بقول مع العمل، معناه مع عمل القلب وهو التصديق، لا مع عمل الأبدان على ما بيناه. فقول من قال من أهل السنة إن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح، معناه أن هذا هو الإيمان الكامل الذي يكون العبد به مؤمنا في الظاهر والباطن؛ لأنه مؤمن عند الله في الباطن بما يعلمه من إخلاص قلبه، وهو مؤمن عندنا في الظاهر بما نسمعه من شهادته ونراه من صلاته؛ لأن ما نسمعه من شهادته ونراه من صلاته ليس بإيمان، وإنما هو دليل على الإيمان، فيحكم له بحكمه بما ظهر إلينا من قوله وفعله. ولو قال أنا مؤمن وأبى أن يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وأبى أن يصلي، لم نصدقه في أنه مؤمن واستتبناه، فإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلى، وإلا قتلناه. ولما كانت الشهادة والصلاة لا تكون واحدة منهما طاعة وقربة إلا مع مقارنة الإيمان لها الذي هو التصديق الحاصل في القلب، جاز أن يسمى كل واحد منهما إيمانا. قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأنها كانت بالإيمان الذي هو شرط في صحتها.
وقوله في الحديث: «فرقتان من أمتي في النار مكذب بقدر الله ومفرق

(18/587)


بين إيمان وعمل» فالمكذبون بقدر الله هم القدرية الذين يقولون إنهم خالقون لأفعالهم لا قدرة لله على منعهم مما يريدون أن يفعلوه، والمفرقون بين الإيمان والعمل هم المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان هو الواجب دون. ما سواه من الأعمال، وإنه لا يضر مع الإيمان ترك عمل من الأعمال. وظاهر ما في الحديث من قوله في الفرقتين إنهما في النار، أنهما يخلدان فيها كفارا بما يعتقدانه من ذلك. ويحتمل أن يكون معناه أنهما في النار غير مخلدين فيها، إذ ليسوا بكفار لإقرارهما بالتوحيد والشهادة. وقد اختلف في تكفيرهم بمآل قولهم، فقيل: إنهم لا يكفرون بذلك، وهو قول مالك في هذه الرواية، ودليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخوارج وتتمارى في الفوق، وفيما روي في الفرق، وقيل إنهم يكفرون بذلك، وهو قوله في سماع ابن القاسم من كتاب المرتدين والمحاربين، وبالله التوفيق.

[بعض ما روي من الرؤيا]
فيما روي من الرؤيا قال سحنون سمعت ابن القاسم يقول: أخبرني سليمان بن القاسم قال: سمعت أبا السمحاء يقول: أتاني آت في منامي فقال: نعم عمل الحج لولا المناهل. وبلغني أن عبد الله بن جعفر رأى في منامه أنه أهدي له طبق فيه رأس خنزير عليه منديل لا يلصق به، فلما أصبح أهدي إليه تمر من حلوان عليه منديل لا يلصق به.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في الكتاب سمعت أبا السمحاء، وصوابه سمعت أبا السمح. وتأويل ما قيل له في منامه، والله أعلم، أنه نبه

(18/588)


على شيء فعله من المكروه في بعض مناهله التي نزل فيها في طريقه إلى الحج على سبيل التحذير له أن لا يعود إلى فعل مثل ذلك. وذلك في المعنى مثل ما رأى عبد الله بن جعفر من أنه أهدي له طبق فيه رأس خنزير عليه منديل لا يلصق به؛ لأن ذلك تنبيه له في منامه على التوقي من قبول شيء يهدى له من غير حله، فكان ذلك التمر الذي أهدي له حين أصبح من تمر حلوان. وحلوان: قرية من قرى مصر، وكان التمر الذي أهدي إليه من مال مغصوب منها والله أعلم.
ورأيت في جامع المستخرجة المنسوبة لابن أبي زيد وقد وصل بما قيل لأبي السمح في منامه من قوله نعم عمل الحج لولا المناهل، يريد أنها مغصوبة وذلك لا يستقيم، إذ لا يصح أن يقال فيما قيل للرجل في منامه إن القائل لك في منامك كذا وكذا أراد به كذا وكذا، إذ ليس ما يكلم به في منامه بكلام على الحقيقة ولا ما يراه في منامه بمرئي على الحقيقة، وإنما هي تشبيهات وتمثيلات يراها الرائي في منامه فتعبر على ما يظهر من معانيها. فقد رأى الملك بحضرة يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف: 43] ، فعبرها يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بما ظهر إليه من معانيها بأنها سنون سبع تأكل ما رفع الناس فيها سنون سبع جدبة. ورأى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة أحد في منامه أن في سيفه ثلمة وأن بقرا له تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة. وقد يكون من الرؤيا ما يخرج على ما يراه

(18/589)


الرائي دون تأويل ولا تعبير، من ذلك ما أخبر به النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه رأى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في سرقة من حرير. جاء «عن عائشة أنها قالت، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أريتك في المنام مرتين إذا رجل يحملك في سرقة حرير، ويقول هذه امرأتك فاكشف عنها، فإذا هي أنت فأقول إن يكن هذا من عند الله يمضه» . ومعنى قوله: إن يكن هذا من عند الله يمضه، أي إن تكن هذه الرؤيا من الرؤيا التي هي على وجهها دون تأويل ولا تعبير يمضه. ويحتمل أن يكون المعنى في ذلك أن هذا من عند الله فهو ماض لا شك فيه، وبالله التوفيق لا شريك له.

[ما ذكر في فضل ابن القاسم]
في ثناء ابن وهب على ابن القاسم
قال وسمعت ابن وهب يقول لما مات ابن القاسم قال: أخي وصاحبي في هذا المسجد منذ أربعين سنة، ما رحت رواحا ولا غدوت غدوا قط إلى هذا المسجد مسجد الفسطاط أريد أن أستر به نفسي إلا وجدته قد سبقني إليه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، ولا يعرف الفضل لأولي الفضل إلا أولو الفضل، وبالله التوفيق.

[ما أوصى به علي بن الحسين]
فيما أوصى به علي بن الحسين
وسمعت سفيان بن عيينة يقول: هلك علي بن الحسين

(18/590)


بموضع يقال له سكن، فأوصى أن تعتق كل أمة له ذات ولد حي من رأس ماله، وكل أم ولد ليس لها ولد تعتق من ثلثه، وهلك عن اثنين وعشرين فرجا، وكان يقطع كميه عند أطراف أصابعه.
قال محمد بن رشد: فيما أوصى به علي بن الحسين من عتق بعض أمهات أولاده من رأس ماله وبعضهن من ثلثه، دليل على أن الحكم كان في وقت وصيته بجواز بيع أمهات الأولاد، وهو مذهب داود القياسي والرافضة وأهل الظاهر. واحتج من نصر قولهم بقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: «كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر بن الخطاب، ثم نهانا عمر عن بيعهن» . وهذا كله لا حجة لهم فيه: أما الآية التي احتجوا بظاهرها من القرآن قوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فإنه يتخصص بما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله عند ولادة مارية القبطية لابنه إبراهيم: أعتقها ولدها، يريد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ثبت لها حرمة بسبب ولدها، فلا تعود إلى الرق أبدا أو لا يجوز بيعها ولا هبتها، لا أنها بتلت حريتها؛ لأنه بقي له فيها الاستمتاع طول حياته، بدليل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث ابن عباس أنه قال: «أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة بعده» . وهذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكافة فقهاء الأمصار. وقد كان بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في ذلك اختلاف، فذهب منهم إلى إجازة بيعهن عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري. وقال عبد الله بن

(18/591)


مسعود: تعتق من نصيب ولدها، إلى أن فحص عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أمرهن وكشفه، فاجتمع هو ومن بقي من العشرة ومن المهاجرين والأنصار على أنهن متعة لساداتهن ما عاشوا، ثم هن بعد موتهم أحرار من رءوس أموالهم، فانعقد الإجماع على هذا من حينئذ، واستمر الأمر عليه إلى أيام عبد الملك بن مروان، إلا ما يذكر من رجوع علي بن أبي طالب أيام خلافته إلى إجازة بيعهن في الدين، ثم اضطرب في أمرهن، ففحص عبد الملك عن ذلك فأخبره الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب أمضى ما وصفت عنه، فأقر ذلك وكتب به إلى البلدان.
وقوله: إنه كان يقطع كميه عند أطراف أصابعه مما يستحب؛ لأنه من التواضع الذي يبعد عن الكبر. وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم أن سعد بن معاذ مر بعائشة وهي في أطم من الأطام وعليه درع مفاضة مشمرة الكمين فأعجبها ذلك وقالت: ما أخاف على الرجل إلا من أطرافه. وقد مضى الكلام على ذلك هنالك، وبالله التوفيق.

[ما يروى من فضل ابن القاسم]
فيما يروى من فضل ابن القاسم وسمعته يقول: حج ابن القاسم سبع عشرة حجة، ما كانت تبلغ نفقته في حجته إلا عشرة دنانير وما يشبهها. قال وسمعت ابن القاسم يقول: ما خرجت إلى مالك إلا وأنا عالم بقوله. قال سحنون يريد أنه يعلم من عبد الرحمن وطلب وسعد، وكانوا عنده أوثق أصحاب مالك.
قال محمد بن رشد: كان ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أحدث

(18/592)


أصحاب مالك بمصر سنا وأحدثهم طلبا وأعلمهم بعلم مالك وآمنهم عليه، وكان من الخيار الفضلاء. قال يحيى بن يحيى: تذاكرنا يوما مع ابن القاسم هذا الأمر، فكلنا قال الورع أشد ما في هذا الدين، فقال لنا ابن القاسم: ما هو عندي كذا، فقلت له: يا أبا عبد الله، كيف ذلك؟ فقال لي: لأنا أمرنا ونهينا، فمن فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه كان أورع الناس. فقلت له: يا أبا عبد الله، لقد خفف الله عليك ما ثقل على غيرك، فأي شيء وجدت من هذا الأمر أثقل؟ فقال: ما وجدت شيئا أثقل علي من مكابدة آخر الليل. قال يحيى بن يحيى: لما قرأنا كتب أسد على ابن القاسم وضع أشهب يده في مثلها فخالفه في جلها أو في أكثرها، فقلت لابن القاسم: يا أبا عبد الله، لو أعدت نظرك في هذا الكتاب، فإن صاحبك قد خالفك، [فما وافقك عليه أقررته، وما خالفك] فيه أجدت النظر فيه وأنعمت، فقال لي: سأفعل إن شاء الله. فلما كان بعد أيام تقاضيته، فقال لي: يا أبا محمد، نظرت في مقالتك فوجدت إجابتي يوم أجبت كانت لله وحده، فرجوت أن أوفق، وإجابتي الساعة إنما تكون نقضا على صاحبي فأخاف أن لا أوفق في الأجوبة والرد فتركت ذلك، وبالله التوفيق.

[ما ذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الغيرة من النساء]
فيما ذكر عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الغيرة قال سحنون أخبرني سفيان بن عيينة عن أبي طوالة قال: اشتكى رجل إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غيرة امرأته، فقال له عمر: إني لأخرج لحاجة فيقال لي إنما خرجت إلى فتاة بني فلان، فقال له ابن مسعود: أوما علمت أن إبراهيم قد

(18/593)


شكا إلى الله ما كان يجد من غيرة سارة، فأوحى الله عز وجل إليه أن ألبسها على ما كان فيها إلا أن تجد جرحة في دينها.
قال محمد بن رشد: في هذا أن النساء يدركهن من الغيرة على الرجال ما يدرك الرجال من الغيرة على النساء. فينبغي أن يعذر النساء فيما يدركهن من ذلك، إذ هو أمر يغلبهن ولا يثرب عليهن فيه، كما كان يفعل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما كان يقال له في ذلك على جزالته ومهابته، وعلى ما أوحى الله عز وجل به إلى إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما شكا إليه من غيرة سارة، وبالله التوفيق.

[فضل شهود صلاة الجماعة]
في فضل شهود صلاة الجماعة
وحدثني عن الحماني قال، حدثنا إسماعيل بن عباس عن عمارة بن عرية عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى أربعين ليلة في جماعة لا تفوته الركعة الأولى أعتقه الله من النار» .
قال محمد بن رشد: فضائل الصلاة أكثر من أن تحصى. قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] ، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] ، وسئل النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أفضل الأعمال فقال: الصلاة لأول ميقاتها،

(18/594)


وقال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا» وقال: «إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون ذلك يبقي من درنه» يريد أن الصلوات تكفر السيئات. وقال عثمان بن عفان سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من امرئ يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها» وبالله التوفيق.

[معاملة من لا يؤتي زكاة ماله]
في معاملة من لا يؤتي زكاة ماله وسئل أصبغ: هل يجوز الاشتراء من طعام رجل يعلم أنه لا يخرج زكاته؟ وهل يجوز البيع منه بالناض وهو ممن لا يزكي؟ فإن اشترى مشتر أو باع ما الذي يجب عليه حتى يطيب له ما اشترى فيما بينه وبين الله تعالى؟ وهل ترى إن ادعى مشتري هذا الطعام أن تركه إخراج الزكاة عيبا وأراد فسخ البيع هل يكون القول قوله، ويرد إذا كان بمكان لا يجبر السلطان الناس على إخراج الزكاة؟ وكيف إن كان له مال أو لم يكن؟ قال أصبغ: أرى ماله كله فاسدا لا يجوز أن يؤكل منه شيء دون شيء ولا يشرب، ولا يجوز أن يباع ولا

(18/595)


يشترى؟ فلا يبايع فيه ولا يعامل، وإن عامله فيه أحد رأيت أن يخرجه كله ويخرج منه ويتصدق به، كمال عاصر الخمر والمربي والغاصب والظالم، فهذا غاصب ومتعد على أموال المساكين وابن السبيل وسبيل الله وسائر السهمان إذا حبسه كان كمن غصبه وخلطه بماله وكسب به وعليه وفيه ولم يميز شيئا من شيء، فهو فاسد كله.
وقد سمعت سفيان بن عيينة وذكره فقال: ليس من ظلم واحدا كمن ظلم الناس أجمعين، فإذا حبس الزكاة فهو كمن ظلم الناس أجمعين؛ لأن فيه حق الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين وفي سبيل الله والرقاب وغير صنف، فهو ظالم لهؤلاء أجمعين. قال وسمعت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول في قول الله تعالى وتبارك: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] ، قال هي للناس وللسلطان مقسومة، الذي يحبسه والذي يتعدى فيه فيأخذه بغير حقه أو يضعه في غير حقه.
قال وحدثنا ابن القاسم يرفع الحديث وبلغه «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين دفع من عرفة وبلغ الشعب نزل فبال، ثم نادى بوضوء فتوضأ، ثم قال: لا وضوء لمن لا صلاة له ثلاث مرات، ثم قال: لا صلاة لمن لا زكاة له ثلاث مرات. مانع الزكاة في النار» والمتعدي فيها كمانعها. قال المتعدي فيها بأخذها وحبسها عن

(18/596)


حقها فاسد كله. وإن عرف منه منع الزكاة رأيت للمشتري الرد؛ لأني لا أطيب له الحبس، فإذا لم أطيب له الحبس جعلت له الرد.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا إن مال الذي لا يؤدي زكاة ماله فاسد كله لا يجوز أن يؤكل منه شيء ولا يشرب، وما لا يؤكل ولا يشرب لا يجوز أن يباع ولا يشترى، وإن من عامله فيه يتصدق بجميعه، هو على قياس قوله المعلوم من مذهبه الذي ذكرناه عنه في سماع عبد الملك بن الحسن من أن المال الذي خالطه الحرام حرام كله، تجب الصدقة بجميعه، ويجب على من أخذ منه شيئا بمعاملة أن يتصدق بما أخذ، وهو تشديد على غير قياس. والقياس أنه لا يلزمه أن يتصدق منه إلا بمقدار الحرام، وأن معاملته فيه جائزة، وهو مذهب ابن القاسم. وكذلك قبول هبته يجوز على مذهبه إذا كان الحلال من ماله أكثر من الذي وهب منه.
ووجه قول أصبغ أن ماله كله إذا لم يؤد زكاته فاسد لا يجوز أن يؤكل منه شيء ولا يشرب، يريد لا هو ولا غيره، هو أنه لما كانت الزكاة الواجبة للمساكين شائعة فيه قد عزم على اقتطاعها وغصبهم إياها كان إذا أكل منه قليلا أو كثيرا قد أكل حقه وحقهم، فحرم ذلك عليه، بخلاف إذا أكل منه شيئا قبل أن يؤدي زكاته وهو ينوي أداءها مما بقي؛ لأن هذا إنما يكون عليه إثم تأخير الزكاة لا أكثر. وكذلك إذا وهب لأحد منه شيئا قبل أن يؤدي زكاته وهو عازم على اقتطاعها لا يسوغ على مذهبه لمن علم ذلك أن يقبله؛ لأنه يكون قد أخذ فيما وهب له ما فيه حظ للمساكين، بخلاف إذا وهب لأحد منه شيئا قبل أن يؤدي زكاته وهو ينوي أداءها مما بقي؛ لأن هذا يسوغ للموهوب له أن يقبله ويكون على الواهب إثم تأخير الزكاة لا أكثر.
وأما قول أصبغ إن من أخذ منه شيئا بمعاملة أو هبة يجب عليه أن يتصدق بجميعه فلا وجه له؛ لأن الواجب عليه في ذلك إنما هو أن يتصدق على المساكين بما وجب لهم منه، وهو ربع عشره. وقد مضى بيان هذا في سماع

(18/597)


أصبغ في تكلمنا على ما جاء عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أن ثمن المغنيات حرام. وقد مضى في سماع عبد الملك بن الحسن القول فيما احتج به من قوله عز وجل: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فلا وجه لإعادته.
وقوله في الحديث الذي احتج به من قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا وضوء لمن لا صلاة له» بين لا إشكال فيه؛ لأن الوضوء إنما يفعل للصلاة أو لما لا يصح فعله إلا بطهارة، فإذا لم يفعل ما يفعل الوضوء من أجله لم ينتفع بالوضوء. وأما قوله: «لا صلاة لمن لا زكاة له» فمعناه أنه لا ينوب فعل الصلاة عن فعل الزكاة، أي لا يكفر فعل الصلاة ترك الزكاة، فتكون الصلاة إذا لم يزك صلاة توجب له الدخول في الجنة، كما توجب لمن صلى وزكى، أو لمن صلى ولم تجب عليه زكاة. ومساواته في الرواية بين المتعدي في أخذها وحبسها بين؛ لأن حابسها آخذ لها ومتعد في ذلك، فهو كالمتعدي في أخذها ممن لا تجب عليه.
وقوله في آخر المسألة: وإن عرف منه منع الزكاة رأيت للمشتري الرد؛ لأني لا أطيب له الحبس، فإذا لم أطيب له الحبس رأيت له الرد، صحيح على أصله في أن من لم يؤد زكاة ماله لا تجوز معاملته ويجب على من عامله الصدقة بجميع ما أخذه منه. فسواء على مذهبه ابتاع منه الطعام الذي لم يؤد زكاته أو باع منه شيئا بدنانير لم يؤد زكاتها له الرد في الوجهين جميعا. وقد قيل: ليس له أن يرد في الوجهين جميعا، وهو الذي يأتي على قول غير ابن القاسم في المدونة في الذي يبيع الثمرة بعد أن وجبت فيها الزكاة فيجدها المصدق في يد المشتري، أنه لا سبيل له عليها وإن كان البائع عديما، وقيل: إن ذلك له في الطعام الذي ابتاعه، وليس ذلك له فيما باع منه بدنانير، وهو الذي يأتي على مذهب من لا يجيز بيع الثمرة بعد وجوب الزكاة فيها بالطياب، ولا بيع الزرع بعد وجوب الزكاة فيه بالإفراك لوجوب الزكاة] ، في عين الثمرة

(18/598)


وعين الزرع. ولا اختلاف بينهم في أن من باع أو اشترى من مستغرق الذمة بالحرام وهو لا يعلم، أن له الرد؛ لأن من حقه أن يقول: لم أرض بمعاملة مستغرق الذمة بالحرام، وبالله التوفيق.

[يستعين الرجل من أهل الغنا أهل ناحيته منهم الغني والفقير فيعينونه في الحرب]
من سماع عبد الملك بن عمر بن غانم قلت لمالك: القوم يستعينون في الحرب، يستعين الرجل من أهل الغنا أهل ناحيته منهم الغني والفقير فيعينونه، وذلك أمر ذائع عندنا، قال: لا بأس به. قلت: ما يخشى أن تكون استعانته إياهم من المسألة التي تكره؟ قال: لا، لعمري ما بهذا بأس أن يستعين رجل دابة رجل يركبها أو شيئا من متاعه على وجه المعروف، بل أكره ترك هذا يضيق الرجل الإسلام، وهذا من الأخلاق الحسنة. قال قلت: فالرجل يسأل امرأته أن تضع عنه صداقها على غير إكراه لها ولا إضرار منه بها، ولكن على وجه الطلبة فتفعل، هل ترى بهذا بأسا؟ فقال: قد أعطاها منه شيئا؟ فقلت: نعم أعطاها النقد وبقي المهر. قال: ليس بذلك بأس، قال الله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] .
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إذ ليس شيء مما ذكره من معنى المسألة المكروهة وإنما هو من المعروف الذي ينبغي للناس أن

(18/599)


يتوامروه فيما بينهم، قال الله عز وجل: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237] ، وبه التوفيق.

[وضع المرأة جمة الشعر على رأسها]
في وضع المرأة جمة الشعر على رأسها فقال مالك: يا أبا عبد الله، المرأة تضع الجمة من الشعر على رأسها، قال: لا خير في ذلك. قلت: فخرق تجعلها على قفاها وتربط الوقاية عليها؟ قال ليس من عملهن شيء أخف عندي من الخرق. قلت ترجو أن لا يكون بالخرق بأس؟ قال أرجو.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في سماع أصبغ فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق لا شريك له.

[النشرة بالأشجار والأدهان]
في النشرة بالأشجار والأدهان قال وسألته عن النشرة بالأشجار والأدهان، قال: لا بأس بذلك قد سحرت عائشة فيما بلغني فأقامت أياما، ثم أتيت في منامها فقيل لها خذي ماء من ثلاث آبار يجري بعضها إلى بعض فاغتسلي به، قال ففعلت فذهب عنها ما كانت تجد.
قال محمد بن رشد: المعنى في جواز هذا بين؛ لأن الأدهان والأشجار قد يكون فيها دواء ينفع من ذلك المرض مع ما يذكر عليها من أسماء الله رجاء التبرك بها، وذلك من نحو الرقى بكتاب الله عز وجل وأسمائه الحسنى، فلا وجه لكراهة ذلك، إذ قد جاء جواز ذلك في الآثار الثابتة عن

(18/600)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من ذلك ما ذكره مالك في موطئه: أنه «دخل على رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسقم- بابني جعفر بن أبي طالب، فقال لحاضنتهما ما لي أراهما ضارعين، فقالت حاضنتهما: يا رسول الله، إنه تسرع إليهما العين ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء القدر لسبقته العين» . وما حدث به نافع بن جبير «عن عثمان بن أبي العاص: أنه أتى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عثمان: وبي وجع قد كان يهلكني، قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: امسحه بيمينك سبع مرات، وقل أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد، قال ففعلت ذلك فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم» وبالله التوفيق.

[صفة السلام على القبر]
في صفة السلام على القبر قيل كيف يسلم على القبر؟ قال: تأتيه من قبل القبلة حتى إذا دنوت منه سلمت وصليت عليه، ودعوت لنفسك ثم انصرفت. قيل له: هل أذكر أبا بكر وعمر؟ قال: نعم إن شئت.
قال محمد بن رشد: قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فالصلاة

(18/601)


على النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض في الجملة لا تختص بالصلاة في مذهب مالك وكافة العلماء.
وقال الشافعي: إذا لم يصل المصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الآخر بعد التشهد وقبل التسليم أعاد الصلاة. قال وإن صلى عليه قبل ذلك لم يجزه، وتقلد ذلك أصحابه ومالوا إليه وناظروا عليه. ومن حجتهم أن الله عز وجل أمر بالصلاة على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن يسلم عليه تسليما [ثم جاء الأمر منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد فعلمهم فيه كيف يسلمون عليه تسليما، بقوله: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته، وكان يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن، وقد قال لهم: إنه يقال في الصلاة لا في غيرها، وقالوا له: قد علمنا السلام عليك، يعنون في التشهد، فكيف الصلاة عليك؟ فعلمهم الصلاة، وقال لهم السلام كما قد علمتم، فدلهم على أن ذلك قرين التشهد في الصلاة.
قالوا: وقد وجدنا الأمة بأجمعها تفعل الأمرين جميعا في صلاتها، فلا يجوز أن يفرق بينهما، ولا تتم صلاة إلا بهما. وروايته عن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وسائر المسلمين قولا وعملا. وحجة من لم يجعل ذلك من فرائض الصلاة حديث ابن مسعود: أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ بيده فعلمه التشهد إلى وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وقال له: إذا قلت ذلك فقد قضيت صلاتك، فإن شئت أن تقوم وإن شئت أن تقعد.. وصفة السلام على النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قبره كالسلام عليه في تشهد الصلاة: السلام عليك أيها النبي

(18/602)


ورحمة الله وبركاته؛ والصلاة عليه فيه كالصلاة عليه بعد التشهد في الصلاة قبل التسليم، إلا أنه يقول ذلك بلفظ المخاطب. ومعنى الصلاة عليه الدعاء له، إلا أنه يخص هو وسائر الأنبياء بلفظ الصلاة دون الدعاء، لقول الله عز وجل: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] ، فيقول: اللهم صل على محمد ولا يقل اللهم ارحم محمدا واغفر لمحمد وارض عن محمد، ولا يقل اللهم صل على فلان، ويقول اللهم ارحم فلانا واغفر له وارض عنه. هذا هو الاختيار ألا يُصلّى على غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن أهل العلم من أجاز الصلاة على غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستدل بما ذكره مالك في موطئه عن عبد الله بن دينار أنه قال: رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى أبي بكر وعمر، وبما جاء في الحديث من قوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وقوله: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته. ومعلوم أن أزواجه وآله وذريته غيره. وبما جاء عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه كان إذا أتاه أحد بصدقته صلى عليه، لقول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم صل على آل أبي أوفى إذ أتاه أبو أوفى بصدقته. قال عبد الله بن أبي أوفى: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته فقال اللهم صل

(18/603)


على آل أبي أوفى» . والأظهر أن يخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلاة دون من سواه، إلا أن يضاف إليه في الصلاة عليه، كما جاء في الحديث من قوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وقوله: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته. ولم يتابع جميع الرواة يحيى بن يحيى على روايته: فيصلي على النبي وأبي بكر وعمر. ورواية ابن القاسم: فيصلي على النبي ويدعو لأبي بكر وعمر، وهو دليل قوله في هذه الرواية؛ لأنه قال فيها: قيل له هل أذكر أبا بكر وعمر؟ قال: نعم إن شئت، ولم يقل فيها، قيل: له هل يصلي على أبي بكر وعمر. وأما صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على من كان يصلي عليه ممن كان يأتيه بصدقته فلا دليل فيه للمخالف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا بخلاف غيره؛ لأن الله عز وجل أمره بذلك، وبالله التوفيق.

[صيد الحيتان]
في أنه لا كراهة في صيد الحيتان قال حسين بن عاصم: سألت ابن القاسم عن صيد الحيتان لذوي المروءات والحال، هو أخف عندك أم صيد البر؟ قال لا أرى لأحد صيد البر إلا لأهل الحاجة إليه الذين عيشهم ذلك، وصيد البحر والأنهار عندي أخف من ذلك، وكأني رأيته لا يرى بأسا في صيد الحيتان.
قال محمد بن رشد: كره مالك الصيد على وجه التلهي به إلا لمن اتخذه مكسبا أو رجل قرم إلى اللحم، غنيا كان أو فقيرا. وكان الليث يكره التلهي به أيضا ويقول: ما رأيت حقا أشبه بباطل منه، يعني أنه حق لحلاله،

(18/604)


وأنه يشبه الباطل لما فيه من اللهو والطرب. واستخفه في رواية مطرف وابن الماجشون، عنه لمن يسكن البادية؛ لأنه لا غنى لهم عنه، وكرهه لأهل الحواضر ورأى خروجهم إليه من السفه والخفة. وإنما خفف ابن القاسم في هذه الرواية صيد الحيتان ورآه بخلاف صيد البر، إذ ليس فيه من اللهو وإتعاب الجوارح في غير منفعة مقصودة ما في صيد البر، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل لهو يلهو به الإنسان باطل إلا ثلاث، وهي ملاعبة الرجل امرأته، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه» .

[قرى طنجة التي غلب عليها البربر]
في قرى طنجة التي غلب عليها البربر قال: وسألته عن قرى طنجة التي غلب عليها البربر العرب وأخرجوهم منها بالفتنة والغلبة عليها فيها فتظلهم الشجر، أترى بالأكل منها بأسا؟ قال لا أرى لأحد أكلها؛ لأنها عندي على وجهين: إما أن تكون كانت في أيدي العرب غصبا فلا أحب لأحد أن يأكل منها، أو كانت في أيديهم حلالا وهي اليوم غصب فلا أرى أن يؤكل منها.
قال محمد بن رشد: لا تخلو هذه القرى التي قد غصب أهلها إياها وغلبوا عليها من ثلاثة أحوال: أحدها أن يكون أهلها الذين غصبوا إياها معروفين هم أو ورثتهم، والثاني أن لا يكونوا معروفين إلا أنه يمكن أن يعرفوا ويوجدوا إن طلبوا، والثالث أن يكون قد باد أهلها لطول العهد ويئس من أن يعرفوا أو يعرف أحد من تصيرت إليهم بالوراثة.

(18/605)


فأما الحال الأولى: فحكم الثمرة فيها حكم أعيان المغصوب، لا يحل لأحد أن يأكل منها قليلا ولا كثيرا عند أحد من العلماء، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» .
وأما الحال الثانية: فحكم الثمرة فيها حكم اللقطة الواجب فيها أن تباع وتوقف أثمانها وتعرف، فإن لم تعرف جرى الأمر في جواز أكلها على اختلاف أهل العلم في جواز أكل اللقطة للملتقط بعد التعريف، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها» . فمالك يكره له أكلها وإن كان محتاجا إليها، ويرى الصدقة له بها أفضل؟ ومن أهل العلم من يبيح له أكلها وإن كان غنيا؛ ومنهم من لا يبيح له أكلها إلا إذا كان فقيرا؟ ومنهم من لا يبح له أكلها إلا إذا كان غنيا يكون له بها وفاء إن جاء صاحبها.
وأما الحال الثالثة: وهي التي تكلم في الرواية عليها فحكمها حكم اللقطة بعد التعريف بها واليأس من وجود صاحبها، الاختيار له ألا يأكلها قولا واحدا، وهو قوله فيها: فلا أحب لأحد أن يأكل منها. وقد قال في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد في نحو هذه المسألة: أرجو ألا يكون بذلك بأس. وقد مضى القول عليها هناك، وبالله التوفيق.

[ما أوى إلى برج الرجل من حمام غيره]
فيما أوى إلى برج الرجل من حمام غيره قال حسين: سألت ابن القاسم عن البروج تتخذ للحمام فتبنى فيها الكوى خارجا من جداره، فيأوي الحمام إلى البرج في

(18/606)


داخله وخارجه إلى حمام قد وضعها الرجل في برجه، فلا تعرف الحمامات بعينها، ما ترى في أكل فراخ حمام البرج التي أوت إليه؟ قال: إن عرف شيئا منها بعينها وعرف ربها ردها إليه إن استطاع، وإن لم يستطع ردها وعرف موضعها، فإذا فرخت رد فراخها على صاحبها، وإن ازدوجت حمامة له مع حمامة لجاره وهو يعرفها فلم يستطع ردها عليه ولا أخذها وعرف عشها التي تفرخ فيه هي وحمامته، رد على جاره فرخ حمامته. قال قلت له: وإن كانت حمامة جاره ذكرا؟ قال: نعم؛ لأنه إنما يكون ذلك على وجه الحضانة وليس على وجه البيض، كذلك قال من أرضاه من أهل العلم. قال: وكذلك كل حمامة خارج البرج في كواهن لصاحب البرج، وكل عصفور أوى إلى كواه فيه فراخه، وله أن يمنع كواه من غيره.
وسئل ابن كنانة عن نحل يجده الرجل في شجرة أو في صخرة هل ينزع عسلها؟ فقال: إذا لم يعلم أنها لأحد فلا بأس بذلك. قال مالك: وأكره أن ينصب الرجل جبحا في مكان قريب من جباح الناس وحيث ترعى نحلهم وتسرح. وقال ابن كنانة لا يحل لك أن تأكل عسل جبح نصبه غيرك لا في عمران ولا قفار، ولا يحل لك أكل حمام غيرك إذا عرفته بعينه.
قال محمد بن رشد: ما أوى إلى برج الرجل من حمام برج غيره فلم يعرفه بعينه أو عرفه فلم يقدر على أخذه فلا بأس. عليه فيه وإن عرف صاحبه، هذا ما لا اختلاف فيه أعلمه. واختلف إذا عرفه وقدر على أخذه ولم يعرف صاحبه، فظاهر قوله في هذه الرواية لا شيء عليه فيه، وهو قوله فيها وإن عرف شيئا منها بعينها وعرف ربها ردها إليه، وهو دليل قول ابن كنانة: ولا يحل لك أكل حمام غيرك إذا عرفته بعينه، ونص قول ابن حبيب في

(18/607)


الواضحة أنه إن جهل صاحبه فلا شيء عليه فيه ولا في فراخه. وقد قيل إنه إذا عرفه وقدر على أخذه ولم يعرف صاحبه إنه يعرفه كاللقطة ولا يأكله، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم، حكى فضل عنه أنه قال: لا ينصب لشيء من حمام الأبراج ولا يرمى، ومن صاد منه شيئا فعليه أن يرده أو يعرفه ولا يأكله. وحكم فراخها إذا عرف عشها حكم ما عرفه وقدر على أخذه، إن عرف صاحبه رده عليه، وإن لم يعرفه فعلى ما تقدم من الاختلاف.
وأما إذا ازدوجت حمامة له مع حمامة لجاره، فقال في الرواية: إنه يرد على جاره فرخ حمامته، فيأخذ أحد الفرخين، كانت حمامة جاره ذكرا أو أنثى، يريد ويكون لصاحب الحمامة الأنثى على صاحب الحمامة الذكر مثل بيض حمامته. وهذا على قياس ما روى سحنون في سماعه من كتاب الشركة عن ابن القاسم عن مالك في الرجل يأتي بحمامة أنثى ويأتي الآخر بذكر على أن تكون الفراخ بينهما، أن الفراخ تكون بينهما لأنهما تعاونا جميعا على الحضانة، يريد ويرجع صاحب الحمامة الأنثى على صاحب الحمامة الذكر بمثل بيض حمامته حسبما ذكرناه هناك. وهو على قياس القول بأن الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب [العمل ويأتي في هذه المسألة على قياس القول بأن الزرع في المزارعة لصاحب] الزريعة أن تكون الفراخ لصاحب الحمامة الأنثى منهما، ويكون عليه لصاحب الحمامة الذكر قيمة ما أعان به من الحضانة.
وقول ابن كنانة إن للرجل أن يأخذ عسل النحل الذي يجده في شجرة أو في صخرة إذا لم يعلم لأحد صحيح؛ لأنه كالصيد يكون لمن وجده. وقول مالك أكره أن ينصب الرجل جبحا في مكان قريب من جباح الناس وحيث ترعى نحلهم وتسرح، معناه إذا خشي أن يدخل فيه نحل جباح الناس ولم يتحقق ذلك، وأما لو تحققه لما جاز ذلك له ولوجب عليه إذا علم ذلك أن يرد

(18/608)


العسل إلى صاحب النحل، ولا يكون له في ذلك إلا قيمة كراء جبحه، وبالله التوفيق.

[يأخذ غرسا من شجر غيره بغير إذنه]
في الذي يأخذ غرسا من شجر غيره بغير إذنه وقال ابن كنانة: أكره أن يأخذ الرجل من شجر غيره غرسا بغير إذنه.
قال محمد بن رشد: أما إذا أخذ من شجر غيره ملوخا يغرسها في أرضه وكان ما امتلخ منها لا قيمة له ولا ضرر فيه على الشجرة التي امتلخت منها، فهذا الذي كرهه ابن كنانة، والله أعلم.
وأما إذا كان لما امتلخ منها قيمة أو كان ذلك يضر بالشجرة التي امتلخت منها فلا يجوز لأحد أن يفعله إلا بإذن صاحب الشجر. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» فإن فعل ذلك بغير إذنه دالة عليه بسبب بينه وبينه يقتضي الإدلال عليه، فعليه أن يتحلله من ذلك، فإن حلله وإلا غرم له قيمته عودا مكسورا يوم امتلخه، وليس له أن يقتلعه ويأخذه، وعليه مع ذلك قيمة ما نقص من الشجر التي امتلخ ذلك منها. وإن فعل ذلك غصبا وتعديا بلا إذن من صاحبه ولا دالة عليه ممن يستوجب الدالة، فله أن يقتلعه ويأخذه وإن كان قد علق، إلا أن يكون بعد طول زمان وبعد نماء وزيادة بينة، فلا يكون له أن يأخذه بعينه، وتكون قيمته يوم امتلخه من شجره عودا منها مكسورا. وإن كان أضر بالشجر كان عليه مع ذلك قيمة ما نقص من الشجر. هذا قول أصبغ في الواضحة.
وقال سحنون: إنما يكون أولى بغرسه إذا كان إن قلعه وغرسه نبت، وأما إن كان لا ينبت إن قلعه وغرسه فإنما

(18/609)


له قيمته، ولا سبيل له إلى قلعه. وكان ربيعة يقول في مثل هذا: إن نبت فإنما له قيمته أو غرس مثله. وأما إن قلع من بستانه غرسا يغرسه في أرضه دالة على صاحب البستان، فله أن يقلعه ويأخذه وإن كان قد نبت وعلق، إلا أن يتطاول وينمى نماء بينا فلا يكون له قلعه، وتكون له قيمته يوم اقتلعه نابتا؛ لأن دالته عليه -إذا كان من أهل الدالة- شبهة تمنع من قلعه. ولو كان اقتلعه غصبا غير مدلي لكان صاحب الغرس أحق بغرسه وإن كان قد نبت في أرضه وطال زمانه وثبتت زيادته؛ لأنه شيؤه بعينه أخذه حيا فنما وزاد ونبت، فهو كالصغير يغتصب أو يسرق ثم يجده صاحبه وقد كبر وشب ونما- وزاد فهو أبدا أحق به وسواء كان مما ينبت إن غرس بعد قلعه من أرض الغاصب أو مما لا ينبت هو أحق به إلا أن يشاء أن يسلمه ويأخذ قيمته نابتا يوم قلعه فيكون ذلك له، حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ، وبالله التوفيق.

[ما يبقى في الكرم بعد قطافه أو في الفدان من الزرع بعد حصاده]
فيما يبقى في الكرم بعد قطافه، أو في الفدان من الزرع بعد حصاده
وسئل ابن كنانة عن الكرم يقطف أو الزيتون يجنى أو الزرع يحصد، هل يجوز لأحد أن يأكل بقيته؟ قال: إن كان أهله تركوه لمن أخذه فلا بأس بأكله، وإن كانوا إنما يريدون الرجعة إليه فلا يجوز لأحد أخذه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، والمعنى فيه بين إن علم أن صاحبه تركه لمن أخذه من فقير أو غني. وأما إن خشي أنه إنما تركه لمن أخذه من المساكين، فلا ينبغي لغني أن يأكل منه شيئا، وبالله التوفيق.

(18/610)


[ابتياع الكلب الضاري]
في ابتياع الكلب الضاري وسئل ابن كنانة فقيل له: هل يكره للرجل أن يبتاع الكلب كما يكره للبائع بيعه، فإن الرجل ربما احتاج إلى كلب لغنمه أو لصيد؟ قال: البائع في ذلك أضيق حالا؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن ثمن الكلب» . وأما المشتري فإن احتاج إلى ذلك فيما يجوز له اقتناؤه من الكلاب فلا بأس بابتياعه، وذلك ربما عسرت الهبة والمعروف ووقعت الحاجة إلى ذلك.
قال محمد بن رشد: إجازة ابن كنانة لاشتراء الكلب الضاري هو مذهب ابن القاسم، روى أبو زيد عنه في سماعه من كتاب جامع البيوع أنه قال: لا بأس باشتراء الكلاب كلاب الصيد، ولا يعجبني بيعها. وذلك نحو قول أشهب في المدونة في الزبل المشترى يجوز في شرائه من البائع؛ لأن الحاجة قد تدعوه إلا شراء الكلب للصيد وشبهه مما جوز له اتخاذه له، وكذلك الزبل إذا لم يجد من يعطيه ذلك دون ثمن ولا حاجة بأحد إلى بيعه؛ لأنه إذا لم يحتج إليه تركه لمن يحتاج إليه. وسحنون يجيز بيعه، قال ويحج بثمنه. وهو قول ابن نافع، وقد روي ذلك عن ابن كنانة، وهو قول جل أهل العلم والصحيح في النظر؛ لأنه إذا جاز له الانتفاع به وجب أن يجوز بيعه وإن لم يحل أكله كالحمار الأهلي الذي لا يجوز أكله ويجوز بيعه لما جاز الانتفاع به. ومن الدليل على ذلك أيضا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا نقص من أجر عمله كل يوم قيراط» . والاقتناء لا يكون إلا بالشراء. وما روي عن النبي - صلى الله

(18/611)


عليه وسلم من رواية ابن عمر: أنه «نهى عن ثمن الكلب وإن كان ضاريا» يحتمل أن يكون معناه حين كان الحكم في الكلاب أن تقتل كفها ولا يمسك شيء منها، على ما روي «عن أبي رافع قال: أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب فخرجت لأقتلها لا أرى كلبا إلا قتلته حتى أتيت موضع كذا وسماه فإذا فيه كلب يدور ويلهث فذهبت أقتله فناداني إنسان من جوف البيت يا عبد الله ما تريد أن تصنع فقلت: إني أريد أن أقتل هذا الكلب، قالت: فإني امرأة بدار مضيعة وإن هذا الكلب يطرد عني السباع ويؤذنني بإلجائي فأت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاذكر ذلك له، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فأمرني بقتله» . ثم جاء عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه «أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب ماشية» وأنه قال: «من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان في كل يوم» فنسخ بذلك أمره الأول بقتل

(18/612)


الكلاب عموما. وأما الكلب الذي لا يجوز اتخاذه فلا اختلاف في أن بيعه لا يجوز، وأن ثمنه لا يحل. روي عن ابن عباس عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ثمن الكلب حرام» وبالله التوفيق.

[يبيع العنب ممن يعصره خمرا]
في الذي يبيع العنب ممن يعصره خمرا، أو السلاح ممن يقاتل بها المسلمين، وما أشبه ذلك وقال ابن كنانة: لا ينبغي أن يباع العنب أو العصير ممن يتخذه خمرا، لا من نصراني ولا من مسلم، ولا يباع السلاح ممن يقاتل بها المسلمين، ولا تباع الأرض ممن يبني فيها كنيسة، لا تباع الخشبة ممن يتخذ منها صنما. قال: وأكره أن يكون الإنسان عونا على الإثم، قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وأما أن يتهمه ببعض ذلك ولا يدري ما يراد به فلا بأس أن يبيعه منه. قال ابن كنانة: أكره أن يبيع الرجل القمح ممن يعمل منه شرابا مسكرا، وقال ابن كنانة: يكره أن يبيع الرجل السلاح من أحد يعلم أنه يقاتل الأنفس بغير حق مشتهرا بذلك معروفا به.
قال محمد بن رشد: قال ابن كنانة في هذه الرواية إنه لا ينبغي أن يباع العنب أو العصير ممن يتخذه خمرا لا من مسلم ولا من نصراني؛ لأنه

(18/613)


يكره أن يبيع القمح ممن يعمل منه شرابا مسكرا، ولم يتكلم على حكم البيع إذا وقع، ولا على ما يلزم البائع في التوبة مما صنع. والذي يدل عليه قوله فيه: إنه مكروه ولا ينبغي لأحد أن يفعله أن البيع لا يفسخ إذا وقع، إذ ليس فيه فساد في ثمن ولا مثمون. وقد باء بالإثم في ذلك لأنه عون على الإثم، وقد نهى الله عز وجل عن التعاون على الإثم والعدوان، فيجب عليه أن يتوب إلى الله من ذلك ويستغفره ويتصدق بما ازداد في ثمنه ببيعه ممن يتخذه خمرا. وقد قيل: إن البيع يفسخ، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة.
واختلف على القول بأنه يفسخ إن فات بمغيب المبتاع عليه، فقيل: يمضي بالثمن ويتصدق البائع بما ازداد في ثمنه إذا باعه ممن يعصره خمرا، وقيل: تصحح بالقيمة، ويجب إذا صحح بها أن لا يرد على المبتاع ما زاد الثمن على القيمة، ويتصدق بذلك إلا أن يعلم أن المبتاع لم يتخذه خمرا.
وبيع العنب ممن يعصره خمرا من المسلمين أشد من بيعه من النصارى، إذ قد قيل في النصراني إنه غير مخاطب بشرائع الإسلام إلا بعد الإسلام، فلا يكون على هذا القول المسلم إذا باع عنبه من نصراني معينا على إثم.
وحكم بيع السلاح ممن يقاتل بها المسلمين حكم بيع العنب ممن يعصره خمرا من المسلمين. وحكم بيع الأرض ممن يبني فيها كنيسة، والعود ممن يتخذ منه صنما حكم بيع العنب من النصراني ليتخذ منه خمرا، وبالله التوفيق.

[شرب العصير الذي أريد به الخمر قبل أن يصير خمرا]
في إجازة شرب العصير الذي أريد به الخمر قبل أن يصير خمرا،
وكراهة معالجة العصير لئلا يتخمر
وقال ابن كنانة: لا بأس بشرب العصير وإن عصر لخمر، كان

(18/614)


الذي يعصره مسلما أو نصرانيا. قال: وأكره أن يعالج العصير حتى يستبطئ هريره وغليانه يستحله بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إذ ليس يحرم العصير قبل أن يكون خمرا [فيما نوي فيه من أن يجعل خمرا] ، إذ لا تحرم النية الحلال ولا تحل الحرام. وإنما كره معالجة العصير حتى يبطئ هريره وغليانه فيستحل بذلك مخافة الذريعة إلى استحلال الحرام، وبالله التوفيق.

[يقول لامرأته إن لم تضعي عني مهرك فأنت طالق إن لم أتزوج عليك]
في الذي يقول لامرأته إن لم تضعي عني مهرك فأنت طالق إن لم أتزوج عليك وسئل ابن كنانة عن الذي يقول لامرأته إن لم تضعي عني مهرك فأنت طالق إن لم أتزوج عليك، فتضع عنه، هل ترى ذلك حلالا؟ قال: لا؛ لأنه خيرها بين أن تضع عنه مهرها وبين أن يضر بها، وإنما قال الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] .
قال محمد بن رشد: قوله إن ذلك لا يحل له بين، إذ لم تضع ذلك عنه عن طيب نفسها، وإنما وضعته عنه مخافة أن يلزمه الطلاق إن لم يضرها بالتزويج عليها، فيلزمها الوضيعة ويقضي عليها بها ولا يكون لها الرجوع فيها إن طلقها، [أو تزوج عليها، بمنزلة أن لو قال لها: أنت طالق إن لم تضعي عني مهرك، فوضعته عنه، فلما وضعته عنه طلقها] ويؤمر أن يستحلها من ذلك أو يرده عليها من غير قضاء يقضى به عليه. ولو سألها أن تضع عنه

(18/615)


صداقها دون أن يحلف على ذلك بطلاق، فلما وضعته عنه طلقها بحدثان ذلك لكان لها أن ترجع عليه بما وضعت عنه؛ لأنها إنما وضعت ذلك عنه رجاء استدامة العصمة، فلما لم يتم لها المعنى الذي وضعت الصداق عنه بثمنه لسببه وجب لها الرجوع به. والذي قال لزوجته أنت طالق إن لم تضعي عني صداقك، أو أنت طالق إن لم تضعي عني صداقك لأتزوجن عليك فوضعته عنه، ليس لها أن ترجع فيه وإن طلقها بفور ذلك أو تزوج عليها؛ لأن الذي وضعت عنه الصداق بسببه قد حصل لها وهو سقوط اليمين عنه بطلاقها، أو بطلاقها إن لم يتزوج عليها، فلو شاءت نظرت لنفسها فقالت له: لا أضع عنك الصداق إلا على أن لا تطلقني بعد ذلك ولا تتزوج علي. وقد مضى هذا المعنى في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب طلاق السنة، وبالله التوفيق.

[شرب المرأة الدواء لتعجيل الطهر من الحيضة]
في كراهة شرب المرأة الدواء لتعجيل الطهر من الحيضة
قال ابن كنانة؛ يكره ما بلغني أن النساء يصنعنه ليتعجلن به الطهر من الحيض من شرب الشجر والتعالج بها وبغيرها.
قال محمد بن رشد: المعنى في كراهية ذلك لها ما يخشى أن تدخل على نفسها في ذلك من الضرر بجسمها بشرب الدواء الذي قد يضر بها، وبالله التوفيق.

[ما يجب اجتنابه من الحرير للرجال]
فيما يجب اجتنابه من الحرير للرجال قال وسألت عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي سلمة عن الرجل

(18/616)


تكون له القطيفة من الحرير أو الشملة من الحرير فيلتحفها بالليل، وتكون له الوسادة من حرير يتكئ عليها ويجلس، فهل الجلوس على الحرير والالتحاف به عند النوم يحرم كتحريم لباسه؟ أم إنما الشدة في لباسه؟ فقال: أما ما يبسط فلا بأس به، وقد فعله الناس. وأما ما يلبس فمنهي عنه، واللحف من اللباس، فاجتنب من ذلك ما أنت تجتنبه من لباس البز.
قال محمد بن رشد: أجمع أهل العلم على أن لباس الحرير المصمت الخالص محرم على الرجال، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حلة عطارد: «إنما يلبس هذا من لا خلاق له» وبما جاء عنه من أنه قال: «أحل لإناث أمتي لبس الحرير والذهب وحرم على ذكورها» . واختلفوا في استعمال الرجال له في غير اللباس كالبسط والارتفاق وشبهه، فرخص فيه بعض العلماء، منهم عبد الملك ابن الماجشون في هذه الرواية.
والذي عليه الأكثر والجمهور أن ذلك بمنزلة اللباس، بدليل حديث مالك الذي رواه عن إسحاق بن أبي طلحة «عن أنس بن مالك: أن جدته مليكة دعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لطعام [صنعته له] فأكل منه، ثم قال قوموا حتى أصلي بكم قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلينا وراءه» . فسمى أنس الجلوس عليه لباسا، فوجب أن يكون حكمه حكم

(18/617)


اللباس. ومن جهة المعنى أن الحرير إنما جاء النهي عنه من جهة التشبه بالكفار؛ فوجب أن يجتنب الجلوس عليه من ناحية التشبه بهم، وكذلك الالتحاف به لأنه لباس للملتحف به، بخلاف ستور الحرير المعلقة في البيوت لا بأس بها لأنها إنما هي لباس لما ستر بها من الحيطان. واختلف في العلم من الحرير في الثوب، فمن أهل العلم من أجازه لما جاء من أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن الحرير وقال لا تلبسوا منه إلا هكذا وهكذا، وأشار بالسبابة والوسطى» . وروي إجازة ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مثل الأصبع والأصبعين والثلاث والأربع، وكرهه جماعة من السلف. وكذلك اختلف السلف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في لباس الخز وما كان في معناه، فمنهم من أجازه، ومنهم من كرهه. وقد مضى تحصيل القول فيه في أول مسألة من سماع ابن القاسم.
واختلف أيضا في إجازة لباس الحرير في الحرب، فأجازه جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك، لما في ذلك من المباهاة بالإسلام والإرهاب على العدو، ولما يقي عند القتال من أدل وغيره من السلاح، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وحكاه ابن شعبان عن مالك من رواية عيسى عن ابن القاسم عنه، خلاف قول ابن القاسم وروايته عن مالك في رسم حلف من سماعه من كتاب الجهاد. فإن استشهد وهو عليه نزع عنه على مذهب من لا يجيز له لباسه في الجهاد وبالله التوفيق لا شريك له.

(18/618)


[الخمر تَتَخلل أو تُخلل]
في الخمر تَتَخلل أو تُخلل قال ابن خالد: قلت لابن القاسم: فالذي يتعمد عصر خمر، ثم يتخلل في يديه، قال: لو تعمد أن يخلل الخمر فتخللت كانت الخمر حلالا.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف بين أهل العلم في أن الخمر إذا تخللت من ذاتها تحل وتطهر، وإنما اختلفوا إذا خللت هل تؤكل أم لا؟ على اختلافهم في وجه المنع من تخليلها، إذ قد قيل: إن المنع من تخليلها عبادة لا لعفة، أو قيل: بل منع من ذلك لعلة، وهي التعدي والعصيان في اقتنائها، وقيل: بل العلة في ذلك التهمة لمقتنيها في أن لا يخللها إذا غاب عليها، فيحكم عليه بإراقتها لذلك، ولا يمكن من تخليلها. فعلى القول بأن المنع من تخليلها عبادة لا لعلة، لا يجوز تخليلها في مرضع من المراضع، ويخرج جواز أكلها إذا خللت على قولين جاريين على اختلافهم في النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا يقتضيه؟ وعلى القول بأن المنع من تخليلها لعلة، يجوز تخليلها إذا ارتفعت العلة، فمن رأى العلة في ذلك التعدي والعصيان في اقتنائها أجاز لمن تخمر له عصير لم ترد به الخمر أن يخلله، وقال أنه إن خلل ما عصى في اقتنائه لم يأكله عقوبة؟ ومن رأى العلة في ذلك التهمة لمقتنيها في أن لا يخللها إذا غاب عليها، أجاز للرجل في خاصة نفسه أن يخلل ما عنده من الخمر على أي وجه كان ويأكله، وإن كان الاختيار له أن لا يفعل وأن يبادر إلى إراقتها كما فعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في حديث أنس.
فيتحصل في جواز تخليل الخمر ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز

(18/619)


دون تفصيل، والثاني: أن ذلك جائز دون تفضيل على كراهة، والثالث: الفرق بين أن يقتني الخمر أو يتخمر عنده عصير لم يرد به الخمر. وفي جواز أكلها إن خللها على مذهب من يجيز له تخليلها في حلل ثلاثة أقوال أيضا: الجواز، والمنع، والفرق بين أن يخلل ما اقتنى من الخمر، أو ما تخمر عنده مما لم يرد به الخمر؛ وهذا قول سحنون، والقولان الأولان لمالك، وبالله التوفيق [لا شريك له، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا] .

[خاتمة]
كمل السفر السابع بتمام الجزء التاسع من الجامع من كتاب البيان والتحصيل تأليف الإمام القاضي الأوحد العلم أبي الوليد ابن رشد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ونفعه، وعند ذلك تم جميع الديوان، والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد نبيه المصطفى خاتم المرسلين، والرضى عن أصحابه الخلفاء المهتدين. وكان تمامه عشية يوم الثلاثاء الموفي عشرين من صفر من سنة ثنتي عشرة وسبعمائة انتسخه لنفسه محمد بن محمد بن محمد بن عياش القرطبي وفقه الله وعفا عنه.

(18/620)