البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب الجامع الثامن] [ما روي أنه من
أشراط الساعة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله كتاب
الجامع الثامن
فيما روي أنه من أشراط الساعة قال مالك:
وحدثني عن شيخ قديم من أهل اليمن قدم من ثم قال: سمعت أن الساعة إذا دنت
اشتد البلاء على الناس واشتد حر الشمس.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين والحمد لله.
[العبد يسأل الرجل ألا يشتريه]
في العبد يسأل الرجل ألا يشتريه قال
وسمعته يسأل عن الذي يريد شراء العبد فيسأله بالله ألا يشتريه، قال أحب إلي
ألا يشتريه، فأما أن يحكم عليه بذلك، فلا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه يستحب ذلك له ولا يحكم عليه، كما أن
العبد إذا سأل سيده أن يبيعه يستحب له أن يجيبه إلى ما سأله من بيعه إياه
ولا يحكم عليه بذلك إذا لم يضر به في ملكه إياه، وبالله التوفيق.
[وصية عمر من كان له رزق في شيء أن يلزمه]
18 -
(18/293)
في وصية عمر من كان له رزق في شيء أن يلزمه
قال وقال مالك، قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا كان لرجل
في شيء رزق فليلزمه. قال مالك: يريد التجارات.
قال محمد بن رشد: ما حض عمر على هذا، والله أعلم، إلا وقد خشي على من هيأ
الله له رزقا في شيء فلم يعرف حق الله تعالى فيما هيأ له منه فتركه إلى
غيره أن لا يجار له في ذلك. وما خشيه عمر فينبغي لكل مسلم أن يخشاه، فإنه
كان ينطق بالحكمة. قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إن الله ضرب بالحق على قلب عمر ولسانه، فكان يرى الرأي بقلبه ويقول الشيء
بلسانه فيوافق الحق فيه» . وقد مضى هذا في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن
القاسم، وبالله التوفيق.
[لدهن والمشط للعجائز]
في الدهن والمشط للعجائز قال مالك: كان
طاوس يجعل للعجائز الدهن ويدعوهن فيأمرهن فيدهن ويمتشطن.
قال محمد بن رشد: إنما كان طاوس يفعل ذلك ويأمر العجائز به لئلا يظن أن ذلك
لا يجوز لهن إذ قد انقطعت حاجة الرجال منهن، والنظافة من الدين، وإصلاح
الشعر ودهنه من السنة. ذكر مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد أن أبا قتادة
الأنصاري قال لرسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن لي جمة
أفأرجلها؟ فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعم
وأكرمها» فكان
(18/294)
أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين لما
قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعم وأكرمها. وعن عطاء
بن يسار قال: «كان رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
المسجد فدخل رجل ثائر الرأس واللحية فأشار إليه رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده أن اخرج، كأنه يعني إصلاح رأسه ولحيته ففعل
الرجل ثم رجع، فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أليس
هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان» . وبالله التوفيق.
[ما أوصى به عمر بن عبد العزيز]
فيما أوصى به عمر بن عبد العزيز قال
مالك: قيل لعمر بن عبد العزيز: أوص يا أمير المؤمنين، قال مالي ما أوصي فيه
إلا صغار ولدي إلى كبارهم.
قال محمد بن رشد: هذا، والله أعلم؛ لأنه قد كانت تقدمت وصيته [بما كان أوصى
به، لقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: - «ما حق امرئ مسلم
له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته] عنده مكتوبة» إذ لم يكن ممن يفرط
فيما حض النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه. وبالله التوفيق.
(18/295)
[عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان قتلا في شهر
واحد]
في أن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان
قتلا في شهر واحد قال وقال مالك: قتل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في ذي
الحجة.
قال محمد بن رشد: إعلام مالك بأن عمر بن الخطاب
وعثمان بن عفان قتلا في شهر واحد يدل على أن معرفة سير الصحابة
ومناقبهم وأسنانهم ووقت وفاتهم مما يستحب معرفته من العلوم. ولما كانا على
وتيرة واحدة من الخير والدين والعدل والفضل اتفق قتلهما شهيدين في شهر
واحد، فقتل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي
الحجة، وقيل لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر
سنين وستة أشهر؟ وقتل عثمان بن عفان - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوم الجمعة لثمان
ليال خلت من ذي الحجة يوم التروية، وقيل لسبع عشرة ليلة خلت منه أو ثمان
عشرة ليلة خلت منه، وقيل لليلتين بقيتا منه، سنة خمس وثلاثين، وبويع يوم
السبت غرة المحرم سنة أربع وعشرين بعد دفن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - بثلاثة أيام بإجماع الناس عليه، فكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا
أياما. واختلف في سنه يوم قتل، فقيل كان ابن تسعين سنة، وقيل ابن ثمان
وثمانين سنة، وقيل ابن ست وثمانين سنة، وقيل ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل
ابن ثمانين سنة، والله أعلم وبه التوفيق.
(18/296)
[أثرة الأنصار بالتولية]
في أثرة الأنصار بالتولية وقال عمر بن
الخطاب: لئن بقيت إلى رأس الحول لا يبقى أمير إلا أنصاري.
قال محمد بن رشد: إنما قال ذلك لأن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وصى بهم أن يعرف لهم حقهم فيحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم،
وبالله التوفيق.
[إتيان الأمراء]
في إتيان الأمراء وقال مالك: وقيل لأبي
الدرداء أنت صاحب رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعاوية
يردك، فقال: اللهم عفوا، من يأت أبواب السلاطين يقم ويقعد.
قال محمد بن رشد: إنما كان يرده [إذا وافقه في شغل لا يقدر معه على ما يريد
من الانفراد به وإكرامه، لا أنه كان يرده] من غير عذر لقلة اهتباله به، بل
لا شك في أنه كان عارفا بحقه. وقوله من يأت أبواب السلاطين يقم ويقعد،
معناه أن هذا يعتريه لكثرة اشتغال السلاطين بما عصب بهم من أشغال المسلمين،
وبالله التوفيق.
(18/297)
[كراهية حلية الحديد للصبيان]
في كراهية حلية الحديد للصبيان قال
مالك: وكانت عائشة تعظم أن يجعل على الصبي حديد.
قال محمد بن رشد: هذا منهي عنه؛ لأن الحديد حلية أهل النار في النار،
وبالله التوفيق.
[جواز تعليق الحرز عليهم]
في جواز تعليق الحرز عليهم قال وسئل
مالك عن تعليق الحرز على الخيل فتجعل في خيط فتعلق برقبته، فقال ما أرى
بذلك بأسا، إذا كان يجعل للزينة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من إجازة تعليق الحرز وشبهه من
الأحراز على أعناق الصبيان للزينة. وإنما اختلف في جواز تعليق الأحراز
والتمائم على أعناق الصبيان والمرضى والخيل والبهائم إذا كانت بكتاب الله
عز وجل وما هو معروف من ذكره وأسمائه للاستشفاء بها من المرض، أو في حال
الصحة لدفع ما يتوقع من المرض والعين. فظاهر قول مالك في رسم الصلاة الأول
من سماع أشهب من كتاب الصلاة إجازة ذلك، وروي عنه أنه قال لا بأس بذلك
للمرضى، وكرهه مخافة العين وما يتقى من المرض للأصحاء. وأما التمائم بغير
أسماء الله عز وجل وبالكتاب العبراني وما لا يعرف ما هو فلا يجوز بحال
للمريض ولا للصحيح، لما جاء من أن من تعلق شيئا وكل إليه ومن تعلق ودعة فلا
ودع الله له. ومن أهل العلم من
(18/298)
كره التمائم ولم يجز شيئا منها بحال ولا
على حال، لما جاء من هذه الآثار، ومنهم من أجازها في المرض ومنعها في خال
الصحة لما يتقى منه أو من العين على ما روي عن عائشة أنها قالت: ما علق بعد
نزول البلاء فليس بتميمة، وبالله التوفيق.
[تفقد عمر بن الخطاب لإبل الصدقة]
في تفقد عمر بن الخطاب لإبل الصدقة قال
مالك: وحدثني عن القاسم بن محمد عن أسلم مولى عمر بن الخطاب أنه قال: أمرني
عمر بن الخطاب أن أعرض عليه إبل الصدقة، قال فمرت عليه كلها حتى مرت عليه
ناقة عشراء في أخراهن فأخذ بخطامها ثم قال: من ارتحل هذه؟ فقلت أنا، ولو
أعلم أنه يبتغي أن يعطيها غيري لفعلت، فجمع يدي إلى عنقي ثم علاني بالدرة
ثم قال: أنت لعمر الله، ثم قال: ألا بكر بوال أو ناقة شصوص، ثم قال: ارتحل
ما أمرتك وحط راحلتك عن هذه.
قال محمد بن رشد: الناقة العشراء هي الناقة الحامل التي قد أتى على حملها
عشرة أشهر، وهي لا تؤخذ في الصدقة، فالمعنى فيها أن أهلها طاعوا بها في
الزكاة. ويحتمل أن تكون بقيت في إبل الصدقة حتى حملت، فقد مر على عمر بن
الخطاب بغنم من الصدقة فرأى فيها شاة حافلا ذات ضرع عظيم، فقال عمر ما هذه
الشاة؟ فقالوا شاة من الصدقة، فقال عمر ما أعطى
(18/299)
هذه أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس، لا
تأخذوا حزرات المسلمين نكبوا عن الطعام. ولما كان أسلم يقوم على الصدقة
ويتفقدها ويسير معها كان له أن يرتحل بعيرا منها، فنهى عمر بن الخطاب أن
يرتحل خيارها، وأمره بارتحال الدون منها؛ لأن ذلك يكفيه، فليس له أكثر من
ذلك، وبالله التوفيق.
[الناس يستقيمون باستقامة أئمتهم]
في أن الناس يستقيمون باستقامة أئمتهم
قال مالك: وقال عمر بن الخطاب وهو يموت: اعلموا أنه لا يزال الناس مستقيمين
ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم.
قال محمد بن رشد: هذا بين؛ لأن الأئمة إذا كانت مستقيمة أمرت بالمعروف ونهت
عن المنكر، فاستقام الناس باستقامتهم؟ وإذا لم تكن مستقيمة لم تأمر بمعروف
ولا نهت عن منكر، فعم الناس الفساد. وقد قال ابن مسعود: ما من عام إلا
والذي بعده شر منه ولم تؤتوا إلا من قبل أمرائكم، وليس عبد الله أنا إن
كذبت. وقال الله عز وجل: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ
يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا}
[الأحزاب: 66] {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا
وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: 67] وبالله التوفيق.
[ما يلزم الرجل من التثبت في أمره بأن يسأل من
تثق به نفسه]
فيما يلزم الرجل من التثبت في أمره
بأن يسأل من تثق به نفسه قال مالك: وكان عبد الله بن يزيد بن هرمز يقول:
إذا جعل
(18/300)
الرجل قاضيا أو أميرا أو مفتيا فينبغي له
أن يسأل [عن نفسه] من يثق به. فإن رآها لذلك أهلا دخل فيه وإلا لم يدخل
فيه.
قال محمد بن رشد: في المدونة أنه قال للذي سأله فقال له إن السلطان قد
استشارني، أفترى أن أفعل؟: إن رأيت نفسك أهلا لذلك ورآك الناس أهلا لذلك
فافعل، وهي زيادة صحيحة بينة؛ لأنه هو أعرف بنفسه، فإذا لم ير نفسه أهلا
لذلك فلا ينبغي له أن يفعل وإن رآه الناس أهلا لذلك. وأما إذا لم يره الناس
أهلا لذلك فلا ينبغي له أن يفعل وإن رأى هو نفسه أهلا للفتوى؛ لأنه قد يغلط
فيما يعتقده في نفسه من أنه أهل لذلك. وقد مضى هذا في رسم الشجرة تطعم
بطنين في السنة من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[كراهة الشدة في الأمور والغلظة فيها]
في كراهة الشدة في الأمور والغلظة فيها
قال مالك: الغلظة مكروهة لقول الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ
الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين والحمد لله.
[ما يلزم الإمام من تفقد من يمر عليه]
فيما يلزم الإمام من تفقد من يمر عليه
قال وقال مالك: مر على عمر بن الخطاب حمار عليه لبن فطرح عنه منه أكثره
ورآه يثقله.
(18/301)
قال محمد بن رشد: في بعض الكتب: ورآه
يقتله، والمعنى في هذا بين؛ لأنه يكره له أن يثقله لما جاء من أن رسول
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله رفيق يحب الرفق
ويرضى به ويعين عليه ما لا يعين على العنف» . وروي عنه- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» .
ولا يجوز له أن يثقل عليه تثقيلا يقتله به، وهو آثم إن فعله، وبالله
التوفيق.
[الشيء لا يستقيم على أصل غير مستقيم]
في أن الشيء لا يستقيم على أصل غير مستقيم
قال وقال مالك: قال ربيعة قال لي أبو واثلة يا ربيعة أقول لك شيئا، كل بان
على أساس أعوج لم يستقم بنيانه.
قال محمد بن رشد: هذا أصل صحيح يصحب في كل شيء: من قاس على أصل فاسد لم يصح
قياسه. ومن عمل على غير نية لم ينتفع بعمله، ومن نظر على غير اعتقاد صحيح
لم يصح نظره، وبالله التوفيق.
[اشتغال الإمام بأمور المسلمين عن التفقه]
في اشتغال الإمام بأمور المسلمين عن التفقه
وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: من كان له شغل عن هذا
(18/302)
الأمر، يريد الفقه، فإنه قد كان من شغلي
الذي كتب الله لي أن ألزم عاملا منه بما علمت أو مقصرا عما قصرت، فما كان
من خير علمته فبتعليم الله ودلائله وإليه أرغب في بركته، وما كان من سوى
ذلك فأستغفر الله لذنبي العظيم.
قال محمد بن رشد: معنى قول عمر هذا أنه أشفق من الاشتغال بأمور المسلمين عن
التفقه، وخشي التقصير فيما اشتغل به من ذلك، فاستغفر الله تعالى منه،
وبالله التوفيق.
[كراهة الرفع في الأنساب]
في كراهة الرفع في الأنساب قال وسئل عن
هذه النسبة التي ينتسب الناس حتى يبلغوا آدم، أتكره ذلك؟ فقال: نعم أكره
ذلك. قلت فينتسب حتى يبلغ إسماعيل وإبراهيم؟ فقال ومن أخبره بما بينه وبين
إبراهيم؟ فقال لا أحب ذلك، قال وأنا أكره أن يرفع إلى أنساب الأنبياء كلهم،
وليس الأنبياء كغيرهم. يقول إبراهيم بن فلان بن فلان، ما قرر له هذا ومن
يخبره ذلك.
قال محمد بن رشد: المعنى في كراهة ذلك بين، إذ لا يعلم شيء من هذه الأنساب
البعيدة من وجه يوقن بصحته، فلا يأمن من حدث بشيء من ذلك من أن يحدث بكذب،
وبالله التوفيق.
(18/303)
[حكاية عن عمر
بن عبد العزيز]
قال مالك؛ دخل عمر بن عبد العزيز على فاطمة امرأته في كنيسة بالشام، فطرح
عليها حلق ساج عليه، ثم ضرب على فخذها فقال: يا فاطمة لنحن في دانق أنعم
منا اليوم، فذكرها ما قد نسيت من عيشها، فضربت يده ضربة فيها عنف فنحتها
عنه فقالت: لعمري لأنت اليوم أقدر منك يومئذ، فأسكته ذلك فقام يريد أخذ
الكنيسة وهو يقول بصوت حزين يا فاطمة إني أخاف النار، إني أخاف إن عصيت ربي
عذاب يوم عظيم، بصوت حزين، فبكت فاطمة وقالت: اللهم أعذه من النار.
قال محمد بن رشد: في هذا ما هو معلوم من ورع عمر وفضله وخوفه لله عز وجل-
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبه التوفيق.
[حلف ألا يشارك رجلا]
فيمن حلف ألا يشارك رجلا قال وسئل مالك
عمن حلف ألا يشارك رجلا سماه في شيء كذا وكذا، فأرسل إليه أن يبعث إليه
بأربعة أعبد له يعينونه [على ذلك، حتى إذا كان الغد بعث إليه بأربعة أعبد
يعينونه] مكانه، قال إن كان إنما أراد أن لا يعاونه فلا أحب ذلك.
قال محمد بن رشد: خشي عليه الحنث إذا كان أراد أن لا يعاونه مخافة أن يكون
عمل عبيده له في اليوم الثاني أكثر من عمل عبيده له في اليوم الأول فقال لا
أحب ذلك ولم يحققه عليه، إذ لم يعنه إلا بعدد ما أعانه به من
(18/304)
العبيد، ولو أعانه بأكثر من عبيده لحقق
عليه الحنث والله أعلم. ولو لم تكن له نية لم يجب عليه حنث، إذ ليس ما فعل
بمشاركة، ولو شاركه في غير الشيء الذي حلف ألا يشاركه فيه لم يحنث أيضا إذا
لم تكن له نية، وبالله التوفيق.
[تواضع عمر بن الخطاب وسيرته وورعه]
في تواضع عمر بن الخطاب وسيرته وورعه
قال: وقال مالك، كان عمر بن الخطاب ينفخ لهم تحت القدر حتى إن الدخان ليخرج
من تحت لحيته. قال مالك: وكان عمر بن الخطاب لا يدخل عليه مال ليلا، لا
يدخل عليه إلا نهارا، فقلت له: ولم؟ قال يريد أن تكون سنة لا يدخل ليلا
لئلا يسرق منه، الليل أخفى. قال مالك: ورأى عمر بن الخطاب لابنه عبيد الله
إبلا فقال: من أين لك هذه؟ قال اشتريتها عجافا فعلفتها حتى سمنت، فقال عمر
أفي الحمى؟ قال نعم، فقال انظروا إلى الثمن الذي اشتراها به فبيعوها وأعطوه
إياه، فما فضل فاطرحوه في بيت المال.
قال محمد بن رشد: لما كان الحمى إنما حماه لجميع المسلمين لم ير أن يسوغ
ابنه شيئا منه دون جميع المسلمين امتثالا لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ
وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:
135] ، وبالله التوفيق.
(18/305)
[للقاضي حقا على الناس كما لهم عليه حق]
في أن للقاضي حقا على الناس كما لهم عليه حق
قال مالك: وسأل عمر بن عبد العزيز رجلا عن أمر الناس وعن القاضي، فقال: إنه
ينبغي أن تؤدي الرعية إلى الراعي حقه، وينبغي للراعي أن يؤدي إلى الرعية
حقوقهم عليه غير مسؤول لذلك ولا منزور به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: فحق الناس على القاضي أن يعدل فيهم ولا يشح
بذلك عليهم حتى يسألوه إياه، وحقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوه فيما أمرهم
به من الحق ويشكروه على ذلك، وبالله التوفيق.
[قلة الإنصاف في الناس]
في قلة الإنصاف في الناس قال مالك: ليس
في الناس شيء أقل من الإنصاف.
قال محمد بن رشد: قال مالك: هذا لما اختبره من أخلاق الناس.
وفائدة الإخبار به التنبيه على الذم له لينتهي الناس عنه فيعرف لكل ذي حق
حقه، وبالله التوفيق.
[التثبت في الاجتهاد]
في التثبت في الاجتهاد قال مالك: وكان
عمر بن الخطاب يقول: أشيروا علي في كذا وكذا، ثم يقول ارجعوا إلى منازلكم
فبيتوا ليلتكم فتمكنوا في
(18/306)
ذلك عن طمأنينة، فإن ذلك أحرى وأيسر إذا
كان المرء على فراشه.
قال محمد بن رشد: ما حض عمر عليه من هذا يلزم امتثاله، فلا ينبغي لمن
استشير في شيء من أمور الدنيا أو سئل الجواب في نازلة من الفقه تحتاج إلى
نظر أن يجيب في ذلك إلا بعد روية وتثبت، وإن أمكنه تبييت ذلك حتى يفكر في
ذلك بالليل على فراشه إذا خلا سره فهو أحسن، وبالله التوفيق.
[معنى النهي عن إضاعة المال]
في معنى النهي عن إضاعة المال وسئل عن
معنى ما جاء في الحديث تكره إضاعة المال، قال: ألا ترى قول الله تعالى:
{وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا
إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] وهو منعه من حقه ووضعه في غير حقه.
قال محمد بن رشد: الحديث بكراهة إضاعة المال هو حديث المغيرة بن شعبة قال:
سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «إن الله يكره
لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال.» ومن إضاعة المال منعه
من حقه ووضعه في غير حقه كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
(18/307)
لأنه إذا حبسه ولم يؤد منه حقا ولا فعل فيه
خيرا فقد أضاعه، إذ لا منفعة فيه على هذا الوجه في دنيا ولا أخرى، فكان
كالعدم سواء، بل يزيد على العدم بالإثم في منعه من حقه. وكذلك إذا وضعه في
غير حقه فقد أضاعه إذ أهلكه فيما لا أجر له فيه إن كان وضعه في سرف أو سفه،
أو فيما عليه فيه وزر إن كان وضعه في فساد أو حرام.
ونفقة المال على ستة أوجه، الثلاثة منها إضاعة له: أحدها نفقته في السرف،
والثاني نفقته في السفه، والثالث نفقته في الحرام؛ والثلاثة منها ليست
بإضاعة له، وهي نفقته في الواجب، ونفقته لوجه الله فيما ليس بواجب، ونفقته
لوجوه الناس رغبة في اكتساب الثناء والمجد والشرف. فقد قال بعض الحكماء:
ما ضاع مال أورث المجد أهله ... ولكن أموال البخيل تضيع
وقد قيل في معنى كراهة إضاعته في الحديث أنه إهماله وترك المعاهدة له
بالقيام عليه والإصلاح له حتى يضيع، كدار يتركها حتى تنهدم، أو كرم يتركه
حتى يبطل أو حق له على رجل [ملي] بينه وبينه فيه حساب فيهمله حتى يضيع وما
أشبه ذلك، وهذا أظهر ما قيل في معنى الحديث. ويحتمل أن يحمل على عمومه في
هذا وفي إمساكه عن النفقة التي يؤجر في فعلها ولا يأثم في تركها، كصلة
الرحم والصدقة المتطوع بها، وفي نفقته في الوجوه المكروهة كالسرف وشبهه.
ويحمل قول مالك في تفسير الحديث: وهو منعه من حقه، أي من حقه الواجب عليه
في مكارم الأخلاق كصلة الرحم وشبه ذلك؛ لأن منعه من الواجب لا يقال بأنه
مكروه كما جاء في الحديث، وإنما هو محظور. وكذلك يحمل قوله: ووضعه في غير
حقه [أي في غير حقه] من وجوه السرف والسفه، لا من الفساد والحرام؛ لأن وضع
المال
(18/308)
في الفساد والحرام لا يقال فيه إنه مكروه
كما جاء في الحديث، وإنما هو محظور. وقيل في معنى النهي عن إضاعة المال إنه
فيما ملكت يمينه من الرقيق والدواب أن ينفق عليهم ويحسن إليهم ولا يتركهم
فيضيعون. والصواب أن ذلك [ليس] مما جاء في الحديث؛ لأن الحديث إنما جاء
بلفظ الكراهة، والمكروه ما تركه خير من فعله، فيؤجر في تركه ولا يأثم في
فعله. وترك الرجل النفقة على رقيقه ودوابه حتى يهلكوا ويضيعوا محظور وليس
بمكروه؛ لأنه مسؤول عنهم، وبالله التوفيق.
[الشرب قائما]
في الشرب قائما قال وقال مالك: سمعت أن
عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كانا يشربان قائمين، قال مالك: وما أرى
بذلك بأسا، يشرب المرء كما يحب، وإن المسافر ليشرب وهو يتبع دابته.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والكلام عليه في رسم السلف في المتاع والحيوان
المضمون من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق لا شريك له.
[الشرب في القدح تكون فيه الحلقة من الفضة]
في الشرب في القدح تكون فيه الحلقة من الفضة
قال وسألته عن القدح تكون في أذنه الحلقة من الفضة أيشرب فيه؟ قال. ما
يعجبني، وإن أحب إلي أن يترك ذلك. فقلت له: فالمرآة تكون فيها الحلقة من
الفضة أينظر فيها الوجه؟ فقال ما يعجبني، وترك ذلك أحب إلي.
(18/309)
قال محمد بن رشد: قياس هذا قياس العلم من
الحرير في الثوب، كرهه مالك وأجازه جماعة من السلف. وقد روي عن عمر ابن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أجازه على قدر الأصبعين والثلاثة
والأربعة، وقع ذلك في مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان. وقد مضى هذا في
رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[الخطيئة قد تكون خيرا للإنسان]
في أن الخطيئة قد تكون خيرا للإنسان قال
مالك: وكان يقال إن الإنسان ليخطئ الخطيئة تكون خيرا فينيب إلى الله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، قد يكون الخير سببا للشر، والشر سببا
للخير. قال الله عز وجل: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] .
[النظر إلى شعور نساء أهل الذمة]
في النظر إلى شعور نساء أهل الذمة
من اليهود والنصارى
قال وسألته عن النظر إلى شعور مصر افتتحت عنوة، فقال ما يعجبني ذلك.
قال محمد بن رشد: النظر إلى شعور أهل الذمة الأحرار
(18/310)
المصالحين أو المستأمنين لا يجوز، فقوله لا
يعجبني معناه أنه لا يعجبني أن يستخف ذلك للضرورة التي ذكرت من أنة لا يوجد
بد من اتخاذهن اضطرارا، فلما قال له ما ذكر من أن مصر فتحت عنوة لم [يعجبه
أن] يستخف ذلك أيضا فيهن، إذ قد قيل إنها إنما فتحت صلحا، فهن على هذا
أحرار، وإن كانت افتتحت عنوة فقد قيل في نساء أهل العنوة ورجالهم إن لهم
حكم الأحرار، فكره أن يستخف ذلك فيهن، لقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى
الشبهات استبرأ لدينه وعرضه» . وقد مضى في سماع عيسى وسحنون من كتاب
التجارات إلى أرض الحرب الاختلاف في أهل العنوة هل يحكم لهم بحكم الأحرار
أو بحكم العبيد، وفي رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد ذكر
الاختلاف في افتتاح مصر، وبالله التوفيق.
[ما جاء مما هو من أشراط الساعة]
فيما جاء مما] هو من أشراط الساعة قال وكان يحيى بن سعيد يقول: لا تقوم
الساعة حتى يتسافدوا في الطريق.
قال محمد بن رشد: قوله حتى يتسافدوا في الطريق، أي حتى يقرب الأمر من ذلك
على عادة العرب في تسميتهم الشيء باسم ما قرب منه. وقد جاء ذلك في القرآن
قوله عز وجل: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ؛ لأن معناه قاربن بلوغ
أجلهن؛ لأن
(18/311)
العدة إذا انقضت لم يكن للزوج أن يمسك. وقد
قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بلالا ينادي بليل
فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم، وكان ابن أم مكتوم لا ينادي حتى
يقال له أصبحت أصبحت، أي قاربت الصباح» . فالمعنى في ذلك أن الساعة لا تقوم
حتى يكثر الفجور وترتفع الرقبة عن الفجار فيراودون النساء في الطرق على
أعين الناس وهم يشهدون، فسمي المعنى الذي يدعو إلى السفاد سفادا لقربه من
ذلك. وقد قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روي:
«أيما امرأة استعطرت ومرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية» فسماها- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زانية لقربها من ذلك في فعلها ذلك. فقول يحيى
ابن سعيد هذا نحو ما مضى في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها من قول ابن
محيربز: إن من أشراط الساعة المعلومة المعروفة أن يرى الرجل يدخل البيت فلا
يشك من يراه أنه يدخل لسوء إلا أن الجدار تواريه. وقد مضى الكلام على ذلك
في موضعه، وبالله التوفيق.
[خصاء الغنم والإبل والبقر]
في خصاء الغنم والإبل والبقر قال وسئل
عن خصاء الغنم والإبل والبقر، قال لا بأس بذلك.
(18/312)
قال محمد بن رشد: إنما جاز ذلك ولم يكن من
المثلة المنهي عنها لما في ذلك من إصلاح لحومها، بخلاف المثلة بشيء من
الحيوان عبثا لغير وجه صلاح ومنفعة، وبالله التوفيق.
[كراهة السفر في طلب شيء في الدنيا]
في كراهة السفر في طلب شيء في الدنيا
لا يشوبه شيء من أمر الآخرة قال مالك: وسمعت رجلا من أهل الفضل والصلاح
يقول: ما أحب أن أسافر ليلة في طلب شيء من الدنيا لا أخلطه بغيره وإن لي
مرغوبا فيه.
قال محمد بن رشد: مثل أن يسافر في طلب جاه أو حظوة عند السلطان أو ليفيد
مالا وهو مستغن عنه لا ينوي أن يفعل خيرا منه. وأما من سافر في تجارة
ليستعين بما يفيد فيها على ما يلزمه من النفقة على عياله ويكف بها وجهه عن
السؤال، فهو مأجور على نيته في ذلك. يشهد لهذا ما جاء من قول عمر بن الخطاب
بعد هذا أنه قال: لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله
أحب إلي من أن أموت على فراشي. وسيأتي القول عليه إن شاء الله، وبالله
التوفيق.
[تأدب الرجل مع من يؤاكله]
في تأدب الرجل مع من يؤاكله قال مالك:
وزعم لي يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب وغيره أن عمر بن الخطاب قال: كنت
بأرض الحبشة في الجاهلية،
(18/313)
فأصابني جوع شديد، فرمي بي إلى إنسان منهم
فجاءني بحديد قد عصر وجعل في رأسه ثقب فيه سمن، فجعلوا يأخذون منه مثل
النواة ويدخلون طرفها في ذلك السمن ثم يبتلعونه، فخيرت نفسي بين أن آكل
وأشبع فأفتضح، أو أصنع كما يصنعون، فاخترت أن أصنع كما يصنعون.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه الحكاية والقول فيها وفي معنى القران المنهي
عنه في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[تفسير النسيء]
في تفسير النسيء
قال وسئل مالك عن النسيء فقال: هو صفر والمحرم، يحلونه عاما ويحرمونه عاما.
قال محمد بن رشد: قوله يحلونه عاما ويحرمونه عاما، معناه أنهم كانوا يحلون
المحرم عاما ويحرمون مكانه صفرا، ثم يرجعون في العام الثاني إلى تحريم
المحرم وتحليل صفر، ثم في العام الذي بعده إلى تحليل المحرم وتحريم صفر.
وكانوا يسمون المحرم وصفرا الصفرين، فكانوا يحرمون الصفر الأول في عام
والصفر الثاني في عام. فتأخيرهم تحريم المحرم الذي هو من الأشهر الحرم سنة
وسنة لا إلى صفر الذي هو من غير المحرم، هو النسيء الذي قال الله عز وجل
فيه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا
عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ} [التوبة: 37] . يقول
الله عز وجل إن تأخيرهم تحريم المحرم الذي هو من
(18/314)
الأشهر الحرم سنة إلى شهر صفر زيادة في
كفرهم، وإن كانوا قد واطئوا العدة بتحريمهم أربعة أشهر لم ينقصوا من عددها
شيئا؟ هذا قول الكلبي. وقال الحسن: كانوا يجعلون الأشهر الحرم في عام
متوالية فيحرمون ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، وصفرا، ويقولون قد أنسأنا
العام رجبا فلا يحرمونه فيه، وفي عام على منزلتها يحرمون ذا القعدة، وذا
الحجة، والمحرم، ورجبا. والأربعة الأشهر الحرم من السنة التي قال الله عز
وجل فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا
فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36] منها ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو
الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، كذا جاء في الأثر عن
النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد جاء عنه - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أنه قال: «أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان، وذو الحجة، وذو
القعدة والمحرم» . فعلى هذا تكون الأشهر الحرم من عامين. وقال الكوفيون: هي
من سنة واحدة، وأولها المحرم. والقول بأن أولها رجب وأنها من سنتين أولى
الأقوال بالصواب؛ لأن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم
المدينة في ربيع الآخر، فأول شهر كان بعد قدومه المدينة من الأشهر الحرم
رجب. وقد كانت العرب في الجاهلية تعظم الأشهر الحرم وتحرمهن وتحرم القتال
فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم قاتل أبيه لم يهجه، وبقيت حرمتها في الإسلام
في تحريم القتال وغير ذلك، بدليل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:
217] لأنه عظم القتال في الشهر الحرام في هذه الآية، ثم نسخ ذلك في براءة
بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ،
وبقوله تعالى:
(18/315)
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] الآية، فأباح قتلهم وقتالهم في كل موضع وفي كل
وقت من شهر حرام أو غيره، وهو قول ابن عباس وقتادة والضحاك والأوزاعي وابن
المسيب، فبقيت حرمة الأشهر الحرم في تعظيم الذنب فيها، بدليل قَوْله
تَعَالَى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] . وفي
تعظيم الأجر والثواب في العمل الصالح فيها. وذهب عطاء ومجاهد إلى أن الآية
محكمة، وإلى أن القتال في الأشهر الحرم لا يجوز، والجماعة على خلاف ذلك.
وقد قيل في النسيء إنه ما كان أهل الجاهلية عليه من أنهم كانوا يحجون في كل
عامين شهرا، فكانت حجة أبي بكر بعد أن نزل فرض الحج قبل أن ينسخ النسيء
فوقعت حجته في ذي القعدة الآخر من العامين، ثم حج رسول الله- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ يسلم- حجة الوداع في العام المقبل في ذي الحجة، وأنزل
الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ، يريد لا
ينتقل عنها، فنسخ النسيء وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات
والأرض» فاستقر الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة. وبالله التوفيق.
[قسم الفيء وحمل الطعام من بلد إلى بلد]
في قسم الفيء وحمل الطعام من بلد إلى بلد
قال مالك: وحدثني زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال عمر بن
(18/316)
الخطاب: أرأيت إن حملت لهم بيضاء مضر حتى
أضعها لهم بالجار أتراهم يقبلونها مني أم يكلفوني [أن أحملها لهم] إلى
المدينة؟ فقيل له: بل يقبلونها، فقال لئن بقيت إلى رأس الحول لأحملنها لهم،
فحملها. قال مالك: فكان عمر بن الخطاب أول من حملها في البحر إليهم، ثم
كانت تحمل فتقسم بين الناس، فكان يؤثر بها في زمان بني أمية، فلما كان عمر
بن عبد العزيز قسمها بالسواء بين الناس، فيقول القرشي أنا آخذ ومولاي سواء،
فيأبى أخذها.
قال محمد بن رشد: اختلفت سيرة الخلفاء بعد رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قسم مال الله الذي افترضه لعباده على أيدي خلفائه
في الفيء وما ضارعه الذي ساوى فيه بين الأغنياء والفقراء، فساوى أبو بكر
بين الناس فيه ولم يفضل أحدا بسابقه ولا قدم، فكلمه عمر بن الخطاب في ذلك
فقال له: تلك فضائل عملوها لله، وثوابهم فيها على الله، وهذا المعاش الناس
فيه أسوة، وإنما الدنيا بلاغ. وفاضل عمر بعد أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - بين الناس، وفرض لهم الديوان على سوابقهم في الإسلام وفضلهم في
أنفسهم. ثم ولي عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد عمر، فسار في ذلك
بسيرة عمر، ثم ولي علي بالعراق بعد عثمان فأخذ بفعل أبي بكر، فساوى ولم
يفضل. ثم ولي عمر بن عبد العزيز فأخذ بالأمرين جميعا: فرض العطاء ففاضل فيه
بين الناس على قدر شرفهم ومنازلهم من الإسلام، وقسم على العامة على غير
ديوان العطاء فساوى في ذلك بين الناس على ما جاء عنه في هذه الرواية. وهذا
الاختلاف في الاجتهاد إنما هو فيما فضل من المال بعد سد الثغور، وأرزاق
العمال والقضاة والمؤذنين وعطاء المقاتلة وما ينوب
(18/317)
المسلمين ويحتاج إليه من الزيادة في الكراع
والأسلحة. ولا يخرج عن قوم من فيئهم إلا ما فضل عن نوائبهم، وبالله
التوفيق.
[آخر ما يبقى في الأمة]
في آخر ما يبقى في الأمة قال مالك: وزعم
يحيى بن سعيد أنه سمع أن آخر ما يبقى في هذه الأمة الصلاة، وأول ما ترتفع
منها الأمانة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لا يكون إلا عن توقيف. إذ لا مدخل للرأي فيه،
وبالله التوفيق.
[ما جاء من الكراهة في قيل وقال وكثرة السؤال]
فيما جاء من الكراهة في قيل وقال وكثرة السؤال
قال وسألته عن قول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قيل
وقال وكثرة السؤال» . قال أما قيل وقال فهذه الأخبار في رأي وهذه الأرجاف-
أعطي فلان كذا وكذا ومنع فلان، لقول الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] ، فهؤلاء
يخوضون. وأما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه، قد كره
رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسائل وعابها وقال، قال
الله عز وجل: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] ، فلا أدري أهو هذا أم هذا السؤال مسألة.
قال محمد بن رشد: الذي جاء عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(18/318)
في قيل وقال قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«إن الله يكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال» فقيل وقال
مصدران من القول، يقال قلت قولا وقيلا وقالا، ومعناه الخوض فيما لا يعني من
القول؛ لأن قول الإنسان محصي عليه. وقد جاء أن ما لا يكتبه صاحب اليمين
يكتبه صاحب الشمال على ما مضى القول فيه في رسم قطع الشجرة من سماع ابن
القاسم. وقد كانت عائشة ترسل إلى بعض أهلها بعد العتمة فتقول: ألا تريحون
الكتاب؟ وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حسن
إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» . وأما السؤال الذي جاء الحديث في كراهيته
فهو محتمل أن يكون المراد بذلك كثرة السؤال للناس لأن ذلك مكروه مذموم، قال
الله عز وجل: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] ، وقال-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم
حبله فيحتطب على ظهره خير من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه
أو منعه» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من
سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم. قلت يا رسول الله وما ظهر
غنى؟ قال: أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم أو ما يعشيهم؟» وأنه قال: «من سأل
منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا» وأنه قال: - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شينا أو
كدوحا أو خدوشا في وجهه يوم القيامة قيل يا
(18/319)
رسول الله: وما غناه؟ قال: خمسون درهما أو
حسابها من الذهب؟» وأنه قال: «من سأل وله عدل خمس أواق فقد سأل إلحافا.»
وهذا المقدار أولى المقادير بالاستعمال في تحريم الصدقة؛ لأن الآثار لا
تحمل على التعارض، وتحمل على أن بعضها ناسخ لبعض. وإذا حملت على ذلك
فالأولى أن يجعل الأقل من المقادير الأربعة منسوخا بالذي يليه، والذي يليه
منسوخا بالذي يليه، ليكون الأقل من المقادير الذي هو أثقل منسوخا بالأكثر
الذي هو أخف تخفيفا من الله ورحمة. ويحتمل أن يكون المراد بذلك السؤال عن
المشكلات التي لا يحتاج إليها ولا تعبد أحد بمعرفتها، وعما ينسخ من خفيات
المسائل التي يغلب على الظن أن مثلها لا ينزل؛ لأن الاشتغال بذلك مكروه
لأنه مما لا يعني. ولما كان هذا من المحتمل قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
لا أدري أهو مسألة الاستعطاء أو ما كنتم فيه مما أنهاكم عنه منذ اليوم،
وبالله التوفيق.
[ما جاء في تفسير قول الله تعالى إذ تأتيهم
حيتانهم يوم سبتهم]
فيما جاء في تفسير قول الله تعالى:
{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ} [الأعراف: 163] الآية
قال مالك: زعم ابن رومان في قوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ
سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:
163] قال كانت تأتيهم يوم السبت، فإذا كان المساء ذهبت فلا يرى منها شيء
إلى السبت الآخر، فأخذ لذلك رجل منهم خيطا ووترا فربط حوتا منها في الماء
(18/320)
يوم السبت حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه
فاشتواه، فوجد الناس ريحه فجاءوه فسألوه عن ذلك فجحدهم، فلم يزالوا به حتى
قال لهم: فإنه جلد حوت وجدناه. فلما كان يوم السبت الآخر فعل مثل ذلك، ولا
أدري لعله قال ربط حوتين، فلما أمسى من ليلة الأحد أخذهما فاشتواهما فوجد
الناس ريحيهما، فجاءوه فسألوه فقال لهم لو شئتم صنعتم كما أصنع، فقالوا له
وما صنعت؟ فأخبرهم، ففعلوا مثل ما فعل، حتى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها
ربض يغلقونها عليهم، فأصابهم من المسخ ما أصابهم، فعدا إليهم جيرانهم ممن
كان حولهم يطلبون منهم ما يطلب الناس، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم، فنادوا
فلم يجيبوهم، فتسوروا عليهم فإذا هم قردة، فجعل القرد يدنو ممن كان يعرفه
قبل ذلك فيتمسح به.
قال محمد بن رشد: قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ
اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وقال: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي
كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ
تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} [الأعراف: 163] ، أي
شارعة ظاهرة، {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] ،
ابتلاء من الله عز وجل ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، أي ليعلم وقوع الطاعة
منهم والمعصية، إذ قد علم أنها ستقع منهم. والقرية قيل فيها إنها أيلة
[مدينة] بيت المقدس بساحل البحر. وكان الله عز وجل قد حرم على اليهود صيد
الحوت في يوم السبت ابتلاء لهم قبل عقوبته لهم بخطيئة كانت منهم. وقيل إنهم
قالوا لموسى حين أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها،
(18/321)
كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على سائر
الأيام والسبت أفضل الأيام كلها؛ لأن الله تبارك وتعالى خلق السماوات
والأرض والأقوات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت، فقال عز وجل
لموسى: دعهم وما اختاروه لا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره ولا يفعلون فيه شيئا،
فكانت الحيتان تأتيهم فيه شارعة ظاهرة كما قال عز وجل وتغيب عنهم في سائر
الأيام فلا يصلون إليها إلا بالاصطياد والعناء. وفي تعديهم في السبت غير
قول: قيل إنهم كانوا يسدون عليها المسالك يوم السبت ويأخذونها في سائر
الأيام ويقولون لا نفعل الاصطياد الذي نهينا عنه يوم السبت، وإنما نفعله في
غيره، وقيل إن سفهاءهم عدوا فاصطادوا فيه وملحوا وباعوا ولم تنزل بهم
عقوبة، فاستشروا وقالوا إنا نرى السبت قد حل وذهبت حرمته، وإنما كان يعاقب
به آباؤنا في زمن موسى، ثم استسن الأبناء بسنة الآباء وكانوا يخافون
العقوبة ولو كانوا فعلوا لم يضرهم شيء، فعملوا بذلك سنين حتى أثروا منه
وتزوجوا النساء واتخذوا الأموال، فوعظتهم طوائف من صالحيهم وحذروهم عقاب
الله عز وجل على ذلك، فقالوا: قد عملنا ذلك سنين فما زاد الله إلا خيرا،
ولئن أطعتمونا لتفعلن كما فعلنا، إنما حرم هذا على من قبلنا، فقالوا ويلكم
لا تغتروا ولا تأمنوا بأس الله، وهذه معذرة إلى ربكم، إما أن تنتهوا فتكون
لنا أجرا، أو تهلكوا فننجوا من معصيتكم. قال الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا
مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44] أي تركوا، {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ
يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ
بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] وهو مسخهم قردة. قال الله عز وجل: {فَقُلْنَا
لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}
[البقرة: 66] .
(18/322)
قال قتادة: وبلغنا أنه دخل على ابن عباس
وبين يديه المصحف وهو يبكي وقد أتى على هذه الآية: {فَلَمَّا نَسُوا مَا
ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ
وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا
يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] فقال: قد علمت أن [الله أهلك الذين أخذوا]
الحيتان ونجى الذين نهوهم، ولا أدري ما صنع بالذين لم ينهوا ولم يواقعوا
المعصية.
وقال الحسن: وأي نهي يكون أشد من أنهم أثبتوا لهم الوعيد وخوفوهم العذاب
فقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164]
بالله التوفيق.
[شرب أبوال الأنعام في الدواء]
في شرب أبوال الأنعام في الدواء قال
وسئل مالك عن شرب أبوال الأنعام في الدواء، قال: لا بأس بذلك، ولا بأس بشرب
أبوال الأنعام البقر والغنم. قيل له فأبوال الأتن؟ قال لا خير فيه. قيل له
فأبوال الناس؟ قال لا خير فيه. قيل له: فالشاة تحلب فتبول في اللبن؟ قال
أرجو أن لا يكون به بأس.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه لا بأس بشرب أبوال الأنعام في الدواء.
والدليل على ذلك ما جاء في «الرهط العرينيين الذين قدموا
(18/323)
على النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فاستوخموا المدينة فأمرهم النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن يخرجوا في لقاحه فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا حتى
إذا صحوا وسمنوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود» الحديث وقاس مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في المشهور عنه أبوال سائر ما يؤكل لحمه في الطهارة على أبوال
الأنعام [ويأتي بعد هذا في رسم الأقضية من هذا السماع أنه فرق بين أبوال
الأنعام وأبوال سائر ما يؤكل لحمه] من الحيوان. وتأول ابن لبابة أنه إنما
فرق بين ذلك في إجازة التداوي بشربها لا في نجاستها للحديث الذي جاء في
إجازة النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب أبوال الإبل للرهط
العرينيين. والقياس إذا قيست عليها في الطهارة أن تقاس عليها في إجازة
التداوي بشربها؛ لأن العلة في إجازة التداوي بشرب أبوال الأنعام طهارتها.
ووجه التفرقة وقياس مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أبوال ما لا يؤكل لحمه على
أبوال بني آدم في النجاسة، فأبوال الأتن نجسة إذ لا تؤكل لحومها، فلا يجوز
التداوي بشربها. وما اختلف في جواز أكله اختلف في نجاسة بوله حملا على ذلك.
وذهب أبو حنيفة إلى أن الأبوال تابعة للدماء في النجاسة لا للحوم، فرأى
أبوال الأنعام وغيرها نجسة فأبعد في القياس وخالف الأثر. وأما الألبان فهي
تابعة للحوم في الطهارة، فما كان من الحيوان لا يؤكل لحمه سوى بني آدم
المخصوصة لحومهم بالطهارة فألبانها نجسة قياسا على لبن الخنزيرة، فألبان
الأتن نجسة. وقد قال يحيى بن يحيى في سماعه من كتاب الوضوء أن من أصاب ثوبه
لبن حمارة فصلى به أنه يعيد في الوقت كمن صلى بثوب نجس، إلا أنه قد جوز
التداوي بها مراعاة للخلاف في جواز أكل لحومها، حكى ذلك ابن حبيب عن مالك
وسعيد بن المسيب والقاسم ابن محمد وعطاء. وروي إباحة التداوي بها عن النبي-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(18/324)
وإلى إجازة ذلك ذهب ابن المواز أيضا. وروى
زياد عن مالك في لبن الحمارة أنه لا بأس به، فيحتمل أن يريد أنه لا إعادة
على من صلى به في ثوبه أو بدنه، ويحتمل أن يريد أنه لا بأس بالتداوي به لمن
احتاج إليه. وقد مضى الكلام على هذه المسألة أيضا في رسم الجنائز والصيد من
سماع أشهب من كتاب الصيد والذبائح، وفي رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم
من كتاب الصلاة، وفي سماع يحيى من كتاب الوضوء، وبالله التوفيق.
[قراءة القرآن بالألحان]
في قراءة القرآن بالألحان وسئل عن
القراءة بالألحان، فقال ما يعجبني لأن ذلك يشبه الغناء ويضحك بالقرآن ويسمى
ويقال فلان أحسن قراءة من فلان. قال مالك: ولقد بلغني أن الجواري قد علمن
ذلك كما يعلمن الغناء، قال ولا أحب ذلك على حال من الأحوال في رمضان ولا في
غيره، أين القراءة التي يقرأ هؤلاء من القراءة التي كان يقرؤها رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مالك: وإني لأكره التطريب في
الأذان، ولقد هممت أن أكلم أمير المؤمنين في ذلك لأني كنت أسمعهم يؤذنون.
قال محمد بن رشد: كراهة مالك قراءة القرآن بالألحان بينة؛ لأن ذلك يشبه
الغناء على ما قال. وقد سئل في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة
عن النفر يكونون في المسجد فيقولون لرجل حسن الصوت اقرأ علينا، يريدون حسن
صوته، فكره ذلك وقال هذا يشبه الغناء، فقيل له: أفرأيت الذي قال عمر لأبي
موسى: ذكرنا ربنا، فقال: إن من الأحاديث أحاديث قد سمعتها وأنا أتقيها،
والله ما سمعت هذا قبل هذا المجلس. وإنما اتقى مالك من حديث عمر بن الخطاب
هذا وما أشبهه أن يتحدث به فيكون
(18/325)
ذلك ذريعة إلى استجازة قراءة القرآن
بالألحان تلذذا بحسن الصوت. وأما استدعاء رقة القلوب وشدة الخشوع في سماع
قراءة القرآن من الحسن القراءة المحسن للتخشع في قراءته فلا مكروه في ذلك.
وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أذن
الله لشيء ما أذن للنبي يتغنى بالقرآن» أي ما استمع لشيء ما استمع لنبي
يحسن صوته بالقرآن طلبا لرقة قلبه بذلك. وعلى هذا يحمل ما جاء عن عمر بن
الخطاب في قوله لأبي موسى الأشعري [ذكرنا ربنا أنه إنما أراد أن يسمع
القرآن لحسن صوته ليخشع بذلك قلبه، وقد «قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي موسى الأشعري] تغبيطا بما وهبه الله عز وجل من
حسن الصوت: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» . وقد قال رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» فقيل
معناه ليس منا من لم يحرص على سماع القراءة الحسنة ويتلذذ بها لما يجد من
الخشوع عندها كما يلتذ أهل الأغاني بأغانيهم؛ وقيل معناه من لم يستغن به أي
من لم ير أنه أفضل حال من الغني بغناه؛ وقيل معناه من لم يحسن صوته بالقرآن
استدعاء لرقة قلبه بذلك. وقد قيل لابن أبي مليكة أحد رواة الحديث: فمن لم
يكن له حلق حسن؟ قال يحسنه ما استطاع. وقد مضى في رسم حلف من سماع ابن
القاسم من هذا الكتاب ومن كتاب الصلاة زيادات في هذا المعنى، وبالله
التوفيق.
(18/326)
[التحذير من سماع أقوال أهل البدع]
في التحذير من سماع أقوال أهل البدع قال
مالك: وقال ذلك الرجل لا تمكن زائغ القلب من أذنك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين أنه يحذر أن يسمع كلامهم فيدخل عليه شك
في اعتقاده بشبههم، وكفى من التحذير عن ذلك المثل الصحيح الذي ضربه ابن
غائم في ذلك من قوله: أرأيت لو أن أحدكم قعد إلى سارق وفي كمه بضاعة أما
كان يحترز بها منه خوفا أن يغتاله فيها، فلا يجد بدا أن يقول نعم، قال
فدينكم أولى بأن تحرزوه وتتحفظوا به، وبالله التوفيق.
[الحض على اتباع الأمر الأول]
في الحض على اتباع الأمر الأول قال
مالك: وكان وهب بن كيسان يقعد إلينا ولا يقوم أبدا حتى يقول لنا: اعلموا
أنه لا يصلح آخر هذا الأمر إلا ما أصلح أوله. قلت يريد ماذا؟ فقال لي: يريد
في رأيي الإسلام.
قال محمد بن رشد: المعنى في قوله أنه لا يعز الإسلام في آخر الزمان إلا بما
عز في أوله من الجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته على السنة والحق، وبالله
التوفيق.
[توقي الرجل أن يظن به سوء]
في توقي الرجل أن يظن به سوء قال وسمعت
ربيعة يقول: سأل رجل أبا بكر الصديق أن
(18/327)
يصحبه إلى حاجة، فخرج معه في طريق، فقال
الرجل لأبي بكر حد بنا عن هذه الطريق لطريق آخر، فإن على طريقنا مجلسا فيه
ناس فنستحيي أن نمر بهم، فقال له أبو بكر أتيتني في أمر تستحيي منه، لا
أذهب معك أبدا فيه.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه الحكاية والقول فيها في رسم السلف في
الحيوان والمتاع المضمون، وبالله التوفيق.
[كراهة طول الكمين]
في كراهة طول] الكمين قال مالك: رأى عمر بن الخطاب رجلا يصلي وقد أطال
كميه، فانتظره حتى قضى صلاته ثم دعاه فقال ما تريد؟ قال: مد يديك، فمد
يديه، فقطع فضل كميه [عن يديه] بشفرة معه ثم أعطاه إياه، فقال انتفع بهذا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه الحكاية والقول فيها في رسم نذر سنة من سماع
ابن القاسم قبل هذا، وبالله التوفيق.
[كراهة غضارة العيش]
في كراهة غضارة العيش قال مالك: وزعموا
أن بعض أصحاب النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين زرعت الحنطة
بالمدينة كره ذلك، فقلت لمالك ولم؟ قال: كان الناس يأكلون الشعير، فكره ذلك
لغضارة العيش.
(18/328)
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى فيما
كان عليه أصحاب رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من شظف
العيش في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[محبة الرجل أن يرى في شيء من أعمال البر]
في محبة الرجل أن يرى في شيء من أعمال البر
قال مالك: سمعت ربيعة يسأل عن المصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب أن يعلم
ويحب أن يلقى في طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق غيره، فلا أدري ما
أجابه ربيعة، غير أني أقول: إذا كان أصل ذلك وأوله لله فلا أرى بذلك بأسا،
وإن المرء ليحب أن يكون صالحا وإن هذا ليكون من الشيطان يتصدق فيقول له إنك
لتحب أن يعلم ذلك ليمنعه ذلك. قلت له: إذا كان أصل ذلك لله لم تر به بأسا؟
قال: إي والله ما أرى به بأسا، قد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «ما شجرة لا يسقط ورقها شتاء ولا صيفا، فقال ابن عمر: فوقع في
نفسي أنها النخلة، فأردت أن أقولها، فقال له عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي
من كذا وكذا.» فأي شيء هذا إلا هذا، وإنما هذا أمر يكون في القلب لا يملك.
وقال الله عز وجل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39] ،
وقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] .
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا في قول مالك مكررا في رسم
(18/329)
العقول من هذا السماع وكتاب الصلاة، ومضى
من قول ربيعة خلافه في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب
ومن كتاب الصدقات والهبات، والتكلم على ذلك كله في المواضع المذكورة، فأغنى
ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[صفة الأمر بالمعروف]
في صفة الأمر بالمعروف قال مالك: قال
ربيعة سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا ينهى عن المنكر ولا يأمر
بالمعروف حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال
مالك: وصدق، ومن هذا الذي ليس فيه شيء؟
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إنه ليس من شرط الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر أن يكون القائم بذلك سالما من مواقعة الذنوب والخطايا إذ
لا يسلم أحد من ذلك، وقد قال الله عز وجل لنبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وفي وصية الخضر لموسى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -:
واستكثر من الحسنات فإنك لا بد تصيب السيئات، واعمل خيرا فإنك لا بد عامل
شرا. هذا في الأنبياء فكيف بمن دونهم من الناس. فالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر من فرائض الأعيان، لقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] فيجب على كل
أحد في خاصة نفسه أن ينكر من المنكر ما اطلع عليه مما مر به واعترضه في
طريقه بثلاثة شرائط: أحدها أن يكون عالما بالمنكر؛ لأنه إن لم يكن عالما
بذلك لم يأمن أن يأمر
(18/330)
بمنكر أو ينهى عن معروف؟ والثاني أن يأمن
أن يؤدي إنكاره المنكر إلى منكر أكبر منه، مثل أن ينهى عن شرب خمر فيؤدي
نهيه عن ذلك إلى قتل نفس وما أشبه ذلك؟ والثالث أن يعلم أو يغلب على ظنه أن
إنكاره المنكر مزيل له، وأن أمره بالمعروف مؤثر ونافع؛ لأنه إذا لم يعلم
ذلك ولا غلب على ظنه لم يجب عليه أمر ولا نهي. فالشرط الأول والثاني
مشترطان في الجواز، والشرط الثالث مشترط في الوجوب. وأما الانتداب إلى ذلك
والقيام بتفقده وتغييره فلا يجب على أحد في خاصة نفسه سوى الإمام، وإنما
يستحب له ذلك إذا قوي عليه. وذلك بين من قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في
رسم الأقضية الثالث من هذا السماع من كتاب السلطان. وإنما وجب ذلك على
الإمام واستحب لمن سواه إذا قوي عليه لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] . ومضى
قول سعيد بن جبير والقول عليه قبل هذا في رسم القبلة من سماع ابن القاسم،
وما زدته هاهنا تتميم له. ومضى أيضا في الرسم المذكور في كتاب السلطان
زيادات في هذا المعنى، وبالله التوفيق.
[كراهة الإسراع في تعلم القرآن دون التفقه فيه]
في كراهة الإسراع في تعلم] القرآن دون التفقه فيه قال مالك: وسمعت أن أبا
موسى الأشعري كتب إلى عمر بن الخطاب أنه قد قرأ القرآن رجال، فكتب إليه عمر
أن افرض لهم وأعطهم وزدهم، ثم كتب إليه أبو موسى الأشعري: إنا لما
(18/331)
فعلنا ذلك أسرع الناس في القراءة حتى قرأ
سبعمائة، فكتب إليه عمر أن دع الناس، فإني أخاف أن يقرأ الناس القرآن قبل
أن يتفقهوا في الدين. قال مالك: وإنما قال ذلك مخافة أن يتأولوه على غير
تأويله.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن التفقه في القرآن بمعرفة أحكامه
وحدوده ومفصله ومجمله وخاصه وعامه وناسخه ومنسوخه آكد من حفظ سواده، فيكون
من حفظ سواده ولم يتفقه فيه ولا عرف شيئا من معانيه كالحمار يحمل أسفارا.
وقد أقام عبد الله بن عمر على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها؛ لأنه كان
يتعلمها بفقهها ومعرفة معانيها، وبالله التوفيق.
[الذي يقول إنه سيد قومه]
في الذي يقول إنه سيد قومه قال مالك:
قال يحيى بن سعيد: دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فقال له: من سيد قومك؟
قال أنا، فسكت عنه عمر ثم قال له: لو كنت سيدهم ما قلته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأن الرجل إنما
يسود قومه بالتواضع فيهم، والبر بهم، والترفيع لهم، وترك التكبر عليهم،
والاعتناء بأمورهم، والتهمم بأحوالهم؛ فإذا اعتقد أن له فضلا عليهم سادهم
به فهو أدناهم مرتبة. قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم» . وقد مضى في رسم أخذ يشرب خمرا من
(18/332)
سماع ابن القاسم القول في الأحنف بن قيس
وقد قال له معاوية بما شرفت قومك ولست بأشرفهم ولا بأسنهم ولا. بأيسرهم؟
قال: إني لا أتناول ما كفيت، ولا أضيع ما وليت، وقال: لو وجدت الناس كرهوا
شرب الماء ما شربته. وبالله التوفيق.
[أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنة أم
سلمة حين دخل بأم سلمة]
في أمر رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بابنة أم سلمة حين دخل بأم سلمة قال مالك: لما «دخل رسول الله- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أم سلمة وعمار بن ياسر على الباب، ذهب
رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ليدنو منها، فبكت الصبية،
فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذيها فلما أخذتها
وهدأتها ذهب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليدنو منها
فبكت الصبية فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] خذيها،
فسمع عمار بن ياسر فنادى نحن نأخذها، فأمر له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها» .
قال محمد بن رشد: إنما أمر له بها رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لأنه من ولاتها؛ لأنها مخزومية بنت أبي سلمة بن عبد الأسد الذي
كان زوجا لأم سلمة قبل النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن
هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وعمار بن ياسر مولى لبني مخزوم؛ لأن
أباه ياسرا تزوج أمة لبعض بني مخزوم فولدت له عمارا. وذلك أنه قدم مكة مع
أخوين له يقال
(18/333)
لهما الحارث ومالك في طلب أخ لهم رابع،
فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فحالف أبا حذيفة بن المغيرة
بن عبد الله بن عمرو ابن مخزوم، فزوجه أبو حذيفة أمة له يقال لهما سمية،
فولدت له عمارا، فأعتقه أبو حذيفة. فمن هاهنا هو عمار مولى بني مخزوم، فهو
مولاهم وحليف لهم، وأبوه عربي لا يختلفون في ذلك، وبالله التوفيق.
[الكاسيات العاريات ولبس الرجال الرقيق من
الثياب]
في الكاسيات العاريات،
ولبس الرجال الرقيق من الثياب قال: وسألته عن حديث أبي هريرة: «كاسيات
عاريات مائلات مميلات» فقال: أما كاسيات عاريات فلبس الرقاق، وأما مائلات
مميلات فمائلات عن الحق مميلات من أطاعهن عن الحق من أزواجهن وغيرهم. قال
وسألته عن لبس الرجال الرقاق من الثياب، فقال: لباس الرجل كله يصير إلى
الإزار، فلو لم يكن على الرجل إلا إزار لم يكن بذلك بأس. فإذا كان الإزار
رقيقا والقميص رقيقا فلا خير في ذلك، وإذا كان الإزار ثخينا والقميص رقيقا
فلا بأس بذلك إذا كان قصدا ولم يكن على وجه السرف.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم على حديث
أبي هريرة المذكور وقوله «كاسيات عاريات مائلات مميلات» الحديث، فأغنى ذلك
عن إعادته هنا مرة أخرى. وقول مالك في لبس
(18/334)
الرجال الرقيق إن الأمر يرجع في ذلك إلى
الإزار صحيح؛ لأن بدن الرجل ليس بعورة. فإذا اتزر بإزار ثخين جاز أن يلبس
الثوب الرقيق الذي يصف؛ لأن بدنه ليس بعورة، بخلاف المرأة التي هي كلها
عورة فجاء فيها الحديث، وبالله التوفيق لا شريك له.
[السكنى في الأرض التي يعمل فيها بغير الحق ويسب فيها السلف]
في كراهة السكنى في الأرض التي يعمل فيها
بغير الحق ويسب فيها السلف قال وسمعته يقول: ما تنبغي الإقامة بأرض يعمل
فيها العمل بغير الحق والسب للسلف. قال أبو الدرداء لمعاوية حين قال سمعت
النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن مثل هذا، فقال معاوية
ما كنت أرى بمثل هذا بأسا، قال أبو الدرداء: أخبرك عن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتخبرني عن رأيك، لا أساكنك بأرض أنت فيها،
فخرج عنه. قال مالك: فالناس كانوا يخرجون من الكلمة، وهذا يقيم على هذا من
العمل بغير الحق به والسب للسلف، وقد قال الله عز وجل: {يَجِدْ فِي
الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] .
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم تفسير
قوله عز وجل: {يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء:
100] . والمعنى في كراهة السكنى في الأرض التي
يعمل فيها بغير الحق ويسب فيها السلف بين؛ لأن العمل بغير الحق وسب
السلف من المناكر التي يجب تغييرها والنهي عنها، فإذا لم ينه عنها واشتهر
العمل بها لم يأمنوا أن تحل العقوبة بجميعهم. فقد جاء: إن الله لا يعذب
العامة بذنوب الخاصة
(18/335)
ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا العقوبة
كلهم. وقول معاوية لأبي الدرداء حين باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من
وزنها فقال له أبو الدرداء سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ينهى عن مثل هذا: ما كنت أرى بمثل هذا بأسا، لم يقصد بذلك
مخالفة ما قاله النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما تأول
قوله على أنه إنما نهى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التفاضل في
بيع العين بالعين والتبر بالتبر والمصوغ بالمصوغ، فأجاز التفاضل بين العين
والتبر وبين العين والمصوغ وبين التبر والمصوغ، وهو شذوذ وخلاف للجمهور؛
لأنهم حملوا نهيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التفاضل بين
الذهبين وبين الورقين على عمومه. فسأل صائغ عبد الله بن عمر فقال له: إني
أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل بذلك قدر عمل يدي،
فنهاه عن ذلك وقال: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا
عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم. ففهم- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من قول
النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الدينار بالدينار لا فضل
بينهما» [أن الدينارين المصوغين من الذهب لا فضل بينهما] وحكم أن ذلك عهد
من النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم. وقد جاء بيان ذلك
فيما جاء من أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر
السعدين أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة فباعا كل ثلاثة بأربعة
عينا، وكل أربعة بثلاثة عينا، فقال لهما رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربيتما فردا» وبالله التوفيق.
(18/336)
[يكتب إلى أصغر منه هل يبدأ به]
في الذي يكتب إلى أصغر منه هل يبدأ به؟
قال: وسئل عن الذي يبدأ في الكتاب بأصغر منه ولعله ليس بأفضل منه، أترى
بذلك بأسا؟ فقال لا والله ما أرى بذلك بأسا، أرأيت إذا وسع له إذا جاء
فجلس، أو لو سقي فأعطاه إياه، وقال إن أهل العراق يقولون لا تبدأ بأحد قبلك
وإن كان أكبر منك أو أباك فعيب ذلك من قولهم عيبا شديدا. قال مالك: جاء
رجلان فأراد أحدهما أن يتكلم عند النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وهو أصغر، فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كبر
كبر للذي هو أكبر منه.» قال وسمعت أن أبا بكر الصديق حين جاء رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأبيه فقال له: «لو تركت الشيخ في
منزله لجئناه» .
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والقول فيه في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات، وفي
موضعين من رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، فأغنى ذلك عن إعادته هنا،
وبالله التوفيق.
[الحجامة وتساوي الأيام فيها]
في الحجامة وتساوي الأيام فيها
قال مالك: وتحدث أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(18/337)
قال: «إن كان دواء يبلغ الداء فالحجامة
تبلغه» . قال مالك: وليس من أيام الجمعة يوم إلا وأنا أحتجم فيه، يوم
الجمعة ويوم السبت، ويوم الأربعاء، الأيام كلها لله. من أراد أن يحتجم أو
يسافر أو يغرس فلا يتق من الأيام شيئا، فإن الأيام كلها لله، إن هذا
الشيطان للإنسان عدو مبين. وسئل مالك عن الحجامة لسبع عشرة وخمس عشرة وثلاث
عشرة، فقال أنا أكره هذا ولا أحبه، كأنه يكره أن يكون لذلك وقت.
قال محمد بن رشد: معنى قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن
كان دواء يبلغ الداء فإن الحجامة تبلغه» أي أن الحجامة من الأدوية التي
[قد] تبلغ الداء؛ لأنه قد أعلم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
الذي أنزل الداء أنزل الدواء، فليس قوله إن كان دواء يبلغ الداء شكا منه في
ذلك، وإنما معناه إذا كان الدواء قد يبلغ الداء فإن الحجامة من الدواء الذي
قد يبلغ الداء. وقد مضى قبل هذا في هذا السماع القول في التشاؤم بالحجامة
في بعض الأيام فلا معنى لإعادته هنا، وبالله التوفيق.
[رفع عمر بن الخطاب صوته في صلاته بسورة النبي
عليه السلام]
في رفع عمر بن الخطاب صوته في صلاته بسورة
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فوق ما كان يفعل قال وسمعت رجلا صدقا يحدث
أن عمر بن الخطاب قرأ
(18/338)
سورة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فرفع
بها صوته، فقيل له لم رفعت صوتك بهذه السورة؟ فقال: أردت أن أذكرهن العهد.
قال مالك: يريد أزواج النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلت له:
أي سورة؟ قال لا أدري أهي الصغرى أو الكبرى.
قال محمد بن رشد: الصغرى هي التحريم، والكبرى هي الأحزاب. وقد مضى في رسم
مرض وله أم ولد فحاضت هذا والكلام عليه، وبالله التوفيق.
[حكاية عن عمر بن عبد العزيز]
قال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يقول للناس: أيها الناس، من كان هاهنا من
أهل البلدان فليلحق ببلده، فإني أنساه هاهنا وأذكره في بلده، ومن كانت له
قبل عامله مظلمة فلا إذن له علي.
قال محمد بن رشد: معنى أنساه هاهنا أي أتركه في العطاء فلا أعطيه مع من
هاهنا من أهل البلد شيئا، وأذكره في بلده فأعطيه معهم، يريد أنه لا مزية
لهم عنده في ترك بلادهم إلى هذا البلد. وقوله إن من كانت له قبل عامله
مظلمة فلا إذن له علي، معناه لا يحتاج إلى الاستئذان، فليدخل علي متى ما
جلست للناس دون إذن، وبالله التوفيق.
[الكراهة للمفتي أن يقول فيما يؤديه إليه
اجتهاده في تحليل أو تحريم هذا حلال وهذا حرام]
في الكراهة للمفتي أن يقول فيما يؤديه
إليه اجتهاده في تحليل أو تحريم هذا حلال وهذا حرام قال مالك: لم تكن فتيا
الناس أن يقال هذا حلال وهذا
(18/339)
حرام، ولكن يقال أنا أكره هذا ولم أكن
لأصنع هذا، فكان الناس يكتفون بذلك ويرضون به، وكانوا يقولون إنا لنكره هذا
وإن هذا ليتقى، لم يكونوا يقولون هذا حلال وهذا حرام. قال: وهذا الذي
يعجبني والسنة ببلدنا.
قال محمد بن رشد: قوله لم تكن فتيا الناس أن يقال هذا حلال وهذا حرام،
معناه فيما يرون باجتهادهم أنه حلال أو حرام، إذ قد يخالفهم غيرهم من
العلماء في اجتهادهم. فإذا قال المجتهد فيما يراه باجتهاده حلالا أو حراما
إنه حلال أو حرام، أوهم السامع بأنه حلال أو حرام عند الجميع، فيحتاج أن
يقيد قوله بأن يقول هو حلال عندي أو حرام عندي. وهذا على القول بأن كل
مجتهد مصيب للحق عند الله في حق اجتهاده. وأما على مذهب من يرى أن الحق في
واحد وأن المجتهد قد يخطئه وقد يصيبه، فلا يصح له أن يقول فيما يؤديه إليه
اجتهاده من تحليل أو تحريم هذا حلال أو حرام بحال، إذ لا يدري على مذهبه
لعله عند الله بخلاف ما قاله، فالصواب أن يقول أرى هذا مباحا أو أراه
محظورا فيما تعبدني الله به في خاصة نفسي وأن أفتي به. وإن علم أن السائل
يكتفي منه بأن يقول له فيما يرى أنه لا يحل له أكره هذا ولم أكن لأصنع هذا،
ويكف بذاك عن استباحة ذلك الشيء، ساغ له أن يقتصر على ذلك القول فيه،
وبالله التوفيق.
[قول الرجل هلك الناس]
ما جاء في قول الرجل هلك الناس قال
وسألته عن قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال هلك
الناس فهو أهلكهم» قال ذلك فيما يرى [والله
(18/340)
أعلم] أن يقول ذلك الرجل تفضيلا لنفسه على
الناس، يقول هلك الناس فلم يبق غيري. وأما الذي يقول ذلك تحزنا على الناس
ويقول هلك أهل هذه القرية وبادوا وذهب خيار الناس، على وجه التحزن، فإن ذلك
من كلام الناس وهو حسن.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك للحديث صحيح بين لا اختلاف فيه. وقد مضى هذا
الحديث والقول عليه في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم،
وبالله التوفيق.
[تفسير ما جاء في أن من قال لأخيه كافر فقد باء
بها أحدهما]
في تفسير ما جاء في أن «من قال لأخيه
كافر فقد باء بها أحدهما» وسئل عن قول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما» قال: أرى ذلك في
الحرورية. فقلت له: أتراهم بذلك كفارا؟ قال لا أدري ما هذا.
قال محمد بن رشد: هذا حديث يحتمل وجوها من التأويل: أحدها أن يكون معناه أن
من قال لصاحبه يا كافر معتقدا أن الذي هو عليه هو الكفر، فأحدهما على كل
حال كافر، إما المقول له إن كان كافرا، وإما القائل إن كان المقول له
مؤمنا. لأنه إذا قال للمؤمن يا كافر معتقدا أن الإيمان الذي هو عليه كفر
فقد حصل هو كافرا باعتقاده إيمان صاحبه كفرا. والدليل
(18/341)
على ذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ
بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] . وأما إن قال للمؤمن
يا كافر وهو يظنه كافرا ولا يعلم أنه مؤمن فليس بكافر وإنما هو غلط.
والثاني أن يكون معناه النهي عن أن يكفر الرجل صاحبه باعتقاد ما لا يتحقق
أنه باعتقاده كافر؛ لأنه إن لم يكن باعتقاده ذلك كافرا كان القائل له ذلك
قد باء بإثم ما رماه به من الكفر. والثالث أن يكون معناه النهي عن أن يظن
الرجل بأخيه المسلم أنه يعتقد الكفر ويظهر الإسلام فيقول له يا كافر؛ لأنه
إن لم يكن كذلك باء بإثم تكفيره. وقول مالك أرى ذلك في الحرورية يحتمل أن
يريد بذلك أن الحرورية التي تكفر المسلمين بالذنوب [من القول] تبوء بذلك
إما بالكفر على التأويل الأول إن كانت تعتقد أن الإيمان الذي عليه المسلمون
كفر؛ وإما بالإثم على التأويل الثاني إن كانت لا تعتقد إيمان المسلمين
كفرا، وهذا هو الأظهر؛ ويحتمل أن يريد أن من يكفر الحرورية من المسلمين
يبوء بإثم ذلك إن لم يكونوا كفارا بما يعتقدونه. وقد قال مالك في هذه
الرواية لما قيل له أتراهم بذلك كفارا؟ قال لا أدري ما هذا. وبالله
التوفيق.
[الثناء لا يكون عاملا إلا بعد المخالطة في السفر والمال]
في أن الثناء لا يكون عاملا إلا بعد المخالطة
في السفر والمال قال مالك: كان يقال في الزمان الأول إذا أثنى الرجل
على الرجل: أصحبته في سفر؟ أشاركته في مال؟ قال فإن قال لا قيل له فلا تثن
عليه.
(18/342)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه إن قال
إذا سئل هل صحبه في سفر أو شاركه في مال نعم فثناؤه عليه تزكية له، وإن قال
لا لم يكن عليه في ثنائه عليه بما ظهر إليه من ظاهر حاله إثم ولا حرج، ولم
تصح بثنائه عليه شهادته له بالتزكية، وبالله التوفيق.
[قول القاسم في ربيعة]
في قول القاسم في ربيعة قال مالك: كان
القاسم يسأل فيقول: سلوا هذا، يريد ربيعة، فإذا قام قال القاسم: أترون من
مضى ضلوا عما يقول هذا، يكره ذلك له.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا، والله أعلم، أنه عاب عليه إجازة بعض ما
كرهه من مضى والاحتجاج له، وبالله التوفيق
[قول القاسم بن محمد لعمر بن عبد العزيز فيما عرض عليه من المال]
في قول القاسم بن محمد لعمر بن عبد العزيز فيما
عرض عليه من المال قال مالك: دخل عمر بن عبد العزيز [من] مكة، فلقي
القاسم بن محمد خارجا إليها، فقال: إن معنا فضولا، فقال القاسم: إني امرؤ
لا آخذ من أحد شيئا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في وجه قول القاسم بن محمد هذا لعمر في آخر
رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[ذنب المشاركة في القتل]
18 -
(18/343)
في الذنوب وذنب المشاركة في القتل قال
مالك، وقال القاسم بن محمد: إن الذنوب لاحقة بأهلها [قال مالك] وكان يقال:
من لقي الله ولم يشرك في دم مسلم لقي الله خفيف الظهر.
قال محمد بن رشد: قول القاسم بن محمد إن الذنوب لاحقة بأهلها صحيح، يشهد
لذلك قول الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}
[الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:
8] ، وقوله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]
وقوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ
شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18] ومعنى قول القائل من لقي الله
عز وجل ولم يشرك في دم مسلم لقي الله خفيف الظهر، أي أن الذنوب وإن عظمت
فهي تخف عند إضافتها إلى المشاركة في الدم؛ لأن الله عز وجل يقول:
{كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ
نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]
. وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ
خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ
عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] . وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات كافرا أو قتل
مؤمنا متعمدا» . وجميع الذنوب
(18/344)
تمحوها التوبة بإجماع سوى القتل، فإن أهل
العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء المسلمين اختلفوا في قبول
توبة القاتل. وقد مضى الكلام على هذا في رسم يسلف في المتاع والحيوان
المضمون من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[تواصي أزواج النبي عليه السلام في العسل الذي
كان يشربه عند إحداهن]
في تواصي أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في العسل الذي كان يشربه عند
إحداهن قال مالك: «وكان رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ينصرف من الصبح فيدخل على حفصة فيسلم عليها وعلى أزواجه كلهن، وكان بيت
حفصة أقربها إليه، فكان يجلس عندها ويلعق عسلا كان عندها. فتواصى أزواج
النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهن ونفسنها لطول لبثه
عندها، فقلن إذا جاء النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقول إنا
نجد منك ريح المغافير، فقالت زينب فلقد أردت أن أقوله قبل أن يدخل علي،
فدخل على عائشة فقالت: إني أجد منك ريح المغافير، ثم دخل عليهن واحدة بعد
واحدة فقلن له ذلك. وكان رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يكره أن يوجد منه ريح شيء، فقال والله لا آكله أبدا. فكانت عائشة إذا ذكرت
هذا بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبكي ثم تبكي
وتقول: منعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا كان
يشتهيه.» قال مالك: والمغافير شجرة تنبت بالوادي تشبه ريح العسل.
قال محمد بن رشد: قد جاء في التفسير عن عبد الله بن عتبة،
(18/345)
وابن أبي مليكة، أن النبي- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب عسلا عند زينب بنت جحش، فاجتمعت عائشة وحفصة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن تقولا له إنا نشم منك ريح المغافير.
والمغافير صمغ- متغير الرائحة، ويقال إنها بقلة واحدها مغفور- بضم الميم -
فلما صار إلى كل واحدة منهما قالت له إني أشم منك ريح المغافير، فحرم
النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب العسل. وقيل إنه حلف على
ذلك، وإن قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] نزل
في ذلك. وقد ذكرنا هذا قبل هذا في هذا الرسم في هذا السماع، والله أعلم عند
من شرب العسل منهما. ويحتمل أن يكون شربه عند كل واحدة منهما من زينب
وحفصة، وبالله التوفيق.
[بيان المحروم من هو]
في بيان المحروم من هو وسئل مالك عن
المحروم من هو؟ فقال إنه ليقال، هو الفقير الذي لا يسأل ويحرم الرزق. ثم
سئل بعد ذلك أيضا فقال: سمعت أنه الفقير الذي يحرم الرزق.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك المحروم بأنه الفقير الذي لا يسأل صحيح؛ لأن
الله عز وجل قال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}
[المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] يدل أن السائل
غير المحروم، إذ لا يعطف الشيء إلا على غيره لا على نفسه. وكذلك القانع هو
غير المعتر في قوله عز وجل:
(18/346)
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] فالقانع الفقير المتعفف الذي يقنع ولا يسأل،
والمعتر الذي يعتريك يسألك في كفه. والبائس الفقير في قوله: {وَأَطْعِمُوا
الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] هو الضعيف الفقير. وقيل في الفقير إنه
الذي به زمانة. وقد اختلف في الفقير والمسكين في قوله عز وجل: {إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] فقيل الفقير
الذي له البلغة، والمسكين الذي لا شيء له؛ وقيل الفقير الذي لا شيء له،
والمسكين الذي له الشيء؟ وقيل الفقير الذي لا مال له وليس به زمانة،
والمسكين الذي به زمانة؟ والفقير الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل؟ وقيل
الفقير من المهاجرين، والمساكين من غير المهاجرين، وقيل الفقير المسلم،
والمسكين من أهل الذمة، وروي ذلك عن ابن عباس، وبالله التوفيق.
[تفسير قول الله عز وجل ولا تنس نصيبك من
الدنيا]
في تفسير قول الله عز وجل: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}
[القصص: 77] قال: وسئل مالك عن تفسير قول الله عز وجل: {وَلا تَنْسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] ما هو؟ [قال وسئل] : عن
{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] ما هو؟ قال أن
يعيش ويأكل ويشرب غير مضيق عليه في شيء.
(18/347)
قال محمد بن رشد: رد مالك تأويل هذه الآية
إلى معنى قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا
وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وقد قيل
في معنى قوله: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] أي
اعمل في دنياك لأخراك، ولا تترك حظك من الدنيا الذي هو طاعة ربك وعبادته،
وأحسن فيما افترض الله عليك كما أحسن إليك. وقيل معناه وأحسن في الدنيا
بإنفاق مالك الذي أتاكه الله في سبيله ووجوهه، وسع به عليك، وبالله
التوفيق.
[تفسير الراسخين في العلم]
في تفسير الراسخين في العلم
قال: وسألته عن تفسير قول الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا
اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] أيعلم تأويله الراسخون في العلم؟ قال لا،
إنما تفسير ذلك أن الله عز وجل قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا
اللَّهُ} [آل عمران: 7] ثم أخبر فقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] هو ليس
يعلمون تأويله. والآية التي بعدها أشد عندي قوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] .
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على الراسخين في العلم من هم، وهل يعلمون
تأويل المشتبهات أم لا، في رسم البز من سماع ابن القاسم، فأغنى ذلك عن
إعادته، وبالله التوفيق.
(18/348)
[الاجتماع في قراءة القرآن]
في الاجتماع في قراءة القرآن قال وسئل
عن القوم يجتمعون فيقرؤون القرآن جميعا السورة الواحدة، فقال إني لأكره
ذلك، ولو كان بعضهم يتعلم من بعض لم أر بذلك بأسا. قيل له: أرأيت إن كان
واحد منهم يقرأ عليهم؟ قال: لا بأس به. قال وسئل عن القوم يجتمعون فيقرؤون
السورة الواحدة، فقال لا يعجبني هذا ولا أحبه، ولكن لو قرؤوا على رجل منهم
واحد، أو قرأ عليهم رجل منهم لم أر بذلك بأسا. فقيل له لا، بل يقرؤون جميعا
على رجل منهم واحد، قال لا يعجبني ذلك وأنا أكره الذي بلغني عن بعض أهل
الشام يجتمع النفر جميعا فيقرؤون السورة الواحدة، فقال لا يعجبني هذا ولا
أحبه ولكن يقرأ عليهم رجل منهم ويقرؤون عليه واحدا واحدا، أترى الناس اليوم
أرغب في الخير ممن مضى؟ لم يكن يفعله أحد فلا يعجبني ولا أحبه. قيل له فهل
يجتمعون فيقرأ هذا من سورة وهذا من سورة ومعهم رجل إذا تعايا أحدهم فتح
عليه؟ فقال ما يعجبني هذا ولا أحبه، قال الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
[الأعراف: 204] وهؤلاء يقرؤون هذا من ناحية وهذا يقرأ من ناحية، هذا يشبه
الاستخفاف بالقرآن، والذي بلغني عن بعض الناس من قراءته إياه منكوسا،
والآية من هذه السورة والآية من هذه السورة، فلا يعجبني هذا ولا أحبه، ولكن
يقرأ كل واحد منهم على رجل أو يقرأ عليهم رجل منهم.
(18/349)
قال محمد بن رشد: أجاز أن يقرأ الواحد على
الواحد وعلى الجماعة، وهذا هو المختار المستحسن الذي لا اختلاف فيه. وكره
أن تقرأ الجماعة على الجماعة وعلى الواحد، وقد اختلف قوله في ذلك: فخففه في
رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة في رسم سلعة سماها منه. فوجه
الكراهة في ذلك أنه إذا قرأت الجماعة على الواحد لا بد أن يفوته سماع ما
يقرأ به بعضهم ما دام يصغي إلى غيرهم ويشتغل بالرد على من يصغي إليه منهم،
فقد يخطئ في ذلك الحين ويظن أنه قد سمعه وأجاز قراءته، فيحمل عنه الخطأ
ويظنه مذهبا له. وكذلك إذا قرأت الجماعة على الجماعة؛ لأن كل واحد من
الجماعة التي تقرأ عليها الجماعة لا بد أن يفوته سماع ما يقرأ به بعضهم ما
دام يصغي إلى غيرهم ويشتغل بالرد على من يخطئ منهم. ووجه تخفيف ذلك المشقة
الداخلة على المقرئ بإفراد كل واحد من القراءة عليه إذا كثروا، ووجه تحسينه
لذلك إنما معناه، والله أعلم، إذا كثر القراء عليه حتى لم يقدر أن يعم
جميعهم مع الإفراد، فرأى جمعهم في القراءة أحسن من القطع ببعضهم، فهذا
تأويل ما ذهب إليه مالك، والله أعلم. وأما اجتماع الجماعة في القراءة في
سورة واحدة أو في سور مختلفة دون أن يقرؤوا على أحدهم فهو من البدع
المكروهة لم يختلف قول مالك في ذلك. وقد مضى الكلام على ذلك في رسم سن من
سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة وفي رسم لم يدرك من سماع عيسى وبالله
التوفيق.
[تفسير الفصيلة]
في تفسير الفصيلة
قال [مالك] وسألته عن قول الله عز وجل:
(18/350)
{وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ}
[المعارج: 13] من هي؟ قال هي أمه.
قال محمد بن رشد: هذا قول الحسن؟ وقيل في فصيلته التي تؤويه إنها أدنى
قبيلة منه، قال ذلك أبو إسحاق؛ وقال الكلبي الفصيلة أصغر من الفخذ سميت
بذلك حين انفصلت من الفخذ، ثم العشيرة وهم بنو الأب الأدنى الذي يجمعهم.
قال والعشيرة كعبد مناف من قريش، والفضيلة كقصي بن كلاب، والفخذ كلؤي بن
غالب. وقال أبو عبيدة: فصيلته فخذه. قال أبو جعفر، وابن الكلبي أعلم بذلك
منه، وبالله التوفيق.
[تفسير قوله عز وجل اهبطوا مصرا]
في تفسير قوله عز وجل {اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة: 61] وسئل عن قول الله
عز وجل: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61]
أي مصر هي؟ قال: هي في رأيي بلاد فرعون.
قال محمد بن رشد: قرأ بعض من شذ عن السبعة مصر - بغير ألف- فعلى هذا لا
يشكل أن المراد بها- مصر نفسها، [أي مصر فرعون] ، كما قال مالك، مثل قوله
عز وجل: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] ولم
يقرأ أحد من السبعة مصر بغير ألف؛ لأن القراءة بذلك تخالف المصحف. وفي
القراءة بالألف وجهان: أحدهما أن يراد بها مصر بعينها، أي مصر فرعون كما
قال مالك: بجعل مصر اسما للبلد فصرف لأنه مذكر سمي به مذكر، والثاني أن
يراد بها مصر من الأمصار لأنكم في البر البدو، والذي طلبتم لا يكون في
البوادي ولا في الفيافي، وقد قيل إن مصرا هذه الأرض المقدسة، وبالله
التوفيق.
(18/351)
[تفسير قوله عز
وجل كانوا قليلا من الليل ما يهجعون]
في تفسير قوله عز وجل:
{كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] وسئل
مالك، عن قول الله عز وجل: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] أهو النوم؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: الهجوع: النوم، كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فمعنى
ما وصفهم الله عز وجل به أنهم كانوا لا ينامون من الليل إلا قليلا لسهرهم
فيما يقربهم من ربهم. والتقدير على هذا كانوا قليلا من الليل ما يهجعون،
وما صلة لا موضع لها من الإعراب، والقليل منصوب بيهجعون، فالمعنى كانوا
يهجعون قليلا من الليل. وقد تكون ما في موضع رفع كأنه قال كانوا قليلا من
الليل هجوعهم. وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال في معنى الآية: كانوا
يستيقظون ويصلون ما بين هاتين الصلاتين المغرب والعشاء، قال أي لم تكن تمضي
عليهم ليلة إلا يأخذون فيها ولو شيئا. فعلى هذا القول تكون ما جحدا، ويكون
المعنى الإخبار عنهم بأنهم يسهرون قليلا من الليل ولا ينامونه. والقول
الأول أولى؛ لأن الله وصفهم بكثرة العمل وسهر الليل وقيامه في العبادة،
وبالله التوفيق.
[تفسير قول الله عز وجل ولذلك خلقهم]
في تفسير قول الله عز وجل: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] قال وسألته
عن قول الله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] {إِلا
مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] أللاختلاف خلقهم؟
فقال:
(18/352)
أي خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في
السعير.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك صحيح واضح؛ لأن الله تعالى خلق عباده لما
يسرهم له مما قدره عليهم من طاعة وإيمان يصيرون به إلى الجنة، أو كفر
وعصيان يصيرون به إلى النار، يتبين ذلك من تفسيره قوله إثر ذلك: {وَتَمَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ} [هود: 119] أي سبقت كلمة ربك {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] أي من كلا الفريقين من
الجنة والناس أجمعين، أي من بعضهم لا باستيعاب جميعهم؛ لأن من تدل على
التبعيض. وقوله في أول الآية: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ
أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] أي على ملة واحدة وهي الإيمان والإسلام مثل
قوله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ
جَمِيعًا} [يونس: 99] . وقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118]
معناه ولا يزال من الناس من أهل ملل الكفر يختلفون فيما يدينون به من أنواع
الكفر؛ لأنهم في ريب من أمرهم وشك لتكذيبهم الحق. قال الله تعالى: {بَلْ
كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5]
أي ملتبس، وعامة الناس كفار. فقوله عز وجل: {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}
[هود: 119] وهم المؤمنون، استثناهم [الله عز وجل] من الناس فعلم بذلك أنهم
لم يدخلوا في عموم قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] إذ لم
يختلفوا فيما يختلف فيه الكفار من البعث والتوحيد والإقرار للنبي- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرسالة. فقول من قال في تأويل قوله عز وجل:
{وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] إنه خلقهم للاختلاف، أو
(18/353)
إنه خلقهم للرحمة لا يصح، إذ لم يخلق
جميعهم للاختلاف ولا للرحمة، بل خلق الكفار منهم للاختلاف. والعذاب،
والمؤمنين منهم للاتفاق والرحمة، وبالله التوفيق.
[المصاحف لا تكتب على ما يخالف هجاء المصحف
الأول]
في أن المصاحف لا تكتب على ما يخالف
هجاء المصحف الأول وسئل مالك: أرأيت من كتب مصحفا اليوم، أترى أن يكتب على
ما أحكم الناس من الهجاء اليوم؟ فقال لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة
الأولى. ومما يبين هذا عندي أنه هكذا أن براءة لما لم يوجد أولها لم يكتب
فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لئلا يضع في غير موضعه، والناس
كلما كتبوا في الألواح من القرآن من أول السورة أو آخرها كتبوا قبله بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولم يحكم ذلك في المصحف حين لم يجدوا أول
براءة. قيل له أفرأيت تأليف القرآن كيف جاء هكذا وقد بدأ بالسور الكبار
الأول فالأول، وبعضه نزل قبل بعض؟ فقال: أجل، قد نزل بمكة ونزل عليه
بالمدينة، ولكن أرى أنهم ألفوه على ما كانوا يتبعون من قراءة رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت له: أرأيت الذين يتعلمون القرآن
في الألواح أترى أن يكتبوا فيها بسم الله الرحمن
(18/354)
الرحيم مع أول السورة ثم لا يكتبون بعد
ذلك؟ فقال: لا، بل أرى كل ما كتب من القرآن شيئا أن يبدأ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ لأنه مما يتعلمه ليس يجعله إماما، وإنما الذي أكره
أن يكتب فيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول سورة في المصاحف
لأنها تتخذ إماما، فلا أرى أن يزاد في المصحف ما ليس فيه. وأما من يكتب في
الألواح ما يتعلم فليكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في افتتاح
السورة ووسطها وآخرها، كلما افتتح كتاب شيء منها افتتحه بكتاب بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ولا يزال إنسان يسألني عن نقط القرآن
فأقول له أما الإمام من المصاحف فلا أرى أن ينقط ولا يزاد في المصاحف ما لم
يكن فيها، فأما مصاحف صغار يتعلم فيها الصبيان وألواحهم فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا كله بين، رأى أن يتبع في كتاب المصاحف هجاء
المصحف القديم وأن لا يخالف ذلك، كما اتبع ما وجد فيه من ترك بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول سورة براءة، وكره النقط في الإمام
من المصاحف والشكل على ما قاله في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من
كتاب الصلاة؛ لأن النقط والشكل مما اختلف القراء في كثير منه، إذ لم يجئ
مجيئا متواترا فلا يحصل العلم بأن ذلك نزل، وقد يختلف المعنى [باختلافه
فكره أن يثبت في] أمهات المصاحف ما فيه اختلاف. ورخص في صغار المصاحف التي
يتعلم فيها الولدان أن تشكل وتنقط، وأجاز لمن كتب القرآن في اللوح أن يكتب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في افتتاح السورة، يريد كانت براءة
أو غيرها، وفي وسطها وفي آخرها. وقوله وإنما
(18/355)
الذي أكره أن يكتب فيه بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول سورة في المصاحف لأنه يتخذ إماما فلا أرى أن
يزاد في المصحف ما ليس فيه، معناه في سورة براءة؛ لأن سورة براءة هي التي
لم يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أولها، وأما سائر السور
فبسم الله الرحمن الرحيم ثابت في أول كل سورة منها. وقد مضى في أول رسم من
سماع ابن القاسم الوجه في ترك كتاب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في أول سورة براءة، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[ما جاء في الحين]
فيما جاء في الحين وسئل عن قول الله عز
وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ
شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] أهو ما بين أن حمل به إلى أن وضعته أمه؟
فقال: لا، ولكن ما مضى قبل ذلك من الدهر كله، وقبل أن يخلق آدم. وقيل هو
حين يعرف وحين لا يعرف. فمن الحين الذي لا يعرف هذا. وقوله عز وجل:
{وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 44] فهذا الحين الذي لا يعرف ولا يدرى متى
هو. والحين الذي يعرف: قوله عز وجل: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ
بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] فهذا الحين الذي يعرف، وهو سنة.
قال محمد بن رشد: إنما سأله عن الحين في قوله عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى
الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] هل هو ما بين أن حمل به
إلى أن
(18/356)
وضعته أمه من أجل أن الإنسان لم يكن قبل
ذلك إنسانا. والتلاوة إنما هي {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1]
فقول مالك أن الحين ها هنا ما مضى من الدهر كله وقبل أن يخلق آدم، يقتضي أن
قول الله عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}
[الإنسان: 1] [مجاز من القول تقديره: هل أتى على عالم الإنسان حين من
الدهر] لم يكن شيئا مذكورا خرج مخرج {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي
واسأل أهل القرية.
وهل هنا ليست استفهاما، وإنما هي بمعنى التقرير والوجوب، فمعنى الكلام على
هذا: ألم يعلم الإنسان بالنظر الصحيح أنه قد مضى دهر طويل قبل أن يخلق ولم
يكن شيئا مذكورا عند أحد من الخلق؛ لأنه لم يزل في الأزل مذكورا معلوما عند
الله أنه سيخلقه. وقد قيل إن المراد بالإنسان ههنا آدم، وبالحين أربعون سنة
[وهي المدة التي] كان فيها آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - طينة لم ينفخ فيه
الروح، روي ذلك عن ابن عباس. ومعنى الكلام التقرير والتوبيخ وإقامة الحجة
على من أنكر البعث، وكأنه معطوف على خاتمة السورة التي قبلها قوله فيها:
{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]
ألم يأت دهر طويل لم يكن الإنسان فيه شيئا مذكورا فقال إن من أحدثه بعد أن
لم يكن، وكونه بعد عدمه، قادر على إحيائه وبعثه بعد موته، كما قال:
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ}
[الواقعة: 62] وقوله بعد ذلك: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [الإنسان: 2]
أي ولد آدم، {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] يعني ألوانا
(18/357)
مختلطة، ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة
أصفر رقيق، والولد يكون منهما جميعا. وبالله التوفيق.
[الأشد ما هو]
في الأشد ما هو؟ وسئل عن قول الله عز
وجل: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] ما
الأشد؟ قال: الحلم. وقال مالك: قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ
الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}
[الإسراء: 34] فالأشد ها هنا الحلم. قيل له: فقوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا
بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] قال هذا شيء
بعد شيء، فالأشد هو الحلم
قال محمد بن رشد: اختلف في الأشد اختلافا كثيرا، فقيل الحلم وهو الذي ذهب
إليه مالك وقال به جماعة منهم الشعبي، قال وذلك إذا كتبت له الحسنات وكتبت
عليه السيئات؛ وقيل إنه عشرون؛ وقيل إنه ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين؛
وقيل أيضا ما بين سبعة عشر إلى أربعين. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول:
الأشد ثلاثة وثلاثون، والاستواء أربعون، والعمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن
آدم ستون سنة.
والأشد جمع، واحده شد في قول الكسائي والفراء، إلا أن الفراء قال: لم أسمعه
ولكني قسته على شد النهار وهو ارتفاعه، وبالله التوفيق.
(18/358)
[ما جاء عن عمر
بن الخطاب في السفر]
قال مالك، وقال يحيى بن سعيد إن عمر بن الخطاب قال: لأن أموت ما بين شعبتي
راحلتي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أموت على فراشي.
قال محمد بن رشد: اختار عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السفر
للتجارة على القعود؛ لأن الرجل يؤجر على طلب الربح في ماله ليعود به على
عياله، أو ليستغني به عن الناس، أو ليفعل به خيرا.
[حكاية عن سليمان بن عبد الملك]
قال مالك: لما حضرت سليمان بن عبد الملك الوفاة دعا بنين له صغارا فعقد
عليهم السيوف بحمائلها يريد لهم الخلافة، فرآهم يجرونها، فقال: إن بني صيبة
صيفيون، أفلح من كان له ربعيون، ثم قال إن بني صيبة صغار، أفلح من كان له
بنون كبار، فقال له عمر بن عبد العزيز: ليس كذلك، قال: قال الله تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى} [الأعلى: 15] ، قال صدقت.
قال محمد بن رشد: فاستخلف عمر بن عبد العزيز، وكان استخلافه له فيما ذكر
[على ما حكي] عن رجاء بن حيوة. قال: لما وعك سليمان بن عبد الملك جعل العهد
بعده- لبعض بنيه، وكان الذي عهد إليه غلاما لم يبلغ الحلم. فقلت يا أمير
المؤمنين، إنه مما يحفظ الخليفة في
(18/359)
قبره أن يستخلف على المسلمين رجلا صالحا
مرضيا، قال صدقت، ومزق الكتاب الذي كان كتب بعهده، ثم قال: فما ترى في داود
بن سليمان؟ فقلت يا أمير المؤمنين هو غائب عنك بقسطنطينية، وأنت لا تدري
أحي هو أم ميت، فقال لي: فمن ترى؟ قلت: رأيك. فقال: كيف ترى في عمر بن عبد
العزيز؟ فقلت أعلمه والله خيرا فاضلا، فقال هو كذلك، وإن وليته - ولن أولي
أحدا غيره- ليكونن فتنة ولا يتركونه أبدا يلي عليهم إلا أن يكون أحدهم
بعده، ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم، قال فجعل يزيد بن عبد
الملك بعده فإن ذلك مما يسكنهم، فقلت: رأيك يا أمير المؤمنين، فكتب:
هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليتك
الخلافة بعدي، ومن بعدك يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا
الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم.
وختم الكتاب وجمع أهل بيته، فلما دخلوا عليه وسلموا قال لهم: هذا الكتاب
عهدي وهو يشير إليه بيد رجاء بن حيوة، فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا لمن سميت
فيه، فبايعوا رجلا رجلا ثم خرجوا والكتاب مختوم في يد رجاء بن حيوة. قال
رجاء فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال لي: إني أخشى أن يكون هذا
الأمر أسند إلي فأنشدك بالله وبما بيني وبينك إلا ما أعلمتني فنستدرك الأمر
في حياته بالاستعفاء، فقلت: والله لا أخبرك بحرف، فذهب علي غضبان. قال
رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك فقال: أنشدك بالله وبما بيني وبينك إلا ما
أعلمتني بهذا الأمر، فإن كان لي علمت، وإن كان لغيري تكلمت، فليس مثلي ممن
يقصر به، فقلت والله لا
(18/360)
أخبرك بشيء مما أسر به إلي، فانصرف وقد يئس
وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى. فلما حضرته الوفاة قال: الآن يا رجاء
فحولني إلى القبلة، فحولته إلى القبلة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدا عبده ورسوله. فلما قضى نحبه غمضته وسجيته بقطيفة خضراء، وأرسلت إلي
زوجته كيف أصبح؟ فقلت هو نائم وقد تغطى، فنظر رسولها إليه فرجع وأخبرها،
فقبلت ذلك وظنت أنه نائم، فجعلت على الباب من أثق به ووصيته أن لا يبرح حتى
آتيه ولا يدخل على الخليفة أحد، وأرسلت إلى أهل بيت أمير المؤمنين،
فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت بايعوا، فقالوا قد بايعنا مرة ونبايع أخرى.
فقلت هذا عهد أمير المؤمنين أن تبايعوا ثانية لمن سمى في هذا الكتاب،
فبايعوا ثانية رجلا رجلا. قال رجاء: فلما بايعوا بعد موت سليمان ورأيت أني
قد أحكمت الأمر، قلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات أمير المؤمنين، فقالوا إنا
لله وإنا إليه راجعون. ثم قرأت الكتاب عليهم، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن
عبد العزيز نادى هشام بن عبد الملك لا نبايعه أبدا، فقلت إذا والله أضرب
عنقك قم فبايع، فقام يجر رجليه فبايع. قال رجاء: فأخذت بضبعي عمر بن عبد
العزيز فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما
أخطأه، فكان يرجى لسليمان بن عبد الملك بتوليته [عمر بن عبد العزيز] وتركه
ولده أن يؤجر على ذلك ويجازى به. ولما غسل سليمان وكفن صلى عليه عمر بن عبد
العزيز، فلما فرغ من كفنه أتي بمراكب. الخلافة فقال: دابتي أوفق لي، فركب
دابته وصرفت تلك الدواب. ثم أقبل سائرا فقيل له: تعدل إلى منزل الخلافة،
فقال فيه عيال أبي أيوب، وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا، فأقام في منزله حتى
فرغ له، وبالله التوفيق.
(18/361)
[ترك محمد بن مسلمة الدخول في الفتنة]
في ترك محمد بن مسلمة الدخول في الفتنة
قال مالك: كان يحيى بن سعيد يحدث أن محمد بن مسلمة صاحب النبي- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيره لما كانت الفتنة اعتزلوا، فنزل محمد
الربذة، فجاءه ناس من أهل العراق فجعلوا يحضونه ويقولون: تقوم بالناس وتنظر
في أمورهم يحرضونه بذلك، فقال لأحدهم: قم إلى غمد سيفي هذا فسل سيفي منه،
فقام فوجده قد كسره قطعة قطعة، فقال: إن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لي: «إذا رأيت من الأمور فاكسر سيفك على حجر من
الحرة والزم بيتك وعض على لسانك» .
قال محمد بن رشد: محمد بن مسلمة هذا الأنصاري الخزرجي من فضلاء الصحابة،
شهد بدرا وسائر المشاهد، وهو أحد الذين قتلوا كعب بن الأشرف، واستخلفه رسول
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض غزواته على المدينة،
فاعتزل الفتنة ولم يشهد الجمل ولا صفين. وروي أنه إنما اتخذ سيفا من خشب
وجعله في جفن وذكر أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره
بذلك. والذي فعل من ذلك هو كان الواجب عليه بما كان عنده فيه عن النبي-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والذين اعتزلوا الفتنة من الصحابة
سواه على ما روي ثلاثة: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد،
لم تبن لهم البصيرة في اتباع إحدى الطائفتين فكفوا؛
(18/362)
وسائرهم دخلوا فيها بما ظهر لهم من البصيرة
باجتهادهم، فكلهم محمود؛ لأنهم فعلوا الواجب عليهم في ذلك باجتهادهم، فلا
يتأول على أحد منهم غير هذا، إذ هم خير أمة اختارهم الله لصحبة نبيه ونصرة
دينه، وأثنى عليهم في غير ما آية من كتابه فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الآية وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] إلى قوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}
[الفتح: 29] وبالله التوفيق لا شريك له.
[حكاية عن عمر بن عبد العزيز]
قال: قال مالك: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: اشتر لي [ثوب] فرو بدينار،
فاشتراه ثم جاءه به فلبسه، ثم قال له: أما زدت شيئا؟ فقال: لا، فقالت
امرأته فاطمة بنت عبد الملك: إن عندنا لكذا وكذا فروا يأبى أن يلبس منها
شيئا، ومن الأشياء يأبى أن يقرب منها شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا من تواضعه وورعه وقنوعه بالدون من اللباس في خلافته،
معلوم من سيرته. فقد مضى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم أنه أمر رجلا
يشتري له ثوبا بستمائة درهم للحاف فسخطه، فلما ولي أمر ذلك الرجل أن يشتري
له كساء بسبعة دراهم، فلما جاءه به أخذه فلبسه ثم تعجب لحسنه، فضحك الرجل،
فقال له: إني لأظنك أحمق تضحك من غير شيء، قال: إنما ضحكت لمكان اللحاف
الذي أمرتني أن
(18/363)
أشتريه بستمائة درهم، قال فمضت ساعة ثم
قال: أخشى أن لا يشتري أحد ثوبا بستمائة درهم وهو يخاف الله. وترك أيضا
في خلافته أن يخدم على ما مضى في الرسم المذكور، فكان يدخل بعد المغرب
فيجد الخوان موضوعا عليه منديل فيتناوله فيقربه إليه ويكشف المنديل
فيأكل ويدعو عليه من كان معه، وبالله التوفيق.
[ما يروى من الكرامات]
فيما يروى من الكرامات قال مالك:
سمعت أن قوما أخذوا شاة فذبحوها فنهاهم عن أخذها رجل، فأبوا إلا أن
يفعلوا. فلما ذبحوها كسلوا عن إصلاحها فتركوها، فقال: قد نهيتكم عن
ذبحها فأبيتم ثم تركتموها تفسد باطلا، ثم قام هو فأصلحها وعملها لهم
حتى فرغ منها، ثم قال لهم: هاكم كلوا وأبى أن يأكل معهم شيئا منها.
فقالوا له تعال كل معنا، فأبى أن يفعل وانطلق ينام تحت شجرة، فانتبه
وعنده رطب من أرض الروم في أرض ليس فيها رطب.
قال محمد بن رشد: ما فعل الرجل من إصلاح الشاة كيلا تفسد فلا ينتفع بها
إن تركت حسن من الفعل يؤجر عليه فاعله عليه؛ لأنه يصير بإصلاحها لهم قد
أطعمهم إياها. وأما انتباهه وعنده الرطب فذلك- إن صح- كرامة له.
وكرامات الأولياء يصدق بها أهل السنة لجوازها في العقل، والعلم بوجودها
في الجملة من جهة النقل المتواتر وإن لم يثبت شيء منها بعينه تواترا في
جهة ولي من الأولياء في غير زمن النبوءة، وبالله التوفيق.
(18/364)
[ذكر بعض ما جرى يوم الحرة]
في ذكر بعض ما جرى يوم الحرة
قال مالك: قال يحيى بن سعيد: سمعت سعيد بن المسيب يقول: دخل علي يوم
الحرة فرسان منهم بخيولهم المسجد فجلسوا معي يتحدثون.
قال محمد بن رشد: قد مضى ذكر يوم الحرة وما جرى فيه في رسم نذر من سماع
ابن القاسم فأغنى ذلك عن إعادته، وبالله التوفيق.
[استئذان عمر رضي الله عنه عائشة رضي الله
عنها في أن يدفن مع النبي]
في استئذان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
في أن يدفن مع النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبه قال
مالك: قال عمر بن الخطاب حين حضرته الوفاة: إني كنت استأذنت عائشة إذا
مت أن أدفن في بيتها فقالت: نعم، وإني لا أدري لعلها قالت ذلك من أجل
سلطاني، فإذا مت فاسألوها ذلك، فإن قبلت فادفنوني فيه، وإن أبت
فانصرفوا بي.
قال مالك: بلغني أن عائشة كانت تدخل البيت الذي فيه قبر النبي- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر حاسرة، فلما دفن فيه عمر لم تكن
تدخله إلا جمعت عليها ثيابها.
قال محمد بن رشد: ليس في استئذان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لعائشة
في أن يدفن في بيتها معنى يشكل لأنه بيتها، فلو منعت من ذلك لكان حقا
من حقها، وإنما لم تكن تدخل البيت منذ دفن فيه حاسرة لما جاء به القرآن
وتواترت به الآثار من أن الأرواح لا تموت بموت الأجسام، وأن الأجسام هي
التي تموت بقبض الأرواح منها وهي الأنفس والنسم. قال الله
(18/365)
عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ
حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]
وقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27]
{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28]
{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] {وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:
30] وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما نسمة
المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» .
وقال: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل
الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال له هذا
مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة» . وقد جاء في الأرواح أنها
باقية في القبور وأنها تطلع رؤوسها، وأن أكثر إطلاعها يوم الخميس وليلة
الجمعة وليلة السبت. فلما لم تأمن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن
تكون روح عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بفناء قبره في الوقت الذي تدخل
البيت، لم تدخله إلا وقد جمعت عليها ثيابها. وهذا منها نهاية في الورع
والتوقي، وليس بلازم؛ لأن الستر إنما يلزم من الأحياء في الدنيا حيث
أمر الله به، لا من أرواح الموتى، وبالله التوفيق.
[ما ذكر من ترك الصلاة في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم]
فيما ذكر من] ترك الصلاة في مسجد
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مالك: وسمعت يحيى
بن سعيد يقول: لم تترك الصلاة في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ كان إلا ثلاثة
(18/366)
أيام: يوم قتل عثمان، ويوم الحرة، قال
مالك: ونسيت اليوم الثالث.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والقول عليه في رسم نذر سنة من سماع ابن
القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[اغتباط الرجل بما يصيبه مما يؤجر عليه]
في اغتباط الرجل بما يصيبه مما يؤجر عليه
قال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما أغبط رجلا لم يصبه أذى في
هذا الأمر.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله في هذا الأمر بث العلم أن يصدع بالحق فيه
وإن كره ذلك المقول له من الأمراء حتى يصيبه من قبله مكروه وأذى؛ لأن
الذي يصيبه في ذلك هو خير ساقه الله إليه. قال النبي- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يصب منه» وبالله التوفيق.
[أن النبي صلى الله عليه وسلم أول من تنشق
عنه الأرض]
في أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أول من تنشق عنه الأرض قال مالك: سمعت أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(18/367)
قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأرفع
رأسي فأجد موسى متعلقا بالعرش فلا أدري أكان فيمن صعق أم كفته الصعقة
الأولى» .
قال محمد بن رشد: كذا وقع هنا هذا الحديث محذوفا، وكماله على ما خرجه
البخاري من رواية أبي هريرة قال: «استب رجل من المسلمين ورجل من
اليهود، فقال المسلم والذي اصطفى محمدا على العالمين، في قسم يقسم به،
وقال اليهودي والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده
فلطم وجه اليهودي فذهب اليهودي إلى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فقال لا تخيروني على
موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من أفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش
فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله.» وفي غير
هذا الحديث: «فلا أدري أصعق فيمن صعق أم أخذته الصعقة الأولى» . وفي
غيره: «فلا أدري أحوسب بالصعقة التي صعقها أم أفاق قبلي» ويريد بقوله
في الحديث فإن الناس يصعقون أي يموتون بالنفخة الثانية، وهي نفخة
الصعق؛ لأنها ثلاث نفخات: نفخة
(18/368)
الفزع، قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}
[النمل: 87] ، والنفخة الثانية نفخة الصعق، قال الله عز وجل: {وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ
إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] ؛ والنفخة الثالثة نفخة البعث،
قال الله عز وجل: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ
يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] فيموت بالنفخة الثانية نفخة الصعق كل حي من
الإنس والجن وغيرهم وروح كل ميت إلا من شاء الله. وقد اختلف في هذا
الاستثناء فقيل المراد به أرواح الشهداء إذ لا يفزعون في النفخة الأولى
ولا يموتون في النفخة الثانية، وقيل المراد به جبريل وميكائيل وملك
الموت، روي ذلك كله عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم
يأمر الله عز وجل ملك الموت فيقبض روح ميكائيل، ثم يقول لملك الموت مت
فيموت، ثم لجبريل مثل ذلك. وقد قيل إن المستثنى في نفخة الفزع أرواح
الشهداء، وفي نفخة الصعق جبريل وميكائيل وملك الموت.
وقوله في الحديث: «فلا أدري أكان فيمن صعق وأفاق قبلي أو كان ممن
استثنى الله» فمعناه فلا أدري أكان روحه فيمن صعق إذ قد مات قبل النفخ
في الصور. وصعقة موسى الأولى التي شك النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن يكون جوزي بها في صعقة النفخ هي صعقة الطور، إذا سأل
ربه أن يريه النظر إليه فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ
لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف: 143] الآية
إلى قوله: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ
تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] . وقد
اختلف في هذه الصعقة فقيل إنه غشي عليه ثم أفاق،
(18/369)
وقيل بل مات ثم رد الله عز وجل عليه روحه،
والله أعلم، وبالله التوفيق.
[سيرة عمر رضي الله عنه في قسم المال]
في سيرة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قسم المال قال مالك: حدثني
زيد بن أسلم أنه قال، قال ابن الأرقم لعمر بن الخطاب إن ها هنا حليا
ومناطق وظمان مما كان لفارس أفلا تقسمه؟ قال بلى، إذا رأيتني فارغا
فأذني، فأذنته يوما فقال: ائتني به، قال فنقلته إليه في القفاف. فلما
رآه رأى شيئا عجيبا فوضعه بين يديه وقال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن
نحب ما حببت إلينا، ثم تلا هذه الآية: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] الآية،
ثم قال: اللهم قني شره، وارزقني أن أنفقه في حله، مرتين، فما برح حتى
قسمه كله. قال مالك: وقال ذلك الرجل جمعوا فأوعوا، فلا ذهبوا بما جمعوا
ولا أقاموا فيه.
قال محمد بن رشد: ابن الأرقم هذا هو عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث
القرشي الزهري، كان على بيت المال لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - مدة خلافته كلها، وسنين من خلافة عثمان حتى استعفاه فأعفاه.
أسلم عام الفتح، وكتب للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
وبلغ من أمانته عنده أنه كان يكتب عنه إلى بعض الملوك فيأمره أن يطينه
ويختمه وما يقرؤه عليه لأمانته عنده. وروي أنه ورد على النبي- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتاب فقال: من يجيب عني فقال عبد الله بن
الأرقم أنا، فأجاب عنه وأتى به إليه فأعجبه
(18/370)
وأنفذه. وكان عمر حاضرا فأعجبه ذلك منه
وقال أصاب ما أراد رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم
يزل ذلك له في نفسه حتى ولي فاستعمله على بيت المال، وكتب أيضا لأبي
بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وبالله التوفيق.
[القصاص للعبد من سيده]
في القصاص للعبد من سيده «سئل رسول
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن العبيد فقال: يقتص لهم
منكم يوم القيامة توزن ذنوبهم وعقوبتكم إياهم فيقتص لهم منكم. فسئل
رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الولد فكأنه قال
ليس الولد مثل ذلك لا يكسى ويعرى ولا يشبع ويجوع» .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، والحمد لله وبه التوفيق لا شريك
له.
[قول القاسم بن محمد في سعيد بن المسيب]
قال مالك: وسئل القاسم بن محمد في علمه وفضله عن شيء فقال للسائل: هل
سألت أحدا؟ قال نعم، عروة، فقال: هل سألت سعيدا؟ فقال نعم، قال فما قال
لك؟ فأخبره، فقال له
(18/371)
القاسم فأطعه فهو سيدنا وخيرتا.
قال محمد بن رشد: إقرار القاسم بن محمد لسعيد بن المسيب بالتقدم والخير
خير منه وفضل، فلا يعرف الفضل لأولي الفضل إلا أهل الفضل، وبالله
التوفيق.
[الدجالين الذين يبعثون قبل الساعة]
في الدجالين الذين يبعثون قبل الساعة
قال مالك: قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا
تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون أكثر من ثلاثين.» قال وسمعت بعض
الناس يقول: كلهم يقول أنا رسول الله.
قال محمد بن رشد: قوله حتى يبعث دجالون، معناه حتى يبعث على الناس
ابتلاء لهم واختبارا. وفي غير هذا الحديث حتى «يخرج ثلاثون دجالا كذابا
كلهم يكذب على الله ورسوله أحدهم الأعور الدجال ممسوح العين كأنها عنبة
طافية.» وهذا بين في المعنى، رواه عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - سمرة بن جندب. وقد روي عن أبي بكرة أنه قال: «أكثر الناس
في شأن مسيلمة الكذاب قبل أن يقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فيه شيئا، ثم قام رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في الناس فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله ثم قال أما
بعد في شأن هذا الرجل الذي قد
(18/372)
أكبرتم في شأنه فإنه كذاب من ثلاثين كذابا
يخرجون قبل الدجال، وإنه ليس بلد إلا يدخله رعب الدجال إلا المدينة على
كل نقب من أنقابها يومئذ ملكان يذبان عنها رعب المسيح.» ولم يذكر في
هذا الحديث أنهم دجالون كما قال في الحديث الذي قبله، فيحتمل أن يكونوا
غيرهم، ويحتمل أن يكونوا هم، وصفهم في الحديث الأول بالدجل لأنهم في
كذبهم كالدجال في كذبه، ولم يصفهم به في الحديث الثاني، وبالله
التوفيق.
[مشي عيسى ابن مريم على الماء]
في مشي عيسى ابن مريم على الماء قال
مالك: بلغني أن عيسى ابن مريم كان يمشي على الماء، فقال له رجل تمشي
على الماء؟ فقال له عيسى نعم وأنت تمشي على الماء إن لم تكن لك خطيئة.
فأخذ عيسى بيده حتى دخل الماء، فمشى الرجل مع عيسى على الماء ثم غرق،
فدعا عيسى الله فأنجاه. ثم قال له عيسى: مشيت على الماء ثم غرقت فقل ما
أحدثت؟ قال أجل حدثت نفسي بأنه ليس لك علي فضل.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والكلام عليه في رسم نذر سنة من سماع ابن
القاسم فغنينا بذلك عن إعادته، وبالله التوفيق.
(18/373)
[ما ورد في
تقوى الله عز وجل]
في تقوى الله عز وجل قال مالك: قال رجل لابن مسعود: أوصني، فقال له:
تتقي الله، فقال له زدني: فقال: تعمل بطاعة الله، فقال له زدني: فقال
له: زل مع القرآن حيثما زال، قال زدني قال لا أجد لك ولا لي مثل هذا.
قال محمد بن رشد: ما أوصاه به من تقوى الله عز وجل يدخل تحته العمل
بطاعة الله، وأن يزول مع القرآن حيثما زال؛ لأن من لم يعمل بطاعة الله
ولم يزل مع القرآن حيث زال فلم يتق الله، لكنه لما قال له زدني بين له
ما أجمله له من تقوى الله عز وجل الذي هو الأصل في كل شيء، به ينال ما
عند الله. قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:
52] .
[الحض على اتباع السنن]
في الحض على اتباع السنن قال مالك:
وبلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: سن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب
الله عز وجل واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها
ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها مهتد، ومن استنصر
بها منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى
وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
قال محمد بن رشد: يريد عمر بقوله وولاة الأمر من بعده الخلفاء
(18/374)
الراشدين المهتدين: أبا بكر، وعمر، وعثمان،
وعلي ابن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لقول النبي- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهتدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» وذلك مثل ما سنه عمر بن الخطاب
من أن يكون السدس الذي قضى به أبو بكر الصديق لإحدى الجدتين لما ثبت
عنده في ذلك عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أنه
بينهما] إن اجتمعتا فيه، فإن خلت به إحداهما كان لها، ومثل ما قضى به
من عتق أمهات الأولاد بعد موت ساداتهن من رؤوس أموالهم، واحتج في ذلك
فقال: خالطت دماؤنا دماءهن ولحومنا لحومهن؛ ومثل توفيته في حد الخمر
ثمانين بما أشار به علي بن أبي طالب بقوله: ترى أن تجلده ثمانين، فإنه
إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وبالله التوفيق.
[موضع المقام من البيت]
في موضع المقام من البيت،
ورؤية إبراهيم مناسك الحج
قال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقولون إن إبراهيم قام هذا المقام الذي
ثم الآن، فيزعمون أن ذلك إثر مقامه فيه، وأوحى الله عز وجل إلى الجبال
أن يفرج عنه حتى يرى المناسك. قال مالك: كان مقام إبراهيم قد قرب إلى
البيت مخافة السيل، فلما كان عمر ابن الخطاب رده إلى الموضع الذي هو
فيه الآن بخيوط وأخرج خيوطه وجدها فقاس بها حتى رده. قيل له: كيف رده
عمر وبعده من البيت وقد كان ذلك على عهد رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ
(18/375)
وسلم-؟ فقال يزعم أن الموضع الذي رده إليه
عمر هو موضعه الأول، ولكنه نحي مخافة السيل فقرب إلى البيت.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والقول فيه في رسم اغتسل على غير نية من
سماع ابن القاسم فأكتفي بذلك عن إعادته مرة أخرى، وبالله التوفيق.
[عزل العامل عن العمل بالشكاية]
في عزل العامل عن العمل] بالشكاية قال مالك: استعمل عمر بن الخطاب رجلا
على بعض الأمصار وأنه شكي فنزعه عمر، فلما لقيه عاتبه في ذلك فقال: أما
إني لم أظلم أحدا، قال فما شأنك تشتكى؟ قال: لم أحسن العمل.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن العامل يعزل عن العمل بالتشكي منه
إذا كثر ذلك عليه وإن لم يثبت عليه ما يشكى به منه، إذ لا حق له في
التمادي على الولاية وإن لم يحدث فيها ما يوجب عزله عنها، وبالله
التوفيق.
[حكاية عن سعيد بن المسيب في غلامه الآبق]
قال: وقال مالك: أبق من ابن المسيب غلام له فحضر بعض مغازي الروم، وكان
شجاعا فقاتل قتالا شديدا، ثم نقص وترك
(18/376)
ذلك، فدعاه صاحب الجيش رجل من قريش فقال ما
شأنك كنت تقاتل ثم تركت ذلك؟ فقال إني غلام لابن المسيب فخفت أن أقتل،
فقال له: قاتل فإن قتلت فقيمتك علي بالغا ما بلغت، فقاتل فقتل، فقدم
القرشي المدينة فأرسل إلى ابن المسيب فأبى أن يأتيه، فقال قدمت وكان
الحق لي وأنا رجل من قريش ولم تأتني فأرسلت إليك، فقال سعيد: لم تكن لي
إليك حاجة فآتيك، فإن كانت لك حاجة فأت، فقال القرشي: فإن لي حاجة غلام
كان لك ضمنت له أن أرضيك من ثمنه، فثمن علي ما شئت فإنه قاتل حتى قتل
في سبيل الله. قال ابن المسيب: والله لا أجد له ثمنا، أجره لي وهو في
النار.
قال محمد بن رشد: إباية سعيد بن المسيب أن يأخذ لعبده ثمنا وأن يحلل
عبده مما صنع هو على ما يعرف من مذهبه في أنه كان لا يرى أن يحلل أحدا
من تباعة له عليه ويرى ذلك أفضل. وقد مضى الكلام على ذلك والاختلاف فيه
في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم.
وأما قوله وهو في النار فمعناه الذي أراد أنه في النار إذ أبق مني
وقاتل بغير إذني ليذكر بالشجاعة، إن لم يغفر الله له. فقد جاء في
الحديث: أن «أول [خلق] . تسعر بهم النار يوم القيامة رجل قاتل ليقال
فلان جريء؛ حتى قتل، ورجل تصدق ليقال فلان جواد، ورجل قرأ القرآن وقام
به ليقال فلان قارئ» في حديث طويل قد ذكرته بطوله في صدر كتاب
المقدمات، وبالله التوفيق.
(18/377)
[بعض الأنبياء أفضل من بعض]
في أن بعض الأنبياء أفضل من بعض قال
مالك: بلغني أن موسى قال: يا رب أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما لم تعط
أحدا من العالمين، لم تذكر إلا ذكروا ولا ذكروا إلا ذكرت. فقال أما
إبراهيم فإنه لا يخير بيني وبين شيء إلا اختارني، وأما يعقوب فإني لم
أبتله ببلاء قط إلا ازداد بي حسن ظن، وأما إسحاق فإنه جاد لي بنفسه وهو
بما وراءها أجود. قيل لمالك: وما معنى إذا ذكرت ذكروا وإذا ذكروا ذكرت،
قال إذا ذكر الصالحون إنما يذكرون بذكر الله وبطاعتهم له.
قال محمد بن رشد: قد تقدم هذا والقول فيه في رسم شك في طوافه من سماع
ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[من يخرج من النار]
فيمن يخرج من النار قال مالك: قال
رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يخرج من النار من في
قلبه مثقال ذرة من إيمان كأنهم الحمم قد امتحنوا» . قال رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيطرحون في نهر في الجنة يقال
له نهر الحيوان أو الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبة بجانب السيل. ألم
تروا كيف تنبت صفراء ملتوية» .
قال محمد بن رشد: الحديث بهذا صحيح خرجه البخاري وغيره، ومعناه أن
العصاة من المؤمنين الذي استوجبوا النار بذنوبهم يخرجون من النار
(18/378)
بشفاعة النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حتى لا يبقى فيها من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من
إيمان. وتصديق ذلك في كتاب الله قوله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] . فقوله: {فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وعد من الله
عز وجل على عمومه لا بد أن يكون؛ لأن الله لا يخلف الميعاد. وأما قوله
عز وجل: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:
8] فهو وعيد ليس على عمومه، ومعناه فيمن لا يغفر له؛ لأن الله عز وجل
يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . وقد قيل في وعيد الله عز
وجل إنه ليس بحتم قد ينفذه وقد لا ينفذه؛ لأن الخلف في الوعيد من صفات
المدح قال الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدتة ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
والأول هو الصحيح أن الوعيد متوجه إلى من علم الله عز وجل أنه ينفذ
عليه الوعيد ولا يغفر له. وفي قوله: مثقال ذرة من إيمان دليل على أن
الإيمان يتفاضل. وفي معنى تفاضل الإيمان وزيادته ونقصانه اختلاف قد
ذكرناه وحصلنا القول فيه في صدر كتاب المقدمات. فقوله في الحديث «إنه
يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» معناه من كان معه من
الإيمان أدنى مراتبه التي إن نقص منه شيء عاد شكا أو كفرا. وتفاضله
بقوة اليقين فيه والعلم به والبعد من طروء الشكوك عليه. والإيمان ليس
بجسم فيعبر بالوزن. فقوله فيه مثقال حبة من إيمان إنما هو تمثيل، وقد
يمثل ما يعقل ولا يوزن بما يعلم مما يوزن ليفهم المعنى فيه، وبالله
التوفيق.
(18/379)
[فضل هشام بن حكيم]
في فضل هشام بن حكيم قال مالك: «رأى
هشام بن حكيم بن حزام ناسا يعذبون في الخراج، فقال ما شأنهم؟ قالوا
يعذبون في الخراج، فقال: أشهد لسمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إن الله تبارك وتعالى يعذب يوم القيامة
الذين يعذبون الناس في الدنيا» . قال مالك: وكان عمر بن الخطاب يقول
إذا ذكر له أمر: أما والله ما بقيت أنا وهشام بن حكيم فلا يكون ذلك.
قال محمد بن رشد: هشام بن حكيم بن حزام القرشي الأسدي هذا أسلم يوم
الفتح، وكان من فضلاء الصحابة وخيارهم الآمرين بالمعروف الناهين عن
المنكر. روي عن ابن شهاب أنه قال: كان هشام بن حكيم في نفر من أهل
الشام يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ليس لأحد عليهم إمارة، وكان
جزلا جلدا قويا في ذات الله لا يخاف في الله لومة لائم. وكفى من صفته
بهذا قول عمر بن الخطاب فيه: أما ما بقيت أنا وهشام فلا يكون هذا،
وبالله التوفيق.
[كراهة السؤال عما لا تلزم معرفته وعن المشكلات]
في كراهة السؤال عما لا تلزم معرفته وعن
المشكلات قال مالك: حدثني يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أنه
كان يقول: يا أهل العراق، والله ما كل ما تسألوننا عنه نعلمه، ولأن
يعيش المرء جاهلا إلا أنه يعلم ما افترض الله عليه خير له من أن يقول
على الله ما لا يعلم.
(18/380)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، و
[من] الحجة فيه قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من
حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» . وقد مضى في رسم البز من سماع ابن
القاسم في تفسير الراسخين في العلم ما فيه بيان هذا، وبالله التوفيق.
[أن الله يظهر على عبده ما يخفيه من عبادة
ربه]
في أن الله يظهر على عبده
ما يخفيه من عبادة ربه قال مالك: قال الحسن البصري: ابن آدم، اعمل
وأغلق عليك سبعة أبواب. قال مالك: يقول إن الله يخرج ذلك.
قال محمد بن رشد: يشهد بصحة هذا ما جاء «من أن من أسر سريرة ألبسه الله
رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر» وبالله التوفيق.
[الحض على حياطة الدين]
في الحض على حياطة الدين قال مالك:
وكان عطاء بن يسار يقول: دينكم دينكم، لا أوصيكم بدنياكم أنتم عليها
حراص وأنتم بها بصراء.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا يحتاج إلى تفسير، وبالله
التوفيق.
(18/381)
[استحباب الدعاء في حوائج الدنيا]
في استحباب الدعاء في حوائج الدنيا
قال مالك: وقال يحيى بن سعيد: كنت بأرض المغرب فطلبت حاجة من حوائج
الدنيا فأهمتني وأكثرت الدعاء فيها حين اشتد إبطاء ذلك علي، فذكرت ذلك
لشيخ كنت أجالسه فقال: لا تكره ذلك، فإن الله قد بارك لعبد في حاجة أذن
له فيها بالدعاء.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في رسم اغتسل على غير نية من سماع
ابن القاسم بزيادة المعنى الذي من أجله قال له الشيخ لا تكره ذلك، وهو
أنه قال: فرغبت فيها ونصبت واجتهدت، ثم ندمت بعد ذلك فقلت: لو كان
دعائي هذا في حاجة من حوائج آخرتي، فذكرت ذلك لشيخ كنت أجالسه فقال
الحديث. وقوله فإن الله قد بارك لعبد في حاجة أذن له فيها بالدعاء،
معناه قد بارك له في حاجة وفقه فيها للدعاء، إذ هو مأذون له في الدعاء
في جميع حوائجه؛ لأن الدعاء عبادة من العبادة يؤجر فيها الأجر العظيم،
أجيبت دعوته فيما دعا فيه أو لم تجب؛ لأنه لا يدعو ويجتهد في الدعاء
إلا بإيمان صحيح ونية خالصة، ولن يضيع له ذلك عند الله، فإن الله عز
وجل يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]
فهذا وجه بركة تلك الحاجة عليه أن كانت سببا لانتفاعه بدعائه في آخرته
وإن حرم المنفعة به في دنياه؛ لأن الذي أعطي خير من الذي حرم. وليس
فيما جاء في الحديث عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«ما من داع يدعو إلا كان في إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، وإما أن يدخر
له، وإما أن يكفر عنه» ما يدل على أنه لا يدخر له ولا يكفر عنه إذا
استجيب له؛ لأن المعنى فيه إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له مع
أن يدخر له أو يكفر عنه، وإما [أن يدخر له،
(18/382)
وإما] أن يكفر عنه مع الاستيجاب له، وبالله
التوفيق.
[لا يعلم ما في غد إلا الله]
في أنه لا يعلم ما في غد إلا الله
قال مالك: وزعم يحيى بن سعيد أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - سمع جواري يقلن في نكاح أو ما أشبهه، ولا أعلم إلا نكاحا:
وأهدى لها أكبشا ... تبحبح في المربد
وزوجها في النادي ... يعلم ما في غد
فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يعلم ما في
غد إلا الله» .
قال محمد بن رشد: قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما يعلم ما في
غد إلا الله» يبين أن قول الله عز وجل: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا
تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:
34] معناه ولا تدري نفس ما يكون غدا من كسب ولا غيره. وإنما ذكر في
الآية الكسب دون ما سواه من الأشياء لأنه جل ما يحرص الناس على معرفته
من الأشياء. وقد مضى هذا بزيادة بيان فيه من رسم
(18/383)
الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن
القاسم، وبالله التوفيق.
[حكاية عن أبي هريرة في إتيانه الوليمة]
قال مالك: كان أبو هريرة يدعى إلى وليمة فيزاحم فيذهب فيلبس ثوبا ثم
يأتي فيدخل، فإذا أتي بالطعام دلى كميه فيه فيقال له مهلا يا أبا
هريرة، فيقول إنما أذن للثوب، قد أتيت فلم يؤذن لي، ثم يقول: ذهب حبي
ولم ير من هذا شيئا وبقيتم بعده تهربون الدنيا ثم يبكي.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه الحكاية في رسم طلق بن حبيب بمساق أحسن
من هذا. وذلك أنه قال فيه بلغني أن أبا هريرة دعي إلى وليمة فساق
الحكاية إلى آخرها بمعناها. وإنما قلنا إنه أحسن من هذا لأن قوله كان
أبو هريرة يدعى يدل على أن ذلك كان شأنه أبدا، والأظهر أنه إنما اعتراه
هذا مرة واحدة. وهذا وشبهه يعتري من سياقة الحديث على المعنى، ولهذا
كرهه من كرهه حسب ما مضى القول فيه قبل هذا في هذا السماع، وبالله
التوفيق.
[سبب وقوع داود عليه السلام في الخطيئة]
في سبب وقوع داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الخطيئة قال مالك: بلغني
أن تلك الحمامة أتت فدفعت قريبا من داود النبي وهي من ذهب، فلما رآها
أعجبته فقام ليأخذها فكانت قرب يده فصنعت مثل ذلك ثم طارت، فاتبعها
ببصره فوقعت عينه على تلك المرأة وهي تغتسل ولها شعر طويل، فبلغني أنه
أقام أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموع عينيه.
(18/384)
قال محمد بن رشد: جاء في هذا التفسير أن
داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: رب اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى
تكليما، فوددت أنك أعطيتني من ذلك شيئا كمثل ما أعطيتهما، قال الله
تعالى: " إني ابتليتهما بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتليتك بما
ابتليتهما وأعطيتك مثل ما أعطيتهما، قال داود: أي رب نعم. فقال الله عز
وجل له: اعمل عملك حتى يتبين بلاؤك، فمكث كذلك ما شاء الله يقوم الليل
ويصوم النهار، فكان على ذلك، فبينما هو في المحراب ذات يوم والزبور بين
يديه، إذ جاء طائر فوقع قريبا منه فتناوله داود فطار إلى الكوة فقام
ليأخذه. وقال بعضهم: وضع مصحفه وقام ليأخذه، فوقع الطائر إلى البستان،
فأشرف داود فنظر فإذا هو بامرأة تغتسل في البستان، فعجب من حسنها،
ونظرت فأبصرت ظله فنفضت شعرها فغطاها فزاده ذلك عجبا بها، ثم أرسل
غلاما له فقال: اتبع هذه المرأة واعلم من هي وبنت من هي وهل لها زوج؟
فاتبعها الغلام حتى عرفها، فرجع فقال هي ابنة فلان زوجها فلان، وزوجها
يومئذ مع ابن أخت داود في بعث [فكتب داود إلى ابن أخته أن ابعث فلانا
بعزيمة فلا يرجع حتى يفتح المدينة أو يقتل، فبعثه] فقتل، فلما انقضت
عدة المرأة أرسل إليها فتزوجها فهي أم سليمان بن داود - عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ - فلما رأى الله عز وجل ما وقع فيه عبده أحب أن يستنقذه
فأرسل إليه ملكين في صفة رجلين، فأتياه في المحراب والحرس حول المحراب،
وهم ثلاثة وثلاثون ألفا، فرأى داود الرجلين قد تسورا المحراب ففزع
منهما وقال: لقد ضعف سلطاني حتى إن الناس يتسورون محرابي، فقال أحدهما:
{لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] إلى قوله:
{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ
كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:
24]
(18/385)
فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه وضحك. فلما رأى
داود ضحكه علم أنه مفتون، فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب وبقي ساجدا
أربعين يوما حتى نبت العشب من دموعه، لا يقوم من سجوده ذلك إلا إلى
صلاة أو لقضاء حاجة لا بد منها، فتاب الله عليه.
وهذا مثل ضربه الملكان لداود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بأمر الله إياهما
بذلك إجلالا لداود وإكراما له أن يستقبلاه بأنك أخطأت أو جرت، فضربا له
مثلا برجلين هذه صفتهما، فلما حكم على أحدهما بأنه ظلم ارتفع الملكان
عنه، فحينئذ علم أنهما ملكان بعثهما الله لينبهاه على ما كان منه. ولم
يكن داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علم أن الذي كان منه عليه فيه إثم،
وكذلك سائر الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لا يعلمون على
تعمد المعصية، إنما هي على تأويل أو غفلة أو نسيان، والله أعلم.
وحكى بعض المفسرين أن داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جمع عباد بني
إسرائيل فقال أيكم كان يمتنع من الشيطان يوما لو وكله الله إلى نفسه؟
فقالوا لا أحد إلا أنبياء الله، فكأنه عرض إليهم، فبينما هو في المحراب
في يوم صلاته والحرس حوله والجنود إذا هو بطير حسن قد وقع على شرافة من
شرافات المحراب. قال بعضهم من ذهب، وبعضهم جؤجؤه من ذهب وجناحاه ديباج،
ورأسه ياقوتة حمراء، فأعجبه وكان له بني يحبه، فلما أعجبه حسنه وقع في
نفسه أن يأخذه فيعطيه ابنه. فانصرف إليه، فجعل يطير من شرفة إلى شرفة
ولا يؤيسه حتى طار فوق ظهر المحراب، وخلف المحراب حائط يغتسل فيه
النساء الحيض إذا طهرن لا يشرف على ذلك
(18/386)
الحائط أحد إلا من صعد المحراب، والمحراب
لا يصعده أحد من الناس. فصعد داود خلف ذلك الطير، ففاجأته امرأة جاره
وهي تغتسل، فرآها فجأة ثم غض بصره عنها وأعجبته، الحديث إلى آخره بمعنى
الحديث الأول وإن خالفه في بعض ألفاظه. ومعنى قوله عز وجل حكاية عن
الملكين: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] أي غلبني في الحجة، أي
كان أقدر على الاحتجاج مني. يقال: عزه يعزه عزا: إذا غلبه. ومن
أمثالهم: من عز بز. وهذا مثل ضربه الملكان لداود - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- في غلبته أوريا زوج المرأة في أمره بالقتال من غير اختياره، وبالله
التوفيق.
[مشي عيسى ابن مريم على الماء وإحيائه الموتى]
في مشي عيسى ابن مريم على الماء وإحيائه
الموتى قال مالك: ذكر أن عيسى ابن مريم أتته امرأتان فقالتا: إن
أبانا هلك ولم يودع، فادع الله أن يحييه، فقال أتعرفان قبره؟ قالتا
نعم. فذهب معهما فأتتا قبرا فقالتا هو هذا، فدعا فأخرج لهما فإذا هو
ليس أباهما، فدعا فرد، ثم ذهبتا إلى قبر أبيهما، فدعا الله أن يحييه
فأحياه فلصقتا به وسلمتا عليه ثم قالتا له، يا نبي الله يا معلم الخير،
ادع الله أن يبعثه بيننا حيا، قال وكيف أدعو الله ولم يبق له رزق في
الدنيا يأكله.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه الحكاية والقول فيها من رسم نذر سنة من
سماع ابن القاسم فغنينا بذلك عن إعادته، وبالله التوفيق.
(18/387)
[فضل سلمان الفارسي]
في فضل سلمان الفارسي قال مالك:
وكان سلمان الفارسي لا يأخذ من أحد شيئا إلا من عمل يده، وكان يستظل
الأفياء في ظل الجدر، فجاءه رجل فقال له: ائذن لي أن أبني لك بيتا تسكن
فيه، فقال نعم. فلما ولى الرجل قال سلمان الفارسي: أتدري كيف تبني؟ قال
نعم: أبني لك بيتا إذا اضطجعت فيه مست رجلاك الجدار، وإذا قمت فيه مس
رأسك السقف، فقال نعم.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه الحكاية عن سلمان الخير بزيادة في رسم
البز من سماع ابن القاسم، ومضى هناك القول على ذلك فلا وجه لإعادته،
وبالله التوفيق.
[كراهة السفر في طلب شيء من الدنيا لا يشوبه شيء من أمر الآخرة]
في كراهة السفر في طلب شيء من الدنيا لا
يشوبه شيء من أمر الآخرة
قال مالك: سمعت رجلا من أهل الصلاح والفضل مرة يقول: ما أحب أن أسافر
ليلة في طلب شيء من الدنيا لا أخلطه بغيره وأن لي مرغوبا فيه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم هذا قبل هذا في هذا السماع والقول فيه،
وبالله التوفيق.
[السوائب وحكمها]
في السوائب
قال مالك قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قد
علمت
(18/388)
أن أول الناس نصب النصب وسيب السوائب وغير
دين إبراهيم عمرو بن لحي ولقد رأيته في النار يجر قصبه يؤذي أهل النار
بريحه» . قال مالك: والسوائب من الغنم.
قال محمد بن رشد: قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولقد
رأيته في النار إلى آخر قوله، معناه أنه مثلت له النار وكونه فيها في
الآخرة حتى رأى حاله في الآخرة ممثلا في الدنيا عيانا. وقد مضى القول
في السوائب والبحائر في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها من سماع ابن
القاسم، وبالله التوفيق لا شريك له.
[ما جاء من أن أزواج النبي عليه السلام كن
يراجعنه]
قال مالك: راجعت عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار في شيء، فامتعض من ذلك
وقال: ما كان النساء هكذا، فقالت بلى، وأزواج النبي- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يراجعنه، فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة ابنته فقال
لها: أتراجعين رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت
نعم، ولو أعلم أنه يكرهه ما فعلت. فلما بلغ عمر أن رسول الله- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير نساءه قال: رغم أنف حفصة.
(18/389)
قال محمد بن رشد: الحديث بهذا عن عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مشهور، والمعنى فيه بين معلوم.
[تغير الأديان في آخر الزمان]
في تغير الأديان في آخر الزمان قال
مالك وقال يحيى بن سعيد، قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «يأتي على الناس زمان يمسي المرء مؤمنا ويصبح كافرا ويصبح
مؤمنا ويمسي كافرا. فقيل يا رسول الله فأين العقول ذلك الزمان؟ قال
تنزع عقول أهل ذلك الزمان» .
قال محمد بن رشد: المعنى في ذلك أن البصائر تضعف في ذلك الزمان بكثرة
الارتداد عن الإسلام إلى الكفر. وقوله: فأين العقول ذلك الزمان؟ معناه
فأين البصائر التي لذوي العقول في ذلك الزمان؟ وقوله تنزع عقولهم،
معناه تنزع بصائر عقول أكثرهم، وبالله التوفيق.
[إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بخروج
الخوارج]
في إعلام النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخروج الخوارج
قال مالك زعم يحيى بن سعيد قال: «كان في حجر بلال فضة ورسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبض منها فيعطي الناس، فجاءه رجل
فقال اعدل، فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويحك
من يعدل إذا لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أعدل، فقال
(18/390)
عمر بن الخطاب: ائذن لي يا رسول الله في
ضرب عنقه، فقال له رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يخرجون فيكم
يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية»
.
قال محمد بن رشد: الرجل القائل ذلك للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ذو الخويصرة رجل من بني تميم. ووقع الحديث بكماله في آخر
كتاب الجهاد من المدونة من رواية يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو
سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري قال: «بينما نحن عند رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة
وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل، فقال رسول الله- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل. قال عمر يا
رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه، فقال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم
صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم
يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد
فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه فلا
يوجد فيه شيء، وهو القدح، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، سبق
الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة
تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد فأشهد أني سمعت هذا
من رسول الله
(18/391)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس
فوجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي نعت» .
والنصل: حديدة السهم؟ والرصاف: العقب الذي يشد على الرعظ، وهو مدخل
السهم في الزج؟ والقدح: عود السهم، وقال الخليل هو ما جاوز من السهم
إلى النصل. وواحد الرصاف رصفه، والقذذ: ريش السهم، واحدتها قذة. النضي
القدح قبل أن ينحت. وقال أبو عمرو هو نصل السهم، وبالله التوفيق.
[سبب إسلام كعب الأحبار]
في سبب إسلام كعب الأحبار قال وسمعت
بعض من أرضى يقول قال كعب الأحبار: أول ما دخلني الإسلام أني سمعت
قارئا يقرأ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى
أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ}
[النساء: 47] فدخل الإسلام في قلبي. قال مالك: حسبت أنه قال سمعته يقول
من جوف الليل.
قال محمد بن رشد: إنما أسلم كعب الأحبار ساعة سماعه الآية لأنه داخل
تحت الوعيد المذكور فيها، إذ خوطب بها اليهود من أهل الكتاب. قال الله
عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا
نَزَّلْنَا} [النساء: 47] ، أي على محمد، مصدقا لما معكم، أي في
التوراة {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى
أَدْبَارِهَا} [النساء: 47] ، قيل معناه تحول الوجوه إلى الأقفا، فتكون
(18/392)
وجوههم من ورائهم؟ وقيل معناه نجعل وجوههم
منابت الشعر مثل وجه القرد، لأن منبت الشعر من الآدميين في الأقفا؛
وقيل المراد بالوجوه الدين والإسلام، فالمعنى من قبل أن ترد بصائرهم في
الهدى والدين إلى الكفر والضلال فنضلهم إضلالا لا يؤمنون بعده أبدا
جزاء لهم على عنادهم، {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ
السَّبْتِ} [النساء: 47] معناه أو نلعنكم فنخزيكم ونجعلكم قردة كما
لعنا أصحاب السبت، أي أخزينا وأبعدنا الذين اعتدوا في السبت من أسلافكم
وجعلناهم قردة وخنازير، فرجع إلى الخبر عن الغائب وقد كان الكلام على
الخطاب، وذلك كثير، منه قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي
الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] ؛ ويحتمل
أن يكون المعنى {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا
عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ
السَّبْتِ} [النساء: 47] ، أي أو نلعن أصحاب الوجوه، فلا يكون في
الكلام على هذا رجوع من المخاطب إلى الغائب.
فإن قيل إذا كان تأويل الآية على ما ذكرتم من الوعيد، فهل لحقهم الوعيد
إذ لم يؤمنوا؟ قيل له: لم يلحقهم الوعيد لأنه آمن منهم جماعة، منهم عبد
الله بن سلام، وثعلبة بن شعبة، وأسيد بن سعيد، وجماعة غيرهم، فرفع ذلك
عنهم بإيمان من آمن منهم. وقيل معنى ما ذكر من طمس الوجوه إنما هو في
الآخرة فيحشرون مشوهين، وبالله التوفيق.
[قول عمر بن الخطاب لأسيد بن الحضير فيما كان يكسوه إياه]
في قول عمر بن الخطاب لأسيد بن الحضير فيما
كان يكسوه إياه
قال مالك: وكان عمر بن الخطاب يلبس الحلل وكان عمر بن
(18/393)
الخطاب يكسوها الناس، فكان يكسو منها أسيد
بن الحضير فيبيعها فيشتري بفضل ثمنها عبدا فيعتقه، فكره عمر أن يرى في
عطيته خلل واختلاف، فقال وعنده أسيد: يعمد أحدهم أكسوه وأعطيه فيبيع
ذلك، يوشك أن يفعل ذلك أحدهم فلا أعطيه. فقال له أسيد: يغفر الله لك إن
بعت فقدمت لنفسي تمنعني حقي، فقال عمر: لا والله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه الحكاية والقول فيها في رسم أخذ يشرب خمرا
من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[قول ابن مسعود في الربيع بن خثيم]
في قول ابن مسعود في الربيع بن خثيم
قال مالك: وكان ذلك الرجل إذا رآه ابن مسعود قال: {وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34] كان تستأذنه ابنته تقول له: دعني أذهب
ألعب، فيأبى عليها، فقال له رجل ما يمنعك أن تقول لها نعم؟ قال أكره أن
أجده في صحيفتي يوم القيامة.
قال محمد بن رشد: قيل إن الرجل الذي قال فيه ابن مسعود هذا الربيع بن
خثيم، وامتناعه من أن يأذن لابنته فيما استأذنته فيه من اللعب مخافة أن
يجد ذلك في صحيفته يوم القيامة، إذ قد جاء أن كل ما لا يكتبه صاحب
اليمين يكتبه صاحب الشمال، نهاية في الورع والزهد والخوف لله عز وجل.
ومن خشي مثل هذا وخافه وتحرج منه على خفته، إذ الجواز أظهر فيه بل
الاستجاب، فقد كانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تلعب بالبنات
بعلم رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا ينكر ذلك
عليها، بل كان سرب الجواري إليها يلعبن معها. ووجه استحبابه من جهة
المعنى ما يدخله من السرور عليه بالإذن له في ذلك فيؤجر، وقد قال الله
عز وجل:
(18/394)
{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ
وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] ، فهو من المخبتين كما قال ابن مسعود، لأن
المخبت هو الرجل الخائف الخاشع الخاضع لله بالطاعة، المذعن له
بالعبادة، المطمئن إليه قلبه. قال الله عز وجل: {وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34] {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج: 35] ،
وبالله التوفيق.
[ما ذكر من أن الأرض على حوت]
فيما ذكر من أن الأرض على حوت
قال مالك: وزعم زيد بن أسلم أن نبيا من الأنبياء قال لهم: إن الأرض على
حوت، فكذبه رجل فقعدا على شط بحر فمر حوت مثل الطرف، فقال أهذا هو؟ قال
لا، ثم مر حوت، فقال مالك لا أدري ما قدره، فقال: أهذا هو؟ فقال لا، ثم
مر حوت آخر من حين أضحى النهار إلى الظهر فقال: أهو هذا؟ قال إن ذلك
الحوت يأكل كل يوم سبعين ألفا مثل هذا.
قال محمد بن رشد: قد جاء في تفسير قوله عز وجل: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا
يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] يعني بنون الحوت الذي عليه الأرض، روي ذلك عن
ابن عباس قال: ذلك أن الله عز وجل أول ما خلق القلم فجرى بما هو كائن
إلى يوم القيامة، ثم رفع بخار الماء فخلقت منه السموات، ثم خلق النون
فبسطت الأرض على ظهر النون، فتحركت النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال،
فإن الجبال لتفخر على الأرض. وقال الكلبي: تحت هذا الحوت ثور، وتحت
الثور صخرة خضراء، فخضرة السماء منها، وتحت الصخرة الثرى. وما يعلم ما
تحت الثرى إلا الله عز وجل. وجاء عن أبي هريرة أنه
(18/395)
قال: الأرضون على نون، ونون على الماء،
والماء على الصخرة، والصخرة لها أربعة أركان، على كل ركن منها ملك قائم
في الماء. وهذا كله لا تعرف حقيقته، إذ لا يقطع على صحة شيء منه من جهة
الرواية عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العالم بما
أعلمه الله عز وجل به من كبير ما غاب عن حواسنا. والذي نعلمه من ذلك
علم يقين ما أعلمنا الله عز وجل به في محكم كتابه من قوله: {إِنَّ
اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ
زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41] ،
فنحن نعتقد بما أعلمنا الله عز وجل به مع ما دل عليه من دلائل العقول
أن الله عز وجل يمسك السماوات والأرض بقدرته لا بشيء تعتمد عليه لولاه
لم تستقر، إذ لو احتاجت في استقرارها إلى ما تعتمد عليه من الأجسام
لاحتاج ذلك الذي تعتمد عليه إلى ما يعتمد عليه، والآخر إلى آخر إلى ما
لا نهاية له، وذلك محال وباطل ظاهر البطلان. وكذلك السماوات يمسكها
الله عز وجل عن أن تزول عن مواضعها أو تقع على الأرض بقدرته لا بما سوى
ذلك مما يستغنى به في ثبوتها عليه، وبالله التوفيق.
[ما جاء في القرآن من أن الجنة عرضها كعرض السماء والأرض]
فيما جاء في القرآن من أن الجنة عرضها كعرض
السماء والأرض
قال مالك قال لعمر بن الخطاب رجل: يقول الله عز وجل: {وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد: 21] فأين تكون
النار؟ فسكت عنه شيئا ثم قال له: أرأيت إذا جاء الليل أين يكون النهار؟
وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟ فقال الله أعلم، فقال عمر هو ذلك.
(18/396)
قال محمد بن رشد: قول الله عز وجل في سورة
الحديد: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد: 21] مبين لقوله في
سورة آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران: 133] ، فليس
في قول الله عز وجل إن عرض الجنة كعرض السماء والأرض ما يدل على أن
الجنة تستغرق السماء والأرض كما ظن السائل فسأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أين تكون النار؟ فأجابه بما أجابه به مما دل أنه سلم له
سؤاله، فالله أعلم بصحة هذا عن عمر بن الخطاب، لأن الجنة والنار
مخلوقتان، قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رأيت
الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا» وقال:
«اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين في
كل عام نفس في الشتاء ونفس في الصيف» . وعند أهل السنة، أن الجنة التي
وعد الله بها أولياءه في الآخرة هي الجنة التي أهبط منها آدم -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهي في السماء على ما دل عليه القرآن وجاءت به
الآثار، فليس في قول الله عز وجل إن الجنة التي أعدها الله لأوليائه في
السماء عرضها كعرض السماء والأرض معنى يشكل حتى يسأل من أجل ذلك أين
تكون النار؟ والذي جاء في تفسير ذلك أن معناه سبع سماوات وسبع أرضين
تلفقن كما تلفق الثياب بعضها إلى بعض، فيكون ذلك عرضها، ولا يصف أحد
طولها، وبالله التوفيق.
(18/397)
[ما أوصى به معاوية في ماله]
فيما أوصى به معاوية في ماله
قال مالك: لما حضرت معاوية بن أبي سفيان الوفاة أمر أن يجعل نصف ماله
في مال الله؛ أراد بذلك الذي صنع عمر بن الخطاب في مقاسمته عمالا من
عماله قاسمهم أموالهم، وإنما قاسمهم عمر لأنه ظهرت لهم بعد الولاية
أموال لم تكن تعرف لهم.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم قبل
هذا، وبالله التوفيق.
[شدة خشية عمر السؤال]
في شدة خشية عمر السؤال قال مالك:
وقال عمر بن الخطاب: والذي نفسي بيده لو هلك بشط الفرات جمل ضياعا
لظننت أن الله سائلي عنه.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والقول عليه في رسم سئل عن تأخير صلاة
العشاء من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[التعوذ من الحور بعد الكور]
في التعوذ من الحور بعد الكور وقال
مالك كان يقال: اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور، فسألته عن الحور
بعد الكور فقال: الحور الحول أن يحول بعدما كان على صلاح.
(18/398)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين،
والتعوذ منه واجب.
قال الله عز وجل: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] ، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149] ، وبالله
التوفيق.
[التلطف والمداراة]
في التلطف والمداراة قال مالك:
أخبرني [عبد الله] بن أبي بكر أن داود بن علي أعطاه جارية فدسها مدسا
حتى ردها إلى أهلها.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا، والله أعلم، أنه كره عطيته ولم يرد أن
يوحشه بأن لا يقبضها منه ولا بأن يردها عليه، فقبلها منه ثم تلطف في
ردها إليه لئلا يجد في نفسه في ذلك عليه. وهذا جائز للرجل أن يفعله،
قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مداراة الناس
صدقة» وبالله التوفيق.
(18/399)
[خروج الخارجة
على علي رضي الله عنه]
في خروج الخارجة على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال مالك: لما حكم
الحكمان أبو موسى وعمرو بن العاص خرجت الخارجة التي خرجت فقالوا لا حكم
إلا لله، فقال علي بن أبي طالب: ما يقولون؟ فأخبر فقال: كلمة حق أريد
بها باطل. قال مالك: فهي أول خارجة خرجت. قال مالك أراهم قد تعدوا
وكفروا الناس.
قال محمد بن رشد: هذه الخارجة هي الحرورية التي فارقت علي بن أبي طالب
وشهدت عليه بالشرك لما رضي بالتحكيم في أمر المسلمين وخرجت عليه، فأتى
علي بن أبي طالب فأخبر أنهم تجهزوا إلى الكوفة فقال: دعوهم ثم خرجوا
فنزلوا بالنهروان فمكثوا فيه شهرا، فقيل له اغزهم الآن، فقال لا حتى
يهرقوا الدماء ويقطعوا السبل ويخيفوا الأمن، فلم يهجهم حتى قتلوا،
فغزاهم فقتلوا. وروي عن ابن عباس أنه قال: أرسلني علي إلى الحرورية
لأكلمهم، فلما كلمتهم قالوا لا حكم إلا لله، قلت: أجل لا حكم إلا لله،
وإن الله قد حكم في رجل وامرأة، وحكم في قتل الصيد، فالحكم في رجل
وامرأة والصيد أفضل من الحكم في الأمة يرجع فيها ويحقن دماءها ويلم
شعثها؟ فقال ابن الكوا: دعوهم فإن الله قد أنبأكم أنهم قوم خصمون، وهم
الذين قال فيهم رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنهم
يخرجون على حين فرقة من الناس وعلى خير فرقة من الناس يمرقون من الدين
كما يمرق السهم من الرمية» الحديث، وبالله التوفيق.
(18/400)
[ما قاله
القراظ ليزيد بن معاوية]
في قول القراظ ليزيد بن معاوية قال مالك: وقف القراظ على يزيد بن
معاوية فقال له: أنت يزيد؟ فقال نعم، فقال ما أشبهك بأبيك، سمعت أبا
هريرة يقول، قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من
أراد بأهل المدينة أذى أذابه الله كما يذوب الملح في الماء» فقال يزيد:
أمجنون؟ فقال: هذا رجل صالح كان جليسا لأبي هريرة.
قال محمد بن رشد: القراظ هو بشر بن عبد الله من تابعي أهل المدينة.
وكان هذا من قوله ليزيد، والله أعلم، إذ أوقع بأهل المدينة يوم الحرة
ما أوقع. وقوله: ما أشبهك بأبيك، أراد به الضد كما يسمى المريض سليما،
والأعمى أبا بصير، والمهلكة المفازة، وبالله التوفيق.
[رؤية العبد شعر سيدته]
في رؤية العبد شعر سيدته وسئل مالك:
أيرى العبد شعر سيدته وقدميها وكفيها؟ فقال: أما الغلام الوغد فلا بأس
بذلك، وأما الغلام الذي له هيئة فلا أحبه. قيل أفيرى ذلك غلام زوجها
منها؟ فكأنه كرهه.
قال محمد بن رشد: أجاز للعبد الوغد أن يرى شعر سيدته، وكره
(18/401)
ذلك إذا كان له منظر ولم يحرمه، لقول الله
عز وجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] .
وقوله في غلام زوجها لما سأله عنه فكأنه كرهه، يدل على أنه فرق في ذلك
بين عبدها وعبد زوجها، ومعناه في الوغد استحسانا للمشقة الداخلة عليها
في الاحتجاب منه مع كثرة تردده وتطوفه؛ والقياس أنه كعبد الأجنبي في
ذلك. وأما الذي له منظر من عبيد زوجها فلا يجوز [له] أن يرى شعر زوج
سيده، وبالله التوفيق.
[مقالة عمر لعبد الله بن الأرقم]
في قول عمر لعبد الله بن الأرقم قال مالك قال عمر بن الخطاب لعبد الله
بن الأرقم: لو كان لك مثل سابقة القوم ما قدمت عليك أحدا. قال مالك:
وينبغي أن يقدم أهل التقدم والفضل، قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ
أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا
وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] فقلت له: وما يعني
بقوله: ما قدمت عليك أحدا، فقال: [أن] لا يولي عليه أحدا، وكان ذلك في
عقد الولاية.
(18/402)
قال محمد بن رشد: تفسير مالك لقول عمر بن
الخطاب [بقوله] لا يولي عليه أحدا، يحتاج إلى تفسير، ومعناه لا يؤثر
أحدا بالولاية عليه. وقد مضى قبل هذا من هذا السماع قول عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - في عبد الله بن الأرقم هذا والقول فيه، وبالله
التوفيق.
[جزاء المرء على ما يتكلم به من الخير أو الشر]
في جزاء المرء على ما يتكلم به من الخير أو
الشر
قال مالك: كان بلال بن الحارث [المزني] يحدث أن رسول الله- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المرء ليتكلم بالكلمة من رضوان
الله ما كان يظن أنها تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم
يلقاه، وإن المرء ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما
بلغت فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه.. فكان بلال يقول: فلقد
منعني هذا الحديث من كلام كثير» . قال مالك: فكان ابن مسعود يقول:
تكلموا بالحق [تعرفوا به] واعملوا به تكونوا من أهله.
قال محمد بن رشد: هذا الحديث ذكره مالك في جامع موطأه، وذكر عقبه من
قول أبي هريرة مثله بمعناه قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها
بالا يهوي بها في نار جهنم، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها
(18/403)
بالا يرفعه الله بها في الجنة. وقد روي عنه
مسندا إلى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والكلمة من
رضوان الله أو من سخطه التي يكتب الله بها رضوانه أو سخطه إلى يوم
القيامة هي الكلمة عند السلطان يرده بها عن جور أو إثم أو يعينه بها
على ذلك، لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك، لما جاء فيه مما يدل عليه،
وبالله التوفيق.
[ما جاء أنه من أشراط الساعة]
فيما جاء أنه من أشراط الساعة وقال
مالك قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقوم
الساعة حتى تكثر الزلازل ويتقارب الزمان ويقبض العلم [من الناس» ] .
قال محمد بن رشد: تقارب الزمان سرعة ذهابه فيما يخيل إلى الناس، وقبض
العلم يكون بقبض العلماء. قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا- ينتزعه من القلوب ولكن
يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا
فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» .
[التنزه عن الخصام]
في التنزه عن الخصام وكان القاسم بن
محمد إذا كان بينه وبين الرجل المداراة في
(18/404)
شيء دعاه فقال له: إن كان الشيء لي فهو لك،
وإن كان لك فلا تحمدني. قال لي مالك: يكره لنفسه الخصومة وينزهها عنها.
قال محمد بن رشد: هذا من الخلق الكريمة العلية، يحمل على نفسه في ماله،
ولا يمتهنها في الخصام الذي يولد العداوة والهجران المنهي عنهما،
وبالله التوفيق.
[التحليل من الظلامات]
في التحليل من الظلامات قال مالك:
كان ابن المسيب إذا كان بينه وبين أحد شيء لم يخاصمه وقال: موعده يوم
القيامة ولا يحلله. وأتاه مكاتب له يستأذنه في الخروج، فقال لا، فذهب
المكاتب فأصلح شأنه وأراد الخروج، فقيل له: مكاتبك يخرج، فقال موعده
يوم القيامة. قال مالك: يوقن بيوم الحساب ويعلم أن الناس مستوفون
حقوقهم، فقيل لمالك: أيهم أحب إليك في نظر المرء لنفسه، أيترك ذلك
لطالبه ويحلله أم لا يفعل؟ فقال: ما أدري وما هذا بالبين، ولقد كان من
الناس من يرى ذلك وتأول حسنة بعشر أمثالها، وما هذا بالبين عندي ولا
هذا، والذي لم يعف لمستوف حقه.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا قبل في هذا السماع من مذهب سعيد بن المسيب
مثل هذا في غلامه الذي أبق، ومضى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم
تحصيل الاختلاف في التحليل من الظلامات فلا وجه لإعادته، وبالله
التوفيق.
(18/405)
[حكاية عن سعيد بن المسيب]
قال مالك: لما ضرب سعيد بن المسيب وحبس عمل له لحم فأتى به فقال ما
هذا؟ فقيل له: إذا حبس المرء عمل له مثل هذا، فقال: لا والله ما أريد
مثل هذا. انظروا الأربعة الأرغفة بالزيت التي كانت تعمل لي فأتوني بها.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه الحكاية عن
سعيد بن المسيب والقول فيها في رسم البز من سماع ابن القاسم فلا
معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[سيرة عمر بن الخطاب في سني الرمادة]
في سيرة عمر بن الخطاب في سني الرمادة
قال مالك: لما كان عام الرمادة في تلك الأزمنة كتب عمر بن الخطاب إلى
البلدان أن ياغوثاه للعرب، فكان يبعث إليه من مصر والشام بالعباء فيها
الدقيق على الإبل السمان، وأراه أمرهم بذلك فيبعث بها الرجال إليهم
فيقول: ينحر كل أهل بيت بعيرا ولا تدعونهم يستحيونه فإن العرب تتنافس
في الإبل [ويتخذونها] فليأتدموا بلحمه وشحمه، وليلبسوا تلك العباء، فإن
ذلك لن يذهب حتى يأتي الله بخير منه. وأقسم عمر ألا يأكل سمنا حتى يحيى
الناس من أول ما يحيون، فأكل الزيت وكان يستنكره، وكان يأكله
(18/406)
نيئا ومطبوخا، فاستنكره حتى أن كان ليخطب
[على الناس] على المنبر فيقرقر بطنه منه حتى يستحيي من الناس فيقول:
قرقر تقرقرك، فليس لك غيره حتى يحيى الناس. فخرج عمر بن الخطاب بعد ذلك
إلى سيل ينظر إليه ببطحان، فبج عليه رجل فقال له: أما والله يا أمير
المؤمنين ما كنت فيها بابن ثأداء ضعيفة، فعلاه عمر بالدرة فقال: ويحك،
وهل كان لأحد حول أو قوة إلا بالله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه الحكاية بعينها وإن اختلف بعض ألفاظها في
رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم والقول فيها. وإنما خرج إلى سيل
بطحان، والله أعلم، ليراه فيشكر الله على ما أغاثهم به من المطر الذي
أجراه، وبالله التوفيق.
[توقير الشيخ]
في توقير الشيخ قال مالك سمعت من
يقول: من تعظيم الله تعظيم ذي الشيبة المسلم.
قال محمد بن رشد: تعظيم الله عز وجل هو الخوف له والعمل بطاعته والبدار
إلى ما يقرب منه من الأعمال التي ترضيه. فلما كان توقير الشيخ الكبير
وتعظيمه مما يرضي الله عز وجل ويقرب منه بدليل قول النبي
(18/407)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولا وقر كبيرنا» اقتضى فعل ذلك لوجه الله
العظيم تعظيم الله، وبالله التوفيق.
[سن فرعون وما أملي له]
في سن فرعون وما أملي له قال مالك:
سمعت أن فرعون عاش أربعمائة سنة، [وأنه أقام بعد أن أتاه موسى -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالآيات وقال ما علمت لكم من إله غيري أربعين
سنة] . قال مالك قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] . قال مالك وسمعت بعض أهل
العلم يقول ما دخل على أحد في دينه أشد من الإملاء. قال وسألته عن
فرعون أمن بني إسرائيل هو؟ فقال: لا، ليس من بني إسرائيل.
قال محمد بن رشد: قول فرعون: "يا أيها الملأ، يريد أشراف قومه
وساداتهم، ما علمت لكم من إله غيري"، يريد فتعبدوا وتصدقوا موسى فيما
جاءكم به من أن له ولكم ربا غيري ومعبودا سواي، كذب منه تعمده، إذ قد
علم أن موسى رسول الله لما جاءهم به من الآيات. قال الله عز وجل:
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا
وَعُلُوًّا} [النمل: 14] والجحد لا يكون إلا من بعد المعرفة. وقوله:
{فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص: 38] أي فاعمل لي
آجرا، وذكر أنه أول من طبخ الآجر وبنى به. وقوله: فاجعل لي
(18/408)
صرحا، أي سطحا، وكل بناء مسطح فهو صرح.
وقوله: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر: 36] {أَسْبَابَ
السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 37] ، كلام
قاله، والله أعلم، استهزاء وسخريا، إذ لم يجهل أنه لا يقدر على أن يبلغ
أسباب السماء بصرح يبنيه له هامان، إذ لا يجهل ذلك من له عقل يصح به
التكليف، فقال ذلك استهزاء بموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، وأراد أن يبنى له الصرح مرتفعا مشيدا لا يقدر غيره من أهل زمانه على
مثله ليجعله دليلا له عند الملأ من قومه على ما يدعي من الربوبية. وهذا
الذي أقول به في معنى قوله {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر: 36]
{أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 37] وبالله التوفيق.
[لا يسلم أحد من أن يكون فيه ما يعاب به]
في أنه لا يسلم أحد
من أن يكون فيه ما يعاب به قال مالك وكان القاسم بن محمد يقول: من
الرجال رجال لا تذكر عيوبهم. قال مالك وقال طلحة بن عبيد الله: خف
الأمر وغلب سفهاء الناس علماءهم.
قال محمد بن رشد: قول القاسم إن من الرجال رجالا لا تذكر عيوبهم، صحيح،
والمعنى في ذلك ما قاله مالك من أن العيب إذا كان خفيفا والأمر كله
جميل حسن لم يذكر اليسير الذي ليس أحد منه بمعصوم مع هذا الصلاح
الكثير. وإذا كان طلحة بن عبيد الله يقول في زمنه خف الأمر وغلب سفهاء
الناس علماءهم، فناهيك من ذلك في زماننا هذا، أسأل الله العصمة
والتوفيق برحمته.
(18/409)
[إقرار عمر لأبي بكر باستحقاق الخلافة]
في إقرار عمر لأبي بكر باستحقاق الخلافة
قال مالك وقال عمر بن الخطاب: والذي نفسي بيده، لأن أقدم فتضرب عنقي
إلا أن تتغير نفسي عند الموت أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو
بكر.
قال محمد بن رشد: قال ذلك عمر بن الخطاب إذ حكي أن أبا بكر الصديق قال
إذ خطب في سقيفة بني ساعدة بعد موت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ
بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح. قال فلم أكره مما قال غيرها، كان والله
أن - أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على
قوم فيهم أبو بكر، حسبما مضى قبل هذا في هذا السماع. وبالله التوفيق.
في أن الناس عرفوا النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
من أبي بكر بقيامه ليستره من الشمس وقال مالك: رأى الناس رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر، فلم يدر الناس رسول
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أصابت رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشمس قام أبو بكر يستره منها،
فعرفوا رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال محمد بن رشد: كان هذا حين قدم النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(18/410)
وسلم- المدينة مهاجرا من مكة. وذلك أن
المسلمين بالمدينة لما سمعوا بخروج رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من مكة كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يؤذيهم
حر الظهيرة فينقلبون، فانقلبوا يوما، فلما أووا إلى بيوتهم رقي رجل من
اليهود على أطم لأمر يريده، فبصر برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وأصحابه يزول بهم السراب مبيضين، فلم يملك اليهودي أن صاح
بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرونه، فثار المسلمون إلى
سلاحهم وبلغوا رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بني
عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين في شهر ربيع الأول، وطفق من جاء من
الأنصار ممن لم يكن رأى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يحسبه أبا بكر، حتى إذا أصابت الشمس رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقبل أبو بكر حتى أظل على رسول الله- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بردائه، فعرف الناس عند ذلك رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالله التوفيق.
[حكاية عن أبي هريرة رضي الله عنه]
ُ - قال مالك: وحدثني من أصدق عن أبي هريرة أنه كان يقول: {إِذَا جَاءَ
نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] {وَرَأَيْتَ النَّاسَ
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2] ثم يقول: والذي
نفسي بيده لقد دخلوا في دين الله أفواجا، وإنه ليخرجون منه أفواجا.
قال محمد بن رشد: إنما قال ذلك أبو هريرة حين توفي رسول الله
(18/411)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وارتد من ارتد من العرب فأقسم على ما رأى حقيقته، وبالله التوفيق.
[ما جاء أنه من أشراط الساعة]
فيما جاء أنه من أشراط الساعة قال
مالك: وقد كان يقال من أشراط الساعة تقارب الأسواق، وقال ذلك في قلة
الأرباح.
قال محمد بن رشد: ما يروى أنه من أشراط الساعة المؤذنة بقربها كثير
أكثر من أن يحصى. وقد ظهرت كلها أو أكثرها، والنبي- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أشراط الساعة لأنه آخر الأنبياء. وأما الأشراط
الكبار التي بين يدي الساعة فهي خمسة: الدابة، والدجال، ونزول عيسى ابن
مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وبالله التوفيق.
[كراهة الذم والمدح في البيع والشراء]
في كراهة الذم والمدح في البيع والشراء
قال مالك وكان ابن مسعود يقول: عجبا لتاجر كيف يسلم، إن باع أطرى وإن
اشترى ذم.
قال محمد بن رشد: يريد كيف يسلم من مواقعة الإثم بالمدح مخافة أن يكون
بذلك غاشا بالمدح أو الذم. وقد قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من غشنا فليس منا» أي ليس على مثل هدينا وطريقتنا،
وبالله التوفيق.
(18/412)
[الاقتصاد في الملبس]
في الاقتصاد في الملبس قال مالك:
قالت ابنة العوام أخت الزبير لزوجها حكيم بن حزام، وكان كثير المال، ما
لك لا تلبس لباس الناس اليوم؟ قال: وما ترين ينقصني، وإزاري قطري،
وردائي معافري، وقميصي ملائي، وعمامتي حرمانية.
قال محمد بن رشد: الشهرتان في اللباس مذمومتان، والاقتصاد فيها هو
المختار. روى شعبة عن أبي إسحاق «عن أبي الأحوص عن أبيه أنه أتى النبي-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قشف الهيئة، فقال له رسول
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك مال؟ قال نعم، قال
من أي المال؟ قال من كل من الإبل والخيل والرقيق، قال فكل ما آتاك الله
من مال فلير عليك» . وقال عمر: إني لا أحب أن أنظر إلى القارئ أبيض
الثياب. والقارئ هو العابد الزاهد، لأن القراء عندهم هم. ومن هذا كان
يقال للخوارج قبل خروجهم القراء لما كانوا عليه من العبادة والاجتهاد.
ففي قول عمر هذا ما يدل على أن الزهد في الدنيا والعبادة ليس بلباس
الخشن الوسخ من الثياب، وقد قال- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: - إذا أوسع
الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم. «وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي نزع البردين
(18/413)
الخلقين ولبس الجديدين: ما له- ضرب الله
عنقه- أليس هذا خيرا له» وبالله التوفيق.
في إباية حكيم أخذ العطاء من عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قال مالك: وكان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يدعو حكيم بن
حزام إلى عطائه فيأبى أن يأخذه ويقول: قد تركته على خير منك. قال مالك:
وسمعت «أن حكيما سأل رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-[شيئا] فقال: إن خيرا لك ألا تأخذ من أحد شيئا، قال: ولا منك؟ قال:
ولا مني، قال: فلا آخذ من أحد شيئا أبدا» فتركه لذلك.
قال محمد بن رشد: لم يكن ترك الأخذ من النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خيرا من الأخذ منه من أجل أن في الأخذ منه كراهة، وإنما
كان ذلك خيرا له من أجل أنه إذا تركه فقد آثر به غيره ممن يعطاه. وقد
مضى الكلام على هذا المعنى في موضعين من رسم تأخير صلاة العشاء في
الحرس من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
(18/414)
[كراهة المحدثات من الأمور]
في كراهة المحدثات من الأمور قال
مالك وكان عبد الله بن مسعود يقول: خير الهدي هدي محمد وشر الأمور
محدثاتها.
قال محمد بن رشد: هذا بين، لأن المحدثات بدع، والبدع ضلال، وبالله
التوفيق.
[ترك أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الحديث]
في ترك أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
الحديث
قال مالك: قال لي عبد الله بن أبي بكر: ما مات أبي حتى ترك الحديث.
قال محمد بن رشد: [يريد] أنه تركه، والله أعلم، لما أسن فخشي أن يكون
حفظه قد ضعف لما يلحق مع الكبر من كثرة النسيان.
وقد روي أن ابن هرمز ترك الفتوى فقيل له في ذلك فقال: إني أجد في جسمي
ضعفا والقلب بضعة من الجسم، وأنا أخشى أن يكون قد ضعف فهمي كما ضعف
جسمي، وبالله التوفيق.
[الستة الملعونين من هم]
في الستة الملعونين قال أشهب بن عبد العزيز: حدثني ابن أبي الموالي أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ستة لعنهم الله
وكل نبيء مجاب:
(18/415)
الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله،
والمحل ما حرم الله والتارك لسنتي، والمتسلط في الأرض بالجبروت يذل
بغير الحق من أعز الله ويعز من أذل الله، والمستأثر بالفيء المستحل له»
.
قال محمد بن رشد: اللعن الخزي والطرد والإبعاد من الرحمة، ومن لعنه
الله فقد استوجب النار ببعده من الرحمة، وبالله التوفيق.
[ما جاء من الدنيا خضرة حلوة]
فيما جاء من الدنيا خضرة حلوة قال
مالك: قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدنيا
خضرة حلوة من أخذها بحقها بورك له فيها. ورب متحول في مال الله ورسوله
ليس له يوم القيامة إلا النار. ومن أخذها بغير حقها كان كالآكل لا
يشبع» .
قال محمد بن رشد: قوله الدنيا خضرة حلوة معناه صورة الدنيا وما خلق
الله عز وجل فيها من الشهوات التي أعلم أنه زين حبها للناس بقوله:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] ، الآية، حسنة
موفقة. وقوله من أخذها بحقها معناه من اكتسب المال فيها من وجهه بورك
له فيه. وقوله ومن أخذها بغير حقها معناه من خلط في اكتساب المال فيها
ولم يتوق في ذلك. وقوله كان كالآكل لا يشبع معناه أن من هذه صفته يرغب
ولا يقنع. وجاء في صحيح
(18/416)
البخاري «أن حكيم بن حزام قال: سألت رسول
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعطاني، ثم سألته فأعطاني،
ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه
بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان
كالذي يأكل ولا يشبع» . فنقول بمجموع الحديثين إن من جمع المال من وجهه
وأخذه من الإمام بسخاوة نفس بورك له فيه، وإن من خلط في جمع المال ولم
يتوق فيه وأخذه من الإمام بطلب له واستشراف إليه ورغبة فيه وحرص عليه
لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، أي يرغب ولا يقنع. وفي
معناه ضرب رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المثل للذي
سأله أيأتي الخير بالشر؟ فقال: «إن الخير لا يأتي بالشر» ، وإنه كلما
ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت
خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت.
يقول إن جمع المال بالحرص عليه والرغبة فيه قد يهلك صاحبه إن لم يؤد حق
الله فيه ويعطي منه المسكين واليتيم وابن السبيل، فشبه- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأبوال والأرواث التي تشفي آكلة الخضر من الحبط
والسقم بالصدقات التي تكفر عن صاحب المال الإثم وترفع عنه الحرج. وأما
المتخوض في مال الله ورسوله الذي له النار فهو الذي يجمع المال من غير
حله ولا وجهه ويمسكه ولا يتصدق به ولا يتوخى من شيء منه، وبالله تعالى
التوفيق لا شريك له.
[ما جاء عن عمر بن الخطاب في التجارة]
4 -
(18/417)
ما جاء عن عمر بن الخطاب في التجارة قال
مالك: قال عمر بن الخطاب: عليكم بالتجارة لا تفتننكم هذه الحمراء على
دنياكم. قال أشهب: كانت قريش تتجر، وكانت العرب تحقر التجارة، والحمراء
يعني الموالي.
قال محمد بن رشد: أباح الله تبارك وتعالى التجارة فقال: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
[النساء: 29] ، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا
فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] يريد التجارة في مواسم الحج.
فالتجارة مباحة للرجل إذا استغنى عنها ولم يحتج إليها، ومستحبة كما قال
عمر بن الخطاب إذا احتاج إليها للنفقة على نفسه أو على من يجب عليه
الإنفاق عليه. أو لخير ينوي أن يفعله مما يعود عليه منها، وبالله
التوفيق.
[ما هو قلب الشيخ شاب فيه]
فيما هو قلب الشيخ شاب فيه قال
أشهب: وحدثنا مالك عن ربيعة عن شيخ من أهل الطائف أنه قال: سمعت أبا
هريرة يقول: سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقول: «قلب الشيخ شاب في حب اثنين حب الحياة وحب المال» .
(18/418)
قال محمد بن رشد: يريد في الغالب، وإن وجد
شيخ لا يحب الحياة ولا يرغب في المال فنادر، وبالله التوفيق.
[تفسير قول الله تعالى فأتوا حرثكم أنى
شئتم]
في تفسير قول الله تعالى
{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]
قال مالك: وأخبرني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أنه قال: إن
اليهود قالوا إن الرجل إذا أتى امرأته مدبرة جاء ولده أحول، فأنزل الله
تبارك وتعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ} [البقرة: 223] .
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا قبل هذا في رسم التسليف في الحيوان
والطعام من سماع ابن القاسم والكلام عليه فلا وجه لإعادته، وبالله
التوفيق لا شريك له.
فيما ذكر من قراءة ابن مسعود
قال مالك: أقرأ عبد الله بن مسعود رجلا {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ}
[الدخان: 43] {طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان: 44] ، فجعل الرجل يقول طعام
اليتيم، فقال ابن مسعود: طعام الفاجر.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول ابن مسعود هذا أنه لما لم يحسن القارئ أن
يقول طعام الأثيم قال له طعام الفاجر على جهة التفسير. وهذا يدل
(18/419)
على ما قيل من أن القراءة التي تنسب إلى
ابن مسعود إنها قراءة كان يقرئها على وجه التفسير لأصحابه لا على أنها
قرآن. وقد قيل إنها قراءة لم تثبت، إذ إنما نقلت نقل آحاد، ونقل الآحاد
غير مقطوع به، والقرآن إنما يؤخذ بالنقل المقطوع به، وهو النقل الذي
ينقله الكافة عن الكافة، فما لم يقطع عليه أنه قرآن لمخالفته مصحف
عثمان المجتمع عليه لا تباح قراءته على أنه قرآن، إذ حكمه حكم ما يروى
عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأحاديث والأخبار،
فلا تجوز الصلاة به. وكذلك قال في المدونة: إن من صلى خلف من يقرأ
بقراءة ابن مسعود أعاد في الوقت وبعده، وإن علم وهو في الصلاة قطع
وخرج. فيجب على الإمام أن يمنع منه ويضرب عليه ولا يبيح قراءة سوى ما
ثبت بين اللوحين في مصحف عثمان، على ما وقع في أول سماع عيسى من كتاب
السلطان، وبالله التوفيق.
[الأعمال لا تصح إلا بالنيات]
في أن الأعمال لا تصح إلا بالنيات
قال مالك: أخبرني يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن الحارث التيمي،
عن علقمة بن وقاص، عن عمر بن الخطاب أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى
فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته
إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا الحديث والكلام عليه في رسم
(18/420)
سن من سماع ابن القاسم قبل هذا فلا وجه
لإعادته، وبالله التوفيق.
[الهدية للنصراني]
ومن كتاب القضاء من سماع أشهب وابن نافع عن مالك رواية سحنون بن سعيد
في الهدية للنصراني قال أشهب: قيل
لمالك: أترى بأسا أن يهدي الرجل لجاره النصراني هدية مكافأة؟ فقال ما
يعجبني ذلك، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي
وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا
أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ
مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] .
قال محمد بن رشد: قوله مكافأة له، يريد مكافأة له على ما لا يجب عليه
أن يكافئه عليه مما يلزمه أن يعتمده معه في مجاورته إياه، لا مكافأة له
على هدية أهداها إليه، إذ لا ينبغي له أن يقبل منه هدية، لأن مقصود
الهدايا إنما هو التودد بها، لقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «تهادوا تحابوا وتذهب الشحناء» فإن أخطأ وقبل منه هديته
وفاتت عنده فالأحسن أن يثيبه عليها حتى لا يكون له. عليه فضل في معروف
صنعه معه، وبالله التوفيق لا شريك له.
(18/421)
[تفسير قوله
تعالى وجعلكم ملوكا]
ومن كتاب الأقضية
في تفسير قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20] قال
أشهب: وسمعت مالكا يقول: تأويل هذه الآية قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا}
[المائدة: 20] أي يكون للرجل مسكن يأوي إليه، والمرأة يتزوجها، والخادم
تخدمه، فهذا أحد الملوك الذين ذكر الله عز وجل.
قال محمد بن رشد: هذا مروي عن ابن عباس وغيره في تفسير {وَجَعَلَكُمْ
مُلُوكًا} [المائدة: 20] أي أحرارا. وقد مضى ذلك بزيادة بيان فيه في
رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم. وقال الحسن: وجعلكم ملوكا أي
أحرارا، لأنهم كانوا في قوم فرعون بمنزلة أهل الجزية فينا، فأخرجهم من
ذلك الذل. وقال الكلبي في قوله: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ}
[المائدة: 20] ، كان منهم في حياة موسى اثنان وسبعون نبيا. وقوله:
{وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:
20] فيما ظلل عليهم من الغمام وأنزل عليهم من المن والسلوى وأشباه ذلك
مما أوتوا، وبالله التوفيق.
[القران في التمر]
في القران في التمر وسئل عن الذي
يقرن التمرتين جميعا في الأكل اثنتين
(18/422)
[اثنتين، قال:] إن كان هو أطعمهم فنعم،
فقيل له هم شركاء، فقال لا أرى ذلك، هو يستأثر عليهم. قيل أفيجزي عنه
أن يعلمهم بذلك فيقول إني آكل تمرتين تمرتين، فقال: من الناس من لا
يقدر على هذا، وهذا لا يقدر على ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في رسم نذر سنة من سماع ابن
القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[الحجامة في الأيام كلها]
في الحجامة في الأيام كلها،
وكراهة ترك العمل في يوم الجمعة وسئل مالك هل يكره الاطلاء يوم
الأربعاء ويوم السبت؟ فقال: لا، والله ما أرى به بأسا أن يطلي ويحتجم
ويسافر وينكح يوم الأربعاء والسبت، والأيام كلها لله. وأرى أمرا عظيما
أن يكون من الأيام يوم لا يحتجم فيه ولا ينكح فيه ولا يطلى فيه ولا
يسافر فيه، فلا بأس بذلك، فليحتجم ولينكح وليطل وليسافر في أي الأيام
شاء، وإني لأحتجم في السبت والأربعاء كثيرا. ولقد بلغني أن أصحاب رسول
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يكرهون ترك العمل يوم
الجمعة على نحو تعظيم اليهود السبت والنصارى الأحد، ولقد قال عمر ابن
الخطاب لذلك الرجل وكان صالحا: أهذه الساعة؟ قال كنت في السوق.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام في كراهية ترك الحجامة في شيء من
الأيام في مواضع من هذا السماع، والقول في كراهية ترك العمل في
(18/423)
يوم الجمعة في رسم شك في طوافه من سماع ابن
القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل فلا
يجيب حتى ينزل عليه الوحي]
في أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسأل فلا يجيب
حتى ينزل عليه الوحي قال مالك: كان النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي، وذلك في كتاب الله
تبارك وتعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلالَةِ} [النساء: 176] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ
إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ}
[البقرة: 219] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه: 105] هذا في
كتاب الله كثير.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه كثير موجود في القرآن وهو أيضا في
السنن الثابتة عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثير
أكثر من أن يحصى. من ذلك حديث الموطأ في اللعان إذ «سأل عاصم بن عدي
رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[لعويمر عن الرجل يجد
مع أمرأته رجلا، فكره رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
ما سأله عنه فلم يجبه على
(18/424)
سؤاله، فأعلم بذلك عاصم لعويمر، فأتى عويمر
فسأل رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له رسول
الله- صلى الله عليه وسلم- قد نزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها. قال
سهل بن سعد الساعدي راوي الحديث: فتلا عنا وأنا مع الناس عند رسول
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وحديث البخاري في «الرجل
الذي أتى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو
بالجعرانة فقال له: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت
عنه رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاءه الوحي، فلما
سري عنه قال: أين الذي سأل عن العمرة؟ فأتي برجل فقال: اغسل الطيب الذي
بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك» وبالله
التوفيق.
[طلب العلم والحث عليه]
في طلب العلم وسئل عن طلب العلم أفريضة؟ فقال: لا، والله ما كل الناس
كان عالما، وإن من الناس من أمره أن لا يطلبه، ثم قال من الغد: قد سئلت
أطلب العلم فريضة؟ فقلت: أما على كل الناس فلا.
قال محمد بن رشد: سئل أولا عن طلب العلم أفريضة هو؟ فقال: لا والله،
يريد أنه ليس بفريضة على جميع الناس كالصلاة والصيام وما أشبه ذلك من
العبادات التي هي من فرائض الأعيان. وقوله إن من الناس من أمره أن لا
يطلبه، يريد أن من الناس من هو قليل الفهم لا تتأتى له المعاني
(18/425)
على وجوهها، وإذا سمع الشيء حمله على خلاف
معناه، ومن كان بهذه الصفة فالحظ له أن يترك الاشتغال بطلب العلم إلى
ما سواه من ذكر الله سبحانه وقراءة القرآن والصلاة، فهو أعظم لأجره.
وفي قوله من الغد أما على كل الناس فلا، يدل على أنه فريضة على بعضهم،
فهو عنده فريضة على من كان فيه موضع للإمامة. فقد روى عنه ابن وهب أنه
كان جالسا معه فحضرت الصلاة فقام إليها، فقال له: ما الذي قمت إليه
بأوجب عليك من الذي قمت عنه، وهو على سائر الناس فرض على كفاية. قال
الله عز وجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . ومن
للتبعيض، فإذا قام به بعض الناس سقط الفرض عن سائرهم إلا ما لا يسع
الإنسان جهله من صفة وضوئه وصلاته وصومه وحجه وزكاته إن كان ممن تجب
عليه الزكاة، فإن ذلك واجب عليه لا يسقط عنه الفرض فيه بمعرفة غيره به،
وبالله التوفيق.
[ربط الخيط في الأصبع للتذكرة]
في ربط الخيط في الأصبع للتذكرة،
وتعليق الحرزة من الحمرة، وتعليق الكتاب للحمى والاسترقاء وسئل عن الذي
يربط في أصبعه الخيط يستذكر به فقال: ما أرى به بأسا. وسئل عن الذي
يعلق الحرزة من الحمرة فقال: أرجو أن يكون خفيفا. قيل له: فالذي يكتب
له القرآن من الحمى؟ فقال لا بأس به وما سمعت فيه شيئا. وسئل أيرقى
الرجل ويسترقي؟ فقال لا بأس بذلك بالكلام الطيب. قيل أيغلق شيئا من هذه
الكتب أو يعلقها؟ قال كذلك أيضا إن كان ما لا بأس به فلا بأس بذلك.
(18/426)
قال محمد بن رشد: أما ربط الخيط في الأصبع
لتذكر الحاجة فقوله فيه إن ذلك لا بأس به بين، إذ ليس فيه أكثر من
السماجة عند من يبصره ويراه ولا يعلم وجه مقصده فيه ومغزاه. وخفف تعليق
الحرزة من الحمرة لأن ذلك إنما هو من ناحية الطب، وقد قال رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء»
. وأما تعليق التمائم بالقرآن وذكر الله فأجازها مالك مرة في المرض
وكرهها في الصحة مخافة العين أو لما يتقى من المرض، وأجازها مرة بكل
حال في حال الصحة والمرض. ومن أهل العلم من كره التمائم على كل حال،
كان فيها ذكر الله أو لم يكن، في حال الصحة وفي حال المرض، لما جاء في
الحديث من أن «من تعلق شيئا وكل إليه ومن علق تميمة فلا أتم الله له
ومن علق ودعة فلا ودع الله له» . ومنهم من أجازها على كل حال في حال
المرض، ومنع منها في حال الصحة لما روي عن عائشة من أنها قالت: ما علق
بعد نزول البلاء فليس بتميمة. وقد مضى هذا المعنى في رسم [كتب عليه ذكر
حق من سماع ابن القاسم، ومضى الكلام عليه مستوعبا في رسم] الصلاة الأول
من سماع أشهب من كتاب الصلاة. وأما الرقى بكتاب الله عز وجل وذكره فإنه
جائز لا كراهة فيه، بل هو مرغب فيه ومندوب إليه ومستحب فعله. ذكر مالك
في موطأه عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة «أن رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه
بالمعوذات وينفث. قالت فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيمينه
رجاء بركتها.» «وعن عثمان بن أبي العاص أنه أتى رسول الله
(18/427)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبه
وجع قد كاد يهلكه، فقال له رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - امسحه بيمينك سبع مرات وقل أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما
أجد. قال فقلت ذلك فأذهب الله عنى ما كان بي، فلم أزل أمر بها أهلي
وغيرهم» . وقد أمر- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاسترقاء من
العين «فقال في ابني جعفر بن أبي طالب وقد دخل عليه بهما فرآهما
ضارعين، فقالت له حاضنتهما إنه تسرع إليهما العين، فقال رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء
القدر لسبقته العين» «ودخل- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيت
أم سلمة وفي البيت صبي يبكي، فذكروا له أن به العين فقال: ألا تسترقون
له من العين» .
[التداوي بالبول والخمر]
في التداوي بالبول والخمر وسئل عن
الذي تكون له القرحة أيغسلها بالبول والخمر؟ فقال: إذا أنقى ذلك بالماء
بعد فنعم له ذلك، وإني لأكره الخمر في كل شيء الدواء وغيره، يعمد إلى
ما حرم الله في كتابه وذكر نجاسته يتداوى به. ولقد بلغني أن هذه
الأشياء أشياء يدخلها من يريد الطعن في الدين والغض عليه. فقيل له:
فالبول عندك أخف؟ فقال نعم. فقيل له: أفرأيت الذي يشرب بول الإنسان
يتداوى به؟ فقال ما أرى ذلك ولكن لا بأس ببول البقر والغنم والإبل أن
يشرب. فقلت له: كل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله؟ فقال لي أنت قلت هذا من
عندك ولم أقلها لك، ولكن أبوال الأنعام التي ذكر الله، الثمانية
الأزواج
(18/428)
الذي ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه وجعل
يتقرب إليه بها.
قال محمد بن رشد: إنما رأى غسل الجرح بالبول أخف من غسله بالخمر، لأن
الله تبارك وتعالى قال في الخمر إنها رجس وأمر باجتنابها حيث يقول:
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ
مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[المائدة: 90] فاقتضى ظاهر الأمر باجتنابها بحمله على مقتضاه من العموم
الشرب وغيره؛ والبول لم يأت فيه ذلك إلا أنه نجس بالإجماع، فحرم
التداوي بشربه وجاز الانتفاع به في غسل الجرح وشبهه، قياسا على ما
أجازته السنة من الانتفاع بجلد الميتة النجس. وفرق في هذه الرواية بين
أبوال الأنعام وأبوال ما يؤكل لحمه من سائر الحيوان، فقال ابن لبابة:
معنى ذلك في التداوي بشربها لا في طهارتها، وهو تأويل محتمل، والقياس
إذا استوت عنده في الطهارة أن تستوي في إجازة التداوي بشربها، وإذا
افترقت عنده في إجازة التداوي بشربها أن تفترق عنده في الطهارة،
فالتفرقة بين أبوال الأنعام وأبوال ما يؤكل لحمه من غيرها في الطهارة
وفي جواز التداوي بشربها مع استوائها في الطهارة استحسان.
ووجه التفرقة بينهما في الطهارة هو أن الأصل كان في جميع الأبوال أن
تكون نجسة قياسا على أبوال بني آدم، فخصص من ذلك أبوال اللقاح بالسنة،
وأبوال سائر الأنعام بالقياس على ما خصصته السنة، وبقي أبوال سائر
الحيوان على الأصل في النجاسة.
ووجه التفرقة بينهما في التداوي بشربها مع استوائهما في الطهارة مراعاة
قول المخالف في أنها كلها نجسة، فلا يشرب منها في الدواء إلا ما أجازته
السنة، وهي أبوال الأنعام. وقد مضى في الرسم الأول من سماع أشهب زيادة
في معنى هذا فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
(18/429)
[السيد ليس من أسماء الله عز وجل]
في أن السيد ليس من أسماء الله عز وجل
وسئل هل كان أحد بالمدينة يكره أن يقول العبد لسيده يا سيدي؟ فقال لا،
ولم يكره ذلك، وقال الله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى
الْبَابِ} [يوسف: 25] وقال تبارك وتعالى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا
وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] فلم يكره ذلك. قيل
يقولون إن السيد هو الله، قال فأين في كتاب الله أن الله هو السيد؟ هو
الرب، قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28] وقال:
{وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:
24] قيل: أفتكره أن يدعو الرجل فيقول يا سيدي؟ فقال: غير ذلك أحب إلي
أن يدعو بما في القرآن وما دعت به الأنبياء. قيل: ذلك أحب إليك من أن
يقول يا سيدي؟ فقال نعم، لا أحب أن يقول يا سيدي، وغير ذلك أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا قبل هذا في رسم البز من سماع
ابن القاسم وفي كتاب الصلاة من رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب منه فلا
معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[الإخوة اثنان فصاعدا]
في أن الإخوة اثنان فصاعدا قال
مالك: مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعدا.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله مضت السنة، أي مضت الطريقة
(18/430)
التي درج الناس عليها في قوله عز وجل:
{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] ، أن
الإخوة اثنان فصاعدا، فهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس. وهذا قول
جماعة الفقهاء إلا ابن عباس فإنه كان لا يحجب بأخوين، وحجته أن الله
تعالى قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] . وقول جميع أهل
اللغة أن الأخوين جماعة كما أن الإخوة جماعة، لأنك إذا جمعت واحدا إلى
واحد فهما جماعة يقال لهما إخوة. وحكى سيبويه أن العرب تقول قد وضعا
رحالهما تريد رحلي راحلتهما. وكتاب الله عز وجل أولى ما احتج به في
ذلك، قال عز وجل: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، ولم يقل قلباكما؟ وقال: {يَا صَاحِبَيِ
السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [يوسف: 40] . ولم يقل ما
تعبدان. فإن ترك المتوفى أبوين وأخوين فللأم السدس، وما بقي للأب، إذ
لا يرث الإخوة معه شيئا لأنه أحق بالتعصيب منهم. ولا اختلاف في هذا إلا
ما يروى عن ابن عباس أنه كان يعطي الإخوة هنا السدس الذي منعوا الأم أن
تأخذه، وهو شاذ خلاف ما أجمع عليه الفقهاء من أن الإخوة لا يرثون مع
الأب، وبالله التوفيق.
[كراهة الصوف الغليظ]
في كراهة الصوف الغليظ قال وقال
مالك في لباس هذا الصوف الغليظ: لا خير في الشهرة، ولو كان المرء يلبس
ذلك مرة ويطرحه أخرى إذا رجوت ألا يكون به بأس، فأما أن يعاهد عليه حتى
يعرف ويشهر فإني أكرهه ولا
(18/431)
أحبه. ومن ثياب القطن ما هو أخشن في اللباس
وأبعد في الشهرة ومن رخص الثمن في مثل نصف ثمن هذا الصوف، فلا أحب ذلك
ولا أستحسنه. وقد روي «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رأى على رجل أطمارا فقال له: هل لك من مال؟ فقال نعم قد
آتاني الله من أنواع المال كله، فقال له رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فلير عليك مالك» . قال مالك: وسمعت «أن رجلا قال
لرسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني أحب أن يحسن
ثوبي ويحسن صوتي ونحو ذلك أفذلك من الكبر يا رسول الله؟ فقال لا، ولكن
الكبر من سفه الحق وغمط الناس» .
قال محمد بن رشد: الشهرة في اللباس مذموم مكروه، والاقتصاد في ذلك هو
المختار والمستحب، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}
[الفرقان: 67] وقد مضى الكلام على هذا المعنى قرب آخر الرسم الأول من
هذا السماع، وبالله التوفيق.
[السفر في طلب العلم]
في السفر في طلب العلم قال مالك
حدثني رجل أن سعيد بن المسيب قال: إن كنت لأسير الليالي في طلب الحديث
الواحد.
قال محمد بن رشد: هذا من اجتهاده في طلب العلم وفضله، وبذلك ساد أهل
عصره، وكان يسمى سيد التابعين. وقد مضى هذا والقول
(18/432)
فيه في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من
سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[الاطلاء في العشر]
في الاطلاء في العشر قال مالك عن
عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسا بالاطلاء في
العشر.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك وجمهور العلماء، وكرهه جماعة من أهل
العلم لما روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه
قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة فأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره
وأظفاره حتى يضحي» . وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم الرطب
باليابس من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[فيما هو من شأن ابن آدم]
قال مالك: من شأن ابن آدم ألا يعلم كل شيء، ومن شأنه أن يعلم ثم ينسى،
ومن شأنه أن يعلم ثم يزيده الله عز وجل علما.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين لا يخفى. قال الله عز وجل: {وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] وقال:
{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ}
[الأعلى: 7]
(18/433)
وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}
[الكهف: 24] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إني لأنسى أو أنسى لأسن» وقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها الحديث» وقال عز وجل: {وَلا
تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ
وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] ، وبالله التوفيق لا شريك له.
[شكوى الرجل همه إلى الله]
في شكوى الرجل همه إلى الله قال
مالك قال ذلك الرجل [يدعو] وهو في بيته يصلي: اللهم إني أشكو إليك ما
أفقد من عقلي. قال مالك وقد قال الله عز وجل: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ
يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] .
قال محمد بن رشد: الرجل المشار إليه، والله أعلم، هو الربيع بن خثيم.
ومعنى قوله اللهم إني أشكو إليك ما أفقد من عقلي: اللهم إني أشكو إليك
ما أغلب عليه من أمري فأقصر فيما يلزمني من طاعة ربي، ومن الفكرة فيما
أمر به من الاعتبار بمخلوقاته والاستدلال بها على ما هو عليه من صفات
ذاته وأفعاله. من ذلك قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي
مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}
[الأعراف: 185] وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل
عمران: 190]
(18/434)
، وقوله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى
الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] الآية وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ
مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58] الآيات إلى قوله: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا
تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73] وقوله: {وَفِي
أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] ومثل هذا كثير في
القرآن أكثر من أن يحصى. ومعنى الشكوى إلى الله الرغبة إليه في التجاوز
والعفو وكشف البلوى والضر. وقول مالك في تفسير قوله وقد قال الله عز
وجل: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:
29] يدل على صحة تأويلنا عليه في المعنى الذي يشتكي به إلى الله، لأن
المعنى فيه يجعل لكم فصلا بين الحق والباطل حتى تعرفوا ذلك بقلوبكم
وتهتدوا إليه، لأن الفرقان في كلام العرب مصدر من قولهم فرقت بين الشيء
والشيء أفرق فرقا وفرقانا، وبالله التوفيق.
[رواية المغازي]
في رواية المغازي وسئل عن من روى
مغازي النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأشعارها، هل ترى
بذلك بأسا؟ قال لا أرى به بأسا، وأتقي أن يروى باطلا، فإن الناس قد
أكثروا.
قال محمد بن رشد: قد أنكر في أول رسم من سماع ابن القاسم كتاب المغازي
وقال: ما أدركت الناس، يريد أهل الفقه، يكتبونها، قال ولا أرى أن تكتب
ولا أحب أن أكتبها ولا أبتدع [في] ذلك. وإنما كره
(18/435)
كتابها مخافة مواقعة الكذب فيها، إذ ليس في
سياقها بطولها فائدة فقه من تحليل أو تحريم يعتد الناس بحفظه والتفقه
فيه، كالأحاديث المروية عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في الأحكام، وبالله التوفيق لا شريك له.
[خصاء البهائم]
في خصاء البهائم وسئل مالك عن خصاء
البهائم الغنم والبقر فقال: ليس بحضائها بأس لطيب اللحم. قال ابن
القاسم: أجاز ذلك ولم يره من المثلة المنهي عنها، لما في ذلك من صلاح
اللحم. وقد تقدم ذلك في هذا السماع، وبالله التوفيق.
[اللعب بالشطرنج]
في اللعب بالشطرنج وسئل عن اللعب
بالشطرنج فقال: لا خير فيه وليس بشيء، وهو من الباطل، واللعب كله من
الباطل، لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب والسن عن الباطل. وقد
قال عمر بن الخطاب لأسلم في شيء: أما آن أن تنهاك لحيتك هذه؟ قال أسلم
فمكثت زمانا طويلا وأنا أظن أن ستنهاني؟ فقلت له: لما كان عمر بن
الخطاب لا يزال يقول فيكون، فقال لي نعم في رأيي.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم طلق بن حبيب من
سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
(18/436)
[صفة أرباب العلم]
ومن كتاب الأقضية في صفة أرباب العلم
وسئل عن قول كعب لابن سلام في العلم: ما نفاه من صدرهم بعد أن علموه؟
فقال الطمع، فقال ما ذاك النفي وهو في قلوبهم وهم يعلمونه؟ فقال هم
يعلمونه ولكن نفيه من صدوهم بسلوكهم غير سبيله وتركهم العمل به، وهو
مما كان يستعاذ منه، - لقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع» .
قال محمد بن رشد: قد مضى بيان هذا والقول فيه في الرسم الأول من هذا
السماع وفي رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم، وبالله
التوفيق.
[الانتعال قائما]
في الانتعال قائما وسئل مالك هل ترى
بأسا أن ينتعل الرجل قياما؟ فقال لا.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا وما جاء فيه في رسم شك في طوافه من سماع
ابن القاسم. وإنما لم ير مالك به بأسا لأنه إنما يخاف على فاعل ذلك
السقوط لقيامه على الرجل الواحدة ما دام ينتعل الثانية، لأن النهي إنما
جاء فيه لهذا المعنى، والله أعلم. فإذا أمن الرجل من ذلك جاز له أن
يفعله، وبالله التوفيق.
(18/437)
[كراهة الكحل للرجل]
في كراهة الكحل للرجل وسئل عن الكحل
للرجل بالنهار فقال: ما يعجبني أن يكتحل الرجل بالليل ولا بالنهار، إلا
أن تكون تأخذه علة فيكتحل، وإنما الكحل من أمر النساء، وما أدركت أحدا
من الناس يكتحل هكذا إلا من ضرورة، ولربما وجدت الشيء فاكتحلت به فجلست
في البيت ولم أخرج منه.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا فيما تقدم، والمعنى فيه بين، لأن في
الاكتحال التشبه بالنساء، ويكره للرجال التشبه بالنساء، وللنساء التشبه
بالرجال، لما جاء في ذلك، وبالله التوفيق.
[مواكلة النصراني ومصادقته وتكنيته]
في مواكلة النصراني ومصادقته وتكنيته
وسئل مالك عن مواكلة النصراني في إناء واحد، قال تركه أحب إلي وأما
حرام فلا أراه، ولا يصادق نصراني. وسئل عن النصراني يكنى بأبي حكيم
أيكنى بها؟ قال هم يكتنون ويتسمون، هذا اسم وهذه كنية، ومنهم من يسمى
باسم نبي هارون وموسى، فكأنه لم ير بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: الوجه في كراهة مصادقة النصراني بين، لأن الله عز وجل
يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] ، فواجب
على كل مسلم أن يبغض في الله من يكفر به ويجعل معه إلها غيره ويكذب
رسوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومواكلته في
(18/438)
إناء واحد تقتضي الألفة بينهما والمودة،
فهي تكره من هذا الوجه وإن علمت طهارة يده. وأما تكنيته بأبي حكيم
وبغيره من الكنى، فإذا كانت الكنية له كالاسم الذي يعرف به فتكنيته بها
مباحة، إذ ليس في ذلك قصد إلى إكرامه وترفيعه، وقد قال الله عز وجل:
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] فلم يكن ذلك ثناء من الله عز
وجل عليه ولا ترفيعا له، بل مقته بذلك وأوعده بما أوعده به. وأما
تكنيته إذا كان له اسم يعرف به فمكروه، لأن تكنيته ترفيع به وإكرام له،
وذلك خلاف ما يستحب من إذلالهم وإصغارهم لمحاربتهم الله عز وجل ورسوله.
وقد وقع في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان أنه قد كان
يرخص في ذلك، والترخيص ليس بإباحة.
وإنما يرجع اختلاف قوله في ذلك إلى قوة الكراهة وضعفها، ولا حجة في
إباحة ذلك دون كراهة، «لقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لصفوان بن أمية: انزل أبا وهب» لأنه إنما قال ذلك له استئلافا له
رجاء أن يسلم. وكذلك قوله للذي كان يقبل عليه بحديثه من عظماء المشركين
إذ دخل عليه عبد الله ابن أم مكتوم: يا أبا فلان، هل ترى بما أقول
بأسا، لأنه إنما أقبل عليه بحديثه وكناه رجاء إسلامه وإسلام من وراءه
بإسلامه، وبالله التوفيق.
[الخروج لطلب العلم]
في الخروج لطلب العلم قال وسئل فقيل
له: يا أبا عبد الله، أترجو لمن خرج في طلب هذا الفقه والعلم في ذلك
خيرا؟ فقال: نعم، لمن حسنت نيته، وهدي لخيره، وأي شيء أفضل منه، قال
الله تبارك
(18/439)
وتعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] ولكن الناس قد خلطوا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله أنه إنما يرجى الخير لمن خرج
طالبا للعلم إذا حسنت في ذلك نيته، قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا
إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]
وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال
بالنيات» معناه إنما الأعمال التي يثاب عليها فاعلها ما خلصت فيه النية
لله عز وجل. فطلب العلم مع خلوص النية في ذلك من أفضل أعمال البر وأجل
نوافل الخير، قال الله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]
وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» وقال: «من
سلك طريقا يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة» وروي: «إن
الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع» . والآثار في هذا
المعنى أكثر من أن تحصى، وبالله التوفيق.
(18/440)
[قرط الذهب للصبي]
في قرط الذهب للصبي وسئل عن قرط
الذهب للصبي [الصغير] ، قال تركه أحب إلي في الغلمان.
قال محمد بن رشد: الكراهة في هذا بينة، لأن الصبي وإن لم يكن متعبدا
فوالده متعبد فيه، فكما لا يحل له أن يسقيه الخمر، فكذلك لا ينبغي له
أن يحليه بالذهب ولا يلبسه الحرير، فإن حلاه بالذهب أو ألبسه الحرير لم
يأثم، وإن ترك ذلك ولم يفعله لما جاء من تحريم ذلك على الذكور دون
الإناث أجر. وأما إن سقاه خمرا أو أطعمه خنزيرا فهو آثم في ذلك كما لو
شرب هو الخمر وأكل الخنزير أو الميتة من غير ضرورة. والفرق بين أن
يسقيه الخمر ويكسوه الحرير، أن الخمر لا يحل تملكها ولا شربها لذكر ولا
أنثى ولا صغير ولا كبير، بخلاف الحرير والذهب، وبالله التوفيق.
[جواز الكي]
في جواز الكي وسئل عن الكي في
اللقوة؟ فقال ما أرى بذلك بأسا، بلغني أن الناس كانوا يكتوون، واكتوى
ابن عمر من اللقوة، وكوي سعد ابن زرارة وكان من أحد النقباء في زمن
رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في الموطأ سعد بن زرارة، وإنما هو أسعد بن
زرارة، وقال فيه إنه اكتوى في زمن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(18/441)
وسلم- من الذبحة فمات. وقد روي عن أنس بن
مالك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كوى أسعد بن
زرارة من الشوصة» والمعروف إنما هو من الشوكة الذبحة. وروي أن رسول
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر به أن يكوى من الشوكة
طوق عنقه بالكي، فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات. وقال رسول الله- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات: «بئس الميت ليهود يقولون ألا
دفع عنه، ولا أملك له ولا لنفسي شيئا» . وروي «عن أنس بن مالك قال:
كواني أبو طلحة ورسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين
أظهرنا، فما نهانا عنه» . وروي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من رواية ابن عباس أنه قال: «إن كان الشفاء ففي ثلاث، أو
قال الشفاء في ثلاث في شربة عسل أو كية نار أو شرطة محجم» . وبعض رواته
يزيد فيه: «وما أحب أن أكتوي» . وقد روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه نهى عن الكي» من رواية عمران بن حصين قال:
«سمعت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن الكي» قال
فما زال البلاء بنا حتى اكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا. قال عمران وكان
يسلم علي، فلما اكتويت فقدت ذلك، ثم راجعه بعد ذلك السلام. فيحتمل أن
يكون معنى
(18/442)
ذلك أنه نهى عن الكي في أمر ما أو في علة
ما، أو أنه نهى عنه نهي أدب وإرشاد إلى التوكل على الله عز وجل والثقة
به، فلا شافي سواه، ولا شيء إلا ما شاءه. ومن الدليل على ذلك ما روي عن
النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية مغيرة بن شعبة
أنه قال: «ما توكل من استرقى أو اكتوى» يريد، والله أعلم، ما توكل حق
التوكل، لأن من لم يسترق ولا اكتوى أشد توكلا وإخلاصا للتوكل منه.
ويعضد هذا قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يدخل الجنة من
أمتي سبعون ألفا لا حساب عليهم وهم الذين لا يسترقون [ولا يكتوون] ولا
يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» . ومن هذا المعنى ما روي أن رجلا من العرب
شاور عمر بن الخطاب في أن يكوي ابنه، فقال له لا تقرب ابنك النار، فإن
له أجلا لا يعدوه. ومنه ما روي «عن جابر بن عبد الله قال: اشتكى رجل
منا شكوى شديدة، فقال الأطباء لا يبرأ إلا بالكي، فأراد أهله أن يكووه،
وقال بعضهم لا حتى نستأمر رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فاستأمره فقال لا يبرأ، فلما رآه رسول الله- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: هذا صاحب بني فلان؟ قالوا نعم، قال
رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن هذا لو كوي قال
الناس إنما أبرأه الكي» . وقد اكتوى جماعة من السلف، منهم خباب. قال
قيس بن أبي حازم: دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبعا في بطنه، وقال
قيس عن جرير أقسم علي عمر لأكتوين. واكتوى ابن عمر وكوى ابنه وهو محرم.
وكوى الحسن بن علي نجيبة له قد مال سنامها على جنبها، فأمر أن تقطع
وتكوى، وبالله التوفيق.
(18/443)
[كراهة رفع البناء على البيت]
في كراهة رفع البناء على البيت قال
مالك وكان مكروها ممنوعا أن يشرف أحد ببنائه على بناء الكعبة.
قال محمد بن رشد: هذا يكره من ناحية التعظيم للبيت والحرمة له، وبالله
التوفيق.
في سلام الذي يمر بقبر النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ -
قال وسئل مالك عن المار بقبر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أترى أن يسلم كلما مر به؟ قال نعم، أرى ذلك عليه أن يسلم عليه إذا مر
به، وقد أكثر الناس من ذلك. فأما إذا لم يمر به فلا أرى ذلك. قال رسول
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللهم لا تجعل قبري وثنا
يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» فقد أكثر
الناس في هذا. فأما إذا مر بقبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فأرى أن يسلم عليه، فأما إذا لم يمر عليه فهو في سعة من
ذلك. قال وسئل عن الغريب يأتي قبر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كل يوم، فقال: ما هذا من الأمر، ولكن إذا أراد الخروج.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه إنما يلزمه أن يسلم عليه كلما مر
به وليس عليه أن يمر به ليسلم عليه إلا للوداع عند الخروج، ويكره له أن
يكثر المرور به والسلام عليه والإتيان كل يوم إليه، لئلا يجعل القبر
بفعله
(18/444)
ذلك كالمسجد الذي يؤتى كل يوم للصلاة فيه.
وقد نهى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك بقوله:
«اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد» . وبالله التوفيق.
[تقبيل الرجل يد أبيه أو عمه]
في تقبيل الرجل يد أبيه أو عمه وسئل
عن تقبيل الرجل يد أبيه أو عمه فقال: لا أرى أن يفعل، وإن ذلك ليكره،
إن الذين مضوا لم يفعلوا ذلك بأحد.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والقول فيه مستوفى في رسم نذر سنة من سماع
ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[الوليمة يدعى إليها الرجل وفيها اللعب]
في الوليمة يدعى إليها الرجل وفيها اللعب
وسألته عمن يدعى إلى وليمة وفيها إنسان يمشي على الحبل وآخر يجعل على
جبهته خشبة كبيرة ثم يركبها إنسان وهي على جبهته، فقال أرى أن لا يؤتي،
وأرى أن لا يكون معهم. قيل له: أرأيت إن دخل ثم علم بهذا، أترى له أن
يخرج؟ قال نعم، يقول الله تبارك وتعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}
[النساء: 140] .
قال محمد بن رشد: اللعب في الوليمة هو من ناحية ما رخص فيه
(18/445)
من اللهو، وقد اختلف فيما رخص فيه من ذلك
هل الرخصة فيه للنساء دون الرجال. أو للرجال والنساء؟ [فقال أصبغ في
سماعه من كتاب النكاح إن ذلك إنما يجوز للنساء دون الرجال، وإن الرجال
لا يجوز لهم عمله ولا حضوره، وهو ظاهر ما في هذه الرواية. والمشهور أن
عمله وحضوره جائز للرجال والنساء] ، وهو قول ابن القاسم في رسم سلف
دينارا من سماع عيسى من كتاب النكاح. ومذهب مالك خلاف قول أصبغ، إلا
أنه كره لذي الهيئة أن يحضر اللعب. وقد اختلف فيما جوز من ذلك في العرس
هل هو من قبيل الجائز الذي تركه أحسن من فعله فيكره فعله لما في تركه
من الثواب، لا أن في فعله حرجا أو عقابا؟ أو من قبيل الجائز الذي يستوي
فعله وتركه في أنه لا حرج في فعله ولا ثواب في تركه، وبالله التوفيق.
[هيئة العمامة]
في هيئة العمامة وسئل عن العمامة
أترخى بين الكتفين شيئا؟ وهل يسدل بين يديه؟ فقال: لم أر أحدا ممن
أدركت وهو يرخي بين كتفيه منها شيئا وهو يسدل بين يديه، وقد كنت ألبسها
فأسدلها بين يدي وأدخل الذي يكون من طيها خلفي أحشو به العمامة، ولم
أتركها إلا منذ قدم علينا ولاة بني هاشم، فتركناها خوفا من خلافهم،
لأنهم لا يلبسونها. وقد كان من قبلهم لا يدعونها حتى إن الإمام ليخطب
بها في كل جمعة في الشتاء والصيف، وهي لباس العرب ليست
(18/446)
تلبسها الأعاجم. وقد رأيت ربيعة وابن هرمز
يعتمان، ولم يكن واحد منهما يرخي بين كتفيه منها شيئا، ورأيتهما
يسدلانها بين أيديهما، ولست أكره إرخاءها من خلفه لأنه حرام، ولكن هذا
أجمل، ولم أر أحدا ممن أدركت يرخي بين كتفيه منها شيئا إلا عامر بن عبد
الله بن الزبير، فإني رأيته يرخي بين كتفيه من عمامته. وقد بلغني أن
رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين انصرف من الخندق
وضع عنه السلاح، ولا أدري اغتسل أم لا، فأتاه جبريل فقال: يا محمد،
أتضعون اللامة قبل أن تخرجوا إلى قريظة؟ لا تضعوا السلاح حتى تخرجوا
إلى قريظة. فصاح رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
الناس أن لا يصلي أحد إلا في بني قريظة، وذلك لصلاة العصر، فصلى بعض
الناس بعد فوات الوقت، ولم يصل بعضهم حتى لحقوا بني قريظة اتباعا لقول
رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرئي يومئذ جبريل في
صورة دحية معتما قد سدلها بين كتفيه. قال مالك وقال ربيعة إني لأجد
العمة تزيد في العقل. قال مالك: حدثني ابن المطلب أنه رآه أبوه بغير
عمة فانتهره وزجره واشتد عليه وقال تدع العمة!
قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا اعتم يسدل
عمامته بين كتفيه. قال نافع: وكان ابن عمر يسدل عمامته بين كتفيه. قال
عبيد الله: ورأيت القاسم وسالما يفعلان ذلك، فلا وجه لكراهة ذلك إلا ما
ذكره مالك من أن ذلك أجمل. وقول ربيعة إني لأجد العمة تزيد في العقل،
ليس على ظاهره بأنها تزيد في العقل حقيقة. والمعنى في ذلك أن لابسها
سلك من أجل لباسه إياها مسلك العقلاء. وذلك أنها لما كانت من هيئة
(18/447)
العلماء والخيار، وأهل السمت والوقار، رأى
لابسها من العار على نفسه أن يخالف طريقهم في السمت والوقار، فالتزم من
ذلك فوق ما كان يلتزمه قبل، وبالله التوفيق.
[سن عيسى ابن مريم عليه السلام]
في سن عيسى ابن مريم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك: كان عيسى ابن
مريم يقول: يا ابن الثلاثين مضت الثلاثون فماذا تنتظر؟ قال: ومات ابن
ثلاث وثلاثين سنة.
قال محمد بن رشد: قوله ومات ابن ثلاث وثلاثين سنة، معناه خرج من الدنيا
ورفع إلى الله عز وجل وهو في هذا السن، قال الله تعالى:
{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ} [النساء: 156] ، يعني اليهود، {عَلَى
مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156] {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا
قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] إلى
قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] أي ما قتلوا العلم
بذلك يقينا، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] ، معناه
حيا على ما قاله جماعة من أهل التفسير، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا
حَكِيمًا} [النساء: 158] . وسينزل في آخر الزمان على ما تواترت به
الآثار، من ذلك ما روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنه قال: «الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وأنا أولى
الناس بعيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبي وإنه نازل لا محالة فإذا
رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع الخلق بين ممصرتين إلى الحمرة والبياض،
سبط
(18/448)
الرأس كأن رأسه يقطر ماء وإن لم يصبه بلل
فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويقاتل الناس على الإسلام فيهلك الله في
زمانه الملل كلها غير الإسلام حتى تقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الأسد
مع الإبل والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الغلمان بالحيات لا
يضر بعضهم بعضا» . ويحتمل أن يكون معنى قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ
إِلَيْهِ} [النساء: 158] أي رفع روحه إليه بعد أن مات ويحييه في آخر
الزمان فينزله إلى الأرض على ما جاءت به الآثار، فيكون قول مالك على
هذا ومات وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة على الحقيقة لا على المجاز، وبالله
التوفيق.
[مرور عبد الله بن عمر على راعي غنم فسأله
أن يبيعه شاة]
ومن كتاب البيوع الأول قال: ومر عبد الله بن عمر على راعي غنم فسأله أن
يبيعه شاة، فقال لم أؤمر، فقال عبد الله وما علم أربابك، فقال له
الراعي: فأين الله؟ فعجب ابن عمر ولم يزل في نفسه يسأل عنه حتى ابتاعه
فأعتقه.
قال محمد بن رشد: في هذا الرغبة في عتق الفاضل الخير من العبيد، وأن
عتقه أفضل من عتق من دونه في الفضل. وهذا إذا استوت أثمانهما، وأما إن
كان أحدهما أعلى ثمنا والآخر أحسن دينا فالأعلى ثمنا أفضل. وإنما اختلف
في عتق النصراني والمسلم إذا كان النصراني أعلى ثمنا أيهما أفضل؟
وبالله التوفيق.
(18/449)
[تفسير قول
الله عز وجل وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه]
في تفسير قول الله عز وجل:
{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى
يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]
قال وسمعته يقول: سمعت أن هذه الآية نزلت في يوم الخندق: {وَإِذَا
كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى
يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] .
قال محمد بن رشد: وقد قيل في تفسير قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كَانُوا
مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} [النور: 62] الجمعة والعيدين والاستسقاء
وكل شيء تكون فيه الخطبة، لم يذهبوا حتى يستأذنوا الرسول. وقوله عز
وجل: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} [النور: 62] قيل
فيه إنه كناية عن الغائط والبول، وإنه إنما قال: {فَأْذَنْ لِمَنْ
شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] وإن كان قد وجب عليه- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى من بعده الإذن في ذلك إكراما منه له وإعظاما
لمنزلته. والأظهر أن المراد بقوله: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ
شَأْنِهِمْ} [النور: 62] ما يعرض لهم من حوائج دنياهم، فله أن يأذن لمن
شاء منهم في ذلك وأن ذلك كان في الغزو، فكان المنافقون يتسللون لواذا
بغير إذن، وكان المؤمنون لا ينصرف أحد منهم في حاجة تعرض له إلا بإذن،
فأثنى الله عز وجل على المؤمنين بقوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى
أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 62] ، إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[التوبة: 5] وتوعد المنافقين بقوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} [النور: 63] ، وبالله التوفيق.
(18/450)
[المراد
بالمحروم]
في المحروم وسئل مالك عن المحروم فقال: إنه ليقال هو الفقير الذي لم
يسأل ويحرم الرزق، ثم سئل بعد ذلك أيضا فقال: سمعت أنه الفقير الذي
يحرم الرزق.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والقول فيه في أول رسم من هذا السماع.
في تفسير قول الله عز وجل: ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن
الله إليك
وسئل عن قول الله عز وجل: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] ما هو؟ قال:
أن يعيش ويأكل ويشرب غير مضيق عليه في رأي.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول عليه أيضا في آخر الرسم الأول من هذا
السماع، وبالله التوفيق.
[تفسير قول الله عز وجل والراسخون في العلم]
في تفسير قول الله عز وجل: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:
7] قال وسألته عن قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا
اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] أيعلم تأويله الراسخون في العلم؟
فقال لا، إنما تفسير ذلك أن الله قال:
(18/451)
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ}
[آل عمران: 7] ثم أخبر فقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]
وليس يعلم تأويله إلا الله.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم البز من سماع
ابن القاسم فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[قول الرجل لأخيه في العيد تقبل الله مني
ومنك]
في قول الرجل لأخيه في العيد:
تقبل الله مني ومنك وسئل مالك هل يكره للرجل أن يقول لأخيه إذا انصرف
من العيد: تقبل الله مني ومنك وغفر الله لنا ولك، ويرد عليه أخوه مثل
ذلك، فقال لي: لا نكره مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك من رواية مطرف وابن
كنانة أنه سئل عن ذلك فقال: لا أعرفه ولا أنكره، يريد أنه لا يعرفه في
السنة، ولا ينكره لأنه قول حسن. قال ابن حبيب: وقد رأيت ذلك يقال لمن
أدركت من أصحاب مالك فيردون منه ولا يستنكرونه، إلا أني لم أرهم يبدؤون
به أحدا. قال ولا بأس أن يبدأ به لإخوانه، لأنه إن كان فطرا فهو على
إثر خاتمة الصيام وأداء الفطرة، وإن كان أضحى فهو على إثر صيام العشر
وعلى إثر التضحية. وإنما اشتقه من اشتقه أولا من دعاء الناس بعضهم لبعض
بذلك في الحج أيام الحج، فاستفاض في غيرهم. ومنه اشتق أيضا القول الذي
جرى في كلام الناس في الأضحى: أدركت ما أدرك الصالحون، معناه أدركت
الحج كما أدركه الحجيج في هذا اليوم، وذلك أن
(18/452)
الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
[المنافقون: 9] {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي
إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}
[المنافقون: 10] قال ابن عباس وغيره: يقول فأصدق فأؤدي الزكاة، وأكن من
الصالحين: أحج البيت.
وقد روي عن بعض أصحاب مالك أنه كره أن يقول أدركت ما أدرك الصالحون،
ولم ير بأسا أن يقول تقبل الله منا ومنك، وليس بين الأمرين فرق بين،
لأنه دعاء بخير في الوجهين. وكأن المفرق بين الدعاء رأى أن الرجل أحوج
إلى أن يتقبل منه عمله فيما مضى من أن يعيش فيعمل الخير فيما يستقبل،
لأنه إن لم يتقبل منه أعماله المفروضات بقيت عليه فيها التباعات، وإن
مات لم تكن عليه تباعة فيما لم يدرك وقته من المفروضات.
وسئل عن التهادي للقرابة في يوم العيد والتزوار بعضهم بعض، فأجاز ذلك.
ومعناه إذا لم يقصد زيارته في يوم العيد من أجل أنه يوم العيد حتى يجعل
ذلك من سنة العيد، وإنما زار قريبه أو أخاه في الله عز وجل من أجل
تفرغه لزيارته في ذلك اليوم. فما أحدث الناس اليوم من التزام التزوار
في ذلك اليوم كالسنة التي تلزم المحافظة عليها وترك تضييعها، هو بدعة
من البدع المكروهة، تركها أحسن من فعلها. وليس للرجل أن يستعمل عبده
يوم الفطر ولا أيام النحر إلا في الخدمة اليسيرة من استقاء الماء
وشبهه، فأما أن يبعثه للحرث والحصاد وشبه ذلك فلا. وأما الرجل في خاصة
نفسه فيقال له إنما هي أيام أكل وشرب وذكر لله، فإن أبى إلا أن يعمل لم
يكن بذلك بأس، وبالله التوفيق.
(18/453)
|