البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب الجامع السابع] [ترك الكلام في
المشكلات]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما اللهم عونك.
كتاب الجامع السابع ومن كتاب قطع الشجر
في أرض العدو، وفي ترك الكلام في المشكلات
قال ابن القاسم: قال مالك كان الربيع بن خيثم يقول: ما علمت فقله، وما
استؤثر عليك بعلمه فكله إلى عالمه.
قال محمد بن رشد: هذا أخذه، والله أعلم، من قوله عز وجل في المتشابهات
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] . وقد اختلف في المتشابهات التي
عناها الله عز وجل بقوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] فقيل:
هي ما استأثر الله عز وجل بعلمه مما لا سبيل لأحد إلى معرفته، نحو الخبر عن
وقت نزول عيسى ابن مريم، وطلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء
الدنيا، وما أشبه ذلك مما لا يعلمه أحد إلا الله. وكذلك الحروف المقطعة مثل
الم، والمص، وما أشبه ذلك. فعلى هذا القول لا يعلم تأويل المتشابهات إلا
الله، ويكون الوقف عند آخر قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ}
[آل عمران: 7] وقيل بل المتشابهات المشكلات من الأحكام
(18/135)
التي لا نص فيها في الكتاب، وإنما جاءت فيه
مجملة غير مفسرة ولا مبينة. فعلى هذا يعلم الراسخون في العلم تأويل
المتشابهات بما نصب الله عز وجل [لهم] من الأدلة على معرفتها، وبينه النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - منها، لأن الله عز وجل يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] والمعنى في ذلك أنه عز وجل نص على
بعض الأحكام وأحال على الأدلة في سائرها، فعلى هذا يكون الوقف في الآية عند
قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] أي والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون مع
العلم بتأويله {آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] . وقد مضى القول في تفسير هذه
الآية في رسم البز، وبالله التوفيق.
[إخبار الرجل عن نفسه بما فعله من طوافه على نسائه]
في جواز إخبار الرجل عن نفسه بما فعله من طوافه
على نسائه وقال مالك: قدم ابن عمر من سفر، فلما أصبح أخبرهم أنه طاف
من ليلته على إحدى عشرة امرأة.
قال محمد بن رشد: هذا جائز أن يذكره الرجل على سبيل الشكر لله بما منحه
الله من الصحة وأعطاه من القدرة على الاستمتاع الذي يلذ به ويؤجر عليه،
وبالله التوفيق.
[حكاية عن عطاء بن يسار في قصصه]
قال مالك: كان عطاء بن يسار رجلا كثير الحديث، فجلس
(18/136)
إليه أصحاب له، وكان رجلا قاصا، وربما ترك
أصحابه ومجلسه وجلس إلى غيرهم، فإذا قالوا له: لم تركتنا؟ قال: ما تركتكم
ملالة لكم ولكن لتستريحوا وتتحدثوا بينكم ولا تملوا.
قال محمد بن رشد: هذا كان عطاء يفعله لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يتخول الناس بالموعظة مخافة السآمة
عليهم» وبالله التوفيق.
[وجوب حمد الله على كل حال]
في وجوب حمد الله على كل حال وفي قول
أبي الدرداء في شداد بن أوس قال مالك: دخل أبو الدرداء على رجل وهو يموت،
فجعل الرجل يحمد الله، فقال له أبو الدرداء قد أصبت، إن الله إذا قضى أمرا
أحب أن يرضى به. قال مالك قال أبو الدرداء: إن الله يؤتي الرجل العلم ولا
يؤتيه الحلم، ويؤتيه الحلم ولا يؤتيه العلم، وإن أبا يعلى شداد بن أوس ممن
آتاه الله العلم والحلم. قال مالك: وكان أبو يعلى ابن عم حسان بن ثابت -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قال محمد بن رشد: قول أبي الدرداء للذي سمعه يحمد الله وهو يموت أصبت إن
الله يحب إذا قضى أمرا أن يرضى به من حكمه التي هو موصوف بها. وروي أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيه: «عويمر
(18/137)
حكيم أمتي» فهو من الفقهاء العقلاء
الحكماء، شهد ما بعد أحد من المشاهد، واختلف في شهوده أحدا. وأمره عمر بن
الخطاب على القضاء، وكان القاضي يكون خليفة الأمير إذا غاب. وقيل بل
استقضاه عثمان، وتوفي في خلافة معاوية قبل موته بسنتين. ومحبة الله عز وجل
للشيء ترجع إلى إرادته مثوبة العبد عليه. وقال ابن عبد البر: لم يكن أبو
يعلى شداد بن أوس ابن عم حسان بن ثابت كما قال مالك، وإنما كان ابن أخيه،
وبالله التوفيق.
[صفة الريح التي أرسل الله على عاد]
في صفة الريح التي أرسل الله على عاد
قوم هود قال مالك: حدثني زيد بن أسلم قال: فتح على قوم هود من الريح مثل
حلقة الخاتم، ولو فتح عليهم مثل منخر الثور لأكفت الأرض أو نحو ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في أول رسم من السماع، وبالله
التوفيق والسداد.
[كراهية طول البناء]
في كراهية طول البناء قال مالك: مر عمر
بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على منزل طويل البناء، فلما رآه طويل
البناء جلس في ظله حتى جاء صاحبه فقال له: ما حملك على أن أطلت هذا البناء؟
فقال: يا أمير المؤمنين ما أطلته أشرا ولا رياء غير أني كنت ببلد يطيلون
البناء فاتخذت مثله، قال: أظن الأمر على ما قلت، ولكن أقصره لا يتأسى بك
أحد حتى ترده مثل الناس.
قال محمد بن رشد: التطاول في البنيان مكروه، وقد جاء أنه من
(18/138)
أشراط الساعة، وقد مضى الكلام على ذلك في
رسم أخذ يشرب خمرا، ومضى الكلام في إنكار عمر بن الخطاب على أبي الدرداء ما
بناه بحمص في رسم شك في طوافه ورسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه، فلا وجه
لإعادة شيء من ذلك،. وبالله التوفيق.
[أول من اضطرب من الأئمة البناء]
في أن عثمان أول من اضطرب من الأئمة البناء
قال مالك: أول من اضطرب من الأئمة البناء عثمان بن عفان، وقال: إني أستحيي
من الغسل فأحب أن أتخذ ما يكنني من ذلك.
قال محمد بن رشد: معناه أنه أول من اضطرب البناء من الأئمة في سفره إلى
الحج وغيره، وبالله التوفيق.
[لم يعذب الله قوما إلا نجى منهم من يخبر عنهم]
في أن الله لم يعذب قوما إلا نجى منهم من يخبر عنهم قال مالك:
لم يعذب الله قوما إلا نجى منهم من يخبر عنهم،
قال: فنجت امرأة من قوم عاد يقال لها: هريمة فسئلت: أي عذاب الله أشد؟
فقالت: كل عذاب الله شديد، وسابقة الله ليلة لا ريح فيها، قالت: والله لقد
رأيت العير بأحمالها ما بين السماء والأرض.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والتكلم عليه في أول رسم من السماع فلا وجه
لإعادته، وبالله التوفيق.
(18/139)
[ما جاء في صفة
البعث في القبور]
قال مالك: بلغني أنه إذا كان قبل الساعة أمطرت السماء أربعين ليلة حتى
تنفلق الأرض عن الهام كما تنفلق عن الكمأة، قال والهام: رؤوس الناس.
قال محمد بن رشد: ليس في هذا ما يخفى فيحتاج إلى بيانه، وبالله التوفيق.
[ما جاء في كثرة قوم نوح]
قال مالك: بلغني أن قوم نوح ملئوا الأرض حتى ملئوا السهل والجبل، فما
يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء ولا هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء، فلبث نوح
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - ينبت الشجر مائة عام لعمل السفينة ثم جففها مائة
عام وقومه يسخرون منه في ذلك إذا رأوه يصنع ذلك حتى كان من قضاء الله عز
وجل فيهم ما كان.
قال محمد بن رشد: جاء في التفسير أن الله عز وجل لما أوحى إليه: {أَنَّهُ
لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] دعا فقال:
{رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]
الآية وقال: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا
وَوَحْيِنَا} [المؤمنون: 27] أي وبوحينا {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا
مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود: 38] وكان يصنع
بيده فيقولون له استهزاء به كنت نبيا فصرت
(18/140)
نجارا، قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا
وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40] ، أي انبعث الماء منه، وفي التنور غير قول:
قيل عين ماء كانت بالجزيرة يقال لها التنور، وقيل كان التنور في أقصى داره،
وقيل التنور أعلى الأرض وأشرفها. {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}
[هود: 40] ، منهم، أي الغضب وهو ابنه الذي غرق، {وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ
مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} [هود: 40] ، قيل أربعون رجلا وأربعون امرأة، وقيل: لم
ينج معه في السفينة من أهله إلا امرأته وثلاثة بنين له: سام وحام ويافث
ونساؤهم، فجميعهم ثمانية، فسام أبو العرب ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش،
وبالله التوفيق.
[قول عبد الوهاب بن بخت]
في قول عبد الوهاب بن بخت قال مالك: كان
عبد الوهاب بن بخت له فضل وصلاح يقول: ما أحب أن أسير ليلة في طلب دنيا لا
يعنيني غيرها وأن لي الدنيا.
قال محمد بن رشد: إنما كان يقول ذلك، والله أعلم، لقول الله عز وجل: {مَنْ
كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ
يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ
نَصِيبٍ} [الشورى: 20] ، وبالله التوفيق.
[ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الهدي المرضي وحسن الخلق]
فيما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الهدي
المرضي وحسن الخلق قال مالك: «ما خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما» .
(18/141)
قال محمد بن رشد: وقع هذا الحديث في الموطأ
بكماله لمالك عن هشام عن عروة عن عائشة قالت: «ما خير رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن
إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله
بها» .
قال محمد بن رشد: «سئلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن خلق رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كان خلقه القرآن» فكان -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختار إذا خير في أمرين أيسرهما، لقول
الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ودين الله يسر، والحنيفية سمحة. وقد قال - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى
شدائده» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يسر على مسلم يسر
الله عليه في الدنيا ومن ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة» .
وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا ينتقم لنفسه لقول
الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] . ومن هذا في القرآن
كثير. وقد كان له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينتقم لنفسه لو
شاء لكنه تأدب بأدب الله عز وجل في ترك الانتقام لنفسه، وهو في ذلك بخلاف
غيره من الأمراء والخلفاء والقضاة والحكام، لا يجوز لأحد منهم أن يحكم
لنفسه على أحد بحد ولا
(18/142)
أدب ولا مال، بل لا يجوز له أن يحكم بشيء
من ذلك على أحد لأحد ممن لا تجوز شهادته له من أب أو ابن أو زوجة، ولا على
من بينه وبينه عداوة وعلى أجنبي، وبالله التوفيق.
[صاحب الشمال يكتب ما لا يكتب صاحب اليمين]
في أن صاحب الشمال يكتب ما لا يكتب صاحب اليمين
قال: وحدثني عيسى بن دينار عن ابن وهب أن رجلا كان يسوق حمارا فعثر فقال
له: تعست، فقال صاحب اليمين ما هي بالحسنة فأكتبها، وقال صاحب الشمال ما هي
بالسيئة فأكتبها، فنودي صاحب الشمال أن اكتب [كل] ما ترك صاحب اليمين.
قال محمد بن رشد: في قول صاحب اليمين ما هي بالحسنة فأكتبها وقول صاحب
الشمال ما هي بالسيئة فأكتبها دليل على أنه لا يكتب إلا الحسنات والسيئات،
وأما المباح الذي ليس بسيئة ولا حسنة فلا يكتبه صاحب اليمين ولا صاحب
الشمال. فمعنى ما نودي به صاحب الشمال، والله أعلم، أن يكتب كل ما ترك صاحب
اليمين فلم يكتبه من أجل أنه سيئة عنده، فصار صاحب اليمين هو القاضي على
صاحب الشمال فيما يقول إنه سيئة. والتعس: السقوط، فالدعاء به على الحمار
سيئة لا حسنة كما قال صاحب اليمين، وبالله التوفيق.
[ما يصاب به الأنبياء عليهم السلام]
فيما يصاب به الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - قال ابن القاسم: حدثني
سليمان بن القاسم أنه مات في
(18/143)
مسجد الخيف، يريد مسجد منى، أربعة آلاف من
الأنبياء ما قتلهم إلا القمل والجوع.
قال محمد بن رشد: هذا مما يصاب به الأنبياء ليجازوا بالصبر عليه والتسليم
لأمر الله والرضا بقدره، وبالله التوفيق.
[ما يجوز للرجل من قسمة ماله بين ورثته في صحته]
ومن كتاب الرطب باليابس ما يجوز للرجل من قسمة
ماله بين ورثته في صحته قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: بلغني أن
سعد بن عبادة قسم ماله بين ورثته ثم غزا فمات وولدت جارية له غلاما لم يعلم
به، فلما سمع أبو بكر ذلك انطلق إلى ابنه فقال له: إن سعد بن عبادة قسم
ماله ولا علم له بهذا الحمل، وقد ولد له غلام ولا شيء له فقاسموه، فقال قيس
بن سعد: هذا أمر شديد لم يكن ليرد أمر سعد، ولكن ما أعطاني فهو له فهذا خير
له، فقال أبو بكر قد رضيت وإنما طلب ذلك طلبا وكان سعد صنع ذلك في صحة منه.
قال محمد بن رشد: وقول مالك وابن القاسم: وإنما طلب ذلك طلبا صحيح، لأنه
إذا كان إنما فعل ذلك في صحته لا يدخل في ذلك الاختلاف فيمن نحل بعض أولاده
دون بعض جميع ماله، لأنه فعل ما يجوز له من التسوية بين بنيه ولم يتعد إذ
لم يعلم بالحمل.
[مرور المجتاز في المسجد]
ومن كتاب أوله السلف في الحيوان والطعام المضمون في
مرور المجتاز في المسجد قال مالك: بلغني
أن سالم بن عبد الله كان يمر بالمسجد ولا
(18/144)
يركع فيه. قال مالك: ما زال ذلك من شأن
الناس يمرون ولا يركعون. قال مالك: وقد بلغني أن زيد بن ثابت مر من المسجد
ولم يركع، ثم رجع فكره أن يمر به الثانية، ولم يره يعجبه ذلك من فعل زيد في
ترك المرور. فقال ابن القاسم: ولا أعلم إلا أني رأيت مالكا مر فيه ولم
يركع.
قال محمد بن رشد: قوله عن زيد بن ثابت ثم رجع فكره أن يمر به الثانية، يدل
على أنه لم يرجع عن قوله الأول إلا أنه يكره أن يمر به ولا يركع. وإنما كره
أن يتكرر ذلك الفعل منه، فأباحه في المرة الأولى وكرهه في الثانية، خلاف
قوله في المدونة إنه رجع في ذلك عن الإجازة إلى الكراهة. فيتحصل في المسألة
أربعة أقوال: الإجازة، والكراهة جملة من غير تفصيل، والفرق بين الأولى
والثانية فيجوز في الأولى ولا يجوز في الثانية، وهو دليل قول زيد بن ثابت
في هذه الرواية، وقد روى أشهب عن مالك نحو هذا القول، قال: سئل مالك عن
مرور المرء في المسجد حين يخرج منه إلى حاجته ولا يركع فيه، قال: لقد كان
يفعل ذلك، وإنه ليكره الإكثار منه. قيل له: فالمرة والمرتين؟ قال: أرجو ألا
يكون به بأس، وهو القول الرابع، وبالله التوفيق.
[الركوع بعد صلاة الجمعة في المسجد]
في الركوع بعد صلاة الجمعة في المسجد
قال مالك: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى يوم
الجمعة انصرف ولم يركع» وإنه ليستحب للأمراء أن يفعلوا ذلك، أن يصلوا في
منازلهم ركعتين إذا انصرفوا.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى في صدر رسم حلف أن
لا يبيع سلعة سماها، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
(18/145)
[الدخول على أهل الحجر]
في الدخول على أهل الحجر وسئل مالك عن
أهل الحجر يأتيهم الرجل هل ترى له بأسا؟ قال: إن كان يأتيهم ليعتبر ويتفكر
فما أرى بذلك بأسا، وإن كان يأتيهم للتعجب والنظر فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة
فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[كراهة تعلم كتاب العجم وتعليمهم الخط]
في كراهة تعلم كتاب العجم وتعليمهم الخط
قال مالك: أكره للرجل المسلم أن يطرح ابنه في كتاب العجم أن يتعلم الوقف
كتاب العجمية، وأكره للمسلم أن يعلم أحدا من النصارى الخط وغيره.
قال محمد بن رشد: الكراهية في هذا كله بينة. أما تعليم الرجل ابنه كتاب
العجم فللاشتغال بما لا منفعة فيه ولا فائدة له عما له فائدة ومنفعة، مع ما
فيه من إدخال السرور عليهم بإظهار المنفعة في كتابهم والرغبة في تعلمه،
وذلك من توليهم، وقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] . وأما تعليم المسلم النصراني فلما فيه
من الذريعة إلى قراءتهم القرآن مع ما هم عليه من التكذيب له والكفر به. وقد
قال ابن حبيب في الواضحة: إن ذلك ممن فعله مسقط لإمامته وشهادته. وقد مضى
هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب السلطان، وفي سماع أشهب من كتاب
الجعل والإجارة، وبالله التوفيق.
(18/146)
[الذي يذكر وهو في صلاة العصر أنه كان قد
صلى]
في الذي يذكر وهو في صلاة العصر أنه كان قد صلى
وسئل مالك عن الرجل يصلي العصر لنفسه ثم ينسى أنه صلى فيقوم فيصلي الثانية،
فيركع ركعة ثم يذكر أنه قد صلى. قال: أرى أن يضم إليها أخرى، فقلت: يا أبا
عبد الله أتكون صلاة بعد العصر؟ قال: قد كان المنكدر يصلي وقد كان عمر ينهى
عن ذلك. وقد جاء فيها بعض ما جاء في الشيء إذا كان صاحبه لا يريد به خلاف
السنة، وإنما كان على غير خلاف رأيت أن يفعل ذلك للذي جاء فيه من الرخصة،
وإنما كره من ذلك ما كان صاحبه يتعمد به خلاف الحق.
قال محمد بن رشد: النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الصبح حتى
تطلع الشمس نهي ذريعة، وإنما حقيقة الوقت المنهي عن الصلاة فيه عند الطلوع
وعند الغروب. ألا ترى أن رجلين لو كان أحدهما قد صلى العصر والثاني لم
يصلها لجاز للذي لم يصل العصر أن ينتفل ولم يجز ذلك للذي صلى والوقت لهما
جميعا وقت واحد، فإنما نهي الذي صلى العصر عن الصلاة بعد العصر حماية للوقت
المنهي عن الصلاة فيه لأن الصلاة فيه حرام.
وروي عن المقدام بن شريح قال: «قلت لعائشة: كيف كان يصنع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يعني بعد الظهر والعصر، قالت: كان
يصلي الظهر بالهجير ثم يصلي بعدها ركعتين ثم كان يصلي العصر ثم يصلي بعدها
ركعتين. قال: فقلت: أنا رأيت عمر يضرب رجلا رآه يصلي بعد العصر، فقالت: لقد
صلاهما ولكن قومك أهل اليمن قوم أهل طعام فكانوا إذا صلوا
(18/147)
الظهر صلوا بعدها إلى العصر، فإذا صلوا
العصر صلوا بعدها إلى المغرب فقد أحسن» .
فلما كان هذا الرجل الذي صلى ركعة من العصر ثم ذكر أنه قد صلى العصر في وقت
ليس بمنهي عن الصلاة فيه لأن الصلاة فيه حرام وجب أن يتم ركعتين ولا يبطل
عمله، لقول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فهذا
وجه قول مالك والله أعلم.
ولو ذكر ذلك قبل أن يركع لكان الأظهر أن يقطع على قياس قوله في رسم أوله
مرض بعد هذا. ولو ذكر قبل أن يركع من صلاة يصلى بعدها لجرى ذلك على اختلاف
قول ابن القاسم وأشهب في كتاب الصيام من المدونة في الذي يظن أن عليه يوما
من رمضان فيصبح صائما ثم يعلم أنه لا شيء عليه، وبالله التوفيق.
[كتب القرآن أسداسا وأسباعا]
في كتب القرآن أسداسا وأسباعا وسئل مالك
عن القرآن يكتب أسداسا وأسباعا في المصاحف، فكره ذلك كراهة شديدة وعابه
وقال: لا يفرق القرآن وقد جمعه الله، وهؤلاء يفرقونه، لا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: أنزل الله تبارك وتعالى القرآن جملة واحدة إلى السماء
الدنيا، ثم أنزل على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شيئا بعد شيء حتى كمل
الدين واجتمع القرآن جملة في الأرض كما أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ
إلى السماء الدنيا، فوجب أن يحافظ على كونه مجموعا. فهذا وجه كراهية مالك
لتفريقه، والله أعلم وبالله التوفيق.
(18/148)
[السلام على أهل القدر]
في السلام على أهل القدر وسئل مالك عن
أهل القدر أيسلم عليهم؟ قال: لا يسلم عليهم. قال ابن القاسم: وكأني رأيته
يرى ذلك في أهل الأهواء كلهم ولم يبينه. قال: قال ابن القاسم: وذلك رأيي أن
لا يسلم عليهم.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يسلم على أهل القدر ولا على أهل الأهواء
كلهم، يريد الذين يشبهون القدرية من المعتزلة والروافض والخوارج، إذ من
الأهواء ما هو كفر صريح لا يختلف في أن معتقده كافر، ومنه ما هو هوى خفيف
لا يختلف في أنه ليس بكفر. ويحتمل أن يريد أنه لا يسلم عليهم على وجه
التأديب لهم والتبري منهم والبغضة فيهم [لله تعالى] لا أنهم عنده كفار بمآل
قولهم، ويحتمل أن يريد أنه لا يسلم عليهم لأنهم عنده كفار بمآل قولهم، فقد
اختلف قوله في ذلك: فله في أول سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين
والمرتدين ما يدل على أنهم كفار عنده بمآل قولهم، وله في رسم الأقضية
الثالث من سماع أشهب منه ما يدل على أنهم ليسوا عنده بكفار، وذلك أنه قال
فيهم: إنهم قوم سوء، فلا يجالسون ولا يصلى وراءهم.
وله مثل ذلك في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب في الواقفية والإباضية،
لأنه سئل فيه عن الصلاة خلفهم، فقال: لا أحب، وعن السكنى معهم؟ فقال: ترك
ذلك أحب إلي. وقد مضى في المواضع المذكورة الكلام على هذا مستوفى مشروحا
مبينا فتركت ذكره هاهنا اكتفاء بذلك، وبالله التوفيق.
(18/149)
[خطبة الرجل على خطبة أخيه]
في خطبة الرجل على خطبة أخيه وفي كتاب
الطلاق عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «لا يخطب أحد على خطبة أخيه» . وعن أبي الرجال عن الأعرج
عن أبي هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مثله. وعن محمد بن يحيى بن
حبان عن الأعرج عن أبي هريرة مثله.
قال محمد بن رشد: ليس هذا الحديث على ظاهره في العموم، ومعناه إذا ركنا
وتقاربا وسميا الصداق، وهو قول ابن نافع، وظاهر قول مالك في الموطأ، وظاهر
ما في رسم التسمية من سماع عيسى من كتاب النكاح؛ وقيل: إذا ركنا وتقاربا
وإن لم يسميا الصداق، وهو قول ابن حبيب، وحكاه عن ابن المطرف وابن الماجشون
وابن عبد الحكم وابن القاسم وابن وهب.
واختلف إن خطب الرجل على أخيه في الموضع الذي لا يجوز له فأفسد عليه وتزوج
هو، فقيل: النكاح فاسد لمطابقة النهي له يفسخ قبل الدخول وبعده ويكون فيه
الصداق المسمى، وقيل: يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، وقيل: يمضي النكاح ولا
يفسخ وقد حرج وأثم وظلم الذي أفسد عليه، فعليه أن يتوب إلى الله ويستغفره
ويتحلل الرجل، فإن حلله وإلا ترك المرأة وطلقها، فإن لم يتزوجها الرجل
تزوجها هو بعد إن شاء.
وكذلك لا يجوز للرجل أن يسوم على سوم أخيه في البيع، لأجل النهي الوارد في
ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في
رسم القسمة من سماع عيسى من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.
(18/150)
[عزل الرجل]
في العزل وعن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يعزل.
قال محمد بن رشد: يحتمل أن يكون ابن عمر كان لا يعزل ولا يكره العزل،
ويحتمل أن يكون كان لا يعزل لأنه يكره العزل وهو الأظهر، لأن ذلك معلوم من
مذهبه. وقد اختلف الصحابة في ذلك فمن بعدهم، فمنهم من كرهه لما روي من أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عنه فقال: «ذلك الوأد
الخفي» ولما روي عنه من كراهة نزع الماء عن محله في العشرة الأشياء التي
كان يكرهها.
والذي عليه جمهور الصحابة إباحة العزل، وقد ذكر ذلك عند عمر بن الخطاب فقال
بعض من عنده: إن اليهود تزعم أنها الموءودة الصغرى، فقال علي بن أبي طالب:
إنها لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع، وتلا: {وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] {ثُمَّ
جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] إلى آخر الآية،
فقال له عمر بن الخطاب: صدقت أطال الله بقاءك. ويقال: إن أول من قال في
الإسلام أطال الله بقاءك عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - في هذه الحكاية.
والذي عليه جمهور العلماء بالأمصار مالك وأصحابه والشافعي وأبو حنيفة إباحة
العزل على «حديث أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب
فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا الفداء وأردنا أن نعزل فقلنا:
نعزل ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أظهرنا قبل أن
نسأله، فسألناه عن ذلك فقال: ما عليكم ألا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم
القيامة
(18/151)
إلا وهي كائنة» . فالرجل يعزل عن أمته بغير
إذنها، ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها ولا يعزل عن زوجته الأمة إلا
بإذن مواليها، وقد قيل إنه لا يعزل عنها إلا بإذنها. وقال الشافعي: له أن
يعزل عن زوجته الأمة بغير إذنها وبغير إذن مواليها.
[السفر في طلب العلم]
في السفر في طلب العلم قال مالك: بلغني
أن رجلا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارتحل
من المدينة إلى مصر إلى رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يسأله عن حديث واحد عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى قبل هذا في رسم المحرم يتخذ الخرقة
لفرجه فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[الحض على التفقه في كتاب الله عز وجل]
في الحض على التفقه في كتاب الله عز وجل
قال مالك: كتب إلى عمر بن الخطاب من العراق يخبرونه أن رجالا قد جمعوا كتاب
الله، فكتب لهم عمر أن افرض لهم في الديوان وأعطهم. قال: فكثر من يطلب
القرآن، فكتب إليه من قابل إنه قد جمع القرآن سبعمائة رجل. قال عمر: إني
لأخشى أن يسرعوا في القرآن قبل أن يتفقهوا في الدين فكتب أن دعهم لا تعطهم
شيئا.
(18/152)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا
يحتاج إلى تفسير، وبالله التوفيق.
[محبة الناس لابن عمر]
في محبة الناس لابن عمر قال: وحدثني
عمير الأعرج عن مجاهد قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر، قال فكان الناس
يتلقونه ويدعون له ويسلمون عليه ويحبونه. قال: فكان ابن عمر يضحك. قال:
فلما انصرفنا قال ابن عمر [إن الناس] ليحبوني حتى لو كنت أعطيهم الذهب ما
زادوا على ذلك.
قال محمد بن رشد: محبة الناس لعبد الله بن عمر من محبة الله على ما جاء في
الحديث عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إن الله عز وجل إذا أحب عبدا قال
لجبريل: إني قد أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله
قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض» . وإذا
أبغض الله العبد قال مالك: لا أحسب إلا أنه قال في البغض مثل ذلك.
[الغسل في الفضاء]
في الغسل في الفضاء وسئل مالك عن الغسل
في الفضاء فقال: لا بأس بذلك، فقيل له: يا أبا عبد الله إن فيه حديثا،
فأنكر ذلك وقال تعجبا ألا يغتسل الرجل في الفضاء؟ ورأيته يتعجب من الحديث
إنكارا له.
(18/153)
قال محمد بن رشد: وجه إجازة مالك الغسل في
الفضاء إذا أمن أن يمر به أحد هو أن الشرع إنما قرر وجوب ستر العورة عن
المخلوقين من بني آدم دون من سواهم من الملائكة، إذ لا تفارقه الحفظة
الموكلون عليه منهم في حال من الأحوال. قال الله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ
مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وقال: {وَإِنَّ
عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:
11] {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 12] لهذا قال مالك تعجبا:
ألا يغتسل الرجل في الفضاء؟ إذ لا فرق في حق الملائكة بين الفضاء وغيره،
فأنكر الحديث لما كان مخالفا للأصول، لأن الحديث إذا كان مخالفا للأصول
فإنكاره واجب إلا أن يرد من وجه صحيح لا مطعن فيه فيرد إليها بالتأويل
الصحيح.
وقد روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به قلته أو
لم أقله فإني أقول ما يعرف ولا ينكر وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا
تعرفونه فكذبوا به فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف» ويكره التجرد لغير ضرورة
ولا حاجة في الفضاء وغير الفضاء، ففي رسالة مالك إلى هارون الرشيد: إياك
والتجرد خاليا فإنه ينبغي لك أن تستحي من الله إذا خلوت، وذكر في ذلك عن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حديثا، وبالله التوفيق.
[القصر والفطر في الغزو]
في القصر والفطر في الغزو
قال مالك: كان سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن الأسود والمسور بن مخرمة
بالشام، فدخل عليهم رمضان، فكان عبد
(18/154)
الرحمن والمسور يصومان ويتمان، وكان سعد
يقصر ويفطر، فقيل له تقصر وتفطر ويصومان ويتمان؟ فقال سعد نحن أعلم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنهم كانوا في الغزو ينوون الإقامة بموضعهم
الذي كانوا فيه، فكان عبد الرحمن والمسور يتمان ويصومان لنيتهم الإقامة،
وكان سعد يفطر ويقصر وإن نوى الإقامة لكونه في بلد العدو، إذ ليس على يقين
من إقامته، إذ قد يأتي من الأمر ما يزعجهم عن موضعهم، وهذا هو مذهب مالك أن
نية الإقامة في بلد العدو لا يعتبر بها، وبالله التوفيق.
[ولاء السائبة لجميع المسلمين فلا عاقلة له]
في أن ولاء السائبة لجميع المسلمين فلا عاقلة
له قال مالك: حدثني أبو الزناد عن سليمان بن يسار أن سائبة كان يلعب
مع ابن رجل من بني عائذ، فقتل السائبة ابن العايذي، فجاء أبوه إلى عمر بن
الخطاب يطلب دية ابنه، فقال له عمر: ليس له موال، فقال له العايذي: أرأيت
لو أن ابني قتله، فقال عمر ابن الخطاب إذا تخرجون ديته، فقال: فهو كالأرقم
إن يقتل ينقم، وإن يترك يلقم.
قال محمد بن رشد: يروى العابذي والعايذي، والصواب والعايذي بالياء المعجمة
باثنتين والذال المعجمة بالواحدة. ومعنى سائبة أنه كان أعتق سائبة، وكذلك
وقع في الموطأ أن سائبة أعتقه بعض الحجاج. وفي هذا أن من أعتق عبده سائبة
بأن يقول له: اذهب فأنت سائبة، أن ولاءه
(18/155)
للمسلمين. وقد اختلف في عتق السائبة، فقيل:
إنه جائز وقيل: إنه مكروه، وقيل: إنه غير جائز. فعلى القول بأنه جائز أو
مكروه يكون ولاؤه للمسلمين، وعلى القول بأنه غير جائز يكون ولاؤه لمن
أعتقه.
وقد قيل: إن من قال لعبده أنت سائبة لا يكون بذلك حرا إلا أن يريد الحرية.
وقد مضى تحصيل هذا الاختلاف في آخر سماع أشهب من كتاب العتق. ويحتمل أن
يكون هذا الرجل الذي قتل ابن العائذي أعتقه رجل من الحاج غير معروف فيكون
ولاؤه لجمع المسلمين ولا تكون له عاقلة من أجل أنه لا يعرف معتقه، لا من
أجل أنه أعتق سائبة، وهو الأظهر والله أعلم.
وقول أبي المقتول هو إذا كالأرقم يريد الحية التي إن تركتها لسعتك فقتلتك،
وإن قتلتها قتلتك، يريد كما جرى للفتى الذي كان مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخندق وهو حديث عهد بعرس، فاستأذن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحدث بأهله عهدا، فأتاها
فوجدها قائمة بين الناس فأهوى إليها بالرمح ليطعنها وأدركته غيرة، فقالت
له: لا تعجل حتى ترى ما في بيتك، فدخل فإذا بحية منطوية على فراشه فركز
فيها رمحه ثم خرج بها فنصبه في الدار، فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر
الفتى ميتا، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا الفتى أو الحية، فذكر ذلك لرسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إن بالمدينة جنا قد
أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثا فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه
فإنما هو شيطان» وبالله التوفيق.
[كراهة الإمساك عن الكلام في الصيام]
في كراهة الإمساك عن الكلام في الصيام
قال ابن القاسم: وحدث مالك عن نافع أن مولاة لصفية صمتت يوما لا تتكلم،
فقالت لها صفية: تكلمي فإن هذا قد نهي عنه.
(18/156)
قال محمد بن رشد: قول صفية محمول على أنها
أخبرت بذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأن قول
"الصاحب نهينا عن كذا وكذا وأمرنا بكذا مما يدخل في المسند، لأن صفية هذه
إن لم تكن صفية بنت حيي زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فهي صفية بنت
أبي عمير الثقفية زوج عبد الله بن عمر، وهي صحابية روت عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -، وروى عنها نافع هذا مولى عبد الله بن عمر، ولا حجة في جواز
ذلك بما في كتاب الله عز وجل من قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ
أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] ، أي
صمتا، {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] ، لأن ذلك كان
من شرع بني إسرائيل، كان الرجل منهم إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من
الطعام إلا من ذكر الله، وذلك منسوخ في شرعنا ممنوع فعله فيه بنهي النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
رواية ابن عباس أنه قال: «لا طلاق إلا بعد نكاح ولا عتق إلا من بعد ملك،
ولا رضاع بعد الفطام، ولا يتم بعد احتلام، ولا نذر في معصية، ولا صمت إلى
الليل، ولا وصال، ولا يمين للمرأة على زوجها ولا للولد على والده ولا
للمملوك على سيده» الحديث وقع بكماله في المبسوطة.
وروي عن قتادة أنه قال: إنما كانت آية جعلها الله عز وجل لمريم - عَلَيْهَا
السَّلَامُ - يومئذ. وإذا شئت رأيت امرأة سفيهة تقول: أصوم صوم مريم ولا
نتكلم في صومها. وقد اختلف أهل التأويل في القائل لمريم {فَإِمَّا
تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ
صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] ، فمنهم من قال
قاله لها الملك عن الله عز وجل،
(18/157)
ومنهم من قال قاله لها ابنها عيسى:
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - بدليل قوله: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا
تَحْزَنِي} [مريم: 24] الكلام إلى آخره، لأن رجوع الفاعل المضمر من فناداها
إلى أقرب مذكور في الآية وهو عيسى أظهر من رجوعه إلى الملك الذي هو أبعد
مذكور منه فيها. وهذا على قراءة من قرأ فناداها من تحتها بالخفض في الحرفين
جميعا، وأما على قراءة من قرأ من تحتها بالفتح في الحرفين جميعا فلا إضمار
في الكلام، والمنادي عيسى ابن مريم بلا احتمال، وبالله التوفيق. لا شريك
له.
[الاحتباء في صلاة النافلة]
في الاحتباء في صلاة النافلة قال مالك:
بلغني عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب أنهما كانا يصليان محتبئين، يريد
في النوافل.
قال محمد بن رشد: إلى هذا ذهب مالك فقال: لا بأس أن يصلي الرجل محتبئا في
النافلة، وإن كان الاختيار عنده لمن صلى فيها جالسا أن يصلي متربعا كما
يصلي في الفريضة إذا لم يقدر على القيام فيها، خلاف ما ذهب إليه زفر من أن
جلوسه في موضع القيام كجلوسه في التشهد.
والذي ذهب إليه مالك أولى لوجهين: أحدهما: أن يفرق بين جلوسه في موضع
الجلوس وبين جلوسه في موضع القيام، كما يفرق بين إيمائه للركوع وإيمائه
للسجود بأن يجعل إيماءه للسجود أخفض من إيمائه للركوع؛ والثاني: ما روي «عن
عائشة أنها قالت: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
صلى متربعا» وما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أنه قال: «صلاة
القاعد على
(18/158)
النصف من صلاة القائم غير متربع» ليس بحديث
صحيح، وما روي عن ابن مسعود من أنه قال: لأن أجلس على رضفتين أحب إلي من أن
أتربع في الصلاة، يحتمل أن يكون معناه في التربع في الجلوس للتشهد. وبالله
التوفيق.
[ما جاء في الذين قتلوا ببئر معونة]
ودعاء رسول الله على الذين قتلوهم
وحدثني عيسى بن دينار عن مالك قال: «دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الذين قتلوا أهل بئر معونة ثلاثين غداة يدعو على
رعل ولحيان وعصية عصت الله ورسوله. قال أنس: فأنزل الله عز وجل في ذلك
قرآنا ثم نسخ بعد ذلك بلغوا قومنا عنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا.»
قال ابن القاسم: وسمعت في تفسير هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] {فَرِحِينَ} [آل عمران: 170] إلى آخر الآية،
وفي الحديث أنهم لما دخلوا الجنة قالوا: يا ليت قومنا يعلمون بما أكرمنا
الله، فقال الله تبارك وتعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هذه الآية.
قال محمد بن رشد: جميع الأموات يحيون بعد موتهم لمسائلة منكر ونكير، ويعرض
على كل واحد منهم مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل النار فمن أهل
النار، وإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، يقال له:
(18/159)
هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة:
فالفرق بين الشهداء وبين أهل الجنة من سواهم أن الشهداء أحياء عند ربهم
يرزقون وينعمون على ما جاء في الحديث من أن أرواح الشهداء تسرح في ثمار
الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، وسائر أهل الجنة من المؤمنين -
أحياء إلى يوم البعث، لا يرزقون ولا يتنعمون، وبالله التوفيق.
[نهي السُّؤَّال عن السؤَال في المسجد]
في نهي السُّؤَّال عن السؤَال في المسجد وسئل مالك عن السؤال الذين يسألون
في المسجد ويلحون في المسألة ويقولون للناس قد وقفنا منذ يومين ويذكرون
حاجتهم ويبكون، قال: أرى أن ينهوا عن ذلك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لأن المساجد إنما وضعت للصلاة وتلاوة
القرآن وذكر الله والدعاء لله عز وجل فينبغي أن ينهى فيها عما سوى ذلك من
اللغط ورفع الصوت وسؤال السؤال الذين يلحون، لأن ذلك مما يشغل المصلين،
وبالله التوفيق.
[ما جاء عن عمر بن الخطاب في قول الرجل لامرأته حبلك على غاربك]
فيما جاء عن عمر بن الخطاب في قول الرجل
لامرأته حبلك على غاربك وسئل مالك عن حديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - حبلك على غاربك، فقال: قد قاله عمر بن الخطاب وأحلفه. قال
مالك أما أنا فأرى أن قد بانت منه، ما يريد الذي قال: حبلك على غاربك إلا
الطلاق، وما أراه يمسك شيئا. قال ابن القاسم: يريد مالك البتة. قال ابن
القاسم وذلك رأيي إذا كان قد دخل بها. قال
(18/160)
مالك: وإن لم يكن دخل بها نوي فإن لم تكن
له نية فهي البتة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة أنه لا ينوى في هل أراد الطلاق أو لم
يرده ولا في عدد الطلاق إلا إن كان لم يدخل بها. وقد وقع في بعض روايات
العتبية من رواية أشهب عن مالك مثل هذا، زاد ولو ثبت عندي أن عمر بن الخطاب
قال ذلك ما خالفته، ولكنه حديث جاء هكذا. وإنما قال فيه هذا لأنه عنده بلاغ
مالك أنه بلغه أنه كتب إلى عمر بن الخطاب من العراق أن رجلا قال لامرأته
حبلك على غاربك فكتب عمر بن الخطاب إلى عامله أن مره يوافني في الموسم
فبينا عمر يطوف بالبيت إذ لقيه الرجل فسلم عليه فقال له عمر من أنت؟ فقال
الرجل أنا الذي أمرت أن أجلب عليك، فقال له عمر أسألك برب هذه البنية ما
أردت بقولك حبلك على غاربك؟ فقال الرجل لو استحلفتني في غير هذا المكان ما
صدقتك، أردت بذلك الفراق، فقال عمر بن الخطاب هو ما أردت. والظاهر من حديث
عمر أنه نواه في الوجهين جميعا، لأنه لما قال أردت بذلك الفراق، قال له هو
ما أردت. وليس بنص في واحد من الوجهين، إذ لا يدرى ما كان يقول له لو قال
له لم أرد بذلك الفراق وإنما أردت بذلك وجه كذا وكذا لشيء يذكره مما يحتمله
كلامه، وماذا كان يقول له لو قال أردت بذلك واحدة أو اثنتين لاحتمال أن
يكون فهم من قوله أردت بذلك الفراق أنه أراد بذلك الفراق بتاتا ولذلك قال
له: هو ما أردت.
فأما تنويته في هل أراد بذلك الطلاق أم لا فالذي يأتي على مذهب مالك
وأصحابه أنه لا ينوى في ذلك لأنه من صريح كنايات الطلاق، كمن قال لامرأته:
أنت بائنة مني ثم قال: إنما أردت أن بيني وبينها فرجة في الجلوس في ذلك
الوقت، وكمن قال لها: أنت طالق ثم قال: إنما أردت أنها طالق من وثاق
(18/161)
ولم تكن قبل ذلك في وثاق. وأما تنويته في
عدد ما أراد من الطلاق فيتخرج ذلك على قولين في المذهب، إذ لا فرق في
المعنى بين قوله حبلك على غاربك أو قد سرحتك لأنه إذا سرحها فقد ألقى حبلها
على غاربها، وإذا ألقى حبلها غاربها فقد سرحها. وقد قالوا في سرحتك إنه
ينوى في المدخول بها أو غير المدخول بها، فإن لم تكن له نية فهي ثلاث،
وقيل: إنها واحدة في التي لم يدخل بها إذا لم تكن له نية.
[هبة الثواب]
في هبة الثواب قال مالك عن سعيد بن
المسيب أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة فهو أحق بهبته حتى يثاب بها.
قال محمد بن رشد: معناه في هبة الثواب، بدليل قوله في الموطأ: من وهب هبة
لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما
أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها.. وقد اختلف في
هبة الثواب هل من حق الواهب أن يمسكها حتى يقبض ثوابها كالسلعة المبيعة
التي له أن يمسكها حتى يقبض ثمنها، أوليس له ذلك ويلزمه أن يدفعها إليه ثم
يطلبه بثوابها؟ فقيل من حقه أن يمسكها حتى يأخذ ثوابها، وهو ظاهر قول عمر
بن الخطاب هذا في هذا الحديث؛ وقيل: ليس له أن يمسكها ويلزمه أن يدفعها ثم
يطلبه بثوابها، وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب في حديث الموطأ. وعلى هذا
الاختلاف يأتي اختلافهم في هل تدخل الهبة بالعقد في ضمان الموهوب له أم لا،
والقول في هذه المسألة مستوفى في كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.
(18/162)
[المبيت على ظهر المسجد]
في المبيت على ظهر المسجد قال مالك: كان
عمر بن عبد العزيز يبيت على ظهر المسجد مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا تبيت معه امرأة كراهية لذلك.
قال محمد بن رشد: في هذا بيان أن لظهر المسجد من الحرمة ما لداخل المسجد،
وبفعل عمر بن عبد العزيز هذا احتج مالك في المدونة في أنه لا يجوز لأحد أن
يبني مسجدا ويبني فوقه بيتا يرتفق به، وقال: إنه يورث البنيان الذي تحت
المسجد ولا يورث البنيان الذي فوقه، وبالله التوفيق.
[قبلة النبي عليه السلام ومصلاه في مسجده]
في قبلة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ومصلاه في مسجده قال مالك: ليس
العمود المخلق قبلة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولكنه كان أقرب العمد
إلى مصلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقبلة النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي حذو قبلة الإمام، وإنما قدمت القبلة حذو قبلة
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سواء كان بين المنبر وبين جدار المسجد ممر
الرحل مسجدا فقدمه عمر إلى موضع خشب المقصورة، ثم قدمه عثمان إلى موضعه
الذي هو عليه، فلم يقدم بعد.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في رسم نذر من هذا السماع من كتاب الصلاة أن
مصلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هو العمود المخلق خلاف قول مالك هاهنا،
ورأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - هناك صلاة النافلة في مصلى النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - أفضل من الصلاة في سائر المسجد. قال: وأما الفريضة
فيتقدم إلى أول الصف أحب إلي. وقد مضى القول على ذلك هنالك.
(18/163)
وأما قوله إن قبلة النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي حذو قبلة الإمام، وإنما قدمت القبلة حذو قبلة
النبي " - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سواء، فالمعنى في ذلك أن عمر بن الخطاب إذ
زاد في قبلة المسجد جعل المحراب في الزيادة بإزاء المحراب القديم وفي قبلته
غير مشرق عنه ولا مغرب، وأن المنبر قبل أن يزاد في قبلة المسجد كان بينه
وبين جدار القبلة ما قاله، فلما زيد في قبلة المسجد لم ينقل المنبر عن
موضعه فبعد عن جدار المسجد، وكذلك زاد بعده عن جدار القبلة إذ زاد عثمان
أيضا في قبلة المسجد، وبالله التوفيق.
[الصلاة في سقائف المسجد فرارا من الحر]
في الصلاة في سقائف المسجد فرارا من الحر
قال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يصلي إذا اشتد الحر في سقائف المسجد، يخرج
من المقصورة إلى خارج يصلي فيه لموضع الحر، فقلت لمالك: أفترى بذلك بأسا؟
قال: لا بأس أن يخرجوا إذا كان في المسجد سعة لمن يصلي فيه إذا اشتد الحر.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من
التوسعة في الصلاة بسقائف مكة فرارا من الحر، وقد مضى من القول على ذلك ما
فيه كفاية، وبالله التوفيق.
[من أحرم من التنعيم يسعى الأشواط الثلاثة]
في أن من أحرم من التنعيم يسعى الأشواط الثلاثة
قال ابن القاسم: قال مالك: حدثني هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير أحرم
من التنعيم وسعى الأشواط الثلاثة حين طاف
(18/164)
بالبيت، قال مالك: وذلك رأيي.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب مالك أن الرمل في الحج في الطواف الأول
الذي يصل به السعي بين الصفا والمروة وفي العمرة، أحرم بهما من الميقات أو
مما دونه سنة، واختلف قوله إن تركه أحد ناسيا أو جاهلا، فقال مرة إنه يعيد
إن كان قريبا، فإن طال كان عليه الدم، وقال مرة لا يعيد وإن كان قريبا
وعليه دم، ومرة لم ير عليه شيئا، وبالله التوفيق.
[اليمين مع شهادة المرأتين في الدين]
في اليمين مع شهادة المرأتين في الدين
قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: تجوز شهادة
المرأتين في الدين مع يمين صاحب الحق.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لأن المرأتين عدل الرجل فيما تجوز
فيه شهادتهن مع الرجل وهو المال، لقول الله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا
رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
[البقرة: 282] فكما يستحق المال على مذهب مالك ومن تبعه على القضاء باليمين
مع الشاهد فكذلك يستحق باليمين مع الشاهدتين، وبالله التوفيق.
[دية عين الأعور]
في دية عين الأعور قال مالك: كان سليمان
بن يسار وربيعة [بن أبي
(18/165)
عبد الرحمن] يقولان في دية عين الأعور إذا
فقئت عينه ألف دينار.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن منفعة الأعور بعينه الواحدة كمنفعة
الصحيح بعينيه جميعا، فوجب أن يكون له في عينه الباقية ما للصحيح في عينيه
جميعا. وقد اختلف على قياس هذا في الأعور العين اليمنى يفقأ عين الصحيح
اليسرى أو الأعور العين اليسرى يفقأ عين الصحيح اليمنى على ثلاثة أقوال:
أحدها أنه ليس له إلا القصاص إلا أن يصطلحا على شيء، والثاني أنه يخير بين
أن يقتص أو يأخذ دية عينه خمسمائة دينار، والثالث أنه مخير بين أن يقتص أو
يأخذ دية عين الأعور التي ترك ألف دينار. وقد مضى في رسم القطعان من سماع
عيسى من كتاب الجنايات توجيه كل واحد من هذه الأقوال، وبالله التوفيق.
[ترك حلق الشعر وتقليم الأظفار إذا أهل هلال ذي الحجة]
فيما جاء في ترك حلق الشعر وتقليم الأظفار إذا
أهل هلال ذي الحجة
قال مالك: بلغني أن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كانت تقول: إذا استهل ذو الحجة فلا يأخذ أحد من شعره ولا من أظفاره. قال
مالك: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قول أم سلمة هذا مروي عنها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة فأراد أحدكم أن يضحي
فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي» . وفي بعض الآثار عنها
(18/166)
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذ من
شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي» . وإنما لم ير بهذا بأسا لأنه عارضه
عنده حديث عائشة إذ قالت ردا لقول ابن عباس: «من أهدى هديا حرم عليه ما
يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي: ليس كما قال ابن عباس: أنا قلدت قلائد هدي
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي ثم قلدها رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده [ثم بعث بها] فلم يحرم عليه
شيء مما أحله الله له حتى نحر الهدي» لأنه إذا لم يحرم على الذي بعث بالهدي
شيء مما أحله الله له حتى ينحر الهدي، فأحرى ألا يحرم على الذي يريد أن
يضحي أو عنده ذبح يريد أن يضحي به شيء مما أحله الله له حتى يضحي. وقد جمع
بين الحديثين بعض من ذهب إلى الأخذ بحديث أم سلمة بأن قال: معنى حديث عائشة
أنه لم يحرم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء مما
أحل الله له من أهله حتى نحر الهدي على ما جاء في بعض الآثار عنها وحرم
عليه ما سوى ذلك من حلق الشعر وقص الأظفار على ما جاء في حديث أم سلمة،
وبالله التوفيق.
(18/167)
[امتشاط الحاد بالحناء واكتحالها بالصبر]
في امتشاط الحاد بالحناء واكتحالها بالصبر
قال مالك: بلغني أن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كانت تنهى أن تمتشط الحاد بالحناء، وتكتحل بالصبر.
قال محمد بن رشد: إنما كانت أم سلمة تنهى الحاد عن الاكتحال بالصبر لما جاء
من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها وهي حاد
على أبي سلمة وقد جعلت على عينها صبرا، فقال ما هذا يا أم سلمة؟ فقالت:
إنما هو صبر يا رسول الله، قال: اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار، فقالت
لامرأة حاد على زوجها اشتكت عينها فبلغ ذلك منها اكتحلي بكحل الجلاء بالليل
وامسحيه بالنهار» وقالت: تجمع الحاد رأسها بالسدر والزيت، وهو الذي ذهب
إليه مالك أنها لا تمتشط إلا بالسدر وما أشبهه مما لا يختمر في رأسها
وبالله التوفيق.
[الترغيب في السواك]
في الترغيب في السواك قال: وحدثني عن
محمد بن يحيى بن حبان قال: أدركت رجالا من أسلم كانت معهم أسوكة يستاكون
بها لكل صلاة.
قال محمد بن رشد: السواك مرغب فيه ومندوب إلية لقول النبي
(18/168)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عليكم بالسواك»
وقوله: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك» . وقد قال أبو هريرة: «لولا
أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك مع كل وضوء» . والأصبع يجزئ من السواك إذا
لم يجد سواكا، قاله مالك في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن
القاسم من كتاب الصلاة. وقد مضى هناك القول على وجه ذلك وبالله التوفيق.
[البناء في الرعاف]
في البناء في الرعاف قال مالك وبلغني أن
ابن عباس كان يبني في الرعاف على ما صلى.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في بناء الراعف وقطعه في رسم طلق بن حبيب.
وظاهر قول ابن عباس هذا أنه كان يبني فذا كان أو في جماعة، وفي ذلك بين من
اختار البناء على القطع اختلاف، وبالله التوفيق.
[الإبراد في الحر بالصلاة]
في الإبراد في الحر بالصلاة قال مالك:
قال عمر بن الخطاب لأبي محذورة: إنك بأرض حارة فأبرد فكأني عندك.
قال محمد بن رشد: إنما أمره بالإبراد وهو التأخير لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة
الحر من
(18/169)
فيح جهنم» وذكر أن النار الحديث. وقد اختلف
العلماء في هذا المعنى، فقال أبو الفرج: اختار مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
لجميع الصلوات أول أوقاتها إلا الظهر في شدة الحر لقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة» فقال: إن هذا هو
مذهب مالك، ولم يفرق بين الجماعة والفذ على ظاهر الحديث، خلاف ما في
المدونة من أنه استحسن أن يصلي الناس، يريد [الجماعة] الظهر في الشتاء
والصيف إذا فاء الفيء ذراعا، والمعنى في ذلك أنه تأول أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمر بالإبراد بالصلاة في شدة الحر ليدرك
الناس الصلاة، فلما كان المعنى عنده في الأمر بالإبراد الرفق بالناس
ليدركوا الصلاة في الجماعة رأى من الرفق بهم أن تؤخر الصلاة في الشتاء أيضا
حتى يفيء الفيء ذراعا ليدرك الناس الصلاة على ظاهر ما كتب به عمر ابن
الخطاب إلى عماله من أن يصلوا الظهر إذا فاء الفيء ذراعا، فعم ولم يفرق بين
الشتاء والصيف، وإن كان الرفق بالناس في ذلك في المصيف أكثر منه في الشتاء.
وأما المنفرد على ما في المدونة فأول الوقت أفضل له على ما كتب به عمر إلى
أبي موسى الأشعري أن صل الظهر إذا زاغت الشمس، لأن معناه في المنفرد، لئلا
يتعارض ما كتب به إلى عماله مع ما كتب به إليه. وقد حمل ابن عبد البر ما في
المدونة على أنه استحب للمنفرد والجماعة أن يؤخروا الظهر في الشتاء والصيف
إلى أن يفيء
(18/170)
الفيء ذراعا، وهو تأويل ليس بصحيح. وقال
الليث بن سعد: يصلي الصلوات كلها الظهر وغيره في أول الوقت في الشتاء
والصيف، وهو أفضل، وكذلك قال الشافعي إلا أنه استثنى فقال: إلا أن يكون
إمام جماعة ينتاب من المواضع البعيدة فإنه يبرد بها يريد في الحر، قال: لأن
أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بالمدينة لشدة حر
الحجاز، ولأنه لم يكن بالمدينة مسجد غير مسجده، فكان ينتاب من بعد فيتأذون
بشدة الحر فأمرهم بالإبراد لما في الوقت من السعة. وقال العراقيون: يصلي
الظهر في الشتاء والصيف في أول الوقت، واستثنى أصحاب أبي حنيفة شدة الحر.
فيتحصل في الإبراد بصلاة الظهر في الصيف إلى أن يفيء الفيء ذراعا وهو وسط
الوقت، لأن طول المدة من زوال الشمس إلى أن يفيء الفيء ذراعا مثل طولها من
حين يفيء الفيء ذراعا إلى آخر القامة لإبطاء الظل بالسير في أول القامة
وإسراعه في آخرها، أربعة أقوال: أحدها استعمال الإبراد في الجماعة
والانفراد، والثاني ترك الإبراد في الجماعة والانفراد، والثالث ترك الإبراد
في الانفراد دون الجماعة، والرابع ترك الإبراد إلا في [الجماعة في] المسجد
الذي ينتاب من بعد. وأما الإبراد بالظهر في الشتاء ففي ذلك في الجماعة
قولان، وأما المنفرد فلا يبرد قولا واحدا، وبالله التوفيق.
[إطالة صلاة الصبح مع الإسفار]
في إطالة صلاة الصبح مع الإسفار قال
مالك: سافر أبو بكر بن عبد الرحمن، وكان قد كف بصره، فصلى الصبح وقد أسفر
يقرأ فيها ببراة.
قال محمد بن رشد: معناه أنه أسفر بها عن الوقت الذي جرت عادته أن
(18/171)
يصليها فيها من التبكير، لا أنه أسفر بها
إلى قرب طلوع الشمس، إذ لو أسفر بها إلى قرب طلوع الشمس لما جاز له أن يقرأ
فيها ببراءة، وبالله التوفيق.
[الضحية في السفر]
في الضحية في السفر قال مالك: بلغني أن
رجلا كان مسافرا وأنه أدركه النحر في السفر فمر براع على رأس جبل فقال له:
عندك شاة تبيعها؟ قال له الراعي: نعم، فاشترى منه شاة ثم قال: أضجعها
فاذبحها ثم شأنك بها. قال فقال الراعي: اللهم تقبل مني، قال: ربك أعلم بمن
أنزلها من رأس الجبل.
قال محمد بن رشد: حكى ابن حبيب عن أصبغ أنه قال: إنما في هذا الحديث أن ابن
عمر ضحى في السفر، وأما المبالغة فيما فعل مع الراعي على طريقة الفقه فلا
تجزئ عنه وتجزئ عن الراعي ويضمن قيمتها له فيضحي بغيرها، كمن تعدى على ضحية
رجل فذبحها عن نفسه.
وتابعه الفضل على تأويله فقال: بل لا تجزئ عن واحد منهما على أصله المتقدم،
وليس ذلك بصحيح، لأن الراعي لم يتعد على ابن عمر في ذبح ضحيته، وإنما ذبحها
بأمره وهو حاضر مستنيب له في ذلك، فوجب أن تكون النية في ذلك نيته لا نية
الذابح، كمن أمر رجلا أن يوضئه فوضأه فالنية في ذلك نية الآمر الموضأ لا
نية المأمور الموضىء. ألا ترى أنه لو نوى فيها لابن عمر خلاف نيته من ذبحه
إياها على أنها شاة لحم لم يؤثر ذلك في نيته، وإنما قوله فيما ذبح لغيره
وبأمره اللهم تقبل مني، بمنزلة اللهم تقبل مني صلاة فلان وصيامه، فذلك لغو
ودعاء غير مقبول. على أنه يحتمل أن يكون الراعي إنما
(18/172)
أراد اللهم تقبل مني عملي في ذبحي الذبيحة
عنه ومعونتي إياه على نسكه ولا تحرمني الأجر في ذلك [ولعله ظن بجهله أن
الأجر في ذلك] له لا لابن عمر إذ تولى هو ذبحها عنه، وفهم ذلك عنه ابن عمر،
ولذلك قال: ربك أعلم بمن أنزلها من رأس الجبل. ولو رأى ابن عمر أنها لا
تجزئه لما قال للراعي يضحي بغيرها. وهذا كله بين، وفيه دليل لقول أشهب في
النصراني أو اليهودي يذبح ضحية رجل بأمره أنها تجزئه وبئس ما صنع. وقد مضى
هذا في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الضحايا، وبالله التوفيق.
[توقيت عمر ذات عرق لأهل المشرق]
في توقيت عمر ذات عرق لأهل المشرق قال
مالك: وقت عمر بن الخطاب ذات عرق لأهل المشرق.
قال محمد بن رشد: في هذا جواز الاجتهاد فيما لا نص فيه، وذلك أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما وقت المواقيت لأهل الآفاق وسكت عن
العراق، وقت لها عمر باجتهاده ذات عرق، فكان ذلك منه سنة وجب اتباعه فيها،
لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهتدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» وبالله التوفيق.
[دعاء الملائكة للإنس وعليهم]
في دعاء الملائكة للإنس وعليهم قال
مالك: بلغني أن في السماء ملكين يقول أحدهما: اللهم
(18/173)
أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا، ويقول
الآخر: ويل للرجال من النساء وويل للنساء من الرجال. قال عيسى قلت لابن
القاسم: يريد وجه الفجور؟ قال: نعم وغير ذلك مما يكون بين الرجال ونسائهم
في غير وجه الفجور.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، فينبغي لمن أمسك أن يتوقع ذهاب ماله
لإجابة دعوة الملك، ولمن أنفق بغير سرف ولا تعد أن يرجو الخلف من الله
بإجابة دعوة الملك. وقد أثنى الله عز وجل على من أنفق على عياله وعلى نفسه
بغير إسراف ولا إقتار فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:
67] ووعدهم بما وعدهم به من قوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا
صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان: 75] إلى آخر
السورة. والويل قيل فيه إنه واد في جهنم يسيل من عصارة أهل النار في النار،
فينبغي للنساء والرجال أن يتوقعوا هذا الوعيد حتى لا يتعدى بعضهم على بعض
في وجه من الوجوه، وبالله تعالى التوفيق.
[أمر عمر بن الخطاب بكتب الناس للعطاء]
في أمر عمر بن الخطاب بكتب الناس للعطاء
قال مالك: قال عمر بن الخطاب لابن الأرقم: اكتب لي الناس، فكتبهم، ثم جاء
بهم فقال أكتبتهم؟ قال: نعم قد كتبت المهاجرين والأنصار والمهاجرين من
العرب والمحررين، فقال عمر: لعل ثم رجل ليس هاهنا أحد من قومه لم تكتبه
فارجع فاكتبه.
(18/174)
قال محمد بن رشد: قال في هذه الحكاية من
المدونة: ارجع فاكتب فلعلك تركت رجلا لم تعرفه، أراد ألا يترك أحدا. فهذا
مما يدل على أن عمر بن الخطاب كان يقسم لجميع المسلمين. وقد قال - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: ما أحد من المسلمين إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو
منعه حتى لو كان راعيا وراعية بعدن. قال ابن القاسم: ورأيت مالكا يعجبه هذا
الحديث، وبالله التوفيق.
[معنى قول الله عز وجل وإن طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا]
في قول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]
قال مالك عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة أنها قالت: ما رأيت مثل ما
ترك الناس من هذه الآية {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ} [الحجرات: 9] .
قال محمد بن رشد: روي عن عبد الله بن عباس أنه قال في تأويل هذه الآية: إن
الله عز وجل أمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إذا ما
اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله وينصف بعضهم من بعض،
فإن أجابوا حكم فيهم بكتاب الله عز وجل حتى ينصف المظلوم من الظالم، فمن
أبى منهم أن يجيب فهو باغ وحق على الإمام أن يجاهدهم ويقاتلهم حتى يفيئوا
إلى أمر الله ويقروا بحكم الله.
وروي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما
تنازعتا فيه. وروي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أقبل على حمار حتى وقف في مجلس من مجالس الأنصار، فكره بعض القوم موقفه،
وهو عبد الله بن أبي ابن سلول،
(18/175)
فقال: خل لنا سبيل الريح من نتن هذا الحمار
أف وأمسك أنفه، فمضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغضب
له بعض القوم وهو عبد الله بن رواحة، فقال: ألرسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلت هذا القول؟ فوالله لحماره أطيب ريحا منك فاستبا
ثم اقتتلت عشائرهما، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فأقبل يصلح بينهم، فكأنهم كرهوا ذلك فنزلت هذه الآية: {وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
[الحجرات: 9] إلى آخر الآية» فأرادت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
بقولها والله أعلم: ما رأيت مثل ما ترك الناس في هذه الآية نسبة التقصير
إلى من أمسك من الصحابة عن الدخول في الحروب التي وقعت بينهم واعتزلهم وكف
عنهم ولم يكن مع بعضهم على بعض، ورأت أن الحظ لهم والواجب عليهم إنما كان
في أن يروموا الإصلاح بينهم، فإن لم يقدروا عليه كانوا مع من يقتضيه نظرهم
أنه على الحق منهم على ما تقتضيه الآية.
وإنما أمسك من أمسك منهم عن نصر بعضهم على بعض طلبا للخلاص والنجاة مما شجر
بينهم، إذ لم يبن لهم من كان على الحق منهم والله أعلم، فكان فرضهم ما
فعلوه من الإمساك، إذ لا يحل قتال مسلم بشك، كما كان فرض كل من قاتل منهم
ما فعله من القتال لاعتقاده أنه مصيب باجتهاده، فكلهم محمود على ما فعله:
القاتل منهم والمقتول في الجنة. فهذا الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده فيما
شجر بينهم، لأنهم قد أثنى الله عليهم في كتابه وعلى لسان رسوله، فقال عز من
قائل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]
وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ، أي خيارا عدولا. وقال عز وجل: {مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الآية، وقال
(18/176)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم» وقال: «عشرة من قريش
في الجنة فسمى فيهم عليا وطلحة والزبير» . والذي يقول به أهل السنة والحق
أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن اتبعه كان على الصواب والحق، وأن
طلحة والزبير كانا على الخطأ إلا أنهما رأيا ذلك باجتهادهما وكان فرضهما ما
فعلاه إذ هما من أهل الاجتهاد. ومن الناس من يجعل المسألة من مسائل
الاجتهاد ويقول: كل مجتهد فهو مصيب كسائر الأحكام، وليس ذلك بصحيح. ومن
أئمة المعتزلة من يقف في علي وطلحة والزبير وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - فيقول: لا ندري من المصيب منهم من المخطئ؟ ومن الناس من يقول:
إن من خالف عليا كان على الخطأ والعصيان إلا أنهم تابوا ورجعوا إلى موالاة
علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قبل أن يموتوا، واستدلوا على ذلك برجوع
الزبير، وندم عائشة وبكائها إذ ذكر لها يوم الجمل، وقول طلحة لشاب من عسكر
علي وهو يجود بنفسه: امدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين. والذي قلناه من أنهم
اجتهدوا فأصاب علي وأخطأ طلحة والزبير هو الصحيح الذي يلزم اعتقاده، فلعلي
أجران لموافقته الحق باجتهاده، ولطلحة والزبير أجر واحد لاجتهادهما. وقد
مضى هذا في أول هذا السماع من كتاب المحاربين والمرتدين، والله الموفق
للصواب برحمته.
[معنى قول الله عز وجل نساؤكم حرث لكم]
في معنى قول الله عز وجل {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]
قال مالك عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن يهود كانت تقول من وطئ
امرأته من ورائها جاء ولده أحول، فأنزل الله تبارك
(18/177)
وتعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] .
قال محمد بن رشد: المعنى في قوله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}
[البقرة: 223] أي موضع حرثكم ومزدرع أولادكم. وقد اختلف في معنى قوله:
{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] فقيل معناه كيف شئتم
مقبلة أو مدبرة أو باركة في موضع الولد، لأن الوطء لا يكون إلا في موضع
الولد، كما أن الحرث لا يكون إلا في موضع الزرع، وهو الذي يدل عليه سبب
نزول الآية على ما جاء في حديث جابر المذكور.
وقيل معناه متى شئتم من ليل أو نهار، روي ذلك عن ابن عباس، وروي عنه أيضا
أنه قال: معناه {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] إن
شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا. وقيل معنى أنى شئتم حيث شئتم إن شئتم
في القبل وإن شئتم في الدبر. روى نافع عن ابن عمر أنه قرأ يوما
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:
223] فقال أتدري فيما نزلت هذه الآية؟ قال: قلت لا. قال: أنزلت في وطء
النساء في أدبارهن. روى أبو زيد عن ابن القاسم عن مالك أنه قال له: يا أبا
عبد الله إن الناس يروون عن سالم كذب العلج أو العبد على أبي، فقال مالك:
أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر
مثل ما قال نافع، فقيل له: إن الحارث ابن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن
يسار أنه سأل ابن عمر عن ذلك فقال: أف أف، أيفعل ذلك مؤمن أو قال مسلم؟
فقال مالك: أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب عن ابن عمر مثل ما قال
نافع. وسيأتي في أول رسم من سماع عيسى القول فيما روي عن مالك في هذه
المسألة، وبالله التوفيق.
(18/178)
[ما للعبد إذا نصح لسيده]
فيما للعبد إذا نصح لسيده قال مالك:
بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نصح
العبد لسيده وأحسن عبادة ربه كان له أجره مرتين» .
قال محمد بن رشد: معناه كان له أجران: أجر في عبادة ربه، وأجر في خدمة
سيده. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
«ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل آمن بنبيه ثم أدرك النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - فآمن به، وعبد عبد ربه ونصح لسيده، ورجل كانت له جارية فأدبها
وأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها» . وبالله التوفيق.
[الرضى بقدر الله عز وجل]
في الرضى بقدر الله عز وجل وقال مالك:
كان عمر بن عبد العزيز يقول ما لي هوى إلا في مواقع حكم الله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا رضاه بما يقع من أحكام الله تعالى التي حكم
بها وقدرها. ويحتمل أن يكون معنى قوله إنه لا رغبة له ولا هوى في الحكم على
أحد إلا بما يوجبه الحكم الذي افترضه الله جل وتعالى على عباده، وبالله
التوفيق.
(18/179)
[حكم الغيبة]
في الغيبة وفي الحديث سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عن معنى الغيبة فقال: إذا قلت ما يكره أن يسمع.
قال محمد بن رشد: الغيبة محرمة بنص القرآن، قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ
مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] . ومعنى لا يغتب بعضكم بعضا لا يقل
بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره القول فيه أن يقال له في وجهه.
وروي عن أبي هريرة أنه قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن الغيبة فقال: هو أن تقول في أخيك ما فيه فإن كنت صادقا فقد
أغتبته وإن كنت كاذبا فقد بهته» .
وجاء في بعض الآثار «أن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة
بيدها إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أي أنها قصيرة، فقال النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغتبتها» . وقال معاوية بن قرة: لو
مر عليك رجل أقطع فقلت: إنه أقطع كنت اغتبته. ومعنى قول الله عز وجل:
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا
فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] يقول: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد
مماته، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه لأن الله حرم ذلك عليكم فكذلك لا تحبوا
أن تغتابوه واكرهوا غيبته حيا كما كرهتم لحمه ميتا، فإن الله حرم غيبته حيا
كما حرم لحمه ميتا، وبالله التوفيق.
(18/180)
[ما جاء من
أسماء النبي عليه السلام]
فيما جاء من أسماء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: وقال مالك عن ابن
شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «لي خمسة أسماء أنا أحمد، وأنا محمد، وأنا الماحي الذي
يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، يريد يتبعونني،
وأنا العاقب» .
قال محمد بن رشد: ليس في قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لي خمسة أسماء
دليل على أنه لا أسماء له غيرها، إذ لا ينتفي عنه بذكر بعض أسمائه وإن ذكر
عددها سائرها، وهذا كما تقول في فلان ثلاث خصال وهي كذا وكذا فلا تنفي بذلك
أن لا يكون له خصال سوى الثلاث التي ذكرتها، لأن أسماءه هذه الخمسة مشتقة
من صفاته، فلا يمتنع أن يكون له أسماء سواها مشتقة من صفاته، بل قد جاء ذلك
فروي هذا الحديث من رواية محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه وزاد فيه: وقد سماه
الله عز وجل رؤوفا رحيما. وروي في أسمائه أيضا المقفي، ونبي [التوبة في
التوراة] ونبي الملحمة، وسماه الله عز وجل خاتم النبيين. وجائز أن يضاف إلى
هذه الأسماء المروية سواها مما هو مشتق من صفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لأن هذه أيضا مشتقة من صفاته: محمد وأحمد من الحمد، والماحي من
أن الله يمحو به الكفر كما قال في الحديث، ويمحو به ذنوب من اتبعه، والحاشر
من أن أمته تنحشر إليه يوم القيامة وتتبعه فتكون قدامه وخلفه وعن يمينه وعن
شماله، والعاقب من أنه آخر الأنبياء، والمقفي من أنه قفى من قبله من
الأنبياء، وخاتم النبيين مثله في المعنى، وسمي نبي التوبة لأن الله تاب به
على من تاب من عباده، وسمي نبي الملحمة لأنه بعث بالقتال على الدين، وبالله
التوفيق.
(18/181)
[لا زكاة في المال المستفاد حتى يحول عليه
الحول]
في أنه لا زكاة في المال المستفاد حتى يحول
عليه الحول قال مالك بلغني عن علي بن أبي طالب أنه قال: ليس في مال
زكاة حتى يحول عليه الحول.
قال محمد بن رشد: هذا مروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ليس
في المال المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول» وهذا ليس على عمومه في جميع
الأموال المستفادة، لأنه يخصص من ذلك الحبوب والثمار لقول الله عز وجل:
{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
[الأنعام: 141] ويخصص من ذلك أيضا على قول مالك ما يخرج من المعدن بالقياس
على الحبوب والثمار لأنه يعتمل كما يعتمل الزرع وينبت في الأرض كما ينبت
الزرع؛ ويخصص من ذلك أيضا نماء الماشية فتزكى على أصولها ولا يستقبل به
الحول، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها» .
واختلف قول مالك في أرباح الأموال هل تزكى على أصل المال أم لا اختلافا
كثيرا، وقد مضى الكلام على هذا في سماع أشهب من كتاب الزكاة، وبالله
التوفيق.
[حمل السلاح على المسلمين]
ما جاء في من حمل السلاح على المسلمين
قال مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله
(18/182)
عليه وسلم - قال: «من حمل علينا السلاح
فليس منا» .
قال محمد بن رشد: قوله ليس منا، معناه ليس على مثل هدينا وطريقتنا، لا أن
من حمل السلاح على المسلمين من المسلمين محاربا لهم على أموالهم فإنه يكون
بذلك خارجا عن ملة الإسلام، وهذا نحو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من غشنا فليس منا» «ومن لم يرحم صغيرنا ولا وقر كبيرنا فليس
منا» وما أشبه هذا كثير، وبالله التوفيق.
[تقليد المرأة الهدي وإشعارها إياه]
في تقليد المرأة الهدي وإشعارها إياه
وسئل مالك عن رأي ابن شهاب في المرأة تقلد وتشعر، قال مالك أراه خطأ لا
يقلد ولا يشعر إلا من ينحر وإني لأحب للمرء أن يتواضع لله ويخضع له ويذل
نفسه. كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينحر بدنه، وإن
ناسا يأمرون من يذبح لهم، يريد بذلك أهل الطول ويعيب ذلك عليهم. فقيل له يا
أبا عبد الله فلو أن امرأة اضطرت [إلى أن تأمر جاريتها تقلد وتشعر، قال
مالك إن اضطرت] رأيت ذلك مجزئا، ولا أرى للمرأة أن تقلد ولا تشعر وهي تجد
رجلا يقلد لها ويشعر.
قال محمد بن رشد: لما نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(18/183)
بدنه بيده ولم ينحر أزواجه عن أنفسهن بل
نحر هو عنهن كان في ذلك ما قد دل على أن المرأة لا تذبح ولا تنحر إلا أن
تضطر إلى ذلك. والتقليد والإشعار من ناحية النحر فلا ينبغي للمرأة أن تفعل
شيئا من ذلك إلا من ضرورة، فإن فعلته من غير ضرورة كانت قد أساءت وأكلت
ذبيحتها، وهذا ما لا اختلاف فيه أحفظه، وبالله التوفيق.
[النفل من الخمس]
في أن النفل من الخمس قال مالك: بلغني
أن الناس كانوا يعطون من الخمس، يعني النفل، قال ابن القاسم قال مالك إنما
ينفل من الخمس ولا ينفل أحد من رأس الغنيمة.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه لا
اختلاف بينهم فيه. أن النفل من الخمس، لأن الأربعة الأخماس للغانمين،
والخمس مصروف إلى اجتهاد الإمام. وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا، فقيل إنه
لا ينفل إلا من بعد الخمس من الأربعة الأخماس، لأن الخمس عندهم قد صرفه
الله إلى المذكورين في الآية فلا يخرج عنهم منه شيء؛ وقيل إن للإمام أن
ينفل من جملة الغنيمة قبل أن يخمسها، ولا يرى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
للإمام أن ينفل قبل القتال لئلا يرغب الناس في العطاء فتفسد نياتهم في
الجهاد، فإن وقع ذلك مضى للاختلاف الواقع وللآثار المروية فيه.
وأما سلب القتيل فقيل إنه لا يكون للقاتل إلا أن ينفله الإمام إياه إما من
الخمس وإما من رأس الغنيمة وإما بعد تخميسها على ما ذكرناه من الاختلاف
فيما سوى السلب، وقيل إنه للقاتل حكم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لا يحتاج فيه إلى استئناف أمر من الإمام؛ وقيل: إنه للإمام
يخمسه ولا يكون له منه إلا أربعة أخماسه. وقد قيل إن الإمام لا ينفل إلا من
خمس الخمس، وهذا يرده «حديث ابن عمر في السرية التي بعثها رسول الله - صلى
(18/184)
الله عليه وسلم - قبل نجد، وكانت سهمانهم
اثني عشر بعيرا [أو أحد عشر بعيرا] ونفلوا بعيرا بعيرا» وبالله التوفيق.
[تفسير قول الله عز وجل فكاتبوهم إن علمتم فيهم
خيرا]
في تفسير قول الله عز وجل {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْرًا} [النور: 33] قال مالك في قول الله عز وجل: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] قال: القوة على الأداء.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في الخير الذي عناه الله عز وجل بقوله:
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ما هو،
فقالت طائفة: المال، وقالت طائفة: القوة على الأداء وهو قول مالك، وقالت
طائفة: الأمانة والدين، وقالت طائفة الصدق والوفاء. وهذه الأقاويل كلها
متقاربة في المعنى، وذلك على الندب والإرشاد. وكذلك قول الله عز وجل:
{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] هو على
الندب لا على الوجوب، ومعناه عند مالك أن يضع عنه من آخر كتابته شيئا يتعجل
به عتقه.
والذي يدل عليه أنه غير واجب أن الله لم يحد فيه حدا في كتابه ولا على لسان
رسوله، ولو كان فرضا لكان محدودا، لأن الفروض لا تكون غير محدودة بكتاب أو
سنة، فلما لم يحد ذلك في الكتاب ولا ثبت فيه خبر مرفوع عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دل ذلك على أن الناس يؤمرون بذلك ولا يجبرون
عليه بالحكم كالمتعة.. وقد قال بعض الناس: يوضع عنه الربع من كتابته، وقائل
هذا القول يرى ذلك واجبا، واختار بعض الناس أن يضع عنه آخر نجم من نجومه.
ومنهم من رأى أن يعطيه من سأله من غير الكتابة. وقد قيل إن
(18/185)
الخطاب في ذلك إنما هو للولاة أن يعطوهم من
الزكاة لا للسادة، لقول الله عز وجل: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] .
وقد قيل أيضا إن الخطاب لجميع الناس أن يعينوهم من أموالهم، وقد روي أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعان مكاتبا في
رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» . وبالله التوفيق.
[بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة
بسرف]
في أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما بنى بميمونة
بسرف قال مالك: بنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بميمونة في الثلاثة الأيام أيام القضية، فأبت قريش أن يقروه [يبني بها
بمكة] فبنى بها بسرف.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه إنما بنى بها بسرف في عمرة القضاء عام
سبعة وهو بالمدينة قبل أن يخرج على ظاهر ما في حديث الموطأ من «أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا رافع مولاه ورجلا من
الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالمدينة [قبل أن يخرج» وقيل] بعد أن خرج قبل أن يحرم. وإن
قوله في الحديث ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة
قبل أن يخرج إنما يعود على بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إياهما لا على التزويج، وقيل: بعد أن أحرم وهو محرم على ما روي
عن ابن عباس،
(18/186)
وقيل بعد أن حل من إحرامه على ما روي «عن
ميمونة أنها قالت: تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بسرف» . وإنما بنى بها بسرف لأنه لما أقام ثلاثا على ما كان قاضى عليه أهل
مكة أتاه حويطب ابن عبد العزيز في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا إنه
قد انقضى أجلك فاخرج عنا، فقال: وما عليكم لو تركتموني فعرست بين أظهركم
فصنعنا لكم فحضرتموه فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا فخرج - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبنى بها بسرف. وبالله التوفيق.
[تأويل الرجل ما يخبر به على أحسن وجوهه]
في تأويل الرجل ما يخبر به على أحسن وجوهه
قال مالك: وبلغني عن ابن مسعود أنه قال: إذا حدثتم بحديث فظنوا به أحسنه.
قال محمد بن رشد: هذا الذي ينبغي لكل من حدث عن أحد بشيء أن يفعله، فقد قال
عمر بن الخطاب: لا يحل لمن يسمع من أخيه كلمة أن يظن فيها سوءا وهو يجد لها
مصدرا في وجه من وجوه الخير، لأن تأويلها على ظاهرها من الشر ظن، وقد قال
عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ
الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] ، وقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»
وبالله التوفيق.
(18/187)
[بركة الغزو]
في بركة الغزو قال مالك: إن رجلا من
أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد الغزو فقال له
أهله لو أقمت فسقيت وديك وأصلحته فإني أخاف أن يموت، قال: فغزا وترك الودي
على حاله، فأتى وقد صلح، قال فذكر له أهله، فقال الرجل الغزو يصلح الودي.
قال محمد بن رشد: قوله الغزو يصلح الودي، معناه أن الرجل لا يجد فقد شيء
تركه لله، وبالله التوفيق.
[الطاعة لا تجب إلا بالمعروف]
في أن الطاعة لا تجب إلا بالمعروف قال
مالك عن [عبد الله بن أبي بكر] عن ابن شهاب أن شداد ابن أوس غطى رأسه فبكى،
فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: إنما أخاف عليكم من قبل رؤسائكم الذين إذا أمروا
بطاعة أطيعوا، وإذ أمروا بمعصية أطيعوا. إنما المنافق كحمل اختنق فمات في
ربقه لا يعدو شره ربقه. قال الربق: الذي يجعل للخروف يمنع به الرضاع.
قال محمد بن رشد: شداد بن أوس هذا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنصار ابن أخي حسان بن ثابت الأنصاري، قال فيه
عبادة بن الصامت: كان شداد بن أوس ممن أوتي العلم والحلم، وقال أبو
الدرداء: إن الله يؤتي الرجل العلم ولا يؤتيه الحلم ويؤتيه الحلم ولا يؤتيه
العلم، وإن أبا يعلى شداد بن أوس ممن آتاه الله العلم والحلم. وبكاؤه من
حذره على الناس طاعتهم لرؤسائهم في الطاعة والمعصية من الحلم الذي آتاه
الله إياه، وتمثيله للمنافق بالحمل الذي يختنق في ربقه فيموت، من العلم
الذي آتاه الله إياه، لأنه تمثيل صحيح، لأن المنافق يهلك باعتقاده فلا
يتأذى به سواه، إذ لا يظهره كالخروف يموت بربقه إذا اختنق به، فلا يتأذى به
سواه، وبالله التوفيق.
(18/188)
[الشرب قائما]
في الشرب قائما قال مالك: بلغني أن عمر
بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كانوا يشربون قياما - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - قال محمد ابن رشد: روي «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- أنه نهى عن الشرب قائما» من رواية أنس بن مالك. وروي عن أبي سعيد الخدري
أنه قال: «زجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا شرب
قائما» وكره ذلك جماعة من السلف. وقال إبراهيم النخعي: إنما كره الشرب
قائما لداء يأخذ في البطن، ولم ير مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بذلك بأسا إذ
لم يصح عنده النهي والله أعلم، فبوب في موطئه باب شرب الرجل وهو قائم،
وأدخل في الباب عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد
الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير أنهم كانوا يشربون قياما، وعن عائشة وسعد
بن أبي وقاص أنهما كانا لا يريان بشرب الإنسان وهو قائم بأسا. ومن الحجة له
على ما ذهب إليه ما روى الشعبي «عن ابن عباس قال: ناولت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إداوة من لبن فشربها وهو قائم» . وروي عن
النزال بن سبرة قال: «أتي علي بماء فشرب قائما فقال: إن ناسا يكرهون هذا،
وإني رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشرب قائما» .
وقد روي عن أبي
(18/189)
هريرة والحسن الوجهان جميعا: الإباحة
والكراهة. «وقال عبد الله بن عمر: كنا نشرب ونحن قيام ونأكل ونحن نمشي على
عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. وذهب الطحاوي إلى
أن المعنى فيما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
شربه قائما ونهيه عن ذلك أنه كان يشرب قائما إلى أن وقف على المعنى الذي من
أجله كره الشرب قائما فنهى عنه إشفاقا منه على أمته وطلبا لمصالحهم، وليس
قوله ببين، إذ قد يحتمل أن يكون نهى عن ذلك إشفاقا على أمته لما ذكر له أن
ذلك يضر بهم، فلما تحقق أن ذلك لا يضر بهم شرب قائما ولم ينه عن ذلك، فقد
كان هم أن ينهى عن الغيلة ثم لم ينه عنها لما ذكر من أن الروم وفارس يصنعون
ذلك فلا يضر أولادهم شيئا.
وإذا احتمل أن يكون كل واحد من الحديثين ناسخا للآخر وجب أن يسقطا جميعا
ولا يمتنع من الشرب قائما إلا بيقين على ما ذهب إليه مالك، وبالله التوفيق.
[ما يصاب به الرجل يكفر به عنه]
في أن ما يصاب به الرجل يكفر به عنه قال
مالك: عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار «عن بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لولا [شيء] سمعته من رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأحببت أن أموت، قيل وما هو؟ قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما من شيء يصاب به العبد إلا
كفر عنه حتى يلقى الله وليست له خطيئة» .
(18/190)
قال محمد بن رشد: يؤيد هذا حديث أبي هريرة
عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ما يزال المؤمن يصاب في ولده وحامته
حتى يلقى الله عز وجل وليست له خطيئة» . ومن هذا المعنى قوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يصب منه» وبالله
التوفيق.
[توقي الرجل من أن يظن به سوء]
في توقي الرجل من أن يظن به سوء قال
مالك: بلغني أن ابن عمر بن الخطاب خلا بأمة ليطأها فرآه رجال فأتى بها
إليهم فقال إنها جاريتي، فقالوا: يغفر الله لك يا أبا عبد الرحمن ومثلك
يتهم؟ فقال: إنه يقع في القلب شيء. قال مالك: وذكر ذلك عمن هو خير، يريد
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه رجل مع صفية فقال: هي
صفية. قال مالك: بلغني أن القاسم بن محمد قال: إني لأريد الحاجة إلى الموضع
فما يمنعني منها إلا الموضع الذي أريدها فيه خوفا من أن يظن الناس بي ظنا
سيئا. قال مالك: بلغني أن أبا بكر الصديق في الجاهلية صحبه رجل فقام وهو
يسير معه حتى انتهى إلى موضع، فقال الرجل الذي استصحبه اعدل بنا إلى هذه
الطريق، فقال: وما لهذه؟ قال: فيها مجلس قوم ونحن نستحيي أن نمر عليهم،
فقال أبو بكر إن شيئا يستحيى منه لا أحب أن أتبعك فيه.
قال محمد بن رشد: في توقي الرجل من أن يظن به سوء وجهان:
(18/191)
أحدهما دفع المكروه عن نفسه بدفع الظنة
عنه، والثاني دفع الإثم عن الظان به ظن سوء. فينبغي لمن اتهم بشيء وهو منه
بريء أن يبين براءته لمن خشي أن يكون قد اتهمه. وقد قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما هي صفية على ما حدثت به من أنها جاءت
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوره في اعتكافه في
المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت ساعة ثم قامت تنقلب، وقام رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معها يقلبها حتى إذا بلغت باب
المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: على رسلكما إنما هي صفية ابنة حيي، فقالا: سبحان
الله يا رسول الله وكبر عليهما، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إن
الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا» .
وبالله التوفيق.
[توبة القاتل]
في توبة القاتل قال مالك: بلغني أن ابن
عمر سأله رجل قتل نفسا يريد بذلك هل ترى لي من توبة؟ فقال له ابن عمر: أكثر
من شرب الماء البارد. فقيل لمالك: أي شيء أراد بقوله أكثر من شرب الماء
البارد؟. قال: يريد بذلك أنه من أهل النار.
قال محمد بن رشد: جميع الذنوب تمحوها التوبة إن تاب قبل المعاينة بإجماع،
لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ
تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8] ، وعسى من الله واجبة؟
(18/192)
ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وإن لم يتب منها كان في
المشيئة لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] إلا القاتل عمدا
فإنهم اختلفوا في قبول توبته وإنفاذ الوعيد عليه على قولين: فذهب جماعة من
الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة وأن توبته مقبولة، وذهب جماعة
منهم إلى أنه لا توبة له والوعيد لاحق به، فممن روي ذلك عنه ابن عمر على ما
جاء في هذه الحكاية عنه، وعن ابن عباس وأبي هريرة، وزيد بن ثابت. روي أن
سائلا سأل ابن عمر وابن عباس وأبا هريرة عن من قتل رجلا مؤمنا متعمدا هل له
من توبة؟ فكلهم قال: هل يستطيع أن يحييه؟ هل يستطيع أن يبتغي نفقا في الأرض
أو سلما في السماء. وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه روي عنه
أن إمامة القاتل لا تجوز وإن تاب.
ويؤيد هذا المذهب ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: «كل ذنب عسى الله أن يعفو عنه إلا من مات كافرا أو قتل مؤمنا
متعمدا» . وذلك، والله أعلم، أن القتل يجتمع فيه حق الله تعالى وحق المقتول
المظلوم. ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التباعات إليهم،
وهذا ما لا سبيل للقاتل إليه إلا أن يدرك المقتول قبل موته فيعفو عنه
ويحلله من قتله طيبة بذلك نفسه. وكذلك اختلف أيضا في القصاص منه هل يكون له
كفارة أم لا على قولين: وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في ذلك كله وما نزع به
كل فريق منهم من الكتاب والسنة في كتاب الديات من المقدمات، وبالله
التوفيق.
(18/193)
[المال الحلال يشوبه الحرام]
في المال الحلال يشوبه الحرام قال ابن
القاسم قال مالك قال ابن هرمز: عجبا للمرء يرزقه الله المال الحلال ثم
يحرمه من أجل الربح اليسير حتى يكون كله حراما.
قال محمد بن رشد: قوله ثم يحرمه من أجل الربح [يريد من أجل الربح] الحرام
الذي هو ربا، مثل أن يكون له على رجل مائة فيؤخره بها على أن يأخذ منه مائة
وعشرين. وقوله حتى يكون حراما ليس على ظاهره بأنه يحرم عليه جميعه ولا يحل
له منه شيء، لأن الواجب عليه فيه بإجماع من العلماء أن يرد الربح الذي أربى
فيه إلى من أخذه منه ويطيب له سائره، لقول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْتُمْ
فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:
279] . وإنما معنى قوله حتى يكون كله حراما، أي حتى يكون كله بمنزلة الحرام
في أنه لا يجوز له أن يأكل منه شيئا حتى يرد ما فيه من الربا، لأنه إن أكل
منه قبل أن يرد ما فيه من الربا فقد أكل بعض الربا لاختلاطه بجميع ماله
وكونه شائعا فيه. وكذلك على قوله لا يجوز لأحد أن يعامله فيه ولا أن يقبل
منه هبة، لأنه إذا عامله فيه فقد عامله في جزء من الحرام لكونه شائعا فيه.
وهذا هو مذهب ابن وهب من أصحاب مالك، وهو استحسان على غير قياس، لأن الربا
قد ترتب في ذمته وليس متعينا في عين المال على الإشاعة فيه، فعلى ما يوجبه
القياس تجوز معاملته فيه وقبول هبته، وهو مذهب ابن القاسم، وحرم أصبغ
معاملته فيه وقبول هبته وهديته، وقال: من فعل ذلك
(18/194)
يجب عليه أن يتصدق بجميع ما أخذ، وهو شذوذ
من القول على غير قياس، وبالله التوفيق.
[لباس الثوب المعصفر بالزعفران]
في لباس الثوب المعصفر بالزعفران قال
مالك: رأيت ابن هرمز يلبس الثوب بالزعفران. قال مالك: وبلغني أن عطاء بن
يسار كان يلبس الثوبين الرداء والإزار بالزعفران، فإني لألبسه وأستحب ذلك
وأراه حسنا، وللأشياء وجوه من ذلك السرف، فلا أحب السرف.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذا قبل هذا في رسم باع غلاما فلا وجه
لإعادته هاهنا، وبالله التوفيق.
[إمساك المخصرة]
في إمساك المخصرة قال مالك: وكان عطاء
بن يسار يمسك المخصرة، فقيل له: وما تفسير المخصرة؟ قال: يستعين بها، قال
فالرجل إذا كبر لم يكن مثل الشاب يقوى بها عند قيامه. قال مالك: وقد كان
بعض الناس إذا كان المطر خرجوا بالعصي يتوكئون عليها حتى إن كان الشباب
ليستحبون عصيهم، فلربما أخذ ربيعة من بعض من يجلس إليه العصا فما تزال معه
حتى يقوم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا إشكال فيه، وبالله التوفيق.
(18/195)
[فضل إطعام
الطعام]
في إطعام الطعام قال مالك: كان ابن عمر لا يكاد يوصل إلى طعامه، فقيل له يا
أبا عبد الله لم؟ قال: لتضايق الناس عليه وكثرة من يغشاه، ولقد نزل يوما
بالجحفة فأتى صبي أسود أغلف عريان سائل فسأله، فقال اقعد فكل، قال فدار فلم
يجد موضعا لتضايق الناس على الطعام، فلما رأى ذلك منه ابن عمر دعاه فألصقه
إلى صدره، فقال له كل، قال فزعم الذي حدث قال فلقد رأيته ولقد لصق إلى
بطنه.
قال محمد بن رشد: إطعام الطعام من أفعال الأبرار، قال الله عز وجل: {إِنَّ
الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}
[الإنسان: 5] {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا
تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا
كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى
حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] {إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] إلى قوله: {إِنَّ هَذَا كَانَ
لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 22] . وإطعام ابن
عمر الطعام من بعض فضائله، فلقد كان من فضلاء الأخيار المجتهدين الأبرار،
وبلغ من السن سبعا وثمانين سنة، وأفتى الناس ستين سنة، وحج ستين حجة، وأعتق
ألف رقبة، وحبس ألف فرس، واعتمر ألف عمرة، وكان لا ينام من الليل إلا
قليلا، وبالله التوفيق.
[السلام على أهل الذمة والرد عليهم]
من سماع أشهب بن عبد العزيز من مالك من كتاب الجامع قال أشهب بن عبد
العزيز: سئل مالك بن أنس عن السلام على أهل
الذمة والرد عليهم، فقال: لا.
(18/196)
قال محمد بن رشد: منع في هذه الرواية من أن
يسلم على أهل الذمة أو يرد السلام عليهم. فأما منعه أن يسلم عليهم فالوجه
أن السلام تحية وإكرام، وقد قال الله تعالى فيه: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] ، فيحب ألا يكون الكافر أهلا
لها، هذا من طريق المعنى. وقد جاء في ذلك الأثر أيضا، روي عن أبي عبد
الرحمن الجهني قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقول: «إني راكب غدا إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام وإذا سلموا عليكم فقولوا
وعليكم» . وقد روي أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مثله بمعناه من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبي هريرة.
وأما منعه في الرواية من الرد عليهم، فالمعنى في ذلك ألا يرد عليهم كما يرد
على المسلمين، وأن يقتصر في الرد عليهم بأن يقول وعليكم كما جاء في الحديث،
فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن اليهود إذا سلم عليكم
أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقل عليك» كذا قال في الموطأ: عليك بغير واو،
وفي غير الموطأ: وعليك - بالواو - والذي ينبغي في هذا أن يقول في الرد عليه
بغير واو. وإن تحققت أنه قال في سلامه السام عليك وهو الموت، أو السلام
عليك - بكسر السين - وهي الحجارة، وإن شئت قلت: وعليك - بالواو - لأنه
يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا على ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -، روي «عن عائشة أن اليهود دخلوا على النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا السام عليكم فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(18/197)
عليكم، فقالت عائشة: السام عليكم ولعنة
الله وغضبه يا إخوة القردة والخنازير، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: يا عائشة عليك بالحلم وإياك بالجهل، فقالت: يا رسول الله أما
سمعت ما قالوا؟ فقال: أما سمعت ما رددت عليهم فاستجيب لنا فيهم ولم يستجب
لهم فينا» . وإن لم تتحقق ذلك قلت وعليك - بالواو - لأنك إن قلت عليك بغير
واو وكان هو قد قال السلام عليكم كنت قد نفيت السلام عن نفسك ورددته عليه.
ومن أخطأ فسلم على اليهودي أو النصراني ابتداء فلا يستقيله، قال ذلك في
الموطأ، ومعناه أنه لا يلزمه أن يقول له أخطأت في سلامي عليك فلا تظن أني
قصدتك بسلامي وأنا أعلم أنك لست بمسلم، فسمى ذلك استقالة لأنه إذا فعل ذلك
فقد رجع في إكرامه له بالسلام وبطلت غبطة الذمي بذلك.
وقد قال الداودي إنه لا يستقيله من أجل أنه لا يلحقه بسلامه عليه بركة
فيسأله أن يرد ذلك عليه، وليس ذلك بشيء. وقد قيل إنه يقال في الرد على
الذمي عليك السلام - بكسر السين - وعلاك السلام أي ارتفع عنك. ومن أهل
العلم من أجاز أن يبدأ أهل الذمة بالسلام، وهو خلاف ما روي عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبالله التوفيق.
[الخضاب بالسواد]
في الخضاب بالسواد وسئل مالك عن الخضاب
بالسواد، فقال: ما علمت فيه النهي، وغيره أحسن منه.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم حلف ألا يبع سلعة
سماها من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق لا شريك له
(18/198)
[والي اليتيم هل يأكل من مال يتيمه]
في والي اليتيم هل يأكل من مال يتيمه؟
وسئل مالك عن اليتيم يكون عند الرجل وله مال وكرمات أيأكل من ماله؟ قال: لا
يأكل من ماله، فأما الفاكهة فهذا خفيف. قيل له: إبل يقوم عليها أينتفع
بظهرها ويشرب من لبنها؟ قال: لا ينتفع بظهرها، فأما أن يشرب من لبنها فلا
بأس بذلك، وذكر الحديث الذي جاء عن ابن عباس قال: إن كنت تليط حوضها.
قال محمد بن رشد: الحديث الذي جاء عن ابن عباس هو قوله للذي سأله هل يشرب
من لبن إبل يتيمه: إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها
يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب. واتفق أهل العلم جميعا
على تحريم أكل مال اليتيم ظلما وإسرافا وعلى أن ذلك من الكبائر، لقول الله
عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]
وقوله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا}
[النساء: 6] واختلفوا في القدر الذي يجوز للأوصياء من ذلك ويسوغ لهم لقول
الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ
فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] فذهب مالك وأصحابه -
(18/199)
- رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلى أنه لا يجوز
للوصي أن يأكل من مال يتيمه إلا بقدر اشتغاله به وخدمته فيه وقيامه عليه إن
كان محتاجا إلى ذلك. قال محمد بن المواز في كتابه عمن حكاه عنه من أهل
العلم على ما جاء عن عبد الله بن عباس في الحديث المذكور فوق هذا.
وأما إن كان غنيا عن ذلك فلا يفعل لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ
غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] وقيل إن للغني أن يأكل منه بقدر
قيامه عليه وخدمته فيه وانتفاع اليتيم به في حسن نظره له، فإن لم يكن له في
ماله خدمة ولا عمل سوى أنه يتفقده ويشرف عليه لم يكن له أن يأكل منه إلا ما
لا ثمن له ولا قدر لقيمته، مثل اللبن في الموضع الذي لا ثمن له فيه على ما
قاله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا، ومثل الفاكهة من
ثمر حائطه على ما قاله في هذه الرواية، ولا يركب دوابه ولا ينتفع بظهر إبله
ولا يتسلف من ماله. ومن أهل العلم من ذهب إلى أن لوالي اليتيم إذا كان
فقيرا أو احتاج أن يأكل من مال يتيمه بغير إسراف ولا قضاء عليه فيما أكل
منه، لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] . واختلف في معنى ذلك فقيل هو أن يأكل من ماله
بأطراف أصابعه ولا يكتسي منه؛ وقيل: هو ما سد الجوع ووارى العورة، ليس لبس
الكتان ولا الحلل؛ وقيل هو أن يأكل من ثمره، ويشرب من رسل ماشيته لقيامه
على ذلك، وأما الذهب والفضة فليس له أخذ شيء منهما إلا على وجه القرض؛
وقيل: إن له أن يأكل من جميع المال وإن أتى على المال ولا قضاء عليه، وقيل:
معنى قوله عز وجل: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] هو أن يأخذ
من ماله قدر قوته قرضا، فإن أيسر بعد ذلك قضاه، وروي هذا القول عن سعيد بن
المسيب، وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إني أنزلت
مال الله مني بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت
بالمعروف فإذا أيسرت قضيته، وبالله التوفيق.
(18/200)
[ما وصف به
شعيب النبي عليه السلام]
فيما وصف به شعيب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك وذكر الأنبياء
فقال: شعيب خطيب القوم أو قال خطيب الأنبياء.
قال محمد بن رشد: هذا مروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنه قاله فيه، لحسن مراجعته لقومه وبيانه لهم ووعظه إياهم، وذلك بين مما
قصه الله عز وجل علينا من أمره لقوله في سورة الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ
أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا
الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف: 85] الآيات إلى قوله: {فَتَوَلَّى
عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي
وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 93]
ومما قصه تعالى علينا على أمره بقوله في سورة هود: {وَإِلَى مَدْيَنَ
أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي
أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}
[هود: 84] الآيات إلى قوله: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ
إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}
[هود: 93] الآية، وبالله التوفيق.
[كراهة القصص]
في كراهة القصص قال: وسئل عن الجلوس إلى
القصاص فقال: ما أرى أن يجلس إليهم وإن القصص لبدعة.
قال محمد بن رشد: كراهة القصص معلومة من مذهب مالك
(18/201)
- رَحِمَهُ اللَّهُ -، روي عن يحيى بن يحيى
أنه قال: خرج معي فتى من طرابلس إلى المدينة فكنا لا ننزل منزلا إلا وعظنا
فيه حتى بلغنا المدينة، فكنا نعجب بذلك منه، فلما أتينا المدينة إذا هو قد
أراد أن يفعل بهم ما كان يفعل بنا، فرأيته في سماطي أصحاب السفط وهو قائم
يحدثهم ولقد لهوا عنه والصبيان يحصبونه ويقولون له أسكت يا جاهل، فوقفت
متعجبا لما رأيت، فدخلنا على مالك فكان أول شيء سألناه عنه بعد أن سلمنا
عليه ما رأينا من الفتى، فقال مالك: أصاب الرجال إذ لهوا عنه، وأصاب
الصبيان إذ أنكروا عليه باطله.
قال يحيى: وسمعت مالكا يكره القصص، فقيل له يا أبا محمد فإذ تكره مثل هذا،
فعلى ما كان يجتمع من مضى؟ فقال: على الفقه، وكان يأمرهم وينهاهم، وبالله
التوفيق.
[إطلاء الجنب]
في إطلاء الجنب وسئل مالك أيطلي الجنب؟
فقال: نعم وإن وجه النورة لوجه النقاء والطهور.
قال محمد بن رشد: المعنى في ذلك بين لا وجه للكراهة فيه، وبالله التوفيق.
[قول أهل النار سواء علينا أجزعنا أم صبرنا]
في قول أهل النار: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا}
[إبراهيم: 21] قال: وسمعته يتلو هذه الآية: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا
أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21] ثم قال: زعم زيد بن
أسلم أنهم صبروا مائة
(18/202)
عام ثم بكوا مائة عام ثم قالوا {سَوَاءٌ
عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:
21] قال محمد بن رشد: قول زيد بن أسلم لا يكون إلا عن توقيف من النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ لا مدخل في ذلك للرأي، وفي التلاوة
بإثر ذلك {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} [إبراهيم: 22] أي
لما حق العذاب على الكافرين، {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ
سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي
وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ
بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22] . جاء في التفسير أن
إبليس يقوم بهذا الكلام خطيبا بإذن الله وبئس الخطيب، إذا فصل بالقضاء أهل
الجنة من أهل النار توبيخا لأهل النار.
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عقبة بن
عامر الجهني أنه قال: «إذا بعث الله الأولين والآخرين فقضى بينهم وفرغ من
القضاء قال المؤمنون قد قضى بيننا ربنا فمن يشفع لنا إلى ربنا؟ قال:
انطلقوا بنا إلى آدم فإنه أبونا وخلقه الله بيده وكلمه، فيأتونه أن يشفع
لهم فيقول آدم عليكم بنوح فيأتون نوحا فيدلهم على إبراهيم ثم يأتون إبراهيم
فيدلهم على موسى ثم يأتون موسى فيدلهم على عيسى، ثم يأتون عيسى فيقول هل
أدلكم على النبي الأمي، فيأتون فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيفور ريح مجلسي
من أطيب ريح شمها أحد حتى أتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى
ظهر قدمي، ثم يقول الكافرون: هذا وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما
هو إلا إبليس الذي أضلنا فيأتونه فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم
أتت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيفور ريح مجلسه أنتن ريح شمها أحد
ثم تعظم جهنم، ثم يقول عند ذلك:
(18/203)
{إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ
سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي
وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ
بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] الآية» وبالله التوفيق.
[حلق القفا ووسط الرأس للمحاجم]
في حلق القفا ووسط الرأس للمحاجم قال
وسألته عن الذين يحتجمون فيحلقون مواضع المحاجم في القفا ووسط الرأس، فقال:
لا أحبه، وإني لأكرهه، وما فعلته قط ولا هممت، ولقد سمعت من يقول هذا من
فعل النصارى. قلت له: كيف أصنع؟ قال احتجم بالحطمى.
قال محمد بن رشد: كره حلق موضع المحاجم من وسط الرأس ومن القفا لما جاء من
أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن القزع» وهو
حلق بعض الرأس دون بعض، فعم ولم يخص حالا من حال، ولما فيه من التشبه
بالنصارى، وبالله التوفيق.
[المعتم لا يجعل تحت ذقنه منها شيئا]
في المعتم لا يجعل تحت ذقنه منها شيئا
وسئل مالك عن المعتم لا يجعل تحت ذقنه منها شيئا فكرهه.
قال محمد بن رشد: إنما كره ذلك مالك لمخالفة فعل السلف فيه.
قال ابن حبيب في الواضحة: ولا بأس أن يصلي الرجل في داره وبيته بالعمامة
(18/204)
يلفها ولا يلتحي بها، فأما في الجماعات
والمساجد فلا ينبغي ترك الالتحاء بها فإنه يقال إنها من بقايا عمل قوم لوط،
وبالله التوفيق.
في المعانقة والمصافحة وتقبيل الرجل
ابنته وأخته عند القدوم من سفر
وسئل مالك عن الذي يقدم من سفر فتتلقاه ابنته فتقبله، قال: لا بأس بذلك،
وقيل له فأخته وأهل بيته؟ قال: لا بأس به، قلت له: لا بأس بذلك كله يا أبا
عبد الله؟ قال لي: نعم، إنما هي على وجه الرحمة ليس قبل لذة.
قال: وسئل عن تعانق الرجلين إذا قدم من سفر. قال: ما هذا من عمل الناس. قيل
له فالمصافحة؟ فكرهها وقال هي أخف. قال: وسئل عن معانقة الرجل أخته إذا قدم
من سفر، قال ما هذا من عمل الناس. قال: وسئل مالك عن معانقة الرجلين أحدهما
صاحبه إذا التقيا أترى بها بأسا؟ قال: نعم. قيل له فالمصافحة؟ قال ما كان
ذلك من أمر الناس وهو أيسر. قال: وسمعته يقول إنما أفسد على الناس تأويل ما
لا يعلمون.
قال محمد بن رشد: أجاز للذي يقدم من سفر أن تتلقاه ابنته أو أخته فتقبله
ولم ير بذلك بأسا لأن ذلك على سبيل الرحمة لا يراد به لذة ولا ينقض الوضوء
على ما قاله في أول سماع أشهب من كتاب الوضوء، وقال في أهل بيته مثل ذلك،
ومعناه في ذوي المحارم منهن، لأن أهل بيت الرجل هم المنتسبون إلى من يتنسب
إليه ذلك الرجل من رجل أو امرأة، فمنهم بنات الأعمام وهن كالأجنبيات في أنه
لا يجوز تقبيلهن على وجه الرحمة. وكره في
(18/205)
هذه الرواية المصافحة والمعانقة إلا أنه
رأى المصافحة أخف من المعانقة، وهي رواية ابن وهب عنه، والمشهور عن مالك
إجازة المصافحة واستحبابها فهو الذي يدل عليه مذهبه في الموطأ بإدخاله فيه
عن عطاء بن عبد الله الخراساني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء»
والآثار فيها كثيرة منها حديث البراء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من مُسْلِمَيْنِ يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما
قبل أن يفترقا» . وإنما المعلوم من مذهب مالك كراهية المعانقة، ومن أهل
العلم من أجازها، منهم ابن عيينة، ووجه كراهيتها أنها لم ترو عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن السلف بعده، ولأنها مما تنفر
عنها النفس في كل وقت، إذ لا تكون في الغالب إلا لوداع أو من طول اشتياق
لغيبة أو مع الأهل أو ما أشبه ذلك. وتفارق المصافحة لوجود العمل بها. ووجه
إجازتها اعتبارها بالمصافحة. وقد روي من حديث أبي ذر أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصافحه فجاء مرة فالتزمه، وهذا يمكن أن
يكون فعله مرة ولم يداوم عليه، وبالله التوفيق.
[كراهة طرح القمل في النار]
في كراهة طرح القمل في النار قال: وسئل
عن طرح القمل في النار، فقال: إن الرجل في السفر يشتغل حتى يتفلى بالليل
على النار لا يجد من ذلك بدا، قال: لا وهذه مثلة وإني أكرهه. وقد نزل نبي
من الأنبياء تحت شجرة فلسعته نملة فقتل نملا كثيرا فأوحى الله إليه: أفلا
نملة واحدة؟ قال مالك: فلله حق في عباده وفي بايت من هذه الدواب.
(18/206)
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز طرح القمل في
النار لأن ذلك تعذيب لها، وقد نهي عن تعذيب الحيوان، هذا معنى قوله وهذه
مثلة، لأن المثلة تعذيب للدابة الممثل بها، وقد جاء النهي عنها. روي «عن
سمرة بن جندب قال: ما خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- خطبة إلا أمرنا فيها بالصدقة ونهانا فيها عن المثلة» . وقتل القمل بالنار
تعذيب لها يوجب أن يدخل ذلك تحت النهي عن المثلة. وقد روي في بعض الآثار:
«لا يعذب بالنار إلا رب النار» فما جاز قتله من الدواب، لإذايتها لم يجز
قتله إلا بوجه القتل الذي لا مثلة فيه ولا عذاب.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا
قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» ووجه استدلال مالك فيما
أوحى الله به إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما قتل من النمل أن
العتاب يكون في التعدي في صفة القتل كما يكون في التعدي في القتل، وبالله
التوفيق.
[ما يبقى من الثمر في الثمار بعد الجذاذ]
فيما يبقى من الثمر في الثمار بعد
الجذاذ، ومن السنبل في الفدان بعد الحصاد وسئل عن الثمار تجذ ثم يخلى عنها
فيكون فيها الشيء
(18/207)
المعلق. فقال: إن كان يعلم أن أنفسهم طيبة
له بأخذه إياه فليأخذه. قال: وسئل عن الزرع يحصد فتبقى منه السنبل والشيء
الذي يخلى عنه أهله أيأكله؟ فقال: لا يأكل إلا ما يعلم أنه حلال، وقد كان
يقال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال. وتحصيل القول في ذلك أنه إن علم أن صاحبه قد
تركه لمن أخذه من غني أو فقير جاز له أن يأخذه غنيا كان أو فقيرا، وإن علم
أن صاحبه قد تركه للمساكين لم يجز له أن يأخذه إلا أن يكون مسكينا. وإن لم
يعلم هل تركه صاحبه على أن يعود إليه أو على إلا يعود إليه لم يحل له أن
يقدم على أخذه دون أن يستأذنه، وإن غلب على ظنه أن صاحبه قد تركه لمن أخذه
ولم يعلم ذلك يقينا فهذا يكره له أخذه ويقال له: دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك، وبالله تعالى التوفيق.
[المسافر هل له أن يصيب مما مر به من الثمار]
في المسافر هل له أن يصيب مما مر به من الثمار
قال: وسئل الحسن أيجوز للمسافر أن يصيب من الثمار؟ قال: إن كان ضرورة وإلا
فلا. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحلبن أحد
ماشية أحد إلا بإذنه» ففي هذا بيان، وليس شيء من الأشياء أيسر من اللبن
يحلب بكرة ويرجع عشية، والثمر لا يرجع حتى إلى عام قابل.
قال محمد بن رشد: وهذا معلوم من مذهب مالك أنه لا يجوز له أن يصيب من
الثمار كما لا يجوز له أن يحلب من لبن الشاة إذا لم يضطر إلى
(18/208)
ذلك، فإن اضطر أكل من الثمار ولم يأكل
الميتة، ولا ينبغي أن يختلف في هذا، إذ من أهل العلم من يجيز له أن يأكل من
الثمر من غير حاجة، وإنما اختلف إذا اضطر فوجد مالا لرجل غنما أو ضالة إبل
ووجد الميتة، هل يأكل منها أو يأكل من الميتة؟ فقيل: إنه يأكل منها ولا
يأكل من الميتة، وقيل: إنه يأكل من الميتة ولا يأكل منها. واختلف إن لم يجد
الميتة وخشي على نفسه إن لم يأكل منها، فقيل إنه يأكل منها ما يرد به جوعه
ولا غرم عليه فيه، وقيل: إنه لا يأكل منها إلا على سبيل السلف؛ فيتحصل في
المسألة أربعة أقوال: أحدها المساواة بينهما، والثاني: أن الأولى له إذا
وجدهما أن يأكل الميتة، والثالث: أن الأولى إذا وجدهما أن يأكل المال،
والرابع أن لا يأكل المال بحال إلا على سبيل السلف. وقد مضى بيان هذا في
رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[يمر بجنان أبيه أو أمه أو أخيه هل يأكل من
ثمره]
في الذي يمر بجنان أبيه أو أمه أو أخيه
هل يأكل من ثمره؟ وكيف إن أطعمه حارسه؟ قال: وسئل عمن مر على جنان أبيه أو
أمه أو أخيه أيأخذ منه ما يأكل؟ قال: لا يأكله إلا إن كانوا أذنوا له. قيل
له: أرأيت إن أطعمني حارسه أو باعني؟ قال: إن كنت تعلم أنه قد أذن له فنعم،
قيل له: فكيف نعلم ذلك؟ قال ذلك يختلف أن يقول له أصحاب الحوائط إلى جنبه
حين يسألهم قد رأيناه يبيع ويصنع وتكون هيئة القيم شبه ذلك فذلك لا بأس به
أن يشتري منه، وأما العبد الأسود الذي يستخفي فلا خير فيه.
(18/209)
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا
مستوفى في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته،
وبالله التوفيق.
[مجالسة القدرية والحجة عليهم]
في مجالسة القدرية والحجة عليهم وسألته
عن مجالسة القدرية وكلامهم، فقال لي: لا تكلمهم ولا تقعد إليهم إلا أن تجلس
إليهم تغلظ عليهم. قلت: إن لنا جيرانا لا أكلمهم ولا أخاصمهم، فقال: لا
تجالسهم عادهم في الله، يقول الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] فلا توادهم. قال مالك: ما أبين هذا في الرد
على أهل القدر، {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي
قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 110] وقَوْله تَعَالَى: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ
قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] فهذا لا يكون أبدا ولا يرجع ولا
يزال. قال: وسئل عن عيادة أهل القدر، قال: لا تعودوهم ولا تحدث عنهم
الأحاديث.
قال محمد بن رشد: نَهْيُ مالكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الرواية عن أن
يجالس أهل القدر أو يؤاخوا أو تحمل عنهم الأحاديث يدل على أنه لم يرهم
كفارا بمآل قولهم الذي يعتقدونه ويدينون به، مثل قوله في هذا السماع من
كتاب المحاربين والمرتدين: إنهم قوم سوء فلا يجالسون ولا يصلى وراءهم، خلاف
قوله فيهم في أول سماع ابن القاسم منه. وقد مضى هنالك
(18/210)
من القول فيهم ما فيه كفاية، والحجة عليهم
فيما يعتقدونه بالآيتين المذكورتين بينة ظاهرة، لأن الله أعلم فيهما بما
يكون من عباده وهم يقولون إنهم خالقون لأفعالهم فلا يعلم الله ما يفعلونه
مما لا يفعلونه حتى يفعلوه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
[وصية لقمان لابنه]
في وصية لقمان لابنه قال: وقال مالك:
كان لقمان الحكيم يقول لابنه: يَا بُنَيَّ لَا تُجَالِسِ الْفُجَّارَ وَلَا
تُمَاشِهِمْ اتَّقِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ
فَيُصِيبَكَ مَعَهُمْ. يَا بُنَيَّ جَالِسِ الْفُقَهَاءَ وَمَاشِهِمْ عَسَى
أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ فَتُصِيبَكَ مَعَهُمْ.
قال محمد بن رشد: قد بين لقمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لابنه في وصيته وجه
ما أمره به ونهاه عنه، فمن الحظ لكل مسلم أن يلتزم وصيته ويحافظ عليها،
وبالله التوفيق.
[مقالة عمر التي خطب بها في آخر العام الذي
توفي فيه]
في مقالة عمر التي خطب بها في آخر
العام الذي توفي فيه قال: وسمعته يحدث عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أقول لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها ولعلها
بين يدي أجلي، فمن وعاها وعقلها فليحدث بها حيث انتهت به
(18/211)
راحلته، ومن لم يعقلها ولم يعها فلا أحل له
أن يكذب علي، فسألته أنا فرد الحديث علي.
قال محمد بن رشد: قوله قد قدر لي أن أقولها، معناه قد قضى الله بذلك في
سابق علمه، فهو إيمان منه بالقدر، خلاف ما يذهب إليه القدرية مجوس هذه
الأمة. وإنما قال: ولعلها بين يدي أجلي أي قرب أجلي، لأن كعبا قال له:
والله لا ينسلخ ذو الحجة حتى يرحل، حكى ذلك الداودي.
وقوله فرد الحديث علي، معناه فأعاده علي. والحديث محفوظ عن ابن شهاب من
رواية مالك، حدث به عنه عن عبد الله بن عمر، عن ابن عباس أنه كان يقرئ ابن
عوف، قال ولم أر أحدا يجد من القشعريرة عند القراءة ما يجد. قال: فجئته
فالتمسته يوما فلم أجده، فانتظرته حتى جاء من عند عمر، فقال لي: لو رأيت
رجلا قال لعمر كذا وكذا وهو يومئذ بمنى آخر حجة حجها عمر، قال لو قد مات
عمر بايعت فلانا، فقال عمر إني لقائم العشية في الناس فأحذرهم هؤلاء الذين
يغصبون هؤلاء الأئمة أمرهم، فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل ذلك يومك هذا،
فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم الذين يغلبون على مجلسك، فأخشى
إن قلت فيهم [اليوم] مقالة أن يطيروا بها ولا يضعوها على مواضعها، أمهل حتى
تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم وتقول
ما قلت متمكنا فيعُوا مقالتك ولا يضعوها إلا على مواضعها، فقال عمر: والله
لئن قدمت المدينة صالحا لأكلمن بها الناس في أول مقام أقومه. قال ابن عباس:
فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، وجاء يوم الجمعة فهجرت عمي لما أخبرني ابن
عوف، فوجدت سعيد بن زيد قد سبقني بالتهجير فجلس إلى جانب المنبر،
(18/212)
فقلت لسعيد بن زيد وعمر مقبل: أما والله
ليقولن أمير المؤمنين على هذا المنبر مقالة لم يقلها أحد قبله، فقال سعيد:
وما عسى أن يقول؟ فلما جلس عمر على المنبر أذن المؤذن، فلما سكت قام عمر
فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإني قائل لكم مقالة
قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها
حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعيها فلا أحل لأحد أن يكذب علي. إن
الله عز وجل بعث محمدا وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم
فقرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده، وأخشى إن طال زمان أن يقول قائل: والله ما نجد
آية الرجم في كتاب الله عز وجل، فتترك فريضة أنزلها الله عز وجل، فإن الرجم
حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو
كان الحمل أو الاعتراف. ثم إنا كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم
أن ترغبوا عن آبائكم، ثم إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: «لا تطروني كما أطري ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله
ورسوله» ثم إنه بلغني أن منكم من يقول والله لو قد مات عمر لبايعت فلانا،
فلا يغترن امرؤ أن يقول: كانت بيعة أبي بكر فلتة فإنها قد كانت فلتة كذلك،
إلا أن الله قد وقى شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وإنه
قد كان من خبرنا حين توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا وتخلفت الأنصار عنا بأسرها واجتمعوا
في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فبينا نحن في منزل رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا برجل ينادي من وراء
الجدار: اخرج إلي يا ابن الخطاب، فقلت إليك عني فأنا عنك متشاغل، فقال: قد
حدث أمر لا بد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة فأدركوا
من قبل أن يحدثوا أمرا يكون بينكم وبينهم فيه
(18/213)
حرب، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا
هؤلاء الأنصار، فانطلقنا نؤمهم ولقينا أبا عبيدة بن الجراح فأخذ بيده أبو
بكر ومشى بيني وبينه حتى إذا دنونا منهم لَقِيَنَا رجلان صالحان فذكر لهما
ما صنع القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلت: نريد إخواننا
هؤلاء من الأنصار، فقالا: اقضوا أمركم فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى
أتيناهم فإذا هم جميعا في سقيفة بني ساعدة، وإذا بين أظهرهم رجل مزمل فقلت:
من هذا؟ فقال: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ فقالوا: هو وجع. فلما جلسنا تكلم
خطيب الأنصار فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله
وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا. وكنت رويت مقالة أعجبتني
أريد أن أقوم بها بين يدي أبي بكر، وكنت أدري من أبي بكر بعض الجد. فلما
أردت أن أتكلم تكلم أبو بكر وهو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك كلمة أعجبتني
في ترويتي إلا تكلم بمثلها أو أفضل منها في بديهته حتى سكت، فتشهد أبو بكر
وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد، أيها الأنصار، فما ذكرتم فيكم
من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش: هم
أوسط العرب نسبا ودارا. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم،
وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن
أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم
أبو بكر الصديق إلا أن تتغير نفسي عند الموت، فلما قضى أبو بكر مقاله قال
قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير
يا معشر قريش. قال: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى خِفت الاختلاف، فقلت:
ابسط يدك يا
(18/214)
أبا بكر [أبايعْك] فبسط يده فبايعته وبايعه
المهاجرون والأنصار، فمررنا على سعد بن عبادة فقال قائل من الأنصار قتلتم
سعدا. فقلت وأنا مغضب: قتل الله سعدا فإنه صاحب فتنة وشر، والله ما رأينا
فيما حضرنا من أمرنا أمرا كان أقوم من بيعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم
قبل أن تكون بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نتابعهم على ما لا نرضى،
وإما أن نخالفهم فيكون فسادا. فلا يغترن امرؤ أن يقول كانت بيعة أبي بكر
فلتة وقى الله شرها. ألا وإنه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر الحديث.
وقوله فيه إن ابن عباس كان يقرئ ابن عوف، معناه أنه كان يقرأ عليه ليتعلم
منه. والقشعريرة: رعدة كانت تأخذه من الوجل والخوف. قال الله عز وجل:
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] وقال:
{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] .
وقول عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا
تفعل، بمعنى الرأي يشير به لا بمعنى النهي.
وقوله يا أمير المؤمنين توقير له، وكذلك ينبغي أن يفعل بأئمة العدل.
وقول القائل لو قد مات عمر بايعت فلانا، يريد رجلا لا يستحق الخلافة، ولذلك
أنكر عمر قوله ووعد أن يقول مقالة يحذر الناس فيها من الذين يريدون أن
يغتصبوا الأئمة أمرهم.
(18/215)
وقوله: لا يغترن امرؤ أن يقول: كانت بيعة
أبي بكر فلتة: يقول لا يحدث نفسه أن يفعل مثل ذلك فيتم له فإن هذا لا يكون،
لأن الله تعالى إنما وقى شر ذلك وإن كانت فلتة لما بان به أبو بكر من الفضل
الذي لا ينازع فيه.
وقوله: تنقطع دونه الأعناق: يقول ليس أحد يرفع رأسه إلى مساواة أبي بكر.
وقوله كان من خيرنا معناه كان خيرنا، ومن صلة، مثل قوله عز وجل: {فَمَا
كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ} [القصص: 81] ، {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود: 20] .
وقوله: إن الله بعث محمدا وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية
الرجم، يريد قوله في حديث الموطأ: «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة،
فقرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال زمان أن يقول قائل: والله ما نجد
آية الرجم في كتاب الله عز وجل فتترك فريضة أنزلها الله عز وجل، فإن الرجم
حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو
كان الحمل أو الاعتراف» . وقد اختلف في قوله الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما البتة، وقيل: كان ذلك قرآنا يتلى على ظاهر قول عمر ثم نسخ خطه
وبقي حكمه، فقيل: لم يكن قرآنا وإنما كان وحيا أوحي به إلى النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان يتلى على أنه وحي لا على أنه قرآن، وهذا
هو الذي نختاره، إذ لو كان قرآنا لم يخل أن يكون محكما أو منسوخا، ولا يصح
أن
(18/216)
يكون محكما إذ لو كان محكما لثبت بين
اللوحين ولما صح سقوطه، لأن الله عز وجل قد حفظ القرآن فقال: {إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، ولا
يصح أن يكون منسوخا لوجهين: أحدهما وجوب العمل به، والثاني إرادة عمر أن
يكتبه في المصحف، إذ يبعد أن يريد أن يكتب في القرآن ما ليس من القرآن.
فإذا بطل أن يكون محكما وأن يكون منسوخا بطل أن يكون قرآنا، فإنما كان وحيا
يتلى أنزله الله تعالى على نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بيانا لمجمل
كتابه، فهم عمر بن الخطاب أن يكتبه في عرض المصحف على أنه وحي وبيان لمجمل
كتاب الله لا على أنه قرآن، ثم لم يفعل لما خشي أن يظنه الجاهل قرآنا.
وإنما قال عمر ابن الخطاب: الرجم في كتاب الله عز وجل حق، من أجل أن الوحي
قد بين أن مراد الله عز وجل بقوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}
[النور: 8] هو الرجم، وأن الحكم الذي يتعلق بالمحصنات في قوله عز وجل:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ} [النور: 4] هو الرجم، والله أعلم. وقد قيل إنه كان يقرأ وحيا
فظنه عمر قرآنا، قاله إسماعيل القاضي، وهو بعيد، لأن عمر لا يصح عليه أن
يظن قرآنا ما ليس بقرآن، لأن من علامات القرآن أنه محفوظ معلوم لا يصح الشك
فيه ولا الارتياب في شيء منه.
وفي هذا الحديث وجوه من الفقه، منها:
أن الإمامة تنعقد وتتم برجل واحد من أهل الحل والعقد إذا عقدها الرجل على
صفة ما يجب أن يكون عليه الأئمة، ويجب أن يحضر العقد له نفر من المسلمين،
وقد قيل إن أقل ما يجب أن يحضره أربعة نفر سوى العاقد والمعقود له قياسا
على فعل عمر في الشورى، وهذا لا يلزم، لأن عمر لم يقصد
(18/217)
بجعلها شورى في تحديد عدد الحاضرين للعقد،
وإنما جعلها فيهم دون غيرهم لأنهم أفاضل الأمة، وقد أخبر بذلك عمر عن نفسه:
أما إنه لو حضرني سالم مولى أبي حذيفة لرأيت أني قد أصبت الرأي وما تداخلني
فيه الشكوك، يريد في أخذ رأيه ومشورته.
وفيه أن الإمامة فرض، وقد قال بعض الناس إنها سنة، واحتج من ذهب إلى ذلك
بأن الأمة بقيت بلا خليفة من وقت وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إلى أن استخلف أبو بكر، ومن وقت موت عثمان إلى أن بويع لعلي.
قال: ولم يكن الله سبحانه ليجمع الأمة على تضييع فريضة. واحتج من رآها
فريضة بأن الفروض تقام بها وبأنه أمر لا يوجد السبيل إلى تركه، قال: وليس
إن بقي الناس وقتا من النهار بلا خليفة تعطلت الفروض، إذ لم يضع فيه فرض
ولا حق لم يدرك في غيره.
وفيه دليل أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يعهد، ولو عهد لاحتج به أبو
بكر.
وفيه النصيحة لأهل الإسلام والقيام بالحق في العسر واليسر.
وفيه إقرار عمر لأبي بكر الصديق بأنه أفضل منه وأقوى على الأمر منه.
وقوله: نزونا على سعد، يعني الوثوب لتبادرهم إلى بيعة أبي بكر. وقوله: قتل
الله سعدا فإنه رأس فتنة، يعني أنه لو تم ما
(18/218)
اجتمعت الأنصار إليه كانت فتنة، لأن العرب
لا تقر بذلك لهم. وقوله قتل الله سعدا ليس على معنى الدعاء، وإنما هو بمعنى
الذم والإنكار لفعله، وربما قالت العرب ذلك في المدح للرجل عند الإعجاب
بفعله، يقولون: أجاد قاتله الله، وكان سعد سيد الخزرج وأحد النقباء، شهد
أحدا وما بعدها. وقد روي من الطرق الصحاح أنه لم يقل أحد منهم لأحد إلا
خيرا، وإن بويع لخليفة بعد آخر قتل الآخر، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب قال:
إذا بويع خليفة فإن بويع آخر فليقتل الثاني. وإنما قال ذلك لأن بيعة الثاني
تجر إلى فساد.
وقد أباح الله القتل بالفساد بقوله: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}
[المائدة: 32] ، وقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] الآية. وفي
الحديث أيضا غير ما وجه، من ذلك فضل التهجير إلى الجمعة، وأن المؤذن يؤذن
الجمعة بعد جلوس الإمام على المنبر، وأن يمين المنبر ما بين المنبر
والمحراب وهو أشرف أماكن المسجد، وبالله التوفيق.
[قول العالم لا أدري فيما لا يدري]
في قول العالم لا أدري فيما لا يدري
وقال [في] رجل [قال] لعبد الله بن عمر: كيف تقول في ودية بوديتين، فسكت
عنه، ثم أعاد عليه فقال ابن عمر ودية
(18/219)
بودتين وودتين بودية لا علم لي. قال: وسئل
ابن عمر عن فريضة فقال لا علم لي، فقال السائل: إذا لم تعلم وأنت صاحب رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وابن عمر بن الخطاب، فمن يعلم؟
فقال ابن عمر: من علمه الله عز وجل إياها، ثم دله ابن عمر على رجل فذهب
إليه. قال: وقال مالك عن يحيى بن سعيد إن أبا بكر الصديق كان يقول: أي أرض
تقلني وأي سماء تظلني إن قلت على الله ما لا أعلم.
قال محمد بن رشد: كان يلزم العالم أن يقول لا أدري إذا سئل عما لا يدرى،
فإن الذي يجهل من العلم أكثر من الذي يدري. قال الله عز وجل: {وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] . ولا ينبغي أن
يتكلم في شيء من العلم إلا بعد روية وتدبر. وقد قال بعض العلماء: إذا علمت
فقل، وما أستؤثر عليك بعلمه فكله إلى عالمه، وبالله التوفيق.
[العزلة عن الناس وكراهة الدخول في الفتن]
في العزلة عن الناس وكراهة الدخول في الفتن
قال: وقال يحيى بن سعد إن رجلا يدعى بأبي الجهيم عمي وترك مجالسة الناس
واعتزلهم، فقيل له: ألا تجالس الناس؟ فقال: إني وجدت قرب الناس من الشر.
قال: وكان عبد الله بن عمرو بن العاص جليسا - لأبي الجهيم يتحدثان، فكان من
عبد الله ما كان، فسأل عنه فأخبر فحلف ألا يكلمه أبدا. فلما قدم عبد الله
أتاه
(18/220)
فسلم عليه فكلمه فلم يكلمه، فقال عبد الله:
قد علمت لم فعلت. هذا فاعتذر، فقال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لي: أطع أباك» .
قال محمد بن رشد: أبو الجهيم هذا هو، والله أعلم، أبو الجهيم أيضا من
الصحابة. روي عنه أنه قال: «أقبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من نحو بئر حمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[شيئا] حتى أتى على جدار فمسح بوجهه
ويديه ثم رد السلام عليه» . ويحتمل أن يكون أبا جهيم عبد الله بن جهيم الذي
روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «المار بين يدي
المصلي أنه لو علم ما عليه في المرور بين يديه لكان أن يقف أربعين خيرا له
من أن يمر بين يديه» .
وعبد الله بن عمرو بن العاص مشهور من فضلاء الصحابة وعلمائهم، قرأ الكتب
واستأذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أن يكتب حديثه
فأذن له، «قال: يا رسول الله، أكتب كما أسمع منك في الرضا والغضب، قال: نعم
فإني لا أقول إلا حقا» . وقال أبو هريرة: ما كان أحد أحفظ لحديث رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان
يكتب
(18/221)
ولا أكتب. وكان يسرد الصوم ولا ينام [من
الليل] فشكاه أبوه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لعينك عليك
حقا وإن لأهلك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا قم ونم وصم وأفطر صم ثلاثة أيام
من كل شهر فإنه صوم الدهر. قال: إني أطيق أكثر من ذلك، فلم يزل يراجعه في
الصيام حتى قال له لا صومَ أفضلُ من صومِ داوودَ كان يصوم يوما ويفطر يوما»
. فتمادى على ذلك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ونازل رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قراءة القرآن من شهر إلى سبع وراجعه في
ذلك بقوله: إني أطيق أكثر من ذلك، حتى قال له: لا تقرأه في أقل من سبع
وبعضهم يقول في أقل من خمس. والذي عتب عليه فيه أبو جهيم وحلف من أجله ألا
يكلمه شهوده صفين مع معاوية. وقد اعتذر من ذلك وأقسم أنه لم يرم فيها برمح
ولا سهم، وأنه إنما شهدها لعزم أبيه عليه في ذلك، وأن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «أطع أباك» .
وروي عنه أنه يقول: ما لي ولصفين، ما لي ولقتال المسلمين، والله لوددت أني
لم أحضر شيئا منها، وأستغفر الله عز وجل من ذلك وأتوب إليه، إلا أنه ذكر
أنه كانت بيده الراية يومئذ فندم ندامة شديدة على قتاله مع معاوية، وجعل
يستغفر الله من ذلك ويتوب إليه، ولم يدخل فيما دخل إليه من ذلك إلا وهو يرى
باجتهاده أنه سائغ له، ثم رأى البصيرة في خلاف ذلك فندم واستغفر الله مخافة
أن يكون قصر في الاجتهاد، فهو محمود في كلتا الحالتين إن شاء
(18/222)
الله. وقد مضى هذا بمعناه في رسم كتب عليه
ذكر حق من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[حكاية عن عبد الله بن عمر]
قال: وقدم عبد الله بن عمر الجحفة وبها ابن عامر بن كريز فوضع ابن عمر
طعاما فكان يأكل، فقال ابن عمر لطباخه احمل إليه طعاما فوضعه بين يديه،
فلما أكل لونا أتاه بلون آخر، فذهب ليأخذ الذي بين يديه ليرفعه، فقال له
ابن عامر ما تريد؟ فقال: أرفع هذا وأضع هذا، فقال له ابن عمر: صبه عليه،
فصبه، ثم أتاه أيضا بلون آخر فقال أيضا: صبه عليه فصبه، ثم ذهب الطباخ إلى
ابن عامر فقال له: هذا الأعرابي فعل كذا وكذا، فقال: انظر ما أمرك به
فاصنعه.
قال محمد بن رشد: هذا بين من تواضع عبد الله بن عمر وفضله وتركه لسير
الملوك المترفين في الدنيا، وبالله التوفيق.
[التلطف في سؤال العالم]
في التلطف في سؤال العالم ومن
المتظاهرتين على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
أزواجه قال مالك عن أبي النضر عن علي بن حسين عن ابن عباس أنه أراد أن يسأل
عن اللتين تظاهرتا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(18/223)
من أزواجه، فأخبر أن عمر بن الخطاب يعلم
ذلك، فأقام سنة يريد أن يسأله عن ذلك ويهابه إن سأله حتى سافر معه سفرا
فرآه ابن عباس جالسا تحت شجرة فأتاه فحادثه ثم قال: يا أمير المؤمنين، إني
أريد أن أسألك عن شيء منذ سنة، فقال عمر: ما لك لم تسأل؟ فقال: خفت أن
تعاتبني، فلما كان الآن قلت: إن عاتبني عاتبتني خاليا، فقال عمر: سل، فقال
ابن عباس: من اللتان تظاهرتا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من نسائه؟ فقال عمر: عائشة وحفصة.
قال محمد بن رشد: كانت حفصة مصافية لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
وكانتا متظاهرتين متعاونتين على نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وجاء عن ابن عباس أنه قال: «كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسع نسوة ولكل واحدة منهن بيت وحجرة، ولكل امرأة منهن
يوم وليلة من نفسه» .
فلما كان يوم عائشة الذي يأتيها فيه زارت حفصة أباها عمر - رَحِمَهُ
اللَّهُ - فاغتنم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلوة
بيتها فدعا جاريته مارية القبطية إلى بيت حفصة. فلما جاءت حفصة أبصرت بابها
مغلقا فأحست أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه،
فجلست حتى فتح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الباب، فقالت: قد
عرفت من معك، فقال لها لتكتمن علي، فقالت: نعم، قال: فإنها علي حرام، يعني
مارية، وأخبرك أن أبا بكر سيملك أمر أمتي من بعدي، وأن أباك من بعده،
فانطلقت إلى عائشة فأخبرتها بما استكتمها، ونزل جبريل - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - فأخبره بذلك، فغضب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما أتته عرفها
ما فعلت، فقالت يا رسول الله من أنبأك أني قلت هذا لعائشة؟ قال أنبأني
العليم الخبير. فأتته عائشة فقالت: يا رسول الله هذا فعلت في يومي، فأما
أيام نسائك فتتمها، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: من أخبرك بهذا؟ قالت:
حفصة، فطلق حفصة تطليقة واعتزل نساءه في مشربة مارية، فمكث تسعة
(18/224)
وعشرين يوما ينتظر ما ينزل فيهم، وماج
الناس في ذلك، وأتى عبد الله بن عمر أخته فوجدها تلطم وجهها، فقال لها
مالك؟ فقالت: طلقني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرجع
إلى أبيه فأخبره بذلك. فلما مضت تسع وعشرون ليلة نزلت هذه الآيات: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:
1] ، أي من نكاح مارية، {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]
الآية. وكذلك روى قتادة أنه قال: حرم جاريته فكانت يمينا. وقال بعضهم: حلف
وحرم، وقال إسماعيل فقد يمكن أن يكون حرمها بيمين بالله.
وروي أنه حرمها، فقالت: يا رسول الله، كيف تحرم عليك الحلال؟ فحلف بالله
ألا يصيبها. وجاء في التفسير عن عبد الله بن عتبة وابن أبي مليكة أن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب عسلا عند زينب بنت جحش، فأجمعت
عائشة وحفصة - رحمهما الله - أن تقولا له إنا نشم عليك ريح المغافير.
والمغافير: صمغ متغير الرائحة، ويقال إنها بقلة، واحدها مُغْفور - مضموم
الميم - فلما صار إلى كل واحدة منهما قالت له: إني أشم منك ريح المغافير،
فحرم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شرب العسل، وقيل: إنه حلف على ذلك.
ولعل القصتين جميعا قد كانتا، إلا أن أمر الجارية أشبه، لقوله سبحانه
{تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] ولقوله عز وجل: {وَإِذْ
أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] فكان
ذلك في الأمة أشبه، لأن الرجل يغشى أمته في سر ولا يشرب العسل في سر، وفي
تحريم الأمة مرضاة لهن. وفي الصحيح من الحديث أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يطلق واحدة من نسائه، «وأن عمر بن الخطاب
لما قيل له إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلق نساءه
دخل على حفصة فإذا هي تبكي، فقال: أطلقكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقالت: لا أدري، وهو ذا معتزل في هذه المشربة،
فاستأذن على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(18/225)
وسلم - في الحجرة، قال فقلت: يا رسول الله
أطلقت نساءك؟ قال: لا» وكان أقسم ألا يدخل على نسائه شهرا، فعاتبه الله عز
وجل في ذلك وجعل له كفارة في حديث طويل من رواية الزهري عن عبيد الله بن
عبد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب، قال الزهري: فأخبرني عروة «عن
عائشة قالت: فلما مضت تسع وعشرون دخل علي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: يا عائشة إني ذاكر لك شيئا فلا تعجلي حتى تستأمري أبويك،
قالت: ثم قرأ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ}
[الأحزاب: 28] الآية، فقلت: أفي هذا استأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله
والدار الآخرة» . وفي حديث آخر أنها قالت له: «يا رسول الله، لا تخبر
أزواجك أني أخبرتك فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنما بعثني الله معلما
ولم يبعثني معنتا» وبالله التوفيق.
[أحكام التناجي]
في التناجي وسئل عن الأربعة يكونون جميعا يتناجى ثلاثة دون واحد فقال: قد
نهي أن يترك واحد، لا أرى ذلك ولو كانوا عشرة أن يتركوا واحدا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إنما نهي الثلاثة أن يتناجى اثنان
منهم دون الواحد من أجل أن ذلك يحزنه على ما جاء في حديث ابن مسعود، ويحزنه
ويسوؤه على ما جاء في حديث ابن عمر. فإذا تناجى الجماعة دون الواحد كان ذلك
على الواحد أشد في الإساءة والحزن وأبين في سوء الأدب معه وقلة المراعاة
له. وقد روي أن عبد الله بن عمر حدث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون
(18/226)
الثالث» فقيل له فإن كانوا أربعة قال: لا
بأس بذلك، معناه لا بأس أن يتناجى الاثنان منهم دون الاثنين وإن كان
الاثنان لا يتناجيان. وأما أن يتناجى منهم الثلاثة دون الواحد فلا يجوز
لوجود معنى الكراهية في ذلك التي من أجلها كان النهي.
وقد قيل إن ذلك إنما يكره في السفر وحيث لا يعرف المتناجيان ولا يوثق بهما
ويخشى الغدرة منهما. ومن حجة من ذهب إلى ذلك ما روي عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عبد الله بن عمر أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة أن
يتناجى اثنان دون صاحبهما» وهذا لا حجة فيه، إذ ليس في النهي عن ذلك في
السفر ما يدل على إباحته في الحضر، فالصواب أن تحمل الأحاديث التي ليس فيها
ذكر السفر على عمومها في السفر والحضر.
ويحتمل حديث عبد الله بن عمر الذي فيه ذكر السفر على تأكيد النهي عن ذلك في
السفر، بدليل قوله فيه: لا يحل. فإذا خشي المتناجيان دون صاحبهما أن يظن
بهما أو يخشى منهما أنهما يتناجيان في غدره فلا يحل لهما أن يتناجيا دونه،
كان ذلك في السفر أو في الحضر. وإذا أمن ذلك فهو مكروه لهما من أجل أن ذلك
يحزنه ويسوؤه، كان ذلك أيضا في السفر أو الحضر، وبالله التوفيق.
[وصية لقمان لابنه]
في وصية لقمان لابنه قال: وقال لقمان
الحكيم لابنه: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور
الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء.
(18/227)
قال محمد بن رشد: قد تقدم قبل هذا من وصيته
مثل هذا، فمن الحظ لكل مسلم الأخذ بوصيته والمحافظة عليها.
[كراهة سفر المرأة مع غير ذي محرم منها]
في كراهة سفر المرأة مع غير ذي محرم منها
وسئل عن المرأة تسافر مع غير ذي محرم، قال: إن ذلك ليكره أن تسافر يوما
وليلة مع غير ذي محرم.
قال محمد بن رشد: قوله: إن ذلك ليكره لفظ وقع منه على سبيل التجاوز، بل لا
يحل ذلك [لها] ولا يجوز، لورود النص في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- من رواية أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع
ذي محرم منها» . واختلف أهل العلم في المرأة الصرورة إذا لم يكن لها زوج
يحج بها ولا ذو محرم تحج معه هل يسقط عنها فرض الحج أم لا؟ فذهب مالك إلى
أنه لا يسقط عنها وتخرج في جماعة من النساء وناس من المؤمنين لا تخافهم على
نفسها، بدليل إجماعهم على أنها إذا أسلمت في بلد الحرب تجب عليها الهجرة
إلى بلد الإسلام وإن لم يكن معها ذو محرم، فهذا مخصوص من عموم قول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإجماع، وحجها مع غير ذي محرم إذا
لم يكن لها ذو محرم تحج معه مخصوص بالقياس على ما أجمعوا عليه، وذلك صحيح.
وخالفه في ذلك أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فقالوا: يسقط الفرض عنها بعدم ذي
المحرم. وقد اختلف في حد السفر الذي لا يجوز للمرأة أن تسافر إلا مع ذي
محرم، فقيل البريد فما فوقه،
(18/228)
وقيل اليوم، وقيل يوم وليلة، وقيل ليلتان،
وقيل ثلاثة أيام، وأتت بذلك كله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الآثار. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- من رواية أبي هريرة أنه قال: «لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم» فتعلق
قوم بعموم هذا الحديث فقالوا: لا تسافر المرأة سفرا قريبا ولا بعيدا إلا مع
ذي محرم منها، وبالله التوفيق.
[طرح البرغوث والقملة في النار]
في طرح البرغوث والقملة في النار وسئل
عن طرح البرغوث والقملة في النار، فقال: لا، إن ذلك ليكره.
قال محمد بن رشد: قد مضى مثل هذا قبل هذا والتكلم عليه فأغنى ذلك عن
إعادته، وبالله التوفيق.
[حكاية عن عيسى ابن مريم]
قال مالك: كان عيسى ابن مريم يقول: سيأتي قوم حكماء علماء، كأنهم من الفقه
أنبياء. قال مالك: فإن كان قاله فأراهم صدر هذه الأمة.
قال محمد بن رشد: هو كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بدليل ما جاء في
كتاب الله عز وجل من صفتهم، قال الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] الآية.
(18/229)
وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطًا} [البقرة: 143] ، أي خيارا عدولا، وقال عز وجل لنبيه:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ولا يؤمر النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يشاور إلا أولي العلم والنهى والديانة
والفضل، وبالله التوفيق.
[صفة أرباب العلم]
في صفة أرباب العلم قال: وقال سأل عبد
الله بن سلام كعب الأحبار من أرباب العلم الذين هم أهله؟ قال: هم الذين
يعملون بما يعلمون، قال: صدقت، قال: فما نفاه من صدورهم بعد أن علموا؟ قال:
الطمع، قال: صدقت.
قال محمد بن رشد: قوله: إن أرباب العلم هم الذين يعملون بما يعلمون صحيح
بين في المعنى، لأن من لم يعمل بما علم لم ينتفع بعلمه وهو في التمثيل كرجل
بيده مال لغيره أذن له في إنفاقه فلا يقال فيه إنه ربه إذ لا ينتفع بشيء
منه.
وقد جاء في الحديث: «من شر الناس منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه»
لأن علمه يكون عليه حسرة وندامة. وأما قوله: إن الطمع ينفيه من صدورهم،
فمعناه أن الحرص على بلوغ شهوات الدنيا يدخلهم في المكروه فيذهلون به عن
التوقي [مما يجب عليهم التوقي] منه، فإنه ينفي
(18/230)
عن صدورهم بالطمع استعمال العلم لا العلم،
فهو مجاز من القول. وقد مضى هذا في رسم المحرم من سماع ابن القاسم. وبالله
التوفيق.
[التحدث بالأحاديث المختلفة]
في كراهة التحدث بالأحاديث المختلفة
قال: وقال مالك لم يكن بالمدينة إمام أخبر بحديثين مختلفين.
قال محمد بن رشد: يريد بحديثين مختلفين لا يمكن الجمع بينهما ولا ينسخ
أحدهما بالآخر، لأن ما هذا سبيله من الأحاديث فالأصح في النقل منهما هو
الذي يجب أن يحدث به وبالله التوفيق.
[ترك إحفاء الشوارب]
في ترك إحفاء الشوارب قال: وسئل مالك عن
من أحفى شاربه، قال: يوجع ضربا، وليس حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالإحفاء. قال: وكان يقال ويبدو حرف الشفتين الإطار. وقال لمن
يحلق شاربه هي بدع تظهر في الناس. وذكر زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب كان
إذا أكربه أمر نفخ، قال فجعل رجل يراده وهو يفتل شاربه بيده، فلو كان محفيا
ما وجد ما يفتل، هذه بدع قد ظهرت في الناس.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في رسم سئل عن
(18/231)
تأخير صلاة العشاء في الحرس من سماع ابن
القاسم فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[السفر في طلب العلم]
في السفر في طلب العلم وقراءة القرآن في
الطرق قال: وسمعت أن ابن المسيب قال: إن كنت لأسير في الحديث الواحد مسيرة
الأيام والليالي. قال مالك: وكان سعيد بن المسيب يختلف إلى أبي هريرة بأرضه
بالجشرة، فقال: جئت أبا هريرة بالجشرة فرأيته جاء من الغائط وإنه ليحدر
سورة آل عمران حدرا.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على السفر في طلب العلم في رسم المحرم يتخذ
الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم، ومضى القول فيه أيضا في قراءة القرآن على
كل حال، وبالله التوفيق.
[العلم يذهب بذهاب العلماء]
ما جاء من أن العلم يذهب بذهاب العلماء
قال أشهب: وأخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن
العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينتزع
العلم انتزاعا من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فإذا ذهب العلماء
اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» .
(18/232)
قال محمد بن رشد: هذا مما أخبر به رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سيكون فكان على ما أخبر،
والله ولي العصمة والتوفيق برحمته.
[يخرج بالشيء إلى المسكين فلا يجد]
في الذي يخرج بالشيء إلى المسكين فلا يجده
وسئل عن الرجل يخرج بشيء إلى المسكين ليعطيه إياه فيجده قد ذهب، قال: يعطيه
غيره.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في رسم سأل تأخير صلاة العشاء في
الحرس فأغنى ذلك عن إعادته هنا؟ وبالله التوفيق لا شريك له.
[التحذير من اتباع الهوى والزيغ البعيد]
في التحذير من اتباع الهوى والزيغ البعيد
قال: وقال عمر بن عبد العزيز: أحذركم ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد.
قال محمد بن رشد: إنما حذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من اتباع الهوى لقول
الله عز وجل: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] الزيغ البعيد هو الإغراق في
القياس والغلو في الدين، وكلاهما مذمومان لأنك لا تكاد تجد الإغراق في
القياس إلا مخالفا للسنة، والغلو في الدين منهي عنه، قال الله عز وجل:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}
[المائدة: 77] . وقد مضى هذا في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم،
وبالله التوفيق.
(18/233)
[حكاية عن عمر
بن عبد العزيز]
قال: وقال عمر بن عبد العزيز: إني لست بمبتدع، ولكني متبع، ولست بقاض ولكني
منفذ، ولست بخير من أحدكم إلا أني أثقلكم حملا.
قال محمد بن رشد: إنما قال، والله أعلم، لست بمبتدع ولكني متبع جوابا لمن
سأله الحكم بخلاف ما مضى عليه العمل. ومعنى قوله لست بقاض ولكني منفذ، أي
لست أقضي بحكمي وإنما أنفذ ما أمرني به ربي في كتابه وعلى لسان رسوله -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقوله: لست بخير من أحدكم إلا أني أثقلكم حملا
تواضع منه وفضل - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه التوفيق.
[وصية لقمان لابنه]
في وصية لقمان لابنه قال: وكان لقمان
يقول لابنه: يا بني اتق الله جهدك.
قال محمد بن رشد: وصيته هذه لابنه مثل ما أمر الله تعالى بقوله:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقيل: إن هذه
الآية ناسخة لقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ،
وقيل: إنها ليست بناسخة لها وإنما هي مبينة لمعناها، لأن تقوى الله حق
تقاته هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وبالله التوفيق.
(18/234)
[حكاية عن عمر
بن عبد العزيز]
قال: وقال مالك: دخل زياد مولى ابن عباس، وكان رجلا صالحا غير عالم بحال
الولاة والهيبة وعليه جبة صوف، على عمر بن عبد العزيز فقال: السلام عليكم،
ثم جلس، ثم استفاق فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له عمر: إني لم
أنكر الأولى وليس بها بأس، ولقد أصبحت يا ابن زياد خلوا مما أنا فيه وأراك
دينا. قال: وكان عمر بن عبد العزيز قد أسكن بعض ولده نواحي أبلة، فكتب إليه
يسأل لهم سيجانا وأقداحا وأشياء مما يحتاجون إليها، فكتب إليه عمر أن عليك
لهم بطيقان يلبسونها في الشتاء ويفترشونها في الصيف، وعليك بأقداح الفخار
فإنها تجزئ من غيرها.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين في فضل عمر بن عبد العزيز وتواضعه، إذ لم
ينكر على زياد ترك تخصيصه بالسلام وتسميته إياه بما خصه الله به من الإمارة
على العادة في ذلك، وزهده في الدنيا وتقلله منها، بدليل ما أمر به لبنيه من
الطيقان وأقداح الفخار، وبالله التوفيق.
[التسمي بياسين]
في التسمي بياسين قال: وسألته أينبغي
لأحد أن يتسمى بياسين؟ قال: ما أراه ينبغي، لقول الله عز وجل: {يس} [يس: 1]
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 2] {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:
3] يقول هذا أسمى بياسين.
(18/235)
قال محمد بن رشد: قيل في ياسين إنه اسم من
أسماء الله عز وجل وإنه أقسم به وبالقرآن الحكيم، وقيل إنه اسم من أسماء
القرآن أقسم الله به أيضا. على هذين القولين لا يجوز لأحد أن يتسمى بياسين.
وروي عن ابن عباس أنه قال: معنى ياسين يا إنسان بالحبشية، فعلى هذا يجوز أن
يتسمى الرجل بياسين.
وقال مجاهد هو مفتاح افتتح الله عز وجل به كلامه، فعلى هذا تجوز التسمية به
أيضا. ولهذا الاختلاف الحاصل في ياسين كره مالك لأحد أن يتسمى به، وبالله
التوفيق.
[المرأة تموت بجمع]
في المرأة تموت بجمع قال: وقال مالك في
المرأة تموت بجمع هي التي ولدها في بطنها.
قال محمد بن رشد: المرأة تموت بجمع هي أحد الشهداء السبعة سوى المقتول في
سبيل الله، على ما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
ذلك. واختلف في المرأة تموت بجمع: فقيل هي المرأة تموت وولدها في بطنها على
ما قاله مالك وهو المشهور من الأقوال، وقيل هي المرأة البكر التي تموت قبل
أن تطمث، وقيل هي المرأة التي تموت بالمزدلفة حاجة، لأن جمعا من أسماء
المزدلفة، وبالله التوفيق.
[تفسير الأب وإرم ذات العماد]
في تفسير الأب وإرم ذات العماد قال:
وسئل عمر بن الخطاب عن قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]
(18/236)
ما الأب؟ فقال هذا لعمر الله التكلف، وقال
يقال: إن إرم ذات العماد هي دمشق.
قال محمد بن رشد: الذي قيل في الأب أنه ما تأكله البهائم من العشب والنبات،
والفاكهة ما يأكله الناس من ثمر الأشجار كلها: النخل والرمان وغيرهما من
الأشجار. وذهب أبو حنيفة إلى أن الرطب والرمان ليسا من الفاكهة، واحتج بقول
الله عز وجل: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ، ولا
حجة له في ذلك، لأنه إنما أعيد ذكرهما وإن كانا من الفاكهة تأكيدا لهما
لشرفهما على سائر الفواكه، مثل قوله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فأعاد ذكر
جبريل وميكائيل وإن كانا من الملائكة تأكيدا لهما.
وأما قوله في إرم ذات العماد إنه يقال إنها دمشق، ففي ذلك اختلاف كثير: قيل
في إرم إنها اسم بلد، فقال قوم: هي الإسكندرية، وقال قوم: هي دمشق، وقيل بل
إرم أمة، وقيل بل هي قبيلة من عاد، وقيل بل إرم اسم رجل هو جد عاد فعاد هو
عاد بن عوص ابن إرم؛ وقيل بل هو أبوه فهو عاد بن إرم. وقال الفضل: أكثر
الكوفيين لا يجوز أن يكون إرم اسما لأرض ولا لمدينة من جهة إجماعهم على صرف
عاد، فلا تكون الأرض ولا المدينة نعتا للإنسان ولا لقبيلة، ولا يجوز أن
ينسب إليها وهو منون. قال: وأيضا فإن كانت دمشق فمحال أن لا يكون في البلاد
مدن مثلها، وإن كانت أرض فمحال أن تكون أرض ليس مثلها أرض في البلاد. والذي
أراه، والله أعلم، أن إرم جد عاد
(18/237)
كان شديدا فتشبهوا به فصار إرم نعتا لهم
كاللقب، كما يقال: زيد أسد وعمرو نعجة. ومعنى ذات العماد أنهم كانوا أهل
عمود أي أخبية وماشية، فإذا كان الربيع انتجعوا، وإذا هاجت الأرض وجف العشب
رجعوا إلى منازلهم. والعماد جمع عمد، وعمد جمع عمود. وقيل معنى ذات العماد
أي ذات العدة وكانوا أعطوا بسطة في الخلق لم يعطها غيرهم: كان الرجل منهم
في غاية القوة وكان أطولهم ستين ذراعا وأقصرهم اثني عشر ذراعا. وقال بعض
نقلة الأخبار إنه كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستون ذراعا، وجلهم ما بين
المائة إلى الثمانين. وقوله: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي
الْبِلادِ} [الفجر: 8] على هذا القول راجع إلى القبيلة لما كان فيهم من
الشدة وعظم الخلق. قال أبو جعفر الطبري: ومن ذهب إلى أن إرم اسم لبلدتهم
وقال: إن الهاء في مثلها لذات العماد فقد غلط، لأن العماد واحد مذكر، والتي
للأنثى، ولا يوصف المذكر بالتي، ولو كان ذلك من صفة العماد لقيل الذي لم
يخلق مثلها في البلاد، وبالله التوفيق.
[مخالطة اليتيم في النفقة]
في مخالطة اليتيم في النفقة قال: وسألته
امرأة فقالت: أخذت صبية يتيمة احتسبت فيها الأجر، فيدها مع يدي ويد بناتي
لست أضن عنها بشيء، فربما سألني عنها السائل فأعطاها الدراهم فأشتري لها
بها الشيء، فربما لم يكن عندي ما أطعم ولدي فأطعمهم من الذي اشتريت لها،
وربما أكلت منه إذا لم يكن بيدي ما أشتري به، فقال لها: أنا أخبرك عن ذلك،
إن كان ما تنال منك الجارية مثل الذي تصيبين مما أخذت لها أو أكثر فلا بأس
بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لقول الله عز وجل في
(18/238)
اليتامى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220]
. وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم.
[ما يجازي الله به الصادق في الدنيا]
فيما يجازي الله به الصادق في الدنيا
قال: وسمعت أنه قال ما حرف إنسان قط صدوق وليس من أهل الكذب.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لا يكون إلا عن توقيف وإن صح بمعناه في الغالب.
وقد مضى هذا في رسم الشجرة قبل هذا من سماع ابن القاسم.
[حكاية عن عمر بن عبد العزيز]
قال: وقال اقتتل غلمان لسليمان بن عبد الملك وغلمان لعمر بن عبد العزيز،
فضرب غلمان عمر غلمان سليمان فحمل سليمان وقيل له: هذا ما صنعت، شبرته
وفعلت به، فدخل عليه عمر فقال له سليمان: ما هذا؟ ضرب غلمانك غلماني وأهلي،
فقال له عمر ما علمت هذا قبل مقالتك الآن، فقال له: كذبت، فقال له عمر:
يقال لي كذبت وما كذبت منذ شددت علي إزاري، وإن في الأرض من مجلسنا هذا
لسعة، ثم خرج من عنده وتجهز يريد الخروج،
(18/239)
فسأل عنه سليمان حين استبطأه فقالوا: إنه
يريد الخروج إلى مصر وقد تجهز، فأرسل إليه أن ارجع وادخل علي، وقال للرسول:
قل له إذا جاءني لا يعاتبني فإن في المعاتبة فجاءه عمر فقال له سليمان: ما
همني أمر قط إلا خطرت فيه على بالي. وقال عن عمه أبي سهيل قال: دخلت على
عمر بن عبد العزيز فوعظته وقلت له حتى رق وقام من مجلسه فتنحى ناحية ما على
أرض فلم يعجل عليه مزاحم ثم أخذ وسادة فأدناها منه فأخذها عمر فرمى بها.
قال: وكان عمر بن عبد العزيز يقول: اللهم أرضني بقضائك وأسعدني بقدرك حتى
لا أحب تأخير شيء عجلته ولا تعجيل شيء أخرته. قال وقال: قام عمر بن عبد
العزيز إلى مصلاه من مجلسه فذكر سهيل بن عبد العزيز وعبد الملك ومزاحما،
فقال اللهم إنك قد علمت ما كان من عونهم لي ومعونتهم إياي فأخدتهم فلم
يزدني ذلك لك إلا حبا، ولا لي فيما عندك إلا شوقا، ثم رجع إلى مجلسه.
قال محمد بن رشد: هذه الحكاية كلها عن عمر بن عبد العزيز شاهدة له بما هو
معلوم مشهور من خيره وفضله رحمة الله عليه ورضوانه، والشبر: العطاء، يقال:
شبرت الرجل وأشبرته إذا أعطيته، وشبرت المرأة صداقها أعطيتها إياه. فمعنى
الكلام هذا ما صنعت أعطيته الجاه والأثرة والمنزلة والمكانة حتى استطال
غلمانه على غلمانك. والتشديد في شبرت بمعنى التكثير، كما تقول ضربت وقتلت.
ووقع في بعض الكتب: هذا ما فعلت سبرته، وهو غلط لا معنى له والله أعلم، وقد
رأيت لبعض أهل اللغة أن التشبير بمعنى التعظيم يقال شبر فلان إذا عظم،
وشبرته إذا عظمته. وهذا أشبه بمعنى الحكاية، لأن القائل قال له لما حمل، أي
غضب، لإنداره أعوانه
(18/240)
على أعوانه: هذا ما صنعته بنفسك، لأنك
شبرته أي عظمته وفعلت وفعلت حتى استطال أعوانه على أعوانك، وبالله التوفيق.
[الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعنى واحد]
في الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعنى واحد
قال: وسألته عن الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعنى واحد، فقال: أما ما كان
منها من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإني أكره
ذلك وأكره أن يزاد فيها وينقص، وما كان من غير قول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا أرى بذلك بأسا إذا كان المعنى واحدا. قيل له:
أرأيت حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزاد فيه الواو
والألف والمعنى واحد، قال: أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: التقديم والتأخير في الأحاديث والزيادة في ألفاظها
والنقصان منها وتبديلها بما كان في معناها مكروه في حديث النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجائز في حديث غيره للفقيه العالم بمعنى
الكلام الذي يؤمن عليه الغلط في ذلك بأن يظن أن المعنى سواء وليس بسواء.
والدليل على ذلك أن الله تعالى قد ذكر قصص الأنبياء في القرآن متكررة في
مواضع بألفاظ مختلفة وزيادة في بعضها على بعض، فلم يكن ذلك اختلافا من
القول ولا تعارضا فيه لاتفاق المعنى في ذلك كله. وقد استدل بعض من ذهب إلى
أن ذلك لا يجوز «بحديث البراء بن عازب قال: قال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك
الأيمن ثم قل اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة
ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك [اللهم] ، آمنت بكتابك الذي
أنزلت ونبيك الذي أرسلت. فإن مت من ليلتك مت على.
(18/241)
الفطرة. واجعلهن آخر ما تتكلم به. قال:
فرددتها على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما بلغت اللهم
آمنت. بكتابك الذي أنزلت قلت: ورسولك الذي أرسلت، قال: لا، ونبيك الذي
أرسلت.» وليس ذلك باستدلال صحيح، لأن المعنى في ذلك مختلف من أجل أن قوله:
ونبيك الذي أرسلت يجمع النبوءة والرسالة، ففيه زيادة بيان على رسولك الذي
أرسلت، لأن الرسل من الملائكة وليسوا بأنبياء، ولذلك قال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا، ونبيك الذي أرسلت. ولمخافة الغلط في مثل
هذا على الفقيه كره له أن يسوق شيئا من حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المعنى. وأما إن كان المحدث ليس بفقيه ممن تخفى
المعاني عليه فلا يسوغ له أن يحدث على المعنى، إذ قد يسوق الحديث على
المعنى الذي ظهر إليه وهو مخطئ في ذلك، مثل الحديث: «إن الله خلق آدم على
صورته» ظن بعض الرواة أن الهاء من قوله على صورته عائدة على الله عز وجل.
فساقه على ما ظنه من معناه فقال فيه: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن.
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى أن يتزعفر
الرجل» فساقه بعض الرواة على المعنى فيه عنده فقال فيه إن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التزعفر، فدخل في عموم قوله الرجال
والنساء، ومثل ذلك كثير. وأما زيادة الألف والواو فيما لا يشك فيه أنه يغير
المعنى في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو خفيف كما
قاله مالك، وبالله التوفيق.
[فضل طاووس وما كان عليه]
في فضل طاووس وما كان عليه قال: وكان
طاووس يرجع من الحج فيدخل بيته فلا يخرج منه
(18/242)
حتى يخرج للحج من قابل. قال: وكان طاووس
يطعم الطعام فيدعو هؤلاء المساكين أصحاب الصفة، فقالوا له: لو صنعت طعاما
دون هذا، فيقول إنه لا يكاد يجدونه.
قال محمد بن رشد: فيما كان يفعله طاووس من التزامه داره للسلامة من مواقعة
الآثام بمخالطة الناس، وإنما كان يطعم المساكين طيب الطعام لأنه هو الذي
يحب ويتمنى، ووعد الله تعالى عليه الجزاء الجزيل حيث يقول: {لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، وقال:
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا
وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] إلى قوله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً
وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12] الآيات إلى آخرها.
[تعليق الأقناء في المساجد]
في تعليق الأقناء في المساجد وسئل عن
الأقناء التي تعلق في المساجد، فقال: بلغني أنها كانت تعلق في زمان رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيعطى منها المساكين.
قال محمد بن رشد: الأقناء: العراجين، واحدها قنو، ويجمع على أقناء وقنوان.
قال الله عز وجل: {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} [الأنعام: 99] زاد في رسم شك في
طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة أنه إنما كان يفعل ذلك لمكان من
كان يأتي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد الإسلام،
فكان لموضع ضيافتهم فيأكلون منه، وأراه حسنا أن يعلق فيه. فقيل له: أفترى
لو
(18/243)
عمل ذلك في مساجد الأمصار؟ فقال: أما كل
بلد فيه تمر فلا أرى بذلك بأسا. قال ابن القاسم ولم ير مالك بأسا. بأكل
الرطب التي تجعل في المسجد مثل رطب ابن عمير وقد جعل صدقة. وفي هذا دليل
على أن الغرباء الذين لا يجدون مأوى يجوز لهم أن يأووا إلى المسجد ويبيتوا
فيها ويأكلوا فيها ما أشبه التمر من الطعام الجاف كله. وقد مضى هذا المعنى
في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة وفي غير ما موضع،
وبالله التوفيق.
[حديث عبد الله بن عمرو في الفتنة]
في حديث عبد الله بن عمرو في الفتنة
قال: «وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن
عمرو بن العاص: كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم
وأماناتهم فاختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه. قال: فكيف بي؟ قال عليك
بخاصتك وإياك وعوامهم» .
قال محمد بن رشد: وقع هذا الحديث في سماع أشهب من كتاب التجارات إلى أرض
الحرب بزيادة فيه: قال لي «فانظر لنفسك وعليك بالبين المحض» . وفي هذا
الحديث علم جليل من أعلام النبوءة، لأنه أعلم فيه عبد الله بن عمرو بن
العاص بما يكون بعده من الفتن، وحذره ألا يدخل منها في مشكل. وقد دخل فيها
بما أداه إليه اجتهاده مع عزم أبيه عليه في ذلك، وقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أطع أباك» فشهد مع معاوية حرب صفين على ما
ذكرناه قبل هذا في هذا الرسم: ثم ندم بعد ذلك لما ظهر إليه من البصيرة في
خلاف رأيه الأول، فاستغفر الله عز وجل من ذلك مخافة أن يكون
(18/244)
قد قصر أولا في اجتهاده مع قول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له: فانظر لنفسك وعليك بالمحض البين،
وبالله التوفيق.
[فضل عبد الله بن الأرقم]
في فضل عبد الله بن الأرقم قال: وقال
عبد الله بن الأرقم وهو يموت: ألا أخبركم برأي الرجل الصالح في، قال عمر بن
الخطاب: لو كان لك [مثل] سابقة القوم ما قدمت عليك أحدا. قال: وكان عمر بن
الخطاب يقول: ما رأيت رجلا قط أخشى لله من عبد الله بن الأرقم. قال مالك:
ذكر لي زيد بن أسلم قال: «كتب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كتاب فقال من يجيب عني؟ فقال عبد الله بن الأرقم: أنا، فأجاب
عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرضي ذلك رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - فقال عمر: أصاب ما أراد رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورضيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يزل ذلك في نفس عمر فلما ولي ولاه بيت المال.
قال محمد بن رشد: عبد الله بن الأرقم هذا هو عبد الله بن الأرقم بن عبد
يغوث بن وهب بن عبد مناف القرشي الزهري، أسلم يوم الفتح، وكتب للنبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم لأبي بكر بعده، واستكتبه أيضا عمر،
فلما ولي ولاه بيت المال، وعثمان بعده وأعطاه ثلاثمائة درهم، فأبى أن
يأخذها وقال: إنما عملت لله فأجري على الله. وبلغ
(18/245)
من أمانته عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب ويأمره
أن يطينه ويختمه ولا يقرؤه لأمانته عنده. وبالله التوفيق.
[شبه سالم بن عبد الله بأبيه]
في شبه سالم بن عبد الله بأبيه، وأبيه
بأبيه عمر قال: وقال سعيد بن المسيب، كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به،
وكان سالم بن عبد الله أشبه ولد عبد الله به. قال مالك: ولم يكن أحد في زمن
سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والقصد والعيش منه، كان يلبس الثوب
بالدرهمين، ويشتري الشمال يحملها. وقال مالك قال سليمان بن عبد الملك لسالم
بن عبد الله ورآه حسن السحنة: أي شيء تأكل؟ قال: الخبز والزيت، وإذا وجدت
اللحم أكلته، فقال له: أوتشتهيه؟ فقال: إذا لم أشتهه تركته حتى أشتهيه.
قال محمد بن رشد: إنما أراد أن كل واحد منهما كان أشبه بأبيه من سائر إخوته
في خيره وفضله ودينه وبالله التوفيق.
[ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم]
فيما كان يدعو به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال مالك: قال يحيى بن سعيد: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يدعو: «اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك
(18/246)
المنكرات، وحب المساكين وإذا أردت في قوم
فتنة فاقبضني إليك غير مفتون» .
قال محمد بن رشد: يروى: وإذا أدرت، والمعنى في ذلك سواء، لأنه إذا أراد
الفتنة فقد أدارها، وإذا أدارها فقد أرادها. والفتنة على وجوه: فمنها ما
كان في أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تعذيبهم
ليرتدوا عن دينهم، فذلك قول الله عز وجل: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ
الْقَتْلِ} [البقرة: 191] أي العذاب أشد منه؛ ومنها أن يفتن الله قوما أي
يبتليهم، ومنها ما يقع بين الناس من الخلاف والحروب؛ ومنها الفتنة بالنساء،
تقول قد فتن بالمرأة إذا تعشقها؛ ومنها الإضلال، قال الله عز وجل: {مَا
أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162] أي بمضلين؛ ومنها الفتنة
بالنار، تقول: فتنته بالنار أي أحرقته بها، وفي القرآن {يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] أي يحرقون. والفتان: الشيطان الذي
يصد الناس عن دينهم ويغويهم، وفتانا القبر منكر ونكير، فينبغي أن يستعاذ
بالله عز وجل من الفتنة على الوجوه كلها تأسيا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعاؤه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فعل
الخيرات وترك المنكرات بين لا إشكال فيه. وأما دعاؤه في حب المساكين
فالمعنى فيه، والله أعلم، حب المسكنة، فقد روي عنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني
في زمرة المساكين» . ومعناه الذليل المتواضع لله الذي لا جبروت فيه ولا
كبرياء، لا المسكين الفقير من المال، فقد استعاذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من الفقر المنسي
(18/247)
والغنى المطغي، فأغناه الله عز وجل الغنى
الذي ليس بمطغ وعدد النعمة عليه بذلك فقال: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى}
[الضحى: 8] . وقد مضى التكلم على الفقر والغنى في رسم نذر سنة من سماع ابن
القاسم، وبالله التوفيق.
[ما روي عن داود النبي عليه السلام في قلة
المال وكثرته]
فيما روي عن داود النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في قلة المال وكثرته قال:
وقال لي: سمعت أن داود النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: ما قل وكفى خير
مما كثر وألهى. قال مالك: قال ذلك الرجل: إن كان يغنيك ما يكفيك، فأقل
عيشها يغنيك.
قال محمد بن رشد: في قول هذا الرجل زيادة لم تقع هاهنا وهي: وإن كان لا
يغنيك ما يكفيك، فليس في الدنيا شيء يغنيك. والمعنى في هذا كله بين، لأن
كثرة المال الذي يلهي مذموم، فقد استعاذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الغنى المطغي فلا إشكال في أن القليل الذي يكفي
خير منه، لأن فيه الاستغناء عن الناس، والسلامة من أن يلهيه المال ولا يقوم
بحقوق الله عز وجل فيه. ومن كان معه من المال ما يقوم به ويغنيه عن الناس
وعن الكدح في معيشته فهو من الأغنياء، وبالله التوفيق.
[فضل ابن المنكدر وثنائه بالعلم على سعيد بن المسيب]
في فضل ابن المنكدر وثنائه بالعلم على سعيد بن
المسيب وسليمان بن يسار قال مالك: وكان محمد بن المنكدر سيد القراء
لا يكاد يسأل عن حديث أبدا إلا يكاد يبكي.
(18/248)
قال محمد بن رشد: وكان سعيد بن المسيب
عالما بالبيوع، وكان أشبه أهل المشرق به محمد بن سيرين، فقيل له: سليمان
ابن يسار؟ قال: لم أسمع عن سليمان بن يسار.
قال القاضي: البكاء من خشية الله لا يكون إلا مع حقيقة العلم بالله، قال
الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}
[فاطر: 28] وقال: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ
يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:
21] إلى قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22] {جَنَّاتُ
عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ
بَابٍ} [الرعد: 23] {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى
الدَّارِ} [الرعد: 24] . وقال عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] . وقد كان سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار فرسي
رهان في العلم والفضل، واختلف أيهما أعلم. وقيل: إن العلم كان لسليمان بن
يسار، والذكر كان لسعيد بن المسيب، وبالله التوفيق.
[أخذ الأحاديث عن الثقة إذا لم يكن حافظا]
في أخذ الأحاديث عن الثقة إذا لم يكن حافظا
وسئل مالك أيؤخذ ممن لا يحفظ وهو ثقة صحيح أتؤخذ عنه الأحاديث؟ قال: لا،
فقيل: يأتي بكتب فيقول قد سمعتها وهو ثقة أتؤخذ منه؟ قال: لا تؤخذ منه،
أخاف أن يزاد في كتبه بالليل. قال: وذكرت عنده كثرة الكتب فقال: ما شأن أهل
المدينة ليست لهم كتب، مات ابن المسيب، والقاسم بن محمد ولم يتركا كتابا،
ومات أبو قلابة فبلغني عنه أنه ترك حمل بغل كتبا.
(18/249)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، أنه
إذا كان لا يحفظ فلا يؤخذ عنه ما جاء به من الأحاديث في الكتب، وقال: إنه
سمعها على فلان وإن كان ثقة للعلة التي ذكرها من أنه يخشى أن يكون قد زيد
فيها أو غير بعض معانيها إلا أن تكون الكتب بخط يده فترتفع هذه العلة ويؤخذ
عنه ما في الكتب إذا كان ثقة مأمونا.
وهذا فيما جاء به من الكتب التي لا تعرف وقال إنه سمع ما فيها من فلان.
وأما الدواوين المشهورة كالبخاري ومسلم وشبههما، فإذا قال إنه سمعها من
فلان جاز أن تحمل عنه عن ذلك الرجل، ولا فائدة في رواية الأحاديث إلا
التفقه فيها والعمل بها. وكان العلم في الصدر الأول وفي الثاني في صدور
الرجال، ثم انتقل بعد ذلك إلى جلود الضان وصارت مفاتيحه في صدور الرجال،
فلا معنى لرواية الأحاديث إلا التفقه فيها، ولا بد لمريد التفقه فيها من
مطرق يفتح عليه معانيها، وبالله التوفيق.
[إعراض العالم عن جفاء السائل]
في إعراض العالم عن جفاء السائل وقال
مالك: وقال رجل كالبدوي للقاسم بن محمد: أنت أعلم أم سالم؟ قال هذا سالم،
فإن تأته لم يخبرك إلا بما أحاط به علما.
قال محمد بن رشد: لما سأل السائل القاسم بن محمد عمالا يعنيه مما لا يتحقق
معرفته أعرض عن جوابه على ذلك، وبالله التوفيق.
[جواز لباس المظال]
في جواز لباس المظال قال: وسئل عن لباس
المظال، فقال ما كانت من لباس الناس، وما أرى بلباسها بأسا.
(18/250)
قال محمد بن رشد: يريد بالمظال القلانس
الذي لها ظل تقي من الشمس، فلم ير بلباسها بأسا وإن لم تكن من لباس السلف
للمنفعة بها، وبالله التوفيق.
[الذي يسمع الخير ويقبله]
في الذي يسمع الخير ويقبله قال: وسمعت
ربيعة يقول: ليس الذي يقول الخير ويفعله خيرا من الذي يسمعه ويقبله حين
يسمعه.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه ليس خيرا منه لأنه لا يكون قابلا له إلا أن
يفعله، فإن لم يقدر على فعله لحائل يحول بينه وبين فعله جوزي بنيته، فقد
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من امرئ تكون له
صلاة بليل يغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة»
. وقال عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ
أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء: 95] فأعلم عز وجل باستواء المجاهدين مع القاعدين
من ضرر في الأجر، وبالله التوفيق.
[العامي لا يسعه أن يقلد إلا من يفتي بعلم]
في أن العامي لا يسعه أن يقلد إلا من يفتي بعلم
قال مالك: وسأل رجل عبد الله بن عمر عن شيء فقال لا أدري، فقال له رجل تعال
ما سألت عنه؟ فقال: سألت عن كذا
(18/251)
وكذا، فقال له: وهو كذا وكذا، فقال له [ابن
عمر] أخبرت الرجل بعلم علمته؟ قال: لا، قال: فبماذا؟ قال: برأيي. فأرسل ابن
عمر خلف الرجل إنه إنما أفتاك بغير علم، فانظر لنفسك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال ابن عمر، لأن فرض العامي هو أن يسأل عالما.
وإنما اختلف هل له أن يقلد من شاء من العلماء أو ليس له أن يقلد إلا أعلمهم
يجتهد في ذلك، وبالله التوفيق.
[المرأة كالضلع]
ما جاء في أن المرأة كالضلع قال مالك:
وحدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتها وإن
استمتعت بها استمتعت وفيها عوج» .
قال محمد بن رشد: إنما قال فيها إنها كالضلع من أجل أنها خلقت من ضلع من
أضلاع آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ولم يرد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النساء كلهن على هذا، وإنما أراد أن هذا هو الغالب
من أحوالهن وصفاتهن، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو
أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط»
وإنما أراد أن هذا هو الغالب من أحوالهن، إذ قد يوجد من النساء من ترى
لزوجها ما يفعل بها من خير وتقر به على كل حال ولا تكفره، وبالله التوفيق.
(18/252)
[وصف عبد الله بن عمرو لأهل الأمصار]
في وصف عبد الله بن عمرو لأهل الأمصار
قال: وقال عبد الله بن عمرو بن العاص لأهل العراق إنهم أطلب الناس لعلم
وأتركهم له؛ ولأهل المدينة أسرع الناس إلى فتنة وأضعفهم عنها؛ ولأهل الشام
أطوع الناس للمخلوق وأعصاهم للخالق؛ ولأهل مصر أكيسهم صغارا وأحمقهم إذا
كبروا.
قال محمد بن رشد: [هذا] إنما قاله على ما اختبر في الغالب من أحوالهم على
مر الأعوام، ولا غيبة بذلك فيهم، إذ لم يعين أحدا منهم بما وصف جملتهم به،
وبالله التوفيق.
[التوسع في الإنفاق]
في التوسع في الإنفاق قال: وأخبرني أبو
الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «قال يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» . قال أشهب قلت: قال
الله، قال مالك: ليس هذا هكذا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «قال الله: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» .
قال محمد بن رشد: قد علم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لم يقل ذلك إلا عن الله عز وجل أنه قاله، فليس على الراوي في زيادة مثل هذا
في الحديث على ما سمعه شيء، ولكنه استحب أن لا يحدث بالحديث إلا على ما
سمعه قطعا للذريعة مخافة أن يتجرأ أحد بذلك أن يزيد في
(18/253)
حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ما يظن أنه معناه. وفي الحديث استحباب التوسع في الإنفاق على
العيال من غير إسراف، وأن الله يخلف على فاعل ذلك. وقد أثنى عز وجل على
المنفقين من غير إسراف ولا إقتار فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:
67] ، وبالله التوفيق.
[ما ذكر في موسى عليه السلام]
فيما ذكر في موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
قال: وكان يحيى بن سعيد يقول: «كأني أنظر إلى موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
وعليه ثوبان أخضران منهبطا من ثنية هرشا لما مضى» .
قال محمد بن رشد: [سقط] ، قال مالك لما مضى في بعض الكتب، وهو صحيح في
المعنى، لأن يحيى بن سعيد إنما قال ذلك تحقيقا لما أخبر به النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك، وذلك كما يقول الرجل: فلان فعل كذا
وكذا أمس كأني أنظر إليه يفعله تصديقا لما أخبر به عنه. وقد عرضت الأمم على
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرآها على ما كانت عليه.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما فقال: عرضت علي الأمم ورأيت سوادا كثيرا سد
الأفق فقيل هذا موسى في قومه» وبالله التوفيق.
(18/254)
[ما يحذر من
قرب الساعة والتصديق بنزول عيسى ابن مريم عليه السلام]
فيما يحذر من قرب الساعة والتصديق بنزول عيسى ابن مريم - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - قال: وكان أبو هريرة يلقى الفتى الشاب فيقول: يا ابن أخي إنك
عسى أن تلقى عيسى ابن مريم فأقرأه مني السلام.
قال محمد بن رشد: قد أعلم الله عز وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه أن عيسى ابن مريم ما قتل ولا صلب وأن الله رفعه إليه.
وأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إخبارا متواترا وقع
العلم به أنه سيهبط في آخر الزمان حكما عدلا مقسطا فيكسر الصليب ويقتل
الخنزير ويفيض المال، فوجب التصديق على كل مسلم بذلك كما فعل أبو هريرة،
وبالله التوفيق.
[مناولة الرجل ما سقي من الشراب لجلسائه]
في مناولة الرجل ما سقي من الشراب لجلسائه
قال مالك: سمعت أن عمر بن الخطاب سقي شرابا فيه عسل فذاقه ثم قال: من يأخذ
هذا بشكره فناوله إنسانا.
قال محمد بن رشد: السنة أن يناول الرجل الشراب لمن على يمينه على ما جاء من
«أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوتي بلبن قد شيب
بماء وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال:
الأيمن فالأيمن» . وأنه «أوتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره
الأشياخ فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال: لا والله يا
(18/255)
رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا فتله
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يده» . فيحتمل أن يكون
عمر بن الخطاب إذ أوتي بالشراب لم يكن أحد ممن معه على يمينه، ولذلك قال
ذلك القول. وفي قوله شراب فيه عسل دليل على أن الشراب لم يكن من عسل وإنما
كان من غير العسل وفيه عسل. وخلط العسل بشراب غير العسل منهي عنه، والنهي
إنما هو في خلطه فإذا خلط لم يلزم هرقه وجاز شربه.
وقوله في حديث عمر: وذاقه، يدل على أنه لم يشربه، وذلك، والله أعلم أنه لما
وجد فيه طيب العسل ترك شربه لئلا يستجاز [شربه إياه و] خلطه، وبالله
التوفيق.
[كراهة الاستدانه بالديون]
في كراهة الاستدانه بالديون قال مالك
وحدثني عمر بن عبد الرحمن بن دلاف عن أبيه أن رجلا من جهينة يقال له:
الأسيفع كان يشتري الرواحل بالدين فيغلي بها فيسبق الحاج فأفلس، فقال عمر
بن الخطاب إن الأسيفع أسيفع جهينه رضي من دينه وأمانته أن يقال سبق الحاج
فادان معرضا فأصبح قدرين به، فمن كان له عليه شيء فليأتني بالغداة نقسم
بينهم ماله، وإياكم والدين فإن أوله هم وآخره حرب.
قال محمد بن رشد: قوله ادان معرضا معناه ادان مع كل من وجد وأمكنه مداينته.
وقوله قدرين به، معناه قد غلب عليه الدين. قال الله عز
(18/256)
وجل: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ
مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] ، وذلك أنه كان يشتري الرواحل
بالدين ويسرع السير ليبيعها بالموسم بالربح، فأخطأه ذلك وباع بالخسارة
فغلبه الدين وقوله إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حرب، يروى حرب، وحرب-
بإسكان الراء وفتحها- فالحرب القتال، والحرب الهلاك. فيقول إن الدين يكون
آخره إلى منازعة وخصام، ومرافعة إلى الحكام، أو إلى هلاك ماله. وقد استعاذ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدين فقال: «اللهم إني أعوذ بك من
المأثم والمغرم» ولذلك نهى عنه عمر بن الخطاب فقال: وإياكم والدين. وقد
جاءت آثار كثيرة في التشديد في الدين وأن صاحبه يوم القيامة محبوس بدينه
دون الجنة، فقيل معنى ذلك فيمن تداين في سرف وقمار، وقيل بل كان ذلك في أول
الإسلام قبل أن تفتح الفتوحات وتفرض على الناس الزكوات، فلما أنزل الله عز
وجل براة ففرض فيها الزكاة وجعل للغارمين فيها حقا، وأنزل آية الفيء والخمس
فجعل فيهما حقا للمساكين وابن السبيل قال حينئذ النبي- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا فعلي» . فمن
تداين فيما يحتاج إليه وهو يرى أن ذمته تفيء بما تداين به فليس بمحبوس دون
الجنة بدينه إن مات ولم يترك مالا؛ لأن على الإمام أن يؤديه عنه من بيت
المال، ومن سهم الغارمين من الزكوات، أو من جميعها إن رأى ذلك على مذهب من
رأى أنه إن جعل الزكاة كلها في صنف واحد أجزأ. وقد قيل إنه لا يجوز أن يؤدى
دين الميت من الزكاة، فعلى هذا القول إنما يؤدي الإمام دين من مات وعليه
دين من
(18/257)
الفيء الحلال للفقير والغني، وبالله
التوفيق.
[حفظ ابن شهاب]
في حفظ ابن شهاب قال: حدثنا ابن شهاب
حديثا فقلت أعد علي، فقال: لا، فقلت أما كان يعاد عليك؟ قال لا، فقلت له:
فكنت تكتب؟ فقال لا، فخليت سبيله.
قال محمد بن رشد: المعني في هذا بين والحمد لله وبه التوفيق.
[القراءة في الحمام]
في القراءة في الحمام وسئل مالك عن
القراءة في الحمام، [فقال: القراءة بكل مكان حسنة، ليس الحمام بموضع قراءة،
فإن قرأ الإنسان الآيات فليس بذلك بأس، وليس الحمامات من بيوت الناس الأول.
قال محمد بن رشد: كره القراءة في الحمام] إذ لا ينفك عن النجاسة في أغلب
الأحوال، كما كره قراءة القرآن في الأسواق والطرق من أجل ذلك، واستحب أن
ينزه القرآن عن أن يقرأ إلا في مواضع القراءة إلا أن يكون الشيء اليسير أو
مثل الغلام يتعلم القراءة على ما يأتي له بعد هذا. وقد أجاز ذلك بكل حال في
أحد قوليه، واحتج بقول أبي موسى: أما أنا فأتفوقه تفوقا ماشيا وراكبا
وقاعدا [وعلى جنب] وعلى كل حال. وقد
(18/258)
تقدم ذكر ذلك في رسم المحرم يتخذ الخرقة
لفرجه من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[ضرب الأجل لأهل الحرب إذا قدموا للتجارة]
في ضرب الأجل لأهل الحرب إذا قدموا للتجارة
وسئل مالك عن اليهود والنصارى والمجوس إذا قدموا المدينة أيضرب لهم أجل؟
فقال نعم يضرب لهم أجل ثلاث ليال يتسوقون وينظرون في حوائجهم، فقد ضرب ذلك
لهم عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال رئيس اليهود له حين
أجلاهم: أتجلينا وقد أقرنا محمد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ فقال عمر: أتراني
نسيت قوله لك: كيف بك إذا رقصت بك قلوصك ليلة بعد ليلة. قال إنما كانت
هزيلة من أبي القاسم، فقال له عمر كذبت.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يضرب لهم أجل ثلاث ليال، يريد ثلاث ليال
بأيامهن، فلا يحسب عليهم يوم ورودهم. وإنما رأى أن يضرب لهم ثلاث ليال لأن
ذلك هو مقدار السفر وما فوق ذلك إقامة، بدليل قول النبي- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يقيمن مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث» إلا أن
لا تتم حوائجهم وما يحتاجون إليه في بيعهم وشرائهم في ثلاث ليال فيزاد في
الأجل قدر ما يحتاجون إليه ولا تتم حوائجهم فيما دونه. وقد مضى حديث إجلاء
عمر اليهود وما قاله له رئيسهم في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، وبالله
التوفيق.
(18/259)
[ما روي عن كعب]
فيما روي عن كعب قال مالك: وذكر أن حديث
كعب حين جاء إلى عمر بن الخطاب بالمصحف فقال له أهذه التوراة؟ أن زيد بن
أسلم الذي حدثه بذلك عرض عليه عرضا.
قال محمد بن رشد: كعب هذا، والله أعلم، هو كعب الأحبار، وهو كعب بن ماتع
الحميري من آل ذي رعين من حمير، وقيل من ذي الكلاع من حمير، يكنى أبا
إسحاق، وأسلم في زمن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتوفي في آخر
خلافة عثمان. وكان عالما بالتوراة لأنه كان حبرا من أحبار اليهود وإن كان
عربي النسب، فكثير من العرب تهود وكثير منهم تنصر، فكان كثيرا ما يحدث
منها. فمعنى قوله في المصحف لعمر بن الخطاب أهذه التوراة؟ والله أعلم، أهذه
توراتكم التي هي عندكم بمنزلة التوراة عند اليهود، وبالله التوفيق.
[مشي موسى عليه السلام مع المرأتين إلى أبيهما
شعيب عليه السلام]
في مشي موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مع المرأتين
إلى أبيهما شعيب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
قال وبلغني أن موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين جاءته إحدى المرأتين فقالت
{إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:
25] مشى خلفها ثم قال لها: امشي خلفي فإني عبراني لا أنظر في أدبار النساء،
فإن أخطأت فصفي لي فمشى بين يديها وتبعته.
(18/260)
قال محمد بن رشد: مشيه خلفها من أمانته
التي وصفه الله عز وجل بها حيث قال في كتابه: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا
أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ
الأَمِينُ} [القصص: 26] . وقوته أنه استوهب الرعاء دلوا فوهبوه إياه فنزعه
وحده، وكان لا ينزعه إلا عشرة رجال. وقيل أربعون رجلا، فدعا فيه بالبركة
فكفى ماشيتهما، فذلك قَوْله تَعَالَى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى
إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ
فَقِيرٌ} [القصص: 24] ، وقيل إنه رفع من على فم البير صخرة كانت عليه وحده،
وكان لا يرفعها إلا عشرة رجال، وقيل أربعون رجلا.
في نقل لفظ الحديث على المعنى
وقال مالك: ما لفظ النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس كما
لفظ غير النبي، فإذا كان المعنى واحدا وما لفظ النبي فينبغي للمرء أن يقوله
كما جاء.
قال محمد بن رشد: قوله فإذا كان المعنى واحدا، معناه فلا بأس به إذا لم يكن
من لفظ النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد مضى الكلام على
هذا فوق هذا في هذا الرسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[النظر إلى المجذوم]
في النظر إلى المجذوم وسئل مالك أتكره
إدامة النظر إلى المجذوم؟ قال: أما في
(18/261)
الفقه فلم أسمع بكراهيته، ولا أرى ما جاء
من النهي عن ذلك إلا مخافة أن يفزع ويقع في نفسه من ذلك شيء.
قال محمد بن رشد: النهي الوارد عن ذلك هو من معنى «قوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة التي جاءته فقالت: يا رسول الله: دار سكناها
والعدد كثير والمال وافر، فقل العدد وذهب المال، [فقال رسول الله- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] دعوها ذميمة» فأمر رسول الله- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتركها لما وقع في نفوسهم من أن ذهاب مالهم
وقلة عددهم كان بسبب سكناهم الدار، فخشي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عليهم إن تمادوا في السكنى فيها فذهب من مالهم بعد شيء أو نقص
من عددهم أن يقوى في نفوسهم ما كان وقع فيها من ذلك. ومن معنى قوله- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحلل الممرض على المصح وليحلل المصح حيث
شاء» بعد أن قال «لا عدوى ولا هام ولا صفر» فنهي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن يحل الممرض الذي إبله مرضى على المصح الذي إبله صحاح مخافة
أن تمرض إبله بقدر الله عز وجل فيظن أن ذلك بسبب ورود الإبل المراض عليها
وأنها هي التي أعدتها، وبالله التوفيق.
[الحجامة يوم السبت والأربعاء]
في الحجامة يوم السبت والأربعاء وسئل
مالك عن الحجامة يوم السبت والأربعاء فقال: لا أرى
(18/262)
بأسا بالحجامة يوم السبت والأربعاء،
والأيام كلها سواء، وإني لأكره أن يترك الحجامة على هذا، قالوا لا يحتجم
يوم كذا وكذا، ولا يسافر يوم كذا وكذا، والأيام كلها لله عز وجل. قال:
وكانت عائشة زوج النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقول: لو نهي
الناس عن جاحم الجمر لقال قائل فإني أحب أن أذوقه.
قال محمد بن رشد: أما تشاؤم من تشاءم بالسبت، والله أعلم، فلم يحتجم فيه من
أجل أن أهل السبت تعدوا فيه فمسخهم الله قردة وخنازير، قال الله عز وجل:
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ
فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]
{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] وتشاؤم من تشاءم بالأربعاء ولم
يحتجم فيه ولا سافر فيه من أجل ما روي من أن الأيام النحسات المشؤومات التي
قال الله عز وجل فيها: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي
أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] كان أولها يوم الأربعاء إلى الأربعاء
ثمانية أيام التي قال الله عز وجل فيها: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ
لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ
مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] . والأيام كلها لله، فلا ينبغي أن يتشاءم بشيء
منها، ولا يمتنع في شيء منها في شيء من الأشياء كما قال مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ -. وفيما أغري الناس من مثل هذا وشبهه قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا -: لو نهي الناس عن جاحم الجمر لقال قائل لو ذقته، تريد أن الناس
إذا نهوا عن شيء فيما يضر بهم في دينهم أو دنياهم زينه لهم إبليس ووسوس
إليهم فيه حتى يوقعهم في المكروه، وكذلك لا ينبغي أن يتوخى في الحجامة
أياما بأعيانها. وقال سئل مالك فيما يأتي في هذا السماع عن الحجامة لسبع
عشرة
(18/263)
وخمس عشرة وثلاث عشرة، فقال: أنا أكره هذا
ولا أحبه، وكأنه يكره أن يكون لذلك وقت، وبالله التوفيق..
[حمل الصبيان على الخيل في الرهان]
في حمل الصبيان على الخيل في الرهان
وسئل مالك عن حمل الصبيان الصغار على الخيل يجرونها في الرهان، فربما سقط
أحدهم فمات، قال: أكره أن يحمل على الخيل الصبيان الصغار. قلت له: أفترى أن
يشهد؟ فقال: لا أدري، أما أنا فلا أرى حملهم ولا أراه.
قال محمد بن رشد: أما حمل الصبيان على الخيل يجرونها في السباق وقد يموت في
ذلك بعضهم، فالمكروه في ذلك بين. ومن حمل صبيا في ذلك على فرسه فهو لما
أصابه في ذلك ضامن، ولا بأس بالمسابقة بين الخيل لما جاء من «أن رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل التي قد أضمرت من
الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع» . وذلك نحو ستة أميال أو سبعة، وسابق بين
الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وذلك نحو ميل، روى ذلك عن
النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن عمر، وكان ممن
سابق بها. والمسابقة في ذلك جائزة على الرهان وعلى غير الرهان. والرهان
فيها على ثلاثة أوجه: وجه جائز باتفاق، ووجه غير جائز باتفاق، ووجه مختلف
في جوازه. فأما الجائز باتفاق فهو أن يخرج أحد المتسابقين إن كانا اثنين أو
أحد المتسابقين إن كانوا جماعة جُعلا لا يرجع إليه بحال ولا يخرج من سواه
شيئا، فإن سبق مخرج الجعل كان الجعل للسابق، وإن سبق هو صاحبه ولم يكن معه
غيره كان الجعل طعمة لمن
(18/264)
حضر؛ وإن كانوا جماعة كان الجعل لمن جاء
سابقا بعده منهم. وهذا الوجه في الجواز مثل أن يخرج الإمام الجعل فيجعله
لمن سبق من المتسابقين، فهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم أجمعين. وأما
الوجه الذي لا يجوز باتفاق فهو أن يخرج كل واحد من المتسابقين إن كانا
اثنين، أو كل واحد من المتسابقين إن كانوا جماعة جعلا على أنه من سبق منهم
أحرز جعله وأخذ جعل صاحبه إن لم يكن معه سواه، أو أجعال أصحابه إن كانوا
جماعة، فهذا لا يجوز بإجماع؛ لأنه من الغرر والقمار والميسر والخطار المحرم
بالقرآن؛ وأما الوجه المختلف فيه فهو أن يخرج أحد المتسابقين إن كانا
اثنين، أو أحد المتسابقين إن كانوا جماعة، جعلا ولا يخرج من سواه شيئا على
أنه إن سبق أحرز جعله، وإن سبقه غيره كان الجعل للسابق، فهذا الوجه اختلف
فيه قول مالك، وهو على مذهب سعيد بن المسيب جائز. ومن هذا الوجه المختلف
فيه أن يخرج كل واحد من المتسابقين جعلا على أن من سبق منهما أحرز جعله
وأخذ جعل صاحبه على أن يدخلا بينهما محللا لا يأمنا (كذا) أن يسبقهما على
أنه إن سبقهما أخذ الجعلين جميعا، فهذا الوجه أجازه سعيد بن المسيب ولم
يجزه مالك ولا اختلف فيه قوله كما اختلف في الوجه الأول الذي قبله؛ لأنه
أخف في الغرر منه، ويجمع بينهما في المعنى أن حكم مخرج الجعل مع صاحبه في
تلك في حكم مخرج الجعل مع المحلل في هذه، وسواء كان مع الجماعة المتسابقين
محلل واحد أو مع الاثنين المتسابقين جماعة محللون، الخلاف في ذلك كله، إلا
أنه كلما كثر المحللون وقل المتسابقون كان الغرر أخف والأمر أجوز. وقد روي
عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة أنه
قال: «من أدخل فرسا بين فرسين وهو يؤمن أن يسبق فذلكم القمار» وهو حجة لابن
المسيب، وبالله التوفيق.
(18/265)
[حلاق الصبيان قُصَّة وقَفا]
في حلاق الصبيان قُصَّة وقَفا وسئل عن حلاق
الصبيان قصة وقفا، قال: ما يعجبني، فقلت له: فمن الجواري [والغلمان]
فقال: ما يعجبني من الجواري ولا من الغلمان، إن كانوا يريدون أن يدعوا شعره
فليدعوه، وإن كانوا يريدون أن يحلقوه فليحلقوه كلّه. وقد كلمت في ذلك بعض
الأمراء [وأمرته] أن ينهى عن ذلك، فسئل عن القصة وحدها بلا قَفَا، فقال:
مثل ما قال في القُصّة والقَفَا.
قال محمد بن رشد: حلاق الصبي قصة وقفا هو أن يحلق وسط رأسه ويبقى مقدمه
مقصوصا على وجهه ومؤخره مسدولا على قفاه. وحلاقه قصة بلا قفا هو أن يحلق
وسط رأسه إلى قفاه ويبقى مقدمه مقصوصا على وجهه، وذلك كله مكروه للصبيان
كما قال، لما جاء من أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«نهى عن القزع» وهو حلق بعض الرأس دون بعض، فعم ولم يخص صغيرا من كبير. ولم
يكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - القصة للصغيرة إذا لم يحلق بعض رأسها على
ظاهر هذه الرواية كما كره للكبيرة، ففي كتاب جامع المسائل والحديث لأصبغ
قال: سمعت ابن القاسم يقول: كره مالك القصة للمرأة كراهية شديدة، قال وكان
فرق الرأس أحب إلى مالك فيما أظن. وإنما كره مالك، والله أعلم، لما جاء من
أن أهل الكتاب كانوا يسدلون شعورهم، وكان المشركون يفرقون، فكان رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر
فيه بشيء، فسدل رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناصيته ثم
فرق بعد. وروى عيسى عن ابن
(18/266)
القاسم عن مالك قال: رأيت عامر بن عبد الله
بن الزبير، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهشام بن عروة يفرقون رؤوسهم، وكانت
لهشام جمة إلى كتفيه. وروي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة
أقام على باب المسجد حرسا يجزون كل من لم يفرق شعره. وقد روي أن «شعر رسول
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان دون الجمة وفوق الوفرة» .
وروي «أنه كان إلى شحمة أذنه» وروي «أنه كان بين أذنيه وعاتقه» . وهذا يدل
على أن اتخاذ الشعر أحسن من جزه وإحفائه. وذهب الطحاوي إلى أن جزه وإحفاءه
أحسن من اتخاذه واستعاله، واحتج بما روي من أن «أبا وائل بن حجر أتى النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد جز شعره فقال له: هذا أحسن»
قال: إن ما قال فيه رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنه
أحسن فلا شيء أحسن منه، ومعقول أنه قد صار إليه وترك ما كان عليه قبل ذلك،
إذ هو أولى بالمحاسن كلها من جميع الناس. وهذا في الرجال، وأما المرأة فلا
اختلاف في أن جز شعرها مثلة. وفي كتب المدنيين سئل ابن نافع هل كره للمسلمة
أن تفرق قصتها كما يصنع نساء أهل الكتاب؟ قال: لا، وبالله التوفيق.
[البِرِّ المحمود]
في البِرِّ المحمود قال أشهب: أخبرني مالك قال، حدثني ابن شهاب عن عبيد
الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه قال: لم يعرف البر في عمر ابن
الخطاب ولا في ابنه حتى يقولا أو يفعلا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنهما كانا لا يظهران من فعل الخير أكثر
مما كانا يقولانه أو يفعلانه، وفي هذا الحضُّ على تجنب الرياء، وبالله
التوفيق.
(18/267)
[ثناء ابن شهاب على عبد الله بن أبي بكر]
في ثناء ابن شهاب على عبد الله بن أبي بكر
قال مالك: أخبرني ابن غزية قال، قال ابن شهاب: من بالمدينة يفتي؟ فأجابه
فقال ابن شهاب ما ثم مثل عبد الله بن أبي بكر، ولكن إنما يمنعه أن يرفع
ذكره مكان أبيه أنه حي.
قال محمد بن رشد: عبد الله بن أبي بكر هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن
عمرو بن حزم، أحد شيوخ مالك الذين روى عنهم وعول عليهم، وكفى في الثناء
عليه قول ابن شهاب هذا فيه، وبالله التوفيق.
[وقت تحويل القبلة]
في وقت تحويل القبلة قال مالك: أقام
الناس يصلون نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم أمروا بالبيت. قال الله عز
وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] في
صلاتكم إلى بيت المقدس. قال مالك: فإني لأذكر بقراءة هذه الآية قول المرجئة
إن الصلاة ليست من الإيمان وقد سماها الله عز وجل من الإيمان.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه الرواية: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] في صلاتكم إلى بيت المقدس أي في صلاتكم إلى
بيت المقدس، إذ ليس في التلاوة: في صلاتكم إلى بيت المقدس، فإنما ذكره مالك
على التفسير لما في التلاوة؛ لأن الصلاة إنما تكون صلاة يثاب المصلي عليها
إذا قارنها الإيمان، فلما كانت الصلاة لا تصح إلا بمقارنة الإيمان لها،
وكان جل الثواب عليها للإيمان الذي قارنها بدليل قول النبي- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ
(18/268)
وسلم-: «نية المؤمن خير من عمله» لزم أن
يقال فيها إنها إيمان، إذ لا يصح أن يفارقها الإيمان، فالحجة على المرجئة
صحيحة من جهة التلاوة؛ لأن الله عز وجل سمى الصلاة إلى بيت المقدس إيمانا،
بدليل أنها نزلت فيها، ومن جهة المعنى الذي ذكرناه أيضا. وعلى طريق التحقيق
الصلاة ليست بإيمان منفردة، وإنما هي [إيمان] بالقلب وعمل بالجوارح، فلا
يطلق عليها أنها إيمان إلا على ضرب من المجاز، إذ ليست بإيمان منفردة ولا
يصح أن يقال فيها إنها غير الإيمان إذ لا يفارقها الإيمان، فهي كالصفة من
الموصوف القديم لا يقال فيها إنها هو ولا إنها غيره، فقول المرجئة إن
الصلاة ليست من الإيمان باطل بين البطلان، وبالله التوفيق.
[حكاية عن أبي بكر الصديق]
قال مالك: ولما أنزل الله {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ
اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ
إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] قال أبو بكر الصديق والذي بعثك بالحق
إن كنت لفاعلا.
قال محمد بن رشد: لا شك أن أبا بكر الصديق من القليل الذين استثنى الله عز
وجل في الآية، فلا أحد أحق بهذه الصفة منه، ويمينه على ذلك برة، وفي هذا
حجة لرواية ابن الماجشون عن مالك فيمن حلف في أمر قد سلف لو كان كذا وكذا
لفعلت كذا وكذا مما يمكنه فعله أن لا حنث عليه، خلافا لقول أصبغ إنه حانث
إذ لا يدرى هل كان يفعل أو لا يفعل. وقد مضى هذا في رسم مرض من سماع ابن
القاسم من هذا الكتاب ومن كتاب الجهاد، وبالله التوفيق.
(18/269)
[التثبت في القول]
في التثبت في القول وقال مالك: كان ذلك
الرجل يقول: ما علمت فقل، وما استؤثر به عنك فكله إلى عالمه؛ لأنا في العمد
أخوف عليكم مني في الخطأ.
قال محمد بن رشد: هذا مثل أن يسأل رجل تفسير آية من القرآن لا يعلم لها
تأويلا فيقول فيها برأيه، فقد كان أبو بكر الصديق يقول: أي أرض تقلني وأي
سماء تظلني إن قلت على الله ما لا أعلم، وبالله التوفيق.
[إقادة الإمام من نفسه]
في إقادة الإمام من نفسه قال مالك: قال
رجل لعمر بن الخطاب: هل لك يا أمير المؤمنين في رجل قد رقدت حاجته وطال
مقامه، فقال عمر بن الخطاب من زيدها؟ فقال أنت. فغضب عمر فضربه بالدرة،
فقال: عجلت يا أمير المؤمنين علي قبل أن تنظر في أمري، فإن كنت ظالما أخذت
مني، وإن كنت مظلوما رددت علي، فقال له عمر: صدقت، فقال هاك فاستقد، فقال
لا أفعل، فقال لتستقدن أو لتفعلن ما يفعل المنتصف من حقه. قال قد عفوت. قال
عمر: أنصفت من نفسي قبل أن ينصف مني، ثم بكى عمر حتى لو كنت بالأراك لسمعت
حنين ابن الخطاب.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه الحكاية والقول فيها في رسم كتب عليه ذكر حق
من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
(18/270)
[حكاية لكعب
الأحبار مع عمر بن الخطاب]
قال وقال كعب الأحبار لعمر بن الخطاب: في التوراة ويل لسلطان الأرض من
سلطان السماء، فقال له عمر، إلا من حاسب نفسه، فقال كعب: ما بينهما حرف إلا
من حاسب نفسه.
قال محمد بن رشد: مضت هذه الحكاية في أول رسم تأخير صلاة العشاء في الحرس
من سماع ابن القاسم أكمل مما وقعت ها هنا، ومضى الكلام عليها هناك فلا معنى
لإعادته، وبالله التوفيق.
[إيثار الرجل نفسه في الطعام والكسوة على رقيقه
وعياله]
في إيثار الرجل نفسه في الطعام والكسوة على رقيقه
وعياله قال: وسمعته وسئل أيصلح أن يأكل الرجل من طعام لا يأكل منه عياله
ورقيقه أو يلبس ثيابا لا يكسوهم مثلها؟ فقال: إني والله لأراه من ذلك في
سعة، ولكن يحسن إليهم ويطعمهم. فقيل له: أرأيت ما جاء من حديث أبي الدرداء؟
فقال كان الناس يومئذ ليس لهم ذلك القوت.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة في موطئه: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف»
الحديث. ومعنى قوله فيه بالمعروف أي من غير إسراف ولا إقتار، وعلى قدر سعة
مال السيد وما أشبه حال العبد أيضا، فليس حال العبد الأسود
(18/271)
الوغد الذي هو للخدمة والحرث كالعبد النبيل
التاجر الفاره فيما يجب لهما على سيدهما من الكسوة سواء، قلا يلزم الرجل أن
يساوي بين نفسه وعبده في المطعم والملبس على ما ذهب إليه بعض أهل العلم
لقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أطعموهم مما تأكلون
واكسوهم مما تلبسون» . وقد روي عن أبي اليسر الأنصاري وأبي ذر من أصحاب
رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهما كانا يفعلان ذلك،
وهو محمول منهما على الرغبة في فعل الخير لا على أن ذلك واجب عليهما، إذ لم
يقل- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطعموهم مثل ما تأكلون واكسوهم
مثل ما تلبسون، وإنما قال: مما تأكلون ومما تلبسون، فإذا أطعمه وكساه
بالمعروف من بعض ما يأكل من الخبز والإدام ويلبس من الصوف والقطن والكتان،
فقد شاركه في مطعمه وملبسه، وامتثل بذلك قول النبي- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبالله التوفيق.
[موت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا]
في أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مات شهيدا
من الأكلة التي أكل بخيبر قال وقال مالك، قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما زلت ضمنا من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر فهذا
أوان [وجدت] انقطاع أبهري» . قال مالك: كانت يهودية سمته فيها.
(18/272)
قال محمد بن رشد: اليهودية التي سمته بخيبر
زينب بنت سلام بن مشكم أهدت له- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاة
مصلية وسمت له منها الذراع، وكان أحب اللحم إليه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فلما تناول الذراع ولاكها لفظها ورمى بها وقال هذا العظم
يخبرني أنه مسموم، ودعا اليهودية فقال: ما حملك على هذا؟ فقالت أردت أن
أعلم إن كنت نبيا وعلمت أن الله إن أراد بقاءك أعلمك فلم يقتلها رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأكل من الشاة معه بشر بن البراء بن
معرور، فمات من أكلته تلك، وبالله التوفيق.
[اكتحال الرجل بالإثمد]
في اكتحال الرجل بالإثمد وسئل عن اكتحال
الرجل بالإثمد فقال: ما يعجبني وما كان من عمل الناس وما سمعت فيه بنهي.
قال محمد بن رشد: إنما كرهه وإن كان لم يسمع فيه بنهي لأن الإثمد مما تكتحل
به المرأة للزينة، فيكره للرجل أن يتشبه في ذلك بالمرأة، كما يكره للمرأة
أن تتشبه بالرجل، فقد قيل من شر النساء المتشبهة بالرجال، وبالله التوفيق.
[السلام على اللعاب بالكعاب والشطرنج]
في السلام على اللعاب بالكعاب والشطرنج
قال وسئل عن التسليم على اللعاب بالكعاب والشطرنج والنرد، فقال: أما هم من
أهل الإسلام؟ إذا بولغ في ذلك ذهب
(18/273)
كل مذهب وإني لأكره أن أقول أن لا أسلم على
أهل الإسلام، وليأتين عليهم يوم يستخفون به يقول الله تبارك وتعالى:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}
[التوبة: 65] ويقول الله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:
282] فإنما أمر بشهادة من يرضى، فقيل له أفترى شهادتهم جائزة؟ فقال أما من
أدمنها فلا أرى شهادتهم عاملة، لقول الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ
إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] فهذا كله من الضلال.
قال محمد بن رشد: لم ير مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يترك السلام على
اللعاب بالكعاب والنرد والشطرنج وأشباههم من أهل المجون والبطالات
والاشتغال بالسخافات، إذ لا يخرجهم ذلك عن الإسلام، وإن كانوا يعودون بذلك
غير مرضيي الأحوال، فلا تجوز شهادتهم؛ لأن الله عز وجل يقول: {مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . ومعنى ذلك في السلام عليهم
إذا مر بهم في غير حال لعبهم، وأما إذا مر بهم وهم يلعبون فلا ينبغي أن
يسلم عليهم، بل يجب أن يعرض عنهم، فإن في ذلك أدبا لهم، ومتى سلم عليهم وهم
يلعبون استخفوا بالمسلم عليهم وارتفعت بذلك الريبة عنهم، وبالله التوفيق.
[أكل الرجل مما تصدق به على ابنه]
في أكل الرجل مما تصدق به على ابنه قال
وسألته عن الرجل يتصدق على ولده بالغنم [وبالضأن، أيلبس من صوفها] ويشرب من
لبنها؟ فقال لا، فقلت له: إنه
(18/274)
يبيع ذلك، أفترى أن أشتري ذلك بما يبيعه له
من غيره، فقال: ترك ذلك أحب إلي.
قال محمد بن رشد: لم يجز في هذه الرواية أن يكتسي من صوف الغنم التي تصدق
بها على ابنه ولا أن يشرب من لبنها، معناه وإن كان كبيرا برضاه. وأجاز ذلك
في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، معناه في
الكبير إذا رضي بذلك. وأما الصغير فلا. قاله محمد بن المواز، ورواه عن
مالك. وأما شراء غلة ما تصدق به على ابنه فهو خفيف على ما قاله في الرواية
[من أن ترك] ذلك أحب إليه. وأما شراؤه ما تصدق به عليه فقيل ذلك جائز في
العبد وشبهه، قال ذلك في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات
والهبات، وقيل إن ذلك لا يجوز لا في مثل الجارية تتبعها نفسه، وهو الذي في
المدونة، وقد مضى تحصيل القول فيما يجوز من ذلك للأب وللأجنبي في الأصل
والغلة في رسم الشجرة من الكتاب المذكور، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك،
وبالله التوفيق.
[تحلية المصاحف]
في تحلية المصاحف قال وسئل عن الحلية
للمصحف، فقال لا بأس به وإنه لحسن، إن عندي مصحفا لجدي كتبه إذ كتب عثمان
المصاحف، عليه حلية كبيرة من فضة، كذلك كان ما زدت فيها شيئا.
قال محمد بن رشد: ظاهر الرواية إجازة تحلية المصحف بالذهب والفضة؛ لأنه
سأله عن تحلية المصحف عموما فقال لا بأس به، وهو دليل ما
(18/275)
في الموطأ. وذكر ابن المواز عن مالك مثله،
وذكر ابن عبد الحكم في المختصر الكبير من قول مالك أنه قال لا يعجبني،
وبالله التوفيق.
[قراءة القرآن في الطريق]
في قراءة القرآن في الطريق قال وسئل
مالك عن قراءة القرآن في الطريق، قال الشيء اليسير، قال فأما الذي يديم ذلك
فلا، وإن ذلك ليختلف، يكون الغلام يتعلم القرآن، فأما الرجل يطوف بالكعبة
يقرأ القرآن وفي الطريق فليس هذا من الشأن الذي مضى عليه أمر الناس.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في قراءة القرآن في الطريق قبل هذا في هذا
الرسم وفي رسم المحرم من سماع ابن القاسم وفي غير ما موضع. وإنما كره قراءة
القرآن في حال الطواف بالكعبة إذ لم يكن ذلك من فعل الناس، والرشد في
الاقتداء بأفعال السلف، وبالله التوفيق لا شريك له.
[البلاء موكل بالقول]
في أن البلاء موكل بالقول
قال مالك: كان ابن مسعود يقول إن البلاء موكل بالقول.
قال محمد بن رشد: يريد أن الرجل إذا قال لا أفعل كذا وكذا معتقدا أنه لا
يفعله لقدرته على الامتناع منه قد يعاقبه الله عز وجل بأن يوقعه في فعل
ذلك. وبيان هذا التفسير قوله في غير هذا الحديث: «إني لا أقول لا أعبد هذا
الحجر، إن البلاء موكل بالقول» وبالله التوفيق.
(18/276)
[كشف الفخذ]
في كشف الفخذ وسئل مالك عما جاء من
النهي عن كشف الفخذ، أترى بذلك بأسا إذا كان الرجل عند أهله؟ قال لا والله.
قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«أن الفخذ عورة» من رواية جماعة، منهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، ومحمد
بن جحش، وابن جوهر، وابنه جرير. وجاء عنه ما دل على أنه ليس بعورة، من ذلك
حديث عائشة «أنه كان مضطجعا في بيته كاشفا عن فخذيه» ومن رواية أنس بن مالك
«أنه كان في حائط بعض الأنصار مدليا رجليه في بئرها وبعض فخذه مكشوف، فدخل
عليه أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو على حاله تلك لم ينتقل
عنها، حتى دخل عثمان فغطى فخذه وقال: إلا أستحيي ممن استحيت منه ملائكة
السماء.» وذكر البخاري في حديث أنس بن مالك «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزا خيبر فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب نبي
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي
طلحة فأجرى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زقاق خيبر
وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم حسر
الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فلما دخل القرية قال الله أكبر» الحديث. ثم قال وحديث [أنس
أشد، وحديث] جوهر أحوط حتى يخرج من اختلافهم. والذي أقول به أن ما روي عن
النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفخذ هل هو عورة أو ليس
بعورة
(18/277)
ليس باختلاف من القول، ومعناه أنه ليس
بعورة يجب سترها فرضا كالقبل والدبر، وأنه عورة يجب سترها في مكارم الأخلاق
ومحاسنها، فلا ينبغي التهاون بذلك في المحافل والجماعات ولا عند من يستحي
منه من ذوي الأقدار والهيئات، فعلى هذا تستعمل الآثار كلها، واستعمالها
أولى من اطراح بعضها، وبالله التوفيق لا شريك له.
[سبل شيئا في السبيل فأراد أن يخرج قيمته]
فيمن سبل شيئا في السبيل فأراد أن يخرج قيمته
وسئل مالك عن امرأة خلعت خلخالها في سبيل الله فأرادت أن تخرج قيمته في
سبيل الله وتحبسه، فقال: لا، بل تمضي ما جعلت لله عليها وتعمل بقيمته
خلخالين جديدين، ثم احتج بحديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في
أمر الفرس الذي قال له رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا
تشتره ولا تعد في صدقتك فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» .
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب
الصدقات والهبات، وزاد فيه قال سحنون: إنما يكره هذا من أجل الرجوع في
الصدقة. ولمالك في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب النذور فيمن قال
لشيء من ماله دابة أو عبد أهديك إنه مخير في قيمته أو ثمنه، فذهب بعض أهل
النظر إلى أن ذلك مخالف لهذه الرواية [في الخلخال] ولما ما في المدونة من
أنه من أهدى عبده يخرج بثمنه هدايا؛ لأن الظاهر منه أنه لا يجوز له أن
يمسكه ويخرج قيمته من أجل الرجوع
(18/278)
في الصدقة كما قال في هذه الرواية. والذي
أقول به أنه لا اختلاف في شيء من ذلك، وإنما اختلف الجواب في ذلك لافتراق
المعاني، فإذا أهدى ما يهدى بعينه أو جعل في سبيل ما ينتفع به فيه بعينه لم
يجز أن يمسكه ويخرج قيمته؟ وإذا أهدى ما لا يهدى بعينه وإنما سبيله أن يباع
ويشترى بثمنه هدي جاز أن يمسكه ويخرج قيمته؛ وإذا جعل في السبيل ما لا
ينتفع به فيه بعينه وهو مما يمكن أن يدفعه كما هو لمن يبيعه وينفقه في
السبيل كره له أن يمسكه ويخرج قيمته من ناحية الرجوع في الصدقة، ولم ير ذلك
حراما إذ لا ينتفع به الذي أعطيه في السبيل بعينه ولا بد له من بيعه،
وبالله التوفيق.
[خلق النبي صلى الله عليه وسلم]
في خلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مالك: «وسئلت
عائشة عن خلق النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمره، فقالت:
كان خلقه وأمره القرآن واتباعه» .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه كان يعفو ويصفح ويحسن ويعرض عن
الجاهلين ولا ينتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة لله فينتقم لله بها،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] ولقوله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] ولقوله:
{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:
39] ولقوله في الزناة: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللَّهِ} [النور: 2] الآية، وقوله في المحاربين:
(18/279)
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا
أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] الآية إلى قوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] الآية، وبالله
التوفيق.
[ترك الرجل ما لا يعنيه]
في ترك الرجل ما لا يعنيه قال: دخل رجل
على ابن عمر فوجده يخصف نعله، فسأله فأخبره، ثم قال: مالك تخصف نعلك اشتر
غيرها، فقال له ابن عمر: ألهذا جئت؟ قال إنما أنا رسول.
قال محمد بن رشد: إنما وبخه عبد الله بن عمر على قوله بقوله ألهذا جئت؟ لأن
ما قاله له مما لا يعنيه، وقد قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» . وبالله التوفيق.
[تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم في
الضيافة]
في تفسير حديث النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في الضيافة قال وسئل مالك عن تفسير حديث النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في «الضيف جائزته يوم وليلة، قال يكرمه ويتحفه ويخصه يوما
وليلة، وثلاثة أيام ضيافة، وما بعد ذلك صدقة» .
قال محمد بن رشد: الضيافة مرغب فيها ومندوب إليها وليست بواجبة في قول عامة
العلماء، إلا أنها من أخلاق المؤمنين وسجاياهم وسنن
(18/280)
المسلمين. وقد روي عن النبي- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا خير فيمن لا يضيف وأول من ضيف
الضيف إبراهيم خليل الرحمن- عَلَيْهِ السَّلَامُ -» - قال رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، وضيافته ثلاثة
أيام، وما كان بعد ذلك فهو صدقة.» ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه،
معناه أن المؤمن ينبغي له في مكارم الأخلاق ومحاسنها أن يكرم جاره وأن يكرم
ضيفه فيتحفه ويخصه يوما وليلة ويطعمه ما يأكل ثلاثة أيام وما زاد على ذلك
فهو صدقة، أي غير واجبة عليه في مكارم الأخلاق. وقد روي عن عمر بن الخطاب
أنه قال: إكرام الضيف يوم وليلة، وضيافته ثلاثة أيام، فإن أضافه بعد ذلك
فرضي فهو دين عليه. وسئل الأوزاعي عمن أكرم ضيفه خبز الشعير وعنده خبز البر
أو أطعمه الخبز والزيت وعنده اللحم، فقال هذا ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم
الأخر. وقد روي عن الليث بن سعد أنه كان يقول: الضيافة حق واجب، فكان يحتمل
أنه يكون أراد أنها حق واجب في مكارم الأخلاق ومحاسنها، إلا أنه قد روي عنه
إيجابها ليلة واحدة، وأجاز للعبد المأذون له أن يضيف مما بيده، وذهب إلى
ذلك قوم واحتجوا بما روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنه قال: «ليلة الضيافة حق على كل مسلم فإن أصبح بفنائه فإنه دين له إن شاء
اقتضاه وإن شاء تركه.» «وروي عن عقبة بن عامر الجهني قال: قلنا يا رسول
الله إنك تبعثنا فنمر
(18/281)
بقوم لا يقرون فماذا ترى؟ فقال لنا رسول
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما
ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا حق الضيف الذي ينبغي» . وروي عن
أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«أيما ضيف نزل بقوم فأصبح محروما فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه.»
فقيل معنى هذه الآثار في أول الإسلام إذ كانت المواساة واجبة، ثم أتى الله
عز وجل بالخير والسعة فصارت الضيافة جائزة مندوبا إليها محمودا فاعلها
عليها. وقيل معناها في المارين بقوم في بادية لا يجدون من ضيافتهم بدلا ولا
يجدون ما يبتاعونه مما يغنيهم عن ذلك.
ومعنى ما دل من الأحاديث على أنها غير واجبة في الذي يستغني عن الضيافة
ويقدر على أن يتعوض منها بابتياع ما يغنيه عنها. فقد قال رسول الله- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»
وقال: «لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته»
الحديث، فلا يكون بين الأحاديث على هذا تعارض. وإلى نحو هذا ذهب مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وروي عنه أنه قال: ليس على أهل الحضر ضيافة، يريد لأن
المسافر يجد في الحضر مندوحة عن الضيافة لوجوده حيث ينزل ما يبتاع، وكذلك
قال سحنون إنما الضيافة على أهل القرى، وأما أهل الحضر فالفندق ينزل فيه
المسافر. وقد روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
«الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر» إلا أنه حديث غير
(18/282)
صحيح، رواه ابن أخي عبد الرزاق عن عمه عبد
الرزاق عن سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، وهو
متروك الحديث فقيل إنه من وضعه والله أعلم. وقيل إن حق الضيف على من منعه
قراه عتب ولوم، وقال ذلك مجاهد في معنى قول الله عز وجل: {لا يُحِبُّ
اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:
148] . وبالله التوفيق.
[إجلاء عمر رضي الله عنه يهود نجران وفدك]
في إجلاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
يهود نجران وفدك قال وقال مالك: وقد أجلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - يهود نجران وفدك. فأما يهود نجران فخرجوا منها ليس لهم من التمر
ولا من الأرض شيء، وأما يهود فدك فكان لهم نصف الأرض ونصف النخل؛ لأن رسول
الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان صالحهم على نصف الأرض ونصف
النخل، فأقام لهم عمر بن الخطاب نصف النخل ونصف الأرض قيمة من ذهب وورق
وإبل وحبال وأقتاب ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم منها.
قال محمد بن رشد: وكذلك أجلى يهود خيبر، ذكر ذلك مالك في موطئه عن ابن شهاب
أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجتمع
(18/283)
دينان في جزيرة العرب،» فأجلى يهود خيبر.
قال مالك: وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران وفدك، فذكر نص قوله هنا إلى
آخره. وقد مضى في رسم نذر من سماع ابن القاسم بقية القول في ذلك، وبالله
التوفيق.
[سبب تسمية أبي بكر الصديق بالصديق]
في سبب تسمية أبي بكر الصديق بالصديق
قال مالك: قال المشركون لأبي بكر: إن صاحبك- يعنون رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزعم أنه أسري به في ليلة من مكة إلى بيت
المقدس ورجع من ليلته وأنه رأى عيرا على بعير منها غرارتان إحداهما سوداء
والأخرى بيضاء، فقال أبو بكر: إن كان قاله فصدق، فبذلك سمي الصديق.
قال محمد بن رشد: الأحاديث التي تخرج على التفسير لقول الله عز وجل:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] ، أي إلى بيت المقدس، وإنما
سماه الأقصى لأنه الأبعد عن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، والأدنى منه مسجد الكعبة، {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]
أي بما أجرينا حوله من الأنهار، وأنبتنا فيه من الثمار، {لِنُرِيَهُ مِنْ
آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] كثيرة، منها حديث أم هاني بنت أبي طالب «أن رسول
الله - صلى- الله عليه وسلم- صلى في بيتها تلك الليلة العشاء الآخرة قالت
فصليت معه ثم نمت فتركته في مصلاه فلم أنتبه حتى أنبهني لصلاة الصبح قال
قومي يا أم هاني أحدثك العجب فقلت كل حديثك عجب بأبي أنت وأمي فقام فصلى
(18/284)
الغداة وصليت معه فلما انصرف قال أتاني
جبريل وأنا في مصلاي هذا فقال اخرج يا محمد فخرجت إلى الباب فإذا ملك واقف
على دابة فقال اركب فركبت دابة بيضاء فوق الحمار ودون البغل خطوها مد البصر
ثم سار بي نحو بيت المقدس وهو المسجد الأقصى من مكة فإذا أتيت على واد طالت
يداها وقصرت رجلاها وإذا أتيت على عقبة طالت رجلاها وقصرت يداها حتى انتهيت
إلى بيت المقدس فبشرني فيه إبراهيم خليل الرحمن وموسى وعيسى ابن مريم -
عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - في نفر من الأنبياء فأممتهم وصليت بهم في مسجد بيت
المقدس العشاء الآخرة. قال ولقد صليت الغداة كما ترين في بيتك وإذا عيسى -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - رجل ربعة دون الطويل وفوق القصير عريض الصدر ظاهر
الدم جعد الشعر تعلوه صهوبة يشبه عروة بن مسعود الثقفي من أمتي.
وأما موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فرجل طويل آدم جعد الشعر كأنه من رجال
أزد شنوءة، وإذا إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شبه خَلْقه
خَلْقي وخُلُقه خُلُقي.
قالت: ثم أخذ إزاره فاتزر به فقلت: أين تريد يا رسول الله، فقال: أريد أن
أخرج إلى قريش فأخبرهم بذلك فقالت: إذا يكذبونك بأبي أنت وأمي يا رسول
الله، فقال: أمرت بذلك فأخذت بإزاره وإنه لقائم فقال: والله لأحدثنهم إني
أمرت بذلك فخرج نحوهم وأمرت جارية لي فقلت: اتبعي ابن عمي فانظري ماذا ترد
عليه قريش، فاتبعته ثم رجعت فأخبرتني أنه انطلق حتى وقف على نادي قريش في
المسجد وفيهم مطعم بن عدي ونوفل فقال لهم: يا معشر قريش قد صليت العشاء
الآخرة بهذا الوادي هذه الليلة ثم صليت ببيت المقدس ولقد رجعت فصليت
بالوادي، فقال له مطعم: أتحدثنا أنك ذهبت مسيرة شهر ذاهبا ومسيرة شهر مقبلا
مسيرة شهرين في ليلة واحد؟ فقال: أما والله أن لو كنت شابا لأخذتك بيدي ثم
قام إلى حوض له على زمزم أعطاه إياه عبد المطلب فهدمه. قالت له قريش: عجلت
على ابن أخيك فلعله أن يكون صادقا دعنا حتى نسأله عن آية ما يقول، فإن لنا
ركابا بالشام نسأله عنها فإذا أخبرنا بما تعرف ونعرفه كنت لم تعجل عليه وإن
لم يفعل عرفنا باطله، ثم
(18/285)
قالوا: أخبرنا يا محمد عن عيرنا فهي أهم
علينا من قولك هل لقيت منها شيئا؟ قال: نعم مررت على عير بني فلان. وهي
بالروحا وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء وقد عطشت
فأخذته فشربته ثم وضعته كما كان فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا؟
قالوا له: هذه آية. قال: ومررت بعير بني فلان وفيها فلان وفلان وهما راكبان
على قعود لهما فنفر مني القعود فرمى بفلان فانكسرت يده، فسلوهما عن ذلك،
قالوا: وهذه آية. قالوا: أخبرنا عن عيرنا نحن، قال: مررت بها بالتنعيم،
قالوا: فما عددها وأحمالها وهيئتها؟ فقال: كنت في شغل عن ذلك. قال: ثم مثلت
له مكانه فقال: نعم هيئتها كذا وعددها كذا وفيها فلان وفلان ويقدمها جمل
أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم غدا عند طلوع الشمس قالوا: هذه آية.
ثم خرجوا نحو وهم يقولون والله لقد فصل بيننا وبين محمد حتى أتوا جبلا بكذا
فجلسوا عليه وجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه إذ قال قائل منهم: والله
إن الشمس قد طلعت وقال آخر: وهذه الإبل قد طلعت يقدمها جمل أورق فيها فلان
وفلان كما قال، فلم يؤمنوا ولم يفلحوا وقالوا: ما سمعنا بهذا قط إن هذا سحر
مبين» فرموه بالسحر وصدقه أبو بكر فسمي الصديق من أجل ذلك، وبالله التوفيق.
[الصبغ بالسواد]
في الصبغ بالسواد وسئل عن الصبغ بالسواد
فقال: ما علمت أحدا ممن مضى كان يصبغ به، وما بلغني فيه نهي، وغيره من
الصبغ أحب إلي منه.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا متكررا في أول السماع،
(18/286)
ومضى الكلام عليه مستوفى في رسم حلف ألا
يبيع سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[تعليم الصبي الصغير]
في تعليم الصبي الصغير قال: وسمعته وسئل
عن صبي ابن سبع سنين جمع القرآن، قال: ما أرى هذا ينبغي.
قال محمد بن رشد: إنما قال مالك: إنه لا ينبغي هذا من أجل أن ذلك لا يكون
إلا مع الحمل عليه في التأديب والتعليم وهو صغير جدا وترك الرفق به في ذلك،
وقد قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله رفيق يحب
الرفق في الأمر كله» وبالله التوفيق.
[هيئة دخول النبي عليه السلام مكة عام الفتح]
في هيئة دخول النبي عليه
السلام مكة عام الفتح وزعم يحيى بن سعيد «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين دخل مكة عام الفتح دخلها في عشرة آلاف أو اثني
عشر ألفا، أكب على واسطة رحله حتى كادت تنكسر ثم قال: الملك لله الواحد
القهار» .
قال محمد بن رشد: إنما أكب- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على
(18/287)
واسطة رحله تواضعا لله عز وجل وشكرا له على
نصره إياه وإظهار دعوة الإسلام. وقد مضى في رسم البز ذكر غزوة فتح مكة
والسبب في ذلك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[ما أشير به على عائشة من أن توصي بأن تدفن مع
النبي عليه السلام]
فيما أشير به على عائشة من أن توصي
بأن تدفن مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
قال مالك: كان في موضع النبي وأبي بكر وعمر فضل من ورائهم، فقيل لعائشة لو
أمرت إذا مت أن تدفني فيه، فقالت إني إذا لمبتدية به.
قال محمد بن رشد: خشيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إن أوصت بذلك أن
ينفس عليها ذلك فيذهب إلى المنع من ذلك ويأبى من عهدت إليه بذلك إلا إنفاذ
عهدها فيقع في ذلك حرب وقتال، ولذلك قالت عائشة إني مبتدية إذا بعمل، والله
أعلم.
[الدخول في الحروب الواقعة بين الصحابة رضي
الله عنهم]
في الدخول في الحروب الواقعة بين الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال
مالك: سأل رجل أبا موسى الأشعري: أرأيت إن خرجت بسيفي أضرب به ابتغاء وجه
الله حتى ألقاه؟ فقال له ذلك لك، فقال له ابن مسعود: انظر ما تفتي به
ليخرجن من هذه الأمة كذا وكذا كلهم يريد وجه الله لا يدرك رضوانه.
قال محمد بن رشد: إنما تقاتلت الطائفتان من الصحابة على ما تقاتلت عليه من
الخلافة؛ لأن كل واحدة منهما اعتقدت الحق [إنما كان
(18/288)
معها، وأن الواجب عليها هو الذي فعلت، فلمن
كان على الحق منهما] والصواب أجران أجر لاجتهاده وأجر لموافقة الحق، ولمن
لم يكن على الحق منهما أجر واحد على اجتهاده، فهذا وجه ما أفتى به أبو موسى
الأشعري الرجل الذي سأله عما سأله عنه؛ لأنه لا يخلو في قتاله مع إحدى
الطائفتين أن يوافق التي هي على الحق أو الأخرى، فإن وافق التي هي على الحق
كان له أجران، وإن وافق الأخرى كان له أجر واحد. ورأى عبد الله بن مسعود
وجه الخلاص له التورع عن القتال مع واحدة من الطائفتين مخافة الوقوع في
الإثم بالتقصير في الاجتهاد والخطأ من أجل ذلك. والذي عليه أهل السنة والحق
أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو كان على الحق لما كان عنده في ذلك عن
النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما لو علمه غيره لسلم له
الأمر، والله أعلم وبه التوفيق.
[الحديث هل يؤخذ به دون أن ينظر فيه]
في الحديث هل يؤخذ به دون أن ينظر فيه
قال وسئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه به ثقة من أصحاب رسول الله- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتراه من ذلك في سعة؟ فقال لا والله حتى يصيب
الحق، وما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صوابين جميعا، ما الحق
والصواب إلا واحد.
قال محمد بن رشد: قوله إن من حدث بحديث أسنده إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس في سعة من الأخذ به حتى يصيب الحق في ذلك، يريد
بأن يعلم أن العمل على ظاهر الحديث، إذ قد يكون منسوخا بحديث غيره أو يكون
ظاهره مخالفا للأصول فيتأول على ما يوافق الأصول، أو
(18/289)
يعارضه القياس أو يخالفه العمل المتصل، إذ
لا يمكن أن يتصل العمل من السلف بخلاف الحديث المرفوع إلا وقد علموا النسخ
فيه وقامت عندهم الحجة بتركه. وأما قوله ما الحق إلا واحد إلى آخر قوله،
فيحتمل أن يعاد إلى ما سأله عنه من الأخذ بالحديث المروي عن النبي- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون أن ينظر فيه إذا كان العلماء قد قالوا
بخلافه، فيكون قوله صحيحا لا اختلاف فيه، إذ لا يجوز لأحد أن يقول أنا آخذ
بما روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن كان العلماء قد
خالفوه ولم يأخذوا به؛ لأنهم لن يتركوه إلا لما هو أولى منه. وأما إن اختلف
العلماء في الأخذ به لتقديمه على القياس وعمل أهل المدينة وفي تركه لتقديم
القياس وعمل أهل المدينة عليه فاختلافهم فيه كاختلافهم من جهة النظر
والاجتهاد فيما لا نص فيه ولا إجماع. وقد اختلف هل كلهم مصيب عند الله؟ أو
لا يدرى هل أصاب أحدهم الحق عند الله أو أخطؤوه جميعا. وقد تؤول القولان
جميعا على مذهب مالك ورويا أيضا عن أبي حنيفة وعن أبي الحسن الأشعري،
والصحيح [عنه] أن كل مجتهد مصيب، وإلى هذا ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني،
وعليه أصحاب الشافعي، وهو الحق والصواب؛ لأن المجتهد إذا اجتهد فيما لا نص
فيه ولا إجماع فأداه اجتهاده إلى تحليل أو تحريم يعلم قطعا أنه متعبد بما
أداه اجتهاده إليه من ذلك مأمور به، ولا يصح أن يأمر الله تعالى بشيء
وبتعبده به وهو خطأ عنده، وبالله التوفيق.
[ما توقعه الأنصار من إقامة النبي صلى الله
عليه وسلم بمكة]
فيما توقعه الأنصار من إقامة النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة قال مالك: وزعم يحيى بن سعيد
قال: لما فتح الله عز
(18/290)
وجل على رسوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مكة وقام على الصفا كأنه يدعو، قالت الأنصار وهم قد أحدقوا به
أو غيرهم من أصحابه، أنا الشاك، قالوا أتراه إذ فتح الله عليه وأقر عينه
مقيما بأرضه. فلما فرغ رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: ما قلتم؟ قالوا قلنا كذا وكذا، فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم.
» قال محمد بن رشد: إنما لم يقم رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بمكة؛ لأنها الأرض التي هاجر منها لله عز وجل، فلم يكن ليرجع
فيما قد تركه لله تعالى. وقد قال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار،» وقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في حجة الوداع: «لا يقيمن مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث»
وبالله التوفيق.
انتهى الجزء السابع والحمد لله.
(18/291)
|