البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب الجامع الرابع] [نظرالإمام
في أمر قد قضى فيه من قبله من الأئمة العدول]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا
ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كتاب
الجامع الرابع
في إن الإمام لا ينظر في أمر قد قضى فيه
من قبله من الأئمة العدول قال: وكان بين رجلين خصومة من أصحاب النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - خرجا من المدينة في أرض لهما حتى ارتفع الشأن بينهما
فركب عثمان في ذلك وكانت خصومتهما في زمن عثمان، وركب معه رجال، فلما ساروا
قال له رجل: إن عمر قد قضى فيه، فقال عثمان: لا أنظر في أمر قضى فيه عمر
فرجع.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب
الأقضية، ووقعت أيضا في آخر الزكاة الأول من المدونة. وفائدتها والذي فيها
من الفقه أن القاضي يستحسن له أن يركب ويقف على الحقوق بنفسه وبمن معه من
أهل العلم فيما التبس وأشكل، وقد يكون هذا كثيرا في الضرر وشبهه، ولو أمكنه
أن يقف على جميع الأمور بنفسه لكان أحسن، ولكن هذا لا يمكنه فيستنيب من
يوجهه مكانه لذلك في الحيازات وشبهها، والواحد يجزئ في ذلك كما قال في
المدونة في الذي يرسله لتحليف المرأة، والاثنان أحسن، وإنما رجع عثمان،
وترك ذلك لأن المحكوم عليه كان يريد فسخ قضاء عمر فيه، وذلك ما لا يجوز،
ففي
(17/381)
الحديث من الفقه أن القاضي إذا بلغه أن
قاضيا قضى في أمر لم يكن له أن ينظر فيه، وهذا ما لا اختلاف فيه إذا كان
القاضي الذي قضى في ذلك الأمر عدلا.
والذي قال ذلك لعثمان هو معاوية، وكانت الخصومة بين علي بن أبي طالب وطلحة
ابن الزبير في ضفير بين ضيعتهما كان علي يحب أن يثبت وطلحة يحب أن يزال،
فوكل علي عبد الله بن جعفر فتنازعا الخصومة فيه بين يدي عثمان وهو خليفة،
فقال لهما: إذا كان غد ركبت في الناس معكما حتى أقف على الضفير فأقضي فيه
بينكما معاينة، فقال وهما يتنازعا الخصومة في الطريق: لو كان منكرا لأزاله
عمر، فكان قوله سبب توجه الحكم لعبد الله على طلحة، فوقف عثمان - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - والناس معه على الضفير فقال: يا هؤلاء أخبرونا أكان هذا
أيام عمر؟ فقالوا: نعم، قال: فدعوه كما كان أيام عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، فقصصت عليه القصة حتى بلغت إلى كلام معاوية، فضحك ثم قال: أتدري
لم أعانك معاوية؟ قال: قلت: لا، قال: أعانك بالمنافسة، قم الآن إلى طلحة
فقل له: إن الضفير لك فاصنع به ما بدا لك، فأتيته فأخبرته فسر بذلك، ثم دعا
بردائه ونعليه وقام معي حتى دخلنا على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فرحب
به وقال: الضفير لك فاصنع به ما شئت، فقال: قد قبلت وأنا جئت شاكرا ولي
حاجة ولا بد من قضائها، فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اسأل حتى
أقضيها لك، فقال طلحة: أحب أن تقبل الضيعة مع من فيها من الغلمان والدواب
والآلة، فقال علي: قد قبلت، قال: ففرح طلحة وتعانقا وتفرقنا، وقال عبد
الله: فوالله لا أدري أيهما أكرم في ذلك المجلس، أعلي إذ جاء بالضفير؟ أم
طلحة إذ جاء بالضيعة بعرصته بمسناة.
روي عن الشعبي أنه قال: أول من جرى جريا أي وكل وكيلا من
(17/382)
الصحابة علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، وكل عبد الله بن جعفر، فقيل له: لم وكلت عبد الله وأنت سيد من
سادات الناطقين؟ فقال: إن للخصومات فحما، قال عبد الله: فنازعني طلحة في
ضفير كان بين ضيعة لعلي وضيعة لطلحة، ثم ساق بقية الحكاية وإن كان فيها بعض
الخلاف لحكاية مالك بالمعنى المقصود منها، وهو استحسان ركوب القاضي فيما
أشكل، ووجوب إمضاء أحكام من قبله لا خلاف فيه، وبالله التوفيق.
[دخول أهل الفضل الأسواق]
في جواز دخول أهل الفضل الأسواق
ومقاربتهم في البيع والشراء وسئل مالك عن الرجل له فضل وصلاح يحضر السوق
يشتري لنفسه فيقارب لذلك لفضله أو لحاله، قال: لا بأس بذلك، وقد كان عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يدخل السوق، وسالم بن عبد الله إن كان
ليقعد في سوق الليل ويجلس معه رجال وإن كان الحرس ليمرون بجلسائه فيقولون:
يا أبا عمر أمن جلسائك؟ فقيل له: ما بال الحرس؟ قال: يطردون عنه أهل السفه
والعبث.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال من أن مقاربة أهل الأسواق الرجل فيما يشتريه
منهم لفضله وخيره سائغ له لا بأس به؛ لأن ذلك شيء كان منهم إليه دون سؤال
منه، فهو رزق رزقه الله إياه على ما جاء في الحديث الذي مضى قبل هذا بيسير
في هذا الرسم.
وأما جواز دخول الأسواق والمشي فيها فكفى من الحجة في جواز ذلك قول الله عز
وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ
لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] ردا
لقول المشركين: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي
الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] الآية.
(17/383)
ووقع في بعض الكتب أمن جلسائك، والمعنى في
ذلك إعلامهم إياه أنهم يحفظونهم لمجالستهم إياه، فهم آمنون، ومعنى أمن؟ في
داخل الكتاب الاستفهام في الرجل هل هو من جلسائك فيحفظونه من أهل السفه كما
يحفظونه وجلساءه، وبالله التوفيق.
[التورع عن العطاء]
في التورع عن العطاء قال مالك: قد كان
رجال ببلدنا هذا من أهل الفضل والعبادة يردون العطية يعطونها، حتى إن كان
بعضهم ليؤامر نفسه، يعني بذلك إذا كان يرى أن له عنها غنى.
قال محمد بن رشد: يريد بالعطية العطية من بيت المال، والله أعلم.
وفي قوله: حتى إن كان بعضهم ليؤامر نفسه نظر؛ لأن الذي يرد العطية ولا
يؤامر نفسه في ذلك أزهد فيها من الذي يؤامر نفسه في أخذها أو ردها، وحتى
غاية تدل على أنه أراد أن منهم من يربي في الزهادة والعبادة على الذين
يردونها ولا يقبلونها، فكان وجه الكلام أن يقول، حتى إن كان بعضهم لا يؤامر
نفسه في قبولها فيردها، وإن كان يرى أنه لا غنى به عنها.
وردهم إياها يحتمل أن يكون زهادة فيها مع جواز أخذها لهم لا كراهة فيها إذا
كان المجبى حلالا، وقسم بوجه الاجتهاد دون مأثرة ومحابات، وهذا نهاية في
الزهد والفضل؛ لأنه يترك حقه الجائز له أخذه ويؤثر فيه غيره ممن يعطاه، وإن
كانت به حاجة إليه، فمن فعل ذلك كان من الصنف الذين أثنى الله تبارك وتعالى
عليهم بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] . وإن كان المجبى حلالا ولم يعدل في قسمته فمن أهل
العلم من يكره
(17/384)
الأخذ منه، وأكثرهم يجيزه.
وأما إن كان المجبى يشوبه حلال وحرام فمن أهل العلم من يجيز الأخذ منه
وأكثرهم يكرهه.
وأما إن كان المجبى حراما فمن أهل العلم من حرم الأخذ منه وروي ذلك عن
مالك، ومنهم من أجازه ومنهم من كرهه وهم الأكثر، وقد مضى هذا كله في هذا
الرسم من هذا السماع من كتاب الصدقات والهبات لتكرر الحكاية هناك ومضى من
هذا المعنى في رسم الشجرة قبل هذا من هذا الكتاب، ومضى في آخر سماع سحنون
من كتاب الشهادات القول فيه مستوفى، ومضى في رسم شك في طوافه من سماع ابن
القاسم من كتاب الصدقات استحباب ترك الرجل قبول ما وصل به، وبالله التوفيق.
[شدة خشية عمر]
في شدة خشية عمر السؤال قال مالك: بلغني
أن عمر بن الخطاب قال: لو مات جمل بشط الفرات ضياعا لخشيت أن يسألني الله
عنه.
قال محمد بن رشد: هذا من عمر بن الخطاب نهاية في الخوف لله؛ لأن مثل هذا لو
وقع لم يؤاخذه الله به، إذ لم يكن بتضييع منه ولا إهمال، ومن بلغ هذا الحد
من الخشية فهو من الفائزين، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}
[النور: 52] ، وبالله تعالى التوفيق.
[أول من استقضي]
في أول من استقضي ومجلس القاضي للحكم
قال: وسئل مالك: عن أول من استقضي، قال: معاوية بن
(17/385)
أبي سفيان، قيل له: أفرأيت شريحا؟ قال:
كذلك يقول أهل العراق، ونحن ننكر ذلك، وإني لأنكر ذلك من قولهم.
قيل له: يا أبا عبد الله أفترى للقاضي أن يجلس في المسجد؟ قال: نعم، وذلك
من أمر الناس القديم، ويستحسن ذلك، ولقد كان قاضي عمر بن عبد العزيز وابن
خلدة وغيره يجلسون في المسجد يقضون فيه، وما زال ذلك شأن الناس، وإني لأرى
فيه خيرا، وأفضل الناس يدخلون ولا يغلق دونهم باب، وهل للقاضي أن يرضى
بالدون من المجلس؟
قال محمد بن رشد: إنكار مالك لما قاله أهل العراق من أن شريحا كان قاضيا
لعمر بالعراق يدل على أنه أراد أن معاوية أول من استقضي بموضعه الذي هو فيه
لاشتغاله بما سوى ذلك من أمور المسلمين كبعث البعوث وسد الثغور وفرض العطاء
وقسم الفيء وما أشبه ذلك، فقد ولى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما
ذكر قضاء البصرة أبا مريم الحنفي ثم عزله، وولي كعب بن سور اللقيطي فلم يزل
قاضيا حتى قتل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وولي شريحا قضاء الكوفة.
وأما استحسانه أن يكون جلوس القاضي للحكم بين الناس في المسجد للمعاني التي
ذكرها من التواضع بالرضا بالدون من المجلس، وأن يصل إليه القوي والضعيف ولا
يحجب عنه أحد فهو قوله في المدونة وغيرها والماضي من فعل السلف الصالح
المقتدى بهم، فقد جاء في بعض الآثار: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - بلغه أن أبا موسى الأشعري - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقضي بالعراق في
دار سكناه فبعث رسولا إليه من المدينة وأمره أن يضرمها نارا، فدخل الرسول
العراق ووافي أبا موسى الأشعري في الدار يقضي، فنزل عن بعيره وأوقد النار
في بابها فأخبر أبو موسى بذلك، فخرج فازعا، فقال له: ما بالك؟ فقال: أمرني
أمير المؤمنين بأن أضرمها عليك نارا لالتزامك القضاء فيها، ثم
(17/386)
انصرف الرسول من فوره ذلك، ولم يعد أبو
موسى إلى القضاء في داره، وبالله التوفيق.
[قدوم الرجل على أهله عشاء]
في قدوم الرجل على أهله عشاء
وسئل مالك: عن الذي يقدم العشاء على أهله، أترى أن يأتيهم تلك الساعة؟
فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قد جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية جابر
بن عبد الله، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أن يطرق أهله ليلا» خرجه البخاري، وعن أنس بن مالك قال: «كان النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يطرق أهله، وكان لا يدخل إلا غدوة
أو عشية» . وفي بعض الآثار: «نهى أن يأتي الرجل أهله طروقا حتى تمتشط
الشعثة وتستحد المغيبة» . فمعنى قول مالك: لا بأس بذلك - أي: لا إثم عليه
في ذلك ولا حرج، وإن كان قد أتى مكروها؛ لأنه رأى النهي الوارد في ذلك عن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهي أدب وإرشاد، لا نهي تحريم، وبالله
التوفيق.
[إقامة الحدود في المسجد]
في كراهية إقامة الحدود في المسجد
وإجازة الأدب اليسير فيه وسئل مالك: عن القاضي يعاقب الرجل في المسجد
بالأسواط، قال: لا أرى بذلك بأسا، وكره أن تضرب فيه الحدود وما كثر فيه
الضرب من الأدب وإن لم يكن حدا.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة وغيرها، والذي قاله
(17/387)
مالك من أنه لا يضرب في المسجد الحد ولا ما
كثر من الضرب هو نحو ما حكاه البخاري عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب في
تبويبه، وأقامه من الحديث الذي خرجه فيه، وذلك أنه بوب: من حكم في المسجد
حتى إذا أتى على حد أمر أن يخرج من المسجد فيقام، وقال عمر: أخرجاه من
المسجد واضرباه، ويذكر عن علي نحوه، ثم ساق حديث أبي هريرة، قال: «أتى
رَجَلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في
المسجد فناداه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما شهد على نفسه أربعا، قال: أبك
جنون؟ قال: لا، قال: اذهبوا به فارجموه» . وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أنه قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم وبيعكم
وشراءكم وسل سيوفكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم، وجمروها أيام جمعكم
واجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم» . فهذا كله مما يجب أن تنزه عنه
المساجد لقول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] .
ويكره رفع الصوت فيها حتى في العلم، وقد بنى عمر بن الخطاب رحبة في مؤخر
المسجد تسمى البطيحاء، وقال: من كان يريد أن يلغط أو يشعر، ينشد شعرا، أو
يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة، وبالله التوفيق.
[حلق وسط الرأس والقفا]
في حلق وسط الرأس والقفا
واستئصال الشارب والأخذ من اللحية وسمعت مالكا: يكره حلق وسط الرأس
للمحجمة، فقد ذكر مالك:
(17/388)
وجه الكراهية في ذلك وهو التشبه بالنصارى
الذين يفحصون عن أوساط رءوسهم من الشعر على ما جاء في ما أوصى به أبو بكر
الصديق ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام، فقال له: إنك ستجد أقواما
فحصوا عن أوساط رءوسهم من الشعر فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف.
وأما حلق القفا فكرهه مالك إذ لم يرد في حلقه أثر يتبع يراه مثله، وقربا
عنده من فعل النصارى الذين يحلقون مؤخر رءوسهم.
وأما استئصال الشارب فاختلف أهل العلم فيه لما جاء من «أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإحفاء الشارب وإعفاء اللحى» .
والإحفاء الاستئصال بالحلق، فحمله جماعة من العلماء على ظاهره وعمومه، منهم
أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما، فقالوا: إحفاء الشواب أفضل من قصها، وإلى
هذا ذهب أحمد بن حنبل، فكان يحفي شاربه إحفاء شديدا، ويقول: السنة فيه أن
يحفى؛ كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحفوا
الشوارب» .
وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن السنة أن يقص ويؤخذ منه حتى يبدو
أطراف الشفة الإطار ولا يستأصل جميعه بالحلق، لأنه روي عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أنه قال: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» ، وأنه قال: «خمس من
الفطرة، فذكر منها قص الشارب» ، فجعل ذلك من قوله: "فينا" لأمره بإحفاء
(17/389)
الشوارب، فقال: معناه أن يقص حتى يحفي منه
الإطار لا جميعه.
وقوله صحيح؛ لأن استعمال الأحاديث وحمل بعضها على التفسير لبعض أولى من
الأخذ ببعضها والاطراح لسائرها، لا سيما وفي العمل المتصل من السلف
بالمدينة بترك إحفاء الشوارب دليل واضح على أنهم فهموا عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أنه إنما أراد بإحفاء الشوارب قصها والأخذ منها وألا تعفى كما
يفعل باللحى، وهو دليل واضح، ولذلك قال مالك: إن حلق الشارب مثله، وحكم له
في رسم الجامع من سماع أشهب من كتاب السلطان بأنه بدعة، ورأى أن يؤدب من
فعل ذلك؛ لما فيه من تقصير المتقدم في مخالفتهم ظاهر الحديث والجهل به، وهم
ما جهلوه ولا خالفوه، لكنهم تأولوه على ما تأوله عليه مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ -، ولا يصح أن يكون المتأخر أعلم بمراد النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - من السلف المتقدم، وقد قال بعض المتأخرين: إن الشارب لا يقع
إلا على ما يباشر به شرب الماء وهو الإطار، فذلك هو الذي يحفى.
والصحيح أن الشارب ما عليه الشعر من الشفة العليا إلا أن المراد بإحفائها
إحفاء بعضها وهو الإطار منها، لا إحفاء جميعها بدليل الحديثين الأخيرين،
وقد روي عن ابن القاسم أنه كان يكره أن يؤخذ من أعلاه، ويقول: تفسير حديث
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إحفاء الشارب إنما هو
الإطار، والأظهر أن ذلك ليس بمكروه، وأنه مستحسن، فيقص الشارب لما جاء في
الحديث من أن قصه من السنة، ويحفى الإطار منه لما جاء في الحديث من الأمر
بإحفاء الشوارب.
(17/390)
وما استحسنه مالك من أن يؤخذ من اللحى إذا
طالت جدا حسن ليس فيه ما يخالف أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
بإعفائها، بل فيه ما يدل على ذلك بالمعنى، لأنه إنما أمر - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإعفاء اللحى لأن حلقها أو قصها تشويه ومثله، وكذلك
طولها نعما سماجة وشهرة، ولو ترك بعض الناس الأخذ من لحيته لانتهت إلى سرته
أو إلى ما هو أسفل من ذلك، وذلك مما يستقبح، وبالله التوفيق.
[صفة المؤمن]
في صفة المؤمن قال مالك: المؤمن يسير
المؤنة حسن المعونة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن هذه هي صفة المؤمن الممدوح إيمانه،
ومنها أن يكون حسن السمت هينا لينا مكرما لجاره وضيفه لا ينطق إلا بخير
ويسارع إلى فعل الخير، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم
ضيفه" جائزته يوم وليلة» الحديث.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمن يأكل في معي واحد،
والكافر يأكل في سبعة أمعاء» ، إن المؤمن يزهد في الدنيا ولا يستكثر منها،
ويطوي
(17/391)
بطنه عن جاره ويؤثر على نفسه، والكافر يرغب
في الدنيا ويستكثر منها ولا يؤثر على نفسه فيها، وبالله التوفيق.
[ما جاء في بلال رضي الله عنه]
في ما جاء في بلال
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وسمعت مالكا يذكر أنه بلغه: أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال لبلال:
«يا بلال، إني دخلت الجنة فسمعت خشفا أمامي» ، وقال: الخشف الوطء، «فقلت:
من هذا؟ فقالوا: بلال، فكان بلال إذا ذكر ذلك بكى» .
قال محمد بن رشد: بلال هذا هو بلال بن رباح مولى أبي بكر الصديق، كان يعذب
على دينه، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، فكان له خازنا ولرسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذنا، فأذن له حتى توفي، ثم أذن لأبي بكر
حياته، ولم يؤذن في زمن عمر، فقال له: ما منعك أن تؤذن؟ قال: إني أذنت
لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى قبض، وأذنت لأبي بكر
حتى قبض؛ لأنه كان ولي نعمتي، وقد سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يا بلال، ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل
الله» ، فخرج مجاهدا، ويقال: إنه أذن لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا
دخل الشام مرة فبكى عمر وغيره من المسلمين، وروي: أنه كان يؤذن لرسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما مات النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يخرج إلى الشام، فقال له أبو بكر: بل تكون
عندي، فقال: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لله عز وجل،
فقال: اذهب، فذهب إلى الشام، فكان بها حتى مات.
(17/392)
ورؤية النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إياه
في الجنة شهادة منه له بها؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، وبكاؤه إذا ذكر ذلك كان
شوقا لله وتوقا إلى لقائه، وبالله التوفيق.
[فضل الفقه في الدين]
في الفقه في الدين وسمعت مالكا يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» .
قال محمد بن رشد: يشهد لصحة معنى هذا الحديث قول الله عز وجل: {وَمَنْ
يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] جاء في
التفسير أنه الفقه في دين الله، وهو تفسير يشهد بصحته قول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» ، والفقه في الدين هو
العلم به، وقد أثنى الله على العلماء بما أثنى ووعدهم بالدرجات العلى، فقال
عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:
28] ، وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] ،
وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
[الزمر: 9] ، وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ، وطلب العلم
أفضل أعمال البر، روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ما أعمال
البر كلها في الجهاد إلا كبصقة في بحر، وما أعمال البر كلها والجهاد في طلب
العلم إلا كبصقة في بحر» ، فنص في هذا
(17/393)
الحديث على أن طلب العلم أفضل من الجهاد،
ومعناه في الموضع الذي يكون فيه الجهاد فرضا على الكفاية إذا كان قد قيم به
لأنه حينئذ يكون له قافلة، وأما القيام بفرض الجهاد [والجهاد] في الموضع
الذي يتعين فيه الجهاد على الأعيان فلا شك أنه أفضل من طلب العلم، والله
أعلم.
وظاهر الحديث أن طلب العلم أفضل من الصلاة. وما روي عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أنه «سئل عن أفضل الأعمال فقال: " الصلاة لأول ميقاتها» -
معناه في الفرائض، وأما النوافل فطلب العلم أفضل منها على ظاهر الحديث
المذكور، والله تعالى أعلم.
وقد سئل مالك: عن القوم يتذاكرون الفقه، القعود في ذلك أحب إليك أم الصلاة؟
فقال: بل الصلاة، وروي عنه أن العناية بالعلم أفضل، وليس ذلك عندي اختلافا
من قوله، ومعناه: أن طلب العلم أفضل من الصلاة لمن ترجى إمامته، والصلاة
أفضل من طلب العلم لمن لا ترجى إمامته إذا كان عنده منه ما يلزمه في خاصة
نفسه من صفة وضوئه وصلاته وزكاته إن كان ممن تجب عليه الزكاة، وقال سحنون:
يلزم أثقلهما عليه.
[تفسير إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا]
في تفسير {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:
29]
وسئل مالك: عن تفسير: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}
[الأنفال: 29] ، قال: مخرجا؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] .
قال محمد بن رشد: فسر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إحدى الآيتين بالأخرى،
فقال: معنى فرقانا في الآية الواحدة معنى مخرجا في الآية الثانية، وقد قيل:
(17/394)
معنى فرقانا: نصر، وقيل: نجاة، وأحسن ما
قيل في ذلك أن المعنى فيه فصلا بين الحق والباطل، حتى يعرفوا ذلك بقلوبهم
ويهتدوا إليه؛ لأن الفرقان في لسان العرب مصدر من قولهم فرقت بين الشيء
والشيء أفرق فرقا وفرقانا. وأما قول الله عز وجل {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] ، فمعناه: يجعل له من أمره مخرجا،
وذلك أنه إذا اتقى الله فطلق كما أمره الله ولم يطلق ثلاثا كان له مخرجا
بالارتجاع الذي يملكه في العدة وبالخطبة التي هي له مباح بعد العدة، وقد
روي: أن الآية نزلت في رجل من أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقال له
عوف بن مالك الأشجعي كان له ابن أسره المشركون، فكان يأتي إلى النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليشكو إليه مكان ابنه وحالته التي هو بها أو حاجته،
فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمره بالصبر، ويقول
له: إن الله سيجعل له مخرجا، فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا فانفلت من أيدي
العدو فمر بأغنام لهم فاستاقها فجاء بها إلى أبيه وجاء معه بعثا قد أصابه
من الغنم، فنزلت فيه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}
[الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] ، فمن
اتقى الله عز وجل وهو في شدة من أمره جعل الله له منه مخرجا على ما في سورة
الطلاق، وإن كان في حيرة جعل الله له فرقانا، أي: فصلا يبين له به الحق من
الباطل، والصواب وفيما تحير فيه على ما في سورة الأنفال.
فتأويل من تأول لكل آية منها معنى غير معنى الأخرى أولى ممن صرفهما إلى
معنى واحد على ما ذهب إليه مالك، والله تعالى أعلم.
[القدوم على البلد الذي تقع فيه الأمراض]
17 -
(17/395)
في القدوم على البلد الذي تقع فيه
الأمراض فيكثر فيه الموت وسئل مالك: عن الأمراض تقع في بعض البلدان فيكثر
فيهم الموت- وقد كان الرجل يريد الخروج إلى ذلك الموضع فلما بلغه كثرة ذلك
المرض والموت كره أن يخرج إليه.
قال: ما أرى بأسا إن خرج أو أقام وذكر الحديث الذي جاء عن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الطاعون، فقلت له: أفتراه يشبه ما
جاء فيه الحديث من الطاعون؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: الحديث الذي جاء في الطاعون قول عبد الرحمن بن عوف لعمر
بن الخطاب إذ خرج إلى الشام، فلما بلغ سرغ، بلغه أن الوباء قد وقع فيه،
فاستشار المهاجرين والأنصار في القدوم عن الوباء أو الرجوع عنه، فاختلفوا
عليه في ذلك: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
«إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا
فرارا منه» ، فرجع عمر بن الخطاب، قيل: بحديث عبد الرحمن بن عوف، وقيل: بل
إنما حدثه به بعد أن كان عزم على الرجوع بما أشار به عليه مشيخة الفتح إذ
لم يختلفوا عليه في ذلك.
وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه»
- ليس بنهي تحريم، وإنما هو نهي أدب وإرشاد من ناحية قوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل الممرض على المصح، وليحل المصح حيث شاء» ،
لئلا يقع بنفسه إن قدم عليه فأصابه فيه قدر أنه لو لم يقدم عليه لنجا منه،
ولا مجير
(17/396)
لأحد عن القدر، فلهذا قال مالك: ما أرى
بأسا إن خرج أو أقام، أي: لا حرج عليه إن قدم على البلد في مخالفة النهي،
إذ ليس بنهي تحريم، بل له الأجر إن شاء الله إذا قدم عليه موقنا بأن ما
أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فهو يؤجر إذا قدم عليه لهذا
الوجه، ويؤجر إذا لم يقدم عليه لاتباع نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
عن ذلك، فهذا وجه تخيير مالك إياه في ذلك.
وكذلك قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا
تخرجوا فرارا منه» - ليس بنهي تحريم وإنما هو أمر بالمقام الذي هو أفضل من
أجل الاستسلام للقدر، فالمقام أفضل بوجهين: أحدهما: اتباع الحديث، والثاني:
الاستسلام للقدر، والخروج جائز لا حرج فيه إن شاء الله إلا أنه مكروه
لمخالفة الحديث.
وقد أمر به عمرو بن العاص فروي عن الطاعة، فقال: تفرقوا عنه فإنما هو
بمنزلة نار، فقام معاذ بن جبل، فقال: لقد كنت فينا وأنت أضل من حمار أهلك،
سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «هو رحمة لهذه
الأمة» اللهم فاذكر معاذا فيمن تذكره في هذه الرحمة "، فمات في طاعون عمواس
بالأردن من الشام سنة ثماني عشرة، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وروي عن
شرحبيل بن حسنة أن عمرو بن العاص قال وقد وقع الطاعون بالشام: إنه رجس
فتفرقوا عنه، فقال شرحبيل: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: «إنها رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم فلا
تفرقوا عنه» . قال ابن عبد البر في الاستذكار أظن قوله " ودعوة نبيكم "
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم فاجعل فناء أمتي
بالطعن والطاعون، قالت عائشة: يا رسول الله، الطعن عرفناه، فما الطاعون؟
(17/397)
قال: غدة كغدة البعير تخرج في المراق
والآباط» .
ووجه ما ذهب إليه عمرو بن العاص من أن الخروج عن البلد الذي يقع فيه
الطاعون أولى من المقام فيه، هو مخافة الفتنة في ذلك بأن يصيبه قدر في
مقامه فيقول القائل لو خرج لنجا، فقد روي عن ابن مسعود أنه قال: الطاعون
فتنة على المقيم وعلى الفار، أما الفار فيقول: فررت فنجوت، وأما المقيم
فيقول: أقمت فهلكت، وكذبا جميعا، فر من لم يجئ أجله، وأقام فمات من جاء
أجله، وقد قال المدائني: يقال: إنه قل ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت.
فيتحصل على هذا في الأفضل من القدوم على الوباء والخروج عنه أو ترك ذلك بعد
الإجماع على أنه لا إثم ولا حرج في شيء من ذلك ثلاثة أقوال للسلف:
أحدها: أن الأفضل أن يقدم عليه وأن لا يخرج عنه، وهو مذهب من أشار من
المهاجرين والأنصار على عمر بن الخطاب أن يقدم عليه ولا يرجع عن وجهته؛ لأن
ترك القدوم عليه أحب من الرجوع عنه، فإذا كره الرجوع عنه فأحرى أن يكره
الخروج عنه.
والثاني: أن الأفضل أن لا يقدم عليه وأن يخرج، وهو الذي ذهب إليه عمرو بن
العاص؛ لأنه إذا كره المقام فيه فأحرى أن يكره القدوم عليه.
(17/398)
والقول الثالث: أن الأفضل ألا يقدم عليه
وألا يخرج عنه للنهي الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رواية
عبد الرحمن بن عوف، وهذا القول أصح الأقوال؛ لأن السنة حجة على القولين
الآخرين، وبالله التوفيق.
[نتف الشيب وقرضه]
في نتف الشيب وقرضه وسئل مالك: عن نتف
الشيب؟ فقال: ما أعلم حراما، وتركه أحب إلي من نتفه، قال ابن القاسم: ولا
أحب نتفه، قيل له: لو قرضه؟ فقال: أكره أن يقرضه من أصله، وهو عندي يشبه
النتف.
قال محمد بن رشد: الكراهية في ذلك ما جاء من أن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول الناس ضيف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس
قص شاربه، وأول الناس رأى الشيب، فقال: يا رب ما هذا؟ فقال الله تبارك
وتعالى: (وقارا يا إبراهيم، فقال: رب زدني وقارا) ، فما دعا إبراهيم -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به الزيادة فيه لا ينبغي لأحد أن
ينقصه من نفسه، وبالله التوفيق.
[ماء غير متملك يجري على قوم إلى قوم دونهم]
في سيل مهزور ومذينب وسئل مالك: عن سيل مهزور ومذينب حين قضى فيهما رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أكان فيهما يومئذ أصول نخل؟
فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: مهزور ومذينب واديان معروفان من أودية المدينة يسيلان
بالمطر يتنافس فيهما أهل المدينة فقضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أن
(17/399)
يمسك الأعلى إلى الكعبين ثم يرسل على
الأسفل، وهذا هو الحكم في كل ماء غير متملك يجري على قوم إلى قوم دونهم أن
من دخل الماء أرضه أولا فهو أحق بالسقي به حتى يبلغ الماء في أرضه إلى
الكعبين.
ثم اختلف الناس إذا بلغ الماء إلى الكعبين هل يرسل جميع الماء إلى الأسفل
أو لا يرسل إليه إلا ما زاد على الكعبين؟ وقال ابن القاسم: بل يرسل جميع
الماء ولا يحبس منه شيئا، والأول أظهر، وروى زياد عن مالك: أن معنى الحديث
أن يجري الأول الذي هو أقرب إلى الماء من الماء في ساقيته إلى حائطه بقدر
ما يكون الماء في الساقية إلى حد كعبيه حتى يروى حائطه بقدر ما يكون الماء
في الساقية، ثم يفعل الذي يليه كذلك ما بقي من الماء شيء، قال: وهذا السنة
فيهما وفيما يشبههما مما لا حق فيه لأحد بعينه أن الأول أحق بالتبدئة ثم
الذي يليه إلى آخرهم رجلا، وبالله التوفيق.
[تغيير الشيب]
في تغيير الشيب قال: وسمعته يذكر، قال
مالك: كان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وسعيد بن المسيب
والسائب بن زيد لا يغيرون الشيب.
قال محمد بن رشد: أما صبغ الشعر وتغيير الشيب بالحناء والكتم والصفرة فلا
اختلاف بين أهل العلم في أن ذلك جائز، وإنما اختلفوا هل الصبغ بذلك أحسن أو
ترك الصبغ جملة أحسن، واختلف في ذلك قول مالك بدليل ما له في الموطأ أن
الصبغ بذلك أحسن، ودليل ما تقدم من قوله قبل هذا في رسم حلف ألا يبيع سلعة
سماها أن ترك الصبغ بذلك كله أحسن، وقد مضى الكلام على هذا هناك مستوفى فلا
معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
(17/400)
[قضاء الرجل الرجل الذهب في المسجد]
في قضاء الرجل الرجل الذهب في المسجد
وسئل مالك: عن الرجل يقضي الرجل ذهبا في المسجد، فقال: لا أرى به بأسا،
وأما ما كان على وجه التجارة والصرف فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا متكررا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب
السلطان، وكره في رسم شك في طوافه منه في كتاب ذكر الحق في المسجد إلا أن
يكون شيئا خفيفا لا يطول، وهذا كله بين؛ لأن المساجد إنما وضعت لذكر الله
والصلاة، قال الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}
[النور: 36] {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ} [النور: 37] ، فواجب أن ترفع وتنزه عن أن تتخذ لغير ما وضعت له،
وقد اتخذ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رحبة بناحية المسجد تسمى
البطيحاء، فقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى
هذه الرحبة، وكان عطاء إذا مر به بعض من يبيع في المسجد دعاه فسأله: ما معه
وما يريد؟ فإذا أخبره أنه يريد أن يبيعه، قال: عليك بسوق الدنيا فإنما هذا
سوق الآخرة، وبالله التوفيق.
[ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم في أول الإسلام من قلة السعة]
فيما كان عليه أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
أول الإسلام من قلة السعة وسمعت مالكا يقول: كان عبد الله بن عمر يقول: ما
شبعنا من الثمر حتى فتحت خيبر.
قال محمد بن رشد: قد مضى معنى هذا في رسم نذر سنة
(17/401)
وتكلمنا هناك على ما يتعلق به من التفضيل
بين الفقر والغنى، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[ظهور أثر السجود بين عيني الرجل]
في كراهية ظهور أثر السجود بين عيني الرجل
وسمعته يقول: بلغني أن سعد بن أبي وقاص رأى رجلا بين عينيه سجدة، فقال: منذ
كم أسلمت، فذكر الرجل أمدا كأنه تقربه، فقال سعد: أسلمت منذ كذا وكذا وما
بين عيني شيء.
قال محمد بن رشد: كره له سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يشد جبهته
بالأرض حتى يؤثر فيها السجود فيبدو ذلك للناس؛ إذ ليس ذلك هو المعنى المراد
بقول الله عز وجل: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}
[الفتح: 29] ، وإنما هو ما يعتريهم من الصفرة والنحول بكثرة العبادة وسهر
الليل، وقيل: إن ذلك في الآخرة لا في الدنيا، ولعله اتهمه أن يكون قصد إلى
ذلك ليعرف به، فلذلك وبخه بما قرره عليه في الرواية، والله أعلم.
وقد روي أن عمر بن عبد العزيز استعمل عروة بن عياض على مكة فاستعداه عليه
رجل ذكر أنه سجنه في حق فلم يخرجه منه حتى باع ماله منه بثلاثة آلاف، وقد
كان أعطاه به ستة آلاف فأبى أن يبيعه منه، واستحلفه بالطلاق ألا يخاصمه في
ذلك أبدا، فنظر عمر إلى عروة ونكت بالخيزران بين عينيه في سجدته، ثم قال:
هذه غرتني منك، لسجدته، ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي لأمرت بموضع
السجود فغور، ثم قال للرجل: اذهب فقد رددت عليه مالك ولا حنث عليك، وقد مضى
هذا في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة لتكون الحكاية هناك،
وبالله التوفيق.
(17/402)
[شكل المصاحف]
في شكل المصاحف وسئل مالك: عن شكل
المصاحف أتشكل؟ فقال: أما أمهات المصاحف فإني أكره ذلك، وأما ما يشكل
للتعليم فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: المعنى في كراهيته لشكل أمهات المصاحف هو أن الشكل مما قد
اختلف القراء في كثير منه، إذ لم يجئ مجيئا متواترا فلا يحصل العلم بأي
الشكلين أنزل، وقد يختلف المعنى باختلافه، فكره أن يثبت في أمهات المصاحف
ما فيه اختلاف، وبالله التوفيق.
[يأمر للسائل بشيء فيجده قد ذهب]
في الذي يأمر للسائل بشيء فيجده قد ذهب
وسئل مالك: عن السائل يقف بالباب فيأمر له بدرهم فيجده قد انصرف، أترى أن
يسترجعه؟ فقال: لا، ولكن يتصدق به، قال له: فالكسوة؟ قال: كذلك يتصدق بها.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه المسألة في هذا الرسم من كتاب العارية، وما
رآه عليه بواجب، ووصل ابن أبي زيد بها في النوادر، وقال: ومن خرج إلى مسكين
بشيء فلم يقبله فليعطه غيره، وهو أشد من الأول، وليس بينهما فرق بين،
والمعنى الذي ذهب إليه ابن أبي زيد في الفرق بينهما والله أعلم هو أنه لما
وجده فأبى أن يقبلها وقد كان له أن يقبلها فردها أشبه عنده ردها إليه بعد
قبوله إياها، ولعله إنما ردها إليه ليعطيها لغيره، مثل أن يقول له أنا لا
حاجة لي بها فادفعها لغيري، فيكون ذلك قبولا منه لها، ويكون بذلك راجعا في
صدقته، وكذلك إذا سأله قريبه أو
(17/403)
أجنبي أن يعطيه شيئا فيعده بذلك فيأتي بما
وعده به فلا تجده يستحب له أن يعطيه لغيره.
فآكدها في الاستحباب الذي يخرج بالشيء إلى السائل فيجده فلا يقبل، ويليها
إذا لم يجده، ويليها الرجل الأجنبي يعده بالشيء فلا يجده، ويليها القريب
يعده بالشيء فلا يجده، وهو أخفها كلها من أجل أنه إنما أراد عينه لقربه
منه، وبالله تعالى التوفيق.
[مقاتلة العصبية]
في مقاتلة العصبية وسئل مالك: عن
العصبية مثل ما كان في أهل الشام، قال: أرى للإمام أن يتدارك ذلك وأن
يزجرهم، فإن طاعوا وإلا جوهدوا فيه، يعني أن يقاتلوا.
قال محمد بن رشد: هذا نص ما في كتاب الجهاد من المدونة، والأصل في ذلك قول
الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}
[الحجرات: 9] ، أي: حتى ترجع إلى الحق الذي أمر الله به، وبالله التوفيق.
[حد المنجم]
في المنجم وسئل مالك: عن الذي ينظر في النجوم فيقول الشمس تكسف غدا والرجل
يقدم غدا، وما أشبه هذا.
قال: أرى أن يزجر عن ذلك، فإن لم يفعل أدب في ذلك، ثم قال: وإني لأرى هؤلاء
الذين يعالجون المجانين
(17/404)
ويزعمون أنهم يعالجونهم بالقرآن وقد كذبوا
ليس كما قالوا، ولو كانوا يعلمون ذلك لعلمته الأنبياء، قد صنع لرسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سحر فلم يعرفه حتى أخبرته الشاة. وإني
لأرى هذا ينظر في الغيب، وإنها عندي لمن حبائل الشيطان.
قال محمد بن رشد: ليس قول الرجل: الشمس تكسف غدا والقمر يكسف ليلة كذا - من
جهة النظر في النجوم وعلم الحساب، بمنزلة قوله من هذا الوجه: فلان يقدم
غدا، في جميع الوجوه؛ لأن الشمس والقمر مسخران لله تعالى في السماء يجريان
في أفلاكهما من برج إلى برج على ترتيب وحساب وقدر لا يتعديانه، قال الله عز
وجل: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ
الْقَدِيمِ} [يس: 39] وقال: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:
5] وقال: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] .
فالقمر سريع الذهاب يقطع جميع بروج السماء في شهر واحد ولا تقطعها الشمس
إلا في اثني عشر شهرا، فهو يدرك الشمس في آخر كل شهر ويصير بإزائها من
البروج الذي هي فيه، ثم يخلفها فإذا بعد وكلما زاد بعده منها زاد ضوءه إلى
أن ينتهي في البعد ليلة أربعة عشر فتكمل استدارته وضوءه لمقابلة الشمس، ثم
يأخذ في القرب منها، فلا يزال ضوءه ينقص إلى أن يدرك الشمس فيصير بإزائها
على ما أحكمه خالق الليل والنهار، لا إله إلا هو.
فإذا قدر الله عز وجل على ما أحكمه من أمره وقدره من منازله في سيره أن
يكون بإزاء الشمس في النهار فيما بين الأبصار وبين الشمس ستر جرمه عنا ضوء
الشمس كله إن كان مقابلها أو بعضه إن كان منحرفا عنها، فكان ذلك هو
(17/405)
الكسوف للشمس، آية من آيات الله عز وجل
يخوف بها عباده، كما قال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا
تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] ، ولذلك أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
بالدعاء عند ذلك، وسن له صلاة الكسوف.
فليس في معرفة وقت كون الكسوف بما ذكرناه من جهة النجوم وطريق الحساب ادعاء
علم غيب ولا ضلالة وكفر على وجه من الوجوه، لكنه يكره الاشتغال به؛ لأنه
مما لا يعني، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حسن
إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» .
وفي الإنذار به قبل أن يكون ضرر في الدين؛ لأن من سمعه من الجهال يظن أن
ذلك من علم الغيب، وأن المنجمين يدركون علم الغيب من ناحية النظر في
النجوم، فوجب أن يزجر عن ذلك قائله ويؤدب عليه كما قال؛ لأن ذلك من حبائل
الشيطان، وقد روي: أن رجلا قال بالإسكندرية عند عمرو بن العاص: زعم حسطال
هذه المدينة أنه يكسف بالقمر الليلة أو أن القمر ينكسف الليلة، فقال رجل:
كذبوا هذا هو، علموا ما في الأرض فما علمهم بما في السماء؟ فقال عمرو بن
العاص: إنما الغيب خمسة: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي
نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ} [لقمان: 34] وما سوى ذلك يعلمه قوم ويجهله آخرون.
وأما قوله فلان يقدم غدا فهو من التخرص في علم الغيوب والقضاء بالنجوم.
(17/406)
وقد اختلف في المنجم يقضي بتنجيمه، فيقول:
إنه يعلم متى يقدم فلان، ويعلم وقت نزول الأمطار وما في الأرحام وما يستسر
به الناس من الأخبار وما يحدث من الفتن والأهوال وما أشبه ذلك من المغيبات،
فقيل: إن ذلك كفر يجب به القتل دون استتابة؛ لقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ
صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا
كُفُورًا} [الفرقان: 50] ، ولقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «قال الله
عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بفضل الله
ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا،
فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» ، وقيل: إنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، روي ذلك
عن أشهب، وقيل: إنه يزجر عن ذلك ويؤدب عليه، وهو قوله في هذه الرواية،
والذي أقول به: إن هذا ليس باختلاف قول في موضع واحد، وإنما هو اختلاف في
الأحكام بحسب اختلاف الأحوال، فإذا كان المنجم يزعم أن النجوم واختلافها في
الطلوع والغروب هي الفاعلة لذلك كله وكان مستسرا بذلك فحضرته البينة قتل
بلا استتابة؛ لأنه كافر زنديق، وإن كان معلنا بذلك غير مستسر به يظهره
ويحاج عليه استتيب، فإن تاب وإلا قتل كالمرتد سواء، وإن كان مؤمنا بالله عز
وجل مقرا بأن النجوم واختلافها في الطلوع والغروب لا تأثير لها في شيء مما
يحدث في العالم، وأن الله هو الفاعل لذلك كله إلا أنه جعلها أدلة على ما
يفعله، فهذا يزجر عن اعتقاده ويؤدب عليه أبدا حتى يكف عنه ويرجع عن اعتقاده
ويتوب عنه؛ لأن ذلك بدعة يجرح بها، تسقط إمامته وشهادته على ما قاله سحنون
في نوازله من كتاب الشهادات.
ولا يحل للمسلم أن يصدقه في شيء مما يقول، وأنى يصح أن يجتمع في قلب مسلم
تصديقه مع قول الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: 65]
(17/407)
وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ
عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}
[الجن: 27] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ
الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا
تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]
، وروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من صدق كاهنا أو منجما
أو عرافا فقد كفر بما أنزل الله على قلب محمد» ، ويمكن أن يصادف في بعض
الجمل وذلك من حبائل الشيطان، فلا ينبغي أن يغتر أحد بذلك ويجعله على صدقه
دليلا فيما يقول، كما لا ينبغي أن يصدق المعالجون الذين يعالجون المجانين
فيما يزعمون من أنهم إنما يعالجون بالقرآن، فلا يعلم الأمور الغائبة على
وجوهها وتفاصيلها إلا علام الغيوب أو من أطلع عليها علام الغيوب من
الأنبياء ليكون ذلك دليلا على صحة نبوته، قال الله عز وجل في كتابه حاكيا
عن عيسى ابن مريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَأُنَبِّئُكُمْ
بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49] ، فادعاء معرفة
ذلك والإخبار به على الوجه الذي يعرف ذلك الأنبياء ويخبر به تكذيبا
لدلالتهم.
وفي دون هذا كفاية لمن شرح الله صدره للإسلام وهداه ولم يرد إضلاله
وإغواءه.
والذي ينبغي أن يعتقد فيما يخبرون به من الجمل فيصيبون مثل ما روي عن هرقل:
أنه أخبر أنه نظر في النجوم فرأى ملك الختان قد ظهر، أن ذلك إنما هو على
معنى التجربة التي قد تصدق في الغالب من نحو قول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين الغديقة» ، وبالله
التوفيق.
(17/408)
[كراء الأفنية]
في كراء الأفنية وسئل مالك: عن الأفنية
التي تكون في الطريق يكريها أهلها، أترى ذلك لهم وهي طريق المسلمين؟
قال: إذا كان فناء ضيقا إذا وضع فيه شيء أضر ذلك بالمسلمين في طريقهم فلا
أرى أن يمكن أحد من الانتفاع به وأن يمنعوا، وأما كل فناء إن انتفع به أهله
لم يضيق على المسلمين في طريقهم شيئا لسعته لم أر بذلك بأسا، قال: وقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» ،
فإذا وضع في طريق المسلمين ما يضيق عليهم به فقد أضر بهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن لأرباب الأفنية أن يكروها ممن يضع فيها
ما لا يضيق به في الطريق على المارة فيه، لأنه إذا كان لهم أن ينتفعوا بها
على هذه الصفة وكانوا أحق بذلك من غيرهم كان لهم أن يكروها؛ لأن ما كان
للرجل أن ينتفع به كان له أن يكريه، وهذا ما لا أعلم فيه خلافا.
وإنما الذي لا يباح لصاحب الفناء أن يقتطعه ويدخله في داره، فإن فعل وكان
ذلك يضر بالطريق هدم عليه وأعيد إلى حاله.
واختلف إن كان لا يضر، فقيل: إنه يهدم عليه أيضا، وهو قول أشهب وابن وهب في
سماع زونان من كتاب السلطان، وقيل: إنه لا يهدم عليه، وهو قول أصبغ وروايته
عن أشهب في رسم الأقضية والحبس من سماع أصبغ من الكتاب المذكور، وقد مضى
هذا كله في هذا الرسم من هذا السماع من الكتاب المذكور لتكرر المسألة هناك،
وبالله التوفيق.
(17/409)
[أول طعام أهل الجنة]
في أول طعام أهل الجنة قال: وسمعت مالكا
يحدث أنه يقال: أول ما ينزله أهل الجنة بلام ونون، قال: يلبث الثور نافشا
في الجنة يأكل من ثمرة الجنة، فإذا أضحى ذكاه الحوت بذنبه فأكلوا منه، ويظل
الحوت يسبح في أنهار الجنة يأكل من ثمار الجنة، فإذا أمسى نهره الثور بقرنه
فأكلوا من لحمه.
قال محمد بن رشد: البلام الثور، والنون الحوت، قال الله عز وجل: {وَذَا
النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 87] ، وقال في موضع آخر:
{كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] ، فبان أن النون هو الحوت، والمعنى في
هذا الحديث إن صح: أن الله يعيد الثور بعد أن ذكاه الحوت فأكلوا منه حيا
كما كان، فينهر الحوت بقرنه فيأكلوا منه، ويحتمل أن يكون النون الذي ينهر
الحوت غير الذي ذكاه الحوت فأكلوا منه، لا ذلك الثور بعينه؛ لأن الألف
واللام في قوله "يلبث الثور" قد تكون للعهد وقد تكون للجنس، والنفش الرعي
بالليل، قال الله عز وجل: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}
[الأنبياء: 78] والجنة لا ظلام فيها ولا ليل ولا ضحى ولا مسى، روي أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجنة بيضاء تتلألأ،
وأهلها بيض، لا ينام أهلها وليس فيها شمس ولا ليل مظلم ولا حر ولا برد
يؤذيهم» . وروي عن عبد الله بن أبي أوفى: «أن رجلا قال: يا رسول الله أفي
الجنة ليل؟ فقال: "ليس في الجنة ظلمة، إن الليل ظلمة، إن شجرها نور
وأنوارها نور وثمرتها نور وخدمها نور» .
(17/410)
فقوله "يلبث في الجنة الثور نافشا في
الجنة" أي: آكلا من ثمرها مقدار ليل الدنيا.
وقوله "فإذا أضحى ذكاه الحوت بذنبه فأكلوا منه، فإذا أمسى نهره الثور بقرنه
فأكلوا منه" - مثل قول الله عز وجل في كتابه العزيز: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ
فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] ، يريد: أنهم يؤتون به على قدر ما
كانوا يشتهونه في الدنيا الغداء والعشاء، وقيل: إنه إذا مضى مقدار ثلاث
ساعات من اثنتي عشرة ساعة من ساعات الدنيا التي هي مقدار النهار فيها أتوا
بغدائهم، وإذا بقيت ثلاث ساعات أتوا بعشائهم، فيكون على هذا بين الأكل
والأكل مقدار ست ساعات من ساعات الدنيا، ويروى: أنه يغدى على أدنى منزلة في
الجنة كل يوم بسبعين ألف صحفة من ذهب، في كل واحدة منها لون ليس في الأخرى،
يأكل منها من آخرها كما يأكل من أولها، ويراح عليه بمثلها، وقد قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روي عنه حاكيا عن ربه عز
وجل: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين نظرت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
بشر» ، وبالله التوفيق.
[فساد الناس وقلة زعتهم]
ومن كتاب البز في فساد الناس وقلة زعتهم
قال مالك: وذكر فساد الناس وقلة زعتهم، وقال: لقد قال ذلك الرجل: لقد
رأيتنا في الجاهلية وكأنا في ملك ضابط، يريد بذلك كف بعضهم عن بعض وأحلامهم
فيما بينهم، وذكر عنه، قال ابن القاسم: إنه الزبير بن العوام.
(17/411)
قال محمد بن رشد: وإذا كان مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - قد أشفق في زمنه لما رأى من فساد الناس وقلة زعتهم. فناهيك من
زمننا هذا الوادركه، وقد قال عبد الله بن مسعود: ما من عام إلا والذي بعده
شر منه، يريد في فساد الناس وقلة زعتهم وكثرة الشر فيهم، وبالله التوفيق.
[معنى الحكمة والعقل]
في الحكمة والعقل قال: وسمعت مالكا يقول: وسمعت زيد بن أسلم يقول: {وَكُلا
آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ، إن الحكمة العقل، قال مالك:
والذي يقع بقلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله، ومما يبين ذلك أنك تجد
الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا بصر، وتجد آخر ضعيفا في دنياه عالما في أمر
دينه بصيرا به يؤتيه الله إياه ويحرم هذا، فهذه الحكمة، الفقه في دين الله.
قال محمد بن رشد: تأويل مالك أظهر؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ، وقال النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في
الدين» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحمل على التفسير
لقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا
كَثِيرًا} [البقرة: 269] ، وقد قيل: معنى "حكما وعلما" فهما وعقلا، وقيل:
معناه: فهما وعلما، فيأتي في تأويل الحكم في هذه الآية ثلاثة أقوال، قيل:
الفقه، وقيل: الفهم، وقيل: العقل، وفي رسم شك في طوافه بعد هذا أن الحكمة
في قوله عز وجل:
(17/412)
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}
[البقرة: 269] التفكير في أمر الله والاتباع. والتفكير في أمر الله لا يكون
إلا بالعقل والفهم، والتأويلات كلها قريبة بعضها من بعض في المعنى؛ لأن
الفقه لا يكون إلا بالفهم، والفهم لا يكون إلا بالعقل، وفي قوله عز وجل:
{وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] مع اختلافهما فيما
حكما به يدل على أن كل مجتهد مصيب، وللقول في هذا مكان غير هذا، وبالله
التوفيق.
[تمني عمر بن عبد العزيز الموت]
في تمني عمر بن عبد العزيز الموت قال
مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز في مرضه الذي توفي فيه أنه حبا حتى توضأ،
ثم أتى المسجد فركع ثم ذكر موت سهل أخيه وعبد المالك ابنه ومزاحم مولاه،
فقال: ما ازددت إلا حبا، وما ازددت فيما عندك إلا رغبة، قال ابن القاسم:
ولا أعلمه إلا قال: فاقبضني إليك.
قال محمد بن رشد: في تمني عمر رغبة فيما عند الله وحبا في لقاء الله - دليل
على ما له عند الله، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«قال الله تبارك وتعالى: إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي
كرهت لقاءه» ، ومن أحب الله لقاءه فهو من أهل الجنة؛ لأن معنى محبة الله
لقاءه إرادته لتنعيمه، وبالله التوفيق.
(17/413)
[حشف التمر]
في حشف التمر لعمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: وسمعت مالكا في حديث عمر بن الخطاب في الصاع من التمر، قال:
يحشف له، قال: يريد يقشر له، فقيل له: تفسير يحشف؟ قال: ينزع له قشره
والحشف.
قال محمد بن رشد: هذه الحكاية عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
تدل على أنه ينتقى له التمر فيأكل طيبه، وذلك جائز لا بأس به بإجماع من
العلماء، قال الله عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، وهي
خلاف لما ذكره مالك في موطئه عن أنس بن مالك أنه قال: رأيت عمر بن الخطاب
وهو يومئذ أمير المؤمنين يطرح له صاع من تمر فيأكله حتى يأكل حشفه. وهذا
يدل على أنه كان يقتصر في أكله على التمر، وأنه كان لا يأكل حتى يجوع، وأنه
كان لا ينقى له من حشفه فيأكله بحشفه، لأنه كان مخشوشنا في طعامه لا
ينتقيه، والحشف الرديء من التمر المسوس من اليابس، وللعرب مثل تضربه فيمن
باع شيئا رديا وكال كيل سوء، قالت: أحشفا وسوء كيله بكسر الكاف. وقد روى عن
حفصة بنت عمر، قالت لعمر: يا أمير المؤمنين، لو لبست ثوبا هو ألين من ثوبك،
وأكلت طعاما هو أطيب من طعامك فقد وسع الله من الرزق وأكثر من الخير، قال:
إني سأخاصمك إلى نفسك، ألا تذكرين ما كان يلقى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من شدة العيش؟ فما زال يذكرها حتى
(17/414)
أبكاها، ثم قال: والله لئن استطعت
لأشاركنهما بمثل عيشهما لعلي أدرك معهما الرخاء. وسيأتي في رسم طلق بن حبيب
أنه كان يحشف له الصاع من التمر فيأكله كله، فقيل له: ما يحشف؟ قال: يأكله
بحشفه، والمعنى في ذلك، والله أعلم: أنه كان يحشف له فيكره ذلك من فاعله
لما كان عليه من الخشونة في مطعمه وملبسه، ويأكله بحشفه، وهو نحو ما في
الموطأ، وبالله التوفيق.
[يضعف عن حمل العلم على وجهه]
في الذي يضعف عن حمل العلم على وجهه قال
مالك: كنت أسمع ربيعة بن عبد الرحمن يقول: إن الرجل لتجده صالحا صائما
مصليا رجل صدق وعابدا، وآخر ضعيفا ليس فيه محمل لهذه الأشياء، ويضعف عن
العلم أن يحمله ويخاف أن يحمله على غير وجهه، فهو عندي خير من هذا الذي حمل
الفقه، قال: ورأيت مالكا يعجبه قول ربيعة ويقول: صدق، يسمع الشيء فيضعف عن
وجه حمله فيفتي به الناس ويحملهم عليه وقد أخطأ في ذلك؟ وقال: مثل فلان.
قال محمد بن رشد: ما قاله ربيعة واستحسنه مالك صحيح؛ لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه
من القلوب، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء
جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» ، فمن نظر في العلم وضعف عن حمله على
وجهه وأفتى الناس بتأويله إياه على غير وجهه يخشى ألا يقوم ما عليه من
الوزر في ذلك بما له من الأجر والثواب في صلاته وصيامه وعبادته، وبالله
التوفيق.
[سن عمر بن عبد العزيز]
17 -
(17/415)
في سن عمر بن عبد العزيز وسئل مالك: كم أتى
على عمر بن عبد العزيز من السنين؟ قال: اثنان وأربعون سنة.
قال محمد بن رشد: من مات في هذا السن فلم يبلغ سن الشيخ وهو يعد في حد
الشباب والكهولة بدليل ما روى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال:
«دخلت الجنة فإذا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لشاب من قريش
فظننت أني هو، فقلت: من هو؟ فقالوا: عمر بن الخطاب، فيا أبا حفص لولا ما
أعلم من غيرتك لدخلته، فقال عمر: من كنت أغار عليه يا رسول الله فإني لم
أكن أغار عليك» . وما روى عنه من أنه قال في أبي بكر الصديق وعمر بن
الخطاب: «هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والأخيرين إلا النبيين
والمرسلين» . وروى ذلك عنه علي بن أبي طالب، وأنه قال: «ولا تخبرهما بذلك
يا علي،» فكل كهل شاب وليس كل شاب كهلا؛ لأن الرجل يولد طفلا فيقع عليه اسم
الطفولة ما لم يحتلم، فإذا احتلم كان شابا ما لم يبلغ الأشد، وقيل فيه: إنه
خمس وثلاثون سنة فإذا بلغ خمسا وثلاثين سنة فهو شاب إلى أن يبلغ حد
الشيخوخة، فعمر بن عبد العزيز إمام عدل شاب نشأ في عبادة الله، وقد قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سبعة يظلهم الله في ظله
يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ... » الحديث، فجمع
الله لعمر هاتين
(17/416)
الفضيلتين وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء،
وبالله التوفيق.
[فضل الفتيان]
في الفتيان قال مالك: كان محمد بن كعب القرظي إذا ذكر الفتيان، قال:
{سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]
وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}
[الكهف: 13] ويذكر فضلهم.
قال محمد بن رشد: الفتيان هم الشبان فإذا نشأ الشاب في عبادة الله فهو في
ظل الله يوم لا ظل إلا ظله على ما جاء في الحديث، وبالله التوفيق.
[الركوب بصفة الأرجوان]
في الركوب بصفة الأرجوان
وسئل مالك: عن الركوب بصفة الأرجوان.
قال: ما أعلم بأسا، وغيره أحب إلي منه.
قال محمد بن رشد: الأرجوان أظنه الخز الأحمر، ويحتمل أن يكون الصوف الأحمر،
فإن كان الخز الأحمر فإنما سئل عنه والله أعلم لما روي عن «علي بن أبي طالب
أنه أتي ببغلة عليها سرج خز، فقال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الخز وعن ركوب عليه وعن جلوس عليه» . فلم ير به
مالك بأسا؛ لأنه لم يعرف النهي عن ذلك، والله أعلم، ورأى غيره أحب إليه منه
لما فيه من الحرير؛ لأنه يكره لباس الخز لما فيه من الحرير، والركوب عليه
إذا جعلت صفة السرج منه، يشبه اللباس له.
وإن كان الأرجوان هو الصوف الأحمر فإنما رأى غيره أحب إليه منه
(17/417)
والله أعلم لما في ذلك من التشبه بالعجم،
ألا ترى أنه قد روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الميثرة» وهي جلود السباع. «وعن معاوية:
أنه دعا نفرا من الأنصار في الكعبة فقال: أنشدكم بالله عز وجل، ألم تسمعوا
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صفف النمور؟
فقالوا: اللهم نعم، قال: وأنا أشهد» وعن المقدام بن معدي كرب أن «رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الركوب على جلود السبع» ولا
وجه للنهي عن ذلك إلا التشبه بالعجم؛ إذ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر، وذكاة كل أديم دباغه» ، وروي عن أبي
أيوب الأنصاري: أنه أتي بدابة بسرج نمور فنزع الصفة، فقيل: الجديتان نمور،
فقال: إنما ينهى عن الصفة، يريد
(17/418)
لاستعمال العجم إياها كما ذكرناه.
وقد أباح ذلك جماعة من التابعين من أجل أن النهي في ذلك إنما هو لهذه العلة
لا نهي تحريم، فروى أن عروة بن الزبير كان له سرج نمور , وروي ذلك عن الحسن
البصري وابن سيرين، ولهذه العلة فرق في حديث علي الذي ذكرناه عن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الخز بين لباسه والركوب عليه والجلوس عليه،
وبالله التوفيق.
[الوضيعة على من باع تمر حائطه]
في أن الوضيعة لا تجب على من باع تمر حائطه إذا لم تصبه جائحة قال مالك:
باع عبد الله بن عمر حائطا له واشترط على الذي باعه شروطا، واستثنى عليه
فيه شيئا، وكان فيما اشترط عليه ألا يخرج منه أشياء إلا بعلمه فعمل فيه
الرجل ثم تبين له فيه وضيعة، فجاءه يستوضعه، فأبى، فسأله الإقالة فأبى،
فذهب الرجل.
فقال له أبو الرجال: إن أمي عمرة حدثتني «أن رجلا ابتاع حائطا على عهد رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعمل فيه فتبين له الوضيعة،
فجاءه فسأله الوضيعة، فتألى ألا يفعل، فجاءت أم المشتري إلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته، وقالت: يا رسول الله، ما
أصبنا منه إلا تمرة أو رطبة رفعها أحدنا إلى فيه أو شيئا استطعمناه مسكينا،
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تألى ألا يفعل
خيرا؟ " فسمع بذلك البائع فأتى إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله هو له» فلا أدري الوضيعة أم الإقالة رد
إليه الثمن.
(17/419)
قال محمد بن رشد: قوله فقال أبو الرجال،
يريد فقال لمالك أبو الرجال؛ لأنه حديث مالك عن أبي الرجال أدخله في موطئه
في باب الجائحة في بيع الثمار والزروع ليبين أن الوضيعة إذا دخلت على
المشتري من غير جائحة جرت عليه في الثمن لا رجوع له على البائع؛ لأن النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما ندب البائع إلى الوضع ولم يوجب ذلك عليه.
ولا اختلاف في أن ذلك لا يجب عليه، ولذلك أبى عبد الله بن عمر أن يقيل الذي
باع منه ثمر حائطه أو يضع عنه، وأما إذا جرت على الثمر جائحة قبل تناهي
طيبها وإمكان جذاذها فمذهبه وجوب وضع الجائحة إذا بلغت الثلث فأكثر، لما
جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع
الجوائح بهذا بحديثه هذا، وقال: أدخله في موطئه في باب وضع الجائحة، وليس
فيه الأمر بالوضع، وإنما فيه الندب إلى ذلك، ولم يدخله مالك فيه إلا ليبين
أن الوضيعة إذا دخلت على المشتري بغلة الإصداق أو انحطاط الأسواق فلا حجة
له بذلك على البائع، بخلاف إذا أجيحت الثمرة، وبالله التوفيق.
[فضائل عمر بن عبد العزيز]
في ما يحكى من فضائل عمر بن عبد العزيز
قال مالك: قال ابن حبان، وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز على المدينة: ما
جاءني رسول لعمر بن عبد العزيز إلا بخبر خير، قال مالك: بلغني أنه قال لعمر
بن عبد العزيز: أوص، فقال: ما لي من مال أوصي فيه صغار ولدي إلى كبارهم.
قال محمد بن رشد: ليس في هذا إلا ما هو معلوم من فضائل عمر بن عبد العزيز،
وبالله التوفيق.
(17/420)
[تعظيم الخطيئة في الحرم]
في تعظيم الخطيئة في الحرم قال مالك:
بلغني أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان إذا قدم مكة لم يضطرب بناه إلا
خارجا من الحرم، فقلت لمالك: لم كان يفعل ذلك؟ قال: يريد إعظام الخطيئة في
الحرم.
قال محمد بن رشد: تأويل مالك على عمرو بن العاص صحيح بين؛ لأن من تعظيم
الحرم أن لا يعصى الله فيه، قال الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ
حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ
الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] ، وقال: {وَمَنْ
يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:
25] ، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: لأن أعمل عشر خطايا بركبة أحب إلي من
أن أعمل واحدة بمكة، والمعنى في ذلك بأن السيئات تضاعف فيها كما تضاعف فيها
الحسنات، وقد رأى بعض العلماء تغليظ الدية في الجراح والنفس في البلد
الحرام والشهر الحرام لهذا المعنى، وبالله التوفيق.
[الإشارة بالرجل للعمل]
في الإشارة بالرجل للعمل قيل لمالك: فإن
فلانا لا يعمل وهو يشير بمن يعمل.
قال: إن كان يشير برجل مأمون لا بأس بحاله فلا بأس بذلك، فقيل له: أفيطلب
الرجل للرجل حتى يوليه؟ قال: إن علم فيه خيرا للمسلمين أشار بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن من أشار على الإمام بتولية من
لا خير في توليته للمسلمين أو من ليس بثقة ولا مأمون فقد
(17/421)
غشه وغش المسلمين، وقد قال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غشنا فليس منا» ، وقال: «الدين النصيحة،
قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ، وقد
أعان على الإثم والعدوان، والله عز وجل يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
[المائدة: 2] ، وبالله التوفيق.
[ما يدعو به الرجل من أسماء الله]
فيما يدعو به الرجل من أسماء الله وسئل
مالك: عن الرجل يقول يا الله يا رحمن يا رحيم، قال: يقول: يا رحمن يا رحيم
فيقول بالله، قال: يقول: اللهم أبين، ويدعو بما دعت به الأنبياء.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في جواز الدعاء بـ "يا الله" ويا رحمن ويا
رحيم؛ لأن الله من أسماء الله العظام، وقد قيل فيه: إنه اسمه الأعظم الذي
إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، والرحمن اسم من أسمائه المختصة به،
والرحيم اسم من أسمائه التي سمى بها نفسه في كتابه، إلا أن الدعاء بـ "يا
رحمن يا رحيم" غير بين، لما ذكرناه من أنهما من أسمائه التي قد أجمعت الأمة
على تسميته بها لتسمية الله عز وجهه نفسه بها في كتابه العزيز.
و"اللهم" بمنزلة "الله"؛ لأن الميم زيدت في اسم الله عوض "يا" النداء
المحذوفة من أوله تعظيما له بذلك، وقد جاء القرآن بذلك، قال الله عز
(17/422)
وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] الآية، وقال: {قَالَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً
مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 114] ، وقال: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ
كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً
مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] ، وقال: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ
تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ} [الزمر: 46] ، وقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم لا تجعل قبري وثنا
يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وكان من دعائه
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل:
«اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد ... » الحديث. وقال -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقل أحدكم إذا دعا اللهم اغفر لي
إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت
» الحديث، والسنن في هذا أكثر من أن تحصى، ولذا استحب مالك "اللهم" في
الدعاء، وإنما كره مالك الدعاء بـ "يا سيدي ويا حنان" وبما أشبه ذلك من
الأسماء لاختلاف أهل العلم في جواز تسميته بها، إذ لم ترد في القرآن ولا في
السنن المتواترة، ولا أجمعت الأمة على جواز تسميته بها.
وأما الدعاء بـ "يا منان" فلا كراهية فيه؛ لأنه من أسماء الله القائمة من
القرآن، قال الله عز وجل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] ، وقد مضى هذا في رسم الصلاة الثالث من سماع
أشهب من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
(17/423)
[فضائل عمر بن
الخطاب رضي الله عنه]
فيما يحكى من فضائل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال مالك: كان
عمر بن الخطاب لا يفرض لصبي حتى يعظم، فمر من الليل وصبي يبكي، فقال لأمه:
أرضعيه، فقالت: لا يفرض له عمر، ففرض عمر بعد ذلك للمولود مائة درهم في
السنة.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في كتاب الزكاة الثاني من المدونة، فزاد
فيها: فولى عمر وهو يقول: كدت والذي نفسي بيده أن أقتله، ففرض للمنفوش من
ذلك اليوم مائة درهم. وقوله في هذه الرواية: في السنة - تتميم لما وقع في
المدونة، وفي هذا إشفاق عمر بن الخطاب للمسلمين وحنوه عليهم لعلمه أنه
مسئول عنهم، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كلكم
راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على
أهل بيته وهو مسئول عنهم» ، وقد قال عمر بن الخطاب إيمانا بهذا الحديث
وتصديقا له: لو مات جمل بشط الفرات ضياعا لخشيت أن يسألني الله عنه، وبالله
تعالى التوفيق.
[يوم بدر وفتح مكة كان كل واحد منهما في يوم سبعة عشر من رمضان]
في أن يوم بدر وفتح مكة كان كل واحد منهما في
يوم سبعة عشر من رمضان
قال مالك: فتحت مكة في سبعة عشر يوما من رمضان، وكان يوم بدر في سبعة عشر
يوما من رمضان، كانا جميعا في رمضان.
قال محمد بن رشد: فيما أخبر به مالك من هذا ما يدل على أن المعرفة بسير
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وغزواته وبعوثاته وأحواله إلى حين وفاته من
(17/424)
العلم الشريف الذي يحظى به صاحبه ويغبط فيه
ويحمد عليه، فكانت بدر وهي أعظم المشاهد وأكثرها فضلا لمن شهدها؛ لأن الله
أعز بها الدين ونصر فيها المسلمين، وأمدهم بالملائكة المسومين، وأذل بها
المشركين في يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية من
الهجرة، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هاجر إلى
المدينة فقدمها في ربيع الأول يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، فأقام
بها إلى أن دخلت السنة الثانية.
ففي السنة الثانية في صدر صفر منها كانت غزوة ودان، ويقال لها غزوة
الأبواء، وهي أول غزواته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خرج فوادع
بني ضمرة بن عبد مناة، وعقد ذلك معه سيدهم مخشي بن عمرو ثم رجع ولم يلق
كيدا.
وفيها بعث حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من
الأنصار أحد إلى سيف البحر من ناحية العيص فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب
من كفار أهل مكة فحجر بينهم مجدي بن عمرو الجهني وتوادع الفريقان، فلم يكن
بينهم قتال.
وفيها بعث عبيدة بن الحارث في ستين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار
أحد، فنهض حتى بلغ ابني وهي ماء بأسفل ثنية المرة من الحجاز، فلقي بها جمعا
من قريش عليهم عكرمة بن أبي جهل، فلم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي
وقاص كان في ذلك البعث، فرمى فيه بسهم، فكان أول سهم رمى به في سبيل الله،
واختلف أهل السير في هذين البعثين أيهما كان قبل صاحبه.
(17/425)
وفيها كانت غزوة بواط، خرج رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ثم رجع
إلى المدينة ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة العشيرة، خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسار
حتى بلغ العشيرة فوادع فيها بني مدلج، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة بدر الأولى، أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة،
فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بلغ سفوان في
ناحية بدر، وفاته كرز فرجع إلى المدينة.
وفيها كان بعث سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط من المهاجرين، قيل في طلب كرز
بن جابر فبلغ الحرار ثم رجع.
وفيها بعث عبد الله بن جحش في ثمانية من المهاجرين، منهم واقد بن عبد الله
التميمي وعتبة بن غزوان، وكتب له كتابا وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين
ثم ينظر فيه، ولا يكره أحدا من أصحابه، ففعل ما أمره به، فلما فتح الكتاب
وجد فيه إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد
بها وتعلم لنا أخبارهم، فلما قرأ الكتاب قال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه أنه
لا يكره أحدا منهم، وأنه يمضي بمن أطاعه منهم أو وحده إن لم يطعه منهم أحد،
وقال: من أحب الشهادة منكم فلينهض معي، ومن كره الموت فليرجع، فقالوا: كلنا
نرغب فيما ترغب، وما منا أحد إلا سامع مطيع لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنهضوا حتى نزلوا بنخلة فمرت بهم عير لقريش تحمل
زبيبا وتجارة من الشام، فيها عمرو ابن الحضرمي، وعبد الله ونوفل ابنا عبد
الله بن المغيرة المخزوميان، وكان ذلك في آخر يوم من رجب الشهر الحرام،
فتشاوروا في ذلك، وقالوا: إن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة
(17/426)
الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا
الحرم، ثم اتفقوا على لقائهم فرمى واقد بن عبد الله التميمي منهم عمرو بن
الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن
عبد الله، فقدموا بالعير والأسرى، وقال لهم عبد الله بن جحش: اعزلوا مما
غنمنا الخمس لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أول
خمس في الإسلام، ثم نزل القرآن: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ} [الأنفال: 41] الآية، فأقر الله ورسوله فعل عبد الله بن جحش في ذلك
ورضياه وسناه للأمة إلى يوم القيامة، فكانت هذه أول غنيمة في الإسلام وأول
أسير أسر فيه، وعمر بن الحضرمي أول قتيل قتل فيه، وأنكر رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتله في الشهر الحرام، فسقط في أيدي القوم،
فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ
فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] الآيات إلى قوله: {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:
218] ، فأخبر الله تعالى أن القتال في الشهر الحرام كبير، وأن الكفر بالله
والصد عن سبيله وإخراج أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام أكبر عند الله
من ذلك، وذلك أن المشركين عيروا أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
بالقتل في الشهر الحرام، فأخبر الله عز وجل أن الذي هم عليه من الكفر أشد
وأكبر من القتل في الشهر الحرام، ثم أثنى على أصحاب النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ} [الأنفال: 72] إلى قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[الأنفال: 70] فدل ذلك على أنه قد غفر لهم.
وقد قيل: إن قتلهم لعمرو بن الحضرمي وقتالهم إنما كان في أول ليلة من رجب
وآخر ليلة من جمادى، وغمد المسلمون سيوفهم حتى دخل رجب، فالله
(17/427)
أعلم، وقبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفداء في الأسيرين، فأما عثمان ابن عبد الله فمات
بمكة كافرا وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى استشهد ببئر معونة، ورجع سعد وعتبة إلى المدينة
سالمين.
وفيها صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة.
ولما دخل رمضان منها اتصل بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن عيرا لقريش
عظيمة فيها أموال لهم كثيرة مقبلة من الشام إلى مكة معها ثلاثة وأربعون
رجلا من قريش رئيسهم أبو سفيان بن حرب، فندب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين إلى تلك العير، وأمر من كان ظهره حاضرا
بالخروج، ولم يحتفل لأنه أراد العير، ولم يعلم أنه يلقى حربا، فاتصل بأبي
سفيان خروج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأرسل إلى أهل مكة مستصرخا لهم
إلى نصر عيرهم، فخرج أكثر أهل مكة ولم يتخلف من أشرافهم إلا القليل، ولما
أتى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الخبر بخروج نفير قريش لنصر العير، أخبر
أصحابه بذلك واستشارهم فيما يعملون، فتكلم كثير من المهاجرين وتمادى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يريد ما يقول الأنصار،
فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، لو استعرضت هذا البحر لخضناه معك،
فسر بنا يا رسول الله على بركة الله حيث شئت. فسر رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله، وقال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد
وعدني إحدى الطائفين. ولما قرب أبو سفيان من بدر تقدم وحده حتى أتى ماء
بدر، فقال لمجدي: هل أحسست أحدا؟ قال: لا، إلا أن راكبين أناخا إلى هذا
التل واستقيا الماء ونهضا، فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيرهما
ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب، فرجع سريعا حذرا، فصرف
العير عن طريقها، وأخذ طريق الساحل فنجا، وأوصى إلى قريش يخبرهم بأنه قد
نجا هو والعير فارجعوا، فأتى أبو جهل، وقال: والله لا نرجع أو نرد ماء بدر
ونقيم عليه ثلاثا فتهابنا العرب أبدا وسبق رسول الله
(17/428)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قريشا إلى ماء بدر، ومنع قريشا من السبق إليه مطر أنزله الله عليهم عظيم لم
يصب منه المسلمين إلا ما شد لهم دهش الوادي، وأعانهم على المسير، ومشى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على موضع الوقعة، فعرض على
أصحابه مصارع رءوس الكفار من قريش مصرعا مصرعا، يقول: هذا مصرع فلان، وهذا
مصرع فلان، فما عدا واحد منهم مصرعه ذلك الذي حده رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكانت الوقعة ببدر يوم الجمعة لسبع عشرة
ليلة خلت من رمضان السنة الثانية من الهجرة.
وفيها كانت غزوة بني سليم، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لم يقم بالمدينة بعد منصرفه عن بدر إلا سبعة أيام، ثم خرج
بنفسه يريد بني سليم، فبلغ ماء يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاث ليال ثم
انصرف ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة السويق، وذلك أن أبا سفيان بن حرب لما انصرف قبل بدر ندب
إلى أن يغزو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج في
مائتي راكب حتى أتى العريض في طرف المدينة فحرق أصوارا من النخل وقتل رجلا
من الأنصار وحليفا له وجدهما في حرث لهما، ثم كر راجعا فنفر رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون في إثره وبلغ رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرقرة الكدر، وفاته أبو سفيان
والمشركون وقد طرحوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون بذلك، فأخذه المسلمون
فسميت غزوة السويق.
[متى وقعت غزوة ذي أمر]
وفي السنة الثالثة كانت غزوة ذي أمر في صفر، غزا رسول الله صلى
(17/429)
الله عليه وسلم نجدا يريد غطفان، فأقام -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - بنجد صفرا كله، ثم انصرف ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة بحران في ربيع الأول، ذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بالمدينة ربيعا الأول، ثم غزا قريشا فبلغ بحران
معدنا بالحجاز فأقام هنالك ربيعا الآخر وجمادى الأولى، ثم انصرف إلى
المدينة ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة بني قنينقاع، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان لما قدم المدينة وادعته اليهود وكتب بينه وبينهم كتابا،
وألحق كل قوم بلحقائهم وشرط عليهم فيما اشترط ألا يظاهروا عليه أحدا، فنقض
بنو قنينقاع من اليهود عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج
إليهم وحاصرهم حتى نزلوا على حكمه، فشفع فيهم عبد الله بن أبي ابن سلول،
ورغب في حقن دمائهم وألح على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في ذلك، فأسعفه فيهم، وحقن دماءهم، وهم قوم عبد الله بن سلام،
وكان حصاره لهم خمس عشرة ليلة.
وفيها كان البعث إلى كعب بن الأشرف، وذلك أنه لما اتصل به قتل صناديد قريش
ببدر، قال: بطن الأرض خير من ظاهرها، ونهض إلى مكة فجعل يرثي كفار قريش
ويحرض على قتال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وكان شاعرا، ثم انصرف إلى
موضعه، فلم يزل يؤذي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بالهجو والدعاء إلى خلافه ويسب المسلمين حتى آذاهم، فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لكعب بن الأشرف، فإنه يؤذي الله
ورسوله والمؤمنين؟ "، فقال له محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا
أقتله إن شاء الله، قال: " فافعل إن قدرت على ذلك» ، فكان من خروجه إليه
وتلطفه في قتله بما أذن له فيه
(17/430)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من القول ما هو مذكور في السير.
وفيها كانت غزوة أحد، وذلك أن كفار قريش غزته في شوال منها، وقد استمدوا
بحلفائهم والأحابيش من بني كنانة، وخرجوا بنسائهم لئلا يفروا عنهن، وقصدوا
المدينة فنزلوا قرب أحد على جبل على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة، فرأى
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منامه أن في سيفه
ثلمة، وأن بقرا له تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة، فتأولها أن نفرا من
أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة،
وأشار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أصحابه ألا
يخرجوا إليهم، وأن يتحصنوا بالمدينة، فإن قربوا منهم قوتلوا على أفواه
الأزقة، ووافق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا
الرأي عبد الله بن أبي ابن سلول، وأبى كبراء الأنصار إلا الخروج إليهم
ليكرم الله منهم من شاء بالشهادة، فلما رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزيمتهم دخل بيته فلبس لأمته وخرج، وذلك يوم الجمعة،
وندم قوم من الذين ألحوا في الخروج، وقالوا: يا رسول الله إن شئت فارجع،
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ينبغي لنبي إذا
لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» ، فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في ألف من أصحابه نحو أحد، وانصرف عنه عبد الله بن أبي ابن
سلول بثلث الناس مغاضبا إذ خولف رأيه، حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي
إلى الخيل، فجعل ظهره إلى أحد وبنى الناس عن القتال حتى يأمرهم، وتعبأ رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقتال وهو في سبعمائة، فيهم
خمسون فارسا، وكان رماة المسلمين خمسين، وقيل: إن المشركين كانوا في ثلاثة
آلاف فيهم مائتا فارس، وظاهر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يومئذ بين درعين، وقاتل الناس قتالا شديدا ببصائر ثابتة،
فانهزمت قريش واستمرت الهزيمة عليهم،
(17/431)
فلما رأى ذلك الرماة قالوا: قد هزم أعداء
الله فما لقعودنا هاهنا معنى، وقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رتبهم خلف الجيش لئلا يأتي العدو من ورائهم، فذكرهم أميرهم أمر
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياهم ألا يزولوا فلم
يلتفتوا إلى قوله، وقالوا: قد انهزموا، ثم كر المشركون فتولى المسلمون وثبت
منهم من أكرمه الله بالشهادة، وجرح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة رأسه
وأكبت الحجارة عليه حتى سقط في حفرة كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة
للمسلمين، فخر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على جنبه فأخذ علي بيده واحتضنه
طلحة حتى قام ونشبت حلقتان من درع المغفر في وجهه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح بثنيتيه فسقطتا فكان
أهتم يزينه هتمه، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من جرح رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجزاه عن أمته ودينه بأفضل ما
جازى به نبيا من أنبيائه عن صبره، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان
الظفري، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعينه على
وجنته فردها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده وغمزها،
فكانت أحسن عينيه وأصحهما، وأدرك أبي بن خلف يومئذ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتناول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الحربة من الحارث ابن الصمة ثم طعنه في عنقه فكر منهزما، فقال
له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو بصق علي لقتلني، أليس قد
قال: بل أنا أقتله، وقد كان أوعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالقتل بمكة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: بل أنا أقتلك إن شاء الله، فمات عدو الله من ضربة رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرجعه إلى مكة بموضع يقال له سوق،
وكان خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشية الجمعة
لأربع عشرة ليلة خلت من شوال، والوقيعة يوم السبت للنصف منه، وكان على
ميمنته علي بن أبي طالب، وعلى
(17/432)
الميسرة المنذر بن عمرو، وعلى الرجالة
الزبير بن العوام، ويقال المقداد، وعلى الرماة عبيد الله بن جبير ومعه سعد
بن مالك. وسائر ما جرى في هذه الغزوة ومن استشهد فيها من المهاجرين
والأنصار، وقتل فيها من الكفار - قد ذكره أصحاب السير.
وفي اليوم الثاني من هذه الوقعة كانت غزوة حمراء الأسود، وذلك أن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر باتباع العدو، فخرج بالناس إلى
موضع يدعى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة، فأقام به يوم الإثنين
والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة، ولما بلغ العدو خروجه في اتباعهم
فت ذلك في أعضادهم وقد كانوا هموا بالرجوع إلى المدينة فكسرهم خروجه عن ذلك
وتمادوا إلى مكة.
وفي رمضان من هذه السنة تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - زينب بنت خزيمة من بني عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين، فعاشت
عنده شهرين أو ثلاثة.
وفي شعبان منها تزوج حفصة.
وفيها تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وفيها ولد الحسن بن علي بن أبي طالب.
[أحداث آخر السنة الثالثة من هجرة النبي عليه
السلام]
وفي السنة الرابعة في صفر منها وهو آخر السنة الثالثة من هجرة النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نفر من عضل والقارة، فذكروا له أنهم قد أسلموا ورغبوا أن يبعث
معهم نفرا من المسلمين يعلمونهم القرآن ويفقهونهم في الدين، فبعث
(17/433)
معهم ستة رجال: مرثد بن أبي مرثد الغنوي،
وخالد بن بكير الليثي، وعاصم بن ثابت بن الأقلح، وخبيب بن عدي، وزيد بن
الدثنة بن عبيد، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر، وأمر عليهم مرثد بن أبي
مرثد، فنهضوا مع القوم حتى إذا صاروا بالرجيع وهو بالهذيل بناحية الحجاز
استصرخوا عليهم هذيلا وغدروا بهم، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا والرجال
قد غشوهم وبأيديهم السيوف، فأخذوا سيوفهم ليقاتلوهم فأمنوهم، فأبى مرثد بن
أبي مرثد وعاصم بن ثابت وخالد بن البكير أن يقبلوا منهم، فقاتلوا حتى
قتلوا، وكان عاصم منهم قد قتل يوم أحد فتيين أخوين، من بني عبد الدار فنذرت
أمهما سلافة بنت سعد بن شهيد إن الله أمكنها من رأس عاصم لتشربن في قحفه
الخمر، فرامت بنو هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلامة، فأرسل الله عز وجل دونه
الدبر فحمته عنهم، فقالوا: إذا كان الليل فسيذهب الدبر، فبعث الله في الليل
سيلا لم ير مثله فذهب به فلم يقدروا عليه، وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي
وعبد الله بن طارق فألقوا بأيديهم فأسروهم وخرجوا بهم إلى مكة، فلما ساروا
بمر الظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه وتأخر عن
القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه وحملوا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة
فباعوهما بمكة فصلب خبيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالتنعيم، وهو القائل حين
قدم ليصلب:
(17/434)
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب
كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
في أبيات له، وهو أول من سن الركعتين عند القتل.
وقال له أبو سفيان بن حرب: أيسرك يا خبيب أن محمدا عندنا بمكة نضرب عنقه
وأنك سالم في أهلك؟ ... والله ما يسرني أني في أهلي وأن تصيب محمدا شوكة
تؤذيه. وابتاع صفوان بن أمية زيد بن الدثنة فقتله بأبيه.
وفي هذه السنة في شهر صفر منها أيضا كان بعث بئر معونة، وكان سببه أن أبا
براء الكلابي من بني كلاب، ويعرف بملاعب الأسنة واسمه «عامر بن مالك قدم
على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعاه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد وقال: لو بعثت
رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك، قال -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " إني أخشى عليهم أهل نجد "، فقال أبو براء: أنا
لهم جار، فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنذر بن
عمرو الساعدي» وهو الذي يعرف بالمعنق ليموت لقب غلب عليه، والأكثرون يقولون
أعنق ليموت في أربعين رجلا، وقيل: في سبعين رجلا من خيار المسلمين، منهم
شباب من الأنصار كانوا يسمون القراء، كانوا يتنحون ناحية من المدينة يحسب
أهلوهم أنهم في المسجد،
(17/435)
ويحسب أهل المسجد أنهم في أهليهم، فيصلون
من الليل حتى إذا تقارب الصبح احتطبوا الحطب واعتذبوا الماء فوضعوه على
أبواب حجر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأمر على جميعهم المنذر بن عمرو،
فنهضوا حتى نزلوا بئر معونة من أرض بني عامر وحرة بني سليم ثم بعثوا منها
حرام بن ملحان بكتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى
عدو الله عامر ابن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا عليه فقتله،
ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه، وقالوا: لا نخفر أبا براء وقد
عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم: عصية ورعل وذكوان،
فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم
أخذوا سيوفهم ثم قاتلوا حتى قتلوا من آخرهم إلا كعب بن زيد منهم، فإنهم
تركوه وبه رمق فأرتت من بين القتلى وعاش حتى قتل في الخندق شهيدا وكان في
سرحهم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار، فلما رجعا لينظرا حال قومهم
وقد شعروا بأمرهم إذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو ابن
أمية: ما ترى؟ فقال: أرى أن تلحق برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فتخبره الخبر، فقال الأنصاري: ما كنت لأرغب عن موضع قتل فيه
المنذر بن عمرو، فقاتل حتى قتل، وأسر عمرو بن أمية فجز عامر بن الطفيل
ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه، فقدم على رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن قتل في طريقه
(17/436)
رجلين كانا نزلا معه في ظل من بني عامر أو
من بني سليم، وقد كان لهما من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عهد وجوار لم
يعلم به، وظن أنه قد أصاب منهما ثارة من بني عامر فيما أصابوه من أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أخبر بذلك رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لقد قتلت رجلين كان لهما مني
جوار، لأدينهما» ، هذا عمل أبي براء، وقد كنت لهذا كارها، وبلغ أبا براء ما
فعل عامر ابن الطفيل، فشق عليه إخفاره إياه.
ولحسان بن ثابت في ذلك شعر يحرض فيه بني أبي براء على عامر بن الطفيل.
وفيها في شهر ربيع الأول منها كانت غزوة بني النضير، غزاهم النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتحصنوا منه، فحاصرهم ست ليال وأمر بقطع
النخل وإحراقها فألقوا بأيديهم وسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن يكف عن دمائهم ويجليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم
إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر، ومنهم من صار إلى الشام.
وممن صار منهم إلى خيبر أكابرهم كحيي بن أخطب، وسلام بن الحقيق، وكنانة بن
الربيع بن أبي الحقيق، فدانت لهم خيبر، وقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أموالهم بين المهاجرين إلا أنه أعطى منها أبا دجانة
سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف لفقرهما، والحارث بن الصمة، وقد مضى في رسم نذر
سنة، المعنى الذي من أجله خص بذلك المهاجرين دون الأنصار، ونزلت سورة الحشر
في بني النضير قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2]
(17/437)
إلى قوله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ} [الحشر: 17] فكان إجلاء بني النضير أول الحشر في الدنيا إلى
الشام، ولذلك قيل للشام أرض المحشر، وفي الحديث: «تجيء نار من قعر عدن تحشر
الناس إلى الشام تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا» .
وكان سبب غزوة بني النضير أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لما قال لعمرو بن أمية: لقد قتلت قتيلين لأدينهما خرج بنفسه
إلى بني النضير مستعينا بهم في ذلك، وكانت بينه وبينهم موادعة، فتوامروا
على قتله، وهموا أن يلقوا عليه صخرة في مكانه الذي كان فيه جالسا عندهم،
فأعلمه الله بذلك، فخرج عنهم ولم يشعر أحد ممن معه، ونهض إلى المدينة، فلما
استبطأه أصحابه وراث عليهم خبره أقبل رجل من المدينة فسألوه، فقال: لقد
لقيته وقد دخل أزقة المدينة، فقام أصحابه ولحقوا به، فأخبرهم - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما أوحى الله إليه مما أرادت اليهود فعله،
وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه بالتهيؤ لقتالهم
وحربهم، وخرج إليهم.
وفيها كانت غزوة ذات الرقاع، في جمادى الأولى منها خرج لخمس خلون من الشهر
يريد بني محارب وبني ثعلبة بن غطفان حتى نزل نخلة، فلقي بها جمعا من غطفان،
وتقارب الناس ولم يكن بينهم قتال، وصلى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، ثم انصرف، وإنما سميت ذات الرقاع؛ لأن
أقدامهم
(17/438)
نقبت فكانوا يلفون عليها الخرق، وقيل: قيل
لها ذات الرقاع لأنهم رقعوا راياتهم فيها، وقيل: ذات الرفاع شجرة بذلك
الموضع تدعى بذات الرقاع، وقيل: بل الجبل الذي نزلوا عليه كانت أرضه ذات
ألوان من حفرة وصفرة وسواد، فسموا غزوتهم ذات الرقاع لذلك، فالله أعلم، وبه
التوفيق.
وفيها كانت غزوة بدر الثانية في شعبان منها، وذلك أن أبا سفيان كان نادى
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد: موعدنا معكم بدر
في العام المقبل، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
يجيبه بنعم، فخرج للميعاد المذكور، ونهض حتى أتى بدرا، فأقام هنالك ثماني
ليال ينتظر أبا سفيان بن حرب، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى بلغ عسفان، ثم
رجع واعتذر هو وأصحابه بأن العام كان عام جدب.
وفي هذه السنة بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا
عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق.
[متى وقعت غزوة دومة الجندل]
وفي السنة الخامسة كانت غزوة دومة الجندل، في ربيع الأول منها خرج إلى دومة
الجندل، وانصرف من طريقه قبل أن يبلغ إليها، ولم يلق حربا.
(17/439)
وفي شوال منها كانت غزوة الخندق وكان سببها
أن اليهود اجتمعوا وألبوا وخرجوا إلى مكة فدعوا قريشا إلى حرب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب
إليهم، فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم خرج اليهود المذكورون وهم الذين حزبوا
الأحزاب إلى غطفان، فدعوهم إلى ذلك فأجابوهم، فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان،
وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن في فزارة والحارث بن عوف المري في بني
مرة، ومسعود بن رخيلة الأشجعي في أشجع، فلما سمع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهم ضرب الخندق على المدينة، فأقبلت قريش ومن
معها من هذه القبائل في نحو عشرة آلاف، وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد
حتى نزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع في ثلاثة آلاف، وضربوا عسكرهم
والخندق بينهم وبين المشركين، فأقام بضعا وعشرين يوما، فلم يكن بينهم حرب
إلا رمي بالنبل، وخرج عمرو بن عبد ود في أصحاب له، فدعا إلى المبارزة، فخرج
علي فقتله، وهرب أصحابه واقتحموا الثغرة التي كانوا أجازوا الخندق فيها
فرجعوا، وقتل من المسلمين يوم الخندق ستة نفر، منهم سعد بن معاذ أصابه سهم
فمات بعد قريظة، وانصرفت الأحزاب عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وكفى الله المؤمنين القتال.
وكان سبب ذلك أن نعيم بن مسعود قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلم وقال: مرني بما شئت وما عسى أن تفعل وأنت رجل
واحد، فلو ذهبت فخذلت بين القوم فإن
(17/440)
الحرب خدعة، فذهب فخذل بين قريش وبين بني
قريظة، فاختلفت كلمتهم، وبعث الله عليهم ريحا شديدة عاصفة في ليال باردة لم
يبق لهم بناء إلا قلبته، ولا قدر إلا كفأته، وكان في حفر الخندق آيات
بينات، وعلامات النبوءة مذكورة عند أهل السير والآثار.
وفي هذه السنة كانت غزوة بني قريظة، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أصبح وقد ذهبت الأحزاب ورجع إلى المدينة ووضع
الناس سلاحهم عند صلاة الظهر أتاه جبريل في صفة دحية الكلبي على بغلة عليها
قطيفة. فقال لهم: إن كنتم وضعتم سلاحكم فإن الملائكة لم تضع سلاحها، والله
يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدم إليهم ومزلزل بهم، فنادى منادي
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من كان سامعا مطيعا فلا
يصل العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خمسا وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم أن
يقتل الرجال وتقسم الأموال، وتسبى النساء والذراري، فقتل رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجالهم: حيي بن أخطب وكعب بن أسد
ستمائة أو سبعمائة، استنزلهم ثم قتلهم بالمدينة، واصطفى من نسائهم عمرة بنت
قحافة، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة وهي نباتة امرأة الحكم القرظي
التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتله. وروي عن عائشة أنها قالت: إن كانت
لعندي تضحك وتحدث ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقتل
رجالهم؛ إذ هتف هاتف: أين فلانة؟ قالت: أنا والله مقتولة، قلت: ويلك لم؟
قالت: لحدث أحدثته، فانطلق بها فضربت عنقها.
(17/441)
ولما انقضى شأن الخندق وقريظة تذاكرت
الخزرج من في العداوة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كابن الأشرف الذي قتله محمد بن مسلمة، حتى لا تنفرد الأوس دوننا بمثل تلك
المنقبة، فذكروا ابن أبي الحقيق، واستأذنوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قتله، فأذن لهم، فخرجوا إليه خمسة نفر من الخزرج
كلهم من بني سلمة، وهم عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنس، ومسعود بن
سنان، وأبو قتادة بن ربعي، وخزاعي بن أسود حليف لهم، وطرقوه في بيته بخيبر
ليلا فقتلوه، وقدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وهو على المنبر، فقال: أفلحت الوجوه، فقالوا: أفلح وجه رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «قال: أقتلتموه؟ قالوا: نعم، قال: ناولوني
السيف، فسله فقال: أجل، هذا طعامه في ذباب السيف» .
وروي أنهم تداعوا في قتله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «هاتوا أسيافكم» ، فأروه إياها، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
عن سيف عند عبد الله بن أنس: «هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام» ، وقد كانوا
لما تعاوروه بأسيافهم صاحت امرأته، فخرج أهل الآطام وأوقدوا النيران،
فخرجوا وهم لا يوقنون بموته، فرجع أحدهم فدخل بين الناس، فسمع امرأته تقول:
والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم قلت: أنى بابن عتيك بهذه البلاد، قال: ثم
إنها نظرت في وجهه، فقالت: فاض وإله يهود.
(17/442)
[غزوة بني لحيان]
وفي السنة السادسة كانت غزوة بني لحيان، خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شهر جمادى الأولى منها إلى بني لحيان مطالبا بثأر
عاصم ابن عدي وأصحابهما المقتولين بالرجيع، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في
رءوس الجبال، فتمادى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
مائتي راكب حتى نزل عسفان وبعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرا ورجع - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قافلا إلى المدينة.
وفي هذه الغزوة قالت الأنصار: إن المدينة خالية منا وقد بعدنا عنها، ولا
نأمن عدونا أن يخالفنا إليها فأخبرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن على أنقاب المدينة ملائكة، على كل نقب منها ملك يحميها بأمر
الله تعالى عز وجل.
وفي هذه السنة كانت غزوة ذي قرد، ولما رجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوة بني لحيان
لم يقم بالمدينة إلا ليالي، وأغار على سرح المدينة عيينة بن حصن في بني عبد
الله بن غطفان، فاقتسموا لقاحا كانت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(17/443)
وسلم بالغابة وناقته العضبا، وكان فيها رجل
من بني غفار وامرأة له، فقتلوا الغفاري وحملوا المرأة واللقاح، وكان أول من
أنذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، كان ناهضا إلى الغابة، فلما علا
على ثنية الوداع نظر إلى خيل الكفار فصاح وأنذر المسلمين ثم نهض في آثارهم
فأبلى بلاء عظيما ورماهم بالنبل حتى استنقذ أكثر ما في أيديهم، ووقعت
الصحية بالمدينة، وجاء الناس إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وأول من جاء منهم المقداد بن الأسود، ثم خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فرس لأبي طلحة، وقال: إن وجدته لبحرا وانهزم
المشركون، وبلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماء يقال
له ذو قرد، فأقام على ذلك الماء يوما وليلة، ولما قام القوم يوما وليلة
قامت امرأة الغفاري المقتول، فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت
العضبا، فإذا ناقة ذلول، فركبتها ونذرت إن أنجاها الله عليها لتنحرنها،
فلما قدمت المدينة عرفت ناقة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبر بذلك،
فأرسل إليها فجيء بها والمرأة، فقالت: يا رسول الله، نذرت إن أنجاني الله
عليها أن أنحرها، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «بئس ما جزيتها، لا وفاء في نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن
آدم» ، وأخذ ناقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(17/444)
وفي شعبان من هذه السنة غزا رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بني المصطلق، وأغار عليهم وهم غازون
على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد بما يلي الساحل، فقتل من قتل وسبى
النساء والذرية، وقد قيل: إنهم جمعوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وأرادوه، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء يقال له
المريسيع، فاقتتلوا فهزمهم الله، والقول الأول أصح أنه أغار عليهم وهم
غارون.
ومن ذلك السبي كانت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق، وقعت
في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها فأدى عنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتابتها وأعتقها وتزوجها، قالت عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا -: وما رأيت أعظم بركة على قومها منها، ما هو إلا أن علم
المسلمون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها
وأعتقوا كل ما في أيديهم من سبي المصطلق، وقالوا: أصهار رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأسلم سائر بني المصطلق.
وفي هذه الغزاة قال عبد الله بن أبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة
ليخرجن الأعز منها الأذل. وَبَلَّغَ زيدُ بن أرقم رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقالة عبد الله بن أبي ابن سلول، فأنكرها ابن
أبي، فأنزل الله عز وجل سورة المنافقين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لزيد بن أرقم: «وفت أذنك يا
(17/445)
غلام» وأخذ بأذنه، وتبرأ عبد الله بن عبد
الله بن أبي من فعل أبيه، وأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، أنت والله العزيز، وهو الذليل، أو قال:
أنت الأعز وهو الأذل وإن شئت لتخرجنه من المدينة.
وقال سعد بن عبادة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا
رجل يحمله حسده على النفاق فدعه إلى عمله، فقد كاد قومه على أن يتوجوه
بالخرز قبل قدومك المدينة ويقدموه على أنفسهم، فهو يرى أنك نزعت ذلك منه،
وقد خاب وخسر إن كان يضمر خلاف ما يظهر، وقد أظهر الإيمان فكله إلى ربه.
وقال عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله بلغني أنك تريد من قتل أبي، فإن
كنت تريد ذلك فمرني بقتله فوالله لئن أمرتني بقتله لأقتلنه، وإني أخشى إن
قتله غيري أن لا أصبر عن طلب فأقتل مسلما فأدخل النار وقد علمت الأنصار أني
أبر أبنائها بأبيه، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- خيرا، ودعا له، وقال: «بر أباك ولا يرى منك إلا خيرا» .
وفي هذه الغزاة، قال أهل الإفك في عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ما
قالوا، فبرأها الله مما قالوا، ونزل القرآن ببراءتها.
وقد قيل في هذه الغزاة: إنها كانت قبل الخندق وقريظة، والصواب أنها كانت
بعدها، ثم بعث رسول الله صلى الله
(17/446)
عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد إسلامهم
بأكثر من عامين - الوليد بن عقبة بن أبي معيط مصدقا لهم، فخرجوا ليتلقوه
ففزع منهم وظن أنهم يريدونه بسوء، فرجع عنهم وأخبر رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم ارتدوا ومنعوا الزكاة وهموا بقتله،
فتكلم المسلمون في غزوهم، فبينا هم كذلك إذ قدم وافدهم منكرا لرجوع مصدقهم
عنهم دون أن يأخذ صدقاتهم وأنهم إنما خرجوا إليه مكرمين، فأكذبه الوليد بن
عقبة، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] يعني الوليد بن عقبة، {فَتَبَيَّنُوا أَنْ
تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] .
وفي هذا العام كانت غزوة الحديبية، خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذي القعدة منها معتمرا واستنفر الأعراب الذين حول
المدينة، وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب وجميعهم
نحو ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة، وساق معه الهدي. وأحرم بعمرة ليعلم
الناس أنه لم يخرج لحرب، فلما بلغ خروجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قريشا خرج جميعهم صادين له عن المسجد الحرام ودخول مكة، وأنه
إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك، وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغميم،
فورد الخبر بذلك على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو
بعسفان فسلك طريقا يخرج وراء ظهورهم فخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، ولما
وصل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الحديبية بركت ناقته -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الناس: خلأت، فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما خلأت ولا هو لها بخلق،
(17/447)
ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني
اليوم قريش إلى خطة يسألوني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها» ، ونزل -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هناك، وجرت السفراء بينه وبين كفار
قريش، وطال التراجع بينهم إلى أن جاء سهيل بن عمرو العامري، فقاضاه على أن
ينصرف عامه ذلك، فإذا كان من العام المقبل أتى معتمرا، ودخل مكة بلا سلاح
إلا السيوف في قرابها، فيقيم بها ثلاثا ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم
صلح عشرة أعوام يتداخل الناس فيها ويأمن بعضهم بعضا، وعلى أن من جاء من
الكفار إلى المسلمين مسلما رد إليهم، ومن جاء من المسلمين إليهم مرتدا لم
يرد إليهم، فشق ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور
دينه» ، فأنس الناس إلى قوله واطمأنت له نفوسهم وأبى سهيل بن عمرو أن يكتب
في كتاب الصلح بذلك محمد رسول الله، وقال: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك
عن البيت، وقد كان علي بن أبي طالب كاتبه، فقال له رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «امحه، فقال: والله لا أمحو اسمك، فقال:
أرني إياه، فأراه فمحاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
وكتب محمد بن عبد الله» وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قد بعث عثمان بن عفان قبل الصلح إلى مكة رسولا، فأخبر رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول
إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين إلى المبايعة على
قتال أهل مكة، قيل: على الموت، وقيل: على أن لا يفروا، وهي بيعة الرضوان
تحت الشجرة التي قال الله فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] ،
(17/448)
إلى قوله: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا
قَرِيبًا} [الفتح: 18] يريد فتح مكة {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً
يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19] يريد ما غنموا بخيبر، وضرب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيمينه على شماله لعثمان، فهو من أهل بيعة
الرضوان، وكان قد جاء من قريش نحو السبعين أو الثمانين للإيقاع بالمسلمين
وانتهاز الفرصة في أطرافهم، والسفراء يمشون بينهم في الصلح، ففطن لهم
المسلمين فخرجوا إليهم فأسروهم، وجاءوا بهم إلى النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - فأطلقهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فهم الذين يسمون
العتقاء، وإليهم ينسب العتقيون.
ولما كمل الصلح بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
والمسلمين، فنحروا وحلقوا، وقد كانوا توقفوا عن النحر والحلق إذ أمرهم به،
فلما رأوه قد نحر وحلق تتابعوا في ذلك وتسابقوا إليه، ودعا رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة.
ولما رجع إلى المدينة رد بالشرط من جاء من الرجال مسلما، وأنزل الله عز
وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ
مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] إلى آخر السورة، فلم يرد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جاء من النساء مسلمات، وقد بينا في أول سماع ابن
القاسم من كتاب التجارة إلى أرض الحرب هذا المعنى بيانا شافيا، وبالله
تعالى التوفيق.
(17/449)
[أحداث السنة
السابعة من الهجرة]
وفي السنة السابعة
كانت غزوة خيبر، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لما انصرف من الحديبية أقام بالمدينة ذا الحجة، وخرج في المحرم إلى خيبر،
وافتتحها في صفر، ورجع في غرة ربيع الأول، وكانت حصونا كثيرة، فافتتحها
حصنا حصنا، فكان أول حصونهم افتتح حصن ابن أبي الحقيق، ومن سباياه كانت
صفية بنت حيي بن أخطب، كانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أصابها رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وابني عم لها، فقيل: إنه
أعطاها لدحية بن خليفة الكلبي ثم ابتاعها منه بسبعة أرؤس، وقيل: إنه كان
سأله إياها، فلما اصطفاها لنفسه أعطاها ابني عمها وجعلها عند أم سليم حتى
اعتدت وأسلمت، ثم أعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها، فمن أهل العلم من جعل
ذلك خصوصا للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كالموهوبة، ومنهم من جعل ذلك
خصوصا للنبي سنة لمن شاء من أمته، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في
رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح.
ولما وقف إلى بعض حصونهم امتنع عليه فتحه ولقوا فيه شدة، فقال النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه
الله ورسوله يفتح الله على يديه"، فلما أصبح دعا عليا وهو رمد فتفل في
عينيه، ثم قال: "خذ الراية وامض بها حتى يفتح الله على يديك» فلما دنا من
الحصن خرج أهله إليه فقاتلهم فضربه رجل من اليهود، فألقى ترسه من يده
فتناول علي بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يديه وهو يقاتل
حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده، قال ابن رافع مولى النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - راوي
(17/450)
الحديث: فلقد رأيتني في نفر معي سبعة وأنا
ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.
وآخر ما افتتح من حصونهم الوطيح والسلالم، حاصرهم بضع عشرة ليلة، فسألوا
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسيرهم ويحقن دماءهم
ففعل، فقيل في هذين الحصنين: إنهما افتتحا بصلح فلم يكن فيهما خمس، ولا كان
لأحد فيها مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء، فقطع
منها لأزواجه، وكذلك الكتيبة، قيل فيها: إنها كانت صلحا صافية لرسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبني النضير وفدك، وقيل: إنها كانت
عنوة كلها، وإلى هذا ذهب ابن عبد البر، فقال: الصحيح أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس أرض خيبر كلها، وقسمها بين من شهد
الغزاة، وهم أهل الحديبية؛ لأن أرض ذينك الحصنين مما غلب عليهم المسلمون
كسائر أرض خيبر، وإنما كان الصلح في الرجال والذرية والعيال، وقد مضى القول
في قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرض خيبر، وفي حكم
الأرض المفتتحة عنوة عند العلماء، واختلافهم في ذلك مستوفى في سماع أشهب من
كتاب الجهاد.
ولما افتتحت خيبر ولم يقدر أهلها على عمارتها وعملها أقر اليهود فيها على
العمل في النخل والأرض، وقال لهم: «أقركم ما أقركم الله» ، ثم أذن الله له
في مرضه الذي توفي فيه بإخراجهم، فقال: «لا يبقين دينان بأرض العرب» ، وقال
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أخرجوا اليهود والنصارى من أرض الحجاز» ، ولم
يكن
(17/451)
بقي بها يومئذ مشرك وثني ولا بأرض اليمن
أيضا إلا أسلم في سنة تسع وسنة عشر، فلما بلغ عمر بن الخطاب في خلافته قوله
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أخرجوا اليهود والنصارى من أرض العرب» أجلاهم
منها، وأخذ المسلمون سهامهم من خيبر فتصرفوا فيها تصرف المالكين.
وفي غزاة خيبر هذه حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الحمر الأهلية.
وفيها أهدت اليهودية زينب بنت سالم بن مشكم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشاة المصلية وسمت له منها الذراع، وكان أحب اللحم
إليه، فلما تناول الذراع لفظها ورمى بها وقال: هذا العظم يخبرني أنه مسموم
ودعا باليهودية، فقال: ما حملك على هذا؟ فقالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا
وعلمت أن الله إن أراد بقاءك أعلمك، فلم يقتلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأكل معه من الشاة بشر بن البراء بن مغرور فمات من
أكلته تلك.
وكان المسلمون يوم خيبر ألفا وأربعمائة رجل ومائتي فارس.
وفي هذه السنة كان فتح فدك، وذلك أنه لما اتصل بأهلها ما فعل رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأهل خيبر بعثوا إلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذلك، فكانت فدك مما لم يوجف عليه
بخيل ولا ركاب مما أفاء الله عليه بما نصره من الرعب به فلم يقسمها
(17/452)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ووضعها حيث أمره الله عز وجل.
قال ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب: كان لرسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفايا بني النضير وخيبر وفدك.
وفي هذه السنة أيضا كان فتح وادي القرى، وذلك أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من خيبر إليها فافتتحها عنوة وقسمها
وأصيب بها غلام له أسود يسمى مرغم أصابه سهم غرب فقتله، فقال الناس: هنيئا
له الجنة، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كلا إن الشملة التي أصابها
يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا» .
وفي هذه السنة أيضا كانت عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع من خيبر إلى المدينة، فأقام بها شهر ربيع وشهر
جمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوال.
وبعث في خلال ذلك السرايا.
من ذلك غزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من مشارف الشام في بلي وسعد الله
ومن يليهم قضاعة فخاف
(17/453)
عمرو بن العاص من ناحية الذي هو به، فبعث
إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستمده، فندب رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المهاجرين الأولين، فانتدب
فيهم أبو بكر وعمر في سراة من المهاجرين وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجرح،
فأمد بهم عمرو بن العاص، فلما قدموا على عمرو، قال: أنا أميركم، وإنما
أرسلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أستمده فأمدني
بكم، قال المهاجرون: بل إنما أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين،
فقال عمرو: إنما أنتم مدد أمددت بكم، فلما رأى ذلك أبو عبيدة، وكان رجلا
حسن الخلق لين الشكيمة متبعا لأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وعهده، قال: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إِلَيَّ رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا،
وإنك والله لئن عصيتني لأطيعنك، فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص.
ثم خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذي القعدة قاصدا إلى مكة
للعمرة على ما عاقد عليه قريشا في الحديبية، فلما اتصل ذلك بقريش خرج
أكابرهم من مكة عداوة لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
ولم يقدروا على الصبر في رؤيته يطوف بالبيت هو وأصحابه، فدخل رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة وأتم الله له عمرته، وقعد بعض
المشركين بقيقعان ينظرون إلى المسلمين وهم يطوفون بالبيت، فأمرهم رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرمل ليروا المشركين أن بهم جلدا
وقوة، وكان المشركون قالوا في
(17/454)
المهاجرين قد وهنهم حمى يثرب.
وتزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرته تلك
ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية، قيل: قبل أن يحرم بعمرته، وقيل: وهو
محرم بها، وقيل: بعد أن حل منها، فلما تمت الثلاثة الأيام أوصت إليه قريش
أن يخرج عن مكة، ولم يمهلوه أن يبني بها، فخرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وبنى بها في سرف.
[أحداث السنة الثامنة من الهجرة]
في السنة الثامنة
كانت غزوة مؤتة، بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
جمادى الأولى منها بعث الأمراء إلى الشام وأمر على الجيش زيد بن حارثة
مولاه، وقال: إن قتل، أو قال: إن أصيب فعلى الناس جعفر بن أبي طالب، فإن
قتل فعبد الله بن رواحة، وشيعهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وودعهم، ثم انصرف، ونهضوا، فلما بلغوا مغار من أرض الشام أتاهم
الخبر بأن هرقل ملك الروم نزل في ناحية البلقاء من لخم وجذام وقبائل قضاعة،
فأقام المسلمون في معان، وقالوا: نكتب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نخبره بعدد عدونا فيأمرنا بأمره أو يمدنا، فقال لهم
عبد الله بن رواحة: يا قوم إن التي تطلبون قد أدركتموها، يعني الشهادة، وما
يقاتل الناس بعدد ولا قوة، ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله
(17/455)
به، فانطلقوا فهي إحدى الحسنيين، إما ظهور
وإما شهادة، فوافقه الجيش كله على هذا الرأي، ونهضوا حتى إذا كانوا بتخوم
البلقاء لقوا الجموع التي ذكرنا كلها مع هرقل، إلى جنب قرية يقال لها
مشارف. وصار المسلمون في قرية يقال لها مؤتة، فجعل المسلمون على ميمنتهم
قطنة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عباية بن مالك الأنصاري، وقيل: عبادة
بن مالك، واقتتلوا، فقتل الأمير الأول زيد بن حارثة ملاقيا بصدره الرماح
مقبلا غير مدبر، والراية في يده، فأخذها جعفر بن أبي طالب ونزل عن فرس له
شقراء، وقيل: إنه عرقبها وعقرها، فقاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله
فقطعت، فاحتضن الراية، فقتل وهو كذلك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وسنه ثلاث
وثلاثون أو أربع وثلاثون، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتردد عن النزول
بعض التردد ثم صمم فقاتل حتى قتل، فأخذ الراية ثابت بن أقوم أخو بني
العجلان، وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال:
لا، فدفع الراية إلى خالد بن الوليد، وقال: أنت أعلم بالقتال مني، فأخذها
خالد بن الوليد، وانحاز بالمسلمين، وأنذر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه بالمدينة يخبرهم في يوم قتلهم قبل ورود الخبر
بيومين.
وفي هذه السنة كانت غزوة فتح مكة، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بالمدينة بعد بعث مؤتة جمادى ورجب،
(17/456)
ثم حدث الأمر الذي أوجب نقض العهد لقريش
المعقود يوم الحديبية، وذلك أن خزاعة كانت في عقد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤمنها وكافرها، وكانت بنو بكر بن عبد مناة
بن كنانة في عقد قريش، فعدت بنو بكر بن عبد مناة على قوم من خزاعة خرج نوفل
بن معاوية فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة حتى بيتت خزاعة ونالت منهم،
واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح وقوم منهم بأنفسهم مستخفين بذلك،
فانهزمت خزاعة إلى الحرم، فقال قوم نوفل ابن معاوية لنوفل: يا نوفل اتق
إلهك ولا تستحل الحرم ودع خزاعة، فقال: لا إله لي اليوم، والله يا بني
كنانة إنكم لتسرفون في الحرم، أفلا تدركون فيه ثأركم؟ فقتلوا رجلا من خزاعة
يقال له منبه، ودخلت خزاعة دور مكة في دار بديل ابن ورقاء الخزاعي ودار
مولى لهم يقال له رافع، فكان ذلك نقضا للصلح، فقدم بديل بن ورقاء وقوم من
خزاعة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستغيثين به
فيما أصابهم به بنو بكر بن عبد مناة وقريش، فأجابهم رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى نصرهم، وقال: «لا نصرني الله إن لم أنصر
بني كعب» ، ثم نظر إلى سحابة، فقال: «إنها لتستهل بنصر بني كعب» يعني
خزاعة، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبديل بن
ورقاء ومن معه: «إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في مدة الصلح وينصرف
بغير حاجة» ، وقدمت قريش على ما فعلت، فقدم أبو سفيان المدينة ليشد العقد
ويزيد في المدة، ثم أتى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في المسجد وكلمه فلم
يجبه، فسعى في أن يستشفع إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما قدم له
بابنته أم المؤمنين أو أبى بكر أو بعمر بن الخطاب، فلم يجبه أحد منهم إلى
ذلك، وقال له عمر: أنا أفعل ذلك؟
(17/457)
والله لو لم أجد إلا الدرة لجاهدتكم بها،
وقال له علي بن أبي طالب هازلا به: أنت سيد بني كنانة، فقم فأجر على الناس
والحق بأرضك، فقال له: يا أبا الحسن، أترى ذلك نافعي أو مغنيا عني؟ قال: ما
أظن ذلك، ولكن لا أجد لك سواه، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها
الناس، إني قد أجرت على الناس، ثم ركب وانطلق راجعا إلى مكة، فلما قدمها
أخبر قريشا بما لقي وبما فعل، فقالوا له: ما جئت بشيء وما زادك علي بن أبي
طالب على أن لعب بك، ثم أعلن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - المسير إلى مكة وخرج في عشرة آلاف، وكان خروجه لعشر خلون من
رمضان، وقد أخفى الله خبرهم عن قريش، فخرج أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم
بن حزام يتحسسون الأخبار، وقد كان العباس بن عبد المطلب هاجر مسلما تلك
الأيام، فلقي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي
الحليفة، فبعث ثقله إلى المدينة، وانصرف مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غازيا، فهو من المهاجرين قبل الفتح، ولما نزل رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجيوش مر الظهران رقت نفس
العباس لقريش وأسف على ذهابها وخاف أن تغشاهم الجيوش قبل أن يستأمنوا، فركب
بغلة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونهض حتى أتى الأراك وهو
يطمع أن يلقى حطابا واحدا يأتي مكة، فلينذرهم، فبينما هو يمشي إذ هو سمع
صوت أبي سفيان بن حرب وبديل بن ورقاء، وهما يتساءلان، وقد رأيا نيران عسكر
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما سمع العباس كلامه ناداه،: أبا حنظلة،
فميز أبو سفيان كلامه فناداه: أبا الفضل، فقال: نعم، فقال: فداك أبي وأمي،
فقال له العباس: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الناس،
(17/458)
واصباح قريش، فقال أبو سفيان: فما الحيلة؟
قال: والله إن ظهر بك ليقتلنك، فارتدف خلفي وانهض معي إلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فارتدفه العباس على بغلة رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمسك ومر على نار عمر، فميزه، فقال:
أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج
يشتد إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسبقه العباس
فدخل ودخل عمر على إثره، فقال: يا رسول الله، هذا عدو الله أبو سفيان قد
أمكن الله منه بلا عقد ولا عهد، فأذن لي فيه أضرب عنقه، فقال العباس: يا
رسول الله قد أمنته وأجرته فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحا، ففعل العباس ذلك، فلما
أصبح أتى به النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال له رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله» ،
فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وما أكرمك وما أوصلك، والله لقد
ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني، قال: ويحك يا أبا سفيان
ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي وأمي أنت، ما أحلمك وأكرمك
وأوصلك، أما هذه ففي النفس منها شيء حتى الآن، فقال له العباس: ويحك أسلم
قبل أن تضرب عنقك، فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب
الفخر فاجعل له شيئا يفخر به، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن،
ومن دخل المسجد فهو آمن» ، فكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة
إلا من استثنى وهم عبد الله العذوي بن خطل، وعبد الله بن
(17/459)
سعد بن أبي سرح وعكرمة بن أبي جهل والحويرث
بن نقير بن وهب ومقيس بن صبابة وقينتا ابن خطل فرتنا وصاحبتها كانتا تغنيان
ابن خطل بهجو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسارة
مولاة لبعض بني عبد المطلب والأسباب التي من أجلها استثناها رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مذكورة في السير.
ولذلك قال جماعة من أهل العلم منهم الشافعي: إن مكة مؤتمنة ليست عنوة،
والأمان كالصلح، ورأى أن أهلها مالكون رباعهم يجوز لهم كراؤها وبيعها
وشراؤها؛ لأن من أمن قد حرم ماله ودمه، فمكة مؤمنة عند من قال بهذا القول
إلا الذين استثناهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأمر بقتلهم، وإن وجدوا
متعلقين بأستار الكعبة.
وأكثر أهل العلم يرون فتح مكة عنوة لأنها أوجف عليها بالخيل والركاب، إلا
أنها مخصوصة بأن لم يجر فيها قسم ولا غنيمة ولا سبي من أهلها أحد.
وخصت بذلك لما عظم الله من حرمتها.
ومنهم من يرى أنها إنما خصت بأن لا يسبى أهلها، وأما دورها فمغنومة لا يجوز
بيعها ولا كراؤها.
والأصح أنها بلدة مؤمنة أمن أهلها على أنفسهم فكانت
(17/460)
أموالهم تبعا لهم، ألا ترى إلى قوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مكة حرام محرم لم تحل لأحد قبلي ولا
تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار» ، ولا خلاف أنه لم يكن فيها
غنيمة، فالإجماع على ذلك يقضي بصحة قول من أجاز بيع دورها وكراءها، إذ لا
فرق بين الأموال والرباع.
وأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يوقف أبو سفيان
بخطم الوادي ليرى جيوش الله تعالى، ففعل العباس ذلك وأراه القبائل قبيلة
قبيلة إلى أن جاء مركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
المهاجرين والأنصار كلهم في الدروع والبيض، فقال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال:
هذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المهاجرين
والأنصار، فقال: والله ما لأحد بهؤلاء قبل، والله يا أبا الفضل لقد أصبح
ملك ابن أخيك عظيما، فقال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوءة، قال: نعم
إذا تم، قال له العباس: يا أبا سفيان النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان
فأتى مكة فعرفهم بما أحاط بهم، وأخبرهم بتأمين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من دخل داره أو المسجد ودار أبي سفيان ... قوم
ليقاتلوا، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرتب
الجيوش، وجعل الزبير على الميمنة وخالد بن الوليد على الميسرة، وأمر الزبير
بالدخول من كداء في أعلى مكة، والوليد ابن الليط أسفل مكة، وجعل الراية بيد
سعد بن عبادة، فكان من قوله: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، فقال
له العباس: يا رسول الله
(17/461)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
هلكت قريش، لا قريش بعد اليوم، إن سعد بن عبادة قال كذا وكذا، إنه حنق على
قريش، ولا بد أن يستأصلهم، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن تنزع الراية من يد سعد بن عبادة، وتدفع إلى علي، وقيل: بل
إلى الزبير، وقيل: بل إلى ابنه قيس بن سعد لئلا يجد في نفسه سعد شيئا،
وأمرهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتال من قاتلهم، وكان عكرمة
بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وقد جمعوا جمعا بالحندمة ليقاتلوا
فناوشهم أصحاب خالد، فأصيب من المسلمين رجلان، ومن المشركين ثلاثة عشر
رجلا، ثم انهزموا، ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن مكة افتتحت عنوة؛ إذ
هذا هو حكم العنوة.
ولما دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة طاف بالكعبة
وأخذ مفتاحها من عثمان بن طلحة، فدخلها وصلى فيها، ثم خرج ورد المفتاح إلى
عثمان بن طلحة وأبقى له حجابة البيت، وقال: خذوها تالدة إلى يوم القيامة،
وأمر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بكسر الصور التي داخل الكعبة وخارجها وحولها،
وكسر الأصنام التي حول الكعبة وبمكة كلها، وكانت الأصنام مشدودة بالرصاص،
فكان يشير إليها بقضيب في يده، فكلما أشار إلى واحد منها خر لوجهه، وكان
يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ
زَهُوقًا} [الإسراء: 81] ، وأذن له بلال على ظهر الكعبة، وخطب ثاني يوم
الفتح خطبته المشهورة المعروفة، ثم بعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - السرايا حول الكعبة يدعو إلى الإسلام، ولم يأمرهم بقتال، وكان
أحد أمراء تلك السرايا خالد بن الوليد، خرج إلى بني جذيمة فقتل
(17/462)
منهم وسبى، وقد كانوا أسلموا فلم يقبل خالد
قولهم وإقرارهم بالإسلام، فوداهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وبعث علي بن أبي طالب بمال إليهم فودى لهم جميع قتلاهم، ورد
إليهم ما أخذ لهم، وقال لهم علي بن أبي طالب: انظروا إن فقدتم عقالا أديته،
بهذا أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكان فتح مكة فيما قاله مالك في هذه الرواية في سبعة عشر يوما من رمضان،
وقد قيل: إن فتحها كان لعشر بقين من رمضان، سنة ثمان من الهجرة كما ذكرناه.
وفي هذه السنة كانت غزوة حنين، وذلك أن هوازن لما بلغهم فتح مكة جمعهم مالك
بن عوف النصري، فاجتمع إليه قومه من بني نصر وبنو جشم وبنو سعد وثقيف
وطائفة من بني هلال بن عامر وحملت بنو جشم مع أنفسهم شيخهم وكبيرهم دريد بن
الصمة، وهو يومئذ شيخ كبير لا ينتفع به في غير رأيه، فحملوه في هودج لضعف
جسمه، وكانت الرياسة في جميع العسكر إلى مالك بن عوف النصري، فحشر الناس
وساق مع الكفار أموالهم وماشيتهم ونساءهم وأولادهم، وزعم أن نفوسهم تُحْمَى
بذلك وأن شوكتهم تشتد به، فنزلوا بأوطاس، فقال لهم دريد بن الصمة: ما لي
أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاة؟ قالوا: ساق ذلك
مالك مع الناس ليقاتلوا عنهم، فقال لهم دريد: راعي ضأن والله، وهل يرد
المنهزم شيء يا مالك؟ إنه إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه، وإن كانت
عليك فضحت في أهلك ومالك.
وأخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما شاهد منهم فعزم
(17/463)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - على قصدهم، واستعار من صفوان بن أمية دروعا، قيل: مائة، وقيل:
أربعمائة، وخرج في اثني عشر ألفا من المسلمين، منهم عشرة آلاف صحبوه من
المدينة، وألفان من مسلمة الفتح، إلى ما انضاف إليه من الأعراب من بني سليم
وبني كلاب وغيرهم، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد، ونهض - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى وادي حنين، وهو من أودية تهامة، وقد كانت
هوازن قد كمنت في جنبتي الوادي، وذلك في غبش الصبح فحملت على المسلمين حملة
رجل واحد، وثبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثبت معه
أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس والفضل بن العباس وقثم
بن العباس وأبو سفيان ابن الحارث وابنه جعفر بن أبي سفيان، وكان رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بغلته الشهباء، ورسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يا أيها الناس إلى أين؟ أيها
الناس أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله» وأمر العباس وكان جهير الصوت
أن ينادي: يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة، يا معشر المهاجرين، يا آل
الخزرج، كانت الدعوة أولا يا آل الأنصار، ثم خصصت آخرا بآل الخزرج؛ لأنهم
كانوا أصبر عند القتال على ما ذكر، فلما ذهبوا ليرجعوا كان الرجل منهم لا
يستطيع أن ينفذ بعيره لكثرة الأعراب المنهزمين فكان يلبس درعه، ويأخذ سيفه
ومجنه ويقتحم عن بعيره ويكر راجعا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، حتى إذا اجتمعوا حواليه مائة رجل أو نحوهم استقبلوا هوازن
بالضرب، واشتد الحرب وكثر الطعن والجلاد، فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ركائبه، ونظر إلى مجتاد القوم، فقال: الآن قد حمي
الوطيس، وضرب علي ابن أبي طالب
(17/464)
عرقوب جمل صاحب الراية أو فرسه فصرعه، ولحق
به رجل من الأنصار فاشتركا في قتله، وأخذ الراية علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، وقذف الله عز وجل في قلوب هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ واجههم وواجهوه صاح بهم صيحة ورمى في وجوههم
بالحصى فلم يملكوا أنفسهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، قال بعض من أسلم من
المشركين ممن شهد حنينا، وقد سئل عن يوم حنين: لقينا المسلمين فما لبثنا أن
هزمناهم واتبعناهم حتى أتينا إلى رجل راكب على بغلة بيضا، فلما رآنا زجرنا
زجرة وانتهرنا وأخذ بكفه حصى أو ترابا، فرمى به، وقال: «شاهت الوجوه» ، فلم
تبق عين إلا دخلها من ذلك، وما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا، وما
استوفى رجوع المسلمين إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إلا وأسرى هوازن بين يديه، واستحر القتل في بني مالك، فقتل منهم خاصة يومئذ
سبعون رجلا منهم، ورئيسهم والخمار، وأخوه عثمان ابنا عبد الله بن ربيعة،
وأدرك ربيعة بن رفيع دريد بن الصمة فقتله، وقيل: إنه أسر، فأمر رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتله لمشاهدته الحرب وموضع رأيه
فيها، ولما انقضى القتل نادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه» ، وكانت وقعة هوازن يوم
حنين في أول شوال من السنة، وترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قسم الغنائم من الأموال والنساء
(17/465)
والذراري فلم يقسمها حتى أتي الطائف.
وفي هذه السنة كانت غزوة الطائف، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من حنين إلى الطائف ولم ينصرف إلى مكة ولا عرج
على شيء إلا على غزو الطائف قبل أن يقسم غنائم حنين وقبل كل شيء، فسلك رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طريقه إلى الطائف على
الجعرانة أخذ على قرن وابتنى في طريقه ذلك مسجدا وصلى فيه، ووجد في طريقه
ذلك حصنا لمالك بن عوف النصري فأمر بهدمه، ثم نزل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
بقرب الطائف بواد يقال له العقيق، فتحصنت ثقيف، وحاربهم المسلمون، وحصن
ثقيف لا مثل له في حصون العرب، فأصيب من المسلمين رجال بالنبل، فزال النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - من ذلك المنزل إلى موضع المسجد المعروف اليوم،
فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وقيل: بضع عشرة ليلة، وقيل: عشرين يوما، وأمر
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنصب المنجنيق على الطائف
ورماهم به، ونزل قوم من تحت الربابات من سور الطائف فرارا إلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصب عليهم أهل الطائف سكك الحديد
المحماة، ورموهم بالنبل، فأصابوا منهم قوما، ونجى آخرون، منهم أبو بكرة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وعبيد بن عبيد.
أهل الطائف منهم الأزرق والد نافع بن الأزرق الخارجي المنسوب إليه
الأزارقة.
وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطع أعناب أهل الطائف إلا
(17/466)
قطعة عنب كانت للأسود بن مسعود ولابنه في
ماله، وكانت تبعد عن الطائف، وسأله الكف عنها، فكف عنها.
«ولما انصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الطائف
إلى الجعرانة على مقربة من حنين وقسم الغنائم هناك أتاه وفد هوازن مسلمين
راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم، فقال لهم: " قد كنت استأنيت بكم وقد
وقعت المقاسم وعندي من ترون، فاختاروا إما ذراريكم ونساؤكم وإما أموالكم،
فاختاروا العيال والذرية، قالوا: لا نعدل بالأنساب شيئا، فقال لهم رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا صليت الظهر فتكلموا
واطلبوا حتى أكلم الناس في أمركم، فلما صلى الظهر تكلموا وقالوا: نستشفع
برسول الله على المسلمين وبالمسلمين على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أما ما كان لي
ولبني عبد المطلب وبني هاشم فهو لكم، وقال المهاجرون والأنصار: وأما ما كان
لنا فهو لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وامتنع الأقرع
بن حابس وعيينة بن حصن في قومهما أن يردوا عليهم مما وقع لهم في سهمانهم،
وامتنع العباس ابن مرداس وطمع أن يساعده قومه كما ساعد الأقرع وعيينة
قومهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من ضن منكم
بما في يديه فإنا نعوضه منه» فرد عليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءهم وأبناءهم، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه
أعواضا رضوا بها، وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف إنسان فيهن الشيماء أخت
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الرضاعة، وهي بنت الحارث بن عبد العزى من
بني سعد بن بكر بنت حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأعطاها وأحسن إليها، ورجعت
(17/467)
إلى بلادها مسرورة بدينها وما أفاء الله
عليها، وقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأموال بين
المسلمين، وأعطى المؤلفة قلوبهم من قريش وغيرهم، وأعطى عيينة بن حصن
والأقرع بن حابس وأبا سفيان ابن حرب وابنه معاوية وحكيم بن حزام والحارث بن
هشام، وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن أمية، ومالك بن عوف،
والعلاء بن حارثة، فهؤلاء أصحاب المئين، وأعطى رجالا من قريش دون المائة،
منهم سعيد بن يربوع أعطاه خمسين بعيرا، وأعطى عباس بن مرداس أباعر قليلة
فسخطها، وقال في ذلك أبياتا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «اقطعوا عني لسانه» ، فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه.
قال موسى بن عقبة: «ولما قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الغنائم أو ما شاء الله منها فأكثر لأهل مكة من قريش القسم،
وأجزل لهم العطاء، وقسم لغيرهم ممن خرج إلى حنين استيلافا لهم، حتى إنه
ليعطي الرجل الواحد مائة ناقة، والآخر ألف شاة، وزوى كثيرا من القسم عن
أصحابه، فوجدت الأنصار في أنفسها من ذلك، وقالوا: نحن أصحاب كل موطن شدة
وبلاء ثم آثر علينا قومه وقسم فيها قسما لم يقسمه لنا، وما نراه فعل ذلك
إلا وهو يريد الإقامة بين ظهرانيهم، فلما بلغ ذلك رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاهم في مجلسهم فجمعهم، وقال: " من كان هنا
من غير الأنصار فليرجع إلى رحله "، فتشهد ثم قال: " حدثت أنكم عتبتم في
المغانم أن آثرت بها أناسا أستألفهم على الإسلام، ولعلهم يفقهون، وقد جعل
الله في قلوبكم الإيمان وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء، أفلا ترضون
أن يذهب الناس
(17/468)
بالغنائم وترجعون برسول الله؟ فوالله لولا
الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وسلكتم واديا لسلكت
واديكم، فارضوا، فأنتم الشعار، والناس دثار "، فلما سمعوا مقالة رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكوا، فكثر بكاؤهم، وقالوا: الله
ورسوله أمن وأفضل، فقال: " ارجعوا إلي فيما أعلمتكم به "، قالوا: وجدتنا يا
رسول الله في ظلمات، فأخرجنا الله بك منها إلى النور، ووجدتنا على شفا حفرة
من النار فأنقذنا الله بك منها، ووجدتنا ضالين فهدانا الله بك، ووجدتنا
أذلة قليلا، فأعزنا الله بك وكثرنا، فرضينا بالله ربا وبالإسلام دينا
وبمحمد رسولا، افعل ما شئت يا رسول الله في حل محلل.
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أما والله لو
جئتموني بغير هذا لقلت صدقتم، لو قلتم ألم تأتنا طريدا فآويناك؟ ومكذبا
فصدقناك؟ ومخذولا فنصرناك؟ لقلت: صدقتم "، فقالت الأنصار: بل لله ولرسوله
علينا وعلى غيرنا المن والفضل، ثم بكوا الثانية وكثر بكاؤهم، وبكى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم ورضي عنهم» وكانوا بالذي
سمعوا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من القول أقر
عينا وأشد اغتباطا منهم بالمال.
وقد اختلف فيما أعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك
اليوم للمؤلفة قلوبهم وغيرهم، هل كان من الخمس أو من خمس الخمس، أو من رأس
الغنيمة، والأظهر أنه كان من رأس الغنيمة، إذ لو كان من الخمس أو من خمس
الخمس لما وجدت الأنصار في أنفسها من ذلك ما وجدت، ولما قالت له: افعل ما
(17/469)
شئت يا رسول الله في حل محلل، إذ التحليل
إنما يكون فيما أعطى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأربعة
الأخماس الواجبة للغانمين، وأما الخمس فلا حق لهم فيه إلا أن ينفلهم شيئا
باجتهاده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد اختلف أهل العلم فيما ينفله الإمام، فقالت طائفة من العلماء: لا يكون
إلا من خمس الخمس، وقالت طائفة: لا يكون إلا من الخمس، وقالت طائفة منهم:
لا ينفل من الغنيمة إلا بعد الخمس، وهذا الاختلاف على اختلافهم في قوله عز
وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] الآية، هل هي مخصوصة
للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أو عامة محكمة أو هي منسوخة بآية الغنيمة،
قوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41]
الآية، وعلى الاختلاف في الخمس هل يقسم بالاجتهاد فيمن سمى الله في الآية
وفي غيرهم أو يقسم بالسوية بين من سمى الله في الآية دون غيرهم.
فمن رأى آية الأنفال عامة محكمة غير منسوخة وأن الخمس يقسم على الاجتهاد -
قال: إن الإمام ينفل من رأس الغنيمة.
ومن رآها عامة محكمة غير منسوخة، وأن الخمس يقسم بالسوية أخماسا بين من سمى
الله بالآية دون غيرهم - قال: إن الإمام ينفل من الغنيمة بعد الخمس.
ومن رآها منسوخة وأن الخمس بالاجتهاد فيمن سمى الله في
(17/470)
الآية وفي غيرهم، قال: إن الإمام إنما ينفل
من الخمس، وهو مذهب مالك.
ومن رآها منسوخة وأن الخمس يقسم بالسوية أخماسا بين من سمى الله في آية
الخمس، قال: إن النفل إنما يكون من خمس الخمس.
وفي هذا العام اعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
الجعرانة، وذلك أنه لما أتى على قسمة الغنائم خرج منها إلى مكة معتمرا،
وأمر ببقايا الفيء فخمس بناحية الظهران، فلما فرغ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عمرته استخلف على مكة عتاب بن أسيد ورجع إلى
المدينة فدخلها لست بقين من ذي القعدة، وكان خروجه منها لعشر خلون من
رمضان، فكانت مدة مغيبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مذ خرج من
المدينة إلى مكة فافتتحها وأوقع بهوازن بحنين وحارب الطائف واعتمر إلى أن
رجع إلى المدينة شهرين وأربعة عشر يوما.
وانهزم يوم حنين مالك بن عوف رئيس جيش المشركين، فلحق في انهزامه بالطائف
كافرا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أتاني
مسلما لرددت إليه أهله وماله» فبلغه ذلك فلحق برسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد خرج من الجعرانة فأسلم وأعطاه أهله وماله وأعطاه
مائة من الإبل كما أعطى سائر المؤلفة قلوبهم، وهو أحدهم ومعدود فيهم،
واستعمله على من أسلم من قومه ومن قبائل قيس، وأمره بمناورة ثقيف، ففعل
وضيق عليهم
(17/471)
وحسن إسلامه وإسلام المؤلفة قلوبهم حاشى
عيينة بن حصن فلم يزل مغموزا عليه.
وسائر المؤلفة متفاضلون، منهم الخير الفاضل المجتمع على فضله كالحارث بن
هشام وحكيم بن حزام وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، ومنهم دون ذلك، وقد
فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض، وهو أعلم بهم.
وأقام الحج للناس عتاب بن أسيد في تلك السنة، وهو أول أمير أقام الحج في
الإسلام، وكان خيرا فاضلا ورعا.
[أحداث السنة التاسعة من الهجرة]
وفي السنة التاسعة كانت غزوة تبوك، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما انصرف من عمرته بعد فتح مكة وغزوة حنين وحصار
الطائف أقام بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر
وجمادى الأولى وجمادى الآخرة، وخرج في رجب من سنة تسع بالمسلمين إلى غزو
الروم، وهي آخر غزاة غزاها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنفسه،
وكان خروجه إلى تلك الغزوة في حر شديد حين طاب أول التمر في عام جدب، وكان
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يكاد يخرج غازيا إلى
وجه إلا ورى بغيره، إلا غزوه تبوك فإنه بينها للناس لبعد المسافة ونفقه
المال والمشقة وقوة العدو المقصود إليه، فتأخر الجد بن قيس من بني سلمة،
وكان متهما بالنفاق، فاستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في البقاء وهو غني قوي فأذن له وأعرض عنه، فنزلت فيه:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي
الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] .
(17/472)
وفي هذه الغزاة أتى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البكاءون، وهم سبعة فاستحملوه فلم يكن عنده
ما يحملهم عليه، فـ {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ
حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فسموا البكائين.
وأنفق فيها ناس من المسلمين، فأنفق عثمان - رَحِمَهُ اللَّهُ - نفقة عظيمة
جهز بها جماعة من المعسرين. روي أنه حمل في هذه الغزاة على تسعمائة بعير
ومائة فرس، وجهزهم حتى لم يفقدوا عقالا ولا شكالا. وروي أنه أنفق فيها ألف
دينار، وخرج عبد الله بن أبي ابن سلول بعسكره فضربه على باب المدينة أيضا،
فكان عسكره فيما زعموا ليس بأقل العسكرين، وهو يظهر الغزاة مع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما نهض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تخلف فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، وكانوا نيفا
وثمانين رجلا خلفهم سوء نياتهم ونفاقهم.
وتخلف في هذه الغزاة من صالح المسلمين ثلاثة رجال، وهم كعب بن مالك الشاعر
من بني سلمة، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية الواقفي،
وتفقدهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد يوم أو
يومين، فقيل له: تخلفوا، فعجب
(17/473)
من ذلك للذي يعرف من إيمانهم وفضلهم وعز
ذلك عليه، وفيهم نزلت: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى
إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 118] الآية،
وحديثهم مشهور معروف.
ونهض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخطر على حجر ثمود،
فأمر أصحابه ألا يتوضئوا من بئر ثمود، ولا يعجنوا بمائها خبزا، وأمر بما
عجن بمائها أن يطرح للإبل، وأمرهم أن يستعملوا في جميع ما يحتاجون إليه ماء
بئر الناقة وأن لا يدخلوا بيوت ثمود المعذبين إلا باكين أن يصيبهم مثل ما
أصابهم، وقام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ثمود بضع عشرة
ليلة، ولم يتجاوزها ثم انصرف.
وكانت في هذه الغزاة آيات بينات وعلامات للنبوءة مشهورات.
منها أنه كان في طريقه ماء قليل فنهى أن يسبق إليه أحد فسبق إليه رجلان،
فاستنفذا ما فيه، فسبهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم أمرهم فجمعوا من بقية ذلك الماء، غرفوا
منه بأيديهم قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء، فغسل رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها فجرت العين
بماء كثير جاشت به، كفى الجيش كله، وأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن ذلك الموضع سيملأ جنانا.
وبنى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين تبوك والمدينة مساجد نحو
(17/474)
ستة عشر مسجدا أولها مسجد بناه بتبوك
وآخرها مسجد بذي خشب [وفي هذه السنة كان إسلام ثقيف] ولما انصرف رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تبوك وكان انصرافه في رمضان رأت
ثقيف أنهم لا طاقة لهم بما هم فيه من خلاف جميع العرب، فوفدوا إلى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسلا منهم بإسلامهم، فخرجوا
حتى قدموا المدينة، فكان أول من رآهم بقناة المغيرة بن شعبة، وكان يرعى بها
ركاب أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نوبته، فترك
الركاب عندهم ونهض مسرعا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ليبشره بقدوم ثقيف للإسلام، فلقي أبا بكر الصديق فسأله عن
شأنه، فأخبره، فأقسم عليه أن يؤثره بتبشير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فأجابه المغيرة إلى ذلك، فذهب أبو بكر بالبشارة
إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، ورجع المغيرة
إلى قوم ثقيف، فجاء معهم إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأعلمهم كيف
يحيونه إذا قدموا عليه، فلم يفعلوا وحيوه بتحية الجاهلية، فضرب لهم رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبة في ناحية المسجد، وكان
خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يختلف بينهم وبين رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الذي كتب لهم الكتاب، فسألوا رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يكتب لهم كتابهم أن يترك لهم
الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم من ذلك رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألوه ألا يهدموا أوثانهم بأيديهم
فأجابهم إلى ذلك، وأعفاهم من أن يكسروها بأيديهم، وقالوا: إنما أردنا أن
نسلم بتركها من سفهائها ونسائنا، وخفنا أن نروع قومنا بهدمها حتى ندخلهم
الإسلام، وقد كانوا سألوه
(17/475)
مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، فقال
لهم: لا خير في دين لا صلاة فيه، فكتب لهم كتابهم وأمر عليهم عثمان بن أبي
العاص، وأمره أن يعلمهم القرآن وشرائع الإسلام، وأن يصلي بهم وأن يعذرهم
بأضعفهم ولا يطول عليهم، ولا يتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا وبعث معهم
أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم الأوثان الطاغية وغيرها، فهدمها
وأخذ مالها وحليها، وخرج نساء ثقيف حسرى يبكين اللات وينحن عليها.
وفي هذه السنة كانت حجة أبي بكر الصديق، وذلك أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما انصرف من تبوك أراد الحج، ثم قال: إنه
يحضر البيت غدا مشركون يطوفون بالبيت عراة، فلا أحب الحج حتى لا يكون ذلك،
فأرسل أبا بكر ثم أردفه عليا لينبذ إلى كل ذي عهد عهده ويعهد إليهم ألا يحج
بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ... إلى سائر ما أمره أن ينادي به في
كل موطن من مواطن الحج، فأقام الحج في ذلك العام سنة تسع أبو بكر، ثم حج
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قابل حجته التي لم يحج
من المدينة غيرها، فوقعت حجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في العام المقبل في ذي الحجة، فقال: «إن الزمان قد استدار
» الحديث، فثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة، فلما كان يوم النحر في
حجة أبي بكر قام عَلِيٌّ فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر،
ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت
عريان، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم
(17/476)
أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم
ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد إلى مدة» ، ثم قدما على رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يحج بعد العام مشرك ولا طاف به عريان.
وفي هذه السنة وسنة عشر بعده، قدمت وفود العرب على رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للدخول في الإسلام، وذلك أنه لما فتح الله
على رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مكة وأظهره يوم حنين، وانصرف من تبوك،
وأسلمت ثقيف أقبلت إليه وفود العرب من كل وجه يدخلون في دين الله أفواجا،
وكل من قدم عليه قدم راغبا في الإسلام إلا عامر بن الطفيل وأربد بن قيس في
وفد بني عامر وإلا مسيلمة في وفد بني حنيفة.
فإن عامر بن الطفيل وأربد بن قيس فإنهما قدما عليه في وفد عامر بن صعصعة،
وقد أضمرا الفتك برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والغدر
به، فكان عامر بن الطفيل قد قال لأربد: إني سأشغله بالكلام عنك، فإذا فعلت
فاعله بالسيف، ثم جعل يسأله سؤال الأحمق ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول له: «لا أجيبك في شيء مما سألت عنه حتى تؤمن
بالله ورسوله.» فأنزل الله على أربد البهتة والرعب فلم يرفع يدا، فلما يئس
منه عامر، قال: يا محمد والله لأملأنها عليك رجالا، فلما وليا قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم اكفني عامر بن الطفيل
وأربد بن قيس» ، فلما كان في بعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل
الطاعون في عنقه
(17/477)
فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل
يقول: غدة البكر أو غدة البعير وموتا في بيت سلولية، ووصل أربد إلى بلده،
فأنزل الله عليه صاعقة، وكان على جمل قد ركبه في حاجة له فأحرقه الله هو
وجمله بالصاعقة.
وأما مسيلمة فقدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
وفد بني حنيفة، فروي أنه دخل مع قومه على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم يسترونه بالثياب، فكلمه فأجابه رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك لو سألتني هذا العسيف - لعسيف
كان معه من سعف النخل- ما أعطيتكه» ، وأسلم قومه ثم انصرفوا عن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو
الله مسيلمة وادعى النبوة، وقال: قد أشركني في أمره، واتبعه أكثر قومه،
وجعل يسجع لهم أسجاعا يضاهي بها القرآن، وأحل لهم الخمر والزنا، وأسقط عنهم
الصلاة، فمن سجعه قوله: لقد أنعم الله على الحبلى أخرج منها نسمة تسعى من
بين صفا ووحشى، ومثل هذا من سجعه لعنه الله، واتبعه بنو حنيفة إلا ثمامة بن
أثال الحنفي، فإنه بقي على الإيمان بالله ورسوله ولم يرتد مع قومه.
[أحداث السنة العاشرة من الهجرة]
وفي السنة العاشرة كانت حجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لما دخل عليه ذو القعدة منها تجهز للحج، وأمر الناس بالجهاز، وخرج لخمس
بقين من ذي القعدة، واستعمل على المدينة أبا دجانة الشاعري، وقيل: سباع بن
عرفطة الغفاري، ولم يحج
(17/478)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا
ثلاث حجات، اثنتان بمكة وواحدة بعد فرض الحج عليه من المدينة.
ومن أحسن حديث روي في صفة حجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأتمه
حديث جابر بن عبد الله، خرجه أصحاب الصحيح، مسلم وغيره، وقطعه مالك في
موطئه، فذكر في كل باب منه ما احتاج إليه، وكذا فعل البخاري.
وحديث جابر بن عبد الله رواية جعفر بن محمد عن أبيه، قال: «دخلنا على جابر
بن عبد الله وهو يومئذ قد ذهب بصره، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي، فقلت:
أنا محمد بن علي بن حسين، وأنا يومئذ غلام شاب، فرحب بي وَسَهَّلَ ودعا لي،
فقالوا: جئناك نسألك، فقال لي: سل عما شئت يا ابن أخي، فقلت: أخبرني عن حج
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال بيده وعقد تسعا، ثم
قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث تسع سنين لم
يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حاج فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا
ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف تصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب
وأحرمي، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد،
ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى ما مد بصري
بين
(17/479)
يديه من راكب وماش وعن يمينه وعن يساره مثل
ذلك ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بين أظهرنا ينزل عليه القرآن، وهو يعرف تأويله، فما عمل من شيء عملنا مثله،
فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك
لك. وَأَهَّلَ الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا منه، ولزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلبيته» الحديث بطوله على ما قد ذكرناه في الحج من
المقدمات.
[أحداث السنة الحادية عشرة من الهجرة]
وفي السنة الحادية عشرة توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ضحى يوم الإثنين من ربيع الأول في الوقت الذي دخل فيه المدينة
في هجرته إليها من مكة، فكانت وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
على رأس عشر سنين من الهجرة، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل: ليلة الأربعاء، ولم
يحضر غسله وتكفينه إلا أهل بيته، غسله علي بن أبي طالب، وكان الفضل بن
العباس يصب عليه الماء، والعباس يعينهم، وحضرهم شقران مولاه.
ولم يصدق عمر بموته وأنه مات وأنكر على من قال ذلك، وخرج إلى المسجد فخطب
الناس، وقال في خطبته: إن المنافقين يقولون إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مات، والله ما مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنه ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى، فقد غاب عن قومه
أربعين ليلة ثم رجع إليهم، والله ليرجعن كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال
وأرجلهم زعموا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مات.
(17/480)
وأتى أبو بكر بيت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكشف له عن وجهه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقبله وأيقن بموته، ثم خرج فوجد عمر يقول تلك المقالة، فقال
له: اجلس، فأبى عمر، ثم قال له: اجلس، فأبى، فتنحى عنه وقام خطيبا، فانصرف
الناس إليه وتركوا عمر، قال أبو بكر: أما بعد فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا
قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] الآية، قال
عمر: فلما سمعتها من أبي بكر عرفت ما وقعت فيه، وكأنني لم أسمعها قبل، ثم
اجتمع المهاجرون والأنصار في سقيفة بني ساعدة فبايعوا أبا بكر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، ثم بايعوه بيعة أخرى من الغد على ملأ منهم ورضا، فكشف
الله به الكربة من أهل الردة، وقام به الدين، والحمد لله رب العالمين.
ولما أنزل الله على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سورة {إِذَا جَاءَ
نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] علم أنه قد نعيت إليه نفسه، وسأل
عُمَرٌ ابْنَ عباسٍ عن هذه السورة، فقال: يقول له: اعلم أنك ستموت عند ذلك،
فقال له عمر: لله درك يا ابن عباس، إعجابا بقوله، وقد كان سأل عنها غيره من
كبار الصحابة فلم يقولوا ذلك.
ولما دنت وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذه وجعه في بيت
ميمونة، فخرج إلى أهل أحد، فصلى عليهم صلاته على الميت، وكان أول ما يشكو
في علته الصداع، فيقول: وارأساه، ثم لما
(17/481)
اشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيت
عائشة، فأذن له في ذلك، ومرض فيه إلى أن مات فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وكان يقول لعائشة في مرضه ذلك: «يا عائشة ما زلت أجد ألم
الطعام الذي أكلته بخيبر، وما زالت تلك الأكلة تعادني، فهذا أوان قطعت
أبهري» .
وأوصاهم في مرضه بثلاث: أن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزهم به، وألا
يتركوا في جزيرة العرب دينين، «أخرجوا منها المشركين، والله الله في الصلاة
وما ملكت أيمانكم، فأحسنوا إليهم» ، وقال: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد» ، وقال لهم: «هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده أبدا "،
فاختلفوا وتنازعوا واختصموا، فقال: " قوموا عني، فإنه لا ينبغي عندي تنازع»
، وكان عمر القائل حينئذ: قد غلب عليه وجعه، وربما صح، وعندكم القرآن، فكان
ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين أن يكتب ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم. وكان يقول
في صحته: " «ما يموت نبي حتى يخير ويرى مقعده» ، روته عائشة، قالت: «فلما
اشتد مرضه جعل يقول: " مع الرفيق الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولئك رفيقا» ، فعرفت أنه ذاهب، ولما عجز عن الخروج إلى
المسجد قال: «مروا أبا بكر فليصل للناس» ، وقال في مرضه: «أهريقوا عَلَيَّ
من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس» ، فأجلس في مخضب لحفظه،
ثم صب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إليهم بيده أن حسبكم، ثم خرج إلى
الناس وأبو بكر يصلي للناس، فتأخر أبو بكر وتقدم النبي عليه
(17/482)
السلام فصلى وصلى أبو بكر بصلاة النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والناس بصلاة أبي بكر، وقد اختلف من كان الإمام
للناس منهما في تلك الصلاة على ما قد مضى بيانه والقول فيه في رسم سن من
سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، ولما اشتد مرضه به جعل يقول: «لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، إن للموت لسكرات، الرفيق الأعلى» ، فلم يزل يقولها
حتى مات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشرف وكرم.
[تفسير وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا]
في تفسير {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10] وسئل
مالك: عن تفسير {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10] ،
قال: ذهاب العقل في رأيي، يقول الله تبارك وتعالى: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا
عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10] ، والإنسان
إذا أهمه الشيء لم يكد يذكر معه شيئا غيره، حتى إن المريض ليمرض فما يكاد
يذكر غير مرضه الذي هو فيه.
[قال القاضي] : قوله في تفسير {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}
[القصص: 10] بأنه ذهاب العقل، معناه: أنها أصبحت دالهة على ولدها ذاهلة عن
كل شيء سواه، كالمريض إذا اشتد به المرض يذهل عن كل شيء إلا عن مرضه، ومن
ذهل عن شيء فلم يفعله، وهذا هو معنى ما روي عن ابن عباس من أنه قال: المعنى
في ذلك أصبح فؤاد أم موسى فارغا من كل شيء إلا من ذكر ابنها، وقال ابن
(17/483)
زيد: إنما أصبح فؤاد أم موسى فارغا من
الوحي الذي أوحى الله إليها أن تلقيه في اليم، وقال لها: {وَلا تَخَافِي
وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] فنسيت عهد الله إليها بذلك؛ لأن الشيطان أنساها
ذلك، فقال لها: يا أم موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى فيكون لك أجره وثوابه
وتوليت قتله فألقيته في اليم وغرقته، فحزنت لذلك فنسيت عهد الله إليها أنه
يرده إليها ويجعله من المرسلين. وقد قيل: معناه: أنه أصبح فؤاد أم موسى
فارغا من الحزن لعلمها أنه لم يغرق ابنها بما وعدها الله به.
فهي ثلاثة أقوال: أحدها: هذا. والثاني: أنه أصبح فارغا ممن عدى الحزن على
ابنها. والثالث: أنه أصبح فارغا من الوحي، وكذلك اختلف في الهاء من قوله:
{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص: 10] ، فقيل: إنها عائدة على ابنها،
إن كادت لتقول: يا بنياه من شدة الحزن عليه، وقيل: إنها عائدة على الوحي
الذي أوحي إليها به في أمره إن كادت لتبديه، وقيل: إنها ضاق صدرها لما نسب
إلى فرعون، فقيل: هو ابن فرعون، فكادت تقول: هو ابني، فتبدي به وتخبر بأمره
وتظهره، وبالله التوفيق.
[الاستنجاء بالأحجار]
في مرور العمل بترك الاستنجاء بالأحجار
قال مالك: وبلغني أن ابن شهاب قال لابن هرمز، وكان يكلمه، فقال له ابن
شهاب: نشدتك الله، أما علمت أن الناس كانوا يتوضئون فيما مضى ولا يكونون
يستنجون بالماء؟ فسكت ابن هرمز فلم يجبه بشيء، فقيل لمالك: لم؟ قال: لم يحب
أن يقول له نعم، وهو أمر قد ترك فتركه ولم يجبه.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن من اكتفي في استنجائه بالأحجار دون الماء
فصلى أن صلاته تامة ولا إعادة عليه في وقت ولا غيره؛
(17/484)
لما جاء من أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- سئل عن الاستطابة، فقال: «أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار؟» ، إلا أن الماء
أطهر وأطيب، ومن قدر على الجمع بين الأحجار والماء فهو أولى وأحسن، وقد كان
أهل قباء يفعلون ذلك، فنزلت فيهم: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] . قال
ابن حبيب: لا نبيح اليوم الاستنجاء إلا لمن عدم الماء، لأنه أمر قد ترك
وجرى العمل بخلافه على ما قاله ابن هرمز، وبالله التوفيق.
[أمر الرجل بإقباله على ما يعنيه]
في أمر الرجل بإقباله على ما يعنيه
قال: وسمعت مالكا، يقول: دخل رجل على عبد الله بن عمر وهو يخصف نعله، فقال
له: يا أبا عبد الرحمن، لو ألقيت هذا النعل وأخذت أخرى جديدة، فقال له:
نعلي جاءت بك هاهنا؟ أقبل على حاجتك.
قال محمد بن رشد: إنما قال له ابن عمر ذلك لقول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ، وهذا ما لا يعنيه،
وبالله التوفيق.
[تخفيف الله عن عباده فيما افترضه عليهم]
في تخفيف الله عن عباده فيما افترضه عليهم
قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: لو أن الله فرض على خلقه بقدر
عظمته ما أطاقها سماء ولا أرض ولا جبال، ولكن الله خفف عنهم.
(17/485)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين يشهد
به القرآن ويعتقده كل مؤمن بالله تعالى، إذ لا يفي بحق عظمة الله أحد، قال
الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}
[الزمر: 67] ، وقال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وبالله التوفيق.
[فضل الله عز وجل على من زهد في الدنيا]
في فضل الله عز وجل على من زهد في الدنيا
قال: وسمعت مالكا يقول: سمعت أنه يقال: ما زهد عبد واتقى الله إلا أنطقه
الله بالحكمة.
قال محمد بن رشد: هذا، والله أعلم لأن من اتقى الله وزهد في الدنيا صح نظره
في الأمور بتقوى الله تعالى فيها، فوفق للحق وأنطق بالحكمة، فضل من الله
تعالى فيها عليه في ذلك، من ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب من أنه كان يرى
الرأي بقلبه ويقول الشيء بلسانه فيوافق الحق فيه كموافقته ما نزل في القرآن
في الخمر وفي أسرى بدر وفي الحجاب في مقام إبراهيم، على ما جاء في ذلك كله،
وبالله التوفيق.
[إشفاق عمرو بن العاص مما دخل فيه من حرب
معاوية لعلي]
في إشفاق عمرو بن العاص مما دخل
فيه من حرب معاوية لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وسمعت مالكا يقول:
كان عمرو بن العاص يقاتل علي بن أبي طالب، فإذا انتصف النهار ضرب سرادقا
يستريح فيه ويفرق الناس يستريحون، فيحمل الناس قتلاهم في الأكسية فيقول
(17/486)
عمرو: من هذا؟ فيقال له: فلان، ويقول: من
هذا؟ فيقال له: فلان، فقال عمرو: كم من أحسن في الله قد قتله فلان وفلان،
يريد عليا ومعاوية، وما يريان أنهما يديان من دمه بشيء ثم يبكي.
قال محمد بن رشد: قول عمرو بن العاص وما يريان أنهما يديان من دمه بشيء، هو
كما حكي عنهما من أن كل واحد منهما اعتقد باجتهاده أنه مصيب عند الله تعالى
في فعله، فلا حرج عليه في ذلك إذ كان فرضه هو الذي أداه اجتهاده إليه من
ذلك، فللمصيب منهما -وهو عندنا عَلِيٌّ - أجران، وللمخطئ منهما -وهو عندنا
معاوية - أجر واحد، وكذلك حكم من اتبع كل واحد منهما وقاتل معه، هذا الذي
يجب على كل مسلم أن يعتقده فيما شجر بينهم؛ لأن الله تعالى قد أثنى عليهم
في كتابه، وعلى لسان رسوله، فقال عز من قائل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي: خيارا عدولا، وقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الآية، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم» .
(17/487)
وبكاء عمرو بن العاص والله أعلم عند المرور
بالقتلى عليه إنما هو مخافة أن يكون قد قصر في خاصة نفسه فيما يلزمه من
بلوغ غاية الاجتهاد الذي أداه إلى أن معاوية الذي قاتل معه على الحق،
وبالله تعالى التوفيق.
[احتقار شأن المتكبرين من ملوك الدنيا ووعظهم]
في احتقار شأن المتكبرين من ملوك الدنيا ووعظهم
وسمعت مالكا يحدث عن عمه أبي سهيل بن مالك، أنه كان يقول: إن ملكا كان في
بني إسرائيل، وأنه ركب يوما في مدينته، فركب في زي عظيم، فمر برجل قاعد على
عمله لا يلتفت إليه، فلما رأى الملك ذلك قال له: ما لك لا تنظر إلي كما
ينظر الناس إلي؟ فقال له الرجل: إني قد رأيت ملكا مثلك، وكان على هذه
القرية، فمات هو ومسكين في يوم واحد، فدفنا فكان قبراهما جميعا في موضع
واحد، فكنت أتعاهدهما فأعرفهما بقبريهما، ثم نسفت الريح قبريهما وكشفت
عنهما فاختلط عظم هذا بعظم هذا، فما أعرف أحدهما من صاحبه، فلذلك لم يعجبني
ما أنت فيه فأقبلت على عملي.
قال محمد بن رشد: هذا وشبهه مما ينبغي أن يوعظ به من كان فيه زهو بنفسه
وإعجاب بحاله، وبالله التوفيق.
[تواضع العلماء وجلوسهم في الأسواق]
في تواضع العلماء وجلوسهم في الأسواق
وعند أصحاب العباء قال: وحدثني مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: ما أخذت
(17/488)
أحاديث كثيرة من أحاديث سعيد بن المسيب إلا
عند أصحاب العباء في السوق، وما أخذت من سالم بن عبد الله أحاديث كثيرة إلا
في ظل المنارة التي في السوق، كان يقعد في ظلها، وسعيد عند أصحاب العباء،
قال مالك: كان ذلك من شأن الناس يخرجون إلى السوق ويقعدون فيه.
قال محمد بن رشد: في هذا تواضع العلماء برضاهم بالدون من المجلس ومجالسة
المساكين ودخول الأسواق، ومن تواضع لله رفعه الله. ومن الحجة في جواز دخول
الأسواق وأنه لا عيب في ذلك - قول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا
قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ
وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] الآية [ردا لقول المشركين:
{مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ}
[الفرقان: 7] ، وبالله التوفيق] .
[الجلوس في المساجد والاشتغال فيها بالعمل
اليسير]
في الجلوس في المساجد وجواز الاشتغال فيها بالعمل اليسير قال مالك: كان
سعيد بن المسيب يحدث، وربما أخذ ثياب بعض من يقعد إليه فيذرعه وهو في
المسجد، فقلت له: ثياب الناس؟ قال: نعم، وهو في المسجد، قال مالك: قال جعفر
بن محمد، وكان عمر بن الخطاب يقعد في المسجد ويقعد إليه رجال يحدثهم عن
الأجناد ويحدثونه بالأحاديث، والقاسم بن
(17/489)
محمد، فما يقولون له كيف تقول؟ ولا كيف
يقول؟ كما يصنع أهل هذا الزمان.
قال محمد بن رشد: ما كان سعيد بن المسيب ربما فعله من ذرع ثياب بعض من كان
يقعد إليه، المعنى في ذلك، والله أعلم: إنما فعله لوجه أراد معرفة مقداره
من ثوب الرجل، وذلك جائز لا بأس به، فقد استحب مالك أن يقضي الرجل الذهب في
المسجد إذا لم يكن على وجه التجارة والصرف، واستحب كتاب ذكر الحق فيه إلا
أن يطول.
وقعود عمر بن الخطاب في المسجد مع رجال يحدثهم ويحدثونه كان فيما بين الظهر
والعصر، وذلك جائز لا بأس به، إذ ليس ذلك من الأوقات المرغب في الصلاة
فيها، فلا وجه لإنكار من أنكر ذلك، وقد مضى هذا قبل هذا في رسم حلف، وبالله
تعالى التوفيق.
[إشفاق ابن عمر من قتل عثمان]
فيما بلغ إليه إشفاق ابن عمر من قتل عثمان
قال: وسمعت مالكا يحدث: أن رجلا أهدى إلى عبد الله بن عمر صرة فيها جوارش،
فقال له ابن عمر: ما هذه؟ قال: جوارش، إذا أكلت فكظك الطعام أكلته على
إثره، فقال له ابن عمر: والله ما شبعت منذ قتل عثمان.
قال محمد بن رشد: حق لعبد الله بن عمر في فضله وخيره أن يبلغ الإشفاق منه
من قتل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا المبلغ، فإنه كان حدثا عظيما
في الإسلام، لم يكن قبله ولا بعده مثله على ما سبق في أم الكتاب، وأنذر به
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وبالله التوفيق.
(17/490)
[احتجاب النساء من الرجال]
في احتجاب النساء من الرجال قال: وسمعت
مالكا يحدث أن عائشة زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دخل عليها رجل أعمى
وأنها احتجبت منه، فقيل لها: يا أم المؤمنين إنه أعمى لا ينظر إليك؟ فقالت:
ولكني أنظر إليه.
قال محمد بن رشد: قد روي «عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع ميمونة. قالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن
أم مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "احتجبا منه"، فقلنا: يا رسول الله، أليس هو
أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟» وهذا خاص في أزواج النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بخلاف غيرهن من النساء، والله أعلم، بدليل «قول
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لفاطمة بنت قيس: اعتدي عند ابن أم مكتوم
فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» فيصح للمرأة أن تنظر من الرجل الأجنبي إلى ما
يصح للرجل أن ينظر إليه من ذوات محارمه، وقد قيل: إنه لا يصح للمرأة أن
تنظر من الرجل إلا إلى ما يصح للرجل أن ينظر منها، على فعل عائشة في
احتجابها من الرجل الأعمى، وعلى ظاهر قول الله عز وجل؛ لأنه قال: {وَقُلْ
لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] كما قال:
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] ، وليس
ذلك بصحيح إذ قد بينت السنة في حديث فاطمة بنت قيس أن النساء في ذلك بخلاف
الرجال، فتنظر المرأة من الرجل الأجنبي إلى ما ينظر إليه الرجل من ذوات
محارمه، وتنظر المرأة من الرجل من ذوي محارمها إلى ما ينظر إليه الرجل من
الرجل.
وكذلك تنظر المرأة من المرأة إلى ما ينظر إليه الرجل من الرجل، وقد
(17/491)
زدنا هذا المعنى بيانا في الجامع من مختصر
الطحاوي، وبالله التوفيق.
[مناغاة من باد من أهل الخربة على سبيل الاعتبار]
في مناغاة من باد من أهل الخربة على سبيل
الاعتبار قال: وسمعت مالك يحدث أن عامر بن عبد القيس كان يمر
بالخربة فينادي فيها: يا خربة أين أهلك؟ مرارا، ثم يقول: بادوا وعامر
بالإثر.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين ليس فيه ما يشكل، وبالله تعالى
التوفيق.
[ترك أكل طيب الطعام مخافة العادة]
في ترك أكل طيب الطعام مخافة العادة قال
مالك: بلغني أن عمر بن العزيز قدم طعاما ورجل قاعد يأكل معه، فأخذ الرجل
يبطئ في الأكل وعمر يأكل، فقال له: ألا تأكل؟ فقال: إن ثم طعاما غيره، يريد
الطعام الذي يعمل للناس، ويريد أنه أطيب، فأنت لا تأكل؟ فقال عمر: لو أكلت
منه ما رأيت علي شيئا، ولكن لا أحب أن أعود نفسي.
قال محمد بن رشد: هذا من نحو قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
"إياكم واللحم، فإن له ضراوة كضراوة الخمر "، فإنما نهى عمر ابن الخطاب عن
اللحم، وترك عمر بن عبد العزيز أكل الطيب من الطعام مخافة أن يضرى ذلك،
فيصير له عادة، لا من أجل أن ذلك يكره إذ
(17/492)
لا أجر في مجرد ترك لباس الحسن من اللباس
وأكل الطيب من الطعام؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ
اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}
[الأعراف: 32] ، وإنما يؤجر في ترك ذلك إذا تركه ابتغاء معنى من الخير
يقصده بذلك وينويه به، وبالله تعالى التوفيق.
[ما جاء في سلمان الخير]
قال: وسمعت مالكا يحدث: أن سلمان الخير خرج يطلب الدين قبل الإسلام، وأنه
سبي بالشام فاستخدم ثم هرب فأخذ بوادي القرى فاشتري واستخدم ثم جلب إلى
المدينة فبيع فابتاعه رجل من الأنصار، فكاتبه على مائتي ودية يغرسها ويقوم
عليها حتى تبلغ، فقدم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على إثر ذلك المدينة،
فأتى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأخبره بذلك، فقال له رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أردت أن تغرسها فأتني فأعلمني»
، فلما أراد أن يفعل أتاه فأعلمه، فذهب معه فبرك له فيها، فما مات منها
ودية واحدة، ثم أتي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بشيء فيه ثمر أو رطب،
فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما هذا؟ " فقال له: صدقة، فقال له
النبي صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه: "إني لا أقبل الصدقة» ، فرجع به، ثم أقام
ما شاء الله ثم أتاه الثانية بمثله، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما هذا؟ قال: هو هدية، فأخذه النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - منه» وكان ذلك من سلمان اختبارا للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- في صفته، كأنه إنما أراد بذلك الاختبار في صفته.
(17/493)
قال مالك: وكان سلمان بالعراق يعمل بيده
الحوص فيعيش منه ولا يقبل من أحد شيئا، وإنه لم يكن له بيت، وإنما كان
يستظل بظل الجدار، وإن رجلا قال له: أبني لك بيتا، قال له: ما لي به حاجة،
فما زال الرجل يردد ذلك عليه ويأبى ذلك عليه، حتى قال له الرجل: أنا أعرف
البيت الذي يوافقك، قال: فصفه لي، قال: أبني لك بيتا إذا قمت فيه أصاب سقفه
رأسك، وإذا أنت مددت فيه رجلك أصابت حائطه، قال: نعم، فبناه له.
قال محمد بن رشد: سلمان الخير هذا هو سلمان الفارسي، ويعرف بسلمان الخير،
يكنى أبا عبد الله، ويقال: إنه مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -. روي من وجوه أنه اشتراه على العتق، أصله من فارس، وكان إذا
قيل له: ابن مَنْ أنت؟ قال: أنا سلمان ابن الإسلام. وروي عنه أنه قال: كنت
من أبناء أساورة فارس. وكان يطلب دين الله ويتبع من يرجو ذلك عنده، فدان
بالنصرانية وغيرها، وقرأ الكتب وصبر في ذلك على مشقات نالته. وروي: أنه
تداوله في ذلك بضعة عشر ربا، من رب إلى رب حتى أفضى إلي النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - وَمَنَّ الله عليه بالإسلام، وكان خيرا فاضلا عالما زاهدا،
دخل عليه قوم وهو أمير على المدائن بالعراق، وهو يعمل الخوص، فقيل له: لم
تعمل هذا وأنت أمير يجري عليك رزق؟ فقال: إني أحب أن آكل من عمل يدي، وكان
تعلم عمل الخوص بالمدينة عند بعض موالي الأنصار، وكان إذا خرج عطاؤه تصدق
به، وكانت له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها، وأول مشاهده الخندق، وهو الذي
أشار بحفره، فقال أبو سفيان وأصحابه؛ إذ رأوه: هذه مكيدة ما كانت العرب
تكيدها، وقد قيل: إنه شهد بدرا وأحدا، والأكثر أن أول مشاهده الخندق،
(17/494)
ولم يفته بعد ذلك مشهد مع النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -.
وقال فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو كان الدين بالثريا
لناله سلمان» ، وفي رواية أخرى: «لنالته رجال من فارس» ، وروي عن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «أمرني ربي بحب أربعة، أخبرني أنه يحبهم:
علي، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان» ، وروي عن علي أنه قال: سلمان الفارسي مثل
لقمان الحكيم، وتوفي سلمان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في آخر خلافة عثمان سنة
خمس وثلاثين، وقيل: بل توفي في أول سنة ست وثلاثين، وقيل: بل توفي في خلافة
عمر، والأول أكثر، وبالله التوفيق.
[سكنى المقابر للاعتبار]
في سكنى المقابر للاعتبار قال مالك:
بلغني أن رجلا سكن القبور، وأنه كلم في ذلك، فقال: إن لي جيران صدق ولا
يؤذونني، وإن لي فيهم عبرة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[ما كان عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ترك
التنعم بالمطاعم الطيبة]
في ما كان عليه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من ترك التنعم
بالمطاعم الطيبة
قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: آكل مما يأكل الناس وأشرب مما يشرب
الناس وأستبقي دنياي لآخرتي، وذلك
(17/495)
حين أحدث الناس الخبيص الأحمر والأخضر، قال
مالك: وكان عمر لا يأتيه مال إلا أظهره، ولا رسول إلا أنزله.
قال محمد بن رشد: المعنى في قول عمر بن الخطاب حين أحدث الناس الخبيص
الأحمر والأخضر: آكل مما يأكل الناس وأستبقي دنياي لآخرتي، أي: لا أتنعم في
مالي بأكل المطاعم الطيبة، فيكون ذلك سببا إلى أن أشح على فعل الخير منه
الذي أجده في آخرتي، يبين ذلك قوله لجابر بن عبد الله، إذ أدركه ومعه حمال
لحم، فقال: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين قرمنا إلى اللحم، فاشتريت لحما
بدرهم، أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه عن جاره وابن عمه، أين تذهب هذه الآية
عنكم {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] ؟ لأن الأجر ليس هو في مجرد شح
الرجل على نفسه بما له في ترك أكل المطاعم الطيبة منه؛ لأن الله عز وجل
يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، وإنما هو في تركه ذلك
ليواسي به ويفعل الخير منه، وقد روي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه
قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي. ومعناه:
أستبقيها لأوثرها غيري فأجد ذلك في آخرتي، فآكل الطيب من الطعام من المباح
الذي لا وزر في فعله ولا أجر في مجرد تركه، وإذا لم يصرف الغني شيئا من
ماله إلا في استمتاعه به في أكل الطيبات ولباس لين الثياب فالفقر خير له من
الغنى إذا شكر الله عليه
(17/496)
كما يشكره على الغنى، وذكر أن عمر بن
الخطاب لما قدم الشام صنع له طعام لم ير مثله، فقال: هذا لنا، فما لفقراء
المسلمين الذين باتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ فقال خالد بن الوليد:
لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر بن الخطاب، فقال كلاما معناه: لئن كان حظنا
من الدنيا الاستمتاع بحطامها، وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيدا.
وسيرته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أنه كان لا يأتيه مال إلا أظهره ولا
رسول إلا أنزله - هي سيرة أهل العدل، وقد أوصى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال في وصيته: وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم،
وبالله التوفيق.
[الخصام لذي الهيئة وإتيان أبواب الأمراء]
في كراهية الخصام لذي الهيئة وإتيان أبواب
الأمراء قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز عاتب رجلا له قدر في
الحال، في خصومة خاصم فيها، فقال: إن لك قدرا وحالا، فلا أحب لك أن تخاصم،
فإن ذلك مما يعيبك، قال مالك: يحضر فيحجب ويتنزه وينتهره الحرس ويجبر، وهذه
مذلة لذوي الهيئة، وقال مالك: بلغني أن أبا الدرداء قيل له: تأتى باب
معاوية فيحبسك ويصفحك؟ قال: اللهم غفرا، من يأت أبواب الأمراء يقول ويقعد.
قال محمد بن رشد: معنى يصفحك يمنعك ويحرمك، يقال صفحت الرجل إذا أعطيته،
وأصفحته إذا منعته وحرمته، وفي الحديث: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في سائل منعه بعض أهله: «لعلكم أصفحتموه» ،
والمعنى فيما قاله عمر بن عبد العزيز وأبو الدرداء بَيِّنٌ لا يفتقر إلى
كلام، وبالله التوفيق.
(17/497)
[هل الهد في القرآن أو الترتيل أفضل]
في الأفضل، هل الهد في القرآن أو الترتيل أفضل
وسئل مالك: عن الهد في القرآن؟ فقال: من الناس من إذا هد كان أخف عليه، وإن
رتل أخطأ، ومن الناس من لا يحسن يهد، والناس في ذلك على حالهم فيما يخف
عليهم، وذلك واسع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من أنه من لم يقدر على الهد رتل، ومن
لم يقدر على الترتيل هد، وأما من كان يقدر على الوجهين جميعا فالترتيل له
أفضل؛ لقول الله عز وجل: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] ،
وفي الموطأ: وقد أتى رجل زيد بن ثابت، فقال له: كيف ترى في قراءة القرآن في
سبع، فقال له: حسن، ولأن أقرأه في نصف شهر أو عشرين أحب إلي، وسلني: لم
ذلك؟ قال: فإني أسألك، قال: لكي أتدبره عليه.
[ما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حرمه]
في ما أحله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو حرمه، وفي
مناداته لقرابته قال مالك: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في اليوم الذي مات فيه: «لا يمسك الناس علي شيئا، إني لا أحل
إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه، يا فاطمة
بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويا صفية عمة رسول
الله، اعملا لما عند الله، فإني لا أغني لكما من الله شيئا» .
قال محمد بن رشد: يشهد بصحة هذا الحديث من قوله: لا
(17/498)
أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم
إلا ما حرم الله في كتابه - قول الله عز وجل في كتابه: {تِبْيَانًا لِكُلِّ
شَيْءٍ} [النحل: 89] وقَوْله تَعَالَى فيه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ
مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، إلا أن منه نصا جليا ومنه مجملا متشابها
خفيا، فبين النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما أجمله الله في كتابه من
الحلال والحرام وجميع الأحكام. كما أمره الله تعالى في كتابه حيث يقول:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] .
وإنما نادى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنته فاطمة وعمته صفية
بما ناداهما به لما أمره العشائر به من قوله عز وجل: {وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، وقد اختلف في تعيين عشيرته
الأقربين الذين أمره الله بمناداتهم في هذه الآية وجعل لهم حقا في الفيء
وخمس الغنيمة، وحرم عليهم الصدقة على سبعة أقوال قد ذكرناها محصلة مبينة في
مسألة أفردناها لذكر ذلك، وبالله التوفيق.
[ضنانة عبد الله بن عمر بنافع مولاه]
في ضنانة عبد الله بن عمر بنافع مولاه
قال مالك: بلغني أن عبد الله بن عمر أتى عبد الله بن جعفر ومعه نافع مولى
عبد الله بن عمر، فقال له: بعني هذا، قال: فكان عبد الله بن عمر بعد ذلك
يقول لنافع: لا تأت معي، قال مالك: يخاف أن يفتنه بما يعطيه فيبيعه إياه،
فلما خاف أمره ألا يأتي معه.
قال محمد بن رشد: قد بين مالك معنى نهيه إياه أن يأتي معه
(17/499)
إليه، ويحتمل أن يكون خاف أن يعيد سؤاله
إياه ذلك فلا يجيبه إليه فيجد في نفسه من ذلك عليه، إذ كان عبد الله بن عمر
والله أعلم ممن لا يفتتن فيه بكثرة الثمن، وبالله التوفيق.
[قول عبد الله بن أبي ابن سلول لسعد بن معاذ حين حكم في بني قريظة]
في قول عبد الله بن أبي ابن سلول لسعد بن معاذ
حين حكم في بني قريظة قال: وسمعت مالكا يقول: قال عبد الله بن أبي
ابن سلول لسعد بن معاذ في بني قريظة: إنهم أحد جناحي، وإنهم ثلاثمائة ذارع
وستمائة حاسد، فقال له سعد: قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم.
قال محمد بن رشد: لما ذهبت الأحزاب في غزاة الخندق ورجع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووضع الناس سلاحهم عند صلاة الظهر، أتاه
جبريل في صفة دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة، فقال له: إن كنتم وضعتم
سلاحكم فإن الملائكة لم تضع سلاحها، والله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة،
وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم، فنادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان سامعا مطيعا فلا يصل العصر إلا في بني
قريظة» ، فحاصرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسا
وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم أن يقتل الرجال
وتقسم الأموال وتسبى النساء والذراري، فقتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيي بن أخطب وكعب بن أسد، قيل: في ستمائة أو سبعمائة
استنزلهم، ثم قتلهم بالمدينة، واصطفى من نسائهم عمرة بنت قحافة، ولم يقتل
من نسائهم إلا امرأة واحدة، وهي نباتة امرأه الحكم القرظي التي طرحت الرحى
على خلاد بن سويد فقتلته. روي عن عائشة أنها قالت: إن كانت لعندي تضحك
وتحدث، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقتل رجالهم، إذ
هتف هاتف:
(17/500)
أين فلانة؟ قالت: أنا والله مقتولة، قلت:
ويلك لم؟ قالت: لحدث أحدثته فانطلق بها فضرب عنقها، وبالله التوفيق.
[أعتق أبو بكر الصديق سبعة كلهم يعذب في الله]
في أن أبا بكر أعتق سبعة كلهم يعذب في الله قال مالك:
أعتق أبو بكر الصديق سبعة كلهم يعذب في الله.
قال محمد بن رشد: منهم بلال بن رباح المؤذن، كان يعذب على دينه، فروي أن
أبا جهل قال له: أنت تقول أيضا فيمن يقول، فأخذه فبطحه على وجهه وسلقه في
الشمس، وعمد إلى رحى فوضعها عليه، فجعل يقول: أحد أحد، وكان على ما روي:
إذا أراد المشركون أن يقاربهم، قال: الله الله، قال: فلقي النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أبا بكر، فقال: «لو كان عندنا اشترينا بلالا» ، فلقي أبو بكر
العباس بن عبد المطلب، فقال له: اشتر لي بلالا، فاشتراه العباس من سيده،
فبعث به إلى أبي بكر فأعتقه، فكان يؤذن لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى مات، فلما مات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أراد أن يخرج إلى الشام، فقال له أبو بكر: بل تكون عندي، فقال:
إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كانت أعتقتني لله عز وجل فذرني أذهب إلى
الله عز وجل، فقال: اذهب، فذهب إلى الشام، فكان بها حتى مات، وكان أمية بن
خلف ممن يعذبه ويوالي عليه بالعذاب والمكروه، فكان من قدر الله أن قتله
بلال يوم بدر، فقال فيه أبو بكر الصديق أبياتا منها قوله:
هنيئا زادك الرحمن خيرا ... فقد أدركت ثارك يا بلال
ذكر هذا ابن عبد البر في كتاب الصحابة على حسب ما أتى من ذلك في السير.
(17/501)
ومنهم عامر بن فهيرة، كان مولدا مرت مولدي
الأزد، أسود اللون مملوكا لطفيل بن عبد الله بن شجرة، فأسلم وهو مملوك،
فاشتراه أبو بكر من الطفيل فأعتقه وأسلم قبل أن يدخل رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها إلى الإسلام،
وكان يرعى الغنم في ثور، ثم يروح بها على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر في الغار، وكان رفيقا لهما في هجرتهما إلى
المدينة، وشهد بدرا وأحدا، وقتل يوم بئر معونة، وهو ابن أربعين سنة، قتله
عامر بن الطفيل، ويروى عنه أنه قال: رأيت أول طعنة طعنتها عامر بن فهيرة
مورا خرج منها. وروي: أنه طلب يومئذ في القتلى فلم يوجد، فكانوا يرون أن
الملائكة رفعته.
وبقية السبعة المذكورين: أم عبس، وزبيرة ويروي وزنيرة، فأصيب بصرها حين
أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت
الله، ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان، فرد الله إليها بصرها، والنهدية
أعتقها وبنتها، وكانت لامرأة من بني عبد الدار، فمر بهما وقد بعثتهما
سيدتهما بطحين لها، وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدا، فقال أبو بكر: حل يا
أم فلان، فقالت: حل؟ أنت أفسدتهما، فأعتقهما، قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا
وكذا، قال: قد أخذتهما، هما حرتان، أرجعا إليها طحينها، قالتا: أونفرغ منه
يا أبا بكر، ثم نرده إليها، قال: وذلك إن شئتما.
ومر بجارية بني مؤمل حي من بني عدي بن كعب، وكانت مسلمة وعمر بن الخطاب
يعذبها لتترك الإسلام وهو يومئذ مشرك وهو يضربها، حتى إذا مل، قال: إني
أعتذر إليك أني لم أتركك إلا ملالة، فتقول: كذلك فعل الله بك، فابتاعها أبو
بكر فأعتقها، وروي: أن أبا قحافة قال لأبي بكر: يا بني، إنك تعتق رقابا
ضعافا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك
(17/502)
ويقومون دونك، فقال أبو بكر: يا أبي إني
إنما أريد ما أريد، فيتحدث ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال له أبوه:
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}
[الليل: 6] إلى قوله: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى}
[الليل: 19] {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20]
{وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21] ، وبالله التوفيق.
[ما جاء في القدر]
قال: وسمعت مالكا يقول لرجل: سألتني عن القدر؟ فقال له الرجل: نعم. قال:
يقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا
وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] حقت كلمة ربك ليملأن جهنم منهم، فلا
بد أن يكون ما قال.
قال محمد بن رشد: هذه آية بينة في الرد على أهل القدر كما قال، وذلك لأنهم
يقولون: إن الله تبارك وتعالى أمر عباده بالطاعة وأرادها منهم، ونهاهم عن
المعصية ولم يردها منهم، فلم يكن ما أراد من الطاعة وكان ما لم يرد من
المعصية؛ لأن العباد عندهم خالقون لأفعالهم بمشيئتهم وإرادتهم دون إرادة
ربهم وخالقهم، وذلك ضلال بين وكفر صريح عند أكثر العلماء، لأنهم يلحقون
العجز بالله تعالى، بأن يكون ما لا يريد ويريد ما لا يكون، والجهل به أيضا،
لأنهم إذا كانوا هم الخالقون لأفعالهم بمشيئتهم فلا يعلم وقوعها منهم على
قولهم حتى يفعلوها، وهذا كفر صريح وتكذيب لقوله عز وجل في غير ما آية من
كتابه، من ذلك قوله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي
الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] ،
(17/503)
وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ
يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}
[الأنعام: 125] ، وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
[الإنسان: 30] ، وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] ، وقال:
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقال: {أَلا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ، والآيات
في الرد عليهم أكثر من أن تحصى وأبين من أن تخفى، وقد قال عون بن معمر:
سمعت سعيد بن أبي عروة وكان يذهب مذهب أهل القدر، يقول: ما في القرآن آية
أشد علي من قوله: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ
وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155] ، قال: فقلت: القرآن يشق عليك،
والله لا أكلمك أبدا، فما كلمه حتى مات، فرحم الله عون ابن معمر، والآثار
في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - متواترة لا تحصى، من ذلك قوله:
«كل شيء بقدر» ، وقوله: «لا تسأل المرأة طلاق أختها [لتستفرغ صحفتها] ،
ولتنكح فإنما لها ما قدر لها» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت
هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره واستخرج منه ذرية،
(17/504)
فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار
يعملون، فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل
أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق
العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار
فيدخله به النار» ، وقول آدم لموسى في حديث محاجته له: «أتلومني على أمر قد
قدر عَلَيَّ قبل أن أخلق» ، وقد مضى هذا كله في هذا الرسم من هذا السماع من
كتاب المحاربين والمرتدين لتكرار المسألة هناك، وبالله التوفيق.
[ما جاء في أن لله عبادا أهل عافية في الدنيا
والآخرة]
في أن لله عبادا أهل عافية في الدنيا والآخرة قال مالك: إن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن لله عبادا أهل عافية في الدنيا والآخرة» .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا الحديث بين، لأنك قد تجد الرجل يكون له
المال الحلال من ميراث أو غيره، فيكون مدة حياته معافى في بدنه وماله،
ويكون مع هذا من أهل الخير والصلاح، فينقلب من خير إلى خير، وبالله تعالى
التوفيق.
[مناداة النبي عليه السلام لأهل قليب بدر من
المشركين]
في مناداة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأهل قليب بدر من المشركين قال
مالك: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل قليب
(17/505)
بدر من المشركين: {قَدْ وَجَدْنَا مَا
وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا}
[الأعراف: 44] قالوا: يا رسول الله، إنهم أموات أفيسمعون، قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنهم ليسمعون ما أقول» .
قال محمد بن رشد: وقد روي أنه قال: «ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون» ،
ومن هذا المعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الميت إذا
دفن وانصرف الناس عنه: «إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين» ، وقد قيل:
المعنى في ذلك أنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حقا، لا أنهم يسمعون
ما يقال لهم؛ لأن الله عز وجل قال: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}
[النمل: 80] ، وقال: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:
22] ، وهو قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، والأظهر أن يحمل الحديث
على ظاهره من أنهم سمعوا ما قاله لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؛ إذ قد علم بتظاهر الآثار أن الميت إذا مات يعاد إليه الروح
ويفتن في قبره بمسائلة منكر ونكير، ويعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن
كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال
له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة، وقد قيل: إن الآيات
المذكورات إنما وردت في الكفار على المثل بأنهم لا ينتفعون بما يسمعونه كما
لا ينتفع الموتى بما يسمعونه.
[ما جاء في أهل بدر]
17 -
(17/506)
ما جاء في أهل بدر قال مالك: بلغني أن
«جبريل قال للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كيف أهل بدر فيكم؟ قال: إنهم
خيارنا. قال: إنهم كذلك فينا» .
قال محمد بن رشد: يريد أن من شهد بدرا من الملائكة الذين أمد الله بهم نبيه
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - والمؤمنين حيث يقول: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ
بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
- إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ
رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران:
123 - 124] {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ
فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] هم خيار الملائكة، كما أن من
شهدها منكم خياركم، وهذا نهاية في الفضل لأهل بدر، وبالله التوفيق.
[صفوان حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما أعطاه هل كان مسلما أم لا]
في صفوان حين أعطاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما
أعطاه، هل كان مسلما أم لا؟ وسئل مالك: عن صفوان حين أعطاه النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما أعطاه، أكان مسلما أو مشركا؟ قال: ما سمعت فيه
شيئا ولا أراه إلا مشركا، لقد قال: لرب من قريش خير من رب من هوازن. وما
هذا بكلام مسلم، وكان من أشدهم قولا حين قال صفوان: لقد أكرم الله أمية حين
لم ير هذا الأسود فوق الكعبة، قال أبو سفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول
شيئا، إن تكلمت بلغته هذه الحصباء، وقال رجل من آل خالد بن أسيد: ما أحد
لهذا الأسود؟ يريد بلالا، قال: وكان سهيل بن عمرو من أشدهم قولا، قال لهم:
يا قوم دعوا هذا، فإن كان من الله أمضاه الله.
(17/507)
قال محمد بن رشد: قوله حين أعطاه النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما أعطاه يريد من غنائم حنين، وذلك أنه أعطى منها
عطايا وافرة لأشراف قريش وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، فأعطى منها لصفوان بن
أمية مائة بعير، وكذلك أعطى لعيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة بعير،
وكانوا أشرافا فأعطاهم يتألفهم ويتألف قومهم بهم، وكذلك أعطى لجماعة سواهم
من المؤلفة قلوبهم مائة بعير، منهم أبو سفيان بن حرب، وابنه معاوية،
والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو.
وقول صفوان "لرب من قريش خير من رب هوازن " الذي استدل به مالك على أنه لم
يكن يومئذ مسلما، قاله يوم حنين، وذلك أنه حمل المشركون على المسلمين حملة
رجل واحد، فجال المسلمون جولة ثم ولوا مدبرين، فمر رجل من قريش بصفوان بن
أمية، فقال: أبشر بهزيمة محمد وأصحابه، فوالله لا يجبرونها أبدا، فقال له
صفوان: أتبشرني بظهور الأعراب؟ فوالله لرب من قريش أحب إلي من رب من هوازن،
وكان صفوان قد هرب من مكة يوم الفتح ثم رجع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشهد معه حنينا والطائف وهو كافر، وامرأته مسلمة،
أسلمت يوم الفتح قبل صفوان بشهر، ثم أسلم صفوان، فَقُرَّا على نكاحهما،
وكان من أشراف قريش في الجاهلية، وهو أحد المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه
منهم.
والمؤلفة قلوبهم قوم من صناديد مضر كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
يعطيهم من الزكاة أيضا يتألفهم على الإسلام ليسلم بإسلامهم من وراءهم؛ لأن
الله تعالى جعل لهم فيها سهما، وقد مضى الكلام على هذا في رسم أخذ يشرب
خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب زكاة العين، وبالله التوفيق.
[سن عبد الله بن عمر]
في سن عبد الله بن عمر وحكاية
عن سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال مالك: سنو عبد الله بن
عمر سبع وثمانون سنة، قال
(17/508)
مالك: بلغني أن سعيد بن المسيب لما حبس بعث
إليه أهله بخبز ولحم، فقال سعيد: لا أذوقه، أرأيت الأقراص الأربعة التي كنت
آكلهن فابعثوا بهن إلي، قال: وكان معهم رجل في الحبس يبعث إليه أهله
الألوان من الطعام، فقال له سعيد: أرأيت ما تريد أن تبرح من هذا الموضع.
قال محمد بن رشد: المعنى فيما فعله سعيد بن المسيب من تركه لأكل ما أرسل
إليه من الخبز واللحم هو أنه أراد ترك التنعم في السجن بشيء من الطعام
ليكون أجره في السجن موفورا، وكان سجنه والله أعلم، أما إذ دعاه جابر بن
الأسود الزهري عامل المدينة إلى بيعة ابن الزبير فأبى أن يبايع له حتى
يجتمع الناس عليه، فضربه ستين سوطا، وإما إذ دعا عبد الملك بن مروان الناس
إلى البيعة للوليد بعده ثم سليمان بعد الوليد، فبايعوا وكتب إلى هشام بن
إسماعيل المخزومي أن يأخذ لهما بيعة الناس بالمدينة ففعل، وبايع الناس لهما
إلا سعيد بن المسبب فإنه أبى، وقال: لا أبايع وعبد الملك حي، فضربه هشام
ضربا مبرحا وألبسه ثياب شعر وسرحه إلى ثنية بالمدينة، كانوا يقتلون ويصلبون
عندها، فظن سعيد أنهم يريدون قتله، فلما انتهوا به إلى ذلك الموضع ردوه
وبلغ عبد الملك خبره، فقال: قبح الله هشاما فيما فعل، لكان أخرج إلى صلة
وجهه من أن يضربه، فإنا لنعلم أن ابن المسيب ما عنده شقاق ولا خلاف، وبالله
التوفيق.
[ما كان عليه عمررضي الله عنه من التفقد لأحوال
رعيته]
فيما كان عليه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من التفقد لأحوال رعيته قول
مالك: إن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر بحمار
(17/509)
عليه لبن فوضع عنه طوبتين، قال: فأتت سيدته
عمر فقالت: يا عمر، ما لك ولحماري إنك عليه سلطان؟ قال: فما يقعدني في هذا
الموضع؟
وسئل مالك: عن حديث عمر بن الخطاب حين ذكر رقيق الحوائط إذ كان يخرج إليهم
فيخفف عن ثقلهم ويزيد في رزق من أقل له، أكان ذلك في رقيق الناس؟ قال: نعم
وغيرهم من الأحرار من عمل ما لا يطيق، فقلت له: فإن الولاة عندنا يوكلون
الشرط، فمن مر به بحمل ثقيل من جمل أو بغل أن يخففوا عنه، قال: أرى أن قد
أصابوا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
قال: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته ...
» الحديث، وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لهذا الحديث
وما كان في معناه: لو مات جمل بشط الفرات ضياعا لخشيت أن يسألني الله عنه.
[ما عفا الله عنه فلم يذكره بتحليل ولا تحريم]
فيما عفا الله عنه فلم يذكره بتحليل ولا تحريم
قال مالك: سمعت من أرضى به يأثره عن غيره: "إن الله تبارك وتعالى أحل حلالا
وحرم حراما وأشياء عفا عنها الله فدعوها".
قال محمد بن رشد: هذا يدل على أنه لا يستباح إلا ما أباحه الله تعالى، وأن
المسكوت عنه محظور، وقد قيل: إن المسكوت عنه مباح، وإلى هذا ذهب أبو الفرج.
(17/510)
وجه القول الأول من طريق النظر: أنه قد ثبت
أن الأشياء ملك مالك، والأصل أنه لا يستباح ملك أحد إلا بإذنه.
ووجه القول الثاني: أن خلق الله له دليل على الإباحة؛ إذ يقول: {لا أَجِدُ
فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ
يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام:
145] ، فوجب أن يكون ما عدا هذا مما لم يثبت فيه عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - نهي مباحا، وبالله تعالى التوفيق.
[تفسير الراسخين في العلم]
في تفسير الراسخين في العلم وسئل مالك:
عن تفسير {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ، قال: العالمون
العاملون بما علموا المتبعون له.
قال محمد بن رشد: قول مالك في الراسخ في العلم: إنه العالم العامل بما علم
المتبع له، معناه: أنه العالم المتحقق بما علم العالم العامل به المتبع له
- هو معنى ما روي من «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، سئل: مَنِ الراسخ
في العلم؟ فقال: " من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام به قلبه، وعف بطنه،
فذلك الراسخ في العلم» ، ويشهد بصحة هذا قول الله عز وجل: {إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] لأنه كلام يدل
على أنه من لم يخش الله فليس بعالم.
وقد اختلف في قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] .
فقالت طائفة: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابهات،
(17/511)
والكلام يتم عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ،
أي: والراسخون في العلم يعلمون تأويله، ويقولون مع العلم بتأويله: آمنا به.
وقالت طائفة: المتشابهات مما استأثر الله بعلمها، فلا يعلم تأويلها إلا
الله، والكلام يتم عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ}
[آل عمران: 7] ، ثم يحسن الوقف، ثم يبدأ القارئ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] ، وهذا هو نص قول مالك
في رسم البيوع الأول من سماع أشهب بعد هذا.
وقد اختلف في المتشابهات التي عناها الله بقوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}
[آل عمران: 7] ، ما هي؟ فقيل: إن المتشابهات من القرآن منسوخه ومقدمه
ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به. وقيل: إنه ما لم يكن لأحد
إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت نزول
عيسى ابن مريم، وطلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، وما
أشبه ذلك مما لا يعلم أحد إلا الله تعالى، وكذلك الحروف المقطعة مثل "الم
والمص" وما أشبه ذلك، فعلى هذين القولين لا يعلم تأويل المتشابهات إلا
الله.
وأما من قال في المتشابهات: إنها المشكلات من الأحكام التي لا نص فيها في
الكتاب وإنما جاءت فيه مجملة غير مفسرة ولا مبينة، فالراسخون في العلم
يعلمون تأويلها بما نصب الله لهم من الأدلة على معرفتها، وبينه لهم النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - منها؛ لأن الله عز وجل يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، والمعنى في ذلك: أنه
(17/512)
عز وجل نص على بعض الأحكام وأحال على
الأدلة في سائرها، وأما المحكم فهو البين الذي لم ينسخ وبالله التوفيق.
[حكم أرض العنوة]
في حكم أرض العنوة
قال مالك: وبلغني أن بلالا كلم عمر بن الخطاب في هذا المال في الشام في
قسمه، وكان من أشد الناس عليه كلاما فزعم من ذكر أن عمر دعا عليهم، فقال:
اللهم اكفنيهم، قال مالك: وبلغني أنه ما حال الحول وواحد منهم حي، قال ابن
القاسم: وإنما كان بلال وأصحابه سألوا عمر أن يقسم الأرض التي أخذت عنوة
بين الناس فأبى ذلك عليهم عمر، قال ابن القاسم: وبلغني عن مالك أنه قال:
ليس من الشأن قسم الأرض، ولكن تترك لحالها، قال مالك: وكل ما افتتح بعد عمر
من العنوة فالشأن فيها أن تترك كما فعل عمر، قال لي سحنون: وحدثنا ابن
القاسم عن ابن كنانة أنه كان يقول ذلك، قال سحنون: وأخبرني به ابن نافع عن
مالك.
قال محمد بن رشد: ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خمس أرض خيبر وقسمها بن الموجفين عليها بالسواء، وأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أبقى سواد العراق ومصر وما ظهر عليه من الشام؛ ليكون ذلك في أعطية
المقاتلة وأرزاق المسلمين ومنافعهم.
فقيل: إنه استطاب أنفس المفتتحين لها، فمن سمح بترك حقه منها أعطاه فيه
الثمن، فعلى هذا لا يخرج فعله عما فعله النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في
أرض خيبر، وإلى هذا ذهب بعض أهل العراق وقال: إن أقر أهلها فيها لعمارتها
كانت ملكا لهم بدليل ما روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وضع الخراج على بياضها وسوادها؛ إذ لو كانت للمسلمين لكان وضع الخراج
(17/513)
على سوادها بيعا للثمرة قبل أن تخلق.
وقيل: إنه أبقاها بغير شيء أعطا الموجفين عليها، وإنه تأول في ذلك قول الله
عز وجل في آية الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]
الآية، وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه خلافا للشافعي
في قوله: إنها تقسم كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- في أرض خيبر.
وقد اختلف على هذا في آية الفيء وآية الغنيمة التي في سورة الأنفال، فقيل:
إنهما محكمتان على سبيل التخيير في أرض العنوة بين أن تقسم كما فعل رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض خيبر مبينا لآية
الأنفال أنها على عمومها، وبين أن تبقى كما أبقاها عمر بدليل آية الحشر،
وإلى هذا ذهب أبو عبيد، وهو قول أكثر الكوفيين: إن الإمام مخير بين أن
يقسمها كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض
خيبر وبين أن يبقيها كما فعل عمر في سواد العراق.
وقيل: إن آية الحشر ناسخة لآية الأنفال؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
بين بفعله في أرض خيبر أنها على عمومها في جميع الغنائم من الأرض وغيرها،
وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي.
وقيل: إن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال ومفسرة لها، ومبينة أن المراد بها
ما عدا الأرض من المغانم، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إنما قسم أرض خيبر؛ لأن الله وعدها أهل بيعة الرضوان، فقال:
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ
هَذِهِ} [الفتح: 20] فهي مخصوصة بهذا الحكم
(17/514)
دون سائر الأرضين المغنومة.
وإذا أبقى الإمام أرض العنوة وأقر فيها أهلها لعمارتها ضربت عليهم الجزية
على ما فرض عمر وسوقوا في السواد، ووضع عليهم الخراج في البياض بقدر اجتهاد
الإمام، وهو وجه قول مالك في المدونة: لا علم لي بجزية الأرض وأرى أن يجتهد
الإمام في ذلك ومن حضره إن لم يجد علما يشفيه، أي إن لم يثبت عنده مقدار ما
وضع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليها من الخراج؛ لأنه إنما توقف في
مقدار ذلك، [وقيل: إنه إنما توقف هل عليها خراج أم لا خراج عليها وتترك لهم
يستطيعون بها على أداء الجزية دون خراج؟] [فيما خراج أم لا معينون بها؟]
وقيل: إنه إنما توقف فيما يوضع عليها من الخراج هل يسلك به مسلك الفيء أو
مسلك الصدقة، قال ذلك الداودي، وحكى عن ابن القاسم أنه قال: والذي ينحو
إليه مالك أن يسلك به مسلك الفيء، وهذا التأويل أبعد التأويلات عندي، وذهب
ابن لبابة إلى أن جزية الأرض توضع فيما أوقف الأرض له الإمام، فقال: إنما
توقف مالك فيما يصنع فيها، إذا لم يدر لماذا أوقفها الإمام، ولا إن كانت
افتتحت عنوة بقتال أو عنوة بغير قتال، واحتار هو إذا جهل ذلك أن تحمل على
أنها افتتحت عنوة بقتال أو عنوة بغير قتال، فتكون أربعة أخماس ذلك لورثة من
افتتحه إن عرفوا، وإلا كان سبيل ذلك كله سبيل الخمس، وبالله التوفيق.
[ما ذكر في بلال]
فيما ذكر في بلال قال مالك: بلغني أن
بلالا ذكر له أن عمر بن الخطاب غضب غضبا شديدا، فقال: لو كنت عنده لم أزل
أقرأ عليه القرآن
(17/515)
حتى يسكن، قال مالك: بلغني أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: «إني رأيت أني دخلت الجنة،
وأني سمعت خشفا أمامي. فقلت: من هذا؟ فقيل لي: بلال» ، فزعم أن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما ذكر له ذلك بكى.
قال محمد بن رشد: إنما قال بلال: لو كنت عند عمر حين غضب لقرأت عليه القرآن
حتى يسكن؛ لعلمه أنه كان وقافا عند كتاب الله، فأراد والله أعلم أنه كان
يقرأ عليه من القرآن ما يعظه في غضبه، مثل قوله عز وجل: {وَإِذَا مَا
غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] ، ومثل قوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ
النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] ، ومثل قوله:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}
[الأعراف: 199] ، وما أشبه ذلك من المواعظ في الغضب، وفي رؤية النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - لبلال في الجنة شهادة له بها؛ لأن رؤيا الأنبياء
وحي، وبكاؤه حين أعلمه بما رآه له كان شوقا إلى الجنة، والله أعلم.
[متى وقعت غزوة تبوك]
في أن غزوة تبوك كانت بعد الفتح قال مالك: كانت غزوة تبوك بعد الفتح.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على ما قاله؛ لأن الفتح كان في رمضان سنة ثمان،
وكانت غزوة تبوك بعد ذلك في رجب من سنة تسع، وهى آخر غزوة غزاها - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد مضى قبل هذا ذكر هذا، وبالله التوفيق.
(17/516)
[رغبة عمر في فعل الخير]
في رغبة عمر في فعل الخير قال مالك: قال
عمر بن الخطاب: أتراني لو حملت سمراء الشام إلى الجار أيأخذونها مني؟ ثم
فقالوا: نعم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أيأخذونها في الجار فأكون قد أحسنت إليهم
في ذلك وكفيتهم مؤنة نقلها، فقالوا: نعم، وبالله التوفيق.
[قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة]
في قدوم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم المدينة
قال مالك: لما أن قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
المدينة نزل قباء فسمع به غلام من اليهود وهو على نخلة يجني رطبا ومعه قفة
له، فتركها، ثم نزل حتى أتاه فرآه ثم رجع، فقالت له أمه: تركت متاعك وخرجت
إلى هذا الرجل كأنك خرجت إلى موسى؟ قال: هو أخوه، قالت أمه: أفتتبعه؟ قال:
لا والله لا أتبعه أبدا.
قال محمد بن رشد: قد ذكره أصحاب السير أن أول من رآه حين قدم المدينة -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل من اليهود، وكان قدومه على ما ذكر
يوم الإثنين حين استوت الشمس لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، فنزل بقباء،
وقد قيل غير ذلك، وكان أكثر أهل المدينة قد خرجوا ينظرون إليه، فلما ارتفع
النهار وقلصت الضلال واشتد الحر يئسوا منه فانصرفوا، فكان أول من رآه هذا
الرجل من اليهود. وهو في نخل له، فصاح بأعلى صوته يا بني قيلة، هذا جدكم قد
جاء يعني حظكم، فخرجوا وتلقوه ودخل معهم المدينة فنزل على سعيد بن خيثمة،
وقيل: على كلثوم بن الهرم، ونزل أبو
(17/517)
بكر على حبيب بن إساف، وقيل: على خارجة بن
زيد، وكلاهما من بني الحارث ابن الخزرج.
وكان من شأن هذا اليهودي الذي رأى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أول من
رآه مع أمه ما ذكره في الحكاية من قوله: إنه أخو موسى يريد في النبوة،
وقسمه أنه لا يتبعه؛ لأن اليهود قد كانوا عرفوا أنه نبي بنعت الله لهم إياه
في التوراة، لكنهم كفروا به لأنهم كانوا يرجون أن يكون منهم، فلما كان من
غيرهم حسدوه فكفروا به، قال الله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]
وبالله التوفيق.
[قتل أمية بن خلف]
في قتل أمية بن خلف
قال مالك: أسر عبد الرحمن بن عوف أمية بن خلف وأراد به الفداء، فرآه بلال،
فقال: لا نجوت إن نجا، فحرض عليه فقتله ابنا عفراء.
قال محمد بن رشد: كان أمية بن خلف ممن تولى كبر بلال بالعذاب بمكة على
الإسلام، ولذلك حرض على قتله حتى قتله. وقد حكى ابن عبد البر في كتابه
الصحابة أن بلالا قتله حسب ما ذكرناه قبل هذا، فقد يحتمل أن يكون قتله إليه
من أجل أنه كان سببه بتحريضه على ذلك، والله أعلم.
(17/518)
[تواضع أهل
الشرف في الإسلام]
في تواضع أهل الشرف في
الإسلام قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب قال لأبي سفيان بن حرب: احمل علي
هذا الحجر، فحمله، فحمد الله عز وجل عمر على ذلك، فقال: ما لك؟ كأنه أراد
بذلك اختباره لقدر أبي سفيان في الجاهلية.
قال مالك: ضرب عمر بن الخطاب ابنه عبيد الله في مشية رآه يمشيها فعاتبته
أمه في ذلك فقال: إنه يجد في نفسه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين؛ لأن التواضع محمود والكبرياء مذموم،
قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر
إزاره بطرا» وبالله التوفيق.
[تمني علي درجة عمر في الخير]
في تمني علي درجة عمر في الخير قال مالك
عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما سجَّى على عمر بن الخطاب قال علي بن أبي
طالب: ما تحت الخضراء ولا فوق الغبراء أحد كنت أحب أن ألقى الله بصحيفته
غير هذا المسجى على سريره، وتكلم بذلك علي وعمر مسجى عليه في سريره.
قال محمد بن رشد: في هذا تفضيل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لعمر على
عثمان، وهو الذي عليه أهل السنة.
(17/519)
والحق أن أفضل الصحابة: أبو بكر ثم عمر، ثم
عثمان، ثم علي، وقد روي هذا عن مالك، وروي عنه أيضا الوقوف عن تفضيل بعضهم
على بعض، وروي عنه أيضا تفضيل أبي بكر على عمر والوقوف عن المفاضلة بين علي
وعثمان، والأول هو الذي يعتمد عليه من مذهبه والله أعلم.
[الفتيا لمن لم يطلب]
في كراهية الفتيا لمن لم يطلب
العلم حق طلبه
قال: وسمعت مالكا يقول: قال ابن هرمز ما طلبت هذا الأمر حق طلبه إذ استفتي،
قال مالك: وهذا يفتي ولا يعلم ولم يتعلم ولم يطلب هذا الأمر حق طلبه، ولم
يطلب هذا الأمر ممن يعرفه، فأنكر على مثل هؤلاء أن يفتوا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين؛ لأن ما يتعين على المعنى من الاجتهاد
في الأحكام التي لا نص فيها في الكتاب ولا في السنة ولا فيما اجتمعت عليه
الأمة يفتقر إلى القياس برد الفرع إلى الأصل بالمعنى الجامع بينهما، ووضع
الأدلة في ذلك مواضعها، وذلك يخشى التقصير فيه ممن طلب الأمر حق طلبه فكيف
بمن لم يطلبه حق طلبه وبالله التوفيق.
[فضل حكيم بن حزام رضي الله عنه]
في فضل حكيم بن حزام
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قال مالك: بلغني أن حكيم بن حزام أخرج ما كان أعطاه رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المؤلفة، فتصدق بذلك بعد ذلك.
قال محمد بن رشد: قد قيل في حكيم بن حزام: إنه لم يكن من المؤلفة قلوبهم؛
فإن كان منهم على ما في هذه الحكاية فهو من الفضلاء
(17/520)
منهم، وكفى بعنوان فضله تصدقه بما أعطاه
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في جملة المؤلفة قلوبهم، والمؤلفة قلوبهم قد
حسن بعد ذلك إسلامهم حاشى عيينة بن حصن، فلم يزل مغمورا عليه، وأما سائرهم
فيتفاضلون في الخير، منهم الخير الفاضل المجتمع على فضله كحكيم بن حزام،
والحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، ومنهم دون ذلك في
الفضل، وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض وبالله
تعالى التوفيق.
تم الجزء الرابع من الجامع
يتلوه إن شاء الله الكتاب الخامس
(17/521)
|