البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب الجامع الخامس] [زهد
طلق بن حبيب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب الجامع الخامس ومن كتاب طلق بن
حبيب حكاية عنه قال مالك: بلغني أن طلق بن حبيب، جلس إليه رجل ومعه الناس
فدعا فذكر، فلما أراد أن يقوم قال: إنكم لن تستبقوا من أنفسكم باقيا، وإنكم
لم تلوذوا من الدنيا بمنيع، وإن مجلسكم هذا آخر مجلس تجلسون من الدنيا،
وكذلك الدنيا حتى تنقضي المجالس.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه جلس للناس يعظهم ويذكرهم، فكان من آخر
قوله لهم حين أراد أن يقوم: إنكم لن تستبقوا من أنفسكم باقيا، وإنكم لم
تلوذوا من الدنيا بمنيع يريد أنهم أتعبوا أنفسهم في طلب الدنيا، واستنفذوا
جهدهم في ذلك ولم يحصلوا منها على طائل.
وأما قوله: وإن مجلسكم هذا آخر مجلس تجلسون من الدنيا، فالمعنى في ذلك عندي
والله أعلم أنه كره لنفسه جلوسهم إليه ليعظهم ويذكرهم، وعزم ألا يعود إلى
ذلك، فقال لهم: إن هذا المجلس آخر مجلس تجلسون فيه إلي، وكذلك أمور الدنيا
كلها إلى انقراض وتمام، وبالله التوفيق.
(17/523)
[الشرط يبعثون
في الأمر يكون بين الناس بجعل في أموالهم]
في الشرط يبعثون في الأمر يكون بين الناس بجعل
في أموالهم قال مالك: كان زياد بن عبيد الله يبعث شرطا في الأمر يكون بين
الناس في المناهل ويجعل لهم في أموالهم جعلا فنهيته عن ذلك وقلت: إنما هذا
على السلطان يرزقهم، فقيل له: فإن أمير المؤمنين جعل لمن ولي عليهم شركا
معهم فيما اشتروا، قال: ما أشرت به ولا أمرته بذلك، ثم قال: إن هناك أمورا
يخاف منها ما يخاف، وفسر فيها تفسيرا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن الواجب أن يجعل للشرط المتصرفين بين أيدي
القضاة في أمور الأحكام رزق من بيت المال؛ لأن ذلك من المنافع التي تعم
الناس، فإن لم يفعل كان جعل الغلام المتصرف بين الخصمين على الطالب في
إحضار خصمه المطلوب، إلا أن يلد المطلوب ويختفي ويغيب تعنتا بالطالب فيكون
الجعل في إحضاره عليه.
وأما أن يجعل لمن ولي على أهل السوق شركا معهم فيما اشتروا فالمكروه فيه
بين، وذلك أنه إذا كان له معهم شرك فيما اشتروا سامحهم في الفساد لما له
فيه من النصيب، وقال هاهنا: فإن أمير المؤمنين، وقال في كتاب السلطان: فإن
صاحب السوق وهو الصحيح والله أعلم.
[التحدث عن بني إسرائيل]
في التحدث عن بني إسرائيل وسئل مالك عما
ذكر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحدثوا عن بني
إسرائيل ولا حرج» ، قال: لم أسمع به من ثبت، فأما ما كان من كلام حسن فلا
بأس.
قال محمد بن رشد: ذكر الطحاوي هذا الحديث عن عبد الله بن
(17/524)
عمرو بن العاص أنه قال: سمعت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن
بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» ، وقال:
إن معنى قوله: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» أي ولا حرج في ترك الحديث
عنهم، فأباح أن يتحدث عنهم؛ إرادة أن يعلموا ما كان فيهم من العجائب؛ لأن
الأنبياء كانت تسوسهم كلما مات نبي قام نبي ليتعظوا بذلك، ورفع الحرج عنهم
في ترك التحدث بخلاف التحدث عنهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛
لأنه أخذ الميثاق عليهم في التبليغ عنه، فقال: «بلغوا عني ولو آية» ،
وتأويله خلاف تأويل مالك له في هذه الرواية؛ لأن الظاهر من قوله أنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح التحدث عنهم بما يذكر أنه كان
فيهم من العجائب وإن لم يأت ذلك بنقل العدل من العدل إذا كان من الكلام
الذي لا يدفعه العقل؛ إذ ليس تحته حكم فيلزم التثبت في رواته وبالله
التوفيق.
[ترك قبول العطاء]
في ترك قبول العطاء قال مالك: لما قدم
ربيعة بن أبي عبد الرحمن على أبي العباس أمر له بجارية فأبى أن يقبلها،
فأعطاه خمسة آلاف درهم يشتري بها جارية حين أبى أن يقبلها، فأبى أن يقبلها
ورأيت ابن القاسم يعجبه فعل ربيعة ويستحسنه.
قال محمد بن رشد: لما أبى أن يقبل الجارية تأول عليه أنه إنما أبى من
قبولها مخافة ألا تكون خلصت لبيت المال بوجه صحيح، فأمر له
(17/525)
بالدراهم التي لا تتعين، فأبى من قبولها
أيضا.
واستحب ذلك ابن القاسم. من فعله؛ لأن العباس لم يكن من أئمة العدل الذي
مجباه حلال والمجبى إذا كان يشوبه حلال وحرام فأكثر أهل العلم يكرهون الأخذ
منه، ومن أهل العلم من يكره الأخذ من المجبى الحلال إذا لم يعدل في قسمه،
وأما إذا عدل في قسمه فلا بأس بالأخذ منه وتركه أفضل؛ لقول النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن خيرا لأحدكم أن لا يأخذ من أحد شيئا، قالوا:
ولا منك يا رسول الله، قال: ولا مني» ؛ لأن من ترك حقه فيه، ولم يأخذه فقد
أثر به غيره ممن يعطاه على نفسه، فله أجر ذلك، وبالله التوفيق.
[ما لا يجب فيه الحد من التعريض]
في ما لا يجب فيه الحد من التعريض
وحدثني أن مروان بن الحكم جلد رجلا الحد قال لرجل: إن أمك لتحب الظلم فجلده
الحد، قال ابن القاسم: قال مالك: ليس عليه العمل.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير مالك عليه العمل؛ إذ ليس عنده بتعريض بين
لاحتمال أن يريد أنها تحب الظُّلَم لئلا يبدو قبح صورتها أو سماجة هيئتها
وما أشبه ذلك من المعاني التي لا يراد بها الزنى، وقد مضى هذا في هذا الرسم
من هذا السماع من كتاب الحدود في القذف وبالله التوفيق.
[النبيذ الذي يعمل في السقاية]
في النبيذ الذي يعمل في السقاية وقال
لمالك رجل من الحجبة: إنه يقال: إن النبيذ الذي
(17/526)
يعمل في السقاية من السنة، فقال: لا والله،
يريد ما هو من السنة، فقيل له: إنه قد كان على عهد أبي بكر وعمر، وقال: ما
كان على عهدهما، ولو ذكرت لكلمت أمير المؤمنين حين قدم علينا فيه، يقول:
ليقطعه، وكرهه كراهية شديدة.
قال محمد بن رشد: قد أنكر مالك أن يكون ذلك من السنة وأقسم على ذلك أن يكون
على عهد أبي بكر وعمر، فكفى بقوله في ذلك حجة، واتباع رأيه في ذلك صواب
ورشاد؛ لأن الرشد في إتباع السنة والأمر الماضي، وقد مضى هذا في هذا الرسم
من هذا السماع من كتاب الحج، ومالك يكره للرجل شرب النبيذ وإن كان حلالا؛
مخافة الذريعة، ولئلا يعرض بنفسه سوء الظن، فكيف بعمله في السقاية، وبالله
التوفيق.
[حكاية عن زيد بن أسلم]
قال مالك: واستعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم، وكان معدنا لا يزال يصاب
فيه الناس من قبل الجن، فلما وليهم شكوا ذلك إليه، فأمرهم بالأذان وأن
يرفعوا أصواتهم به، ففعلوا وارتفع ذلك عنهم، فهم عليه حتى اليوم، وأعجبني
ذلك من مشورة زيد بن أسلم.
قال محمد بن رشد: إنما أمرهم زيد بن أسلم بذلك لما جاء في الحديث من أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نودي للصلاة
أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع النداء، فإذا قضى النداء أقبل حتى إذا
ثوب بالصلاة أدبر» .. الحديث، فهو منه اهتداء حسن لما يذهب به ضرر
(17/527)
الجن عن أهل ذلك المعدن، ولذلك أعجب مالكا
ذلك من مشورته به وبالله التوفيق.
[ما يحذر من تغير الزمان]
فيما يحذر من تغير الزمان قال مالك:
بلغني أنه يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا دعاء الغرق.
قال محمد بن رشد: هذا هو الزمان الذي لا يؤمر فيه بمعروف ولا ينهى فيه عن
منكر الذي أنذر به النبي عليه السلام والله أعلم، روي عن أنس بن مالك، قال:
«قيل يا رسول الله: متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: إذا
ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، قيل: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهر
الادهان في خياركم، والفاحشة في شراركم، وتحول الملك في صغاركم، والفقه في
أراذلكم» ، وبالله التوفيق.
[فتح خيبر]
في افتتاح خيبر
قال مالك: حدثني ابن شهاب، أن خيبر كان بعضها عنوة وفيها أربعون ألف عذق،
وبعضها صلحا، والكتيبة أكثرها عنوة وفيها صلح، وقد كتب أمير المؤمنين أن
تقسم مع صدقات النبي عليه السلام، فهم يقسمونها في الأغنياء والفقراء، فقيل
له: أفترى ذلك؟ قال: لا، ولكن أرى أن يؤثر بها الفقراء.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم نذر سنة وفي ذكر غزوة
(17/528)
خيبر في رسم البز، وفي غيره من المواضع
القول في افتتاح خيبر فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[تخيير عمرأزواج النبي عليه السلام بين الإقطاع
أو الإنفاق]
في تخيير عمر أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
بين الإقطاع أو الإنفاق قال مالك: خير عمر بن الخطاب نساء النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجري عليهن نفقتهن أو يقطع لكل واحدة منهن
قطيعا من الأرض، فكانت عائشة وحفصة قد اختارتا أن يقطع لهما فقطع لهما عمر
بن الخطاب بذلك في الغابة.
قال محمد بن رشد: إنما خير عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أزواج
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما خيرهن فيه؛ لأن النفقة كانت لهن واجبة
بعد موت النبي عليه السلام فيما أفاء الله عليه من بني النضير، وفدك، وسهمه
بخيبر بقوله عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ
فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6] . كما كانت تجب لهن في
حياته من أجل أنهن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - محبوسات عليه ليكن أزواجه
في الجنة، محرمات على غيره، يبين ذلك قوله عليه السلام: «لا يقتسم ورثتي
دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عائلي فهو صدقة» ، فكان أبو بكر
الصديق بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يلي ما أفاء الله على النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك بما كان يليه هو - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته، فكان ينفق منه على عياله ويجعل ما
بقي في الكراع والسلاح، وفي
(17/529)
هذه الولاية تخاصم إليه علي والعباس ليليها
كل واحد منهما بما كان يليها به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -،، ثم سار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد أبي بكر في ذلك
بسيرة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأبي بكر، غير أنه خير أزواج النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما تخترنه من إقطاع الأرض أو إجراء الإنفاق وقد
مضى هذا في رسم جامع البيوع من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع، وبالله
التوفيق.
[الاستعاذة من الجار السوء]
في الاستعاذة من الجار السوء قال مالك:
وكان يقال اللهم إني أعوذ بك من جار سوء في دار إقامة.
قال محمد بن رشد: المحنة بالجار السوء عظيمة، وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - أن الدار ترد من سوء الجوار فالاستعاذة بالله منه واجبة.
[غلظة مروان بن الحكم في الحد]
في غلظة مروان بن الحكم في الحد وسئل
مالك عن الذي جلده مروان الحد حين قال للرجل: أمك تحب الظلم أترى فيه الحد؟
قال: لا أرى ذلك عليه، ولقد كان مروان ينتزع ثنية الرجل؛ يقبل المرأة فينزع
ثنيته لذلك.
قال محمد بن رشد: أما حد القذف في التعريض بقول الرجل للرجل: إن أمك لتحب
الظلم فله وجه، وإن كان مالك لا يرى ذلك ولا يأخذ به على ما تقدم من قوله
قبل هذا في هذا الرسم، وأما نزع ثنية الرجل إذا قبل المرأة فلا وجه له
بوجه، وقد أنكره مالك عليه، وبالله التوفيق.
[دعاء الرجل بالموت]
في دعاء الرجل بالموت
قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز دعا رجلا فقال:
(17/530)
ادع لي بالموت، فقال الرجل: وأنت فادع لي
به، فقال عمر للرجل: لِم لَم تدع لي بالموت وأنت مخلى؟ فقال: إني أحب ذلك،
قال: فدعوا فمات عمر ولم يمت الرجل، وبقي فكان الرجل يقول بعد ذلك: إن عمر
بن عبد العزيز كان صادقا يريد الموت، وإني لم أكن صادقا.
قال سحنون قال ابن القاسم: قال لي مالك: والرجل رجل من أهل الشام كان له
فضل، قال مالك: إني لأقول إن عمر بن الخطاب كان يحب ما يحب الناس من البقاء
في الدنيا والمال والنساء، ولكنه خاف العجز فلذلك دعا الله اللهم اقبضني
إليك غير مفرط ولا عاجز.
قال محمد بن رشد: ما قاله مالك في قول عمر بن الخطاب اللهم اقبضني إليك غير
مفرط ولا عاجز من أنه إنما دعا بذلك مخافة الغير في الدين مثلُه يقال في
دعاء عمر بن عبد العزيز على نفسه بالموت: إنه إنما دعا بذلك لما كان امتحن
به من أمر الخلافة فخشي على نفسه التقصير فيما يتعين عليه في أمرها فيقع في
الحرج، فإنما فر من الإثم بطول الحياة، ولا يجوز لأحد أن يدعو لنفسه بالموت
من أجل ضر نزل به، فقد جاء النهي في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،
روي عنه أنه قال: «لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، وليقل اللهم أحيني ما
كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» وبالله تعالى
التوفيق.
(17/531)
[الأسير في قول الله عز وجل وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]
في الأسير في قول الله عز وجل
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا
وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]
هل هو مسلم أو مشرك؟ وسئل مالك عن قول الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]
الأسير هل مسلم أو مشرك؟ قال: بل مشرك، وقد كان ببدر أسارى فأنزلت فيهم هذه
الآية: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67]
وكانوا مشركين وقد افتدوا ورجعوا، ولو كانوا مسلمين قاموا ولم يذهبوا.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في المراد بالأسير في قوله: {وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]
فقيل: الأسير هو الحربي من أهل دار الحرب يؤخذ قهرا بالغلبة، والمسلم يحبس
في حق، فأثنى الله تبارك وتعالى على الأبرار الذين يطعمون الطعام على حبهم
إياه هؤلاء الأصناف، وقيل: المراد الأسير الحربي الكافر يؤسر، وقيل: المراد
به المسجون من أهل القبلة، والأظهر أن يحمل على كل أسير كان من أهل
الإسلام، أو من أهل الكفر، وبالله التوفيق.
[المقصورة في الجامع]
في المقصورة في الجامع قال مالك: أول من
جعل مقصورة مروان بن الحكم حين طعنه اليماني، قال فجعل مقصورة من طين وجعل
فيها تشبيكا.
قال محمد بن رشد: وجه قوله الإعلام بأن المقصورة محدثة لم
(17/532)
تكن على عهد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
ولا على عهد الخلفاء بعده، وإنما أحدثها الأمراء للخوف على أنفسهم، وقد
قيل: إن معاوية بن أبي سفيان هو أول من اتخذ المقاصير في الجوامع، وأول من
أقام على نفسه حرسا، وأول من قيدت بين يديه الجنائب، وأول من اتخذ الخصيان
في الإسلام، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مرقاة، فاتخاذها في الجوامع
مكروه، فإن كانت ممنوعة تفتح أحيانا وتعلق أحيانا فالصف الأول هو الخارج
عنها اللاحق بها، وإن كانت مباحة غير ممنوعة فالصف الأول هو اللاحق بجدار
القبلة داخلها، روى ذلك عن مالك.
وقوله: وجعل فيها تشبيكا يريد تخريما يرى منه ركوع الناس وسجودهم للاقتداء
بهم، وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله
التوفيق.
[الطلوع على منبر النبي عليه السلام بخفين]
في الطلوع على منبر النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - بخفين قال مالك: استشارني بعض ولاة المدينة أن
يطلع منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخفين ونهيته
عن ذلك، ولم أر أن يطلعه بخفين، فقيل له: فالكعبة؟ فقال: إن بعض هؤلاء
الحجبيين ممن قدم علينا يذكر أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى أن يطلع
أحد الكعبة بنعلين، فقيل له: فالرجل يجعلهما في حجرته؟ فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من كراهيته أن يطلع أحد منبر النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - بخفين أو نعلين للإمام أو غير الإمام، وأن يدخل
أحد البيت بنعلين أو خفين؛ إكراما لهما وترفيعا وتعظيما، إذ من الحق أن
ينزها عن أن يوطأ بالخفاف والنعال المتخذة لصيانة القدمين عن المشي بهما
(17/533)
في الطرق والمحاج وإن كانت طاهرة، ولم ير
ابن القاسم بأسا في المدونة أن يدخل بهما في الحجر، وكره ذلك أشهب في
المجموعة؛ لأن الحجر من البيت، قال: وكراهيتي لذلك في البيت أشد وقد مضى
هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج، وبالله التوفيق.
[عدة من قتل وأسر من المشركين يوم بدر]
في عدة من قتل وأسر من
المشركين يوم بدر قال مالك: بلغني أن قتلى بدر كانوا شبيها بمن أسر منهم،
كان من قتل منهم بضعة وأربعين، ومن أسر كذلك بضعة وأربعين، وكان فداؤهم
مختلفا لم يكن شيئا واحدا كان بعضهم في ذلك أكثر من بعض.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن القتلى كانوا سبعين، والأسرى سبعين، وقد قال
ابن عبد البر في كتاب الدرر له: لا يختلفون أن القتلى يومئذ سبعون والأسرى
سبعون في الجملة، وقد يختلفون في تفضيل ذلك، وقد سمى أهل السير الأسرى منهم
والقتلى ومن قتل كل واحد منهم وإن كانوا يختلفون في بعضهم، وبالله التوفيق.
[ما روي عن حذيفة في قتل عثمان رضي الله عنه]
فيما روي عن حذيفة في قتل
عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال وحدثنا مالك: وقال معاوية من يحفظ
حديث حذيفة؟
فقال عبد الرحمن بن غنم، فقال: كيف كان يقول؟ قال: اللهم إني لم أشارك
غادرا في غدرته، وإني أعوذ بك من صباح السوء، قال مالك: أراه يعني الموت،
فقال معاوية: كذب قد أعان على قتل عثمان، فقال ابن الأسود: دعوه فهو أعلم
بما يتكلم به، قال له معاوية: وأنت قد أشركت في دمه، قال: أما أنا فنهيته
عما قيل
(17/534)
فيه، فأنت أسلمته حين احتاج إليك، قال:
فثنى معاوية برجله فدخل.
قال محمد بن رشد: حذيفة بن اليمان من فضلاء الصحابة يعرف فيهم بصاحب سر
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان عمر ابن الخطاب
يسأله عن المنافقين وينظر إليه عند موت من مات منهم فإن لم يشهد جنازته
حذيفة لم يشهدها عمر، وخيره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بين الهجرة والنصرة فاختار النصرة، فليس ممن يتهم في أنه أعان على قتل
عثمان، ولا يتهم في ذلك أحد أيضا من المهاجرين ولا الأنصار، روي عن الحسن
أنه قيل له: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟ قال: لا كانوا
أعلاجا من أهل مصر، ولولا أنه منعهم من الدفاع عنه والقتال دونه لفعلوا،
روي عن محمد ابن سيرين أنه قال: انطلق الحسن والحسين، وابن عمر، وابن
الزبير، ومروان بن الحكم كلهم شاك في السلاح حتى دخلوا الدار، فقال
(17/535)
عثمان: أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم
أسلحتكم ولزمتم بيوتكم، فخرج ابن عمر والحسن والحسين، وقاك ابن الزبير
ومروان: ونحن نعزم على أنفسنا ألا نبرح ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وروي
عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال: لو أن أحدا ارفض لما فعل بابن
عفان كان محقوقا وهو كما قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه كان حدثا
عظيما لم يجر في الإسلام مثله.
وإنما منع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الدفاع عنه والقتال دونه لعهد كان
عنده في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، روي «عن عائشة قالت: قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادع لي بعض أصحابي، فقلت:
أبو بكر؟ فقال: لا، فقلت: عمر؟ قال: لا، فقلت ابن عمك علي؟ قال: لا، فقلت
له عثمان بن عفان؟ قال: نعم، فلما جاء قال لي بيده، فتنحيت فجعل رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يساره ولون عثمان يتغير، فلما كان
يوم الدار وحصر، قيل له: ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عهد إلي عهدا وأنا صابر نفسي عليه» وبالله
التوفيق.
[شرب الفلونية والترياق للمحرم]
في شرب الفلونية والترياق للمحرم وسئل
مالك عن شرب الفلونية والترياق للمحرم وفيها الزعفران، قال: لا بأس به،
والذي فيه من الزعفران ليس له قدر، لا يرى، وما أرى به بأسا، قال مالك حين
ذكر شرب
(17/536)
الترياق للمحرم: أشد من هذا عندي ما يصيب
الناس في إحرامهم من طيب البيت وخلوقه، كأنه يرى أن لهم في ذلك سعة وأنه
أمر لا يستطاع، يقول: فكيف يصنعون؟
قال محمد بن رشد: إنما جاز للمحرم شرب الفلونية والترياق؛ لأن الذي فيهما
من الزعفران يسير لا قدر له ولا يظهر فيهما فلم ير له حكما لما كان مستهلكا
فيهما، كما أن لبن المرأة عنده إذا خلط بالطعام وعصد به حتى صار هو الغالب
عليه لم يقع به حرمة، فليس ذلك بخلاف لما في المدونة وغيرها من أن المحرم
لا يأكل الطعام الذي فيه الزعفران إلا أن يكون قد مسته النار، قال ابن حبيب
فتعلك بالطعام حتى صار لا يصبغ اليد ولا الشفة لهذه العلة ولمعنى آخر أيضا
وهو أن الفلولنية والترياق إنما يشربان لضرورة التداوي، فليس بمنزلة الطعام
الذي يؤكل من غير ضرورة، يدل على هذا التعليل تقييد مالك ذلك بما يصيب
الناس في إحرامهم من طيب الكعبة وخلوقها؛ لأنهم مضطرون إلى ذلك فأشبه ضرورة
التداوي، وبالله التوفيق.
[تحديد عمر الحرم وموضع المقام من البيت]
في تحديد عمر الحرم وموضع المقام
من البيت
قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب هو الذي حد علم الحرم وأنه حين أراد أن
يحده أرسل إلى ناس كانوا يدعون في الجاهلية أهل معرفة بذلك الموضع، فسألهم
عن ذلك فحددوها ووضعوا أنصابها.
قال مالك: كان المقام ملتصقا بالبيت، وكان الطواف من ورائه، وإنما ألصق
لمكان السيل خيف عليه منه فقدم، فلما ولي عمر ابن الخطاب أخرجه إلى هذا
الموضع، وهو موضعه الذي كان
(17/537)
فيه في الجاهلية، وأنه وجد خيوطا كان قد
قيس بها موضعه حين هدم فقاسه بها حتى رده إلى موضعه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم هذا في رسم اغتسل ومثله في المدونة بمعناه، وفيه
الفضيلة لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما تهمم به من ذلك
وصنعه، وبالله التوفيق.
[ما يختار للراعف من البناء أو القطع]
فيما يختار للراعف من
البناء أو القطع قال: وقد كان بعض أهل العلم يقول: لأن أتكلم وأبتدِي أحب
إلي من ألا أتكلم وأبني، قال: فكيف يعمل؟ لا يتكلم في وضوئه وينصت في ذلك
كله!!! ورأيه أن يتكلم ويبتدي.
قال محمد بن رشد: ليس البناء في الرعاف بواجب، وإنما هو من قبل الجائز، وقد
اختلف في المختار المستحب من ذلك، فاختار ابن القاسم القطع، وهو قول بعض
أهل العلم في هذه الرواية: لأن أتكلم وأبتدى أحب إلي من ألا أتكلم وأبني،
وهو القياس، فإن ابتدأ ولم يتكلم أعاد الصلاة.
واختار مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - البناء على الاتباع للسلف بأن خالف ذلك
القياس والنظر، وهذا على أصله في أن العمل أقوى من القياس؛ لأن العمل
المتصل لا يكون أصله إلا عن توقيف، وهو قوله في هذه الرواية: إنه لا يتكلم
في وضوئه وينصت في ذلك كله.
وقوله في آخر الكلام: ورأيه أن يتكلم ويبتدئ هو من قول مالك حكاية عما
اختاره بعض أهل العلم على ما حكي عنه، وقد ذكر ابن حبيب ما دل على وجوب
البناء، وهو قوله: إن الإمام إذا رعف فاستخلف بالكلام جاهلا أو متعمدا بطلت
صلاته وصلاتهم، فجعل قطعه صلاته بالكلام بعد
(17/538)
الرعاف يبطل صلاتهم كما لو تكلم جاهلا أو
متعمدا بغير رعاف، والصواب ما في المدونة أن صلاتهم لا تبطل؛ لأنه إذا رعف
فالقطع له جائز في قول، ومستحب في قول، فكيف تبطل صلاة القوم بفعله ما يجوز
له أو ما يستحب له؟ وبالله التوفيق.
[تفسير قول الله عز وجل وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ]
في تفسير قول الله عز وجل {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17]
وقول أم سليم للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
يوم حنين وسئل عن قول الله تعالى وتبارك: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، قال في حصب رسول الله المشركين
يوم حنين.
قال مالك: «وقالت له أم سليم ذلك اليوم من يا رسول الله يضرب رقاب هؤلاء
المنهزمين؟ وهي قابضة بعنان بغلته، قال: أويأتي الله عز وجل يا أم سليم
بخير من ذلك» قال مالك وكانت عائشة مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يوم الخندق.
قال محمد بن رشد: قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول الله عز وجل:
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] إن
ذلك في حصب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين يوم
حنين صحيح لا اختلاف فيه من أهل العلم بالتفسير، ولم ينف الله عنه عز وجل
الرمي جملة وإن كان الله عز وجل هو الفاعل له الخالق لكل شيء، قال الله عز
وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] ؛ لأن للنبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيه الكسب الذي يثاب عليه ويسمى
(17/539)
به راميا حقيقة لا مجازا، وإنما الذي نفي
عنه جملة الانتفاع الذي كان عن الرمي فانهزم به المشركون، وذلك رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما واجهه العدو يومئذ صاح بهم صيحة
وأخذ حصى أو ترابا ورمى بها في وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق منهم
أحد إلا دخلت الحصاة والتراب في عينيه، فلم يملكوا أنفسهم ورجعوا على
أعقابهم، ونادى مناديه يا آل المهاجرين يا آل الأنصار، فما تكامل المسلمون
بالرجوع إليه إلا وأسرى المشركين بين يديه.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم سليم: «أويأتي الله بخير
من ذلك يا أم سليم» إذ قالت له ما قالت يريد ما فعله رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدعاء إلى الله عز وجل بإنجاز ما وعده به
من النصر، وكذلك فعل، رفع يديه إلى الله عز وجل يدعو يقول «اللهم أسألك ما
وعدتني» ونادى أصحابه وقبض قبضة من الحصى فحصب بها وجوه المشركين ونواحيهم
كلها، وقال: «شاهت الوجوه» وأقبل إليه أصحابه سراعا يبتدرون، فقال - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الآن حمي الوطيس» فهزم الله أعداءه من كل
ناحية، حصبهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعهم المسلمون
يقتلونهم، وغنمهم الله نسائهم وذراريهم وشاءهم وإبلهم، وفي ذلك قال الله عز
وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:
17] الآية، وقال عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ
كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25] الآية، إلى
قوله: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 26] .
وفيما ذكره شهود النساء الغزوات ليخدمن الغزاة ويسقين الماء ويداوين
الجرحى، ولا لسهم لهن من الغنيمة ولا للصبيان ولا للعبيد، واختلف أهل العلم
هل يرضخ لهم من الغنيمة على غير وجه قسم، فلم ير ذلك
(17/540)
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذهب ابن حبيب
إلى أن ذلك مما يستحب للإمام أن يفعله، وهذا على الاختلاف هل للإمام أن
ينفل من جملة الغنيمة وقد مضى الكلام على هذا في ذكر غزوة حنين من رسم
البز، وبالله تعالى التوفيق.
[أول من استقضي]
في أول من استقضي قال مالك: ما استقضى
أبو بكر ولا عمر ولا عثمان قاضيا وما كان ينظر في أمور المسلمين غيرهم حتى
كان بعد.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم من قوله قبل هذا في رسم سئل عن تأخير
صلاة العشاء في الحرس، من أن أول من استقضى معاوية يريد والله أعلم أنه أول
من استقضى في موضعه الذي كان فيه؛ لاشتغاله بما سوى ذلك من أمور المسلمين
كبعث البعوث وسد الثغور وفرض العطاء وقسم الفيء وما أشبه ذلك، فقد ولى عمر
بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما ذكر قضاء البصرة أبا مريم
الحنفي، ثم عزله وولى كعب بن سور اللقطي، فلم يزل قاضيا حتى قتل عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وولى شريحا قضاء الكوفة، يدل على صحة تأويلنا هذا
في هذه الرواية، قوله فيها: " وما كان ينظر في أمور المسلمين غيرهم، إذ لا
يصح أن ينظروا هم بأنفسهم في أمور المسلمين إلا في مواضعهم التي هم فيها
إلا فيما بعد من البلاد "، والذي مضى من قوله في رسم تأخير العشاء المذكور،
ويأتي في رسم المحرم ما يرد هذا التأويل ويدفعه، وبالله التوفيق.
[بركة اسم النبي عليه السلام]
في بركة اسم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: سمعت أهل مكة يقولون: ما
من أهل بيت فيهم اسم محمد إلا رزقوا، ورزق خيرا.
(17/541)
قال محمد بن رشد: يحتمل أن يكونوا عرفوا
ذلك بكثرة التجربة له، وأن يكون عندهم في ذلك أثر مروي وبالله تعالى
التوفيق.
[وصية عمر من كان رزق له في شيء أن يلزمه]
في وصية عمر من كان رزق له في شيء أن يلزمه
قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: من كان له رزق في شيء فليلزمه.
قال محمد بن رشد: ما حض عمر على هذا والله أعلم إلا وقد خشي على من هيأ
الله تعالى له رزقا في شيء فلم يعرف حق الله تعالى فيما هيأ له منه فتركه
إلى غيره ألا يخار له في ذلك، وما خشيه عمر ينبغي لكل مسلم أن يخشاه، فإنه
كان ينطق بالحكمة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إن الله ضرب بالحق على قلب عمر ولسانه» ، فكان يرى الرأي بقلبه ويقول
الشيء بلسانه فيوافق الحق فيه، وبالله تعالى التوفيق.
[تفسير قول الله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ]
في تفسير قول الله تعالى
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]
قال مالك في قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] قال: هي صلاة المؤمنين إلى بيت المقدس قبل أن
تصرف القبلة، فلما أنزل صرف القبلة أنزل الله تعالى في هذا:
(17/542)
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] للصلاة التي كانوا يصلونها تلقاء بيت المقدس.
قال محمد بن رشد: إنما سمى الله عز وجل الصلاة إلى بيت المقدس إيمانا على
ما قاله مالك في هذه الآية وغيره من أهل العلم وهو قول أكثر أهل التأويل
والتفسير وذلك أنه مات على القبلة قبل أن تحول إلى الكعبة رجال وقتل آخرون
فقال المسلمون: ليت شعرنا هل يقبل الله منهم ومنا صلاتنا إلى بيت المقدس أم
لا؟ فأنزل الله عز وجل فيهم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
[البقرة: 143] : أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيمانا من أجل أنها
كانت مقارنة للإيمان، ولذلك حصل الانتفاع بها والجزاء عليها، فسميت الصلاة
باسم الأصل الذي يثبت لها الحكم بأنها طاعة إلا به وهو الإيمان، إذ لو
تجردت من الإيمان لم تكن طاعة ولا حصل عليها مثوبة، وقد قيل: إن المعنى في
ذلك، وما كان الله ليضيع إيمانكم بفرض الصلاة عليكم إلى بيت المقدس بأنفس
الطاعات من الأقوال والأفعال؛ إذ لم يصح أن تسمى طاعات إلا بمقارنة الإيمان
لها، فلا يصح على التحقيق أن يقال: إنها غير الإيمان؛ إذ لا تصح مفارقتها
له ولا أنها الإيمان إذ الإيمان إنما هو التصديق الحاصل في القلب لا نفس
الأقوال والأفعال كالصفة القديمة لا يصح أن يقال فيها: إنها هي الموصوف،
ولا أنها غيره، وبالله تعالى التوفيق.
[وجه الإطعام في الوليمة]
في وجه الإطعام في الوليمة
قال مالك كان ربيعة يقول: إنما يستحب الطعام في الوليمة لإثبات النكاح
وإظهاره ومعرفته؛ لأن الشهود يهلكون.
قال محمد بن رشد: يريد أن هذا هو المعنى الذي من أجله أمر
(17/543)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالوليمة وحض عليها بقوله لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة»
وما أشبه ذلك من الآثار.
وقوله صحيح يؤيده ما «روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مر هو
وأصحابه ببني زريق فسمعوا غناء ولعبا فقال: ما هذا؟ فقالوا: نكاح فلان يا
رسول الله، فقال: "كمل دينه هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر يسمع دف أو
يرى دخان» ، وبالله التوفيق.
[ما ذكر في الحبشة ومن أول من قدم مكة]
فيما ذكر في الحبشة ومن أول من قدم
مكة بالنرد والكتاب بالعربية وسئل مالك هل بلغك أن النبي عليه السلام قال:
«ذروا الحبشة ما تركوكم؟» قال: أما عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فلا،
ولكن قد سمعته يقال، وقال مالك: أول من جاء بالنرد والكتاب بالعربية إلى
أهل مكة رجل من أهل الحيرة.
قال محمد بن رشد ليس في هذا معنى يشكل فيحتاج إلى التكلم عليه، وبالله
التوفيق.
[كثرة المنافقين في الناس]
في كثرة المنافقين في الناس قال مالك:
بلغني أن الحسن البصري كان يقول: لو ذهب المنافقون لاستوحشت الطرق.
(17/544)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا والله أعلم
أنه أراد لو ذهب المراءون بإظهار الإيمان واعتقاد الكفر؛ لأن الغالب في
الناس الرياء، وأما اعتقاد الكفر فليس بغالب في الناس، بل هو الأقل منهم،
وإنما أراد الحسن بقوله هذا التحذير من الرياء والله أعلم.
[قول الله تعالى وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ]
في تفسير قول الله تعالى
{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]
وسئل عن تفسير هذه الآية: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ}
[مريم: 31] قال: ما أبينها لأهل القدر، أخبر بما هو كائن من أمره حتى يموت.
قال محمد بن رشد: قوله ما أبينها لأهل القدر معناه ما أبينها لهم لو وفقوا
في الاهتداء بها. وما أبينها لنا في الرد عليهم؛ لأن من جعله الله مباركا
حتى يموت، فقد قدر عليه بأعمال السعادة حتى يموت، ومن جعله شقيا فقد قدر
عليه بأعمال أهل الشقاء حتى يموت عليها.
فالخير والشر بقضاء الله وإرادته، وقدره على العبد لا خروج له عما قدره
الله عليه من ذلك وأراده، وهو مأمور بالخير ومنهي عن الشر، وإن كان الله قد
قدره عليه فهو يعاقبه على ما له فيه من الكسب بمخالفة أمر الله فيما اكتسبه
من الإثم.
فالله عز وجل مريد لكل ما يكون من عبده من طاعة أو معصية تعالى أن يكون في
ملكه ما لا يريد؛ فيلحقه العجز والنقص وذلك بين في الحجة من قول عمر بن
الخطاب، وبالله التوفيق.
(17/545)
[محبة الناس لمن اتقى الله]
في محبة الناس لمن اتقى الله وحدثني
مالك عن زيد بن أسلم أنه كان يقول: اتق الله ابن آدم يحبك الناس وإن كرهوا،
ولم يسمعه مالك منه.
قال محمد بن رشد: إنما قال هذا زيد بن أسلم والله أعلم لأن من اتقى الله
أحبه الله؛ لأن محبة الله لعبده إنما معناه إرادته لإدخاله جنته وتنعيمه
منها، قال الله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}
[الرحمن: 46] ، ومن أحبه الله وضع له القبول في الأرض [على ما جاء في
الحديث من «أن الله إذا أحب العبد قال لجبريل: قد أحببت فلانا فأحبه، فيحبه
جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل
السماء، ثم يضع له القبول في الأرض» ] ، ومعنى قوله: وإن كرهوا أنهم
مغلوبون على محبته بما ألقى الله في نفوسهم منها، وبالله التوفيق.
[حشف الثمر لعمر]
في حشف الثمر لعمر قال: وحدثني مالك عن
زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يحشف له الصاع من الثمر فيأكله
كله، فقيل له: ما يحشف له؟ قال: يأكله بحشفه.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا قبل هذا في أول رسم البز فلا معنى
لإعادته، وبالله التوفيق.
[من يختار مجالسته]
فيمن يختار مجالسته وقال مالك: قال نافع
بن جبير بن مطعم لعلي بن حسين:
(17/546)
إنك تجالس أقواما كأنه يعاقبه فيهم: يقول
أهل دناءة، قال: فقال له علي بن حسين: إني أجالس من أنتفع به في ديني، وكان
نافع رجلا يجد في نفسه، وكان علي رجلا له فضل في الدين.
قال محمد بن رشد: معنى قوله أهل دناءة: أهل دناءة في الحسب، فكان علي بن
حسين لتواضعه يجالسهم وإن كانوا أهل دناءة في الحسب لعلو مرتبتهم في الدين،
وقد قال عمر بن الخطاب: كرم المؤمن تقواه، ودينه حسبه، وقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنكح المرأة لمالها وجمالها وحسبها،
فعليك بذات الدين» ، وبالله التوفيق.
[ترك التنعم مدة الشدة]
في ترك التنعم مدة الشدة وقال مالك: إن
عمر بن الخطاب تألى ألا يأكل السمن حتى يحيى الناس من أول ما يحيون، فأكل
الزيت فلم يلائمه، فأمر أن يطبخ له الزيت، فلما رأت ذلك امرأته عاتكة اشترت
فرق سمن بستين درهما فقربته إليه، فقال: ما هذا؟ قالت: اشتريته بمالي، فقال
لا آكله حتى يحيى الناس، قال: فكان عمر يقرقر بطنه وهو على المنبر حتى
يسمع، فيقول: ما لك غيره حتى يحيى الناس.
قال محمد بن رشد: فعل عمر هذا لشدة إشفاقه على المسلمين وذلك نهاية منه في
الخير والدين، وبالله تعالى التوفيق.
(17/547)
[محبة الرجل أن
يرى في شيء من أعمال البر]
في محبة الرجل أن يرى في شيء
من أعمال البر قال مالك: ولقد رأيت رجلا من أهل مصر وهو يسأل ربيعة عن ذلك
ويقول: إني لأحب أن أرى رائحا إلى المسجد، فكأنه أنكر ذلك من قوله ولم
يعجبه أن يحب أحد أن يرى في شيء من أعمال البر، فقلت له: ما ترى في التهجير
إلى المسجد قبل الظهر؟ قال: ما زال الصالحون يهجرون، وإن صلاة الرجل في
بيته من النافلة أفضل منها في جماعة الناس وهو أعلم بنيته إن صحت في ذلك
نيته لا يبالي فما أحسنه إن أحب، والسر أفضل من ذلك، فإن الله تبارك وتعالى
يقول: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] وفي الحديث
«أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة» .
قال محمد بن رشد: قوله وهو يسأل ربيعة عن ذلك يريد عن المسألة التي سأل
عنها، فساق سؤال السائل لربيعة وما أجابه به؛ حجة لقوله فيها من أن السر في
الصدقة أفضل حسب ما وقع من ذلك في هذا الرسم من كتاب الصدقات والهبات.
وكراهية ربيعة للرجل أن يحب أن يرى في شيء من أعمال البر خلاف قول لمالك في
سماع أشهب بعد هذا وفي رسم العقول من سماع أشهب من كتاب الصلاة أنه لا بأس
بذلك إذا كان أوله لله، وهو الصحيح إن شاء الله؛ لأنه مما لا يستطاع
التخليص منه، والدليل على إجازة ذلك إن شاء الله
(17/548)
ما «روي عن معاذ بن جبل أنه قال لرسول
الله: إنه ليس من بني سلمة إلا مقاتل، فمنهم من القتال طبيعة، ومنهم من
يقاتل رياء، ومنهم من يقاتل احتسابا فأي هؤلاء الشهيد؟ من أهل الجنة، فقال:
يا معاذ بن جبل، من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله
هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة» وهذا نص في موضع الخلاف.
وأما قوله في التهجير إلى المسجد قبل الظهر ما زال الصالحون يهجرون وإن
صلاة الرجل في بيته النافلة أفضل منها في جماعة الناس، وهو أعلم بنيته إن
صحت في ذلك نيته حتى لا يبالي بما أحسبه أن أحب، فالمعنى في ذلك أنه في
النهار قد يشتغل باله في صلاته في بيته ببنيه وأهله فيكون باله في المسجد
أفرغها، فإذا هجر قبل الظهر إلى المسجد ليصلي فيه متفرغ البال ليرى مكانه
فيه فيحمد بذلك، ويثنى عليه من أجله فهو حسن كما قال، ولذلك كان الصالحون
يفعلونه، وأما بالليل ففي البيت أفضل؛ لأنه لفعله أستر وباله فيه فارغ
لهدوء أهله وبنيه بالنوم، وبالله التوفيق.
[اعتماد الرجل في الصلاة على رجليه جميعا]
في اعتماد الرجل في الصلاة على
رجليه جميعا وسمعت مالكا يقول: أول من أحدث الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرك
رجليه رجل قد عرف وسمي إلا أني لا أحب أن أذكره قد كان مسمتا، فقيل له:
أفعيب ذلك؟ قال: قد عيب ذلك عليه، وهو مكروه من الفعل.
قال محمد بن رشد: قال سحنون الرجل المسمت هو عباد بن كثير، ويروى مشيئا أي
يشاء الثناء عليه، فجائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة، قاله في
المدونة، وإنما كره أن يقرنهما ولا يعتمد على إحداهما دون الأخرى؛ لأن ذلك
ليس من حدود الصلاة، إذ لم يأت ذلك عن
(17/549)
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولا عن أحد
من السلف والصحابة المرضيين الكرام، وكان من محدثات الأمور.
وأما الاعتماد على اليدين عند القيام من الجلسة الوسطى فمرة استحبه مالك
وكره تركه، ومرة استحسنه وخفف تركه، ومرة خير فيه، وقد مضى هذا في هذا
الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[حكاية عن أبي هريرة في إتيانه الوليمة]
حكاية عن أبي هريرة في إتيانه
الوليمة قال مالك: بلغني أن أبا هريرة دعي إلى وليمة وعليه ثياب دون فأتى
ليدخل فمنع ولم يؤذن له، فذهب فلبس ثيابا جيادا ثم جاء فأدخل، فلما وضع
الثريد وضع كميه عليه، فقيل له: ما هذا يا أبا هريرة؟ فقال: إنما هي التي
أدخلت، وأما أنا فلم أدخل قد رددت إذ لم تكن علي، ثم بكى وقال: ذهب نبيي
ولم ينل من هذا شيئا وبقيتم تهديون بعده.
قال محمد بن رشد: هذه الوليمة التي رد فيها أبو هريرة ممن لم يميزه من حجاب
باب الوليمة إذ ظنه فقيرا لما كان عليه من الثياب الدون، وأدخله بعد ذلك من
رآه من حجابها في صفة الأغنياء بالثياب الحسان، هي التي قال فيها رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شر الطعام الوليمة يُدعى لها
الأغنياء ويترك الفقراء، ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله» ،
(17/550)
ويروى بئس الطعام يريد أنه بئس الطعام
لمطعمه؛ إذ رغب عما له فيه الحظ من ألا يحضر لطعامه إلا. الأغنياء دون
الفقراء، فالبأس في ذلك عليه لا على من دعاه إليه؛ لقوله في الحديث نفسه:
ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله.
وبكى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شفقة من تغير الأحوال على قرب العهد بالنبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ورغبة الناس عما ندبوا إليه في ولائمهم من عملها
على السنة وترك الرياء فيها والسمعة، وبالله التوفيق.
[ما جاء في أن قول عمر بن الخطاب كان سببا
لنزول القرآن بالحجاب]
في أن قول عمر بن الخطاب كان سببا
لنزول القرآن بالحجاب قال مالك: كان النساء يخرجن في زمن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - فكلمه عمر بن الخطاب، قال له: يا رسول الله لا ينبغي لنسائك
أن يخرجن هكذا، فقالت امرأة منهن: قد تكلف عمر في كل شيء حتى في هذا، قال:
فأنزل الله القرآن لقول عمر ابن الخطاب فضرب الحجاب.
قال محمد بن رشد: كان عمر بن الخطاب يرى الرأي بقلبه، ويقول الشيء بلسانه
فيوافق الحق، فنزل القرآن بموافقته في الحجاب، وفي تحريم الخمر: وفي أسرى
بدر، وفي مقام إبراهيم، وبالله التوفيق.
[التبرك بأمر النبي عليه السلام]
في التبرك بأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك: بلغني أن عبد الله
بن عمر رئي وهو على ناقته
(17/551)
وهو في مكان وهو يديرها، فقال رجل: إن هذا
ليس بصحيح فسئل عن ذلك، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في
هذا المكان على ناقته دارت هكذا، فأردت أن تطأ ناقتي على الموضع الذي وطئت
عليه راحلة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال محمد بن رشد: هذه نهاية من عبد الله بن عمر في التبرك بأمر النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذ لم يدر بناقته في ذلك المكان بقصد منه إلى ذلك
فيكون امتثال فعله فيه واجبا أو مستحبا، فإنما فعله عبد الله بن عمر متبركا
بذلك، فقد كان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يتبع فعل النبي عليه السلام حتى
ليخاف على عقله منه، وبالله التوفيق.
[فعل الخير هل يفي بمقارفة الذنوب]
في فعل الخير هل يفي بمقارفة الذنوب قال
مالك: بلغني أن ابن عباس سئل عن رجل كثير الصيام كثير الصلاة وهو يقارف
الذنوب، ورجل قليل ذلك منه وهو سالم، فقال ابن عباس: ما أعدل بالسلامة
شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه لا يدري هل تفي في الموازنة
حسناته بسيئاته؛ لأن ما عصى الله به وإن صغر فهو عظيم، فمن قلت سيئاته
وحسناته أقرب إلى السلامة ممن كثرت سيئاته وحسناته؛ إذ لا يدري قدر الثواب
في حسناته، ولا هل تقبلت منه أم لا؟ ولا قدر الإثم في سيئاته لا سيما إن
تعلق في ذلك حق لمخلوق، وبالله التوفيق.
[حكاية عن عمر بن عبد العزيز]
قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز خرج مع سليمان بن عبد الملك في حج في
حر شديد، فخرج سليمان إلى الطائف
(17/552)
ومعه عمر فأصابهما في الطريق مطر ورعد
وصواعق، قال: فشد سليمان على وسط راحلته، أو القربوس وطأطأ عليه بصدره،
فلما تجلى ذلك قال لعمر: هذا الملك لا ما نحن فيه، فقال عمر له: هذا في
رحمته فكيف في غضبه.
قال محمد بن رشد: إنما قال عمر بن عبد العزيز هذا في رحمته؛ لأن المطر رحمة
من الله لعباده، قال الله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ
فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ
وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم:
48] إلى قوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي
الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] . وقال عز وجل: {وَأَرْسَلْنَا
الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22] وقد
«كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا تحبلت السماء
تغير وجهه وأقبل وأدبر ودخل وخرج، فإذا أمطرت سري عنه، قالت عائشة: فسألته
فقال: لعله كما قال قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] » الآية،
وبالله التوفيق.
[ما رغب فيه زياد مولى ابن عباس لمالك]
فيما رغب فيه زياد مولى ابن عباس
لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال مالك: كان زياد مولى ابن عباس يمر بي وأنا
جالس، فربما أفزعني حسه خلفي، فيضع يده بين كتفي فيقول: عليك بالجد، فإن
كان ما يقول أصحابك هؤلاء من الرخص حقا لم
(17/553)
يضرك، وإن كان الأمر على غير ذلك كنت قد
أخذت بالجد يريد ما يقول ربيعة وزيد بن أسلم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا عندي أنه حضه على أن يأخذ لنفسه في خاصته
بأشد ما قيل بالاجتهاد في أحكام الدين التي لا نص فيها وإن كان يرى
باجتهاده ما قاله أصحابه في ذلك من التخفيف فيها؛ إذ لو لم ير باجتهاده إلا
الأشد لما وسعه مخالفة ما رآه في ذلك باجتهاده إلى اجتهاد غيره، فللمجتهد
الذي كملت له آلات الاجتهاد في خاصته أن يترك ما رآه باجتهاده إلى ما رآه
غيره باجتهاده مما هو أشد منه، وذلك مما يستحب له على ما حض عليه زياد
لمالك في هذه الحكاية. وليس له أن يترك ما رآه باجتهاده إلى ما رآه غيره
باجتهاده مما هو أخف منه.
وأما فيما يفتى به غيره فليس له أن يتعدى فيه ما رآه باجتهاده إلى اجتهاد
غيره، كان أخف مما رآه هو باجتهاده أو أشد منه، وليس له أن يترك النظر
والاجتهاد ويقلد من قد نظر واجتهد، وإن خاف فوات الحادثة، وهو قول أكثر
البغداديين وجماعة أصحاب الشافعي، والأشبه بمذهب مالك. وذهب بعض أصحاب أبي
حنيفة إلى أنه يجوز للعالم تقليد عالم وبه قال أحمد ابن حنبل وإسحاق بن
راهويه.
وذهب ابن نصر من أصحابنا، وابن شريح من أصحاب الشافعي إلى أنه لا يجوز
للعالم تقليد عالم إلا إذا خاف فوات الحادثة.
وقال محمد بن الحسن: له أن يقلد من هو أعلم منه ولا يجوز له أن يقلد من هو
مثله.
واختلف في المستفتي من العوام، فقيل له: أن يقلد من شاء من
(17/554)
العلماء المجتهدين، فله على هذا القول أن
يسألهم ويأخذ بقول أيهم شاء، وإذا ألزم نفسه قول أحدهم فليس له أن ينتقل
عنه إلى قول غيره إلا أن يكون أشد من القول الذي التزم، وقيل ليس له: أن
يقلد إلا أعلمهم وأفضلهم، فإن استووا في الفضل قلد أعلمهم، فإن استووا في
العلم قلد أفضلهم، وإن استووا في الوجهين قلد أيهم شاء، وبالله التوفيق.
[رد زياد على الناس ما فضل عنده مما أعانوه به
في فكاك رقبته]
في رد زياد على الناس ما فضل عنده
مما أعانوه به في فكاك رقبته قال مالك: كان زياد قد أعانه الناس في فكاك
رقبته وأسرع الناس في ذلك، وفضل مما قوطع عليه مال كثير فرده إلى من أعطاه
بالحصص وكتبهم زياد عند نفسه فلم يزل يدعو لهم حتى مات.
قال محمد بن رشد: ما فعله زياد من رده على الذين أعانوه في فكاك رقبته ما
فضل عنده من ذلك بعد أداء ما قوطع عليه بالحصص صحيح من فعله؛ لأنهم أعانوه
بما أعانوه به ليفك رقبته به من الرق، فليس له مما أعانوه به إلا ذلك، ولو
لم يكن فيما أعانوه به وفاء بما عليه من الكتابة كان جميع ذلك مردودا على
الذين أعانوه إلا أن يجعلوه من ذلك في حل، ولو أعانوه بما أعانوه به
ليستعين به في أداء كتابته ليس على وجه أن يفكوه بها من الرق ولكن على وجه
الصدقة عليه لكان له من ذلك ما فضل عن أداء كتابته أو قطاعته، ولكان لسيده
جميع ذلك إن عجز عن أداء كتابته، قاله في المدونة، وهذا على القول بأن
المكاتب يكون بالعجز منتزع المال. وعلى القول بأنه لا يكون بالعجز منتزع
المال يكون جميع ما أعين به في كتابته له إن عجز عن الكتابة إلا أن ينتزعه
منه السيد، وبالله التوفيق.
(17/555)
[سيرة عمر بن
عبد العزيز في ركباته ومع قاضيه]
في سيرة عمر بن عبد العزيز
في ركباته ومع قاضيه قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز كانت له ركبتان
في الجمعة، فكانت إحدى ركبتيه لا يركب معه فيها أحد إلا من بلغ الأربعين
سنة، والأخرى يركب معه أخلاط الناس، وكان عمر إذا أراد الحج والعمرة خرج
معه قاضيه حتى إذا بلغ الشجرة رده، وأجازه بمائة دينار وحلته التي عليه.
قال محمد بن رشد: إنما كان يختص في إحدى ركبتيه بمن بلغ الأربعين سنة؛ لأن
الأربعين سنة هي سن الاستواء التي قال الله عز وجل فيها: {وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ} [القصص: 14] أي تناهى شبابه وتم خلقه
واستحكم عقله {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص: 14] بدليل قوله عز
وجل: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}
[الأحقاف: 15] فأراد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يختص في ركبته الواحدة
بهم أن يتمكن مما يريده من تفقد أحوالهم؛ وليتمكنوا هم أيضا مما يريدونه من
طلب حوائجهم، وكان إذا خرج إلى الحج والعمرة يخرج معه قاضيه إلى الموضع
الذي ذكره ليوصيه في مشيه معه إليه بما يصنع بعده، ثم يرده ويجيزه بما كان
يجيزه به لتبسط به نفسه، ويقوى بذلك على التفرغ للإمرة، وبالله التوفيق.
[تعريف البضع والأشد]
في البضع والأشد قال مالك: بلغني أن البضع ما بين ثلاث سنين إلى تسع
(17/556)
سنين، وقد طرح يوسف في الجب وهو غلام،
والأشد الحلم.
قال محمد بن رشد: ما قاله مالك ما بين ثلاث سنين إلى تسع سنين فيما بلغه،
يريد والله أعلم فيما بلغه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في تفسير قوله
عز وجل: {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] {فِي أَدْنَى
الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] {فِي
بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] وذلك أن المسلمين كانوا يحبون أن تغلب الروم
فارس؛ لأنهم أهل كتاب كلهم، وكان المشركون يحبون أن تغلب فارس الروم؛ لأنهم
أهل أوثان كلهم، وكانت فارس قد غلبت الروم، فلما أنزل الله عز وجل: {الم}
[الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] قال أبو بكر الصديق للمشركين:
إن الروم ستغلب فارس وراهنهم في ذلك على ست سنين، وذلك قبل أن يحرم الخطار،
فأخبر أبو بكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما راهن عليه
المشركين من أن الروم ستغلب فارس إلى ست سنين، فقال النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «ألا احتطت فيه فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع» ، وقد قال
أبو عبيدة معمر بن المثنى: البضع ما بين الواحد إلى الأربعة، وقال الخليل
بن أحمد: هو ما بين الثلاث إلى العشرة، والصحيح ما في الحديث من أنه ما بين
الثلاث إلى التسع.
وأما قوله بأن يوسف طرح في الجب وهو غلام فهو نص ما في القرآن، قال الله عز
وجل: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ
قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ} [يوسف: 19] .
وأما الأشد فمعناه الشدة والقوة في البدن، وقد اختلف في حده، فقيل الحلم
وهو الذي ذهب إليه مالك؛ لأنه الحد الذي تكتب له فيه الحسنات وعليه
السيئات، وقيل العشرون عاما، وكان ابن عباس يقول الأشد ثلاث
(17/557)
وثلاثون، والاستواء الأربعون، والعمر الذي
أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون، وبالله التوفيق.
[ما روي عن يوسف عليه السلام]
في ما روي عن يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك: بلغني أن يوسف النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: ما انتقمت لنفسي من شيء أتى إليها، فذلك
اليوم زادي من الدنيا أي أجر اليوم الذي ألقاه فيه إخوته في الجب هو زاده
إلى الآخرة؛ إذ لم ينتقم لنفسه منهم فيما فعلوه به من ذلك.
ومعنى قوله: وإن عملي قد لحق بعمل آبائي فألحقوا قبري بقبورهم.
قال محمد بن رشد: معنى قوله والله أعلم، فذلك اليوم زادي من الدنيا، أي أجر
اليوم الذي ألقاه فيه إخوته في الجب هو زاده إلى الآخرة إذ لم ينتقم لنفسه
منهم فيما فعلوه به من ذلك، ومعنى قوله والله أعلم: وإن عملي قد لحق بعمل
آبائي يريد النبوءة التي لحق بهم فيها، وبالله التوفيق.
[فلي الرجل رأس أمه]
في فلي الرجل رأس أمه قال مالك: بلغني
أن بعض من مضى كان يفلي رأس أمه فقيل له: ما ترى فيه؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا بأس بذلك؛ لأن الله عز وجل يقول:
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ}
[النور: 31] ، فإذا جاز للرجل أن يرى شعر أمه جاز له أن يفلي رأسها برا
بها، وممن روي ذلك عنه
(17/558)
محمد بن الحنفية ومحمد بن علي بن حسين
ومروان العجلي وطلق بن حبيب، وكان الشعبي والضحاك وطاوس يكرهون أن ينظر
الرجل إلى شعر أمه وذات محرمه، والصواب إجازة ذلك على ما قاله مالك وسائر
فقهاء الأمصار، وقد أجازوا للرجل أن يغسل ذوات محارمه إذا لم يكن عنده نساء
يغسلنها، وفليه رأس أمه وهي حية أخف من غسلها وهي ميتة، وبالله التوفيق.
[قتل محمد بن أبي بكر الصديق]
في قتل محمد بن أبي بكر الصديق قال
مالك: بلغني أن عبد الرحمن بن أبي بكر قدم مصر فكلم عمرو بن العاص في أمر
محمد بن أبي بكر أن يدخل في أمره ألا يقتل، فقال عمرو: ما كنت أنهى ولا
آمر، وأبى أن يدخل في أمره.
قال محمد بن رشد: ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الصحابة له، أن علي بن
أبي طالب ولى محمد بن أبي بكر مصر فسار إليه عمرو بن العاص فاقتتلوا فهزم
محمد فدخل في خربة فيها حمار ميت، فدخل في جوفه، فأحرق في جوف الحمار بعد،
وقيل: أُتي به عمرو بن العاص فقتله صبرا، وروي عن عمرو بن دينار قال: أتي
عمرو بن العاص بمحمد بن أبي بكر أسيرا فقال: هل معك عهد؟ هل معك عقد من
أحد؟ قال: لا، فأمر به فقتل، وهذا الذي ذكره أبوه عمر هو نص ما ذكره خليفة
بن خياط في تاريخه، فإن صح ما ذكره مالك من أن عمرو بن العاص قال لعبد
الرحمن بن أبي بكر: إذ سأله أن يدخل في أمره ألا يقتل: ما كنت أنهى ولا
آمر، وإنما أمر به فقتل على ما ذكر عمرو بن دينار فلم يقتله برأيه والله
أعلم، وإنما قتله بأمر معاوية له بذلك من أجل أنه حقق عليه والله أعلم ما
نسب إليه من المشاركة في دم عثمان من نسبه، فقد قيل: إنه دخل عليه فيمن دخل
فأخذ بلحيته وأشار بعينه على من كان معه فقتلوه، وقد نفى ذلك عنه جماعة ممن
حضر الدار منهم
(17/559)
كعب مولى صفية بنت حيي، قال لما دخل على
عثمان كلمه بكلام فخرج عنه، ولم يند من دمه بشيء، فقتله رجل من أهل مصر،
يقال له جبلة بن الأهيم، وهو الصحيح والله أعلم؛ لأنه كانت له عبادة وفضل
واجتهاد في الخير، وكان علي بن أبي طالب يثني عليه ويفضله، وكان في حجره إذ
تزوج أمه أسماء، وكان على رجالته يوم الجمل، وشهد معه صفين، وبالله
التوفيق.
[غزو النساء]
في غزو النساء قال مالك: كان النساء
يخرجن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوه يسقين
الماء، ويداوين الجرحى.
قال محمد بن رشد: لا خلاف في جواز خروج النساء في الغزو مع الجيش المأمون
ليخدمن الغزاة، ولا سهم لهن من الغنيمة، واختلف هل يحبين منها دون قسم؟ فلم
ير ذلك مالك، واستحبه ابن حبيب، وقد مضى الكلام على هذا قبل هذا في هذا
الرسم، وبالله التوفيق.
[ما جاء عن ابن عمر من أنه كان يؤثر]
فيما جاء عن ابن عمر من أنه كان يؤثر
السائل بما حضر ولا يرده خائبا قال مالك: بلغني أن ابن عمر أهدي إليه في
بعض المناهل حوت عظيم فوضع بين يديه، فجاءه سائل فقال له: تعالى خذه، فأخذه
السائل فجعله في ثوبه، ثم خرج به على ظهره، طفق ولده يتبعونه بأبصارهم،
فلما رأى ذلك ابن عمر منهم قال لهم: إنكم ستشبعون من غيره، قال مالك: بلغني
أن ابن عمر مرض فاشتهى عنبا، فأتته امرأته بعنقود فجاء سائل فأعطاه إياه،
ثم إنهم اتبعوا
(17/560)
السائل فاشتروه منه، ثم أتوا به، فأتاه
السائل الثانية فأعطاه إياه أو أكل منه وأعطاه.
قال محمد بن رشد: في هذا من الفضل لعبد الله بن عمر ما لا يخفى؛ لأنه آثر
السائل على نفسه وبنيه بما كان عنده ولم يشح عليه بذلك، والله عز وجل يقول:
{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]
وقد اتبعه رجل في الطواف حول البيت فرآه يكثر من قوله: اللهم قني شح نفسي،
فلما فرغ قال له الرجل: رأيتك تطوف فتقول: اللهم قني شح نفسي، قال: إن الله
تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، ولا شك في أن الله قد أجاب دعاءه في ذلك
بدليل ما روي من أنه حج ستين حجة، وأعتق ألف رأس، وحبس ألف فرس واعتمر ألف
عمرة، وكان لا ينام من الليل إلا قليلا، وبالله التوفيق.
[ما جاء مما يدل على أن الاسم هو المسمى]
فيما جاء مما يدل على أن الاسم
هو المسمى قال مالك: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«انظروا كيف صرف الله عني أذى قريش وسبها يشتمون مذمما وأنا محمد» قال
مالك: ختم الله به الأنبياء وختم به الكتاب وختم بمسجده هذه المساجد ".
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث دليل واضح على ما ذهب إليه أكثر أهل السنة
من أن الاسم هو المسمى حقيقة؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخبر أن
الله صرف عنه أذى قريش وسبها، إذ سبوا مذمما الذي هو ليس باسم له، ولم
يسبوا محمدا الذي هو اسم له، فلو كان الاسم غير المسمى
(17/561)
لما لحقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بسبهم إذا سبوا مذمما أو محمدا؛ إذ لا يلحق أحدا أذى بسب غيره.
وفي هذا بين أهل الحق اختلاف.
قد ذهب أبو الحسن الأشعري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في بعض كتبه إلى أن الاسم
ليس هو المسمى.
وللقاضي أبي بكر الباقلاني في ذلك تفصيل في أسماء الله عز وجل، قال: ما كان
منها يعود إلى نفسه كشيء وموجود وقديم وذات وواحد وغير لما غايره، وخلاف
لما خالفه، أو إلى صفة من صفاته: ذاته كعالم، وقادر، ومريد، وسميع، وبصير،
فهي هو الله عز وجل وما كان يعود منها إلى صفة فعل: كخالق، ورازق، ويحيي
ويميت، وما أشبه ذلك فهو غيره؛ لأنه قد كان تعالى موجودا متقدما عليها ومع
عدمها.
والصحيح أن الاسم هو المسمى جملة من غير تفصيل، قال الله عز وجل: {مَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 40] فأخبر
أنهم يعبدون أسماءهم وإنما عبدوا الأشخاص لا الكلام، والقول الذي هو
تسميته، فدل ذلك دليلا ظاهرا على أن الأسماء التي ذكرها هي المسميات، وقال
عز وجل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] {الَّذِي خَلَقَ
فَسَوَّى} [الأعلى: 2] ، {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ
وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] ومعناه سبح ربك الذي خلق فسوى، وتبارك ربك ذو
الجلال والإكرام، فأسماء الأشياء ذواتها، والذوات أيضا أسماء، والأسماء هي
المسميات وعين المسميات، فمن لم يلح له الفرق بين الاسم والتسمية وقال: إن
الاسم هو التسمية قال: إنه هو
(17/562)
غير المسمى، إذ لا اختلاف في أن التسمية
غير المسمى، فهذه هي نكتة الاختلاف في الاسم هل هو المسمى أم لا؟
فعلينا أن نبين الفصل بين الاسم والتسمية؛ ليصح لنا ما صححناه من أن الاسم
هو المسمى، فالتسمية هي الكلام والقول الذي به يتحرك اللسان، والاسم هو
المفهوم من التسمية، فإذا سألت الرحمن الرحيم، أو دعوت السميع القريب
المجيب فقد دعوت وسألت المسمى بما سميته به من الرحمن الرحيم والسميع
القريب المجيب وهو الله رب العالمين، وكذلك إذا قلت: لقيت زيدا أو خالدا أو
عالما أو كلمتهم أو صحبتهم كنت قد أخبرت حقيقة لا مجازا بلقائك وتكلمك
وصحبتك لأعيانهم وأشخاصهم وذواتهم المسمين بأسمائهم التي سميتهم بها لا
لغير أشخاصهم وأعيانهم، ومن لم يبن له الفرق بين الاسم والتسمية وقال: إن
الاسم هو التسمية، وإنه غير المسمى حمل كل ما جاء من الإفصاح بأن الاسم هو
المسمى على المجاز في القول، فقال: معنى قوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] أي ما تعبدون من دونه
إلا أشخاص أسماء سميتموها، وكذلك يقولون في قول القائل: سألت الرحمن الرحيم
معناه سالت ربي المسمى بالرحمن الرحيم وكذلك يقولون في قول الرجل لقيت زيدا
أو كلمته أو صحبته معناه: لقيت المسمى بزيد أو كلمته أو صحبته، ولا يصح أن
يعدل بالكلام عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة، فلم يأت من قول من قال
من أهل السنة: إن الاسم غير المسمى ببدعة إلا أنه أخطأ خطأ ظاهرا وجهل جهلا
لائحا؛ إذ لم يفترق عندهم الاسم من التسمية حتى قالوا: لو كان الاسم هو
المسمى لكان من قال نار احترق فوه، ومن قال: زيدا وجد زيدا في فيه، وهذا
جهل؛ إذ لا يوجد في فم الذي قال نارا إلا التسمية التي هي القول لا الاسم
الذي هو المفهوم منه على ما بيناه، ولو وجد اسم النار في فيه لاحترق فوه.
(17/563)
وأما أهل الاعتزال فيقولون: إن الاسم غير
المسمى على أصولهم في أن أسماء الله عز وجل وصفاته غيره؛ لأنها عندهم محدثة
مخلوقة، وأنه تعالى كان بغير اسم ولا صفة حتى خلق خلقه، فخلقوا له أسماء
وصفات؛ لأنهم يقولون: إن الاسم هو التسمية، وإن الوصف هو الصفة تعالى الله
عن قولهم علوا كبيرا وبه التوفيق لا رب غيره.
وقول مالك متصلا بهذا الحديث: ختم الله به الأنبياء، وختم به الكتاب، وختم
بمسجده هذه المساجد، ليس له تعلق به، وإنما ورد من حيث نقل على سبب غيره،
والمعنى فيه بين؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخر
الأنبياء، ختم الله به النبيين، وكتابه الذي أنزل عليه آخر الكتب؛ إذ لا
نبي بعده.
وقوله: ختم بمسجده هذه المساجد إشارة منه إلى المسجد الحرام ومسجد إيليا،
ومسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان مسجده - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدث المساجد الثلاثة التي قال فيها رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة
مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، ومسجد إيليا، أو بيت المقدس» وآخرها،
وبالله التوفيق.
[قدر القراءة في الصلوات]
في قدر القراءة في الصلوات قال مالك:
حدثني سميى مولى أبي بكر أنه قال له يوما، وقد كان كف بصره وأسفر عن الصلاة
عن وقتها الذي كان يصليها فيه فقرأ فيها ببراءة، قال مالك: وكان حزم يطيل
القراءة في
(17/564)
الظهر، قيل له: قدر كم؟ قال: الكهف وما
أشبهها، فقيل له: أفيقرأ المسافر بسبح، وويل للمطففين؛ فإن الأكرياء يسفرون
بهم؟ قال: لا بأس بذلك. فقيل له: فإذا زلزلت وما أشبهها؟ قال: هذه قصار
جدا، كأنه يقول: لا.
قال محمد بن رشد: كذا وقع الأكرياء يسفرون بهم، وهو خطأ وصوابه: فإن
الأكرياء يسرعون بهم، وكذا وقع في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة.
وقوله: وأسفر عن الصلاة عن وقتها الذي كان يصليها فيه معناه أخرها عن الوقت
الذي كان من عادته أن يصليها فيه؛ لأنه أخرها حتى أسفر؛ إذ لو أسفر لما
أمكنه أن يقرأ فيها ببراءة.
والتطويل في الصبح والظهر مستحب، وهما سيان فيما يستحب فيهما من التطويل،
ألا ترى أنه استخف في المدونة للمسافر في الصبح من التخفيف القدر الذي
استخفه هاهنا في الظهر، ويستحب أن تكون الركعة الأولى أطول قراءة من
الثانية في الصبح والظهر، لما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطيل أول ركعة من الظهر وأول ركعة من الغداة» .
وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أن الاختيار في الظهر دون الصبح أن يكون
الركعتان الأوليان متساويتين في القراءة [كما أن الركعتين الأخيرتين
متساويتان في القراءة] ويستحب أن لا يقرأ في الصبح والظهر في مساجد
الجماعات بدون طوال سور المفصل، ويقرأ في المغرب بقصارها وفي العشاء الآخرة
بوسطها، واختلف في العصر فقيل: إنها والمغرب سيان في قدر القراءة، وإلى هذا
ذهب ابن حبيب، وقيل: إنها والعشاء الآخرة سيان فيما يستحب فيهما من قدر
القراءة.
(17/565)
واختلف في حد المفصل، فقيل: إنه من
الحجرات، وقيل: إنه من سورة ق، وقيل: إنه من سورة الرحمن، روي ذلك عن ابن
مسعود، والصحيح قول من قال: إنه من سورة ق لأن الحجرات مدنية، والمفصل
بمكة، روي عن ابن مسعود أنه قال: أنزل الله عز وجل على رسوله المفصل بمكة
فكنا حججا نقرأه لا ينزل غيره، ومن الدليل على ذلك ما روي عن أوس بن حذيفة
قال: سألت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت:
كيف كنتم تحزبون القرآن؟ قال: كنا نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور،
وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وفي بعض الآثار، كيف كان رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحزب القرآن؟ فذكر نحوه؛ لأن
القرآن يأتي على هذا سبعة أحزاب بعدد الأيام، المفصل منها حزب من أول سورة
ق؛ ولأن الستة أحزاب تتم إذا عدت السور بسورة الحجرات، ويحتمل أن تكون سورة
الرحمن في مصحف ابن مسعود بعد سورة الحجرات، وبالله التوفيق.
[التأني والعجلة]
في التأني والعجلة قال مالك: بلغني أنه
كان يقال: التأني من الله والعجلة من الشيطان، وما عجل امرؤ فأصاب، وتأيد
آخر فأصاب إلا كان الذي تأيد أصوب رأيا، ولا عجل فأخطأ وتأيد آخر فأخطأ إلا
كان الذي تأيد أيسر شأنا.
قال محمد بن رشد: قوله: بلغني أنه كان يقال التأني من الله والعجلة من
الشيطان، معناه بلغني أنه كان يقال في الحديث عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -؛ لأن مثله لا يكون رأيا والله أعلم، وما فسره به من قوله: وما
عجل امرؤ فأصاب إلى آخر قوله بين صحيح؛ لأن الحظ فيما ينوب من أمور الدنيا
ألا يعجل فيها ولا يقدم عليها إلا بعد تقديم استخارة الله عز وجل فيها.
(17/566)
وقد أمر الله عز وجل نبيه - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - بمشورة أصحابه في الأمور والتثبت فيها، فقال عز وجل:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] ، وقال: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا
أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ
نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] روي عن أم سلمة أنها قالت: نزلت في الوليد بن
عقبة بن أبي معيط، وذلك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بعث رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة، فسمع بذلك القوم فتلقوه
يعظمون أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: فحدثه
الشيطان أنهم يريدون قتله، فرجع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم، فغضب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون، فبلغ القوم رجوعه فأتوا
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصفوا له حتى صلى الظهر
فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، بعثت إلينا رجلا مصدقا فسررنا
بذلك وقرت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضبا من
الله ومن رسوله، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال فأذن بصلاة العصر، قال:
فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] » ، ومن هذا المعنى قول ابن عباس:
القصد والتؤدة وحسن السمت جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوءة، وقد روي
مرفوعا إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأن التؤدة التأني في الأمور
والتثبت فيها، وأما القصد فمعناه الاقتصاد في النفقة، وفي معناه جاء الحديث
«ما عال من اقتصد» ، وأما حسن السمت فالوقار والحياء وسلوك طريقة الفضلاء،
وبالله التوفيق.
(17/567)
[سيرة عمر في الناس في سني الرمادة]
في سيرة عمر في الناس في سني الرمادة
قال مالك: بلغني أن أول ما أغيث الناس في زمن عمر بن الخطاب في الخريف،
فقال له رجل: ما كنت فيها بابن ثأداء فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله،
وضربه بالدرة وكتب إلى عمرو بن العاص وغيره يا غوثاه، فبعثوا إليه بالإبل
عليها الدقيق والأكسية، قال: وإن كان عمر لينفخ تحت قدورهم حتى إن كان
الدخان يخرج من خلل لحيته قال: لا تشبعونهم فإنهم كالشن البالي، ولكن قليلا
قليلا حتى ينتعشوا ويقووا، قال: وكان يأتي بالبعير عليه الدقيق إلى أهل
البيت فيقول: كلوا لحمه، وائتدموا شحمه، والْتَحِفُوا بهذا العباء، وكلوا
هذا الدقيق.
قال محمد بن رشد: قول الرجل لعمر بن الخطاب: ما كنت فيها بابن ثأداء، معناه
ما كنت في هذه السنين بابن امرأة ضعيفة مسكينة، أي لم تضعف عن إغاثة الناس
وإحيائهم وإقامة أرماقهم حتى جاء الله بالفتح من عنده، ومنه المثل السائر
تجوع الحرة ولا تأكل بثديها، أي لا ترضى أن تكون ضئيرا لقوم إلا المرأة
الدنية المسكينة.
وإنما ضربه لمدحه إياه في وجهه، فقد جاء النهي عن ذلك، قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احثوا التراب في وجه المداحين» أي
وبخوهم وقبحوا إليهم قولهم حتى يذلوا ويكونوا في الذلة كمن لصق بالتراب،
ومنه الحديث «تربت يمينك ومن أين يكون الشبه» ، وبالله التوفيق.
(17/568)
[إمضاء أقضية الأمراء]
في إمضاء أقضية الأمراء قال مالك: إن
أبان بن عثمان أراد أن ينقض قضاء عبد الله بن الزبير فيما قضى به ابن
الزبير، فكتب إلى عبد الملك بن مروان، فكتب إليه عبد الملك بن مروان: إنا
لم ننقم على ابن الزبير فيما قضى به، وإنما نقمنا عليه لما أراد من
الإمارة، فإذا جاءكم كتابي هذا فَأَمْضِه ولا ترده فإن نقض القضاء عناء
معني.
قال محمد بن رشد: قول عبد الملك إنا لم ننقم على ابن الزبير فيما قضى به
إلى آخر قوله، يدل على أن القاضي لا تنقض أحكامه إذا لم يعرف بالجور فيها،
وإن كان غير مرضي في أحواله، وهو مذهب أصبغ من أصحابنا خلاف قول ابن القاسم
ومطرف وابن الماجشون، وقد مضى بيان هذا والقول فيه مستوفى في رسم الصبرة من
سماع يحيى من كتاب الأقضية، وبالله التوفيق.
[مسير المسافر الميلين والثلاثة بعد الزوال قبل
أن يصلي الظهر]
في مسير المسافر الميلين والثلاثة
بعد الزوال قبل أن يصلي الظهر وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن موسى بن
عقبة عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر أنه كان يسير الميلين وثلاثة بعد
الزوال قبل أن يصلي الظهر.
قال محمد بن رشد: إنما كان يفعل ذلك إذا زالت الشمس وبينه وبين المنهل الذي
يريد النزول فيه الميلان والثلاثة؛ لمشقة النزول والركوب.
(17/569)
وأما لو كان في مشي متصل لنزل للصلاة في
أول وقتها؛ لأن وقتها المستحب وإن كان متسعا إلى آخر القامة فأوله أفضل،
سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أفضل الأعمال
فقال: «الصلاة لأول وقتها» ، وبالله التوفيق.
[حكاية عن عمرو بن العاص]
قال مالك: بلغني أن رجلا قال لعمرو بن العاص وكان عمرو عاملا على البحرين
في زمن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأنه قال له: إن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - قد توفي فالحق ببلدك وإلا فعلنا وفعلنا يتواعده، فقال له
عمرو: لو كنت في حفش أمك لدخلنا عليك فيه.
قال محمد بن رشد: القائل لعمرو هذا قرة بن هبيرة بن سلمة بن قشير، كان ارتد
وأتي به موثقا إلى أبي بكر مع عيينة، وشهد عليه بذلك عمرو بن العاص، فأراد
بقوله هذا أنه لا يفلته ولا ينجو منه حتى يقيم عليه حد الله عز وجل، وقد
مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب المحاربين والمرتدين، وبالله
التوفيق.
[خشية عمر بن عبد العزيز]
في خشية عمر بن عبد العزيز
وقال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز صلى فقرأ بـ {وَاللَّيْلِ إِذَا
يَغْشَى} [الليل: 1] ، فلما بلغ: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى}
[الليل: 14] خنقته العَبْرة فتردد عليها فلم يستطع أن ينفذها فتركها وقرأ
والسماء والطارق.
(17/570)
قال محمد بن رشد: هذا من فعل عمر بن عبد
العزيز نهاية في الخوف لله عز وجل، ومن بلغ هذا الحد فهو من أهل الجنة بفضل
الله، قال عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:
46] وقد روى الصلت عن ابن القاسم أنه لا يطلق على من حلف بالطلاق أنه من
أهل الجنة، وسئل مالك عن ذلك فتوقف وقال عمر بن عبد العزيز إمام هدى أو قال
رجل صالح، وفضائله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كثيرة لا تحصى، وقول ابن
القاسم بالصواب أولى؛ لأن الأمة قد أجمعت على الثناء عليه والشهادة له
بالخير، [وهي معصومة قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«لن تجتمع أمتي على ضلالة» ] ، وقال: «أنتم شهداء الله في الأرض، فمن
أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار» وقد
مضى هذا في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة، وبالله
التوفيق.
[سرور المستفتي إذا أفتاه المفتي بما يحب]
في سرور المستفتي إذا أفتاه
المفتي بما يحب وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن يحيى بن سعيد أن سعيد بن
المسيب إذا جاءه الرجل يسأله فأفتاه بما يحب دعا له
(17/571)
فيضحك ابن المسيب ويقول: أفتيته بما يحب.
قال محمد بن رشد: ضحك ابن المسيب من دعائه له إذا أفتاه بما يحب بخلاف ما
لو أفتاه بما يكره وهو في فتواه إياه لم يقصد وجهه، وإنما فعل في الوجهين
جميعا ما يجب عليه أن يفعله، ولا يجوز له أن يتعداه، وهذا أمر قد جبل عليه
الناس، حكى ابن حبيب أن أعرابيا سأل مالكا عن ناقة له نفرت فانصرفت فقال
لها: تقدمي وإلا فأنت بدنة، فقال له أردت زجرها بذلك لكي تمضي؟ فقال: نعم،
فقال: لا شيء عليك، فقال: رشدت يا ابن أنس، وذلك من قول مالك خلاف رواية
أبي زيد عن ابن القاسم في سماعه من كتاب النذور، وقول ابن القاسم هذا هو
الذي يأتي على أصل مذهب مالك في أن اليمين بكل ما لله فيه طاعة تلزم
كالنذور، ووجه قول مالك أنه لم ير ذلك يمينا لأن الرجل إنما يحلف على ما
يملك أو على من يعقل فصرف ذلك إلى معنى النذر فلم يوجب عليه إخراجها إذ لم
تكن له نية في ذلك، وإنما قصد زجرها لا القربة إلى الله بإخراجها، وهو
الأظهر لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» ،
وبالله التوفيق.
[أحاديث ابن وهب وأحاديث الإسكندراني في علي بن
زياد]
أحاديث ابن وهب وأحاديث
الإسكندراني في علي بن زياد [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما] .
وحدثني محمد بن أحمد العتبي عن عيسى بن دينار عن عبد الله بن وهب، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا
(17/572)
أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ قالوا: بلى
يا رسول الله، قال: النبييون والصديقون ورجل زار أخاه في الله عز وجل، ألا
أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الولود الودود
العوود التي إذا أساءت أو أساء إليها زوجها وضعت يدها في يده وقالت اعف أو
اصنع ما بدا لك» .
وعنه أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يزور
الأعلون من أهل الجنة الأسفلين، ولا يزور الأسفلون الأعلين إلا من كان يزور
في الله في الدنيا، فذلك يزور في الجنة حيث يشاء» .
وحدثني يحيى بن سليم الطائفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأنس:
«يا أنس، سلم على أهلك يكثر خير بيتك، وسلم على من لقيت تكثر حسناتك، وصل
صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين قبلك، وصل بالليل والنهار تحفظك الحفظة،
ولا تنم إلا وأنت طاهر فإنك إن مت مت شهيدا ووقر الكبير وارحم الصغير
والقني غدا» .
قال وحدثني عن علي بن زياد الإسكندراني عن أبى رافع يرفع الحديث، أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خرج عيسى ابن مريم يمشي
حتى انتهى إلى مفرق ثلاثة طرق، فركع ركعتين وجلس، فأتاه إبليس فسلم عليه
فقال له عيسى: يا إبليس إني سائلك عن خطتين فهل أنت صادقي فيهما؟ قال: يا
روح الله سلني عما بدا لك، قال: ما الذي يسل جسمك؟ وما الذي يقطع ظهرك؟
(17/573)
قال: أما الذي يسل جسمي فصهيل فرس في سبيل
الله في قرية من القرى أو حصن من الحصون، ولست أدخل دارا فيها فرس في سبيل
الله، وأما الذي يقطع ظهري فالرجل يصلي الصبح ثم يذكر الله حتى تطلع الشمس،
فقال له عيسى: فإني أسألك بالحي الذي لا يموت ما ثواب ذلك؟ قال سأجيبك يا
روح الله، ووالله لا أخبر به آدميا بعدك أبدا، والحي الذي لا يموت لذلك أحب
إلى الله من جبلي ذهب وفضة يقسمان في سبيل الله» .
وحدث عن علي بن زياد يرفع الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«لأن أصلي الصبح ثم أجلس في المسجد فأذكر الله حتى تطلع الشمس أحب إلي من
أن أشد على جياد الخيل في سبيل الله حتى تطلع الشمس» .
وحدث علي بن زياد عن سعيد بن عبد الله عن القاسم عن القرظي أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لأن أصلي الصبح فأذكر الله حتى
تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق الرقاب حتى تطلع الشمس» .
قال: وحدثني عن علي بن زياد، عن أشياخ لهم، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزا سرية فغنمت ورجعت، فقال ناس ما أعظم ما غنمت هذه
السرية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا
أخبركم ممن هو أعظم غنيمة وأوشك رجعة"؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، قال: رجل
توضأ ثم غدا فصلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى إذا طلعت عليه الشمس
ركع ما قدر الله له ركعتين أو أربعا ثم انصرف، فذلك أعظم غنيمة وأوشك رجعة،
ذلك غنم الجنة» .
(17/574)
وحدثني علي بن زياد عن أبي العباس عن أنس
بن عياض أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا
أخبركم بساعات من ساعات الجنة؟ الظل فيها ممدود والعمل فيها مقبول والرحمة
فيها مبسوطة، قالوا: بلى يا رسول الله، قال من أذان صلاة الصبح إلى طلوع
الشمس» .
قال محمد بن رشد: هذه الأحاديث بينة كلها في المعنى ليس فيها ما يخفى،
وبالله التوفيق.
[من لا غيبة فيه]
فيمن لا غيبة فيه قال: قال عيسى لا غيبة
في ثلاث: إمام جائر، وفاسق معلن، وصاحب بدعة.
قال محمد بن رشد: إنما لم يكن في هؤلاء غيبة لأن الغيبة إنما هي بأن يذكر
من الرجل ما يكره أن يذكر عنه لمن لا يعلم ذلك منه، والإمام الجائر والفاسق
المعلن قد اشتهر أمرهما عند الناس، فلا غيبة في أن يذكر من جور الجائز وفسق
الفاسق ما هو معلوم من كل واحد منهما، وصاحب البدعة يريد ببدعته ويعتقد أنه
على الحق فيها وأن غيره على الخطأ في مخالفته في بدعته فلا غيبة فيه لأنه
إن كان معلنا بها فهو يحب أن يذكر بها، وإن كان مستترا بها فواجب أن يذكر
بها ويحفظ الناس من اتباعه عليها، وبالله التوفيق.
[ما يحتج به على القدرية]
فيما يحتج به على القدرية قال مالك:
بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: في كتاب الله تبارك وتعالى لهؤلاء القدرية
لعلما بينا علمه من علمه وجهله من جهله، لقول الله تبارك وتعالى:
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 161] {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162] {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:
163]
(17/575)
ثم قال مالك: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا
تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] {إِنَّكَ
إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا
كَفَّارًا} [نوح: 27] فأخبر نوح بما لم يكن بأنه فاجر كفار لما سبق من الله
تبارك وتعالى في ذلك وقدر عليهم، قال مالك: وما رأيت أهله من الناس إلا أهل
سخافة عقل وخفة وطيش.
قال محمد بن رشد: الآيتان جميعا بينتان في الرد على المكذبين بالقدر لأن
الله عز وجل أخبر في الآية الأولى التي نزع بها عمر بن عبد العزيز أنهم لا
يفتنون عن دين الله ويردونه إلى ما يعبدونه من دون الله إلا من هو صال
الجحيم بما سبق عليه من قدر الله، وسواء كان الخطاب في قوله: {فَإِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 161] للمشركين الذين يعبدون الأوثان، أو لبني
إبليس وهم الجنة الذين تقدم ذكرهم في التلاوة على اختلاف أهل التأويل في
ذلك، الحجة في ذلك على أهل القدر قائمة؛ لأن المعنى في ذلك أنهم لا يفتنون
ويضلون كانوا المشركين أو الشياطين إلا من قد سبق عليه القدر بأنه يصلى
الجحيم.
وأخبر نوح بالآية التي نزع بها مالك أن قومه إن تركهم الله ولم يهلكهم
بدعائه عليهم إذ دعا عليهم، ولا يكون ذلك إلا وقد أذن الله له في الدعاء
عليهم فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ
دَيَّارًا} [نوح: 26] {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا
يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27] أي إنهم إن ولدوا وليدا فأدرك
كفر وهو شيء علمه من قبل الله عز وجل فقوله له: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ
مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]
(17/576)
فالحجة بها بينة واضحة أيضا على أهل القدر
المكذبين به، ولا يكونون إلا أهل سخافة عقول كما قاله مالك، إذ لو كانوا
ذوي عقول وافرة لما خفيت عليهم هذه الحجج الظاهرة: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي
السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] ، وبالله التوفيق.
[لعب الرجل مع امرأته بالأربعة عشر]
في لعب الرجل مع امرأته بالأربعة عشر
وسئل مالك عن الرجل يلعب مع امرأته في البيت بالأربعة عشر، قال: ما يعجبني
ذلك، وليس من شأن المؤمن اللعب، لقول الله تبارك وتعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] .
قال محمد بن رشد: الأربعة عشر قطع معروفة كان يلعب بها كالنرد وهو النردشير
الذي قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لعب
بالنرد فقد عصى الله ورسوله، ومن لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم
خنزير» ، وكذلك الشطرنج له حكمه، وقد قال فيه الليث بن سعد: إنه شر من
النرد فاللعب بشيء من ذلك كله على سبيل القمار والخطر لا يحل ولا يجوز
بإجماع من العلماء؛ لأنه من الميسر الذي قال الله فيه: {إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . وأما اللعب بشيء
من ذلك كله
(17/577)
على غير وجه القمار فلا يجوز لأن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» فعم ولم
يخص قمارا من غيره، فمن أدمن اللعب بشيء من ذلك كله كان قدحا في إمامته
وشهادته، وقد كان عبد الله بن عمر إذا رأى أحدا من أهله يلعب بالنرد ضربه
وكسرها، وبلغ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن أهل بيت في دارها كانوا
سكانا فيها عندهم النرد فأرسلت إليهم: لئن لم تخرجوه لأخرجنكم من داري
وأنكرت ذلك عليهم، ذكر ذلك مالك في موطئه.
ولا فرق في ذلك كله بين لعب الرجل به مع أجنبي في بيته أو في غير بيته وبين
لعبه به مع أهله في بيته إن كان على الخطار والقمار، فذلك حرام بإجماع، وإن
كان على غير القمار فهو من المكروه الذي تسقط شهادة من أدمن باللعب به، وهو
الذي قال مالك فيه في هذه الرواية: ما يعجبني ذلك، وليس من شأن المؤمن
اللعب لقول الله تبارك وتعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ}
[يونس: 32] فهذا من الباطل، وبالله تعالى التوفيق.
[وجه تفريق الصدقة]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا في
وجه تفريق الصدقة قال مالك: بلغني أن
طاوسا بعث مصدقا، وأنه أعطي نفقة يتجهز بها لخروجه، وكان مما يفعل أن يعطوا
ما يتجهزون به، فأخذها فوضعها في كوة، ثم خرج فقسم كل شيء هنالك ولم يأت
بشيء، فلما رجع سألوه فقال: إني قد قسمتها فكأنهم كرهوا ذلك فقالوا له:
اردد إلينا الدنانير التي أعطيناك، فقال: هي في الكوة لم آخذ منها شيئا،
فأخذوها، قال: وقال مالك بلغني «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بعث معاذ بن جبل إلى اليمن على الصدقات فرجع من اليمن بثيابه
كما خرج لم يرجع بشيء من
(17/578)
الصدقة، قسمها هنالك» قال: وقال مالك:
حدثني يحيى بن سعيد أنه كان مع ابن زرارة باليمامة مصدقا وأن عمر بن عبد
العزيز كتب إليهما في أول عام أن اقسما نصف الصدقة، ثم كتب إليهما في العام
الثاني أن اقسماها كلها، فقلت لمالك أفترى ذلك؟ قال: نعم، هو الشأن أن تقسم
في مواضعها التي أخذت فيهم وفي غيرهم، فقيل له: أفرأيت رجلا قدم قرية فأخذ
منهم زكاتهم أترى أن يقسمها فيهم؟ قال: نعم وفي غيرهم.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين لا إشكال فيه؛ لأن الشأن في قسم الصدقات أن
تقسم في البلاد التي أخذت فيها، فإن فضل عن مساكنها فضل منها تنقل إلى أقرب
البلدان إليهم، فقد تقل الصدقات في البلد ويكثر فيه المساكين، وقد تكثر فيه
الصدقات ويقل فيه المساكين فيجتهد الإمام في ذلك كما فعل عمر بن عبد العزيز
إذ كتب في العام الأول إلى ابن زرارة وصاحبه أن يقسما نصف الصدقة حيث
قبضاها، وفي العام الثاني أن يقسماها كلها.
والصدقات كلها من العين والمواشي والحبوب في ذلك سواء، وإذا حمل الطعام من
البلد الذي لا مساكين فيه أو ما فضل عن المساكين الذين هم فيه إلى البلد
الذي يقسم فيه فيكرى عليه منه أو يبيعه الإمام ويشتري بثمنه طعاما مثله في
البلد الذي يقسمه فيه إن رأى ذلك أرشد من الكراء عليه، فينظر في ذلك
باجتهاده، وقد قيل: إن الأحسن أن يتكارى عليه من الفيء لا منه، والقولان في
رسم العشور من سماع عيسى من كتاب زكاة الحبوب على ما بيناه هناك، وبالله
التوفيق.
[سهم المؤلفة]
في سهم المؤلفة
قال: وسئل مالك عن سهم المؤلفة أترى أن يقسم على
(17/579)
سهمان الصدقة؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: يريد بالاجتهاد لا بالسواء، فإن رأى أن يجعله في صنف واحد
كان ذلك له إذ الزكاة على مذهبه إنما توضع في الأصناف المذكورين في الآية
بالاجتهاد، ويتبع في ذلك الحاجة في كل عام، ولا يقسم بينهم أثمانا على
السواء هذا مذهبه الذي لم يختلف فيه قوله ولا خالفه فيه أحد من أصحابه،
وقيل يجعل نصف ذلك السهم لعمار المساجد ونصفه على سائر الأصناف السبعة.
والمؤلفة قوم من صناديد مضر كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يعطيهم
الزكاة يتآلفهم على الإسلام ليسلم بإسلامهم من وراءهم، منهم أبو سفيان بن
حرب.
واختلف في الوقت الذي بدأ فيه باستيلافهم، فقيل قبل أن يسلموا لكي يسلموا،
وقيل بعد ما أسلموا كي يحبب إليهم الإيمان، وكانوا على ذلك إلى صدر من
خلافة أبي بكر، وقيل إلى صدر من خلافة عمر، ثم قال لأبي سفيان قد أعز الله
الإسلام وأغنى عنك وعن ضربائك إنما أنت رجل من المسلمين وقطع ذلك عنهم.
واختلف هل يعود ذلك السهم إن احتيج إليه أم لا يعود؟ فرأى مالك أنه لا يعود
وهو مذهب أهل الكوفة، وقد قيل: إنه يعود إن احتيج إليه ورأى ذلك الإمام وهو
قول ابن شهاب وعمر بن عبد العزيز وإليه ذهب الشافعي.
[التفكر في أمر الله]
في التفكر في أمر الله قال: وقال مالك:
قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه
التفكر، فقيل له: أفترى التفكر من الأعمال؟ قال: نعم هو اليقين، قال الله
عز وجل:
(17/580)
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 191] .
قال محمد بن رشد: أم الدرداء هي زوجة أبي الدرداء، ولذلك سئلت عما كان أكثر
شأنه إذ هي بصحبتها له ليلا ونهارا أعلم بحاله، اسمها خيرة، وهي صحابية من
خيار النساء وفضلائهن وعقلائهن: وذوات الرأي منهن مع العبادة والنسك، روت
عن النبي عليه السلام وعن زوجها أبي الدرداء، وروى عنها جماعة من التابعين.
والتفكر من الأعمال كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو من أشرف
الأعمال؛ لأنه من أعمال القلوب التي هي أشرف الجوارح، ألا ترى أنه لا يثاب
أحد على عمل من أعمال الجوارح من الوضوء والصلاة والصيام والحج وسائر
الطاعات إلا مع مشاركة القلوب لها بإخلاص النية لله عز وجل في فعلها، وقد
قال سعيد بن المسيب في الصلاة فيما بين الظهر والعصر: ليست هذه عبادة، إنما
العبادة الورع عما حرم الله، والتفكر في أمر الله، يريد أنها ليست بأشرف
العبادات وإنما أشرفها وأكبرها وأقربها وسيلة إلى الله مع الورع عما حرم
الله التفكر في أمر الله، وإنما قال ذلك؛ لأن الله أثنى على المتفكرين في
آياته، وأمر بالاعتبار في مخلوقاته في غير ما آية من كتابه على وحدانيته
وعظمته وقدرته من ذلك قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 185] الآية: و {أَفَلا يَنْظُرُونَ
إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ
رُفِعَتْ} [الغاشية: 18] الآية وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى
السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق: 6] الآية
وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]
(17/581)
وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
[البقرة: 164] وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58] الآيات
إلى آخرها وقوله: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] إلى
قوله: {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] وما أشبه ذلك في القرآن
كثير لا يحصى، فالاعتبار في آيات الله التي أمرنا بالاعتبار فيها والتفكر
في أمرها والاستدلال بها على وحدانيته وعظمته وقدرته، واستشعار اليقين بما
وعد به من أطاعه من الثواب وأوعد به لمن عصاه من أليم العذاب من أكبر
العبادات والأعمال وأقربها وسيلة إلى الله عز وجل ذي العظمة والجلال.
وحكى يحيى بن يحيى عن البكاء وكان فاضلا، قال: كنت مع ابن شريح بالقيروان،
فقلت: لأرمقن الليلة صلاته. فتبعته بعد صلاة العشاء فدخل بيته وتوسدت عتبته
فرأيته دخل مسجده واستقبل القبلة وجلس كذلك، فسمعته حينا بعد حين يدعو
كالمتفكر فيما جلس، فلم يزل كذلك شأنه حتى طلع الفجر، فقام فركع ركعتين ثم
خرج إلى المسجد فرأيت يحيى يعجبه ذلك كثيرا ويقول: بالتفكر يستدل على حسن
الأعمال، وبالله التوفيق.
(17/582)
[ما جاء فيمن
أخاف أهل المدينة]
قال: وسمعت مالكا يذكر أن «جابر بن عبد الله كان قد كف بصره، وأنه خرج
متوكئا على يد رجل يريد حاجته حتى كان بالحرة فنكبه حجر، فقال جابر: لعن
الله من أخاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سمعت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من أخاف أهل المدينة
فقد أخاف ما بين جنبي» .
قال محمد بن رشد: إنما قال جابر بن عبد الله ما قاله مما كان عنده عن النبي
عليه السلام فيمن أخاف أهل المدينة إنما تذكر لما صار بالحرة ما جرى على
أهل المدينة فيها يوم الحرة من الوقيعة التي دارت عليهم، وما انتهى إليهم
في ذلك اليوم مسلم ابن عقبة، وإلى جيش يزيد بن معاوية من تخويف الناس، إذ
دخل المدينة ودعا الناس إلى مبايعة يزيد بن معاوية على أنه حول له، وقتل من
قتل على ذلك صبرا، وقد مضى ذكر ذلك في آخر رسم نذر سنة، عند قول مالك، عن
سعيد بن المسيب: خلا مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ثلاثة أيام لم يجمع فيه من حين كان يوم قتل عثمان ويوم الحرة ويوم آخر
نسيته وبالله تعالى التوفيق.
[خوف دعاء الرجل الصالح]
في خوف دعاء الرجل الصالح قال: وقال
مالك: دخل سعيد بن المسيب مع سعد بن أبي وقاص على مروان فكلمه في شيء فأغلظ
عليه القول، فقال: قال ابن المسيب: فلقد كرهت دخولي معه لما رأيت من غلظة
كلامه. فقال مروان: إن القول ما أقول، فرفع سعد يديه ليدعو على مروان، وعلى
سعد رداء قصير، فوثب إليه مروان فأخذ بذراعيه
(17/583)
فقال: لا أقوله، القول ما قلت يا أبا إسحاق
لا أخالفك، فقال سعدا لو أنك ما فعلت ما زلت أدعو عليك حتى يسقط ردائي.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[تأهب سعيد بن المسيب لحديث النبي عليه السلام]
في تأهب سعيد بن المسيب لحديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
وما جرى له مع نافع بن جبير في
مرضه قال: وقال مالك: بلغني أن رجلا دخل على سعيد بن المسيب فسأله عن حديث،
فجلس يحدثه وكان مضطجعا، فقال له الرجل: وددت أنك لم تتعن، فقال له سعيد:
إني كرهت أن أحدثك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأنا مضطجع، قال: وقال
مالك: ودخل عليه مالك بن جبير بن مطعم وهو مريض ولم يطعم منذ ثلاثة أيام،
فقال له أهله: إنه لم يطعم منذ ثلاثة أيام. قال: فكلمه فقال له سعيد: وكيف
يأكل إنسان على هذه الحال؟ فقال له: لا بد لصاحب الدنيا ما كان فيها أن
يطعم، قال: فما زال به حتى حسا حسوا ثم قال له: سل الله العافية فإني أرى
الشيطان قد كان يغيظه مجلسك من المسجد، فقال لي ابن المسيب: اللهم سلمني
وسلم مني.
قال محمد بن رشد: هذا مما يستحسن من تعظيم حق النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- في التحدث بحديثه، وقد كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحدث عن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلا وهو على وضوء، وروي أن هارون الرشيد قصد مالكا -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في منزله فأوقفه على بابه ثم أذن له، فعاتبه على ذلك
وقال له. لم تأتنا، فإذا جئناك حجبتنا، فقال له: علمت أنك أتيت لحديث النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -
(17/584)
فأردت أن أتأهب له، وما جرى له مع نافع بن
جبير بن مطعم دال على ما- كان عليه من الفضل وملازمة الجلوس في المسجد،
وبالله التوفيق.
[الله يظهر على عبده ما يستخفى به من عبادته
إياه]
في أن الله يظهر على عبده
ما يستخفى به من عبادته إياه قال: وسمعت مالكا يقول: بلغني أن الحسن كان
يقول: ابن آدم، اعمل وأغلق عليك سبعة أبواب يخرج الله عملك للناس.
قال محمد بن رشد: معنى قول الحسن مروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،
روى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أسر سريرة
ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر» ومن هذا المعنى قوله -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عن ربه فانظروا ماذا
يتبعه من حسن الثناء، وبالله التوفيق.
[اهتمام عمر بن الخطاب بأمور المسلمين]
في اهتمام عمر بن الخطاب
بأمور المسلمين قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب كان يقول: إني لأضطجع على
فراشي فما يأتني النوم وأقوم إلى الصلاة فما يتوجه لي القرار من اهتمامي
بأمر الناس، قال مالك: كان يريد عمر ابن الخطاب أن يطاع الله فلا يعصى.
(17/585)
قال محمد بن رشد: إنما بلغ عمر بن الخطاب
إلى هذا الحد من الاهتمام بأمور المسلمين لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
-: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته»
الحديث، وقد قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو مات جمل بشط الفرات ضياعا
لخشيت أن يسألني الله عنه، وبالله التوفيق.
[ما يقول من سمع المؤذن]
ما جاء فيما يقول من سمع المؤذن
قال: وسئل عن الحديث أن يقول كما يقول المؤذن، أيقال فيه حي على الصلاة؟
قال: إن الذي يقع في قلبي من تفسير الحديث إنما يراد به إلى أشهد أن محمدا
رسول الله، فقيل له: أفيقال ذلك في المكتوبة؟ قال: لا، ولكن يقوله في
النافلة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة أن معنى الحديث إذا أذن المؤذن فقل
مثل ما يقول، إنما ذلك إلى هذا الموضع، أشهد أن محمدا رسول الله فيما يقع
بقلبي، زاد فيها، ولو فعل ذلك رجل لم أر به بأسا، فقيل معناه لو اقتصر على
هذا لم أر به بأسا، وقيل معناه لو قال مثل ما يقول المؤذن في بقية أذانه
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله لم أر به بأسا، والتأويل الأول أحسن؛
لأن قوله: الله أكبر الله أكبر إذا قال ذلك المؤذن لا يقال فيه لا بأس به،
وإنما يقال فيه إنه مستحب من الفعل، وإنما الكلام هل هو مستحب أو واجب وجوب
السنن بظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا سمعتم النداء فقولوا
مثل ما يقول المؤذن» ، وعلى هذا اختلف فيمن كان جالسا فسمع مؤذنا يؤذن فقال
مثل ما قال، ثم أذن غيره هل يجب عليه أيضا أن يقول مثل ما قال أو لا يجب
ذلك عليه؟ إذ قال مثل قوله إذ سمع المؤذن الأول.
(17/586)
وأما قوله حي على الصلاة حي على الفلاح فلا
يقوله، إذ ليس بتكبير ولا تهليل ولا ذكر الله، وإنما هو دعاء إلى الصلاة،
وهو ليس بمناد للصلاة ولا داع إليها، وكان ميمون بن مهران يقول: إذا قال
المؤذن حي على الصلاة حي على الفلاح: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكانت
عائشة تقول مثل ما يقول المؤذن فإذا قال حي على الصلاة كفت فلم تقل شيئا
مثل ما ذهب إليه مالك، وقال ابن حبيب: قل لا حول ولا قوة إلا بالله عند حي
على الصلاة حي على الفلاح ثم الرجوع إلى أن يقول مثل ما يقول المؤذن في
بقية أذانه أفضل لمعنى الحديث إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن.
وقوله: إنه يقول مثل ما يقول المؤذن في النافلة دون المكتوبة هو مثل ما في
المدونة، وقال ابن وهب إنه يقول مثل ما يقول المؤذن في المكتوبة والنافلة،
وروى مثله أبو المصعب عن مالك، واختاره ابن حبيب، وقال سحنون لا يقول مثل
ما يقول لا في المكتوبة ولا في النافلة، وبالله التوفيق.
[ما هو قلب الشيخ فيه شاب]
فيما هو قلب الشيخ فيه شاب حدثني مالك
عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن شيخ من أهل الطائف أنه سمع أبا هريرة يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قلب الشيخ شاب في اثنتين، حب الحياة،
وحب المال» .
قال محمد بن رشد: ما أخبر به النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أن الشيخ لا
يشيخ أمله في حب الحياة وحب المال هو موجود معلوم من أحوال الشيوخ، والأمل
الذي جبل الله تعالى عليه الخلق هو سبب ما قدره الله عز وجل
(17/587)
وأراده من عمارة الدنيا، إذ لو انقطع الأمل
في الدنيا بالفكرة في الموت وما بعده لما استقام فيها عيش، وقد قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البهائم: «لو علمت من الموت
ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا» وبالله تعالى التوفيق.
[حكايات عن سعيد بن أبي هند وعبد الوهاب بن بخت]
حكايات عن سعيد بن أبي هند وعبد
الوهاب بن بخت قال: وسمعت مالكا ذكر أن سعيد بن أبي هند كان رجلا قد سرد
الصيام، وإنما سحوره إنما كان في سكرجة، فكانت امرأته ربما كلمته في ذلك،
فيقول اللهم أرحني منها، فقيل له: ما تفسير ذلك؟ فقال يريد أن يستريح من
الدنيا، قال مالك: كان عبد الوهاب ابن بخت إذا مر بالسقيا يرفع يديه ويقول:
الحمد لله الذي لم يجعلك لي، ولم يكن هو أحق بشيء من ماله في السفر من
رقيقه، قال: ولقد بلغني أنه حين خرج إلى الغزو فانبعثت به راحلته قال: عسى
ربي أن يهديني سواء السبيل، فاستشهد، قال: وقال مالك: كان ابن أبي هند قد
سرد الصيام فلما مرض دخل عليه يحيى بن سعيد فقال له: لو أفطرت، فقال: ليس
هذا حين الترك.
قال محمد بن رشد: قد فسر مالك معنى قول سعيد بن أبي هند اللهم أرحني منها
أن معنى ذلك بالموت، فيستريح من الدنيا، ومن أراد
(17/588)
الراحة من الدنيا وأحب لقاء الله عز وجل
أحب الله لقاءه على ما جاء في الحديث الصحيح، من أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال الله عز وجل: إذا أحب عبدي لقائي
أحببت لقائه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه» وإن كان قد قيل في هذا الحديث: إن
المعنى فيه عند المعاينة، فهو قبلها أبلغ في محبة لقاء الله عز وجل.
وإنما حمد الله عبد الوهاب إذ لم يجعل السقيا له، إذ لو كانت له لم يأمن
على نفسه الفتنة بها والاشتغال بالنظر فيها على الإقبال على عبادة ربه. وقد
كان أبو طلحة الأنصاري يصلي في حائطه فطار دبسي فطفق يتردد يلتمس مخرجا،
فأعجبه ذلك، فجعل يتبعه بصره ساعة ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم
صلى؟ فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة، فجاء إلى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الذي أصابه في حائطه من الفتنة، وقال:
يا رسول الله هو صدقة لله فضعه حيث شئت.
وقوله حين انبعثت به راحلته في خروجه إلى الغزو: عسى أن يهديني ربي سواء
السبيل معناه عسى أن يبعثه الله على الطريق المستقيم إلى الجنة، فأجاب الله
دعاءه بأن استشهد في غزوته تلك؛ لأن الشهادة هي الطريق القاصدة إلى الجنة،
وبالله التوفيق.
[الخصال التي تصلح أن تكون في القاضي]
في الخصال التي تصلح أن تكون
في القاضي
قال: وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: لا يصلح للقاضي أن يقضي إلا أن
يكون عالما بما كان قبله من الأمر مستشيرا لذوي الرأي.
(17/589)
قال محمد بن رشد: هاتان الخصلتان من الخصال
التي يستحب أن تكون في القاضي، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز منها خمس خصال
بهاتين الخصلتين، وهي أن يكون عالما بالفقه والسنة ذا نزاهة عن الطمع،
مستخفا بالأئمة يريد أنه يدير الحق على من دار عليه ولا يبالي بمن لامه على
ذلك، وقيل معناه مستخفا بالأئمة أي لا يهابهم في القضاء بالحق وإن كرهوا
ذلك منه، حليما على الخصم، مستشيرا لأولي العلم، وهي كثيرة منها أن يكون من
أهل البلد ممن يسوغ له الاجتهاد، معروف النسب ليس بابن لعان ولا ولد زنى،
غنيا ليس بفقير ولا محتاج، نافذا فطنا غير مخدوع لعقله ولا محدود في قذف
ولا زنى ولا سرقة، وروي عن عمر ابن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه
قال: لا يصلح أن يلي القضاء إلا من كان حصيف العقل شديدا في غير عنف لينا
في غير ضعف، قليل الغرة بعيد الهيبة لا يطلع الناس منه على عورة.
فهذه الخصال المستحسنة ينبغي توخيها وبعضها أكثر من بعض، فيقدم الذي يجتمع
فيه منها أكثرها، وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أرى خصال القضاء
تجتمع اليوم في أحد، فإذا اجتمع فيه منها خصلتان رأيت أن يولى: العلم
والورع، قال ابن حبيب: فإن لم يكن علم وورع فعقل وورع، فبالعقل يسأل،
وبالورع يقف، وإذا طلب العلم وجده، وإن طلب العقل لم يجده، يريد بالعقل
العقل الحصيف، وأما العقل الذي يوجب التكليف فهو مشترط في صحة الولاية
كالإسلام والحرية والبلوغ والذكورية والتوحد فإن ولي من عدم خصلة من هذه
الخصال الست لم تنعقد له الولاية، ومن الخصال خصال ليست مشترطة في صحة
الولاية إلا أنه يجب عزله عنها بعدم شيء منها، وهي أن يكون سميعا بصيرا
متكلما.
واختلف في العدالة، فقيل: إنها مشترطة في صحة الولاية كالإسلام
(17/590)
والحرية وسائر الشروط المشترطة في صحة
الولاية، وقيل: إنها ليست مشترطة في صحة الولاية إلا أن عدمها يوجب عزله عن
الولاية.
واختلف في الأمية، فقيل: إنه لا يجوز أن يولى القضاء وإن كان النبي أميا
لأن النبي ليس كغيره، وقيل ذلك جائز إذ لا يلزمه قراءة العقود ولا كتاب
المقالات وله أن يستنيب في ذلك غيره، وبالله التوفيق.
[حكاية عن عمر بن الخطاب]
قال: وقال مالك: بلغني أن رجلا قال لعمر بن الخطاب: أكون في منزلة لا أخاف
في الله لومة لائم، قال عمر إن وليت من أمر الناس شيئا، وإلا فأمر بالمعروف
وانه عن المنكر وأقبل على نفسك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين ليس فيه ما يشكل وبالله تعالى التوفيق.
[ما جاء في بلال]
قال مالك: بلغني أن بلالا قال لأبي بكر لما ولي: ائذن لي نخرج إلى الشام في
الجهاد، فقال أبو بكر: لا، فقال له بلال: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني،
وإن كنت أعتقتني لله فخل سبيلي، فقال له أبو بكر: قد خليتك.
وسئل مالك هل أذن بلال لأحد بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؟ فقال: ما أذن لأحد بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، ولقد سمعت أنه أذن لعمر بن الخطاب حين دخل الشام،
(17/591)
سأله ذلك فقام فأذن فبكى الناس وذكروا رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبكوا لذلك.
قال محمد بن رشد: قد روي أنه أذن لأبي بكر حياته، ذكر ابن عبد البر في كتاب
الصحابة أن ابن شيبة ذكر عن حسين بن علي، عن شيخ يقال له الحفصي عن أبيه عن
جده قال: أذن بلال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أذن لأبي بكر
حياته، ولم يؤذن في زمن عمر، فقال له عمر: ما منعك أن تؤذن؟ قال: إني أذنت
لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى قبض، وأذنت لأبي بكر
حتى قبض لأنه كان ولي نعمتي، وقد سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: «يا بلال ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله، فخرج
فجاهد» ويقال إنه أذن لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذ دخل الشام مرة
فبكى عمر وغيره من المسلمين، وبالله التوفيق.
[ما يسود الرجل به قومه]
فيما يسود الرجل به قومه قال: وقال
مالك: بلغني أن معاوية بن أبي سفيان قال للأحنف بن قيس: بم شرفت قومك وأنت
لست بأشرفهم ولا بأسنهم ولا بأيسرهم؟ فقال: إني لا أتناول ما كفيت، ولا
أضيع ما وليت، فقيل له أو قال: لو وجدت الناس كرهوا شرب الماء ما شربته
فقال: قد سمعت وليس هذه تشبه هاتين.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أتناول ما كفيت هو من معنى قول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وقوله ولا أضيع ما
وليت هو من معنى قول الله عز وجل: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ
كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34]
(17/592)
والخصلة الثالثة هي من معنى قول النبي عليه
السلام: «مداراة الناس صدقة» وصدق مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هذه ليست
تلحق بالأولين، فمن ترك ما لا يعنيه ووفى بما يلزمه الوفاء به وسالم الناس
فقد حاز محاسن الأخلاق ومكارمها، واستحق بذلك السؤدد والشرف، وبالله
التوفيق.
[تحري وقت قتال العدو]
في تحري وقت قتال العدو قال: وسألته هل
بلغك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتحرى قتال العدو
بعد زوال الشمس؟ فقال: ما بلغني وما كان قتال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل خيبر إلا في أول النهار حين قالوا وخرجوا
بمساحيهم ومكايلهم، فقالوا: محمدا والخميس وما كان قتالهم يوم أحد إلا في
أول النهار.
قال محمد بن رشد: روي «عن النعمان بن مقرن قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول
الشمس وتهب الرياح وينزل النصر» وروي عنه أنه «قال غزوت مع النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فكان إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت
قاتل، فإذا انتصف النهار أمسك حتى تزول الشمس، فإذا زالت الشمس قاتل إلى
العصر ثم أمسك حتى يصلي العصر، ثم يقاتل، قال: وكان يقال عند ذلك تهيج ريح
النصر ويدعو المؤمنون في صلاتهم» فهذا هو المروي عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - في هذا خرجه الترمذي لأنه كان يتحرى قتال العدو بعد زوال
الشمس فلا يقاتل قبله، هذا الذي قال مالك إنه لم يبلغه والله أعلم.
[مخالطة اليتيم في النفقة]
17 -
(17/593)
في مخالطة اليتيم في النفقة قال: وسئل مالك
عن اليتيم يكون عند الرجل فيأخذ نفقته فيريد أن يخلطها بنفقته ويكون طعامهم
واحدا كيف ترى فيه؟ قال:
لما أخبرك بالشأن فيه، إن كان يعلم أنه يفضل عليه وأن الذي ينال اليتيم من
طعامه هو أكثر وأفضل من نفقته فلا أرى بذلك بأسا، وإن كان لا ينال من ذلك
الذي هو أفضل فلا يعجبني ذلك.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا صحيح بين أخذه من قول الله عز وجل:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ
تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] أي يعلم من يخالط اليتيم لينفعه بما يصيب
اليتيم من طعامه زائدا على ما يصيب هو من طعام اليتيم، أو لينتفع هو بما
يصيب من طعام اليتيم زائدا على ما يصيب اليتيم من طعامه.
وقد اختلف في السبب الذي من أجله سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اليتامى فأنزل الله في ذلك ما أنزل، فروي عن ابن
عباس قال: لما نزلت {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] الآية. انطلق من كان عنده يتيم يعزل
طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء من طعامه فيحبس له حتى
يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
-، فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] فخلطوا طعامهم بطعامهم،
(17/594)
وشرابهم بشرابهم، وقد روى أن اتقاء مال
اليتيم واجتنابه كان من أخلاق العرب، كانوا لا يأكلون معهم في قصعة واحدة
ولا يركبون لهم بعيرا ولا يستخدمون لهم خادما، فلما جاء النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - سألوه عن ذلك فقال الله عز وجل: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ
خَيْرٌ} [البقرة: 220] أي إن تفضلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم من غير مرزئة
منكم لشيء من أموالهم خير لكم عند الله لما لكم في ذلك من الثواب عنده وخير
لهم في أموالهم في عاجل دنياهم، ثم قال: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] أي إن تخلطوا أموالكم بأموالهم في المطاعم
والمشارب وغير ذلك فينتفعون بمخالطتكم إياهم عوضا من قيامكم على أموالهم
فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضا.
وقد اختلف أهل العلم فيما يحل للولي من مال يتيمه لقول الله عز وجل:
{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] ، بعد إجماعهم على أن أكل مال
اليتيم ظلم من الكبائر لا يحل ولا يجوز، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا
كَبِيرًا} [النساء: 2] وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] .
فأما الفقير المحتاج فلا اختلاف في أنه يسوغ له أن يأكل من مال يتيمه بعد
اشتغاله به وخدمته فيه وقيامه عليه، على ما جاء عن ابن عباس من قوله للذي
سأله هل له أن يشرب من لبن إبل يتيمه: إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنأ جرباها
وتلط حوضها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب.
(17/595)
وأما إن لم يكن له فيه خدمة ولا عمل فلا
يسوغ له أن يأكل منه إلا ما لا ثمن ولا قدر ولا قيمة مثل اللبن في الموضع
الذي لا ثمن له فيه على ما قاله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب
الوصايا، ومثل الفاكهة من حائطه على ما قاله في أول سماع أشهب من هذا
الكتاب.
ومن أهل العلم من أجاز له أن يأكل منه على سبيل السلف.
ومنهم من أجاز له أن يأكل منه ويكتسي بقدر حاجته وما تدعو إليه الضرورة،
وليس عليه رد ذلك.
وأما الغني فإن لم يكن له في ماله خدمة ولا عمل سوى أنه يتفقده ويشرف عليه
فليس له أن يأكل منه إلا ما لا قدر له ولا بال، مثل اللبن في الموضع الذي
لا ثمن له فيه، والثمر يأكله من حائطه إذا دخله.
واختلف إذا كان له فيه خدمة وعمل فقيل: إن له أن يأكل منه بقدر عمله فيه
وخدمته له، وقيل ليس ذلك له لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] .
[قول عمرلأسيد بن الحضير في ما كان يكسوه إياه]
في قول عمر لأسيد بن الحضير في ما كان
يكسوه إياه قال: وحدثني مالك عن أسيد بن الحضير أن عمر بن الخطاب كان يكسوه
الحلة فيبيعها ويشتري دونها ويشتري بفضل ذلك رقبة يعتقها، فبلغ ذلك عمر بن
الخطاب، فاشتد عليه ذلك، وقال: نكسو أحدهم الحلة ليعرف بها منزلته وفضله ثم
يبيع ذلك،
(17/596)
لينتهين عن ذلك أو لأتركنه فقال أسيد: يا
عمر لأن أحدنا قدم لآخرته منعته حقه؟ قال: فقال عمر: لا والله ليعطين حقه.
قال محمد بن رشد: الحلل الثياب المبطنة أكثرها عندهم من البرود اليمانية،
وأحب عمر بن الخطاب أو يلبس الحلل من كان يكسوه إياها وكره أن يستبدلها
بأدنى منها لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله يحب أن يرى أثر
نعمته على عبده» «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي رآه قشف
الهيئة: هل لك مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل المال، قال: "
فلير عليك مالك» ، وقال في صاحب جابر بن عبد الله الذي رآه يرعى ظهره وعليه
بردان له قد خلقا «فقال لجابر بن عبد الله: أما له غيرهما؟ فقال: بلى، له
ثوبان في العيبة كسوته إياهما، فقال: فادعه فمره فليلبسهما، فدعاه فلبسهما
ثم ولى يذهب [فقال رسول الله] ، ما له ضرب الله عنقه؟ فسمعه الرجل فقال: في
سبيل الله يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: في سبيل الله، فقتل الرجل في سبيل الله» وقال عمر بن الخطاب
إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب، وقال: إذا أوسع الله عليكم
فأوسعوا على أنفسكم.
ومضى قول عمر: لينتهن عن ذلك أو لأتركنه، أي لأتركن أن أكسو الحلل لمن
يبيعها ولا يلبسها وأعطيه عوضها منها وأكسوها لمن يلبسها ولا يبيعها، وذلك
بين من قوله: لا والله ليعطين حقه.
ولبس الثياب الحسان للجمال بها مباح جائز قال الله عز وجل: {قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الآية، وقال رجل للحسن: يا أبا
سعيد، إنا قد وسع الله علينا فننال من كسوة وعطر ما لو شئنا اكتفينا بدونه،
فما تقول؟ فقال:
(17/597)
أيها الرجل إن الله أدب أهل الإيمان فأحسن
أدبهم فقال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] وإن الله ما عذب
أقواما أعطاهم الدنيا فشكروه، ولا عذر قوما زوى عنهم الدنيا فعصوه.
وقال بعض الحكماء: البسوا ثياب الملوك وأشعروا قلوبكم الخشية، وكان القاسم
بن محمد بن أبي بكر الصديق يلبس الخز وسالم ابن عبد الله بن عمر يلبس الصوف
وكانا يتجالسان في المسجد فلا ينكر واحد منهما على صاحبه لباسه، وقد كره
العلماء من اللباس الشهرتين: وذلك الإفراط في البذاذة وفي الإسراف والغلو.
وروي عن الحسن البصري أنه قال: إن قوما جعلوا خشوعهم في لباسهم وكبرهم في
صدورهم وشهروا أنفسهم بلباس هذا الصوف حتى إن أحدهم لما يلبس من الصوف أشد
كبرا من صاحب المطرف بمطرفه، وقال رجل لإبراهيم النخعي: ما ألبس من الثياب؟
فقال: ما لا يشهرك عند العلماء ولا يحقرك عند السفهاء ولهلال ابن العلاء
وكان عالما:
أجد الثياب إذا اكتسيت فإنها ... زين الرجال بها تهاب وتكرم
ودع التواضع في اللباس تحريا ... فالله يعلم ما تكن وتكتم
فدني ثوبك لا يزيدك زلفة ... عند الإله وأنت عبد مجرم
[السرف في الإنفاق]
حكاية عن عمر بن الخطاب قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: لخرق الرجل
أشد على من عدمه إنه ليستفيد المال بعد العدم، والخرق لا يقوم له شيء.
قال محمد بن رشد: قد بين عمر معنى قوله بما لا مزيد عليه؛ لأن الخرق
السرف في الإنفاق الذي قد ذمه الله عز
وجل، بدليل قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ
يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] .
(17/598)
[وقاية العرض بالمال]
في وقاية العرض بالمال قال [مالك: بلغني
أن عمر بن الخطاب هو] سمعت مالكا يقول: إن رجلا من أهل الفقه كانت عنده
وديعة ليتيم كان يليها وإنها ضاعت، فباع مالا له ببضعة عشر ألفا ثم أداها،
قيل له أفرأى الناس عليه ذلك؟ قال: لا، لم يروا ذلك عليه، ولكنه تطوع بذلك
كراهية القالة والتماس تقوى الله وأن لا يجاحد لأحد شيئا، وما كان ذلك
عليه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لأنه من فعل أهل النزاهة والفضل،
وبالله التوفيق.
[التطاول في البنيان من أشراط الساعة]
في أن التطاول في البنيان من
أشراط الساعة قال: وقال مالك: بلغني أن من أشراط الساعة التطاول في البنيان
ولقد أنكر الناس حين بنى عثمان داره هذا البناء ولقد أصاب الناس مطر في ذلك
الزمان، فجاءه بعض من يعنيه أمره حين أصبح سأله عن بنيانه، كأنه خاف أن
يكون قد انهدم عليه بنيانه.
قال محمد بن رشد: التطاول في البنيان مكروه، مذموم، بدليل ما جاء فيه أنه
من أشراط الساعة، ولذلك أنكر الناس على عثمان حين بنى داره هذا البناء على
ما ذكره مالك في هذه الرواية، وقد روي من رواية أنس بن مالك أن «رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج فرأى قبة مشرفة، فقال: ما هذه؟
فقال له أصحابه: هذه لرجل من الأنصار، فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء
صاحبها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
(17/599)
الناس أعرض عنه، صنع ذلك به مرارا حتى عرف
الرجل الغضب والإعراض عنه شكى ذلك إلى أصحابه، فقال: والله إني لأنكر رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما أدري ما حدث لي وما صنعت،
قالوا خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأى قبتك،
فسأل لمن هي، فأخبرناه، فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض، فخرج
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فلم يرها، فقال:
ما فعلت القبة التي كانت هاهنا؟ فقالوا شكى صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه
فهدمها، فقال: أما إن كل بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا إلا ما
لا» يريد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا ما إلا ما بني
في غير ظلم ولا اعتداء بدليل ما روي من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من بنى بنيانا في غير ظلم ولا اعتداء أو غرس غرسا في غير ظلم
ولا اعتداء كان أجره له جاريا ما انتفع به أحد من خلق الرحمن» ، فلا يجوز
الاعتداء في البناء وهو التطاول فيه والعلو والسرف، وإنما يجوز منه ما كان
بوجه السداد على قدر الحاجة.
والتطاول في البنيان من أشراط الساعة التي قد أعلم الله أنها قد جاءت بقوله
عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً
فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] معناه فما ينظرون إلا قيام الساعة
بالنفخة الأولى التي أخبر الله أنه يطعن بها أي يموت من في السماوات ومن في
الأرض إلا من شاء الله أن تأتيهم فجأة فقد جاء أشراطها.
وأشراطها التي قد جاءت كثيرة.
فالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أشراطها قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بأصبعيه الوسطى والسبابة، أو جمع بين
أصابعه الوسطى والسبابة على ما جاء في ذلك عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
(17/600)
وانشقاق القمر في حياته - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - على ما جاءت به الآثار من أشراطها قال الله عز وجل:
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] .
ورمي الشياطين بالشهب في سماء الدنيا من أشراطها.
ومن أشراطها التي قد رأيناها أكبرها أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويخرب
العامر ويعمر الخراب وتشرب الخمر، ويظهر الزنا، ويقل الرجال. ويكثر النساء
حتى تكون لخمسين امرأة القيم الواحد، وأن يطلب العلم عند الأصاغر، وأن يوسد
الأمر إلى غير أهله، فقد جاء أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «سئل متى الساعة؟ فقال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر
الساعة» ومن أشراطها: أن يظهر الفحش والتفحش وقطيعة الرحم، ويسوء الجوار
ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وأن يرى رعاء الشاء على رؤوس الناس، وأن يرى
الحفاة العراة الجوع يتبارون في البنيان، وأن تلد الأمة ربتها وربها، وقد
روي أن من أشراط الساعة أن يظهر العلم ويفيض المال، ويكثر التجار، وأن من
أشراطها أن تقاتلوا قوما ينتعلون الشعر، وأن تقاتلوا قوما كأن وجوههم
المجان المطرقة فهذه الأشراط، وما روي مما هو في معناها أمارة تدل على
قربها.
وأما أشراطها التي تكون بين يديها فعشرة، منها خمسة وقع العلم بها لتواتر
الآثار بها، وهي يأجوج ومأجوج، والدابة، والدجال، ونزول عيسى ابن مريم،
وطلوع الشمس من مغربها.
وأما الخمسة الأخرى: فخسفا بالمشرف، وخسفا بالمغرب، وخسفا بجزيرة العرب،
والدخان، ونار تخرج من قعر عدن تميل معهم إذا مالوا وتروح معهم إذا راحوا،
روي «عن أبي سريحة، قال: أشرف علينا رسول الله
(17/601)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
غرفة فقال: ما تذكرون؟ ما تقولون؟ قال: قلنا يا رسول الله الساعة، قال:
إنها لن تقوم حتى تروا عشر آيات، فذكر هذه العشرة» والدخان الذي ذكر فيها
هو غير الدخان المذكور في سورة الدخان قوله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] لأن ذلك الدخان قد مضى
على ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن قريشا استعصت وكفرت فدعا
عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: ارتقب يوم تأتي السماء بدخان
مبين، فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا العظام والميتة، وقد كان الرجل يرى
ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجهد، فقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ
عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12] فكشف عنهم وقال:
{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15]
فعادوا في كفرهم فأخذهم الله في يوم بدر، وقال: {يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] في هذا الحديث
بيان واضح أن الدخان المذكور في الآية قد مضى، إذ لو كان في القيامة لم
يكشف عنهم، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: خمس قد مضين، الدخان والقمر
والدوم واللزام، وبالله التوفيق.
[تعريف المدية]
في أن المدية هي السكين قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة قال: ما كنا نسمي
السكين إلا المدية حتى أنزل الله في كتابه سكينا.
(17/602)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا
إشكال فيه وبالله تعالى التوفيق.
[تذكية ما يجعل في الترياق]
في تذكية ما يجعل في الترياق
من الأفاعي قال: وذكر لمالك أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الذين يعملون
الترياق ألا يجعلوا فيه إلا ذكيا، فقيل له: أفترى لها ذكاة؟ قال: نعلم لمن
ابتغى ذلك منها، فلها ذكاة إذا أصاب الموضع يريد المذبح.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن كل ما له لحم ودم سائل من
الخشاش والدواب لا يؤكل إلا بذكاة لقول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] الآية وإنما
اختلف في الخشاش التي ليس لها لحم ولا دم سائل، فقيل: لها حكم دواب البحر
أنها تؤكل بغير ذكاة، وإنها لا تفسد ما مات فيه من طعام أو إدام، وهو قول
عبد الوهاب في التلقين، وقيل: إنه لا يؤكل شيء من ذلك إذا احتيج إليه إلا
أن يذكي بما يذكى به الجراد من قتلها بقطع رؤوسها أو أرجلها أو طرحها في
المرعف أحياء، وفي التذكية للجراد اختلاف، إذ قد قيل: إنها من صيد البحر
على ما جاء عن كعب من قوله والذي نفسي بيده إن هي إلا نثرة حوت ينثره كل
عام مرتين وقيل: إن أخذها ذكاتها.
(17/603)
[ما جاء من
الأحاديث بخلاف ما عليه العمل]
في ما جاء من الأحاديث
بخلاف ما عليه العمل قال: وقال مالك: كان رجال من أهل العلم يتحدثون
بأحاديث وتبلغهم عن غيرهم فيقولون: ما نجهل هذا، ولكن مضى العمل على غير
هذا، قال مالك: كان القاسم بن محمد لا يكاد يرد على أحد في مجلسه شيئا،
قال: فتكلم ربيعة يوما فأكثر فصمت عنه، قال يحيى: فانصرف وانصرفت معه فتوكأ
علي ثم قال: [لا أبا لشأنك] أرأيت ما كان يذكر هذا منذ اليوم؟ أين كان
الناس عنه أترى الناس كانوا غافلين عما كان؟ يقول، يريد بذلك استنكارا لما
كان من القول.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب مالك أن العمل المتصل بالمدينة مقدم
على أخبار الآحاد العدول؛ لأن المدينة دار النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
وبها مات وأصحابه متوافرون، فيبعد أن يخفى الحديث عنهم ولا يمكن أن يتصل
العمل به من الصحابة إلى من بعده على خلافه إلا وقد علموا النسخ فيه، وكذلك
القياس عنده مقدم على خبر الآحاد إذا لم يمكن الجمع بينهما، والحجة في ذلك
أن خبر الواحد يجوز عليه النسخ والغلط والسهو والكذب والتخصيص، ولا يجوز
على القياس من الفساد إلا وجه، وهو أن هذا الأصل هل هو معلول بهذه العلة أم
لا؟ فصار أقوى من خبر الواحد، فوجب أن يقدم عليه، وبالله التوفيق.
(17/604)
[التعوذ بكلمات الله]
في التعوذ بكلمات الله وذكر حديث النبي
عليه السلام في أعوذ بكلمات الله التامات، فقالوا له: ثلاثا؟ فقال: ما سمعت
إلا كذا، وثلاث أفضل.
قال محمد بن رشد: قوله وذكر حديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، يريد ذكر
مالك حديثه الذي رواه في موطئه عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة
أن «رجلا من أسلم قال: ما نمت هذه الليلة، فقال له رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمن أي شيء؟ قال: لدغتني عقرب، فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما أنك لو قلت حين أمسيت:
أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك» فقالوا له: هل في الحديث
أما أنك لو قلت ثلاثا حين أمسيت؟ فقال: ما سمعت إلا كذا، أي ما سمعت في
الحديث ثلاثا وثلاث أفضل.
وليس في قوله أعوذ بكلمات الله التامات دليل على أنه له عز وجل كلمات غير
تامات؛ لأن كلماته هي قوله، وكلامه صفة من صفات ذاته، يستحيل عليها النقص.
وفي الحديث بيان واضح على أن كلماته عز وجل عند مخلوقاته، إذ لا يستعاذ
بمخلوق، وهذا هو قول أهل السنة، والحق أن كلام الله عز وجل صفة من صفات
ذاته قديم غير مخلوق لأن الكلام هو المعنى القائم في النفس، والنطق به
عبارة عنه، قال الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة:
8] فأخبر أن القول معنى يقوم في النفس،
(17/605)
وتقول: في نفسي كلام أريد أن أعلمك به،
فحقيقة كلام الرجل هو المفهوم من كلامه، وأما الذي يسمعه منه فهو عبارة
عنه، وكذلك كلام الله عز وجل القديم الذي هو صفة من صفات ذاته هو المفهوم
من قراءة القارئ لا نفس قراءته التي تسمعها؛ لأن نفس قراءته التي تسمعها
محدثة لم تكن حتى قرأها فكانت، وهذا كله بين إلا لمن أعمى الله بصيرته عن
الحق، وبالله التوفيق.
[بر الرجل بأمه]
في بر الرجل بأمه
قال مالك: بلغني أن طلق بن حبيب كان برا بأمه وأنه لم يتقدمها قط في مسير،
ولم يكن قط في أعلى منزل وهي أسفل منه، وأنه دخل عليها يوما فإذا هي تبكي
من امرأته، فقال لها: فيم أبكتك؟ فقالت له: يا بني أنا أظلم منها، وأنا
بدأتها، قال: لقد صدقت ولكن لا تطيب نفسي أن أحبس امرأة بكيت منها، وأنه
وسعيد بن جبير ورجالا كانوا معهم طلبهم الحجاج فدخلوا الكعبة فأخذوا منها
فقتلهم الحجاج.
قال محمد بن رشد: فعل طلق بن حبيب هذا نهاية منه في البر بأمه امتثالا منه
لما أمر الله به من ذلك، قال الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا
تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] أي
أمر ألا تعبدوا إلا إياه، وأمر بالوالدين إحسانا أي برا {إِمَّا
يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] . قال مجاهد: إن بلغا أن يخريا أو يبولا فلا
تقذرهما كما كانا لا يقذرانك وأنت صغير، {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:
23] وإن وجدت منهما ريحا يؤذيك فلا تقل لهما أف، والأظهر أن معناه ولا تنفخ
إن رأيت ما تكره، إظهارا منك لهما أنك تكره ذلك منهما، ومعنى وقل لهما قولا
كريما أي لينا سهلا وقال عروة بن الزبير في قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا
جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]
(17/606)
معناه لا تمتنع من شيء أحباه، وروى أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصى بعض أهل بيته فكان فيما
أوصاه: «أطع والديك وإن أمراك أن تخرج عن كل شيء لك فافعل» .
[السلام من الصلاة]
في السلام من الصلاة قال مالك: حدثني
عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي أنه كان يسلم في
الصلاة على يمينه وعلى شماله، لا يدري ابن أبي حازم إماما كان أو غيره.
قال محمد بن رشد: السلام الواجب الذي يخرج به المصلي من صلاته ويتحلل به
منها تسليمة واحدة قبالة وجهه يتيامن بها قليلا الإمام والمأموم والفذ في
ذلك سواء، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تحريم الصلاة التكبير
وتحليلها التسليم» وعلى المأمون أن يرد على الإمام يشير إلى جهته به وأن
يرد أيضا على من على يساره إن كان على يساره أحد فسلم عليه، هذا هو قول
مالك في الذي رجع إليه، وقد قيل وهو مذهب سهل بن سعد الساعدي على ما جاء
عنه في هذه الرواية، وقد كان مالك يقول به ثم رجع عنه إن الإمام والفذ يسلم
كل واحد منهما تسليمتين، الواحدة منهما واجبة عليه ينوي بها الخروج من
الصلاة والتحلل منها قبالة وجهه ويتيامن بها قليلا، والثانية عن يساره سنة
واجبة.
وروى أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة
واحدة عن يمينه، فسلم يوما من صلاته ثم التفت فرأى الناس مالوا عن يمينه،
فقال: ما بال الناس؟ قيل يا رسول الله: مالوا عن يمينك رجاء بركة سلامك،
فسكت، فلما صلى الصلاة التي تليها سلم عن يمينه وعن يساره
(17/607)
تسليمتين، فاعتدلت الصفوف بعد ذلك» .
فإن نسي التسليمة الأولى وسلم الثانية وانصرف لم تجزه صلاته وإن نسي
الثانية وسلم الأولى لم يكن عليه شيء.
ويسلم المأموم على هذا القول تسليمات ثلاث واحدة قبالة وجهه واجبة عليه
يتحلل بها عن الصلاة، وثانية عن يساره سنة وإن لم يكن على يساره أحد ثم يرد
على الإمام ثالثة يقول كل واحد منهم في ذلك كله: السلام عليكم، السلام
عليكم، السلام عليكم، وبالله التوفيق.
[طلاق المولى]
في طلاق المولى وحدثني ابن أبي حازم، عن
يحيى بن سعيد، عن عثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر، وسليمان بن يسار أنهم
كانوا يقولون لا يدخل على مول طلاق حتى يوقف.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور من قول مالك الذي عليه جميع أصحابه أنه لا
يقع عليه طلاق وإن مرت به سنة حتى يوقف، فإما فاء وإما طلق، وهو قول جمهور
الصحابة، قال سهيل بن أبي صالح عن أبيه: سألت اثني عشر من أصحاب النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الرجل يولي من امرأته فكلهم يقول: ليس عليه شيء
حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإما فاء وإما طلق ولم يؤمر بالفيئة بعدها، وهو
قول ابن شبرمة، وروي مثله عن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين.
وقال أهل العرف يقع على المولي طلقة بائنة بانقضاء الأربعة الأشهر، وهذا
الاختلاف مبني على اختلافهم في تأويل قول الله عز وجل: {فَإِنْ فَاءُوا}
[البقرة: 226] هل المراد في ذلك بالأربعة الأشهر، أو فيما بعدها، ورواية
أشهب عن مالك في كتاب الإيلاء قول رابع في المسألة، واختلف على المشهور في
المسألة من أنه لا يقع عليه طلاق حتى يوقف إن وقف فأبى أن
(17/608)
يفيء، فقيل تطلق عليه طلقة رجعية، وهو مذهب
مالك وجميع أصحابه، وقيل يحبس حتى يفيء أو يطلق.
[ارتداد العرب بعد موت النبي عليه السلام]
ومن كتاب باع غلاما بعشرين دينارا قال مالك: بلغني أن أبا هريرة تلا:
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] {وَرَأَيْتَ النَّاسَ
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2] ثم قال والذي نفسي
بيده إن الناس اليوم ليخرجون من دين الله أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا.
قال محمد بن رشد: إنما قال ذلك لما رأى من ارتداد العرب بعد موت النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - ومن خروج الخوارج المارقين عن الدين الذين أعلم
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بخروجهم عن المسلمين، وبالله التوفيق.
[أعطى في صدقة الماشية أفضل من السن الواجبة
عليه]
فيمن أعطى في صدقة الماشية أفضل من
السن الواجبة عليه قال مالك: وحدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن «النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعث رجلا مصدقا فأتى الرجل فإذا عليه بنت مخاض،
فقال: والله ما كنت أول من أعطى ما لا يحلب ولا يركب، فأعطاه كبيرة فأبى أن
يأخذها وقال: لم أؤمر بذلك، فأقبل الرجل مع الذي بعثه إلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر للنبي الذي عرضه عليه، فأمره
النبي فأخذها منه، قال: ودعا فيها بالبركة في إبله قال فنمت وكثرت، قال:
فإنه تعرف فيها دعوة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى اليوم» .
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث: إن الأسنان المحدودة في الأخذ من الماشية
في الزكاة ليست بحد لا يزاد عليه ولا ينقص منه كعدد
(17/609)
ركعات الصلاة وإنما هي حد في أن لا يؤخذ من
أحد أعلى منها إلا عن طيب نفس، وهذا ما لا اختلاف. فيه، وقد مضى هذا السماع
من كتاب زكاة المواشي، وبالله التوفيق.
[تحريض زيد بن ثابت للأنصار على نصر عثمان رضي
الله عنه يوم الدار]
في تحريض زيد بن ثابت للأنصار على
نصر عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم الدار قال مالك: بلغني أن زيد بن
ثابت قال للأنصار: يا معشر الأنصار، انصروا الله مرتين في فتنة عثمان،
أمرهم أن يقاتلوا معه، فقال له رجل من الأنصار من كبرائهم: إنا نخشى أن
نقول كما قال من كان قبلنا: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا
فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: 67] {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ
مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 68] .
قال محمد بن رشد: كان الأنصار قد انتدبوا إلى نصر عثمان - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، روي أن زيد بن ثابت قال لعثمان: هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن
شئت كنا أنصار الله مرتين، فقال: لا حاجة لي في ذلك، كفوا، فكفوا عن القتال
دونه لما لزمهم من طاعته وتوقعوا في ذلك الحرج، ولذلك قال قائلهم في هذه
الحكاية ما قال والله أعلم، وكذلك سائر الصحابة إنما توقفوا عن نصرته
والقتال دونه من أجل عزمه عليهم في ذلك روي عن محمد بن سيرين قال: انطلق
الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان كلهم شاك في السلاح، حتى دخلوا
الدار فقال عثمان أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم، فخرج
ابن عمر والحسن والحسين، فقال ابن الزبير ومروان: ونحن نعزم على أنفسنا ألا
نبرح، وروي عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان: إنا معك في الدار
(17/610)
عصابة مستنصرة ينصر الله بأقل منهم، فأذن
لنا، فقال: أذكر الله رجلا إهراق في دمه أو قال دما وقال سليط بن أبي سليط:
نهانا عثمان عن قتالهم، ولو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارنا، وروي
عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه قال: كنت مع عثمان في الدار، فقال: أعزم
على كل من رأى أن عليه سمعا وطاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم عندي
غناء، من كف يده وسلاحه، ثم قال: قم يا ابن عمر فاجر بين الناس، فقام ابن
عمر وقام معه رجال من بني عدي ابن سراقة وابن مطيع، ففتحوا الباب وخرج،
ودخلوا الدار فقتلوا عثمان رحمة الله عليه ورضوانه.
[ما ترك عثمان عليه من الدين رضي الله عنه]
في ما ترك عثمان عليه من الدين
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال ابن القاسم: قال مالك: وبلغني أن عثمان بن
عفان قضي عنه ثلاثون ألف درهم.
قال محمد بن رشد: ما ترك عثمان على نفسه من الدين معدود من فضائله؛ لأنه
إنما احتاج إلى التداين مع سعة ماله لبذله إياه في طاعة ربه من صلة الرحم
وفعل المعروف على المعهود منه في حياة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقد
جهز جيش العسرة في غزوة تبوك بتسعمائة وخمسين بعيرا وأتم الألف بخمسين فرسا
واشترى بئر رومة، وكانت ركية ليهودي يبيع للمسلمين ماءها، فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يشتري رومة فيجعلها للمسلمين
يضرب بدلوه في دلائهم وله بها مشرب في الجنة، فأتى عثمان اليهودي فساومه
بها فأبى أن يبيعه كلها، فاشترى نصفها باثني عشر ألف درهم فجعله للمسلمين
فقال له عثمان: إن شئت جعلت على نصيبي قرشيا، وإن شئت فلي يوم ولك يوم،
قال: بلى لك يوم ولي يوم، فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم
ليومين، فلما رأى ذلك اليهودي قال: أفسدت علي ركيتي فاشتر النصف الآخر،
فاشتراه
(17/611)
بثمانية آلاف درهم» .
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يزيد في
مسجدنا؟ " فاشترى عثمان موضع خمس سوار فزاده في المسجد» وفضائله أكثر من أن
تحصى وهو من أصحاب حراء، وبالله التوفيق.
[ما أوصى به معاوية في ماله]
فيما أوصى به معاوية في ماله قال مالك:
بلغني أن معاوية لما حضرته الوفاة أمر بماله أن يقسم بشطرين.
قال محمد بن رشد: إنما فعل ذلك تأسيا بعمر بن الخطاب في مشاطرته لعماله
فذلك معدود في فضائله.
[ما ذكر عن أبي الدرداء]
فيما ذكر عن أبي الدرداء قال مالك:
وبلغني أن أبا الدرداء قال: وراءنا عقبة كؤود أنجى الناس فيها أخفهم حملا.
قال محمد بن رشد: عنى أبو الدرداء بالعقبة الكؤود الصراط الذي على شفير
جهنم يجوزه الناس بقدر أعمالهم، فيتفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم
على قدر خفة ظهورهم من الذنوب، ومنهم من يوبقه عمله.
في الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة «أن الناس قالوا يا رسول الله: هل نرى
ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟
قالوا: لا يا رسول الله، قال: فهل تمارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟
قالوا: لا قال: فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس يوم القيامة فيقول: من كان
يعبد شيئا فليتبعه، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى
هذه الأمة فيها منافقوها،
(17/612)
فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون:
هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله فيقول أنا
ربكم، فيقولون أنت ربنا، فيدعوهم ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أول
من يجوز من الرسل بأمته ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ
اللهم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا:
نعم، قال فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم أحد قدر عظمها إلا الله،
تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل ثم ينجو، حتى
إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله عز وجل الملائكة أن
يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على
النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار وكل ابن آدم تأكله النار إلا
أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون
كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله من القضاء» الحديث بطوله.
وهذا الحديث من مشكل الحديث، فقوله أولا فيه يأتيهم الله فيقول أنا ربكم
معناه فيأتيهم خلق من خلق الله فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، خرج
مخرج واسأل القرية أي أهلها، ويحتمل أن يكون معناه فيأتيهم الله بخلق من
خلقه فيقول، ومعلوم أيضا أنه جائز في اللسان العربي أن تقول ضرب السلطان
وكتب ونادى في الناس وإن لم يفعل هو بنفسه شيئا من ذلك، وقد قال بعض
العلماء: إن هذه آخر محنة الله يمتحن بها عباده، فيثبت المؤمنين منهم
بالقول الثابت.
ومعنى قوله إنهم يقولون إذا جاء ربنا عرفناه، أي إذا تجلى لنا ربنا بإنعامه
علينا بخلقه فينا إدراك رؤيته عرفناه، وهذا معنى قوله: فيأتيهم الله
(17/613)
لأن الإتيان الذي هو الانتقال من موضع إلى
موضع مستحيل في صفة الله تعالى، وقد رأيت لبعض من تكلم على معنى هذا الحديث
أن قوله فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا عائد على المنافقين دون
المؤمنين وأن قوله: فيقولون وأنت ربنا عائد على المؤمنين دون المنافقين وهو
تأويل خطأ فاسد بين الفساد، لا يصح بوجه مع بعده على لفظ الحديث. والله
أعلم فهذا مثل صحيح ضربه الله عنه، وبالله التوفيق.
[ما كتب به عمر بن الخطاب إلى الأجناد في أمر
الأسواق]
فيما كتب به عمر بن الخطاب إلى
الأجناد في أمر الأسواق قال مالك: كتب عمر بن الخطاب إلى الأجناد: إن الله
قد أغنى بالمسلمين فلا تجعلوا النصارى في أعمالكم، يريد بذلك ألا يكونوا
جزارين ولا صرافين ويبيع المسلمون لأن الله أغنى بالمسلمين وكثروا في أهل
الإسلام ما أجزأ من بياعاتهم.
قال محمد بن رشد: إنما كتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بما كتب به من
هذا لعلمه أنه مسئول عن رعيته، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كلكم
راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته» الحديث، وإذا وجب
على الإمام النظر لرعيته فيما يدخل عليهم به الضرر [في دنياهم كان النظر
فيما به عليهم الضرر] في أديانهم أوجب، فمنع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن
يكون النصارى في أسواق المسلمين جزارين أو صرافين؛ لأن الجزارين من النصارى
وإن كانت تحل ذبائحهم لقول الله عز وجل: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، فلا ينبغي للمسلم أن يأتمنه على
تذكية ما غاب عليه ويتخذه في ذلك إماما، والصرافين يستبيحون الربا
ويستحلونه، فإذا
(17/614)
كانوا في أسواق المسلمين وقع الجهال منهم
معهم فيه، إذ لا يمكنهم التوقي منهم لجهلهم، وذلك ضرر بعامة الناس، فوجب
النظر في ذلك لهم بما يقطعه عنهم من منعهم من الأسواق، فقد قال سحنون لهذه
العلة: يمنع من السوق كل من لا يبصر البيع من المسلمين، وبالله تعالى
التوفيق.
[وصية لقمان لابنه]
في وصية لقمان لابنه قال مالك: بلغني أن
لقمان قال لابنه: يا بني ليكون أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأة
صالحة.
قال محمد بن رشد: هذه وصية جيدة مفيدة وحكمة حسنة بليغة لأن النساء مما زين
للناس من شهوات الدنيا قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران: 14] الآية، فالمرأة الصالحة هي للرجل دنيا
وآخرة لأنه يستعف بها ويستمتع منها ويؤجر على القيام عليها، والخليل الصالح
يحمل خليله على الخير ويعينه على الطاعة ويريه مراشدة في أموره فمنفعته أعم
من منفعة المرأة إذ من الناس من يستغني عن المرأة ولا يحتاج إليها، ولذلك
قدمه عليها والله أعلم.
[النذر قبل الاحتلام]
في أن النذر قبل الاحتلام لا يلزم قال
مالك: كان حلف عبد الله بن أبي حبيبة في الجرو القثاء بعد أن احتلم.
قال محمد بن رشد: قوله كان حلف عبد الله بن أبي حبيبة تجاوز في اللفظ؛ لأنه
لم يكن حلف وإنما كان نذر على ما ذكر عنه في موطئه من أنه قال: قلت لرجل
وأنا حديث السن: ما على الرجل أن يقول علي
(17/615)
مشي إلى بيت الله ولم يقل علي نذر مشي،
فقال لي رجل: هل لك أن أعطيك هذا الجرو لجرو قثاء في يده، وتقول علي مشي
إلى بيت الله، قال: فقلت نعم فقلته وأنا يومئذ حديث السن، ثم مكثت حتى
عقلت، فقيل لي: إن عليك مشيا فجئت سعيد بن المسيب فسألته عن ذلك فقال: عليك
مشي، فمشيت، فعبر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الحكاية عن النذر
بالحلف لاستوائهما عنده في الوجوب؛ لأنه إنما قصد إلى الإعلام بأن من لم
يحتلم فلا يلزمه النذر ولا اليمين، وقوله صحيح لقول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاث» فذكر فيهم الصبي حتى يحتلم، فلا اختلاف
أعلمه في أن الصبي لا يلزمه بعد بلوغه ما نذره على نفسه قبل بلوغه إلا أنه
يستحب له الوفاء به.
وأما اليمين فقد قال ابن كنانة إنها تلزمه قبل البلوغ إذا حنث فيها بعد
البلوغ وهو شذوذ، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن المشرك إذا نذر نذرا في حال
الكفر يلزمه الوفاء به بعد الإسلام لما روي من أن «عمر بن الخطاب قال للنبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد
الحرام، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "فِ بنذرك» ، وهو عندنا
وعند أكثر أهل العلم على أن ذلك على الندب لا على الوجوب، ومما يدل على ذلك
أيضا أن "فِ" لا يستعمل إلا فيما ليس بواجب، يقال وفي بالوعد وأوفى بالحق
والنذر، فيلزم من أوجب على الكافر الوفاء بالنذر بعد الإسلام أن يوجب على
الصغير الوفاء به بعد البلوغ، بل هو أحق أو يجب عليه على مذهبه؛ لأن الصغير
وإن كان لا تكتب عليه السيئات فتكتب له الحسنات على الصحيح من الأقوال،
والكافر لا تكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات، وبالله التوفيق.
(17/616)
[صاحب المنزل أولى بالإمامة فيه]
في أن صاحب المنزل أولى بالإمامة فيه
قال مالك: لم أزل أسمع أن صاحب المنزل أولى بالتقدم في الصلاة في منزله،
ولقد بلغني أن رجلا من أهل الفضل والفقه إن كانوا لينزلون بالرجل في منزله
فيقدمونه لأنه منزله، ولم أزل أسمع أن صاحب الدابة أولى بصدرها من الذي
يردفه، قال: ورأيته يستحسنه.
قال محمد بن رشد: المعنى في كون صاحب المنزل أحق بالإمامة فيه من غيره هو
أنه ليس لأحد أن يصلي في منزل غيره حتى يأذن له في الموضع الذي يصلي فيه
منه، «لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعثمان بن مالك: أين تحب أن
أصلي؟ فأشار له إلى مكان من البيت فصلى فيه» فإذا لم يكن لأحد أن يتقدم في
منزل رجل إلى موضع الإمام منه إلا بإذنه، وكان هو أحق بالصلاة في ذلك
الموضع من غيره ثبت أنه أحق بالإمامة فيه.
غير أنه يستحب له إذا كان في القوم أحق بالإمامة منه أن يقدمه، وكذلك صاحب
الدابة هو أولى بصدر دابته إذا احتاج الرجل أن يركب معه عليها إلا أن يأذن
له في ركوب مقدمها؛ لأن الذي يركب مقدمها هو الذي يملكها، وهو الذي يحكم له
بها لو تداعى فيها مع الذي يركب مؤخرها، فليس لأحد أن يزيله عن هذه المرتبة
إلا باختياره، وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة
وبالله تعالى التوفيق.
[صفة النحر والذبح]
في صفة النحر والذبح
قال مالك: تنحر البدن قياما أحب إلي، وكأني رأيته وجه الأمر فيها، قال:
والغنم والبقر تضجع وتذبح، قال: ويلي الرجل نحر بدنته وذبح ضحيته أحب لي،
ويقول بسم الله والله
(17/617)
أكبر، وإن أحب قال: ربنا تقبل منا إنك أنت
السميع العليم، وكره أن يقول اللهم منك وإليك وعابه وشدد الكراهية فيه،
وقال: إذا أعتق قال اللهم منك وإليك، وإذا تصدق قال اللهم منك وإليك، فكره
ذلك ولم يره من العمل ولم يستحسنه.
قال محمد بن رشد هذا كله مثل ما في المدونة.
وإنما استحب أن ينحر البدن قياما وقال: إنه وجه الأمر فيها كما قال في الحج
الثالث من المدونة إنه الشأن اتباعا لظاهر قول الله عز وجل: {فَإِذَا
وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي سقطت إلى الأرض، ولم ير ابن القاسم في
المدونة بأسا أن تنحر معقولة إن امتنعت، ولم يحفظ عن مالك هل تنحر معقولة
أو تكون أيديها مصفونة، وقول الله عز وجل: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] أي مصطفة لا يدل على كونها معقولة، فلذلك
لم يستحب ابن القاسم أن تعقل إذا لم تمتنع، وقد قرئ فاذكروا اسم الله عليها
صوافن أي على ثلاثة قوائم معقولة إحدى يديها، واستحب ذلك بعض العلماء، وقد
قرئ صوافي أي صافية خالصة لله.
واستحب أن يلي الرجل نحر هديه وذبح ضحيته تواضعا لله وتأسيا برسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فإن ذبح له غيره بأمره أجزأه
عند مالك، قال ابن عبد الحكم في مختصره: وقد قيل لا يجزيه، والأول أحب
إلينا، وإن ذبحها له نصراني أو يهودي فلا تجزيه إلا عند أشهب، وقد مضى دليل
قوله في سماع أشهب من كتاب الضحايا.
واستحب في صفة التسمية على الذبيحة أن يقول باسم الله والله أكبر لأنه الذي
مضى عليه عمل الناس، قال ابن حبيب في الواضحة: فإن قال باسم
(17/618)
الله والله أكبر وحده اكتفي بذلك، وكذلك لو
قال لا إله إلا الله، أو سبحان الله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله لاكتفي
بذلك؛ لأنه إنما أمر أن يسمي الله فكيف ذكر له فقد سماه.
وأجاز أن يقول مع التسمية صلى الله على رسول الله وكره أن يقول معهما محمد
رسول الله وظاهر المدونة أنه كره الأمرين جميعا وما في الواضحة أبين؛ لأن
الصلاة على النبي دعاء له فلا وجه لكراهيته بخلاف إذا ذكر اسمه بغير دعاء
ذلك مكروه؛ لأن الذبح إنما هو لله تعالى وحده، فلا يذكر هناك إلا اسم الله
وحده كما أمر حيث يقول: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ
مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34] .
وتسمية الله سنة في الذكاة وليس بشرط في صحتها؛ لأن معنى قول الله عز وجل:
{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ
لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] أي لا تأكلوا الميتة التي لم يقصد إلى ذكاتها
لأنها فسق.
ومعنى قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ
كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118] أي كلوا مما قصد إلى
ذكاته، فكنى عز وجل عن التذكية بذكر اسمه كما كنى عن رمي الجمار بذكره حيث
يقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] ومن
الدليل على أن مراد الله عز وجل بما لم يذكر اسمه عليه ما لم يقصد إلى
ذكاته قوله عز وجل: {وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:
119] يريد ما فصل
(17/619)
وبين بقوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إلى قوله: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] فبين
بتسميته لهذه الأشياء التي حرمها في هذه الآية جميعا أنها هي التي نهي عن
أكلها؛ لأنها فسق بقوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] فمن ترك التسمية
ناسيا أكلت ذبيحته.
وأجاز ابن حبيب أن يقول مع التسمية اللهم منك وبك ولك، أي منك الرزق وبك
الهدي ولك النسك، وحكاه عن علي بن أبي طالب، وربيعة ابن أبي عبد الرحمن،
وهو قول حسن، وكره ذلك مالك في هذه الرواية وشدد الكراهية في ذلك وقال في
المدونة: إن ذلك بدعة، فالمعنى في ذلك والله أعلم أنه إنما كره التزام ذلك
على وجه كونه مشروعا في ذبح النسك كالتسمية، فمن قاله على غير هذا الوجه في
الفرط لم يكن عليه إثم ولا حرج وأجر في ذلك إن شاء الله.
[وصية لقمان لابنه]
في وصية لقمان لابنه قال مالك: بلغني أن
لقمان الحكيم قال لابنه: اجعل خطيئتك بين عينيك فأما حسناتك فَالْهَ عنها
فقد أحصاها من لا ينساها.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه الوصية بين لأن الخطيئة قد استوجب عليها
عقاب الله إلا أن يغفرها له، فواجب عليه أن يجعلها نصب عينيه فيستغفر الله
منها ولا يلهى عنها.
(17/620)
[قضاء ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس]
في قضاء ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس قال
مالك: بلغني أن القاسم بن محمد قضى ركعتي الفجر بعد أن حلت السبحة.
قال محمد بن رشد: هكذا يستحب لمن نسي ركعتي الفجر رجاء أن يدرك بقضائهما ما
جاء فيهما من الفضل، فقد جاء فيهما أنهما خير من الدنيا وما فيها.
وقد اختلف فيهما، فقيل: إنهما من السنن لمداومة النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - عليهما، وقيل: إنهما من الرغائب، واختلف في ذلك قول مالك،
فعلى القول بأنهما سنة لا يجزيان بغير نية، وبالله التوفيق.
[الموضع الذي يجوز للرجل فيه قبول الفدية من
امرأته]
في بيان الموضع الذي يجوز للرجل
فيه قبول الفدية من امرأته قال ابن القاسم: قال مالك: حدثني هشام بن عروة
بن الزبير عن أبيه عروة أنه كان يقول: إذا لم تؤت المرأة من قبل زوجها حل
له أن يقبل منها الفداء.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على مذهب مالك وجميع أصحابه، لا اختلاف بينهم في
أن الزوج لا يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على طلاقها إلا إذا كان النشوز
من قبلها ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها، إذ ليس له أن يقارضها على نشوزها
عليه بالإضرار لها والتضييق عليها حتى تفتدي منه، لقول الله عز وجل: {وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]
وإنما له أن يعظها، فإن اتعظت وإلا هجرها في المضجع، فإن
(17/621)
اتعظت وإلا ضربها ضربا غير مبرح، فإن طاعت
فلا يبغي عليها سبيلا لقول الله عز وجل: {وَاللاتِي تَخَافُونَ
نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34]
الآية فإن هي بذلت له على الفراق شيئا حل له أن يقبله إذا لم يتعد أمر الله
تعالى فيها، ومن أهل العلم من أباح للرجل إذا زنت زوجته أو نشزت عليه أن
يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ
يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] وذهب إلى أن الفاحشة
المبينة هي الزنا خاصة، فلم يبح له ذلك إلا إذا زنت.
ومنهم من ذهب إلى أن الفاحشة المبينة هي النشوز والبذاء باللسان، فلم يبح
له ذلك إلا إذا نشزت عنه وبذت عليه بلسانها.
ولم يبح ذلك له مالك ولا أحد من أصحابه بحال لأن الاستثناء عندهم في قَوْله
تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]
استثناء منفصل غير متصل بمعنى لكن، فتقدير الكلام لكن إن أتين بفاحشة مبينة
من نشوز وبذاء أحل لكم ما ذهبتم به من أموالهن إذا كان عن طيب أنفسهن لأن
الله تعالى لم يبح للزوج شيئا من مال زوجته إلا عن طيب نفس منها، فقال عز
وجل: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20] {وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ
مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] الآية وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ
شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] ولا يكون
ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منه إليهن ضرر ولا تضييق، وبالله تعالى
التوفيق.
(17/622)
[المحرم بالحج يصيب امرأته]
في المحرم بالحج يصيب امرأته وحدثني عن
ابن شهاب عن عبد الله بن عباس أنه قال في رجل أصاب امرأته وهو محرم بالحج:
إنهما ينفدان لوجههما ثم يحجان من قابل وعليهما الهدي.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول ابن عباس هذا أنه لا يفرق بينهما في بقية حجهما
هذا الذي أفسداه ولا في حج قابل، خلاف ما ذهب إليه مالك من أنهما إذا أحرما
بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما فلم يجتمعا في منزل ولا مسير على
ما روي عن علي بن أبي طالب وسعيد بن المسيب، والوجه في ذلك مخافة أن يكون
اجتماعهما ذريعة إلى إفساد حجهما الثاني.
ومن أهل العلم من قال إنه يفرق بينهما من حين أفسد حجهما إلى عام قابل،
وإنما يفسد حجهما بإجماع إذا وطئ ما بينه وبين أن يقف بعرفة.
واختلف إن وطئ بعد أن وقف بعرفة وقبل أن يرمي جمرة العقبة فقيل قد أفسد حجه
وهو قول مالك في موطئه، وقيل عليه عمرة وهدي وحج تام، روى أبو المصعب، وابن
أبي حازم عن مالك إلى أنه رجع إلى هذا القول، وقال أبو المصعب: إن كان وطؤه
بعد طلوع الفجر من ليلة النحر فعليه العمرة والهدي، وإن كان وطؤه قبل طلوع
الفجر من ليلة النحر فقد أفسد حجه.
وأما إن وطئ بعد رمي جمرة العقبة وقبل أن يطوف طواف الإفاضة فحجه تام،
وعليه عمرة وهدي قولا واحدا وبالله تعالى التوفيق.
(17/623)
[الأجراس في أعناق الإبل والدواب]
في كراهية الأجراس في أعناق الإبل والدواب
وحدثني مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن سالم بن عبد الله أنه مر على عير
لأهل الشام وفيها جرس، فقال لهم سالم: إن هذا ينهى عنه، فقالوا له: نحن
أعلم بهذا منك، إنما يكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا صغير فليس به بأس،
فسكت سالم.
قال: وسألت مالكا عن الأكرياء يجعلون الأجراس في الحمير والإبل التي تحمل
القرط وغيره فقال: ما جاء في هذا إلا الحديث الواحد، وتركه أحب إلي من غير
تحريم له.
قال محمد بن رشد: يريد بالحديث الواحد والله أعلم الحديث الذي ذكره بعد هذا
من أن الملائكة لا تصحب عيرا وقد تقدم الكلام على هذا قبل هذا في أول رسم
فلا معنى لإعادته وبالله تعالى التوفيق.
[الخلاخل للنساء في أرجلهن]
في الخلاخل للنساء في أرجلهن وسئل مالك
عما يكون في أرجل النساء من الخلاخل، قال: ما هذا الذي جاء فيه الحديث،
وتركه أحب إلي من غير تحريم له.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة والله أعلم أن مالكا إنما سئل عما
يجعله النساء في أرجلهن من الخلاخل وهن إذا مشين بها سمعت قعقعتها فرأى ترك
ذلك أحب إليه من غير تحريم؛ لأن الذي يحرم عليهن إنما هو ما جاء النهي فيه
من أن يقصدن إلى إسماع ذلك وإظهاره من زينتهن لمن يخطرن عليه من الرجال:
قال الله عز وجل: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا
يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]
(17/624)
ومن هذا المعنى ما روي من أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة استعطرت فمرت بقوم
ليجدوا ريحها فهي زانية» والله الموفق.
[العير التي فيها الجرس]
ما جاء في العير التي فيها الجرس وحدثني
مالك عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن سالم بن عبد الله عن أبي الجراح مولى
أم حبيبة أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «العير التي فيها الجرس لا
تصحبها الملائكة» .
قال محمد بن رشد: هذا هو الحديث الذي أشار إليه مالك في المسألة التي قبل
هذه المسألة والله أعلم، وهو حديث خرج الترمذي من رواية أبي هريرة عن النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس ولا كلب» "
أو كما قال، وبالله التوفيق.
[الصلاة إلى المصحف]
في كراهة الصلاة إلى المصحف وإلى قبر
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك: أكره أن يوضع المصحف في القبلة
ليصلى إليه.
قال مالك: وإنما بنى عمر بن عبد العزيز القبر هذا البناء حين كان الناس
يصلون إليه وجعلوه مصلى، فأنا أكره أن يجعل المصحف في القبلة ليصلى إليه،
ولا أحب ذلك، وأما إن كان موضعه أو ذلك الموضع أحفظ له أو معلق له ليس يجعل
لمكان الصلاة إليه فلا أرى بذلك بأسا.
(17/625)
قال محمد بن رشد: أما الصلاة إلى قبر النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - فهو محظور لا يجوز، لما جاء عن النبي. - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - من قوله: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على
قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» فبناه عمر بن عبد العزيز محددا على هيئته
لا يمكن من صلى إلى القبلة استقباله. وأما المصحف فكره القصد بالصلاة إليه
على ما قاله في هذه الرواية، ومثله في المدونة سواء؛ لأن ذلك بدعة وبالله
تعالى التوفيق. |