البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب الجامع السادس] [التأكيد في الخروج
إلى الصلاة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
كتاب الجامع السادس ومن كتاب القبلة في
التأكيد في الخروج إلى الصلاة وحدثني
العتبي عن عيسى بن دينار قال: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم عن مالك عن هشام
بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب أرسل إلى سليمان بن أبي خيثمة فوجده
راقدا فقال: أشهدت الصلاة؟ قال: كنت أشتكي، ولولا رسولك جاءني ما خرجت،
فقال عمر: إن كنت خارجا لدعوة أحد فاخرج إلى الصلاة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - لأن إجابة الداعي إلى الصلاة بقوله: حي على الصلاة حي على الصلاة
في أذانه للصلاة آكد من إجابة داعي الأمير لشيء من أمور الدنيا. وبالله
التوفيق.
(18/5)
[النصيحة من الدين]
ومن كتاب شك في طوافه في أن النصيحة من الدين
قال ابن القاسم قال مالك ورفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» .
قال محمد بن رشد: قوله الدين النصيحة معناه عماد الدين النصيحة، خرج مخرج
واسأل القرية، يريد أهل القرية، لأن حقيقة الدين إنما هو الإسلام والإيمان،
قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19]
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ
فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] . والنصيحة لله هي
القيام بفرائضه، والتزام أوامره واجتناب زواجره؛ والنصيحة لكتابه هو تأويله
على ما تأوله عليه أهل الحق من سلف المسلمين، وترك ما صار إليه من التأويل
أهل الزيغ من الملحدين؛ والنصيحة لرسوله في حياته بذل الجهد في طاعته
ونصرته، وبعد وفاته القيام بإحياء سنته والتزام ما شرعه لأمته، والنصيحة
لأئمة المسلمين التزام الطاعة لهم وحضهم على الخير وتحذيرهم مما سواه،
والنصيحة لعامة المسلمين هو أن يريهم المراشد في أمور دينهم ودنياهم.
(18/6)
[كراهة ترك العمل في يوم الجمعة]
في كراهة ترك العمل في يوم الجمعة قال
مالك: كان بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يكرهون أن يترك يوم الجمعة العمل لئلا يصنعوا فيه كما فعلت اليهود والنصارى
في السبت والأحد.
قال محمد بن رشد: هذا لما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يأمر بمخالفة أهل الكتاب وينهى عن التشبه بهم. روي عنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن اليهود والنصارى لا
يصبغون فخالفوهم» وأنه قال: «ألحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لأهل
الكتاب،» وأنه قال: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر» .
ومثل هذا كثير.
[ما جاء في أمة النبي عليه السلام]
ُ - قال مالك: كان عيسى ابن مريم يقول: أمة محمد حكماء علماء كأنهم من
الفقه أنبياء. قال مالك على إثر ذلك: إن كان عيسى ابن مريم قاله ما أراهم
إلا صدر هذه الأمة.
(18/7)
قال محمد بن رشد: إخبار عيسى ابن مريم هذا
من زمانه لا يصح أن يكون إلا بوحي من الله عز وجل، وذلك ثناء منه عز وجل
عليهم بذلك، وقد أثنى عليهم في غير ما آية من كتابه، فقال عز وجل:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] . الآية.
فقوله عز وجل: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح: 29] إلى آخر الآية
يشهد بصحة قول عيسى ابن مريم المذكور فيهم. وقال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] .
[صفة مسجد النبي عليه السلام وحنين الجذع إليه]
في صفة مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وحنين الجذع إليه قال مالك: قال
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مسجدي على عريش كعريش موسى» . «وكان يخطب
على جذع حتى عمل له هذا المنبر من طرفاء الغابة، فلما خطب عليه وفقده الجذع
حن فنزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضع يده عليه
فسكن» .
قال محمد بن رشد: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مسجدي على
عريش يريد أن سقفه بالجرائد فوق الجذوع بغير طين أو بقليل من الطين، فكان
إذا كان المطر يكف أي يهطل في المسجد على ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «وقد أريت هذه
الليلة - يريد ليلة القدر - فأنسيتها ولقد رأيتني أسجد في صبحها في ماء
وطين فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر. قال أبو سعيد:
فأمطرت السماء في تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فوكف
(18/8)
المسجد. قال أبو سعيد: فأبصرت عيناي رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف وعلى جبهته أثر الماء
والطين من صبيحة ليلة إحدى وعشرين من رمضان» .
وحنين الجذع الذي كان يخطب إليه إذ صنع له المنبر يخطب عليه معلوم، رواه عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبي بن كعب، وابن عباس، وجابر
بن عبد الله، وأنس بن مالك، وجماعة سواهم من أصحاب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طرق كثيرة بمعان متفقة وألفاظ متفارقة، في
بعضها «أنه خار كخوار الثور حتى ارتج المسجد منه جزعا على رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنزل إليه رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالتزمه وهو يخور، فلما التزمه سكت، ثم قال:
والذي نفس محمد بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة» . وفي
بعضها «أنه جأر أو خار حتى تصدع وانشق فأمر نبي الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- فدفن تحت المنبر» على ما روي. وقد روي أن أبي بن كعب أخذه لما غير المسجد
وهدم فكان عنده في بيته حتى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتا. وهذا علم جليل
من أعلام النبوة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي أكثر من أن
تحصى.
[كلام الإمام في الخطبة]
في كلام الإمام في الخطبة قال: وقد كان
بعض الأمراء يرسل ليلة الجمعة هل أتكلم مع
(18/9)
الخطبة بشيء؟ فقيل له: فماذا قلت؟ قال: قلت
نعم إذا كان من الأمر الذي يأمر به وينهى عنه يريد بذلك وجه الحق، وقد
بلغني أن عمر بن الخطاب تكلم مع خطبته بكلام.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من أن للإمام أن يتكلم يوم الجمعة
وهو على المنبر بغير الخطبة ولا يكون بذلك لاغيا. قال فيها: وكذلك لا يكون
لاغيا من رد على الإمام إذا كلمه وهو يخطب، وهو أمر لا اختلاف فيه أحفظه في
المذهب. والحجة في إجازة ذلك ما يروى عن أبي الزاهرية عن عبد الله بن بشير
قال: «جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة فقال له رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجلس فقد آذيت وآنيت» .
قال أبو الزاهرية: وكنا نتحدث حتى يخرج الإمام. وما روي عن جابر بن عبد
الله قال: «جاء سليك الغطفاني ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - على المنبر فقعد قبل أن يصلي فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أركعت ركعتين قال: لا قال: قم فاركعهما» . وهذا نص
في جواز تكلم الإمام على المنبر يوم الجمعة بغير الخطبة، وفي جواز الرد
عليه لمن كلمه. وتأول أصحابنا أنه إنما أمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالركعتين في ذلك الوقت ليري الناس حاجته فيتصدقون
عليه، بدليل ما روي عن أبي سعيد الخدري «أن رجلا دخل المسجد ورسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر فناداه رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما زال يقول: ادن حتى دنا فأمره فركع ركعتين
قبل أن يجلس وعليه خرقة خلق ثم صنع مثل ذلك في الثانية فأمره بمثل ذلك، ثم
صنع مثل ذلك في الجمعة الثالثة فأمره بمثل ذلك وقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للناس تصدقوا، فألقوا الثياب فأمره رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذ
(18/10)
ثوبين الحديث.» وذهب أهل العراق أنه لا
يجوز للإمام أن يتكلم في خطبته لغير الخطبة ولا لأحد ممن كلمه أن يرد عليه،
وقال يحتمل أن يكون ما جاء في هذه الآثار كان الكلام حينئذ في الخطبة مباحا
كما كان في الصلاة، ثم نسخ بنسخه في الصلاة؛ ويحتمل أيضا أن يكون النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع خطبته ليعلم الناس كيف يفعلون إذا
جاءوا إلى المسجد ثم استأنفها، لا أنه تكلم فيها ثم تمادى عليها، وهو بعيد.
والله أعلم وبه التوفيق. وقد مضى هذا في أول سماع أشهب من كتاب الصلاة.
[ما جاء في أبي عبيدة بن الجراح]
قال وسمعت مالكا يقول: «أتى أهل نجران إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلموا وقالوا: يا رسول الله لو بعثت معنا من يفقهنا
ويعلمنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنا أبعث
معكم القوي الأمين فتطاول أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وكل رجل يرجو أن يكون هو وأحبوا ذلك، فبعث رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا عبيدة بن الجراح معهم» .
قال محمد بن رشد: أبو عبيدة بن الجراح من كبار الصحابة وفضلائهم وأهل
السابقة منهم، وأحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة. وقال أبو بكر الصديق يوم السقيفة: رضيت لكم
أحد هذين الرجلين عمر أو أبا عبيدة. وقال عمر إذ دخل عليه الشام وهو
أميرها:
(18/11)
أنت أخي حقا لم تغيرك الدنيا. ويروى أنه
قال: كلنا غيرته الدنيا غيرك يا أبا عبيدة. وقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن
الجراح» . والمعنى في هذا أنه في أرفع مراتب الأمانة، ولا أحد أرفع مرتبة
منه فيها، ولا يمتنع أن يكون غيره من الصحابة في مرتبته من الأمانة. وهذا
مثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبي ذر: «ما أظلت
الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر،» لأن المعنى في ذلك أنه في
أعلى مراتب الصدق، فلا ينتفي أن يكون في أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هو في الصدق مثله، وإنما ينتفي أن يكون غيره أعلى
مرتبة منه في الصدق. وبالله التوفيق.
[الحكم في البعير الضال]
في الحكم في البعير الضال قال مالك:
أرسل الحسن بن زيد يسألني عن رجل أصاب ثلاثة أبعرة ضالة فقال إنها قد
أكلتني، فاستشارني فيها، فأمرته أن يأمره أن يرسلها حيث أصابها.
قال محمد بن رشد: ثبت «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال في ضالة
الإبل: ما لك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتكل الشجر حتى يلقاها
ربها» . والاختيار فيها أن لا تؤخذ، فإن أخذت عرفت، فإن لم تعرف ردت حيث
وجدت، جاء ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأخذ به مالك في
أحد قوليه، وهو قوله في هذه الرواية وفي المدونة وفي رسم الأقضية من سماع
أشهب من كتاب اللقطة؛ وقيل إنها تؤخذ وتعرف فإن لم تعرف بيعت
(18/12)
ووقف ثمنها لصاحبها، فإن لم يأت وأيس منه
تصدق به عنه، جاء ذلك عن عثمان بن عفان، وروي ذلك عن مالك أيضا قال: من وجد
بعيرا ضالة فليأت به الإمام يبيعه ويجعل ثمنه في بيت المال، يريد بعد أن
يعرفه. قال أشهب في مدونته: وإن كان الإمام غير عدل فليتركه حيث وجده.
وإنما اختلف الحكم في ذلك بين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان لاختلاف
الأزمان لفساد الناس، فكان الحكم فيها في زمن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- وخلافة عمر بن الخطاب أن لا تؤخذ، فإن أخذت عرفت، فإن لم تعرف ردت حيث
وجدت؛ ثم كان الحكم فيها في زمن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
لما ظهر من فساد الناس أن تؤخذ وتعرف فإن لم تعرف بيعت ووقفت أثمانها.
وكذلك ينبغي أن يكون الحكم فيه اليوم إن كان الإمام عدلا، وإن كان الإمام
غير عدل يخشى عليها إن أخذت لتعرف تركت ولم تؤخذ.
وإن كان إنما يخشى على ثمنها إن بيعت أخذت فعرفت فإن لم تعرف ردت حيث وجدت.
وقد مضى هذا كله بزيادة عليه في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب الأقضية.
وبالله التوفيق.
[الإقبال على الدعاء]
في الإقبال على الدعاء
قال مالك: جاء رجل إلى عامر بن عبد الله بن الزبير وهو يدعو فجلس إليه ومعه
دراهم وكتاب فصول عنده، ثم كلمه الرجل فأخذ الدراهم فجعلها تحت رجله ثم
أقبل على الدعاء، فلما فرغ كلمه الرجل قال: فما استطعت أن تكلمني ثم تقبل
على صلاتك، فقال: هذه أخذة الشيطان، إني قد جربت هذا، يأتي الرجل فأكلمه ثم
يأتي آخر حتى يذهب الدعاء. ورأيته يدعو وعليه إزار وقطيفة في الشتاء كلما
وقعت جبذها على منكبيه، وكان من دعائه: يا باقي يا دائم يا حي لا يموت لا
تبطل دعائي ولا تضيع مسألتي.
(18/13)
قال محمد بن رشد: قد بين عامر بن عبد الله
بن الزبير الوجه الذي من أجله لم يترك ما كان فيه من الدعاء، وتكلم الرجل
بما لا مزيد عليه مما حذره وخافه. وأما قوله في دعائه يا حي لا يموت فصحيح
جيد لا اختلاف فيه، لأن الحي اسم من أسماء الله عز وجل. قال الله عز وجل:
{هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
[غافر: 65] وقال: {الم} [آل عمران: 1] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] . وقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] . وكذلك قوله: يا باقي، لأن الباقي
أيضا اسم من أسماء الله تعالى في سورة البقرة، وفي سورة الرحمن قوله عز
وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]
.
وأما قوله يا دائم ففي الدعاء به اختلاف، إذ قد قيل إنه لا يجوز أن يسمى
الله عز وجل إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله وأجمعت الأمة على تسميته
به. والصحيح جواز الدعاء بيا دائم، لأن الدائم بمعنى الباقي وبمعنى الأخير
في قوله عز وجل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}
[الحديد: 3] وبالله التوفيق.
[الصلاة في البرانس]
في الصلاة في البرانس وسئل مالك عن
الصلاة في البرانس هي من لباس المصلين وكانت من لباس الناس وما أرى بها
بأسا، فاستحسن لباسها وقال: هي من لباس المسافر للبرد والمطر. قال ولقد
سمعت عبد الله بن
(18/14)
أبي بكر وكان من عباد الناس وأهل الفضل وهو
يقول: ما أدركت الناس إلا ولهم ثوبان برنس يغدو فيه وخميصة يروح فيها، ولقد
رأيت ناسا يلبسون البرانس، فقيل له ما كان ألوانها؟ قال: صفر.
قال محمد بن رشد: البرانس ثياب في شكل الغفائر عندنا مفتوحة من أمام تلبس
على ثياب في البرد والمطر مكان الرداء، فلا تجوز الصلاة فيها وحدها إلا أن
يكون تحتها قميص أو سراويل، لأن العورة تبدو من أمامه وهو في البرانس
العربية، وأما الأعجمية فلا خير في لباسها في الصلاة ولا في غير الصلاة
لأنها من زي العجم وشكلهم. وأما الخمائص فهي أكسية من صوف رقاق معلمة وغير
معلمة يلتحف فيها، كانت من لباس الأشراف في أرض العرب.
فقوله برنس يغدو به يريد يلبسه على ما تحته من الثياب، وخميصة يروح بها
يعني يلتحفها على ما عليه من الثياب والله أعلم. وقد مضى هذا في هذا الرسم
من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[رفع اليدين في الدعاء]
في رفع اليدين في الدعاء قال مالك:
وبلغني أن أبا سلمة رأى رجلا قائما عند المنبر وهو يدعو ويرفع يديه فأنكر
عليه وقال: لا تقلصوا تقليص اليهود، فقيل له: ما أراد بالتقليص؟ فقال رفع
الصوت بالدعاء ورفع اليدين.
قال القاضي: إنما كره رفع الصوت بالدعاء لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارفقوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» .
وقد روي أن قول الله عز وجل: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ
بِهَا} [الإسراء: 110]
(18/15)
نزلت في الدعاء. وأما رفع اليدين عند
الدعاء فإنما أنكر الكثير منه مع رفع الصوت لأنه من فعل اليهود، وأما
رفعهما إلى الله عز وجل عند الرغبة على وجه الاستكانة والطلب فإنه جائز
محمود من فاعله، وقد أجازه مالك في المدونة في مواضع الدعاء وفعله فيها،
واستحب في صفته أن يكون ظهورهما إلى الوجه وبطونهما إلى الأرض. وقيل في قول
الله عز وجل: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] إن الرغب
يكون بطون الأكف إلى السماء والرهب بطونها إلى الأرض. وقد وقع لمالك في رسم
المحرم من السماع في كتاب الصلاة أنه لا يعجبه رفع اليدين في الدعاء، ومعنى
ذلك الإكثار منه في غير مواضع الدعاء حتى لا يختلف قوله، والله أعلم.
[السدل في الصلاة]
في السدل في الصلاة وسئل مالك عن السدل
في الصلاة قال: لا بأس بذلك. فقيل له هل رأيت أحدا يفعل هذا؟ فقال نعم.
فقيل له أعبد الله بن حسن؟ قال نعم وغيره، وقد رأيته يفعله، وقد رأيت عبد
الله بن حسن يجعل طنفسة في المسجد يصلي عليها، وقد كان كبر، فكان يقوم
عليها ويسجد ويضع يديه على الحصباء.
وسئل ابن القاسم عن ذلك فقال لا بأس بذلك إذا وضع جبهته ويديه على تراب أو
نبات من الأرض، فقيل له مسجد الجماعة؟ فقال نعم
قال محمد بن رشد: صفة السدل أن يسدل الرجل طرفي ردائه بين يديه فيكون بطنه
وصدره مكشوفا، وقد أجاز ذلك في المدونة وإن لم يكن
(18/16)
عليه إلا إزار أو سراويل تستر عورته. وحكى
أنه رأى عبد الله بن الحسن وغيره يفعل ذلك. ومعنى ذلك إذا غلبه الحر، إذ
ليس من الاختيار أن يصلي الرجل مكشوف الصدر والبطن، وهو ظاهر هذه الرواية.
وفي هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة ما ظاهره أن ذلك لا بأس به إذا
كان عليه مع الإزار ثوب غيره يستر به سائر جسده.
وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية أبي هريرة وأبي جحيفة
«أنه نهى عن السدل في الصلاة» فكره بذلك بعض أهل العلم أن يسدل الرجل في
صلاته وإن كان عليه مع الإزار قميص وقال ذلك فعل اليهود، فهي ثلاثة أقوال:
الجواز وإن لم يكن عليه إلا إزار، والمنع وإن كان عليه مع الإزار قميص يستر
به جميع جسده، والفرق بين أن يكون عليه مع الإزار قميص يستر به سائر جسده
وبين ألا يكون عليه مع الإزار قميص يستر به جميع جسده. وأما إن لم يكن عليه
قميص ولا إزار فلا يجوز السدل في الصلاة بإجماع، لأن عورته تبدو من أمامه.
وإنما كانت الطنفسة تجعل له في المسجد ليصلي عليها رفقا به لكثرة اتقائه من
حر الأرض وبردها، فكان يصلي ويسجد على الحصباء ويضع يده عليها، وذلك جائز،
فقد كان يطرح لعقيل بن أبي طالب في زمن عمر بن الخطاب طنفسة إلى جدار
المسجد الغربي يجلس عليها ويجتمع الناس إليه، وكان نسابا عالما بأيام
العرب. والصلاة على الطنافس وبسط الشعر والثياب والأدم جائزة، وإنما يكره
السجود عليها، من أجل أن الصلاة شأنها التواضع، فالمستحب فيها أن لا يسجد
إلا على الأرض أو ما يشاكل الأرض من الحصر التي تصنع مما تنبته الأرض. ومثل
هذا في المدونة وغيرها، وبالله التوفيق.
(18/17)
[المحافظة على الصلاة في الجماعة]
في المحافظة على الصلاة في الجماعة وسئل
مالك هل بلغك عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا ذكر له الخروج إلى البادية
قال: فأين صلاة العشاء؟ قال نعم، قد بلغني أن سعيد بن المسيب كان إذا ذكرت
له البادية والخروج إليها قال: فأين صلاة العشاء.
قال محمد بن رشد: إنما كان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول ذلك إشفاقا على
فوات الصلاة في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لما جاء من أن الصلاة
فيه خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد.
وخص صلاة العشاء بالذكر لما جاء من الفضل في شهودها. قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بيننا وبين المنافقين شهود العتمة
والصبح لا يستطيعونها» أو نحو هذا. وقال عثمان بن عفان: من شهد العشاء في
جماعة فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الصبح فكأنما قام نصف ليلة، وذلك لا
يكون إلا عن توقيف، إذ لا مدخل في ذلك للقياس ولا يقال مثله بالرأي. ولعله
أراد أن أهل البادية كانوا لا يصلون العشاء والصبح في جماعة، أولا يرى
لنفسه اختيارا أن يأتم بأئمتهم لجهلهم بالسنة. وقد مضى هذا في هذا الرسم من
هذا السماع من كتاب الصلاة. وبالله التوفيق.
[كراهة التروح بالمراوح في المسجد]
في كراهة التروح بالمراوح في المسجد
وسئل مالك عن المراوح أتكره أن يروح بها في المسجد قال نعم إني لأكره ذلك.
(18/18)
قال القاضي: هذا كما قال لأن المراوح إنما
يتخذها أهل الطول للترفه والتنعم، وليس ذلك من شأن المساجد، والإتيان إليها
بالمراوح من المكروه البين. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من
كتاب الصلاة. وبالله التوفيق.
[التسع آيات التي أوتيها موسى عليه السلام]
ُ - قال مالك: التسع آيات التي آتاهن الله تبارك وتعالى موسى - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - هي الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، ويده،
والبحر، والجبل.
قال محمد بن رشد: قد روي هذا عن ابن عباس من رواية عكرمة عنه، إلا أنه جعل
مكان البحر والجبل السنين والنقص من الثمرات، فقال في تفسير التسع الآيات:
اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين، ونقص
من الثمرات، فالتسع الآيات التي أعلم الله عز وجل في كتابه أنه آتاها موسى
بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:
101] ، هي معجزات، وتخويفات وإنذارات. قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ
أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] فقالوا: هذه مما سحرنا به هذا
الرجل فقالوا يا موسى {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا
بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132] أي بمصدقين، فأرسل
الله عليهم الطوفان والجراد والقفل والضفادع والدم آيات مفصلات، يعني
بائنات بعضها من بعض بين كل عذابين شهر، قاله بعض أهل التفسير.
(18/19)
أما الطوفان فمطروا الليل والنهار ثمانية
أيام ولياليهن لا يرون فيها شمسا ولا قمرا، فصرخ الناس إلى فرعون وخافوا
الغرق، فأرسل فرعون إلى موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأتاه، فقال: يا موسى
اكشف عنا هذا فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا موسى ربه فأقلعت السماء
ونشفت الأرض ماءها وأنبتت من الكلأ والزرع ما لم يروا مثله في مصر قط،
فقالوا: لا والله لا نؤمن لك ولا نرسل معك بني إسرائيل، ولقد فزعنا من أمر
كان خيرا لنا، فنكثوا وعصوا. فأرسل الله عز وجل عليهم الجراد فأكل ما أنبتت
الأرض، وبقي الجراد عليهم ثمانية أيام ولياليهن لا يرون الأرض، وركب الجراد
بعضه بعضا ذراعا. وفي تفسير مجاهد أن الجراد أكل مسامير أبوابهم وثيابهم،
فصرخ أهل مصر إلى فرعون، فأرسل إلى موسى فقال: أيها الساحر {ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ
لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:
134] ، فدعا موسى ربه جل وتعالى، فأرسل الله عز وجل ريحا شديدا فاحتملت
الجراد فألقته في البحر فلم يبق في الأرض منها جرادة. فنظر أهل مصر فإذا هم
قد بقي لهم بقية من زرعهم وكلئهم ما يكفيهم عامهم ذلك، فقالوا: إنه قد بقي
لنا ما يكفينا هذه السنة، فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل.
فأرسل الله عز وجل عليهم القمل.
قال مجاهد: هو الدبا فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلا أكلته. فصرخوا إلى
فرعون فأرسل إلى موسى فأتاه فقال: يا موسى اكشف عنا هذا الدبا فنؤمن لك
ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا موسى ربه فأمات الدبا فلم يبق منه واحدة. فلما
نظر القوم أنه لم يبق لهم شيء يعيشون به قالوا: يا موسى هل يستطيع ربك أن
يفعل بنا شرا مما فعل، فوالله لا نؤمن لك ولا نرسل معك بني إسرائيل. فأرسل
الله عليهم الضفادع فدبت في أرضهم وبيوتهم ومخادعهم وظهور
(18/20)
بيوتهم حتى جعل الرجل يستيقظ وعليه منهن ما
لا يحصى، فصرخوا إلى فرعون فأرسل إلى موسى فأتاه فقال: ادع لنا ربك فليهلك
هذه الضفادع من أرضنا ونؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا موسى ربه فأذهب
الضفادع من أرضهم فأماتها، ثم أرسل مطرا فاحتملها فألقاها في البحر.
فقالوا: لا والله لا نؤمن لك ولا نرسل معك بني إسرائيل. فأرسل الله عز وجل
عليهم الدم فجرت أنهارهم دما وركاياهم فلم يكونوا يقدرون على الماء وأنهار
بني إسرائيل تجري ماء عذبا طيبا، فإذا دخل الرجل من آل فرعون في أنهار بني
إسرائيل صار ما دخل فيه دما والماء من بين يديه ومن خلفه صاف عذب لا يقدر
منه على شيء. فمكثوا ثمانية أيام ولياليهن لا يذوقون الماء حتى بلغهم
الجهد. فصرخ أهل مصر إلى فرعون إنا قد هلكنا وهلكت دوابنا وماشيتنا من
الظمأ. فأرسل فرعون إلى موسى فدعاه فقال يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا
الرجز ونعطيك ميثاقا {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ
وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 134] . فدعا موسى
ربه فكشف عنهم فشربوا الماء، ثم عادوا إلى كفرهم فقالوا: والله لا نؤمن لك
ولا نرسل معك بني إسرائيل. قال الله عز وجل: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ
الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف:
135] {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136] .
وقال عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:
137] ، يعني أرض الأردن وفلسطين، وقيل أرض الشام. وقال عز وجل: {وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا}
[الأعراف: 137] قيل معناه ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في
الأرض وما ورثهم فيها، وقيل وعد الله لهم بالجنة لما صبروا على دين الله.
وقد جاء في التسع الآيات التي ذكر الله عز وجل أنه آتاها موسى - عليه
(18/21)
السلام - إنما عنى بها عبادات تعبده بها لا
ما آتاه من المعجزات والإنذارات. روي «عن صفوان بن عسال المرادي أنه قال:
قال رجل من اليهود لآخر اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له الآخر: لا تقل هذا
النبي فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين. فانطلقا إليه وسألاه عن تسع آيات
بينات، فقال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، ولا تقتلوا النفس التي
حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تفروا من الزحف، ولا
تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان، وعليكم يهود أن لا
تعدوا في السبت؛ فقالوا: نشهد إنك رسول الله.» وفي بعض الآثار: «فقبلوا
يديه ورجليه وقالوا نشهد أنك نبي، قال: فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالوا: إن
داوود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن
اتبعناك أن تقتلنا يهود.» قال الطحاوي: وهذا أولى مما رواه عكرمة عن ابن
عباس في أن الآيات التسع إنذارات وعدات، إذ لا حجة لأحد مع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبالله التوفيق.
[الأقبية للجواري وخروجهن بالأزر في الأسواق]
في الأقبية للجواري وخروجهن بالأزر في الأسواق
وسئل مالك عن الوصائف يلبسن الأقبية، قال ما يعجبني ذلك، فإذا شدته عليها
كان أخرج لعجزتها، ولقد نهيت عنه محمد ابن إبراهيم، ورأيت عنده وصائف قد
ألبسهن ذلك. وسئل عن خروج الجواري في الأسواق بالأزر، فقال ما يعجبني ذلك
وأرى ذلك من الباطل.
قال محمد بن رشد: المعنى في كراهة لبس الوصائف القباطي بين على ما ذكره
للعلة التي وصفها. وأما خروجهن إلى الأسواق بالأزر فمعناه أن يلتحفن فيها
كالتحاف الحرائر، فكره ذلك من أجل تشبههن بالحرائر اللواتي
(18/22)
أمرهن الله أن يدنين عليهن من جلابيبهن.
وقد رأى عمر بن الخطاب أمة لابنه عبيد الله قد تهيأت بهيئة الحرائر، فدخل
على حفصة ابنته فقال لها: ألم أر لأخيك جارية تجوس بين الناس وقد تهيأت
بهيئة الحرائر وأنكر ذلك.
قال عبد الملك في الواضحة: وما رأيت أمة بالمدينة تخرج وان كانت رائعة إلا
وهي مكشوفة الرأس في ضفائرها أو في شعر مجسم لا تلقي على رأسها جلبابا
لتعرف الأمة من الحرة، إلا أن ذلك لا ينبغي اليوم لعموم الفساد في أكثر
الناس، فلو خرجت اليوم جارية رائعة مكشوفة الرأس في الأزقة والأسواق لوجب
على الإمام أن يمنع من ذلك، وتلزم الإماء من الهيئة في لباسهن ما يعرفن به
من الحرائر، وتضرب إن خرجت مجردة. قاله مالك في رسم الأقضية من سماع أشهب
من كتاب النكاح، يريد بمجردة مكشوفة الظهر والبطن. وأما خروجها مكشوفة
الرأس فهو سنتها على ما تقدم، وبالله التوفيق لا شريك له.
[شرب الماء الذي يسقاه الناس في المساجد والأسواق]
في شرب الماء الذي يسقاه الناس في المساجد
والأسواق وسئل مالك عن الماء الذي يسقي الناس في المساجد والأسواق
أترى للأغنياء أن يجتنبوا شربه؟ قال: لا، ولكن يشربون أحب إلي، إنما جعل
للعطشان. ولقد كان سعيد بن عبادة اتخذ سقاية يسقي فيها الناس، فقيل له: أفي
المسجد؟ فقال: لا ولكن في منزله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لأن قصد ساقيه به معلوم، لأنه يوجد في
الغني كما يوجد في الفقير لاستوائهما في الحاجة إلى شربه،
(18/23)
وقد يعدمه الغني في وقت الحاجة إلى شربه
ولا يجد من يشتريه منه، أولا يكون بيده حاضرا ما يشتريه به كما يعدمه
الفقير سواء، وبالله التوفيق.
[زهد عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم]
في زهد عيسى ابن مريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال مالك: إن مما تحدث به الناس أن عيسى ابن مريم كان يقول: ما للذهب عندي
فضل على الحجارة.
قال محمد بن رشد: إنما لم يكن للذهب فضل عنده على الحجارة وإن كان الذهب من
شهوات الدنيا التي قد زين حبها للناس فقال عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}
[آل عمران: 14] الآية لأنه اختار عليها ما أنبأ الله عز وجل عباده أنه خير
منها بقوله عز وجل: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ
اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15] .
[تفسير المزجاة]
في تفسير المزجاة قال مالك في تفسير
{بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف: 88] قال: إني أقول فيها الجائزة تجوز بكل
مكان فهي المزجاة.
قال محمد بن رشد: أكثر أهل التفسير على خلاف هذا التفسير في مزجاة. منهم من
قال يسيرة، ومنهم من قال مقاربة ردية، وكانوا لا يأخذون
(18/24)
في الطعام إلا الجياد. وقيل ببضاعة مزجاة
أي خبيثة رديئة لا تجوز إلا بوضيعة. وقيل كان معهم متاع الأعراب من سمن
وصوف وما أشبهه. وأصله من التزجية، وهي الدفع والسوق. يقال: فلان يزجي
العيش أي يدافع بالقليل ويكتفي به. فالمعنى إنا جئنا ببضاعة إنما ندافع بها
ونتقوت ليست يتسع بها. وقيل في قولهم وتصدق علينا معناه بما بين الكيلين،
وقيل معناه تصدق علينا بأخينا. وبالله التوفيق.
[ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عند
دخوله مكة]
فيما قاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند دخوله مكة
قال مالك: «لما دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة
عام الفتح وسارت الجنود بين يديه، أكب على واسطة الرحل ثم قال: الملك لله
الواحد القهار. فقال أبو سفيان للعباس: لقد أصبح ابن أخيك ملكا عظيما، فقال
له العباس: إنه ليس بالملك ولكنها النبوءة» .
قال محمد بن رشد: إنما أكب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على واسطة الرحل
تواضعا لله، وقال ما قال تعظيما لله. والمعنى في ذلك بين، وبالله التوفيق.
[قول أسيد بن الحضير لو كنت في دهري]
في قول أسيد بن الحضير قال: وسمعت مالكا يذكر أن أسيد بن الحضير قال: لو
كنت في دهري كما أنا في ثلاثة مواضع: إذا قرأت سورة البقرة من جوف الليل،
وإذا كنت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(18/25)
فسمعته يحدث، وإذا كنت في جنازة، فإني إذا
شهدت جنازة لم أحدث نفسي إلا بما يقول الميت وما يقال له.
قال محمد بن رشد: هذا مما كان عليه السلف الصالح من تعظيم الموت بالسكينة
والكآبة عند حضور الجنازة حتى لقد كان الرجل يلقى الخاص من إخوته في
الجنازة له عنده عهد فما يزيده على التسليم ثم يعرض عنه كأن له عليه موجدة
اشتغالا بما هو فيه من شأن الميت، فإذا خرج من الجنازة ساءله عن حاله
ولاطفه وكان منه أحسن ما كان لعهده. فيكره الضحك في الجنازة والاشتغال فيها
بالحديث والخوض في شيء من أمور الدنيا. وقد مضى هذا في كتاب سماع أشهب من
كتاب الجنائز، وبالله التوفيق لا شريك له.
[كراهة الحلف بغير الله عز وجل]
في كراهة الحلف بغير الله عز وجل وسئل
عن الذي يحلف بحياتي، فكره ذلك وقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» . وإنما هذا
من حلف النساء والضعفاء من الرجال أن يقول بحياتي وما أشبه ذلك فكرهه.
قال محمد بن رشد: يكره الحلف بغير الله عز وجل من جهة النهي الوارد في ذلك
عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ومن جهة المعنى أيضا. وذلك أن الحلف
بالشيء تعظيم للمحلوف به، ولا ينبغي أن يعظم شيء سوى الله عز وجل وبه
التوفيق.
(18/26)
[السجود على الثوب من الحر]
في السجود على الثوب من الحر قال مالك:
بلغني أن عمر بن الخطاب سجد على ثوبه من شدة الحر، وبلغني أن ابن عمر كان
يفعل ذلك.
قال محمد بن رشد: الاختيار أن يسجد الرجل على الأرض أو على ما شاكل الأرض
من الحصر التي تعمل مما تنبته الأرض بطبعها، لأن الصلاة شأنها التواضع لله
عز وجل. فإن سجد الرجل على ثوبه من حر أو برد أجزاه ولم يكن عليه شيء، ولا
اختلاف في هذا، وبالله التوفيق.
[جود أبي الدرداء]
في جود أبي الدرداء وسمعت مالكا يذكر أن
أبا الدرداء قال: إني لبخيل إن كان لي ثلاثة أثواب ألا أقرض الله عز وجل
أحدها. وسمعت مالكا يذكر أن قوما أضافهم أبو الدرداء فلما أصبحوا قالوا لو
ذهبنا إلى أبي الدرداء نثني عليه ونذكره بما أولانا، فجاؤوه فذكروا له
وقالوا له لم تلحفنا لحفا فوجدنا البرد، فقال: ليس علينا إلا لحاف واحد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين. قال الله عز وجل: {إِنْ تُقْرِضُوا
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن: 17] وقال: {وَمَنْ
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وبالله
التوفيق.
(18/27)
[كراهة عمر رضي
الله عنه البنيان]
في كراهة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - البنيان قال وسمعته يذكر أن أبا
الدرداء بنى منزلا له بحمص، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فكتب إليه: أما كان في
بناء الروم وفارس ما يكفيك؟ فأخرجه عمر من حمص إلى دمشق.
قال محمد بن رشد: التطاول في البنيان مذموم، وقد جاء أنه من أشراط الساعة،
فعاتب عمر أبا الدرداء على ما بناه، إذ خفي عليه ما جاء في ذلك مع مكانه من
العلم، فإنه كان فقيها عالما حكيما. روي عن مسروق أنه قال: شافهت أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجدت علمهم إلى ستة:
عمر، وعلي، وعبد الله، ومعاذ، وأبي الدرداء، وزيد بن ثابت، وكان قاضيا
لمعاوية في خلافة عثمان. وقد روي أن عمر أمر أبا الدرداء على القضاء، وكان
القاضي يكون خليفة الأمير إذا غاب. فيحتمل أن يكون أخرجه من حمص إلى دمشق
واليا إلى القضاء بها، فكان أميرها إذا غاب وأراد بذلك تأديبه على ما بيناه
من قول مالك في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه. وقد مضى في رسم أخذ يشرب
خمرا القول في البنيان وما يجوز منه وما لا يجوز، وبالله التوفيق.
[إهلال عيسى ابن مريم عليه السلام بالحج]
في إهلال عيسى ابن مريم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالحج وقال مالك في تفسير
قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في عيسى ابن مريم حاجا أو معتمرا أو
ليتنهما قال يقرنهما أو عمرة بعد حجه مرة.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا الحديث في رسم مرض فلا معنى
لإعادته، وبالله التوفيق.
(18/28)
[حكم الشعر
والشعراء]
في الشعر والشعراء وسئل مالك عن إنشاد الشعر، قال: يخفف ولا يكثر، ومن عيبه
أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا
يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] . قال مالك: وقد بلغني أن عمر كتب إلى أبي موسى
الأشعري أن اجمع الشعراء واسألهم عن الشعر، وهل بقي معهم معرفته، وأحضر
لبيدا لذلك. قال فجمعهم فسألهم فقالوا: إنا لنعرفه ونقوله، وسأل لبيدا عنه
فقال: ما قلت بيت شعر منذ سمعت الله عز وجل يقول في كتابه العزيز: {الم}
[البقرة: 1] {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}
[البقرة: 2] .
قال محمد بن رشد: الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، والإكثار منه والاشتغال
به مذموم. وكفى من ذمه قول الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] أي الشياطين الذين يغوونهم ويزينون لهم
المكروه من القول، {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}
[الشعراء: 225] أي من القول يهيمون، {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا
يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] يمدحون ويذمون ويصفون ما تميل إليه أهواؤهم
فيغلون. وقد «قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثرثارين إنهم
أبغض الخلق إلى الله» لما في البلاغة والتفيهق من تصوير الباطل في صورة
الحق. ولهذا المعنى «قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذ مدح عمرو بن
الأهتم الزبرقان بن بدر ثم ذمه في مجلس واحد بكلام بليغ استمال به النفوس
وقال: أرضاني فقلت: أحسن ما علمت، وأسخطني فقلت: أسوأ ما علمت، ولقد
(18/29)
صدقت في الأولى وما كذبت في الثانية: إن من
البيان لسحرا» أي إن من بعض البيان لسحرا، فالحظ لمن كان من أهل الشعر وسهل
عليه القول أن يتركه ويشتغل بما سواه من ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن وما
يعنيه من أمر دينه ودنياه. فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وهذا الذي أراده عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الشعر، ولذلك كتب إلى أبي موسى الأشعري أن
يجمعهم ويسألهم عن الشعر ويحضر لبيدا لذلك ليسمعوا قوله له توبيخا لهم.
وكان لبيد بن ربيعة العامري الشاعر من فحول الشعراء شريفا في الجاهلية
والإسلام، ممن سلم فحسن إسلامه. وقيل إنه لم يقل منذ أسلم شعرا إلا قوله:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وقد قيل إن هذا البيت لغيره، وإن الذي قاله هو في الإسلام هو قوله:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه القرين الصالح
وقد قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
» وهو شعر حسن فيه ما يدل على أنه قاله في الإسلام، والله عز وجل أعلم،
وذلك قوله:
وكل امرئ يوما سيعلم سعيه ... إذا كشفت عند الإله المجاهل
وكان لبيد هذا من المعمرين، مات وهو ابن مائة وأربعين سنة، وقيل
(18/30)
ابن مائة وسبع وخمسين سنة في أول خلافه
معاوية، وبالله تعالى التوفيق لا شريك له.
[الدراهم لا تغير لما فيها من أسماء الله عز وجل]
في الدراهم لا تغير لما فيها من أسماء الله عز
وجل وسئل مالك عن تغيير الدراهم لما فيها من كتاب الله، قال مالك:
كان أول ما ضربت الدراهم على عهد عبد الملك بن مروان والناس متوافرون، فما
أنكر ذلك أحد، وما علمت أن رجلا من أهل الفقه أنكره ولا أرى به بأسا. قال
مالك: ولقد بلغني أن ابن سيرين كان يكره أن يبيع بها أو يشتري بها، وما ذلك
من شأن الناس وما أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: إنما لم ينكر سلف الإسلام الدنانير والدراهم المضروبة لما
فيها من أسماء الله عز وجل. وأجازوا البيع والشراء بها وإن كان ذلك يؤدي
إلى أن يمسها الطاهر والنجس واليهودي والنصراني، من أجل ما فيها من المنفعة
العامة لجميع المسلمين، لأنهم يميزون بالسكك طيب الذهب والفضة ويعرفون بها
مقدار فضل بعضها على بعض في الطيب، فتصح فيها البيوع فيما بينهم، لأن النقر
والاتبار من الذهب والفضة لا يميز الخالص منها من غير الخالص إلا الصيارفة
والخاص من الناس بعد الاختبار.
فلو قطعت السكك وحمل الناس على التبايع بأتبار الذهب والفضة لفسد كثير من
بيوعهم ووقع فيها فيما بينهم الغش والخديعة. ويكره للرجل في خاصة نفسه أن
يشتري بالدنانير والدراهم المضروبة شيئا من اليهود والنصارى لما فيها من
أسماء الله عز وجل، فقد كره ذلك مالك في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من
المدونة، وأعظم أن يعطاها نجسا. فمن امتنع من ذلك تعظيما لأسماء الله عز
وجل أجر، ومن فعله لم يأثم لما في ذلك من الحاجة. وقد
(18/31)
أجيز في موضع الضرورة أن يعطوا الآية
والآيتين من القرآن على باب الدعاء، كما كتب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} [آل عمران: 64] الآية
وبالله التوفيق.
[الاستعداد لخروج الدجال]
في الاستعداد لخروج الدجال قال مالك:
بلغني أن الناس كانوا يعدون الإبل والخيل لمكان الدجال يخرجون عليها.
قال القاضي: إنما كانوا يتأهبون لذلك لما جاء عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - مما يؤذن بقرب خروجه. من ذلك حديث أبي عبيدة بن الجراح خرجه
الترمذي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
«إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا وقد أنذر الدجال قومه وإني أنذركموه، ووصفه
لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لعله سيدركه بعض
من رآني وسمع كلامي. قالوا: يا رسول الله فكيف قلوبنا يومئذ، قال: مثلها،
يعني اليوم، أو خير» . ومن ذلك حديث النواس بن سمعان الكلابي خرجه الترمذي
أيضا وقال فيه حديث حسن صحيح غريب قال: «ذكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة
النخل، فانصرفنا من عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ثم رحنا إليه فعرف ذلك فينا فقال: ما شأنكم؟ قال: قلنا يا رسول الله ذكرت
الدجال الغداة فخفضت ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، قال غير الدجال أخوف
عليكم. إن يخرج عليكم وأنا فيكم فأنا
(18/32)
حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ
حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم. إنه شاب قطيط الشعر عينه قائمة شبيه
بعبد العزى بن قطن، فمن رآه منكم فليقرأ فواتح سورة الكهف. قال: يخرج ما
بين العراق والشام، فقال: قلنا يا رسول الله ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعين
يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا
رسول الله إن أتى اليوم الذي كالسنة أتكفينا فيه صلاة يوم، قال: لا ولكن
قدروا له. قال: قلنا يا رسول الله فما سرعته في الأرض؟ قال: كالغيث
استدبرته الريح، فيأتي القوم فيدعوهم فيكذبونه ويردون عليه قوله فينصرف
عنهم فتتبعه أموالهم فيصبحون ليس بأيديهم شيء، ثم يأتي القوم فيدعوهم
فيستجيبون له ويصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت
فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم كأطول ما كانت ذرى وأمده خواصر وأدره ضروعا.
قال ثم يأتي الخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فينصرف منها فتتبعه كنوزها
كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلا شابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين ثم يدعوه
فيقبل يتهلل وجهه ويضحك، فبينما هو كذلك إذ هبط عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- بشرقي دمشق عند المنارة البيضاء بين مهرودتين واضعا يده على أجنحة ملكين
إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمال كاللؤلؤ. قال: ولا يجد ريح
نفسه أحد إلا مات، وريح نفسه منتهى بصره. قال: فيطلبه حتى يدركه بباب لد
فيقتله. قال: فيلبث كذلك ما شاء الله. قال: ثم يوحي الله إليه أن أحرز
عبادي إلى الطور فإني قد أنزلت عبادا لا يدان لأحد بقتالهم. قال
(18/33)
ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم كما قال عز
وجل: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] ، قال: فيمر
أولهم ببحيرة طبرية فيشرب ما فيها، ثم يمر بها آخرهم فيقول: لقد كان بهذه
مرة ماء. [ثم يمرون حتى ينتهوا إلى جبل بيت المقدس فيقولون: لقد قتلنا من
في الأرض هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله
عليهم نشابهم محمرا] ، ويحاصر عيسى ابن مريم وأصحابه حتى يكون رأس الثور
يومئذ خيرا لأحدهم من مائة دينار لأحدكم اليوم. قال: فيرغب عيسى ابن مريم
وأصحابه إلى الله، قال: فيرسل الله إليهم النغف في رقابهم فيصبحون موتى
كموت نفس واحدة. قال: ويهبط عيسى ابن مريم وأصحابه فلا يجد موضع شبر إلا
وقد ملئت من جيفهم ونتنهم ودمائهم. قال: فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز
وجل فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت، قال: فتحملهم فتطرحهم بالنيل، قال:
[ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجفانهم سبع سنين] . قال: ويرسل الله
عليهم مطرا لا يكن منه بيت وبر ولا مدر، قال فيغسل الأرض قال: فيتركها
كالزلفة قال: ثم يقال للأرض أخرجي ثمرتك ودري بركتك، فيومئذ يأكل العصابة
الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل حتى إن الفئام من الناس ليكتفون
باللقحة من الإبل وإن القبيلة
(18/34)
ليكتفون باللقحة من البقر، وإن الفخذ
ليكتفون باللقحة من الغنم. فبيناهم كذلك إذ بعث الله ريحا فقبضت روح كل
مؤمن ويبقى سائر الناس يتهارجون كما تتهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة.»
وبالله التوفيق.
[ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم من الاجتهاد في العبادة]
فيما كان عليه أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
الاجتهاد في العبادة قال: وسمعت مالكا يقول: لما دخل أصحاب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب
فقال: ما كان أصحاب عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الذين قطعوا بالمناشر
وصلبوا على الخشب بأشد اجتهادا من هؤلاء.
قال محمد بن رشد: قد وصفهم الله عز وجل في كتابه بما يشهد لهم بصحة قول هذا
الرجل فيهم، وذلك قوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ
رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا
سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح: 29] إلى قوله {أَجْرًا
عَظِيمًا} [النساء: 40] وكان من شأن أصحاب عيسى ابن مريم الحواريين فيما
ذكر أن اليهود لما ظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ابن مريم إذ تآمروا على قتله
فألقى الله عز وجل شبهه على رجل من أصحابه فقتلوه وصلبوه، ورفع الله عز وجل
عيسى إليه، أقبلوا على أصحابه الحواريين يقتلونهم ويعذبونهم بأنواع ليرعوهم
عن الإيمان. وبالله التوفيق.
(18/35)
[حكم الأجراس
في أعناق الإبل والحمير]
في الأجراس في أعناق الإبل والحمير وسئل مالك عن الأجراس تعلق في أعناق
الإبل والحمير فكره ذلك، فقيل له فالقلائد؟ فقال: ما سمعت بكراهيته إلا في
الوتر. قال ابن القاسم: لا بأس به في غير الوتر.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في أول رسم حلف فلا معنى لإعادته،
وبالله التوفيق.
[الاعتبار بطلوع الشمس وغروبها]
في الاعتبار بطلوع الشمس وغروبها وسمعت
مالكا يقول: كان بنجران رجل يصيح كل يوم:
قطع البقاء مطالع الشمس ... وطلوعها من حيث لم تُمسِ
وغروبها حمراء قانية ... وطلوعها صفراء كالورس
فاليوم أعلم ما يجيء به غد ... ومضى بفعل قضائه أمس
قال محمد بن رشد: قوله، والله أعلم، ما يجيء به غد، معناه الإنكار والتقرير
على ذلك، إذ لا يمكن أن يقول ذلك أحد ولا يدعيه، وبالله التوفيق.
[نزول عيسى ابن مريم]
في نزول عيسى ابن مريم قال: وسمعت مالكا
يذكر: بينما الناس ببلد إذ يسمعون الإقامة يريدون الصلاة فتغشاهم غمامة
فإذا عيسى ابن مريم قد نزل.
قال محمد بن رشد: قد أعلم الله عز وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه أن عيسى ابن مريم ما قتل ولا صلب، وأن الله
(18/36)
عز وجل رفعه إليه. «وأخبر النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - إخبارا وقع العلم به أنه ينزل في آخر الزمان حكما عدلا فيكسر
الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» . وفي بعض الآثار:
«فيهلك الله في أيامه الملل كلها فلا يبقى إلا الإسلام وتقع الأمنة في
الأرض حتى ترتع الأسد مع الإبل والنمور مع البقر والذياب مع الغنم والغلمان
مع الحيات فلا يضر بعضهم بعضا» .
[صفة الأمر بالمعروف]
في صفة الأمر بالمعروف وسمعت مالكا
يقول: كان سعيد بن جبير يقول: إن لم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر حتى
لا يكون فيه شيء لم يأمر أحد إذا بشيء.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين أنه لا يسلم أحد من مواقعة الذنوب
والخطايا، فقد ذكر الخضر لموسى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: واستكثر من
الحسنات فإنك مصيب السيئات، واعمل خيرا فإنك لا بد عامل شرا، وهو نبي مرسل،
فكيف بمن دونه من الناس، فليس من شرط الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن
يكون معصوما.
وشرائط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ثلاثة: أحدها: أن يكون عارفا
بالمعروف والمنكر، لأنه إذا لم يكن عارفا لم يأمن أن يأمر بمنكر وينهى عن
معروف، الثاني: أن يأمن أن يؤدي إنكاره إلى منكر أعظم منه، مثل أن ينهى عن
شرب خمر فيؤدي ذلك إلى قتل نفس؛ والثالث: أن يعلم أو يغلب على ظنه أن
إنكاره المنكر مزيل له، وأن أمره بالمعروف مؤثر ونافع، فإن لم يعلم ذلك ولا
غلب على ظنه لم يلزمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالشرطان الأولان
شرطان في الجواز، وهذا الشرط الثالث شرط في الوجوب.
(18/37)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على
الأعيان بالشرائط المذكورة، قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] وقال عز وجل:
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:
41] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي نفس
محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي السفيه
ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليصرفن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعن
بني إسرائيل» . كان إذا عمل العامل منهم بالخطيئة نهاه الناهي تعزيرا فإذا
كان من الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس فلما رأى
الله عز وجل ذلك منهم صرف قلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لساني نبييهم
داوود وعيسى ابن مريم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -. {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا
وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] وبالله التوفيق.
[الدعاء بالموت]
في الدعاء بالموت وسئل مالك عن الذي
يدعو بالموت فقال: ما أحب ذلك.
وقال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ
فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]
(18/38)
قال ولعله يكون على حالة يرجوها أو يكره
مصيبة فما أحب ذلك له.
قال محمد بن رشد: روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لا
يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وليقل اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي
وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» فلا ينبغي لأحد أن يتمنى الموت لضر نزل
به. وأما إن كان على حال يرجوها وخاف الفتنة على نفسه في الدين فالدعاء
بالموت مخافة الفتنة في الدين جائز، قد قال عمر بن الخطاب بالأبطح حين صدر
من منى: اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مفرط
ولا مضيع. ودعا عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على نفسه
بالموت مخافة التضييع فيما يلزمه القيام به من أمور المسلمين ورغبة فيما
عند الله عز وجل وحبا في لقائه، على ما مضى في رسم البر. ولم يحب مالك في
هذه الرواية للرجل أن يفعل ذلك. ووجه قوله ما يرجوه مع طول الحياة من أعمال
البر لا سيما الصلاة، فقد «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في الأخوين اللذين توفي أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة فذكرت
فضيلة الأول عنده فقال: ألم يكن الآخر مسلما؟ قالوا: بلى يا رسول الله وكان
لا بأس به، فقال: وما يدريكم ما بلغت به صلاته، وإنما مثل الصلاة كمثل نهر
عذب غمر يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون يبقي ذلك من درنه فإنكم لا
تدرون ما بلغت به صلاته» . ومن الحظ للرجل أن يدعو إذا خاف التقصير في
العمل أن يجعل مكان دعائه لنفسه بالموت أن يطول الله عز وجل عمره ويحسن
عمله، لأن الخير كان للإنسان في أن لا يخلق، فإذا خلق أن
(18/39)
يتوفى صغيرا، فإذا لم يتوف صغيرا فأن يطول
عمره ويحسن عمله. وهذا مذكور في مناجاة موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،
وبالله التوفيق.
[رد حكيم بن حزام العطاء]
في رد حكيم بن حزام العطاء قال مالك:
«إن حكيم بن حزام سأل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأعطاه، ثم سأله
فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إن خيرا
لك ألا تأخذ من أحد شيئا، قال: ولا منك يا رسول الله قال: ولا مني» . قال:
فكان عمر بن الخطاب يعطيه عطاء فيأبى أن يقبله، فكان عمر يشهد عليه، فكان
حكيم بن حزام يقول: قد رددته على من هو خير منك. قال مالك: إنه إنما كان
نهي عمر بن الخطاب حكيم ابن حزام أن لا يبيع حتى يستوفيه إنما هو في
الطعام.
قال محمد بن رشد: إنما رد حكيم بن حزام عطاءه على عمر لقول النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن خيرا لأحدكم أن لا يأخذ من أحد شيئا قال: ولا
منك يا رسول الله قال: ولا مني» . والمعنى في ذلك وإن كان جائزا أخذه لأنه
حقه من بيت المال، فإذا تركه ولم يأخذه من الإمام العادل فقد آثر به على
نفسه سواه ممن يعطاه. ويكره للرجل أن يأخذ من أحد شيئا وإن كان من غير
مسألة، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اليد العليا خير من اليد
السفلى» . وقول مالك إن نهي عمر بن الخطاب لحكيم بن حزام أن لا يبيع ما
ابتاعه حتى يستوفيه إنما هو في الطعام، هو نص الحديث في الموطأ أن حكيم بن
حزام
(18/40)
ابتاع طعاما أمر به عمر بن الخطاب للناس
فباع حكيم ابن حزام الطعام قبل أن يستوفيه فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فرده
عليه وقال: لا تبع طعاما ابتعته حتى تستوفيه. وهو مذهب مالك أن ما عدا
الطعام من المكيل والموزون يجوز بيعه قبل استيفائه. وما جاء عن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - من «نهيه عن ربح ما لم يضمن» معناه عنده في الطعام.
وقد مضى الوجه في ذلك في غير ما موضع من الديوان، وبالله التوفيق.
[تفسير قوله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء]
في تفسير قَوْله تَعَالَى يؤتي الحكمة من يشاء قال مالك في تفسير: {يُؤْتِي
الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] قال التفكر في أمر الله والاتباع
له.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في أول رسم البر فلا معنى لإعادته،
وبالله التوفيق.
[رجوع الرجل على صدور قدميه في الصلاة]
في رجوع الرجل على صدور قدميه في الصلاة
قال مالك: ما رأيت أحدا ممن كنت أقتدي به يرجع على صدور قدميه في الصلاة.
قال محمد بن رشد: معناه فيما بين السجدتين، وهو كما قال لأن سنة الصلاة أن
يكون جلوسه بين السجدتين كهيئة جلوسه في
(18/41)
التشهد. وقد رأى المغيرة بن حكيم عبد الله
بن عمر يرجع في سجدتين في الصلاة على صدور قدميه، فلما انصرف ذكر ذلك له
فقال: إنها ليست سنة الصلاة وإنما أفعل ذلك من أجل أني أشتكي. وقال في حديث
آخر إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى والسنة إذا
أطلقت فهي سنة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى تضاف إلى غيره كما قيل
قبل سنة العمرين.
والرجوع على العقبين بين السجدتين هو الإقعاء المنهي عنه عند أهل الحديث.
وعند أهل اللغة جلوس الرجل على أليته ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع.
وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[ما كان عليه أصحاب رسول الله عليه السلام من
شظف العيش]
فيما كان عليه أصحاب رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من شظف العيش قال
مالك: بلغني أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «إن كنا لنقيم شهرا
وما نوقد نارا، فقيل لها فما كنتم تعيشون به قالت: التمر، وكان جيران لنا
من الأنصار لهم الغنم فكانوا يبعثون إلينا بالقدح والقدحين» .
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى والقول فيما يتعلق بذلك في بيان
الأفضل، من الفقر أو الغنى في رسم نذر سنة.
(18/42)
[من يعد في جملة الملوك]
فيمن يعد في جملة الملوك وحدثني مالك عن
عبد ربه بن سعيد أنه قال: يقال من كان له بيت يأوي إليه وخادم تخدمه وزوجة
فهو من الملوك الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا
وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20] .
قال محمد بن رشد: هذا صحيح في المعنى، لأن هذا هو الذي يحتاج إليه في
الدنيا، وما زاد عليه فهو في غنى عنه. وذلك مروي عن ابن عباس في تفسير
الآية قال: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20] الزوجة والخادم والبيت.
وقال الحسن: الرجل ملك في بيته لا يدخل عليه إلا بإذن، فمن له مسكن وزوجة
وخادم وما يقوم به في الإنفاق على نفسه وزوجه وخادمه فهو من الملوك، إذ لا
حد لما زاد على ذلك. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه له قوت يومه فكأنما حيزت
له الدنيا بحذافيرها» . فكيف لمن له مسكن وزوجة وخادم.
[التفاضل بين الأنبياء]
في أن بعض الأنبياء أفضل من بعض قال مالك: إن موسى قال يا رب ما لإبراهيم
وإسحاق ويعقوب لا تذكر إلا ذكروا ولا يذكرون إلا ذكرت ولا أذكر كما يذكرون؟
قال إن إبراهيم ما عدل بي شيئا قط إلا اختارني، وإن
(18/43)
إسحاق جاد لي بنفسه فهو بما وراءها أجود،
وإن يعقوب لم أبتله ببلاء إلا ازداد حسن ظن بي.
قال القاضي: في هذه الحكاية في سماع أشهب بعد هذا: قيل لمالك وما معنى قوله
إذا ذكرت ذكروا فإن ذكروا ذكرت، قال: إذا ذكر الصالحون إنما يذكرون بذكر
الله عز وجل وبطاعتهم له. ومعنى هذا الذكر الذي أراد في الملأ الأعلى عند
الملائكة والله أعلم. وفيه أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، قال الله عز وجل:
{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] .
وفي قوله إن إسحاق جاد لي بنفسه يدل على أنه هو الذبيح لا إسماعيل. وقد
اختلف في ذلك حسبما يأتي القول به بعد هذا في هذا الرسم إن شاء الله، وبه
التوفيق.
[مس المرأة فرجها]
في مس المرأة فرجها وسئل مالك عن مس
المرأة فرجها، أترى عليها فيه وضوءا إذا مسته؟ فقال: ما سمعت فيه بوضوء.
فقيل له: فالرفغين والشرج والعانة؟ قال ما سمعت فيه بوضوء، وإنما سمعت في
الذكر، وإني لأكره لمثل هذا أن يمس على وجه التقذر. وقد كان بعض الملوك
وأصاب الناس الطاعون فطعنت امرأة من أهل بيته، فقال: أين طعنت؟ فقال رجل
تحت إبطها، فدخل عليه عمر بن عبد العزيز فسأله أين طعنت؟ فقال: تحت يدها
كراهة أن يذكر إبطها، وكان يجتنب ما يكره من الكلام ويتبع حسن الكلام كأنه
رأى الفرج والعانة والشرج والتنكب عنها من هذه الناحية.
(18/44)
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في مس
المرأة فرجها، فروي عنه في ذلك أربع روايات: سقوط الوضوء، واستحبابه،
وإيجابه، والرابعة الفرق بين أن تلطف أو لا تلطف، وهي رواية ابن أبي أويس
عنه.
والاستحباب راجع إلى سقوط الوضوء، فهي ثلاثة أقوال: سقوط الوضوء، ووجوبه،
والفرق بين الإلطاف وغيره. وقد تأول أن رواية ابن أبي أويس مفسرة للقولين،
وأنه ليس في المسألة إلا قول واحد وهو الفرق بين أن تلطف أو لا تلطف. وكذلك
اختلف قول مالك في إيجاب الوضوء من مس الذكر، فروي عنه إيجابه، وسقوطه،
واستحبابه، والفرق بين أن يكون ناسيا أو متعمدا. وقد ذكرنا الاختلاف في هذا
محصلا مبينا في غير هذا الكتاب. ولا اختلاف في أن الوضوء لا يجب من مس شرج
ولا رفغ ولا عانة، وإن كان يكره ذلك للتقذر، والشافعي يوجب الوضوء من مس
الدبر تعلقا بظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من مس فرجه فقد وجب
عليه الوضوء» ، وبالله التوفيق.
[يسمع كلام الإمام في الخطبة وهو في الطريق]
في الذي يسمع كلام الإمام في الخطبة وهو في
الطريق قال مالك: بلغني «أن عبد الله بن رواحة أقبل إلى المسجد يوم
الجمعة، فسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول وهو
على المنبر للناس: اجلسوا قال: فسمعه عبد الله بن رواحة وهو في الطريق فجلس
مكانه في الطريق لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
اجلسوا» .
قال القاضي: في هذا دليل على أنه يستحب لمن أتى الجمعة أن
(18/45)
يترك الكلام في طريقه إذا علم أن الإمام في
الخطبة وكان بموضع يمكن أن يسمع منه كلام الإمام؛ وقد قيل إن الإنصات لا
يجب عليه حتى يدخل المسجد، وهو قول ابن الماجشون ومطرف؛ وقد قيل إنه يجب
عليه منذ يدخل رحاب المسجد التي تصلى فيها الجمعة من ضيق المسجد، وبالله
التوفيق.
[وصف بعض شجرة الجنة]
في وصف بعض شجرة الجنة قال مالك: بلغني
أن في الجنة شجرة يسير الراكب تحتها مائة عام.
قال محمد بن رشد: ليس في هذا إلا الإعلام بعظيم قدرة الله تعالى وما أعده
لأوليائه في دار كرامته. وقد جاء «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه
قال حاكيا عن ربه: أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على
قلب بشر» وبالله التوفيق.
[فضل صدقة المقل]
في فضل صدقة المقل قال: وحدثني مالك أن
أبا هريرة كان يقول: سبق صاحب الدرهم صاحب مائة ألف درهم، فقيل لأبي هريرة
لم ذلك؟ قال: يكون له مائة ألف درهم لا يتصدق منها ولا يكون لهذا إلا درهم
واحد فيتصدق به.
(18/46)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لأن
صاحب مائة ألف درهم إذا لم يتصدق منها إلا بما وجب عليه فيه من الزكاة فقد
سبقه في الأجر صاحب الدرهم إذا تصدق بدرهمه كله. ولو تصدق صاحب الألف درهم
بدرهم سوى الزكاة لكان صاحب الدرهم قد سبقه لتصدقه بدرهمه الذي لا مال له
سواه، بدليل ثناء الله عز وجل على من جاد بما عنده من اليسير فقال عز وجل:
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . ولو
لم يتصدق صاحب الدرهم بشيء من درهمه لكان صاحب المائة الألف الدرهم قد سبقه
في الأجر بتأدية زكاة ماله. وهذا يدل على فضل الغنى على الفقر، وقد مضى
القول في هذا في رسم نذر سنة، وبالله التوفيق.
[تقديم الخطبة في العيد قبل الصلاة]
في تقديم مروان الخطبة في العيد قبل الصلاة قال مالك: خرج مروان يوم العيد
إلى المصلى ومعه أبو سعيد الخدري فلما أتيا المصلى مضى مروان ليصعد المنبر،
قال: فأمسك أبو سعيد بثوبه وقال الصلاة، فاجتبذ مروان منه جبذة شديدة حتى
نزع ثوبه من يده فقال: قد ترك ما هنالك يا أبا سعيد، فقال أبو سعيد: أما
ورب المشارق لا تأتون بخير منها.
قال القاضي: أول من قدم الخطبة على الصلاة في العيد معاوية، وقيل عثمان أول
من فعل ذلك، كان لا يدرك عامتهم الصلاة، فبدأ بالخطبة حتى يجتمع الناس.
وروى ابن نافع عن مالك ما يدل على ذلك قال: السنة أن تقدم الصلاة قبل
الخطبة، وبذلك عمل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو
(18/47)
بكر وعمر وعثمان صدرا من ولايته. ومن قال:
أول من قدم الخطبة على الصلاة في العيد مروان فإنما أراد بالمدينة لأنه كان
أميرا عليها لمعاوية، ويدل على ذلك قوله لأبي سعيد الخدري قد ترك ما هنالك.
قال ابن حبيب في الواضحة: وأول من أحدث الأذان والإقامة في العيدين هشام بن
عبد الملك، أراد أن يؤذن الناس بالأذان لمجيء الإمام، ثم بدأ بالخطبة قبل
الصلاة كما بدأ بها مروان، ثم أمر بالإقامة بعد فراغه من الخطبة ليؤذن
الناس بها بفراغه من الخطبة ودخوله في الصلاة، وذلك حين كثر الناس فكان
يخفى عليهم مجيء إمامهم وفراغه من الخطبة ودخوله في الصلاة لبعدهم عنه. قال
ولم يرد مروان وهشام إلا اجتهادا فيما رأيا، إلا أنه لا يجوز اجتهاد في
خلاف سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبالله
التوفيق.
[الإتمام بمنى]
في الإتمام بمنى قال مالك: حج معاوية بن
أبي سفيان فصلى بمنى ركعتين فكلمه مروان في ذلك وقال له: أنت القائم بأمر
عثمان تصلي ركعتين وقد كان عثمان صلى أربعا، فقال ويلك أنا صليتها مع رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، فلم يزل به مروان حتى
صلى أربعا.
قال القاضي: أما إتمام عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمنى فقد روي «أن
الناس لما أنكروا عليه الإتمام قال لهم: إني تأهلت بمكة وقد سمعت رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: من تأهل في بلدة فهو من
أهلها» . ولعله تأول أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لم يقصر بمنى إلا من أجل
(18/48)
أن إقامته بمكة لم تكن إقامة تخرجه عن سفره
ولذلك قصر بها. وأما معاوية بن أبي سفيان فالوجه فيما ذكر عنه في هذه
الرواية، والله أعلم، أنه كان مقيما بمكة فقصر بمنى لأنه تأول أن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بها وقد كان مقيما بمكة، فلم
يزل به مروان حتى صرفه عن تأويله على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه كان مقيما بمكة إلى أنه إنما قصر - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه لم يكن مقيما بمكة إقامة تخرجه عن سفره.
فالاختلاف هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقيما
بمكة قبل خروجه من مكة إلى منى أو غير مقيم هو أصل الاختلاف في هذه
المسألة، فذهب مالك إلى أنه قصر بمنى وقد كان مقيما بمكة، وذهب أهل العراق
إلى أنه إنما قصر بمنى من أجل أنه لم يكن مقيما بمكة. والصحيح ما ذهب إليه
مالك لأنه قدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صبيحة رابعة من ذي
الحجة، فأقام بمكة إلى يوم التروية وذلك أربع ليال، ثم خرج فقصر بها. وقد
مضى هذا المعنى في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله
التوفيق.
[مسح الوجه باليدين في الدعاء]
في مسح الوجه باليدين في الدعاء وسئل
مالك عن الرجل يمسح بكفيه وجهه عند الدعاء وقد بسطها قبل ذلك، فأنكر ذلك
وقال: ما أعلمه.
قال محمد بن رشد: إنما أنكر ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه رآها بدعة،
إذ لم يأت بذلك أثر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولا مدخل فيه للرأي،
وإنما أخذ ذلك من فعله والله أعلم للحديث الذي جاء «عن عثمان بن أبي العاص
أنه قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبي وجع قد
كاد يهلكني فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
امسحه بيمينك سبع مرات وقل أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد. قال ففعلت ذلك
فأذهب الله عز وجل
(18/49)
عني ما كان بي فلم أزل آمر بها أهلي
وغيرهم؟» ولحديث عائشة «أن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث. قالت: فلما اشتد وجعه كنت أقرأ
عليه وأمسح بيمينه رجاء بركتها» .
[الانتعال قائما]
في الانتعال قائما وسئل مالك عن
الانتعال قائما فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إذ لا وجه لكراهة ذلك إلا ما يخشى على
فاعله من السقوط إذا قام على رجله الواحدة ما دام ينتعل الثانية، فإذا أمن
من ذلك وقدر عليه جاز له أن يفعله ولم يكن عليه فيه بأس، وإن خشي أن يضعف
عن ذلك كره له أن يفعله، لما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من
رواية أبي الزبير عن جابر بن عبد الله «أنه نهى أن ينتعل الرجل قائما» وهو
نهي أدب وإرشاد لهذه العلة، والله أعلم وبه التوفيق.
[أهل الجيش أحق بغنيمتهم]
في أن أهل الجيش أحق بغنيمتهم قال مالك:
إن عمر بن الخطاب أتاه سفطا حلي من فارس فأراد أن يقسمه هاهنا في المدينة،
فرأى في منامه أن الملائكة تدفع في صدره عنها، فلما استيقظ قال: ما أرى هذا
يصلح أن أقسمه هاهنا، فبعث به إلى الجيش الذين افتتحوا ذلك الموضع أن يباع
ثم يقسم
(18/50)
بينهم، وأمرهم ألا ينقصوا من أعطية أهل
الكوفة أعطياتهم وأعطيات عمالهم، فاشتراها ابن حريث بذلك كله، فبلغني أنه
باع أحدهما بما اشتراهما به وربح الآخر.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لأن الله عز وجل لما قال:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] دل على أن الأربعة الأخماس الباقية للغانمين،
فعصم الله عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الخطأ بما أراه الله
في منامه مما نبهه على النظر الذي رأى به أن أهل الجيش أحق بأن يقسم بينهم
بالسهمان (كذا) يريد بعدما أخرج الخمس منهما ورأى ذلك زيادة لهم على
أعطياتهم فأمر أن لا ينقصوا منها شيئا بسببها لأنها غنيمتهم، وبالله
التوفيق.
[تسارع الناس إلى ما نهوا عنه]
في تسارع الناس إلى ما نهوا عنه قال
مالك: قالت عائشة لو نهي الناس عن جاحم الجمر لقال قائل: لو ذقته.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن الناس إذا نهوا عن شيء أتاهم الشيطان
فوسوس إليهم في ذلك وزين لهم فعل ما نهوا عنه حتى يوقعهم في الإثم والحرج،
كما فعل بأبويهم آدم وحواء إذ قال لهما ربهما: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19] ، أي لا
يفتنكما، فوسوس لهما الشيطان وقال لهما:
(18/51)
{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ
الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ
الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20] أي إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين،
فإن أكلتما منها كنتما ملكين من الملائكة وكنتما من الخالدين ولم تموتا
أبدا، وحلف لهما أنه ناصح لهما {فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا
الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ
عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ
أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ
الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22] {قَالا رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . وبالله التوفيق.
[تبدية الرجل أخاه على نفسه في الكتاب إليه وهو أصغر منه]
في تبدية الرجل أخاه على نفسه في الكتاب إليه
وهو أصغر منه وسئل مالك عن الرجل يبدأ باسم أخيه قبل اسمه وهو أصغر
منه، قال: نعم إذا كان أهلا لذلك. فقيل له: إن قوما يذكرون أن فيه حديثا أن
الرجل يبتدئ باسمه قبل اسم أخيه، قال: لا شك أن هذا من الشيطان، وقال إذا
كتب الرجل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فيكتب إلى أبي فلان أو
لفلان، وقال ذلك واسع.
قال محمد بن رشد: أنكر مالك الحديث الذي ذكره أنه جاء في أن يبدأ الرجل إذا
كتب إلى أخيه باسمه قبل اسم أخيه، ورأى أن التزام ذلك على كل حال كان أخوه
أصغر منه أو أكبر من الشيطان. والاختيار عنده إذا كتب إلى أخيه وهو أصغر
منه أن يبدأ بنفسه فيقول في الكتاب إليه: من فلان إلى فلان، لقول النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كبر كبر» فإذا بدأ به بدأه على نفسه لكونه أهلا
(18/52)
لذلك لدينه وفضله لا لغرض من أغراض الدنيا
فلا بأس بذلك، لأن الرجلين إذا كان أحدهما أسن والآخر أفضل فالأفضل أحق
بالتقديم من الأسن. وإنما يجب تقديم الأسن إذا استويا في الفضل، لأن زيادة
السن زيادة في الفضل.
فإن كتب الرجل إلى من هو دونه في السن والفضل فبدأه في الكتاب على نفسه
تواضعا لله ومخافة أن يكون عند الله أفضل منه فقد أحسن. وأما إذا كتب إلى
رجلين وأحدهما أفضل وأسن فواجب عليه أن يقدم منهما الذي هو أفضل وأسن، فإن
استويا في السن قدم الأفضل، فإن استويا في الفضل قدم الأسن، وإن كان أحدهما
أفضل والآخر أسن قدم الأفضل، وبالله التوفيق.
[اشتراط ما في بطن الفرس العقوق إذا حبس في السبيل]
في اشتراط ما في بطن الفرس العقوق إذا حبس في
السبيل وقد كره مالك أن يحمل على الفرس العقوق في سبيل الله عز وجل
ويشترط ما في بطنها.
قال محمد بن رشد: إنما كره ذلك لأنه قد أبقى لنفسه منفعة فيما سبله في
السبيل وهو إرضاعها ما في بطنها إذا أنتجته حتى يستغني عنها، فإن وقع ذلك
نفذ ومضى وكان له شرطه، ونقص بذلك حظه من الأجر، إلا أن يكون كان حمل عليه
في السبيل رجلا بعينه على القول بأن المحمول عليه يستحقه ملكا بالغزو عليه،
فيكون الحكم في ذلك حكم مسألة الفرس الواقعة في كتاب الهبة والصدقة من
المدونة في باب الرجل يهب النخل للرجل ويشترط تمرها لنفسه سنين على أحد
التأويلين فيها، وبالله التوفيق.
(18/53)
[إنزاء الحمر على الخيل]
في إنزاء الحمر على الخيل وسئل مالك هل
ينزى على الفرس العربية الحمار؟ قال: نعم لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية علي بن
أبي طالب أنه قال: «نهى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن تحمل الحمر على
البراذين» وهو نهي أدب وإرشاد، بدليل ما روي «عن ابن عباس أنه قال: ما
اختصنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشيء دون الناس
إلا بثلاث: إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي الحمر على
الخيل» . وروي «عن علي بن أبي طالب أنه قال: أهدي إلى النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - بغلة فركبها فقلت: لو حملنا الحمر على الخيل كان لنا مثل هذا
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنما يفعل ذلك
الذين لا يعلمون» ومعناه الذين لا يعلمون قدر الثواب في ارتباط الخيل في
سبيل الله فيزهدون في ذلك، فكان فيما اختص به بني هاشم من ذلك زيادة في
الترغيب لهم على سائر الناس، لأن الخيل كانت فيهم قليلة على ما روي، فأحب -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تكثر عندهم. فقول مالك في هذه
الرواية لا بأس بذلك معناه لا إثم فيه ولا حرج، وتركه مرغب مندوب إليه، لما
في ارتباط الخيل من الأجر، وبالله التوفيق.
[الرهبان في أرض العدو]
في الرهبان في أرض العدو وسئل مالك عن
الرهبان في أرض العدو، قال: أرى أن لا يهاجوا وأن يتركوا.
(18/54)
قال محمد بن رشد: لا اختلاف أحفظه في مذهب
مالك أن الرهبان لا يقتلون ولا يسبون ولا تضرب عليهم الجزية إذا كانوا
معتزلين لأهل دينهم في ديارات أو صوامع، لما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل الرهبان وعن قتل أصحاب الصوامع» .
وإنما اختلف في النساء الرواهب هل يسبين أم لا، فقيل: إنهن تبع لرجالهن في
أنهن لا يسبين، وقيل: إنهن يسبين وهو قول سحنون. وقد مضى القول على هذا في
أول سماع أشهب من كتاب الجهاد. واختلف أيضا في أموال الرهبان هل يترك لهم
أم لا. وقد مضى القول على هذا في رسم التمرة من هذا السماع من كتاب الجهاد،
وبالله التوفيق.
[الذبيح من هو من ابني إبراهيم عليه السلام]
في الذبيح من هو من ابني إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وسئل مالك عن
الذي فدي من الذبح، قال إسحاق.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في الغلام الذي أمر إبراهيم - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - بذبحه، فقال قوم: هو إسحاق، وقال آخرون: هو إسماعيل. فأما من
قال إنه إسحاق فعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وكعب الأحبار، وجماعة
من التابعين. وأما من قال إنه إسماعيل فعبد الله بن عمر، ومحمد بن كعب،
وسعيد بن المسيب، وجماعة من التابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ -. قال الفضل: الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل، وذلك
أن الله عز وجل قص قصة الذبيح، فلما قال في آخر القصة {وَفَدَيْنَاهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ثم قال: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
[الصافات: 109] {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 110] {إِنَّهُ
مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 111] قال: {وَبَشَّرْنَاهُ
بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] {وَبَارَكْنَا
عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113] ، أي على إسماعيل وعلى إسحاق،
كنى عنه لأنه قد تقدم
(18/55)
ذكره، ثم قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا}
[الصافات: 113] فدل على أنهما ذرية إسماعيل وإسحاق. وليس يختلف الرواة أن
إسماعيل كان أكبر من إسحاق - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بثلاث عشرة سنة.
وأيضا فقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أن أعرابيا قال له: يا
ابن الذبيحين» يعني إسماعيل وأباه عبد الله، لأن عبد المطلب كان نذر إن بلغ
ولده عشرة أن ينحر منهم واحدا، فلما كملوا عشرة أتى بهم البيت وضرب عليهم
بالقداح على أن يذبح من قد خرج قدحه، وكتب اسم كل واحد على قدح، فخرج قدح
عبد الله، ففداه بعشرة من الإبل، ثم ضرب عليه وعلى الإبل فخرج قدحه، ففداه
بعشرة إلى أن تمت مائة، فخرج القدح على الجزور فنحرها وسن الدية مائة. ومن
الحجة لهذا القول أن الله عز وجل قال حين فرغ من قصة المذبوح من ابني
إبراهيم: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}
[الصافات: 112] ، يقول: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ
إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] يقول بابن وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبحه
وله من الله عز وجل هذا الوعد. وقال أبو جعفر الطبري: الذي يدل عليه ظاهر
التنزيل قول من قال هو إسحاق، لأن الله عز وجل قال: {وَفَدَيْنَاهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] فذكر أنه فدى الغلام الحليم الذي بشر به
إبراهيم حين سأله أن يهب له ولدا صالحا بقوله: {هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] ، فإذا كان المفدى بالذبح من ابنيه هو
المبشر به وكان الله تعالى قد بين في كتابه أن الذي بشر به هو إسحاق ومن
وراء إسحاق يعقوب، وكان كل موضع من القرآن يبشره إياه بولد فإنما هو يعني
به إسحاق، كان بينا أن يبشر إياه بقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ}
[الصافات: 101] في هذا الموضع نحو سائر أخباره في غيره من آيات القرآن.
قال: وأما الذي اعتل به من اعتل في أنه إسماعيل فإن الله عز وجل قد كان وعد
إبراهيم بأن يكون له من إسحاق ابن ابن، فلم يكن جائزا أن يأمره بذبحه مع
الوعد الذي تقدم،
(18/56)
فإن الله تعالى ذكره إنما أمره بذبحه بعد
أن بلغ معه السعي، وتلك حال غير نكير أن يكون قد كان ولد لإسحاق فيها أولاد
فكيف الواحد. فمن ذهب إلى أن الذبيح إسحاق قال: كانت فيه أخبار لأن الأول
قوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] ، ولما استسلم
الذبيح واستسلم إبراهيم لذبحه قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا
مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] .
قال محمد بن رشد: وقول أبي جعفر الطبري: إن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- لم يسأل ربه أن يهب له من الصالحين إلا وهو لا ولد له، إذ لم يكن له من
الصالحين. فعلى ما ذهب إليه إسحاق أكبر من إسماعيل، خلاف ما قاله الفضل من
أن الرواة لم يختلفوا في أن إسماعيل أكبر من إسحاق. والذي ذهب إليه الفضل
من أنه إسماعيل هو الأظهر، وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا. والله أعلم.
[الحصا يخرج بها الرجل من المسجد]
في الحصا يخرج بها الرجل من المسجد وسئل
مالك عن الرجل يخرج من المسجد بحصاة، أترى أن يطرحها؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لأن الحصاة الواحدة لا يضر المسجد
إخراجها منه ولا ينفعه ردها فيه، فلا بأس أن يطرحها ولا يردها، وبالله
التوفيق.
[البيتوتة في المسجد]
في البيتوتة في المسجد وسئل مالك عن
البيتوتة في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قال لا بأس بذلك.
(18/57)
قال محمد بن رشد: معناه فيمن لم يكن له
منزل يبيت فيه، وأما من له منزل فيكره له المبيت فيه. وكذلك قال مالك في
هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وهذا المعنى متكرر في مواضع من
كتاب الصلاة، ومضى الكلام عليه في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم منه،
وبالله التوفيق.
[تفسير قوله عز وجل وجعلنا لهم لسان صدق عليا]
في تفسير قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}
[مريم: 50] وسئل مالك عن تفسير قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ
صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50] ، قال: كقوله للعبد الصالح النبي:
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] .
قال محمد بن رشد: قوله {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}
[مريم: 50] يريد إبراهيم وإسحاق ويعقوب. قال الله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ
وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ} [مريم: 49] ، يقول الله عز وجل فلما اعتزل إبراهيم - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قومه وعبادة ما كانوا يعبدون من دون الله من
الأوثان أنسنا وحشته من فراقهم وأبدلناه منهم من هو خير منهم وأكرم علينا
منهم، فوهبنا له ابنه إسحاق وابن ابنه يعقوب بن إسحاق - صلى الله عليهم
وسلم - {وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 49] يقول وجعلنا إبراهيم وإسحاق
ويعقوب أنبياء، {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} [مريم: 50] أي
ورزقنا إبراهيم وإسحاق
(18/58)
ويعقوب من رحمتنا. وكان الذي وهب لهم من
رحمته ما بسط لهم في عاجل الدنيا من سعة رزقه وأغناهم بفضله. وقوله:
{وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50] يقول: ورزقناهم
الثناء الحسن والذكر الجميل من الناس. وإنما وصف جل وعلا اللسان الذي جعل
لهم بالعلو لأن جميع أهل الملل يحسن الثناء عليهم، والعرب تقول: جاءني لسان
فلان يعنون ثناءه أو ذمه، ومنه قول الشاعر، قيل هو عمرو بن الحارث، وقيل هو
أعشى باهلة:
إني أتاني لسان لا أسر بها ... من علو لا عجب فيها ولا سخر
يروى:
لا كذب فيها ولا سخر
جاءت مرخمة قد كنت أحذرها ... لو كان ينفعني الإشفاق والحذر
فتفسير مالك لذلك بقوله: إنه مثل قول الله للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] تفسير صحيح. ومن ترفيع ذكره في
الدنيا الشهادة بالرسالة في الأذان للصلوات إلى يوم القيامة، وبالله
التوفيق.
[التسمي بجبريل]
في التسمي بجبريل وسئل مالك عن الرجل
يسمى جبريل، فكره ذلك ولم يعجبه وقال: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ
بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68]
وهذه الأمة الذين اتبعوه.
(18/59)
قال محمد بن رشد: إنما كره أن يسمى الرجل
جبريل لأن جبريل هو الروح الأمين الرسول من عند الله بالوحي إلى الأنبياء -
عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فإذا تسمى الرجل بجبريل كان سببا إلى أن يقول
الرجل: جاءني جبريل ورأيت جبريل وأشار علي جبريل برأي كذا في كذا، وهذا من
الكلام الذي يستشنع سماعه.
وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية سمرة بن جندب أنه قال:
«لا تسم غلامك رباحا ولا أفلح ولا بشيرا ولا يسارا يقال: ثم فلان فيقال:
لا» . فإذا كرهت التسمية بهذه الأسماء ونحوها فأحرى أن تكره التسمية بجبريل
لما ذكرناه من نحو هذا، وليس شيء من ذلك كله بحرام، وإنما هو مكروه فتركه
أحسن والله أعلم. وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أراد أن ينهى عن التسمية بنافع ويسار وبركة من أجل أن يقال:
هاهنا بركة فيقال: لا، فسكت عن ذلك ولم ينه عنه حتى قبض، فدل ذلك على أن
النهي لم يلحق التسمية بهذه الأسماء.
وقوله {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل
عمران: 68] إلى آخر قوله، معناه الحض على الاقتداء بهم في ترك التسمية
بذلك، وبالله التوفيق.
[دخول آكل الكراث للمسجد]
في دخول آكل الكراث للمسجد وسئل مالك عن
الكراث يؤكل فيأتي آكله إلى المسجد، فقال إنه ليكره كل ما آذى الناس، وإن
الناس في ذلك لمختلفون، منهم من لا يوجد له من ذلك شيء رائحة وإن أكله،
ومنهم من يكون له رائحة إذا أكله.
قال محمد بن رشد: قوله إنه ليكره كل ما آذى الناس هو مثل ما في
(18/60)
رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب في هذا:
وما أحب له أن يؤذي الناس، وذلك تجوز في الكلام، لأن إذاية الناس لا تجوز،
فلا يصح أن يقال فيها إنها مكروهة. وقد نص النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
على أن العلة في منع آكل الثوم من دخول المسجد إذاية الناس، فإذا كان
الكراث أو البصل تؤذي روائحها الناس فلا يجوز لآكلها دخول المسجد قياسا على
الثوم لوجود العلة فيهما، وذلك بين من قول ابن القاسم في رسم أوصى من سماع
عيسى من كتاب الصلاة، قال: والكراث والبصل إن كان يؤذي ويضير (كذا) فهو مثل
الثوم ولا يقرب المسجد أصلا، وبالله التوفيق.
[الأفضل من صلاة النافلة أفي البيت أم في المسجد]
في الأفضل من صلاة النافلة أفي البيت أم في
المسجد وسئل عن الصلاة في النوافل في البيوت أحب إليك أم في المسجد؟
قال: أما في النهار فلم يزل من عمل الناس الصلاة في المسجد يهجرون ويصلون،
وأما الليل ففي البيوت. قال وقد كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي
الليل في بيته. قال مالك: يستحب للذي يصلي بالليل في بيته أن يرفع صوته
بالقرآن. وقد كان الناس إذا أرادوا سفرا تواعدوا لقيام القراء وبيوتهم شتى،
فكانت تسمع أصواتهم بالقرآن، فأنا استحب ذلك.
قال محمد بن رشد: استحب مالك صلاة النافلة بالنهار في المسجد على صلاتها في
البيت، لأن صلاة الرجل في بيته بين أهله وولده وهم يتصرفون ويتحدثون ذريعة
إلى اشتغال باله بأمرهم في صلاته. ولهذه العلة كان السلف يهجرون ويصلون في
المسجد. فإذا أمن الرجل من هذه العلة فصلاته في بيته أفضل، لقول رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(18/61)
«أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا
المكتوبة» لأنه حديث صحيح محمول على عمومه في الليل والنهار مع استواء
الصلاة في الإقبال عليها وترك اشتغال البال فيها. وقد سئل مالك في أول رسم
حلف من سماع ابن القاسم في كتاب الصلاة عن الصلاة في مسجد النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النوافل، أفيه أحب إليك أم في البيوت؟
فقال: أما الغرباء فإن فيه أحب إلي "، يعني بذلك الذين لا يريدون إقامة،
يدل هذا من قوله أن الصلاة بالنهار في البيوت لغير الغرباء أحب إليه من
الصلاة في المسجد.
ومعنى ذلك إذا أمنوا من اشتغال بالهم في بيوتهم بغير صلاتهم. وأما إذا لم
يأمنوا ذلك فالصلاة في المسجد أفضل لهم، فقد قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ركع ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء غفر
له ما تقدم من ذنبه» . وإنما كانت صلاة النافلة للغرباء في مسجد النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - أفضل منها لهم في بيوتهم بخلاف المقيمين، لأن الصلاة
إنما كانت أفضل في البيوت منها في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وفي
جميع المساجد من أجل فضل عمل السر على عمل العلانية. قال الله عز وجل:
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] . وقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سبعة يظلهم الله عز وجل
في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر فيهم من ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ومن
تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» . والغرباء لا يعرفون
في البلد فلا يذكرون بصلاتهم في المسجد. فلما لم يكن لصلاتهم في بيوتهم
قربة من
(18/62)
ناحية السر وجب أن تكون صلاتهم في مسجد
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أفضل، لما جاء من «أن الصلاة فيه خير من ألف
صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» . فعلى هذا تتفق الروايات
ولا يكون فيها تعارض ولا اختلاف.
ووجه استحباب مالك للذي يصلي الليل في بيته أن يرفع صوته بالقرآن ليشيع
الأمر ويعلو ويكثر فيرتفع عنه الرياء، ويحصل بفعله الاقتداء، فيحصل له أجر
من اقتدى به، وذلك من الفعل الحسن لمن صحت نيته في ذلك. وقد مضى هذا في هذا
الرسم في هذا السماع من كتاب الصلاة.
[الدعاء في الركوع والسجود]
في الدعاء في الركوع والسجود وسئل مالك
عن الدعاء في الركوع، قال: لا أحب ذلك، قيل ففي السجود؟ قال: نعم، قد دعا
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ساجد.
قال محمد بن رشد: كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - الدعاء في الركوع، والله
أعلم، لوجهين: أحدهما الحديث المأثور عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من
رواية ابن عباس أنه قال: «ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود،
فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء، فقمن أن
يستجاب لكم» . والثاني: أنه قد يوافق في دعائه ما في القرآن فيكون قد خالف
ما نهى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قراءة القرآن في الركوع. ولا
اختلاف في أنه لا تجوز قراءة القرآن في الركوع، واختلف في
(18/63)
قراءته في السجود، فروي عن مالك إجازة ذلك
إذ لم يأت النهي إلا في الركوع، ولم يجز ذلك غيره لحديث ابن عباس المذكور.
ولكراهة الدعاء في الركوع وجه بين من جهة المعنى، وهو أنه إذا كان من حسن
الأدب فيمن كانت له إلى كبير حاجة ألا يبدأ بطلبها حتى يقدم الثناء عليه
قبل ذلك، تعين في حق الله عز وجل أن لا يدعوه في السجود حتى يقدم التعظيم
له في الركوع، وبالله التوفيق.
[معنى قول عمر سجدة يحاجني بها عندك]
في معنى قول عمر: سجدة يحاجني بها عندك وسئل مالك عن قول عمر بن الخطاب:
اللهم لا تجعل قتلي عن يدي رجل سجد لك سجدة يحاجني بها عندك، قال يريد بذلك
أنه ليس لغير أهل الإسلام حجة عند الله.
قال محمد بن رشد: المعنى في تفسير مالك لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أنه أراد ألا يقتله إلا كافر ليكون مخلدا في النار، لأنه إن قتله مؤمن سجد
لله سجدة لم يخلد في النار وخرج منها بإيمانه بعد أن يناله ما يستوجبه من
العقاب على قتله. وقد قيل إنه إنما أراد ألا يقتله أحد من أهل القبلة
بتأويل يستحل به قتله فيكون له بذلك عند الله عذر بسبب أنه لم يقتله إلا
وهو يعتقد الطاعة لله عز وجل بقتله فيخف عنه دينه، فهذا أظهر.
[شأن عمر بن الخطاب مع الهرمزان وجفينة]
في شأن عمر بن الخطاب مع الهرمزان وجفينة
قال مالك: قدم بالهرمزان وجفينة على عمر بن الخطاب فأراد ضرب أعناقهما
فكلمهما فاستعجما عليه، فقال: لا بأس عليكما. ثم أراد عمر أن يقتلهما فقالا
له: ليس ذلك لك قد قلت لا بأس عليكما.
(18/64)
قال محمد بن رشد: الهرمزان سيد تستر حاصرها
أبو موسى الأشعري حتى دخل المدينة فتحصن الهرمزان في قلعة له بها وحصره أبو
موسى فيها حتى نزل على حكم عمر. روي عن أنس قال: حاصرنا تستر فنزل الهرمزان
على حكم عمر، فلما انتهى إليه قال له عمر: تكلم، قال: كلام حي أو كلام ميت،
قال: تكلم فلا بأس. قال: إنا وإياكم معاشر العرب ما خلى الله بيننا وبينكم
كنا نقصيكم ونقتلكم، فلما كان الله معكم لم يكن لنا بكم يدان. قال عمر: يا
أنس ما يقول؟ قلت: يا أمير المؤمنين يقول: تركت بعدي عددا كثيرا وشوكة
شديدة فإن تقتله يئس القوم من الحياة ويكون أشد لشوكتهم. قال عمر أستحيي
قاتل البراء بن مالك ومجزأة ابن ثور. فلما خفت أن يقتله قال: قلت: ليس إلى
قتله سبيل قد قلت له تكلم فلا بأس، فقال: لتأتيني بمن يشهد به غيرك، فلقيت
الزبير فشهد معي، فأمسك عنه عمر وأسلم وفرض له. وروي عن عبد الرحمن بن أبي
بكرة قال: أطافوا بالهرمزان فلم يخلصوا إليه حتى أمنوه ونزل على حكم عمر،
فبعث به أبو موسى وأصحابه إلى عمر، وبالله التوفيق.
[ما كتب به إلى عمر بن عبد العزيز عامله في أمر الزكاة]
فيما كتب به إلى عمر بن عبد العزيز عامله في
أمر الزكاة قال: وسمعت مالكا يذكر أن عاملا لعمر بن عبد العزيز كتب
إليه: إن الناس قد أسرعوا في أداء الزكاة ورغبوا في ذلك لموضع عدلك، وأنه
قد اجتمع عندي زكاة كثيرة، فكأن عمر كره ذلك من كتابه لمدحه، فكتب إليه ما
وجدوني وإياك على ما رجوا وظنوا فاقتسمها. قال ابن القاسم: قال عمر: وأي
رأي لي فيها حتى كتب إلي.
قال محمد بن رشد: في هذا فضل عمر بن عبد العزيز - رضي الله
(18/65)
عنه - وقوله: وأي رأي لي فيها يريد أنه لا
رأي لأحد في ذلك مع السنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في
الصدقة أن تؤخذ من الأغنياء فتفرق على الفقراء، وبالله التوفيق.
[ابتداء الكاتب باسم المكتوب إليه قبل اسمه]
في ابتداء الكاتب باسم المكتوب إليه قبل اسمه
قال: وحدثني مالك أن رجلا أتى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فسألها
الكتاب إلى زياد، فكتبت إليه وبدأت باسمها، فسألها الرجل أن تبتدئ باسمه
فإنه أقضى لحاجته، ففعلت وبدأت باسمه. وبدأ ابن عمر عبد الملك بن مروان
باسمه قبل اسمه، فقيل له: إن الناس يذكرون في ذلك أحاديث ويرفعونها،
فأنكرها إنكارا شديدا وقال: قد سمعت يقولون: الحسن وغيره، وهذا من الباطل.
قال محمد بن رشد: قد مضى قبل هذا في هذا الرسم الكلام على هذا فلا معنى
لإعادته، وبالله التوفيق.
[وصف الرجل نفسه بما هو عليه]
في وصف الرجل نفسه بما هو عليه قال ابن
القاسم: وحدثني مالك عن قول سعيد بن عبد العزيز ما أبقى ذكر جهنم في صدري
للدنيا حزنا ولا فرحا. قال مالك: ما يعجبني أحد يقول مثل هذا في نفسه. قال
ابن القاسم وكان حدثه به سليمان بن القاسم أنه بلغه أن سعيد بن عبد العزيز
التنوخي قال هذا القول.
قال محمد بن رشد: هذا مكروه للرجل كما قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن الله
عز وجل قد نهى عن ذلك بقوله:
(18/66)
{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا
تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] .
روي عن أبي بكرة أنة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا يقولن أحدكم قمت رمضان كله» . وروي عن الحسن أن رجلا قال
عند ابن مسعود: لقد قرأت القرآن البارحة فقال: ما يقول؟ فأخْبَروه، فقال:
فأخْبِروه أن حظه من ذلك الذي تكلم به. وبالله التوفيق لا شريك له.
[ما جاء في قتل عبيد الله بن عمر الهرمزان وجفينة]
فيما جاء في قتل عبيد الله بن عمر الهرمزان
وجفينة قال مالك: قتل عبيد الله بن عمر الهرمزان وجفينة قبل أن
يستقيم الناس على أحد، فكان قد تكلم الناس في ذلك، فكان عثمان يقول: لا
يقتل أبوه اليوم ويقتل هذا غدا، فتلكم في أمره فأرسل، فقيل لمالك: فعثمان
أرسله؟ فقال: لا، أرسل قبل أن يلي.
قال محمد بن رشد: حكى ابن عبد البر في كتاب الصحابة عن الحسن أن عبيد الله
بن عمر قتل الهرمزان بعد أن أسلم وعفا عنه عثمان، فلما ولي علي خشيه على
نفسه فهرب إلى معاوية فقتل بصفين. قال ابن عبد البر: وقصته في قتل الهرمزان
وجفينة وبنت أبي لؤلؤة فيها اضطراب. وهذا الذي قاله ابن عبد البر من أن
عثمان عفا عنه هو الذي يدل عليه قوله في الرواية: فكان عثمان يقول: لا يقتل
أبوه اليوم ويقتل هذا غدا. ومعنى عفوه عنه أنه جعل ذلك دية، كذلك وقع في
مصنف عبد الرزاق من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب - أن عبد الرحمن بن أبي
بكر قال حين قتل عمر: انتهيت إلى الهرمزان وجفينة وأبي لؤلؤة وهم بحي
فبغتهم فثاروا وسقط من بينهم خنجر له
(18/67)
رأسان نصابه في وسطه، فقال عبد الرحمن:
فانظر بما قتل به عمر، فنظروا فوجدوه خنجرا على النعت الذي نعت عبد الرحمن.
قال: فخرج عبيد الله بن عمر مشتملا على السيف حتى أتى الهرمزان فقال:
اصحبني تنظر إلى فرس، وكان الهرمزان بصيرا بالخيل، فخرج يمشي بين يديه،
فعلاه عبيد الله بالسيف، فلما وجد حر السيف قال: لا إله إلا الله فقتله. ثم
أتى جفينة، وكان نصرانيا، فدعاه فلما أشرف له علاه بالسيف فصلب بين عينيه،
ثم أتى ابنة أبي لؤلؤة جارية صغيرة تدعي بالإسلام فقتلها، فأظلمت المدينة
على أهلها.
ثم أقبل بالسيف صلتا في يده وهو يقول: والله لا أترك في المدينة شيئا إلا
قتلته وغيرهم، كأنه يعرض بناس من المهاجرين، فجعلوا يقولون له: ألق السيف
ويأبى ويهابونه أن يقربوا منه، حتى أتاه عمرو بن العاص فقال: أعطني السيف
يا ابن أخي، فأعطاه إياه. ثم ثار إليه عثمان فأخذ برأسه فتناصبا حتى حجز
الناس بينهما، ثم ثار إليه سعد بن أبي وقاص فتناصبا حتى حجز الناس بينهما.
فلما ولي عثمان قال: أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق،
يعني عبيد الله بن عمر، فأشار إليه المهاجرون أن يقتله، وقال جماعة من
الناس: أقتل عمر أمس، وتريدون تتبعون به ابنه اليوم، أبعد الله الهرمزان
وجفينة، قال: فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك
أن يكون هذا الأمر لك ولك على الناس من سلطان، إنما كان هذا الأمر ولا
سلطان لك، فاصفح عنه يا أمير المؤمنين. قال: فتفرق الناس على خطبة عمرو،
وودى عثمان الرجلين والجارية. وقال معمر عن الزهري: لما ولي وبايعه أهل
الشورى خرج وهو أشدهم كآبة، فأتى منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فخطب
فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ الناس بكلام بليغ ثم قال لهم: قولوا فيما أحدث
عبيد الله بن عمر، فقالوا: القود ونادى جمهور الناس من وراء ذلك: لعلكم
تريدون أن تتبعوا عمر ابنه، الله الله، أبعد الله الهرمزان وجفينة، فلم يقل
عثمان لهؤلاء ولا لهؤلاء شيئا وتمثل ببيتين فهم الناس عنه أنه سيقيد منه،
فانصرفوا وهم
(18/68)
مؤمنون بذلك. وروي أنه لما ولي أدى
الهرمزان وجفينة وأبي قد جعلها دية. وقد روي أن عثمان أقاد ابنه منه فعفا
عنه، وأنه لما بلغه خوض الناس في هرمزان قال: أيها الناس، القتل على وجهين،
فالإمام ولي قتل الباغي والعاري والمفسد دون الآباء والأبناء وسائر الإخوة
والأولياء، وولاية ما كان في السائرة فان شاءوا تركوا وإن شاءوا باعوا وإن
شاءوا قتلوا، ليس إلا المعونة وحبس الجاني، ثم دفع عبيد الله إلى ابن
الهرمزان. وروي أن صهيبا قال له: ما تقول في عبيد الله بن عمر؟ فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، كتاب الله بينكم فيه حلاله وحرامه، فمن أتى
حدا من حدود الله عز وجل فأراد أحد أن يعلم ما رأينا فيه فلينظر فيه ثم
ليعلم منتهى إلى الكتاب ثم نقيمه فيه والله، فتفرق الناس وهم على اليقين من
قتله فأقاده.
روي عن سيف عن أبي منصور قال: سمعت القناديان يحدث عن قتل أبيه قال: كانت
العجم بالمدينة سرح بعضها إلى بعض، فمر فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان،
فتناوله منه وقال: ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟ فقال: آنس به، فرآه رجل.
فلما أصيب عمر قال قد رأيت هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد
الله فقتله، فلما ولي عثمان دعاني فأمكنني منه ثم قال: يا بني هذا قاتل
أبيك فأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله. قال: فخرجت به وما في الأرض أحد إلا
معي، إلا أنهم يطلبون إلي فيه، فقلت لهم إلى قتله، قالوا: نعم وسوءا لعبيد
الله، فقلت لهم: أولكم أن تمنعوه؟ فقالوا: لا وسبوه، فتركته لله ولهم،
فاحتملوني فوالله ما بلغت المنزل إلا على رءوس الرجال وأكفهم، وبالله
التوفيق.
[موت عمر في يومه الذي طعن فيه]
في أن عمر مات في يومه الذي طعن فيه قال: وسمعت مالكا يذكر أن عمر مات من
يومه الذي طعن فيه
(18/69)
قال محمد بن رشد: روي عن عمر بن ميمون قال:
شهدت عمر يوم طعن وما منعني أن أكون في الصف المقدم إلا هيبته، وكان رجلا
مهيبا، فكنت في الصف الذي يليه. فأقبل عمر فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة
بن شعبة فناجى عمر قبل أن تستوي الصفوف ثم طعنه ثلاث طعنات، فسمعت عمر وهو
يقول: دونكم الكلب فإنه قد قتلني، وماج الناس وأسرعوا إليه، فخرج عليه
ثلاثة عشر رجلا فانكفأ عليه رجل من خلفه فاحتضنه، وحمل عمر، فماج الناس
بعضهم في بعض حتى قال قائل: الصلاة عباد الله، طلعت الشمس، فقدموا عبد
الرحمن بن عوف فصلى بأقصر سورتين في القرآن {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ}
[النصر: 1] ، و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ، واحتمل
عمر ودخل عليه الناس، فقال لعبد الله بن عباس: أخرج فناد في الناس، أعن ملأ
منكم هذا؟ فخرج ابن عباس فقال: أيها الناس، إن أمير المؤمنين يقول: أعن ملأ
منكم هذا؟ فقالوا: معاذ الله، والله ما علمنا ولا اطلعنا. وقال: ادع لي
الطبيب، فدعي الطبيب فقال: أي الشراب أحب إليك؟ فقال: النبيذ، فسقي نبيذا
فخرج من بعض طعناته، فقال الناس: هذا دم هذا صديد، فقال: اسقوني لبنا، فسقي
لبنا فخرج من الطعنة، فقال له الطبيب: ما أرى أن تمسي، فما كنت فاعلا
فافعل، وذكر تمام الخبر في الشورى وتقديمه لصهيب في الصلاة. وقد روي عن
عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: غدوت مع عمر بن الخطاب إلى السوق
وهو متكئ على يدي، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة فقال: ألا تكلم
مولاي يضع عني من خراجي؟ قال: كم خراجك؟ قال دينار، قال ما أرى أن أفعل،
إنك لعامل محسن وما هذا بكثير، ثم قال له عمر: ألا تعمل لي رحا؟ قال: بلى،
قال فلما ولى قال أبو لؤلؤة: لأعملن لك رحا يتحدث بها ما بين المشرق
والمغرب، قال: فوقع في نفسي قوله. قال: فلما كان في النداء لصلاة الصبح
وخرج عمر للناس يؤذنهم الصلاة وقد اضطجع له أبو لؤلؤة عدو الله، فضربه
بالسكين، وذكر تمام الخبر. ولما أخبر بمن قتله قال: الحمد لله الذي لم يجعل
قتلي على يد رجل
(18/70)
يحاجني بلا إله إلا الله. وبالله التوفيق.
[اللعب بالشطرنج]
في اللعب بالشطرنج وسئل مالك عن لعب
الشطرنج فقال: إن لكل عمل جزاء، فما ترى جزاء هذا؟ ثم قال: فماذا بعد الحق
إلا الضلال.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله. وقد مضى الكلام على هذا المعنى في
آخر رسم طلق بن حبيب مستوفى ولا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة]
في وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة
وسئل مالك عن وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة أترفع إلى الصدر
أم توضع دون ذلك؟ فقال: ليس فيه حد، وإنما يصنع مثل هذا في الصلاة التي
يطول فيها، ولم ير أنه يصنع في الصلاة المكتوبة. قال ابن القاسم: بلغني أنه
قال في النافلة ترك ذلك أحب إلي، ولكن الذي جاء إنما هو في النافلة، ولم
يعجبه ذلك في المكتوبة. قال أشهب: لا بأس به في المكتوبة والنافلة، وقد جاء
عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه رئي واضعا يده
اليمنى على اليسرى في الصلاة» وقد جاء عنه أنه قال: «استراحة الملائكة في
الصلاة وضع اليمنى على كوع اليسرى في الصلاة» .
(18/71)
قال محمد بن رشد: إنما سأله عن وضع اليد
اليمنى على اليسرى هل ترفع إلى الصدر أو توضع دون ذلك، إذ قد قيل في قول
الله عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] المراد بذلك وضع
اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة تحت النحر، وفي ذلك غير قول. قال
بعض أهل التأويل: حضه على المواظبة على الصلاة المكتوبة وعلى الحفظ عليها
في أوقاتها بقوله {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} [الكوثر: 2] وبوضع اليمنى على اليسرى
عند النحر في الصلاة بقوله {وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أي واضممها إلى صدرك.
وقال بعضهم: إنما عنى بذلك فصل لربك المكتوبة، وبقوله وانحر نحر البدن
بمنى. وقال أنس بن مالك: إنما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ينحر يوم العيد قبل أن يصلي العيد فقال الله له {فَصَلِّ
لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ، فأمره أن يصلي ثم ينحر. وقال محمد بن
كعب القرظي: إنما قيل له ذلك لأن قوما كانوا يصلون وينحرون لغير الله، فقيل
له: اجعل صلاتك ونحرك لله إذ كان من يكفر بالله يجعله لغيره. وقال الضحاك:
بل المعنى في ذلك فادع ربك واسأله. وقال بعضهم: المعنى في ذلك واستقبل
القبلة بنحرك.
وفي وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة خلاف، والذي يتحصل في ذلك ثلاثة
أقوال: أحدها أن ذلك جائز في المكتوبة والنافلة ولا يكره فعله ولا يستحب
تركه، وهو قول أشهب في هذه الرواية وقول مالك في رسم الصلاة الأول من سماع
أشهب من كتاب الصلاة؛ والثاني أن ذلك مكروه فيستحب تركه في الفريضة
والنافلة إلا إذا طال القيام في النافلة فيكون فعل ذلك فيها جائزا غير
مكروه ولا مستحب، وهو قول مالك في هذه الرواية وفي المدونة، والثالث أن ذلك
مستحب فعله في الفريضة والنافلة مكروه تركه فيهما، وهو قول مالك في رواية
مطرف وابن الماجشون عنه في الواضحة.
(18/72)
[قول الحسن في الصراف]
في قول الحسن في الصراف قال مالك كان
الحسن يقول: إن استسقيت ماء فسقيت من بيت صراف فلا تشربه.
قال محمد بن رشد: إنما قال الحسن ذلك لأن الغالب على الصيارفة العمل
بالربا، فيستحب تجنب أكل طعامهم أو شرب شرابهم، وإن لم يعلم حال الذي يطعمه
الطعام أو يسقيه الشراب منهم لأنه يحمل على الغالب من أهل صناعته حتى يعلم
أنه ممن يتوقى الربا في عمله بالصرف، فقد قيل إن معاملة من خالط الحرام
ماله من ربا أو غيره لا تحل ولا تجوز، فكيف بأكل طعامه أو شرب شرابه.
والصحيح أن ذلك مكروه وليس ذلك بحرام. ولنا في هذا المعنى مسألة جامعة من
أراد الشفاء منها طالعها. وحكى ابن حبيب عن السكن بن أبي كريمة قال: صلينا
مع أبي زبير الأيامي الجمعة، فلما خرجنا من المسجد مر بدار فاستسقى، فأتي
بقدح، فقال: لمن هذه الدار؟ فقالوا: لفلان الصيرفي، فرده ولم يشرب منه.
قال: وسمعت أصبغ يكره أن يستظل بظل الصيرفي قال عبد المالك: لأن الغالب
عليهم الربا، وهو نحو ما ذكرناه في معنى قول الحسن، وبالله التوفيق.
[ما يحذر من عقوبة الله عند فساد الأعمال]
فيما يحذر من عقوبة الله عند فساد الأعمال
قال مالك: زلزلت الأرض على عهد عمر بن الخطاب، فصعد المنبر عمر بن الخطاب
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لقد أحدثتم ولقد عجلتم ولئن عادت لأخرجن من
بين أظهركم.
قال محمد بن رشد: إنما قال ذلك عمر لقول الله عز وجل:
(18/73)
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وقوله: {وَمَا
نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] . فلما زلزلت الأرض
على عهده وقد تغيرت أحوال الناس عما كانت عليه في حياة النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - خشي أن يكون ذلك تخويفا من الله عز وجل وإنذارا بهلاكهم إن لم
يتوبوا ويرجعوا إلى ما كانوا عليه من الأحوال المستقيمة، وبالله التوفيق.
[كراهة الصيد]
في كراهة الصيد قال مالك: جاء رجل إلى
سعيد بن المسيب فسلم عليه كأنه لم يعرفه، فانتسب وكان له موضع فقال لابن
المسيب: إني أخرج إلى الصيد فأكون فيه، فقال له ابن المسيب: الصيد لا خير
فيه وهو يلهيك.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك أن الصيد مكروه لما فيه من الالتهاء به إلا
لمن كان عيشه منه أو قرم إلى اللحم. واستخفه لأهل البادية لأنهم من أهله
وأن ذلك شأنهم، ورأى خروج أهل الحاضرة إليه من السفه والخفة، ولم يجز قصر
الصلاة لمن خرج مسافرا إلى الصيد على وجه التلهي لأنه سفر مكروه، لما في
ذلك من اللهو والطرب وإتعاب البهائم في غير وجه منفعة. وأباحه محمد بن عبد
الحكم لعموم قول الله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:
2] على الوجه المباح، وبالله التوفيق.
(18/74)
[وجوه من الحكمة لبعض الحكماء]
في وجوه من الحكمة لبعض الحكماء قال
مالك: قال حكيم من الحكماء: إذا صليت فصل صلاة مودع يظن أنه لا يعود، وإياك
والطمع وتطلب الحاجات فإنه فقر حاضر، وعليك باليأس مما في أيدي الناس فإنه
الغنى. واعلم أنه لا بد من قول وفعل، فإياك وما يعتذر منه.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله، لأن الرجل إذا صلى الصلاة لا
يدري هل يتراخى به الأجل إلى وقت صلاة أخرى، فينبغي أن يستشعر فيها الخوف
لله والفكرة في الوقوف بين يدي خالقه، فإنه إذا فعل ذلك خشع في صلاته وكان
من المفلحين الذين قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}
[المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] .
وإذا كثر طمع الرجل وتطلبه للحاجات فهو بذلك في حكم الفقير وإن كان ذا مال،
إذ ليس الغنى من الكثرة، وإنما الغنى غنى النفس، لأن فائدة المال في الدنيا
أن يستغني به عن الناس، فإذا لم يستغن به عن الناس فهو في حكم الفقير. وإذا
استغنى الفقير عن الناس بغنى نفسه فهو في حكم الغني بالمال. وما يعتذر منه
من قول أو فعل من الحظ أن يجتنب، إذ لا يدري المعتذر من الشيء هل يقبل فيه
عذره أم لا، وبالله التوفيق.
[ما يكره أن تستر به البيوت من الثياب]
فيما يكره أن تستر به البيوت من الثياب
وقال مالك: دخل أبو أيوب صاحب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بيتا قد ستر
بثياب جنادية، فقال: لا أطعم فيه طعاما حتى أخرج منه، فخرج ولم يطعم.
(18/75)
قال محمد بن رشد: الثياب الجنادية يحتمل أن
تكون ثياب حرير قد ستر بها البيت أي فرش بها. والحرير لا يحل للرجال لباسه
ولا الجلوس عليه، إذ الجلوس في معنى اللباس عند عامة العلماء، وهو مذهب
مالك وجمهور أصحابه. ويحتمل أن تكون الثياب الجنادية ثيابا من غير حرير
فيها صور فَكَرِهَ أبو أيوب الدخول في البيت والأكل فيه لما جاء من أن
الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل أو تصاوير، شك إسحاق في قول الراوي
للحديث عن أبي سعيد الخدري عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقد اختلف
أهل العلم فيما ليس له ظل قائم من الصور على أربعة أقوال: أحدها إباحة ذلك
سواء كان التصوير في جدار أو ثوب مبسوط أو منشور، والثاني تحريم ما كان من
الصور في الجدار والثوب المنصوب وإباحة ما كان منها في الثوب المبسوط الذي
يوطأ ويتوسد، والرابع تحريم ما كان منها في الجدار خاصة وإباحة ما كان منها
في الثوب المبسوط أو المنشور، وبالله التوفيق.
[إباحة تعجيل السير في السفر]
في إباحة تعجيل السير في السفر قال
مالك: سار ابن عمر من مكة إلى المدينة في سفر سائره ثلاثة أيام، وأن سعيد
بن أبي هند سار في ثلاثة أيام، وكان من خيار المسلمين وعبادهم، ولقد كان
يقعد هو وموسى بن هبيرة ونافع مولى بن عمر بعد الصبح حتى يقوموا وما كلم
أحد منهم صاحبه، يذكرون الله. ثم قال: لا خير في كثرة الكلام، واعتبروا ذلك
بالنساء والصبيان، إنما هم أبدا يتكلمون لا يصمتون.
(18/76)
قال محمد بن رشد: أجاز مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - أن يسرع الرجل في السير في سفره لحاجة تعرض وإن تجاوز في ذلك
المراحل المعهودة في المشي، ولم ير عليه حرجا في إتعاب دابته في ذلك،
واستدل على جواز ذلك بسير عبد الله بن عمر من مكة إلى المدينة في ثلاثة
أيام وهي مسيرة عشر مراحل على السير المعتاد، وأن سعيد بن أبي هند قد فعل
ذلك على خيره وعبادته وفضله، وأنه كان من اجتهاده في العبادة يقعد مع
أصحابه في المسجد بعد الصبح وما يكلم أحد منهم صاحبه اشتغالا بذكر الله،
لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا
أخبركم بساعة من ساعات الجنة الظل فيها ممدود والعمل فيها مقبول والرحمة
فيها مبسوطة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من أذان صلاة الصبح إلى طلوع
الشمس.» وإذا جاز للرجل حمل المشقة على نفسه في إسراع السير جاز له أن
يحملها على دابته، لما أباح الله عز وجل من تسخيرها وعدد النعمة بذلك على
عباده فقال: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا
بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}
[النحل: 7] . ومما يدل من الحديث على أنه يكره له أن يفعل ذلك من غير حاجة
ويجوز له أن يفعله لحاجة قوله في الحديث الصحيح المأثور حديث الموطأ: «إن
الله تعالى رفيق يحب الرفق ويرضى به ويعين عليه ما لا يعين على العنف فإذا
ركبتم هذه الدواب العجم فأنزلوها منازلها فإذا كانت الأرض جذبة فانجوا
عليها بنقيها وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار»
الحديث. ولا خير في الكلام كما قال مالك، لأن كلام المرء كله محصى عليه
ومسئول عنه. قال الله عز وجل:
(18/77)
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ
رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وجاء عن عيسى ابن مريم أنه كان يقول: لا تكثروا
الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القاسي بعيد من الله ولكن لا
تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم
عبيد، فان الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على
العافية. وكانت عائشة زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ترسل إلى بعض
أهلها بعد العتمة فتقول ألا تريحون الكتاب.
[التنفل بالصيام في السفر]
في التنفل بالصيام في السفر وسئل مالك
عن التنفل بالصيام في السفر فقال: حسن.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قاله، لأن التطوع بالصيام جائز في الحضر
والسفر، إذ ليست الإقامة شرطا في صحة الصيام. وإنما أباح الله عز وجل
للمسافر الفطر في رمضان تخفيفا ورحمة، والصيام فيه أفضل، وقد قيل إن الفطر
به أفضل. وشذت طائفة من أهل الظاهر فقالت: إن الصيام في السفر كالفطر في
الحضر، وبالله التوفيق.
[قول الحسن في الصراف]
في قول الحسن في الصراف فقيل لمالك لما
حدث حديث الحسن إذا استسقيت فسقيت من بيت صراف فلا تشرب، قال فقال بكير: رب
صراف خير من الحسن. قال مالك: ليس كما قال بكير، إنما ينظر إلى الأمر الذي
شمل الشيء كثرته فيجتنب لذلك.
(18/78)
قال محمد بن رشد: قد مضى فوق هذا بيسير
القول في قول الحسن فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق..
[اختلاف الحكم في القضاء]
في اختلاف الحكم في القضاء قال: قال
مالك: كتب ابن حريم الجحمي إلى عمر بن الخطاب لا تقضين في أمر واحد بقضائين
فيختلف عليك أمرك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا عندي أنه أمره أن لا يقضي فيما سبيله
الاجتهاد إلا بعد بلوغه الغاية في الاجتهاد، لأنه إن قضى في أمر قبل أن
يبلغ غاية الاجتهاد فيه سيقضي مرة أخرى فيه بقضاء آخر يؤديه إليه بلوغ
الغاية في الاجتهاد، فأمره أن يفعل أولا ما يفعل آخرا حتى لا يختلف عليه
أمره، والله أعلم وبه التوفيق.
[سيرة معاذ بن جبل وعمله على الصدقة]
في سيرة معاذ بن جبل وعمله على الصدقة
لعمر بن الخطاب قال مالك: إن عمر بن الخطاب بعث معاذ بن جبل مصدقا وحمله
على بعير، فلما رجع رد البعير إلى عمر ورجع إلى أهله بثوبه، فقالت له
امرأته: ما جئتنا بشيء، فقال: إنه كان معي حافظان يحفظان علي. فلما قال هذا
معاذ خرجت امرأته إلى عمر بن الخطاب فقالت له: يا أمير المؤمنين أما علمت
أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذا مصدقا؟ قال:
بلى، قالت: أفجعل معه حافظا؟ قال: لا، قالت: فإنه قد ذكر لي أنه كان معه
حافظان يحفظان عليه، فقال عمر: وأنا معي حافظان يحفظان علي.
(18/79)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين من عدل
وفضل معاذ، وأنه فعل الواجب من قبض الواجب قبض الصدقات من الأغنياء
وتفريقها على الفقراء ورجع دون شيء كما خرج، وبالله التوفيق لا شريك له.
[ورع عمر بن عبد العزيز]
في ورع عمر بن عبد العزيز قال مالك: كان
عمر بن عبد العزيز يكتب في أمور الناس على الشمع، فإذا كتب لنفسه دعا
بمصباحه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين من ورعه وفضله، وبالله التوفيق لا شريك
له.
[سن معاذ بن جبل]
في سن معاذ بن جبل وقال مالك: توفي معاذ
بن جبل وهو ابن اثنين وثلاثين سنة.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه توفي وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، [وقيل توفي
وهو ابن ثمان وثلاثين سنة] ، وهو أحد السبعين الذين شهدوا العقبة من
الأنصار، وشهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها. وكان سمحا لا يمسك، فلم يزل
يدان حتى أغلق ماله كله في الدين، فبعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الجند من اليمن، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قد قسم اليمن على خمسة رجال، واليا ومعلما وجعل إليه قبض
(18/80)
الصدقات من العمال الذين باليمن، «وقال له
حين وجهه بم تقضي؟ قال: بما في كتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال فبما في
سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال فإن لم تجد؟ قال
أجتهد رأيي. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحمد
لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي رسوله.» وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنه أعلمهم بالحلال والحرام، وإنه يأتي يوم القيامة
أمام العلماء برتوة» . ولما قدم من اليمن بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عمر لأبي بكر: أرسل إلى هذا الرجل فدع له ما
يعيشه وخذ سائره منه، فقال أبو بكر: إنما بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليجبره، ولست بآخذ منه شيئا إلا أن يعطيني، فانطلق
إليه عمر إذ لم يسعده أبو بكر فكلمه في ذلك وأبى قال: وإنما بعثني رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليجبرني. ثم لقي معاذ عمر
فقال: قد أطعتك وأنا فاعل ما أمرتني به، إني رأيت في المنام أني في حومة
ماء قد حسبت الغرق فخلصتني منه يا عمر. فأتى معاذ أبا بكر فذكر ذلك له وحلف
أنه لا يكتمه شيئا، فقال أبو بكر: لا نأخذ منك شيئا قد وهبته لك، فقال عمر:
هذا حين حل وطاب، واستعمله عمر على الشام حين مات أبو عبيدة فمات من عامه
ذلك في طاعون عمواس بدعائه ربه في ذلك. روي عن ابن شهاب قال: أصاب الناس
طاعون بالجابية فقام عمرو بن العاص فقال: تفرقوا عنه فإنما هو بمنزلة
(18/81)
نار، فقام معاذ بن جبل فقال: لقد كنت نبيا
ولأنت أضل من حمار أهلك، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: «هو رحمة لهذه الأمة» . اللهم فاذكر معاذ وآل معاذ فيمن
تذكر بهذه الرحمة. وروى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعي ومسروق، ولفظ
الحديث لفروة الأشجعي قال: كنت جالسا مع ابن مسعود فقال: إن معاذا كان أمة
قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين، فقلت يا أبا عبد الرحمن: إنما قال
الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ
يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] فأعاد قوله إن معاذا. فلما رأيته
أعاد عرفت أنه تعمد الأمر فسكت، فقال: أتدري ما الأمة وما القانت؟ قلت:
الله ورسوله أعلم، قال: الأمة الذي يعلم الخير ويؤتم به ويقتدى به، والقانت
المطيع لله، وكذلك كان معاذ بن جبل معلما للخير مطيعا لله عز وجل ولرسوله -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - ويكنى معاذ أبا عبد الرحمن بابن كان له، وقيل إنه لم
يولد له قط، وبالله التوفيق.
[الشفعة على قدر الحصص]
في أن الشفعة على قدر الحصص قال مالك
حدثني ابن الدراوردي عن سفيان الثوري أن علي بن أبي طالب قضى أن الشفعة بين
الشركاء على قدر حصصهم.
قال محمد بن رشد: هذا هو مذهب مالك وجميع أصحابه وعامة العلماء أن الشفعة
على قدر الأنصباء، خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة أنها على عدد الرءوس. والحجة
لمالك ومن قال بقوله أن الشفعة لما كانت تجب بالملك وجب أن يكون على قدر
الأملاك كالعلل، ولما كانت لرفع المضرة عن الإشراك وكانت المضرة عليهم على
قدر حصصهم وجب أن تكون الشفعة
(18/82)
التي ترفع الضرر عنهم على قدر حصصهم، وهذا
بين والحمد لله وبه التوفيق.
[بيع كتابة المكاتب]
في بيع كتابة المكاتب قال: حدثني ابن
القاسم عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه كره أن يباع كتابة المكاتب
ويقول وهو خطار إن عجز كان عبدا له، وإن أدى كان له أربعة آلاف درهم.
قال محمد بن رشد: الغرر في هذا بين كما قاله، وهو قول عبد العزيز بن أبي
سلمة، إلا أن مالكا وأصحابه أجازوا ذلك استحسانا واتباعا على غير قياس. وله
وجه وهو أن المشتري للكتابة يحل فيها محل سيده الذي كاتبه في الغرر، لأنه
إذا كاتبه لا يدري هل يؤدي ما كتبه عليه أو يعجز فيرجع رقيقا له، وذلك
جائز، لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}
[النور: 33] وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه
درهم من كتابته» .
[المكاتب بين الشريكين يقاطعه أحدهما]
في المكاتب بين الشريكين يقاطعه أحدهما
وحدثني عن ابن القاسم ابن الدراوردي عن أنس عن أبي يحيى أن رجلا من قريش
أرسل إلى سعيد بن المسيب يسأله عن عبد بين رجلين مكاتب، فقاطع أحدهما على
نصيبه ويمسك الآخر، ثم
(18/83)
إن المكاتب مات وترك مالا، فقال سعيد: للذي
تمسك بالكتابة بقية كتابته ثم يقتسمان ما بقي بعد ذلك بينهما.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح مثل قول مالك في موطئه إذا كانت مقاطعته له بإذن
شريكه. وقد وقع في رواية يحيى فيه أن الذي قاطع بالخيار بين أن يتمسك
بقطاعته وبين أن يرد نصف ما أخذ من القطاعة ويكون المال بينهما، وأن الذي
تمسك بالكتابة إن كان الذي قبض ما قاطع عليه شريكه أو أفضل فالميراث
بينهما، لأنه إنما أخذ حقه، وهو غلط. وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى
في رسم الكيس من سماع يحيى من كتاب المكاتب فلا وجه لإعادته، وبالله
التوفيق.
[ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم من الاجتهاد في العبادة]
فيما كان عليه أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
الاجتهاد في العبادة قال: وحدثني ابن القاسم عن مالك قال: لما دخل أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشام نظر إليهم رجل من
أهل الكتاب فقال: ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطعوا بالمناشر وصلبوا
على الخشب بأشد اجتهادا من هؤلاء.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا فوق هذا في هذا الرسم والكلام عليه، وبالله
التوفيق.
[القصد والتؤدة والسمت]
في القصد والتؤدة والسمت قال ابن
القاسم: قال مالك بلغني أن ابن عباس قال: التؤدة والقصد والسمت جزء من كذا
وكذا جزءا من النبوءة.
(18/84)
قال محمد بن رشد: معنى القصد الاقتصاد في
الإنفاق، وفي معناه جاء الحديث: «ما عال من اقتصد» . والتؤدة التأني في
الأمور والتثبت فيها. وأما السمت فمعناه السمت الحسن، وهو الوقار والحياء
وسلوك طريقة الفضلاء، وبالله التوفيق.
[قول القاسم بن محمد لعمر بن عبد العزيز فيما عرض عليه]
في قول القاسم بن محمد لعمر بن عبد العزيز فيما
عرض عليه قال ابن القاسم: قال مالك إن عمر بن عبد العزيز قال للقاسم
بن محمد وهو يريد العمرة: إن معنا فضلا من أمتعة وأزواد، فقال القاسم: إني
امرء لا آخذ من أحد شيئا.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا فوق هذا في هذا الرسم أنه يكره للرجل أن يصف
عن نفسه ما هو عليه من الأحوال المحمودة، فليس في قول القاسم بن محمد إني
امرؤ لا آخذ من أحد شيئا ما يدل على جواز ذلك، لأنه إنما قاله معتذرا لعمر
بن عبد العزيز مخافة أن يظن به أنه يكره الأخذ منه دون من سواه لشيء يعتقده
فيما عرض عليه، وأخبره بعادته لئلا يستوحش من قبله، وبالله التوفيق.
[وصية معاذ بن جبل]
في وصية معاذ بن جبل وحدثني عن ابن
القاسم عن مالك أن معاذ بن جبل قال لرجل إنه لا غنى بك عن نصيبك من دنياك،
وأنت إلى حظك من آخرتك أحوج، فإذا عرض لك أمران أحدهما للآخرة والآخر
للدنيا فخذ بحظك من آخرتك فإنه ستمر عليك حوائجك من دنياك ثم تنظمها لك
انتظام الرمية ثم تزول بها معك حيث زلت.
(18/85)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه الوصية بين
لأن حظ الدنيا فان وحظ الآخرة باق، فمن الحظ للرجل أن يقدم ما يبقى على ما
يفنى. وبالله التوفيق.
[التحذير من الفتنة]
ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما مال في
التحذير من الفتنة قال: وسمعت مالكا يذكر «أن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - ذكر فتنة فقالوا: يا رسول الله ما النجاء منهما؟ قال: ترجعون
إلى أمركم الأول» .
قال محمد بن رشد: الفتن على وجوه: فمنها في أصحاب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم كانوا يعذبون ليرتدوا عن دينهم، فذلك
قول الله عز وجل: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] أي
العذاب؛ ومنها أن يفتن الله قوما أي يبتليهم؛ ومنها ما يقع بين الناس من
الحروب وغير ذلك، وهذه الفتنة هي التي أشار إليها في هذا الحديث، والله
أعلم، وعنى بها ما جرى بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من الخلاف
الذي أدى إلى مقاتلة بعضهم بعضا. قال سفيان: سمعت حذيفة يقول: «بينما نحن
جلوس عند عمر بن الخطاب إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- في الفتنة؟ قال: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة
والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن عن
التي تموج كموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن
(18/86)
بينك وبينها بابا مغلقا. قال عمر: أيكسر
الباب أم يفتح؟ قال: لا بل يكسر. قال عمر: إذا لا يغلق أبدا، قال: أجل.
قلنا لحذيفة: أكان عمر بن الخطاب يعلم؟ قال: نعم كما يعلم أن دون غد
الليلة، وذلك أني حدثته حديثا ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأله من الباب،
فأمرنا مسروقا فسأله فقال من الباب؟ فقال عمر» : ومنها الفتنة بالنساء.
يقال قد فتن بالمرأة إذا تعشقها؛ ومنها الإضلال، قال الله عز وجل: {مَا
أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162] ، أي بمضلين؛ ومنها الحرق
بالنار، تقول فتنته بالنار أي أحرقته فيها، وفي القرآن {يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] أي يحرقون. والفتان الشيطان، وفتانا
القبر منكر ونكير. قال الأصمعي: يقال فتنه ولا يقال أفتنه. وقال أبو عبيد:
أفتنه بالقبر لغة بني تميم.
وقوله: ترجعون إلى أمركم الأول معناه إلى ما كنتم عليه في حياة النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - من التواخي في ذات الله والاعتصام بكتاب الله، وبه
التوفيق.
[ما قاله النبي عليه السلام حين خرج من جوف
الليل]
فيما قاله النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين خرج من جوف الليل وحدثني عن
يحيى بن سعيد لا أعلمه إلا مسندا عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أنه
خرج ذات ليلة من جوف الليل فنظر في أفق السماء فقال: كم من كاسية في الدنيا
عارية يوم القيامة أيقظوا صواحب
(18/87)
الحجر» . قال سحنون: يعني بأيقظوا صواحب
الحجر أيقظوا نسائي كي يسمعن.
قال محمد بن رشد: قول يحيى بن سعيد في هذا الحديث لا أعلمه إلا مسندا عن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - معناه لا أعلمه إلا مسندا إلى النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - وذكره مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن ابن شهاب
«أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام من الليل فنظر في
أفق السماء فقال: ماذا فتح الله الليلة من الخزائن وما وقع من الفتن، كم من
كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة أيقظوا صواحب الحجر.» وأسنده معمر عن
الزهري عن هند بنت الحارث عن أم سلمة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استيقظ ليلة فقال: سبحان الله ماذا أنزل الله من
الفتنة» فذكره. وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوته - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه أعلم فيه بما كان بعده مما فتحه الله على أمته
من بلاد الكفار بالمشرق والمغرب وصار إليهم من أموالهم، فهي الخزائن التي
فتحها الله عز وجل على أمته، وبما وقع بعده من الفتن من قتل عثمان - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - إلى يومنا هذا الذي لا يحيط به إلا علمه، ولن يزال الهرج
إلى يوم القيامة. وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإيقاظ
أزواجه كيلا يكن من الغافلين عند ذكر الله عز وجل في مثل هذه الليلة التي
أنزل الله فيها ما أنزل، ولعلها كانت ليلة القدر الليلة المباركة التي قال
الله عز وجل {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] .
(18/88)
[الذين أنزل
الله عز وجل فيهم لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم]
في الذين أنزل الله عز وجل فيهم {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] قال: وسمعت مالكا يذكر «أن رجلا قال على عهد
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن قراءنا هؤلاء أرغبنا
بطونا وأكذبنا ألسنا وأجبننا عند اللقاء، فأنزل الله عز وجل {قَدْ
كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] » «قال عبد الله بن عمر بصرت
عيناي ذلك الرجل وهو يجري تحت ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - تنكف رجليه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض
ونلعب، فأنزل الله عز وجل {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ
كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] » .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا إشكال فيه، وبالله التوفيق.
[كراهة الفطر فيمن أصبح صائما متطوعا]
في كراهة الفطر فيمن أصبح صائما متطوعا
قال مالك: بلغني أن رجلا له شرف صنع صنيعا ودعا فيمن دعا حسين بن رستم
الأوانة وكان صائما وأنه لما خلا الناس من عنده قال له: ألا ندعو لك بطعام؟
فقال إني صائم، فجعل يردد على حسين ويريده على الفطر ويقول: إنك ستصوم يوما
آخر مكانه، فقال له حسين إني بيت الصيام وأنا أكره أن أخلف الله ما وعدته،
وقال
(18/89)
يقال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» فإنك
لن تجد فقد شيء تركته لله عز وجل.
قال محمد بن رشد: إنما قال ما قال وأبى أن يجيبه إلى ما أراده عليه من
الفطر، لأنه رأى ذلك من المشتبهات التي قال فيها رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه وعرضه»
لاختلاف أهل العلم في جواز الفطر لمن أصبح صائما متطوعا، ولما جاء في ذلك
عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مما يدل على جوازه والمنع منه، من ذلك
أنه قال: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان
صائما فليصل أو فليدع؛» وروي «وإن كان صائما فلا يأكل» . وروي عنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تصوم امرأة وزوجها شاهد يوما من
غير شهر رمضان إلا بإذنه» . وهذا يدل على أن الفطر لا يجوز لها ولا يجوز
لزوجها أن يفطرها. وروي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كان عند أم هانئ وأتي بشراب فشرب منه ثم أعطاه أم هانئ فشربت ثم قالت
لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إني كنت صائمة ولكني
كرهت أن أرد سؤرك، فقال لها: أكنت تقضين شيئا؟ فقالت: لا، قال: فلا يضرك إن
كان تطوعا» .
فهذا يدل على جواز الفطر لمن أصبح صائما. وقد جاء «أن حفصة وعائشة أهدي
لهما طعام فأفطرتا فدخل عليهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك حفصة فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقضيا يوما
(18/90)
آخر مكانه» . فاحتمل أن يكون ذلك على
الوجوب وأن يكون على الندب. وكان ابن عباس يجيز الفطر لمن أصبح صائما
متطوعا؛ وكان عبد الله بن عمر لا يجيزه ويشدد ذلك فيقول ذلك الذي يلعب
بصومه، وإلى قوله هذا ذهب مالك فقال: إنه لا يفطر، فإن أفطر من غير عذر
فعليه القضاء، «لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لعائشة وحفصة: اقضيا يوما مكانه آخر» .
وقال مطرف: إن حلف عليه أحد بالعتق أو بالطلاق أن يفطر فليحنثه ولا يفطر
إلا أن يرى لذلك وجها، وإن حلف هو فليكفر ولا يفطر، وإن عزم عليه أبواه أو
أحدهما في الفطر فليطعهما وإن لم يحلفا عليه إذا كان ذلك رقة منهما لإدامة
صومه. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصيام.
[معاقلة المرأة الرجل إلى ثلث الدية]
في معاقلة المرأة الرجل إلى ثلث الدية
قال: وسمعت ابن هرمز يقول: إنا أخذنا أشياء برأينا وإن معاقلة الرجل المرأة
إلى ثلث دية الرجل إنما أخذناه من الفقهاء.
قال محمد بن رشد: قوله إنا أخذنا أشياء برأينا معناه أخذناه بالاستنباط
والنظر وهو القياس على الأصول. قال الله عز وجل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وقوله إن معاقلة المرأة الرجل
إلى ثلث ديته إنما أخذناه من الفقهاء، يريد أن الفقهاء سبقونا فيه إلى
الاستنباط بالاجتهاد، وأخذناه منهم واتبعناهم عليه. ووجه هذا من طريق
الاعتبار والنظر أن الله تبارك وتعالى ساوى بين الرجل والمرأة في الأصل
والمبدأ إلى الثلث، ثم فصل بينهما فيما
(18/91)
بعد الثلث، فقال النبي المعصوم عن ربه عز
وجل: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة
ثم أربعين يوما مضغة ثم يأتي الملك فيقول أي رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد
فينفخ فيهما الروح» فيقع الفصل من الله بالتذكير إن شاء ذكرا وإن شاء أنثى.
بعد هذا الأمر المشترك فيه وهو من العام ثلثه. وقال: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} [الرعد: 8] الآية. وبين الاعتبار من قَوْله
تَعَالَى في الآيتين إحداهما {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] ، والثانية قوله عز وجل:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] أن أمد الغيض
وهو النقصان من الأمر المعلوم في العادة وهو تسعة أشهر في الأغلب والأكثر،
ثلاثة أشهر، وأن الولد يصح نسبه لستة أشهر. فإذا اعتبر الزيادة بالنقصان
اعتبارا عدلا حملنا على التسعة الأشهر ثلاثة أشهر كما نقصنا منها ثلاثة
أشهر. وفي حملنا ثلاثة أشهر على تسعة أشهر تمام العام.
وقد تقدم أن الأربعة الأشهر المشترك فيها ثلث العام. فكما اشتركا من العام
وهو منتهى الأمد على الاعتبار الذي ذكرناه في ثلثه في الخلقة، ثم وقع الفصل
بعد الثلث وانفرد الذكر بتذكيره والأنثى بتأنيثها، فكذلك يشتركان في
المعاقلة في الثلث، ثم يرجع بعد الثلث كل واحد منهما إلى عقل نفسه كما رجع
بعد ثلث العام إلى صورة نفسه. وحسبك بهذا بيانا واضحا ودليلا مرشدا، وبالله
التوفيق.
[الدين هو الحسب]
في أن الدين هو الحسب وحدثني أبو عبد
الله محمد بن أحمد العتبي عن عيسى أنه قال: بلغني «أن أعرابيا دخل مسجد
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(18/92)
وسلم - فوجد في مسجد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلمان الحبر وصهيبا وبلالا وسالما مولى أبي
حذيفة فقال لهم: يا معشر العلجة كأنكم من الأوس والخزرج، وسعد بن أبي وقاص
يصلي ويسمع كلامه، فعجل [فسلم] ثم قام إلى الأعرابي فلببه بردائه وقال: يا
عدو نفسه تقول هكذا لأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لا أفارقك حتى أوقفك على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فذهب به سعد إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبر
سعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمقالته فخرج رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعا، يريد غضبانا، فصعد
المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الرب واحد والدين واحد
والأب واحد ومن أسرع به عمله لم يبطئ به حسبه ومن أبطأ به عمله لم يسرع به
حسبه، ومن دخل هذا الدين فهو من العرب. فقال سعد: ما أصنع بهذا يا رسول
الله، فقال: ادخره إلى النار» . فلقد رأيته ارتد مع مسيلمة فقتل معه.
قال محمد بن رشد: هذا حديث بين المعنى يشهد بصحته قول الله عز وجل: {إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . ومن هذا المعنى
قول عمر ابن الخطاب كرم المؤمن تقواه، ودينه حسبه، ومروءته خلقه. فإنما
يكون للحسب مزية مع الاستواء في العلم والفضل. قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في
الإسلام إذا فقهوا.» وبالله التوفيق.
(18/93)
[اجتماع العلم والحلم]
في اجتماع العلم والحلم قال: وسمعت موسى
يذكر أن بعض أهل العلم كتب إلى بعض إخوانه: اعلم أن الحلم لباس العلم فلا
تعرين منه.
قال محمد بن رشد: هذه استعارة حسنة، وحكمة بالغة، فينبغي لمن أوتي حظا من
العلم أن لا يعري نفسه من الحلم، وبالله التوفيق.
[ما يبدأ به الداخل في مسجد النبي عليه السلام]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه فيما يبدأ به الداخل في مسجد النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - وسئل مالك عن الرجل يدخل مسجد النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - بالمدينة، بأي شيء يبدأ، بالسلام على النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أم بركعتين؟ قال: بل بركعتين، وكل ذلك واسع. قال ابن القاسم:
وأحب إلي أن يركع.
قال محمد بن رشد: وجه توسعة مالك في البداية بالسلام على النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - قبل الركعتين قوله في الحديث قبل أن يجلس، فإذا سلم ثم ركع
الركعتين قبل أن يجلس فقد امتثل أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالركوع
قبل الجلوس ولم يخالفه. ووجه اختيار ابن القاسم البداية بالركوع قبل السلام
على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قوله في الحديث: «إذا دخل فليركع»
والفاء في اللسان للتعقيب يدل على الثاني عقيب الأول بلا مهلة، فكان
الاختيار إذا دخل أن يصل ركوعه بدخوله وألا يجعل بينهما فاصلة من الاشتغال
بشيء من
(18/94)
الأشياء. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا
السماع من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[الأفضل في الحج بين القفل والجوار]
في الأفضل في الحج بين القفل والجوار
وسئل مالك عن الحج، القفل أعجب إليك أم الجوار؟ فقال ما كان الناس إلا على
الحج والقفل، ورأيته يريد أن ذلك أعجب إليه. فقلت: فالغزو يا أبا عبد الله
فإن ناسا يقولون ذلك، فلم يره مثله وقال: قد كانت الشام حين فتحت وكانت
مجال حرب فأقام فيها غير واحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم أبو أيوب، ومعاذ، وبلال، وأبو عبيدة.
قال محمد بن رشد: استحب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - القفل من الحج على
الجوار اتباعا للسلف، وله وجه من جهة المعنى، وهو أن الحج فرض واجب،
والجوار مستحب وليس بواجب، فاستحب أن يفرق بين الواجب وغير الواجب بفعل
مباح، كما استحب الأكل يوم الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وكما استحب جماعة
من العلماء للمعتدة من الوفاة أن تتطيب إذا انقضت عدتها، كما فعلت أم حبيبة
حين توفي أبوها أبو سفيان، وزينب بنت جحش حين توفي أخوها بعد ثلاث، وقالتا:
والله ما لنا بالطيب من حاجة غير أنا سمعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحق لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد
على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» . وليس ذلك في الغزو
والرباط لاستوائهما في أنهما غير واجبين، لأن الجهاد يسقط الوجوب فيه عن
الناس بقيام من قام به، لأنه فرض على الكفاية، وبالله التوفيق.
(18/95)
[طواف المريض بالبيت راكبا]
في طواف المريض بالبيت راكبا قال مالك:
«حدثت أم سلمة أنها اشتكت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فأمرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
تطوف من وراء الناس راكبة» .
قال محمد بن رشد: زاد في هذا الحديث في الموطأ قالت: «فطفت ورسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ يصلي إلى جانب البيت وهو يقرأ
بالطور وكتاب مسطور» وكانت صلاة الصبح بدليل حديث البخاري «أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها ولم تكن طافت بالبيت وأرادت
الخروج: إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون» ففعلت ذلك ولم
يصل حتى خرجت. ولا اختلاف بين أهل العلم في أن المريض يطوف بالبيت وبين
الصفا والمروة راكبا ومحمولا، إلا أن مالكا استحب له أن يعيده إن صح.
وإنما اختلفوا في الصحيح فقال: إنه يعيد إن كان قريبا، وإن رجع إلى بلده
كان عليه الدم، وهو مذهب أبي حنيفة؟ وقال الشافعي يجزيه طوافه ولا دم عليه،
وحجته حديث أبي الزبير عن جابر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - طاف في حجة الوداع بالبيت بين الصفا والمروة على راحلته» ليراه
الناس وليشرف لهم لأن الناس غشوه.
وقال أيؤثر إن طاف راكبا أو محمولا من غير علة ولا عذر لم يجزه طوافه وكان
عليه أن يعيد، بمنزلة من صلى وهو صحيح قاعدا. وقياسه الطواف على الصلاة
بعيد، لما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من حديث جابر وغيره، «أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على راحلته»
والاستنابة في
(18/96)
ذلك جائزة إلا أن يعلم أن ذلك خصوص له أو
يثبت أنه إنما فعله من عذر على ما روى عكرمة عن ابن عباس «أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته
كلما أتى الركن استلم بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى» .
[الحج بثمن ولد الزنى]
في الحج بثمن ولد الزنى وسئل مالك هل
يحج بثمن ولد الزنى؟ قال: أليس من أمته ولدته له من زنى؟ قال: نعم، قال لا
بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز أن يحج بثمن ولد
الزنى وأن يعتق في الرقاب الواجبة وإن كان الاستحباب عنده غير ذلك.
روى أشهب عنه في سماعه من كتاب العتق أنه استحسن ألا يعتق في الرقاب
الواجبة وقال: قال الله عز وجل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] يعمد الرجل إذا أراد أن يعتق أعتق هذا العبد،
وإذا أراد أن يتصدق تصدق بهذا الطعام. وإنما منع ذلك من منعه ولم يجزه لما
روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «ولد الزنى شر الثلاثة» وأنه
قال: «لا يدخل الجنة ولد زنية» وأنه «سئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن عتق ولد الزنى فقال: لا خير فيه نعلان يعان بهما أحب إلي من
عتق ولد الزنى» . وليست
(18/97)
الأحاديث المذكورة على ظاهرها. فأما قوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ولد الزنى شر الثلاثة» فالمعنى فيه
أنه قصد بذلك لرجل بعينه كان يؤذي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: أما
إنه مع ما به ولد الزنى، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هو
شر الثلاثة» . وقد سئل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن ذلك قال: بل هو خير
الثلاثة، قد أعتق عمر بن الخطاب عبيدا من أولاد الزنى، ولو كان خبيثا ما
فعل، وهو كما قال، لقول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى} [الأنعام: 164] ولقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا
سَعَى} [النجم: 39] . وقد قيل: المعنى في ذلك أنه حدث من شر الثلاثة أبوه
وأمه والشيطان الذي أغواهما، لا أنه في نفسه شر، والأول أولى، لأن ذلك مروي
عن عائشة.
وأما قوله: «لا يدخل الجنة ولد زنية» فالمعنى في ذلك من كثر منه الزنى حتى
ينسب إليه كما ينسب إلى الشيء من كثر منه وتحقق به، فيقال لمن كثر منه
الحذار ابن حذار، ولمن كثر منه السفر ابن سبيل، وللمتحققين بالدنيا بنو
الدنيا، ومثل هذا كثير. وعلى هذا يحمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في عتق ولد الزنى لا خير فيه، وبالله التوفيق.
[تغطية الرجل لحيته في الصلاة]
في تغطية الرجل لحيته في الصلاة وسئل
مالك عن الرجل يصلي فيغطي لحيته بثوبه، قال ذلك مكروه وشدده لحديث سالم أنه
كان يجبذ الثوب جبذا شديدا.
قال محمد بن رشد: حديث سالم بن عبد الله هو الحديث الذي رواه عن عبد الرحمن
بن المجبر أنه كان يرى سالم بن عبد الله إذا رأى
(18/98)
الإنسان يغطي فاه وهو يصلي جبذ الثوب عن
فيه جبذا شديدا حتى ينزعه عن فيه، فتغطية الأنف والفم في الصلاة مكروه.
وأصل الكراهية فيه أنهم كانوا يلثمون ويصلون على تلك الحال فنهوا عن ذلك.
روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لا يضعن أحدكم ثوبه على
أنفه وهو في الصلاة فإن ذلك خطم الشيطان» فرأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
تغطية اللحية مكروها كتغطية الفم والأنف لقرب ما بينهما. وقال ابن الجهم:
إنه كره تغطية الأنف في الصلاة ليباشر الأرض بأنفه عند سجوده كما يباشرها
بجبهته، وليس ذلك بتعليل صحيح، لما جاء من النهي عن تغطية الفم في الصلاة
وهو مما لا يباشر الأرض، وبالله التوفيق.
[رفع اليدين في الدعاء]
في رفع اليدين في الدعاء وسئل مالك عن
رفع اليدين في الدعاء، فقال: ما يعجبني ذلك. فقيل له: فرفع اليدين في
الصلاة عند التكبير؟ فقال: لقد ذكر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه كان يفعل ذلك إذا كبر وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا ركع،
وما هو بالأمر العام، كأنه لم يره من العمل المعمول به، فقيل له: فالإشارة
بالأصبع في الصلاة؟ فقال: ذلك حسن. ثم قال على إثر ذلك حجة لتضعيف رفع
اليدين في الصلاة أنه قد كان في أول الإسلام أنه من رقد قبل أن يطعم لم
يطعم من الليل شيئا، فأنزل لله تبارك وتعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ} [البقرة: 187]
(18/99)
فأكلوا بعد ذلك.
قال محمد بن رشد: كره مالك رفع اليدين في الدعاء، فظاهره خلاف لما في
المدونة، لأنه أجاز فيها رفع اليدين في الدعاء في مواضع الدعاء كالاستسقاء
وعرفة والمشعر الحرام والمقامين عند الجمرتين على ما في كتاب الصلاة الأول
منها، خلاف لما في الحج الأول من أنه لا يرفع يديه في المقامين وعند
الجمرتين. ويحتمل أن تتأول هذه الرواية على أنه أراد الدعاء في غير مواطن
الدعاء فلا يكون ذلك خلافا لما في المدونة، وهو الأولى، وقد ذكرنا هذا
المعنى في رسم شك في طوافه. وأما رفع اليدين عند الإحرام في الصلاة
فالمشهور عن مالك أن اليدين ترفع في ذلك، وقد وقع في الحج الأول من المدونة
في بعض الروايات أن رفع اليدين في ذلك عنده ضعيف.
ووقع له في سماع أبي زيد من كتاب الصلاة إنكار الرفع في ذلك، وإلى هذا ينحو
قوله في هذه الرواية، لأنه احتج فيها بما دل أن الرفع أمر قد ترك ونسخ
العمل به كما نسخ تحريم الأكل في رمضان بالليل بعد النوم.
والصحيح في المذهب إيجاب الرفع في ذلك بالسنة، فهو الذي تواترت به الآثار،
وأخذ به جماعة فقهاء الأمصار. وروى ابن وهب وعلي، واللفظ لعلي، أنه سئل عن
المرأة أعليها رفع يديها إذا افتتحت الصلاة مثل الرجل، فقال: ما بلغني أن
ذلك عليها وأراه يجزئها أن ترفع أدنى من الرجل. وأما رفع اليدين عند الركوع
وعند الرفع منه فمرة كرهه مالك، وهو مذهبه في المدونة ودليل هذه الرواية
وما وقع في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة وحكاية فعل مالك
ذلك؛ ومرة استحسنه ورأى تركه واسعا، وهو قول مالك في رسم الصلاة الثاني من
سماع أشهب، وروى مثله عنه محمد بن يحيى السمائي؛ ومرة قال: إنه يرفع ولم
يذكر في ترك ذلك سعة، وهو قوله في رواية ابن وهب عنه؛ ومرة
(18/100)
خير بين الأمرين. والأظهر ترك الرفع في
ذلك، لأن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر كانا لا يرفعان أيديهما في ذلك
وهما رويا الرفع عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك، فلم يكونا
ليتركا بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما رويا عنه إلا وقد قامت الحجة
عندهما بتركه. وقد روي أيضا عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الرفع عند
القيام من الجلسة الوسطى وعند السجود والرفع منه، وذهب إلى ذلك بعض
العلماء، ولم يأخذ مالك بذلك ولا اختلف فيه قوله، وبالله التوفيق.
[ما ينسب من القول إلى الشيطان]
فيما ينسب من القول إلى الشيطان وسمعت
يذكر ليس من أحاديث الفقه أنه يقال قال الشيطان لن ينجو مني ابن آدم أن
يكسب مالا من غير حقه أو يضعه في غير حقه أو يمنعه من حق.
قال محمد بن رشد: لما كان لا يخلص أحد من هذه الثلاثة الأشياء التي يغوي
فيها الشيطان ويبوء بما يتم له من أمله بطاعة الناس له فيها، جاز أن يقال
على ضرب من المجاز إنه قال ذلك القول وإن لم يصح بأثر ثابت عن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قاله، لأنه يعلم أنه يقول ذلك في نفسه ويعتقده،
فقد يقال فيمن يعلم من أخلاقه الرغبة وقلة الإسعاف وترك المسامحة تألى فلان
بأن لا يسامح أحدا في شيء من ماله، أي أنه بمنزلة من حلف على ذلك وإن كان
لم يحلف عليه، وبالله التوفيق.
[ما بناه أبو الدرداء بحمص]
فيما بناه أبو الدرداء بحمص وقال في
حديث أبي الدرداء حين بنى بحمص جناحا إنه
(18/101)
أخرجه منها، قال: أخرجه عمر إلى دمشق أدبا
له. قال مالك: والذي أحدث أبو الدرداء إنما أحدث جناحا فبلغ ذلك عمر بن
الخطاب فقال: أما كان لك فيما بنت الروم وفارس ما يكفيك؟.
قال محمد بن رشد: عاتبه عمر لما بنى ما لم تكن له به حاجة إليه. وقد مضى
هذا المعنى في رسم شك قبل هذا، وبالله التوفيق.
[سيرة عمر رضي الله عنه في سيره في أسفاره]
في سيرة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سيره في أسفاره قال: وسمعت مالكا
يذكر أن عمر بن الخطاب كان إذا سافر والأرض مكلية لم يمر بالمناهل كراهية
أن يعلف، قال: يرعى في الكل ولا يشتري من المناهل.
قال محمد بن رشد: هذا من فعل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نظر
صحيح، لأنه يحوط بذلك ماله ويحسن إلى إبله، لأن الرعي في الكل أحب إليها من
العلف، وقد «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينزل
الدواب في السفر منازلها» لترعى الكلأ وأمر أن ينجى عليها بنقيها إذا كانت
الأرض مجدبة، وبالله التوفيق.
[الذي يرى الدم في ثوبه في الصلاة]
في الذي يرى الدم في ثوبه في الصلاة
وسئل مالك عن الرجل يصلي فيرى في ثوبه الدم القليل الذي ليس مثله تفسد
الصلاة به أن لو فرغ منها، أترى أن ينزع ثوبه في الصلاة أم يصلي كما هو؟
قال: بل أرى أن يصلي كما هو، وأرجو أن
(18/102)
يكون خفيفا، وذلك حديث القاسم حين نزع
قميصه يوم الجمعة والإمام يخطب لدم رأى فيه، ولم يحد لذلك الدم الذي نزع
القاسم بن محمد قميصه منه حدا.
قال محمد بن رشد: إنما رأى أن يصلي بالثوب الذي رأى به الدم اليسير وهو في
الصلاة ولا ينزعه لما في ذلك من الاشتغال بذلك في صلاته، وإن كان الاختيار
أن يغسل اليسير من الدم ولا يصلي به. وإنما يختلف إذا رأى في ثوبه وهو في
الصلاة دما كثيرا أو نجاسة فقيل: إنه يقطع وإن كان إماما استخلف، وهو
المشهور في المذهب؛ وقيل إنه يختلعه إذا كان عليه ثوب غيره ويتمادى على
صلاته كما فعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في النعل التي أعلم في الصلاة
أن فيها نجاسة.
قال ذلك ابن القصار، وقد قاله ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية من كتاب
الصلاة في الذي يقطر عليه نجس وهو في الصلاة، ولا فرق بين المسألتين في
القياس، لأنه قد حصل حامل نجاسة في صلاته، وإن فرق بين المسألتين يحصل في
المسألة ثلاثة أقوال: القطع، والخلع، والفرق بين أن يعلم في الصلاة أن في
ثوبه نجاسة أو تقطر عليه النجاسة وهو فيها.
ولا اختلاف فيما أعلم فيمن علم أن في ثوبه نجاسة والإمام يخطب أنه يخلع
ثوبه إن كان عليه ثوب غيره كما فعل القاسم بن محمد. وقد اختلف في قدر
الدرهم من الدم فروى علي بن زياد عن مالك أنه يسير، وقال ابن حبيب إنه
كثير، وبالله التوفيق.
[أرباب العلم هم الذين يعملون بما علموا]
في أن أرباب العلم هم الذين يعملون بما علموا
قال: وسمعته يذكر أن عبد الله بن سلام قال لكعب الأحبار: من أرباب العلم؟
قال الذين يعملون بعلمهم. قال: فما نفاه من قلوبهم؟ قال: الطمع.
(18/103)
قال محمد بن رشد: هذا صحيح، لأن من لم يعمل
بعلمه لم ينتفع به وكان حجة عليه، فليس من أهله على الحقيقة، إذ هو دون
مرتبة الجاهل. وقوله: فما نفاه من قلوبهم، معناه ما نفى انتفاعهم به من
قلوبهم بترك استعمالهم، إذ لا ينتفي العلم عن قلوبهم بالطمع، وإنما ينتفي
به استعماله، وبالله التوفيق.
[كراهة القناع لغير حر أو برد]
في كراهة القناع لغير حر أو برد قال
مالك: بلغني أن سكينة ابنة حسين أو فاطمة بنت حسين رأت بعض ولدها مقنعا
رأسه فقالت له: اكشف عن رأسك، فإن القناع ريبة بالليل مذلة بالنهار. وقال
مالك: وأما من تقنع من حر أو برد فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لأنه إذا تقنع بالليل استراب منه من
لقيه مخافة أن يكون تقنع لسوء يريد أن يفعله من اغتيال أو شبه ذلك، وإذا
تقنع بالنهار لم يكرمه من لقيه ولا وفاه حقه ولا عرف منزلته واضطره إلى
أضيق الطرق وذلك إخلال به.
[عمرو بن العاص أسن من عمر بن الخطاب]
في أن عمرو بن العاص أسن من عمر بن الخطاب
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قال: وسمعت مالكا يذكر أن عمرو بن العاص
قال: إني لا أعرف الليلة التي ولد فيها عمر بن الخطاب، ولقد جئتهم تلك
الليلة بسراج أوقدته لأهله وهو يقول ولد للخطاب غلام.
قال محمد بن رشد: ليس في هذا أكثر من المعرفة بأن عمرو بن
(18/104)
العاص أسن من عمر بن الخطاب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - وبالله التوفيق.
[صاع النبي ومده عليه السلام]
في صاع النبي ومده - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: وسألت مالكا عن صاعه ومده
الذي يعطيه الناس أهو صاع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ قال: كذلك يقول.
قال محمد بن رشد: في هذه المحافظة على صاع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
ومده لما يلزم من معرفة نصاب الزكاة وقدر الكفارات وزكاة الفطر، فالمد زنته
رطل وثلث، قيل بالماء وقيل بالوسط من القمح؛ والصاع أربعة أمداد؛ والرطل
اثنتا عشرة أوقية، والأوقية بوزن زماننا الذي هو دخل أربعين ومائة في مائة
كيلا خمسة عشر درهما وثلاثة أجزاء من أحد عشر جزءا في الدرهم، وذلك أن
الأوقية من الوزن القديم الذي هو دخل مائة وعشرة في مائة كيلا اثنا عشر
درهما، وبالله التوفيق.
[التكبير عند رمي الجمار]
في التكبير عند رمي الجمار وسئل مالك عن
التكبير عند رمي الجمرتين الأوليين، قال: نعم، فقيل له أيرفع صوته؟ قال:
نعم، ويكبر عند الجمار كلها، وعند الصفا والمروة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا - في المدونة أنه يكبر عند رمي الجمار، قال فيها
مع رمي كل حصاة تكبيرة. وكذلك كان يفعل عبد الله بن عمر. ذكر مالك في موطئه
عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يكبر عند رمي الجمرة كلما رمى بحصاة. وإنما
قال إنه يرفع صوته بالتكبير، لأن رفع الصوت بالتكبير والتلبية في الحج من
شعار الحج. وقد كان عمر بن الخطاب
(18/105)
يكبر في أيام منى إذا ارتفع النهار ستا
وبعد ذلك وإذا زاغت الشمس، فكبر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ
البيت، فيعرف أن عمر قد خرج. وقوله: إنه يكبر على الصفا والمروة هو مثل ما
قاله في المدونة من أنه استحب للحاج أن يقطع التلبية إذا أخذ الطواف بالبيت
حتى يفرغ من السعي بين الصفا والمروة، ثم يعود إلى التلبية حتى يعود من منى
إلى عرفة، وبالله التوفيق.
[ركوب البحر]
في ركوب البحر وقال مالك في حديث عمرو
بن العاص حين أشار على عمر بن الخطاب في ركوب البحر قال: دود على عود، إن
ضاعوا غرقوا، وإن بقوا فرقوا.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في أول رسم من هذا السماع فلا معنى
لإعادته، وبالله التوفيق.
[السجود في المفصل]
في السجود في المفصل قال: وحدثني ابن
القاسم عن مالك بن أنس أن عمر بن عبد العزيز أمر محمد بن قيس القاضي أن
يخرج إلى الناس فيأمرهم أن يسجدوا في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
[الانشقاق: 1] قال ابن القاسم: سألت مالكا عنه فلم ير العمل به، وهو رأي لا
في النافلة ولا غيرها.
قال محمد بن رشد: عزائم سجود القرآن عند مالك إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل
منها شيء، فالتي ليست من العزائم عنده آخر الحج، وسجدة والنجم، وإذا السماء
انشقت، واقرأ باسم ربك. وإنما لم يرها من العزائم لما جاء فيها من
الاختلاف، فقد روي أنه ليس في الحج إلا
(18/106)
سجدة واحدة، وأن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة.
وذهب ابن وهب إلى أنها كلها من العزائم، وروي ذلك عن مالك، وهو اختيار ابن
حبيب. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: عزائم السجود أربعة: الم تنزيل،
وحم تنزيل، والنجم، واقرأ باسم ربك. وقال بعض العلماء الذي يوجبه النظر أن
يسجد من ذلك فيما جاء على سبيل الخبر ولا يسجد من ذلك فيما جاء على سبيل
الأمر، لأن ما جاء منها على سبيل الأمر يحمل على السجود الواجب في الصلاة
المفروضة. وعلى هذا يأتي مذهب مالك إذا اعتبرته، لأن جميع ما لم ير فيه
السجود جاء على سبيل الأمر، وجميع ما رأى فيه السجود جاء على سبيل الخبر.
فإن قيل: سجدة إذا السماء انشقت جاءت على سبيل الخبر ولا يسجد فيها عنده.
قيل له الوعيد المذكور فيها يقوم مقام الأمر. فإن قيل سجدة حم السجدة على
سبيل الأمر ويسجد فيها عنده. قيل له: المعنى فيها الإخبار عن فعل الكفار
الذين لا يسجدون لله ويسجدون للشمس والقمر، والنهي عن التشبه بهم في ذلك،
لأن الأمر لمجرد السجود لله فيحمل على سجود الصلاة، ويدل على ذلك قوله في
آخر الآية: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ
لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] لأن
المعنى في ذلك فإن استكبر الكفار عن السجود لله، فالذين عنده لا يستكبرون
عن ذلك. وقد اختار بعض العلماء السجود عند قوله: وهم لا يسئمون ليكون عند
ذكر الإخبار على الأصل الذي ذكرناه.
(18/107)
[الصلاة في الثوب الواحد]
في الصلاة في الثوب الواحد قال: وحدثني
عن ابن القاسم عن مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر أن في كتاب رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر مالك في موطئه عن هشام بن عروة
عن أبيه «عن عمر بن أبي سلمة أنه رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يصلي في ثوب واحد مشتملا به في بيت أم سلمة واضعا طرفيه على
عاتقيه» يريد مخالفا بينهما: طرف ثوبه الأيمن على عاتقه الأيسر، وطرف ثوبه
الأيسر على عاتقه الأيمن، فإن كان الثوب قصيرا اتزر به على ما ذكره مالك في
موطئه أنه بلغه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يجد ثوبين فليصل في ثوب أحد ملتحفا فإن
كان الثوب قصيرا فليتزر به» وبالله التوفيق.
[السلام على النبي عليه السلام]
في السلام على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وسئل مالك عن السلام على
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: إذا دخل وخرج وفيما بين ذلك، يريد في
الأيام.
قال محمد بن رشد: قوله إذا دخل وخرج معناه إذا دخل في مسجد النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - وإذا خرج منه، لأن المعنى فيما سئل عنه مالك من
كيفية السلام على النبي - عليه السلام إنما هو كيف يسلم عليه من زاره
للسلام عليه، وبالله التوفيق.
(18/108)
[من قال هلك الناس فهو أهلكهم]
فيما جاء من أن من قال هلك الناس فهو أهلكهم
قال مالك في تفسير حديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا قال الرجل هلك
الناس فهو أهلكهم» قال فهو أقساهم وهو أرداهم.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك للحديث صحيح، ومعناه عند أهل العلم جميعا إذا
قال ذلك احتقارا لمن في زمنه وإزراء عليهم بنفسه. وأما إذا قال ذلك تحزنا
على فقد الخيار من الناس وخوفا على من بقي منهم لقلة الخير فيهم فليس ممن
عني بالحديث. وروي عن أبي الدرداء أنه قال: لن يفقه الرجل كل الفقه حتى
يمقت الناس كلهم في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا.
[قسمة قريظة والنضير]
في قسمة قريظة والنضير قال مالك: قسمت
قريظة بالسهمان، فأما النضير فإنها صافية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقسمها بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار: سهل بن
حنيف، وسماك بن خرشة، والحارث بن الصمة. قال: وسمعت مالكا يقول: «قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد بن معاذ حين حكم على بني
قريظة: لقد حكمت فيهم بحكم الله» .
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في قريظة والنضير في رسم نذر سنة فلا معنى
لإعادته، وبالله التوفيق.
(18/109)
[أول من جعل قاضيا بالمدينة]
في أن عمر بن عبد العزيز أول من جعل قاضيا
بالمدينة قال: وسمعت مالكا قال: أول قاض كان بالمدينة إنما جعله عمر
بن عبد العزيز، ولم يكن بها قبل ذلك قاض.
قال محمد بن رشد: يريد أن الخلفاء وأمراءهم فيها كانوا هم الذين يقضون بين
الناس، وبالله التوفيق.
[الجمع بين الصلاتين في السفر]
في الجمع بين الصلاتين في السفر. وسئل
مالك عن القوم في السفر يرتحل بهم بعد الزوال، أترى أن يجمعوا الصلاتين
الظهر والعصر؟ قال: لا أرى ذلك لهم، وكره أن يجمعوا تلك الساعة. قال ابن
القاسم: قد قال قبل ذلك لا بأس به إذا عجل السير به، وهو رأيي، وذكره عن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قال ابن القاسم: وأحب ما فيه إلي، وذلك
الذي سمعت من مالك أن يجمع المسافر في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، وإن
جمع بعد الزوال أجزأ ذلك عنه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قد فعله.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يرتحل بعد الزوال من المنهل إنه لا يجمع تلك
الساعة وكرهه، يريد وإن جد به السير، بدليل قوله: وقد قال قبل لا بأس به
إذا عجل به السير. والمشهور المعلوم أن ذلك جائز وإن لم يجد به السير، فهي
ثلاثة أقوال. وأما جمع المسافر في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر فذلك جائز
إن جد به السير، وقيل: إن ذلك جائز له وإن لم يجد به السير.
(18/110)
[تفسير قول
الله عز وجل إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس]
في تفسير قول الله عز وجل: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي
الْمَجَالِسِ} [المجادلة: 11]
قال مالك في هذه الآية {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ
فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11] قيل له: أهي هذه
المجالس؟ قال: نعم، ومجلس النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
قال محمد بن رشد: قد قيل في تأويل الآية إنها في القتال، كان الرسول -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون مستقبل العدو، فكانوا يرجون
الشهادة فكان يجيء الرجل يرجو الشهادة فيقول: افسحوا فلا يوسعون له ويرجون
مثل الذي يرجو، فأنزل الله عز وجل الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ
اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة: 11] ،
يقول: إذا قيل انهضوا لقتال عدوكم فانهضوا، يبين هذا قوله عز وجل: {وَإِذْ
غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}
[آل عمران: 121] والمقاعد هي المجالس، وهذا تفسير الحسن. وقال غيره المراد
بالمجلس في قوله عز وجل: {تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} [المجادلة: 11]
مجلس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَإِذَا قِيلَ
انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة: 11] معناه وإذا قيل ارتفعوا إلى الصلاة
أو إلى ما سواها من الخير فانشزوا أي فارتفعوا. والذي ذهب إله مالك في هذه
الرواية من أن المراد بالمجلس في الآية مجلس النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
وسائر مجالس الخير والذكر أولى، لأن الألف واللام في قوله في المجلس قد
تكون للعهد، وهو أن يكون جرى في مجلس النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من ترك
التوسع فيه لمن جاء إليه سببا نزلت الآية من أجله، وقد تكون لاستغراق الجنس
فإذا لم يثبت السبب وجب أن يحمل على استغراق الجنس، ولو ثبت السبب لوجب أن
(18/111)
تحمل الآية على استغراق الجنس لوجود معنى
السبب في غير مجالس النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو يقع على من يريد من
المجلس مثل ما أراد أهله منه بالتوسيع له فيه. وقد تشرع الشرائع لمعان
فتبقى الشرائع مع ارتفاع المعاني، من ذلك زكاة الفطر، وغسل الجمعة، والرمل
في الطواف فكيف بما كان المعنى موجودا فيه؛ فلا اختلاف في وجوب التوسع في
مجالس الخير والذكر إلى يوم القيامة، وإنما يرجع الاختلاف إلى هل وجب ذلك
بتناول لفظ الآية له أو بالقياس على ما يتناول لفظها، وبالله التوفيق.
[تحدث المشركون في يوم أحد من أن النبي عليه
السلام قتل]
فيما تحدث المشركون في يوم أحد من أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قتل
وقال في حديث أبي سفيان لعمر بن الخطاب يوم أحد: ناشدتك الله أقتل محمد؟
قال لا، قال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة. قال ابن القاسم: فاختلف الناس
فيما نال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في كسر رباعيته وما أصيب به في وجهه،
فقال بعض الناس: أصابه بذلك عتبة ابن أبي وقاص، وقال بعضهم: أصابه ابن
قميئة.
قال محمد بن رشد: لما غزا كفار قريش النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
بالمدينة، وقد استمدوا بحلفائهم والأحابيش من بني كنانة، وخرجوا بنسائهم
لئلا يفروا عنهن ونزلوا قرب أحد على شفير الوادي مقابل المدينة، رأى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منامه أن في سيفه ثلمة وأن
بقرا له تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأولها أن نفرا من أصحابه
يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة، فأشار على
أصحابه ألا
(18/112)
يخرجوا إليهم وأن يتحصنوا بالمدينة، فإن
قربوا منها قوتلوا على أفواه الأزقة، ووافق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول، وأبى أكثر
الأنصار إلا الخروج إليهم ليكرم الله من شاء منهم بالشهادة. فلما رأى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزيمتهم دخل بيته فلبس لامته
وخرج، فندم قوم ممن كان ألح على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في الخروج وقالوا: يا رسول الله إن شئت فارجع، فقال رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما كان لنبي إذا لبس لامته أن
يضعها حتى يقاتل» فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
حتى نزل الشعب من أحد، فجعل ظهره إلى أحد ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم،
وتهيأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقتال وهو في
سبعمائة والمشركون في ثلاثة آلاف منهم مائتا فارس. فأمر رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الرماة عبد الله بن جبير ورتبهم خلف
الجيش وأمره أن ينضح المشركين لئلا يأتوا من ورائهم. وظاهر - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ بين درعين وقاتل الناس قتالا شديدا
ببصائر ثابتة، فانهزم المشركون واستمرت الهزيمة عليهم، فلما رأى ذلك الرماة
قالوا: قد هزم أعداء الله فما لقعودنا هاهنا معنى، فذكر أميرهم عبد الله بن
جبير أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياهم أن لا
يزولوا، فلم يلتفتوا إلى قوله وقاموا ثم كر المشركون فتولى المسلمون وثبت
من أكرمه الله بالشهادة، ووصل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقاتل دونه مصعب بن عمير حتى قتل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وجرح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في وجهه وكسرت
رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة رأسه، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وجازاه عن أمته أفضل ما جزى به نبيا من
(18/113)
أنبيائه عن صبره. وكان الذي تولى منه ذلك
عمرو بن قميئة، وعتبة بن أبي وقاص. وقد قيل إن عبد الله بن شهاب جد الفقيه
محمد بن مسلم ابن شهاب هو الذي شج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في جبهته، وأكتب الحجارة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى سقط في حفرة. وكان أبو عامر الراهب قد حفرها
مكيدة للمسلمين، فخر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على جنبه، فأخذ علي بيده
واحتضنه طلحة حتى قام، فتحدث المشركون أنه قتل، وزعم ذلك عمرو بن قميئة،
ولذلك سأل أبو سفيان عمر بن الخطاب عن ذلك على ما جاء في هذه الرواية،
وبالله التوفيق.
[الصلاة في سقائف مكة فرارا من حر الشمس]
في الصلاة في سقائف مكة فرارا من حر الشمس
وسئل مالك عن الرجل يصلي في السقائف بمكة من الشمس وبينه وبين الناس فرج،
قال: أرجو أن يكون ذلك واسعا، وليس كل الناس سواء، وحر مكة شديد. وقد وضع
عمر بن الخطاب ثوبه فسجد عليه من شدة الحر، فقيل له فإن رجلا يطيق أن يصلي
في الشمس ويحمل ذلك أترى أن يتقدم؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: خفف مالك للرجل أن يصلي وحده في السقائف ويترك التقدم إلى
الفرج التي في صفوف الناس لموضع الضرورة، ولو فعل ذلك من غير ضرورة لكان قد
أساء وصلاته تامة على المشهور من قول مالك.
وقد روى ابن وهب أن من صلى خلف الصفوف وحده أعاد أبدا، وذهب إلى ذلك جماعة
من أهل العلم لما جاء في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مما قد
ذكرناه في أول رسم شك في طوافه في هذا السماع من كتاب الصلاة. ولو كان معه
في السقائف غيره لم يكن منفردا فيها وحده لكانت صلاته جائزة بإجماع، وكلما
كثر عدد القوم الذين يكونون معه في السقائف
(18/114)
كانت الكراهية له معهم في الصلاة وترك
التقدم إلى الفرج التي في الصفوف أخف. فقد روى أشهب عن مالك في رسم الصلاة
الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة أنه سئل عمن دخل من باب المسجد فوجد
الناس ركوعا وعند باب المسجد ناس يصلون ركوعا وبين يديه الفرج أيركع مع
هؤلاء الذين عند باب المسجد أم يتقدم إلى الفرج؟ قال: أرى أن يركع مع هؤلاء
الذين عند باب المسجد فيدرك الركعة، إلا أن يكونوا قليلا فلا أرى أن يركع
معهم، ويتقدم إلى الفرج أحب إلي. وأما إذا كانوا كثيرا فأرى أن يركع معهم.
ففي هذا دليل على ما قلناه. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع في
كتاب الصلاة. والصلاة في السقائف بصلاة الإمام فرارا من الحر بخلاف الطواف
فيها فرارا من الحر. قال ابن القاسم في المدونة يعيد الطواف إن طاف فرارا
من الحر، فإن طاف فيها فرارا من زحام الناس فلا بأس بذلك، وبالله التوفيق.
[يطلق الأمة ثلاثا ثم يشتريها]
في الذي يطلق الأمة ثلاثا ثم يشتريها هل
تحل له بملك يمينه؟ قال مالك في حديث زيد بن ثابت في الذي يطلق الأمة البتة
واشتراها إنها لا تحل له، قال: فقد سئل عن ذلك غير واحد من أصحاب رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم، فكلهم يقول: لا تحل له.
قال محمد بن رشد: هذا هو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه أن
ما حرم بالنكاح حرم بالملك، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وإسحاق وأحمد.
وقال ابن عباس وطاووس والحسن: إذا اشتراها الذي بت طلاقها حلت له بملك
اليمين، لقول الله عز وجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]
(18/115)
وهو بعيد. قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ليس على عمومه، فكما تخصص من ذلك. ذوات المحارم
من النسب والرضاع فكذلك تخصص من ذلك المحرمات بالطلاق ثلاثا إلا بعد زوج،
لقوله عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . واختلف الصحابة ومن بعدهم هل
تحل لزوجها الذي طلقها ثلاثا بوطء سيدها إياها. روي أن عثمان بن عفان سئل
عن ذلك وعنده علي وزيد بن ثابت، [فرخص في ذلك عثمان وزيد بن ثابت] قالا هو
زوج، فقام علي مغضبا كارها لما قال، وقال: ليس بزوج، وهو قول عبيدة،
ومسروق، والشعبي، وإبراهيم، وجابر بن زيد، وسليمان بن يسار، وأبي الزناد؛
وعليه جماعة فقهاء الأمصار. وروي عن الزبير بن العوام مثل قول زيد بن ثابت
إن وطء السيد إياها يحلها لزوجها الذي بت طلاقها إذا وطئها وطئا لم يرد به
مخادعة ولا إحلالا. وقال عطاء: إن اشتراها الزوج فوطئها ثم أعتقها جاز له
نكاحها. وروي مثل هذا عن زيد بن ثابت، وروي عنه من وجوه أنها لا تحل حتى
تنكح زوجا غيره، وهو الصحيح عنه. وبالله التوفيق.
[سيرة معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري في قراءة القرآن]
في سيرة معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري في
قراءة القرآن وفضل معاذ بن جبل قال مالك: بعث رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذ بن جبل وعبد الله بن قيس وهو أبو موسى،
فقال معاذ لأبي موسى: ما فعلت بالقرآن؟ قال مالك: أراهم شغلوا بتعليم
الناس، فقال أبو
(18/116)
موسى: أما أنا فأتفوق القرآن تفوقا ماشيا
وراكبا وقاعدا، فقال معاذ أما أنا فأنام أول الليل وأقوم أخره وأحتسب نومتي
كما أحتسب قومتي. قال: وسمعت مالكا يقول: بلغني أن معاذ ابن جبل إمام
العلماء بربوه.
قال محمد بن رشد: في فعل أبي موسى جواز قراءة القرآن في الأسواق والطرق،
وقد اختلف في ذلك قول مالك، فكرهه في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب
الصلاة، وحكى ابن حبيب عنه من رواية مطرف إجازة ذلك واحتج بقول أبي موسى:
فأما أنا فأتفوقه تفوقا ماشيا وراكبا وقاعدا وعلى كل حال. ويدل على جواز
هذا أيضا ما وقع في الموطأ عن عمر بن الخطاب أنه كان في قوم وهم يقرؤون
القرآن فذهب لحاجته ثم رجع وهو يقرأ القرآن الحديث ". والكراهة في ذلك من
ثلاثة أوجه: أحدها تنزيه القرآن وتعظيمه بأن لا يقرأ في الطرق والأسواق لما
قد يكون فيها من الأقذار والنجاسات، والثاني أنه إذا قرأه على هذه الحال لم
يتدبره حق التدبر، والثالث أن يخشى ما يدخله في ذلك مما يفسد نيته، وهو
الذي يدل عليه استدلال مالك لذلك في هذا الرسم من كتاب الصلاة، لقول الله
عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] وبالله التوفيق.
(18/117)
[السفر في طلب العلم]
في السفر في طلب العلم قال مالك: وقد
كان الرجل يقدم من البلد إلى البلد يسأل عن علم القضاء.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لأن العلم لا يحصل إلا بالعناية
والملازمة والبحث والنصب، والصبر على الطلب، كما حكى الله عن موسى -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال للخضر {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ
صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] وأنه قال لفتاه: {لَقَدْ
لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] . وقال سعيد بن المسيب
إن كنت لأرحل في طلب العلم والحديث الواحد مسيرة الأيام والليالي، وبذلك
ساد أهل عصره، وكان يسمى سيد التابعين. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سلك طريقا يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى
الجنة» وبالله التوفيق لا شريك له.
[كراهية أن يقال الزيارة في البيت الحرام وفي قبر النبي]
في كراهية أن يقال الزيارة في البيت الحرام وفي
قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك: أكره أن يقال: الزيارة
لزيارة البيت، وأكره ما يقول الناس زرت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
وأعظم ذلك أن يكون النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يزار.
(18/118)
قال محمد بن رشد: ما كره مالك هذا، والله
أعلم، إلا من وجه أن كلمة أعلى من كلمة. فلما كانت. الزيارة تستعمل في
الموتى. وقد وقع فيها من الكراهة ما وقع كره أن يذكر مثل هذه العبارة في
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كما كره أن يقال أيام التشريق واستحب أن
يقال الأيام المعدودات كما قال الله عز وجل، وكما يكره أن يقال العتمة
ويقال العشاء الآخرة، ونحو هذا؛ وكذلك طواف الزيارة كما استحب أن يسمى
بالإفاضة كما قال الله عز وجل في كتابه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] فاستحب أن يشتق له الاسم من هذا. وقيل: إنه إنما
كره لفظ الزيارة في الطواف في البيت والمضي إلى قبر النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - لما للزائر من الفضل على المزور في صلته بزيارته إياه، ولا
يمضي أحد إلى قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليصله بذلك ولا لينفعه،
وكذلك الطواف بالبيت، وإنما يفعل ذلك تأدية لما يلزمه من فعله ورغبة في
الثواب على ذلك من عند الله عز وجل، وبالله التوفيق.
[وسم الدواب والغنم في وجوهها]
في كراهة وسم الدواب والغنم في وجوهها
قال مالك: لا بأس بالوسم للحمير والبغال إذا لم يكن في الوجه، فإنه يكره أن
يوسم في الوجه. قيل له: فالغنم في الأذن؟ قال: إنه يكره أن يوسم في الوجه.
قال ابن القاسم: وقد قال مالك قبل ذلك لا بأس به في الأذن.
قال محمد بن رشد: كره مالك أن توسم الدواب والإبل والبقر في وجوهها لنهي
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن المثلة، ولم ير به بأسا فيما عدا وجوهها
من أجسادها. ولما لم يكن إلى وسم الغنم في أجسادها سبيل من،
(18/119)
أجل أن الشعر يغشاها فتغيب السمة أجاز أن
توسم في آذانها للحاجة إلى سماتها، والمعنى في هذا بين.
[تفسير الصلاة الوسطى]
في تفسير الصلاة الوسطى وسئل مالك عن
تفسير هذه الآية فيما كانت تكتب عائشة وحفصة: حافظوا على الصلوات والصلاة
الوسطى وصلاة العصر، أهي صلاة العصر أو غير صلاة العصر؟ قال: بل هي غير
صلاة العصر.
قال محمد بن رشد: فيما جاء عن عائشة وحفصة من أن كل واحدة منهما أملت على
كاتب مصحفها حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر - بالواو على
العطف - دليل واضح في أن الصلاة الوسطى ليست صلاة العصر كما قال مالك،
والذي ذهب إليه أنها الصبح، ودليله عن ذلك أن قبلها صلاتين من الليل
مشتركتي الوقت وبعدها صلاتين من النهار مشتركتي الوقت، وهي واسطة فيما بين
ذلك منفردة بوقتها لا يشركها فيه غيرها من الصلوات؛ وأيضا فإنها صلاة
يضيعها الناس كثيرا لنومهم عنها وعجزهم عن القيام إليها، فخصت بالتأكيد
لهذه العلة. وقد قيل إنها العصر، وهو قول أكثر أهل العلم.
والحجة لهم ما روي من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يوم الخندق: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقلوبهم
نارا» كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي الصلاة التي فتن
عنها نبي الله سليمان بن داوود - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - حتى توارت الشمس
(18/120)
بالحجاب، قال الله عز وجل: {إِذْ عُرِضَ
عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31] {فَقَالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ
بِالْحِجَابِ} [ص: 32] إلى قوله {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ
وَالأَعْنَاقِ} [ص: 33] وقال من ذهب إلى هذا في قراءة عائشة وحفصة: وصلاة
العصر - بالواو - إن معنى ذلك وهي صلاة العصر، كقول الله عز وجل: {وَلَكِنْ
رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] . وقد روي عنها
والصلاة الوسطى صلاة العصر - بغير واو - على البدل.
وقد قيل إنها الظهر بدليل أنها تصلى في وسط النهار، وليس ذلك بصحيح، لأن
لفظ وسطى إنما يحتمل أحد معنيين: إما موسطة بين أخواتها من الصلوات، وإما
فاضلة، من قولهم كان فلان وسط القوم أي أفضلهم. قال الله عز وجل: {أُمَّةً
وَسَطًا} [البقرة: 143] أي خيارا عدولا. وقال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ}
[القلم: 28] أي أعدلهم وأفضلهم {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}
[القلم: 28] .
وقيل: إنها المغرب بدليل أنها ثلاث ركعات لا نظير لها من الصلوات.
وقيل: إنها الجمعة. ورأيت لبعض العلماء أنها العتمة فيما أظن، وهذا كله،
والله أعلم، على أن الله خصها بالذكر وأبهمها ليكون ذلك سببا للمحافظة
عليها كلها كليلة القدر، وبالله التوفيق.
(18/121)
[السلام بين الركعتين والركعة في الوتر]
في السلام بين الركعتين والركعة في الوتر
قال مالك: بلغني أن معاذا القارئ كان يوتر ويسلم في ركعتين.
قال محمد بن رشد: اختلف الناس في الوتر، فقيل إنها ركعة واحدة، وقيل: إنها
ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام، وقيل: إنها ثلاث ركعات يسلم في الاثنتين
منهن وفي أخراهن على ما جاء عن معاذ في هذه الحكاية. وذهب مالك إلى أنه
ركعة واحدة عقب شفع أدناه ركعتان على ما روي عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - من رواية ابن عمر أنه قال: «صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي
أحدكم الصبح صلى واحدة توتر له ما قد صلى» . وقد جرى به العمل عندنا بقرطبة
على قديم الزمان في الجامع وفي سائر المساجد في رمضان على ما جاء عن معاذ،
وبالله التوفيق.
[ما يستحب من تواضع الخلفاء]
فيما يستحب من تواضع الخلفاء قال مالك:
بلغني أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا إذا قدما من سفر ودنيا من
المدينة أردفا خلفهما غلامين. فقيل له فما الذي ترى أنهما أرادا بذلك؟ قال:
التواضع في رأيي وأن لا يكونا كغيرهما من الملوك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين: من تواضع لله رفعه الله وبه التوفيق.
(18/122)
[الصلاة في ثوب
واحد]
قال مالك: ولقد حدثني نافع أن عبد الله بن عمر كساه ثوبين، قال فدخل علي
وأنا أصلي في ثوب واحد، فقال له: فأين ثوبك؟ فقال له: تركته، فقال: فخذ
ثوبك فإن الله أحق من تجمل له.
قال محمد بن رشد: قد تقدم الكلام على هذا مستوفى في صدر رسم من مرض وله أم
ولد، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[العمل أثبت من الأحاديث]
في أن العمل أثبت من الأحاديث قال مالك:
أدركت بعض أهل العلم ممن كنت أقتدي به وهو يقول: إني لأراه ضعيفا لمن يخبر
بالشيء ويقول حدثني فلان، فلا يعجبني ما قال، لأن المعنى في ذلك من
الأحاديث.
قال محمد بن رشد: قوله إني لأراه ضعيفا لمن يخبر بالشيء، أي بالشيء فيما
استمر عليه العمل فيعوض ذلك بما عنده من الأحاديث. وقد مضى الكلام على هذا
مستوفى في أول رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة، فلا وجه لإعادته، وبالله
التوفيق.
[الحض على من يصحب ويستشار]
في الحض على من يصحب ويستشار وحدثني عمر
بن الخطاب قال: لا تصحب فاجرا لكي لا تتعلم من فجوره، ولا تفش إليه سرك،
وشاور في أمرك الذين يخافون الله. قال مالك: وأخبرني رجل عن ابن سيرين أنه
نزل به
(18/123)
شيء في خاصته وأمر رجلا أن يلقى فلانا
وفلانا ويستشيرهم له في ذلك وأمره ألا يستشير غيرهما، فقلت لمالك: رجاء علم
ذلك عندهما؟ قال: بل رجاء أن يتوقع في ذلك الأمر لفضلهما فرجاء بركة ذلك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين أنه لا ينبغي لأحد أن يصحب إلا من
يقتدى به في دينه وخيره، لأن قرين السوء يردي ويندم على اتخاذه خليلا. قال
الله عز وجل: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [فصلت:
25] الآية، وقال: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا
لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} [الفرقان: 27] {يَا
وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا} [الفرقان: 28] الآية.
وقيل إن هذه الآية نزلت في أبي بن خلف، كان يأتي النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - يقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا باتباعه يا ويلتى ليتني
لم أتخذ فلانا خليلا، هو عقبة بن أبي معيط، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ
جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا. وقد قال الحكيم:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتدي
ولا ينبغي لأحد أن يستشير في شيء من أموره إلا من يخاف الله من أهل الثقة
والأمانة مخافة أن يغشه ولا ينصحه. وينبغي له أن يتوخى في ذلك أهل الفضل
والدين تبركا بهم ورجاء أن يوفقوا فيما يشيرون به عليهم بفضلهم، وبالله
التوفيق.
[سن النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر]
في سن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأبي بكر وعمر قال مالك: بلغني أن أبا
بكر وعمر بلغا من السن سن النبي
(18/124)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - توفى وهو ابن ستين سنة، وأبو بكر وعمر ابني ستين
سنة.
قال محمد بن رشد: قد ذكر البخاري من رواية الزبير بن عدي عن أنس بن مالك
قال: توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثلاث
وستين سنة، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وعمر وهو ابن ثلاث وستين. وقد روى
حميد عن أنس قال: توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وهو ابن خمس وستين سنة. وروى عن ربيعة في الموطأ: أنه توفي وهو ابن ستين
سنة كما قال مالك في هذه الرواية. واختلفت الرواية في ذلك أيضا عن ابن عباس
فروي عنه أنه توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثلاث
وستين، وروي عنه أنه توفي وهو ابن خمس وستين سنة. ولم يختلف أهل العلم
بالأثر والسير في أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولد
عام الفيل إذ ساقته الحبشة إلى مكة يهدمون البيت.
واختلف في سنه يوم نُبِّئَ، فقيل أربعون، وقيل ثلاث وأربعون. واختلف أيضا
في مقامه بمكة بعد أن نُبِّئَ إلى أن هاجر منها إلى المدينة، فقيل عشر
سنين، وقيل ثلاث عشرة سنة.
فمن قال إنه نُبِّئَ وهو ابن أربعين وإنه أقام بمكة عشر سنين قال: إنه توفي
وهو ابن ستين؛ ومن قال إنه نُبِّئَ وهو ابن ثلاث وأربعين وأقام بمكة عشر
سنين، أو إنه نُبِّئَ وهو ابن أربعين وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة قال: إنه
توفي وهو ابن ثلاث وستين. والرواية بأنه توفي وهو ابن خمس وستين سنة تقتضي
أنه نُبِّئَ وهو ابن أكثر من أربعين وأنه أقام بمكة أكثر من عشر سنين. وأصح
ما في هذا، والله أعلم، أنه توفي وهو ابن ستين سنة على ما روى
(18/125)
ربيعة عن أنس في الموطأ، بدليل ما روي عن
عائشة أنها كانت تقول: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال لفاطمة ابنته في مرضه الذي مات فيه مما سارها به وأخبرت به عائشة بعد
وفاته، قالت عائشة: أخبرتني أنه أخبرها أنه لم يكن نبي كان بعد نبي إلا عاش
نصف عمر الذي كان قبله وأخبرني أن عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عاش عشرين ومائة سنة ولا أراني إلا ذاهبا على ستين» . وعن زيد
بن أرقم أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش الذي قبله» لأن ما قاله النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مبلغ سنه يقضي بصحة قول من قال من
أصحابه في ذلك كقوله، وبالله التوفيق.
[ثناء مالك على سليمان بن يسار وعبيد الله بن عتبة بن مسعود]
في ثناء مالك على سليمان بن يسار وعبيد الله بن
عتبة بن مسعود، وفي بر العالم وخدمته قال مالك: كان سليمان بن يسار
من علماء أهل هذه البلدة بالسنين، ولقد كان يكون في مجلسه، فإذا كثر الكلام
فيه قام منه وإنه لمجلسه، ولقد كان الناس يحبون الخلوة والانفراد من الناس،
ولقد كان أبو النضر يفعل ذلك في مجلس ربيعة، كان يأتي ربيعة فإذا كثر الناس
وكثر الكلام قام.
قال مالك كان عبيد الله بن عتبة بن مسعود من علماء الناس، وكان رجلا إذا
دخل في صلاته فقعد إليه أحد لم يقبل عليه حتى يفرغ من صلاته على نحو ما كان
يريد من طولها، وأن علي بن أبي حسين كان من أهل الفضل، وكان ربما جاءه فجلس
إليه فيطول في
(18/126)
صلاته ولم يلتفت إليه، فقال له علي بن حسين
وهو من هو منه، فقال لا بد لمن طلب هذا الأمر أن يعنى به. وقد كان ابن شهاب
يصحب عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود حتى إن كان لينزع له الماء.
قال محمد بن رشد: كان سليمان بن يسار يقوم من مجلسه إذا كثر الكلام فيه،
لأن كثرة الكلام إن كان في العلم خفي معه الصواب. والمراء في العلم لا تؤمن
فتنته، ولا تفهم حكمته؛ وإن كان في غير العلم فهو اللغط - الذي ينبغي أن
يتنزه عنه. وإنما كان عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود لا ينصرف من
صلاته لمن يجلس إليه حتى يتمها على ما كان نوى من طولها، لأنه إذا كان نوى
قدرا من الطول في الصلاة انبغى له أن لا يرجع عما نواه من ذلك إلا لعذر،
لأنه شيء وعد الله عز وجل به من نفسه فلا ينبغي لأحد أن يخلف وعده، فإن فعل
فقد بخس نفسه حظها، وإن كان لا إثم عليه في ذلك ولا حرج، لأن الذي يجب عليه
إنما هو أن يتمها ولا يقطعها لقول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . وقد قال في هذا المعنى فيمن افتتح صلاة
النافلة قائما هل له أن يتمها جالسا، فأجاز ذلك ابن القاسم ولم يجزه له
أشهب، وبالله التوفيق.
[تواضع الأمراء وما يستحب من فعل الخير]
في تواضع الأمراء وما يستحب من فعل الخير
قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعثمان بن
عفان كانا ينزلان بالمعرس، فإذا دنوا ليدخلا المدينة لم
(18/127)
يبق أحد منهم إلا أردف غلاما خلفه، وكان
عمر وعثمان يردفان، فقلت له: يا أبا عبد الله إرادة التواضع؟ قال: نعم،
والتماس أن يحمل الراجل، وذكر ما أحدث الناس من أن يمشوا غلمانهم وعاب
عليهم ذلك.
قال محمد بن رشد: في هذا تواضع الأمراء، ومن تواضع لله رفعه الله، وترك
احتقار يسير الأجر، لقول الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَهُ} [الزلزلة: 8] . وقد مضى هذا فوق هذا، وبالله التوفيق.
[أول من استقضى]
في أول من استقضى وسئل مالك من أول من
استقضى؟ فقال معاوية بن أبي سفيان، فقيل له: فعمر؟ فقال لا، فقال له رجل من
أهل العراق: أفرأيت شريحا؟ قال: كذلك يقولون. ثم قال لهم: كيف يكون هذا
أيستقضى بالعراق ولا يستقضى بغيرها؟ قالوا له: أما مكانه فكان يجري، قال
فالشام واليمن وغير ذلك من البلدان لم يستقض فيها واستقضى بالعراق، قال:
ليس كما تقولون.
قال محمد بن رشد: هذا بين من قول من قال إن معاوية لم ينقص قاضيا، وهو نحو
ما مضى في رسم تأخير صلاة العشاء في الحرس، وخلاف ما يدل عليه ما تقدم في
رسم طلق بن حبيب. وقد مضى الكلام على ذلك في الموضعين.
(18/128)
[لم يفرض
للمولود حتى يفطم]
في أن عمر كان لا يفرض للمولود حتى يفطم قال مالك: كان عمر لا يفرض للمولود
حتى يفطم، فسمع ليلة بكاء صبي فقال: ما له؟ فقالوا: أرادوا فطامه، فقال
عمر: كدت والذي نفسي بيده أن أقتله، ففرض للمولود بعد ذلك.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في المدونة أكمل منها هاهنا: قال كان
عمر لا يفرض للمولود حتى يفطم، فمر ليلة فسمع صبيا يبكي فقال: مالكم لا
ترضعونه؟ فقالوا: إن عمر لا يفرض للمولود حتى يفطم، وإنا فطمناه، فقال عمر:
قد كدت والذي نفسي بيده أن أقتله، ففرض من ذلك اليوم للمولود مائة درهم.
والمعنى في هذا بين منه فضل عمر وإشفاقه على رعيته وتوسعته عليهم في
العطاء، وبالله التوفيق.
[حمل عمر وعثمان الدرة والنهي عن القصص]
في حمل عمر وعثمان الدرة، والنهي عن القصص وفي أول من جعل المصحف وجعل
القاضي قال مالك: كان عمر وعثمان يحملان الدرة، فقيل له: لم؟ قال: يضربان
الناس. قال مالك: ولقد بلغني أن عثمان مر بقاص يقص لا أدري تميم يقص أو
غيره، فقال له: غدوة وعشية وعشاء قال: فضربه بالدرة وأنكر القصص [الذين] في
المساجد. قال: إن أول من جعل مصحفا الحجاج بن يوسف، وأول من جعل القاضي
معاوية.
(18/129)
قال محمد بن رشد: إنما كان عمر وعثمان
يحملان الدرة تواضعا منهما ليؤدبا بها بأنفسهما من استحق الأدب، كما فعل
عثمان بالقاص الذي أكثر القصص وذلك خلاف السنة، فقد «كان النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - يتخول الناس بالموعظة مخافة السآمة عليهم» . وقوله: وأنكر
القصص الذين في المساجد إنما هو من قول مالك في الحكاية لا من قول عثمان.
وقوله إن أول من جعل مصحفا، يريد أول من رتب القراءة في المصحف إثر صلاة
الصبح بالمسجد مثلما يصنع عندنا إلى اليوم. وقد مضى الكلام قبل هذا بيسير
فيمن أول من استقضى، وبالله التوفيق.
[كراهة التمضمض في المسجد]
في كراهة التمضمض في المسجد قال مالك
وذكر حديث القاسم بن محمد أن رجلا تمضمض وهو صائم والقاسم ينظر إليه ثم مجه
في المسجد، وهو شيء يفعله الناس أن يتمضمضوا قبل أن يفطروا، فعاب ذلك عليه.
فقيل له إنه بلغني فيه ما هو شر منه وكأنه يريد أن يحاجه، فقال القاسم: إن
ذلك ما لا يجد الناس منه بدا. ثم قال مالك: وليس الشيء الذي لا يجد الناس
منه بدا مثل الذي يجدون منه بدا.
قال محمد بن رشد: المعنى في كراهة ذلك بين، لأن الله عز وجل قال: {فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:
36] فينبغي أن ترفع وتنزه من أن يلقى فيها شيء مما يستقذر وإن كان طاهرا،
فلا يتمضمض ولا يتنخم فيها ولا يبصق فيها. وقد قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(18/130)
«التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن تواريه»
«ونهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل القملة في المسجد وأمر
بإخراجها منه» فلا يقتل الرجل القملة في المسجد ولا يطرحها فيه، فإن قتلها
أخرجها منه ولم يدفنها فيه لنجاستها، بخلاف التفل. وقتل البرغوث فيه أخف،
وبالله التوفيق.
[الصلاة في المقبرة]
في الصلاة في المقبرة
وسئل مالك عن الصلاة في المقبرة التي قد درست، قال: لا بأس بذلك. قيل له:
فبين القبور على الأرض؟ قال: لا بأس بذلك، إنما هي مثل غيرها من الأرضين.
قال ابن القاسم: ولا أرى بأسا أن تجمع الصلاة في وسط القبور المكتوبة
وغيرها. قال ابن القاسم: وقد أخبرني مالك أن أصحاب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يصلون في المقبرة.
قال محمد بن رشد: لما سئل مالك عن الصلاة في المقبرة التي قد درست فقال: لا
بأس بذلك، فقيل له: فبين القبور على الأرض، أي إذا لم تكن دارسة، قال: لا
بأس بذلك إنما هي مثل غيرها من الأرضين. فالصلاة في المقابر التي للمسلمين
على ظاهر هذه الرواية وما جاء في المدونة جائزة، عامرة كانت أو دارسة، وهو
نص قول ابن حبيب في الواضحة. وسواء على ظاهر هذه الرواية كان فيها نبش أو
لم يكن فيها نبش. وقال عبد الوهاب: إنما تجوز الصلاة فيها إذا لم يكن
[فيها] نبش. والاختلاف في هذا جار على الاختلاف في الميت هل ينجس بالموت أم
لا، وقد مضى الكلام على هذا
(18/131)
مستوفى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم
من كتاب الجنائز. والنهي الوارد عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن
الصلاة في المقبرة، من أهل العلم من لا يصححه، ومنهم من يصححه ويحمله على
عمومه في جميع المقابر، ذهب إلى هذا بعض أصحاب الحديث، ورأى مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - العمل مقدما عليه فقال: قد كان أصحاب رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يصلون في المقابر، على أصله في أن العمل مقدم على أخبار
الآحاد. وقال ابن حبيب في النهي معناه في مقابر المشركين لأنها من حفر
النار، وقوله أولى الأقوال، لأن العموم يحتمل الخصوص، فيخصص من عموم نهيه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في المقابر مقابر المسلمين
بعمل الصحابة، ويبقى الحديث محكما في مقابر المشركين. فإن صلى رجل في مقابر
المسلمين وفيها نبش أعاد في الوقت على القول بأن الميت ينجس، بالموت، وإن
صلى في مقابر المشركين العامرة أعاد في الوقت وبعده، جاهلا كان بأن الصلاة
لا تجوز فيها أو عالما بذلك، وإن كان ناسيا أو لم يعلم بأنها مقبرة
المشركين أعاد في الوقت على حكم المصلي بثوب نجس أو على موضع نجس، لأنها
تنجس بعمارتهم. هذا معنى قول ابن حبيب في الواضحة؛ وإن كانت دارسة فلا
إعادة عليه، وبالله التوفيق.
[ما كتب به عمر بن عبد العزيز من كسر معاصر الخمر]
فيما كتب به عمر بن عبد العزيز من كسر معاصر
الخمر قيل لمالك: بلغك أن عمر بن عبد العزيز كتب في كسر معاصر
الخمر؟ قال: نعم، قيل: معاصر المسلمين وأهل الذمة؟ قال: لا أرى ذلك إلا في
معاصر المسلمين.
قال محمد بن رشد: قوله في أن المعاصر التي كتب عمر بن عبد العزيز أن تكسر
لا أراها إلا في التي للمسلمين صحيح، لأن معاصر أهل
(18/132)
الذمة لا يجب كسرها عليهم، لأنهم إنما
بذلوا الجزية على أن يقروا في ذمتهم على ما يجوز لهم في دينهم، فلا يمنعون
من عصر الخمر إذا لم يظهروها في جماعة المسلمين. وقد مضى هذا في هذا الرسم
[من هذا السماع] من كتاب السلطان وفي رسم القبلة منه، وبالله التوفيق.
[بعض ما يحكى عن عيسى ابن مريم]
فيما يحكى عن عيسى ابن مريم أنه كان يقول وحدثني العتبي عن عيسى بن دينار
عمن حدثه أن عيسى ابن مريم كان يقول: إنكم لن تنالوا ما تريدون إلا بترك ما
تشتهون، ولن تبلغوا ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون، فطوبى لمن كان
نظره تعبدا ونطقه تذكرا وصمته تفكرا.
قال محمد بن رشد: هذا كله كلام صحيح قائم من كتاب الله عز وجل. وقوله: لن
تنالوا ما تريدون إلا بترك ما تشتهون قائم في غير ما آية من كتاب الله عز
وجل، من ذلك قوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]
{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] . وقوله ولن تبلغوا
ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون، قائم من غير ما آية أيضا، من ذلك قوله
عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
[الزمر: 10] ، وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب:
35] إلى قوله {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} [الأحزاب: 35] إلى قوله
{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] . وأمر الله عز وجل
بالاعتبار بمخلوقاته في غير ما آية من كتابه فقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا
أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وقال
(18/133)
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي
الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] ومن مثل هذا كثير. وأمر بالتفكر فقال:
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:
191] .
انتهى السادس والحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
(18/134)
|