البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [كتاب الجامع الثالث] [الكلام بعد طلوع الفجر]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية
في الكلام بعد طلوع الفجر قال مالك: حدثني أبو النصر مولى عمر بن عبيد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، ثم ينصرف، قالت: فإن كنت يقظانة حدثني، وإن كنت نائمة اضطجع حتى يأتيه المؤذن، وذلك بعد طلوع الفجر» . قال: وقد كان سالم بن عبد الله يتحدث بعد الفجر، قال: ولم أدرك الناس إلا على ذلك. قال ابن القاسم: ورأيت مالكا يفعل ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كله في كتاب الصلاة الثاني من المدونة وزاد فيها قال: وإنما يكره الكلام بعد صلاة الصبح، ولقد رأيت نافعا مولى ابن عمر، وموسى بن ميسرة، وسعيد بن أبي هند يجلسون بعد أن يصلوا الصبح، فيتفرقون للركوع، وما يكلم أحد منهم صاحبه، يريد بذلك، اشتغالا بذكر الله، فأجاز مالك الكلام بعد الفجر، إلى صلاة الصبح،

(17/263)


اتباعا لحديث عائشة، وكره الكلام بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، أو قرب طلوعها. وأهل العراق على ضد هذا، يكرهون الكلام بعد طلوع الفجر إلى صلاة الصبح، ولا بأس بالكلام عندهم بعدها. قال أحمد بن خالد: والسنة ترد ما قالوه، وما قاله مالك من حديث عائشة يرد قول أهل العراق. وما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من «أنه كان إذا صلى الصبح حول وجهه إلى الناس وقال: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا» وبالله التوفيق.

[تفضيل عمررضي الله عنه لركبة على الشام]
في تفضيل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لركبة على الشام
وقال في تفسير قول عمر: بيت بركبة خير من عشرة أبيات بالشام. قال مالك: يريد بذلك الوباء بالشام وصحة ركبة.
قال محمد بن رشد: ركبة موضع بين الطائف ومكة، في طريق العراق، قاله ابن وضاح. وقال غيره: ركبة واد من أودية الطائف. وتفسير مالك للحديث صحيح. والمعنى فيه أن الأمراض تقل بركبة. وتطول أعمار أهلها بها في الغالب من أحوالهم، بخلاف الشام، التي ينتابها الوباء وتكثر فيها الأمراض بعادة أجراها الله في البلدين مع اختلاف الهواء فيهما، لا أن في ذلك للهواء تأثيرا. ولم ينكر قول القائل من الحكماء: هواء بلد كذا جيد مصح للأجسام. وهواء بلد كذا فاسد مولد للأمراض؛ لأن ذلك عندهم مجاز، ليس على ظاهره من الحقيقة؛ لأن الهواء لا يصح الجسم، ولا يولد فيه مرضا بحال، والفاعل لذلك كله إنما الله عز وجل، لكنه تعالى أجرى ما يفعله من ذلك كله على عوائد أمره عليها، فلما وجدت بلدان على مر الدهور والأزمان، يختلف هواؤها ويختلف أحوال أهلها فيها بالصحة

(17/264)


والمرض على وتيرة واحدة، نسب إلى هواء كل بلد حال أهله من الصحة والسقم، مجازا على غير حقيقة. هذا هو الواجب اعتقاده في هذا، وما عداه كفر. والحديث عن عمر في الجامع من الموطأ، وقد روي عنه أنه قال: لأن أعمل عشر خطايا بركبة، أحب إلي من أن أعمل واحدة بمكة. والمعنى في هذا تفضيل مكة على ركبة، بأن السيئات تضاعف فيها، كما تضاعف فيها الحسنات، وقد رأى بعض العلماء تغليظ الدية في الجراح والنفس في البلد الحرام والشهر الحرام. وبالله التوفيق.

[استتابة القدرية]
في استتابة القدرية قال مالك في القدرية: إن لم يتوبوا أرى أن يقتلوا.
قال محمد بن رشد: قول مالك في القدرية: إنهم يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا. كما يفعل بالمرتدين، يدل على أنه كفرهم بما يدينون به من اعتقادهم. وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب المرتدين والمحاربين. وفي رسم يريد من سماع عيسى منه، فمن أراد الوقوف على الشفاء من ذلك تأمله هناك، وبالله التوفيق.

[ما جاء من اختتان إبراهيم صلى الله عليه بالقدوم]
فيما جاء من اختتان إبراهيم
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بالقدوم قال: وسمعت مالكا يحدث، قال: «اختتن إبراهيم بالقدوم على رأس عشرين ومائة سنة. وبقي بعد ذلك ثمانين سنة» .
قال محمد بن رشد: قد روي هذا الحديث عن سعيد بن المسيب

(17/265)


عن أبي هريرة، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فمن الرواة من أوقفه على سعيد بن المسيب، ومنهم من أوقفه على أبي هريرة، ومنهم من أسنده إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهو الصحيح؛ لأن مثله لا يكون رأيا. وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله غليه وسلم أنه قال: اختتن إبراهيم بعد ما مرت عليه ثمانون سنة، واختتن بالقدوم. والقدوم موضع، وقيل فيه: إنه الحديدة التي اختتن بها. روي عن عكرمة أنه قال: ختن نفسه بالفاس فصرف بصره عن عورته أن ينظر إليها. قال: فلم يطف بالبيت بعد على ملة إبراهيم إلا مختونا. والمعنى في صرفه بصره عن عورته، أنه فعل ذلك تكرما إذ لا حرج على الرجل في النظر إلى عورته. والختان طهرة الإسلام. روي عن المسيب بن رافع أنه قال: أوحى الله إلى إبراهيم أن تطهر فتوضأ، فأوحى الله أن تطهر فاغتسل، فأوحى الله إليه أن تطهر، فاختتن. فصار الختان من ملته وشريعته التي أمر الله نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالتزامها حيث يقول: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . أي الزموها. {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] . الآية. روي عن ابن عباس أنه قال: الأقلف لا تؤكل له ذبيحة، ولا تقبل له صلاة، ولا تجوز شهادته. وروى أبو بردة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الأقلف: «أنه لا يحج بيت الله حتى يختتن» . وفي الحديث من الفقه وجوب الختان على من أسلم كبيرا. فروي عن مالك أنه كان يرخص بذلك للشيخ الكبير، ولا يرى بإمامته بأسا، ولا بشهادته وذبيحته وحجه. وقال محمد بن عبد الحكم: إذا ضعف وخاف على نفسه، كان له أن يترك الختان. وقال سحنون: ليس له أن يتركه، وإن خاف على نفسه منه. ألا ترى أن الذي يجب عليه قطع يده، لا يترك عنه ذلك، وإن خيف عليه منه. وحد الختان عند مالك، إذا أدب على الصلاة ابن عشر سنين ونحوها. وكره الختان يوم السابع. قال: لأنه فعل اليهود. وروي أن إبراهيم عليه السلام ختن ابنه

(17/266)


إسماعيل لثلاث عشرة سنة، وإسحاق لسبعة أيام. وأنه كان بين ختان إسماعيل ومولد إسحاق سنة. وأما الخفاض للنساء، فإنه مكرمة للنساء، وكان أول ذلك ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حديث سارة مع الملك. قال فيه: فوهب لها هاجر فخدمتها ما شاء الله، ثم إنها غضبت عليها ذات يوم فحلفت لتغيرن منها ثلاثة أشياء. فقال إبراهيم لها: تخفضينها وتشقين أذنيها، واختلف فيمن ولد مختونا فقيل: تمر الموسى عليه، فإن كان فيه ما يقطع قطع، وقيل قد كفي المؤنة فيه. وهو الأظهر إن شاء الله.

[الشرب في القدح المضبب بالفضة]
في الشرب في القدح المضبب بالفضة وسئل مالك عن الرجل يشرب في القدح وفيه تضبيب ورق أو حلقة من ورق. قال: لا أحب الشرب فيه.
قال محمد بن رشد: قياس القدح المضبب بالفضة، أو الذي يكون فيه الحلقة من الفضة، قياس الثوب يكون فيه العلم من الحرير. وقد مضى هذا في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها قبل هذا.

[الشرب في نفس واحد]
في الشرب في نفس واحد قال مالك في حديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إني لا أروى من نفس واحد، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فأبن القدح عن فيك» ، وإني لا أرى بالشرب من نفس واحد بأسا، وأرى فيه رخصة لموضع الحديث. إني لا أروى من نفس واحد.
قال محمد بن رشد: استدلال مالك بالحديث على إجازة الشرب في نفس واحد بين واضح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نهى عن

(17/267)


النفخ في الشراب فقال له الرجل: إني لا أروى من نفس واحد قال له: «فأبن القدح عن فيك ثم تنفس» ومعناه: فإن كنت لا تقدر على ذلك فأبن القدح عن فيك ثم تنفس. وفي ذلك دليل ظاهر على أنه إن قدر على ذلك جاز له أن يفعله. والنظر يدل على جواز ذلك أيضا؛ لأن النهي إنما جاء عن النفخ في الإناء أو التنفس فيه. روي عن ابن عباس قال: «نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أن ينفخ في الإناء أو يتنفس فيه» . وعن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب. ولكن إذا أراد أن يتنفس فليؤخره عنه ثم يتنفس» . فإذا لم يتنفس في الإناء جاز له أن يشرب كيف شاء، إن شاء في نفس واحد، وإن شاء في نفسين. وهو قول عمر بن عبد العزيز. روي عن ميمون بن مهران أنه قال: رآني عمر بن عبد العزيز وأنا أشرب، فجعلت أقطع شرابي وأتنفس. فقال: إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنفس في الإناء، فإذا لم تنفس فيه فاشربه إن شئت في نفس واحد. وقوله عين الفقه، وهو قول سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح عن جماعة من السلف، أنهم كرهوا ذلك، منهم ابن عباس وطاوس وعكرمة. قالوا: الشرب من نفس واحد شرب الشيطان، وبالله التوفيق.

[كسر معاصر الخمر]
في كسر معاصر الخمر قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز بعث في كسر معاصر الخمر، فكسرت أو كسر بعضها. قال مالك: قد تكون أشياء فيها رخص، من تركها غير محرم لها فلا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: ما بلغ مالكا من أن عمر بن عبد العزيز بعث

(17/268)


في كسر معاصر الخمر معناه: في معاصر المسلمين، لا في معاصر أهل الذمة. قاله مالك في رسم المحرم من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان. وهو صحيح؛ لأن أهل الذمة إنما بذلوا الجزية على أن يقروا في ذمتهم على ما يجوز لهم في دينهم، فلا يمنعون من عصر الخمر إذا لم يظهروها في جماعة المسلمين. وقوله أو كسر بعضها معناه: أنه ترك منها ما لم يتهم صاحبه على أنه إنما يعصر الخمر فيها ليشربها أو ليبيعها، لاحتمال أن يكون إنما يعصرها فيها ليخللها أو ليبيعها. وقول مالك قد تكون أشياء فيها رخص من تركها غير محرم لها فلا أرى به بأسا. كلام فيه نظر؛ لأن من ترك الرخص وتجنبها فقد أخذ بالاحتياط لنفسه، وذلك نهاية الورع، فلا يقال في مثل هذا: إنه لا بأس به، وإنما يقال فيه: إنه قد أتى ما يستحب له، فينبغي أن يتأول الكلام على أن فيه إضمارا، فيكون معناه من تركها غير محرم لها فقد أحسن لأنه مأجور على ذلك، ومن أتاها فلا بأس به أي لا إثم عليه في ذلك، وذلك في مثل أن يعصر الرجل الخمر ليجعلها خلا فلا بأس بذلك، إذ قد رخص فيه من أباحه، ومن لم يأخذ بالرخصة في ذلك فقد أحسن. وإلى هذا الوجه من الرخص ذهب مالك - والله أعلم- في قوله: وقد تكون أشياء بما دل عليه من جواز المسألة، وقد ذكرنا في كتاب الأشربة من المقدمات حكم تخليل الخمر وتخللها مستوفى لمن أراد الوقوف عليه.

[حكم أكل الضب]
في أكل الضب قال: وسئل مالك عن أكل الضب فقال: لا أرى بأكله بأسا.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أرى في أكله بأسا، معناه مباح لا إثم في أكله. ولا جزاء في تركه. وقوله صحيح، للأحاديث الواردة فيه، منها حديث عبد الله بن عمر في الموطأ «أن رجلا نادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فقال يا رسول الله: ما ترى في الضب، فقال رسول الله صلى الله

(17/269)


عليه: لست بآكله ولا محرمه» وإنما لم يأكله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه عافه.، إذ لم يكن بأرض قومه، على ما جاء من «أن عبد الله بن عباس وخالد بن الوليد دخلا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيت ميمونة، زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده، فلما أخبر أنه ضب، رفع يده. فقال له خالد بن الوليد: أحرام يا رسول الله؟ فقال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه. قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر» . لما نص النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في هذا الحديث على أنه ليس بحرام وأخبر بالعلة التي من أجلها رفع يده ولم يأكله، مع أنه مباح ليس بمحرم ولا مكروه، وقد كره أكله جماعة من العلماء، لما روي عن ثابت بن وديعة قال: «كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جيش، فأصبنا به ضبابا. قال: فشريت منها ضبا وأتيت رسول الله فوضعته بين يديه، قال: فأخذ عودا فعد به أصابعه فقال: إن بني آدم مسخت دواب في الأرض، ولا أدري أي الدواب هي؟ قال: فلم يأكل ولم ينه» . وإذا لم يأكله مخافة أن يكون مسخا فهو مكروه. من تركه أجر، ومن أكله لم يأثم. وقد روى ابن مسعود عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما يبطل هذه العلة. وذلك أنه «سئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القردة والخنازير، أهم من نسل الذين مسخوا؟ فقال: إن الله لم يهلك قوما أو لم يمسخ قوما فيجعل لهم عاقبة

(17/270)


ولا نسلا، ولكنهم من شيء كان قبل ذلك» وليس هذان الحديثان بمتعارضين.. والمعنى فيهما- والله أعلم- أن ما أخبر به النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث ابن مسعود من أن المسوخ لم يكن لها نسل، متأخر عما جاء عنه في حديث ثابت ابن وديعة، من أنه شك في الضب، وخشي أن يكون من المسوخ، فعلم آخرا ما شك فيه أولا. وهذا يقضي بأنه لا كراهية في أكل الضب، وأنه من الجائز المباح. فمن كرهه لم يبلغه حديث ابن مسعود. والله أعلم. إذ لا يصح أن يحمل الحديثان على التعارض.

[تفسير الفدادين]
في تفسير الفدادين وسئل مالك عن تفسير الفدادين قال: هم أهل الجفا.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا التفسير لمالك في رسم حلف، وهو تفسير صحيح، وبالله التوفيق.

[يمر بالحوائط هل يأكل من فاكهتها]
في الذي يمر بالحوائط هل يأكل من فاكهتها؟ وسئل مالك عن الأعناب والفاكهة التي في الأجنة يمر بها الناس، مثل فواكه الشام ومصر، قال: لا أحب لأحد أن يأكلها. قيل له: فإن أجراءها يطعمون الناس منها. قال: لا أحب لكم أن تأكلوه. ثم قال: أرأيت رجلا مر براعي غنم ليست له، أله أن يبتاع منها؟ وقد مر ابن عمر على راع معه غنم، فسأله: ألك هذه الغنم؟ فقال: لا. فقال: ابتعني من هذه الغنم، فقال: ليست لي فقال له ابن عمر: بلى فبعني وما علم أربابها. قال: فأين الله؟ قال: فأعجب ذلك ابن عمر. فسأل عنه حتى اشتراه فأعتقه. وإن في حديث الابن عن النبي عليه السلام ما فيه عبرة، وهو أهون على أهله من فواكههم. وإنما ذكرنا هذا لهذا.

(17/271)


قال محمد بن رشد: لم ير مالك لرجل إذا مر بجنان غيره أن يأكل من ثمره، وكذلك إذا مر بجنان أبيه أو أمه أو أخيه على ما يأتي له في صدر سماع أشهب بعد هذا. وإن أذن له في ذلك أجيره وأطعمه إياه؛ لأن الأجير لم يؤذن له بذلك. واستدل على ذلك بما ذكره من أن الرجل إذا مر براعي غنم لا يجوز له أن يشتري شيئا منها. واختلف هل يصدقه أولا يصدقه إذا زعم أنه أذن له في ذلك، أو كان ممن يشبه أن يؤذن له فيه؟ فقيل: إنه يصدقه إذا زعم أنه أذن له في ذلك، وكان ممن يشبه أن يؤذن له فيه. وهو قول مالك في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الضحايا. وقيل: إنه لا يصدقه وهو ظاهر ما في سماع أشهب من كتاب المديان والتفليس. واعتبر في المنع من أن يأكل الرجل من ثمار ما مر به من الحوائط بحديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الابن الذي أشار إليه، وهو قوله في حديث عبد الله بن عمر في الموطأ: «لا يحتلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته، فينتقل طعامه؟، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، فلا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» . وهو اعتبار صحيح؛ لأنه إذا لم يجز أن تحتلب ماشيته إلا بإذنه، واللبن يعود في الضروع كل يوم، فأحرى ألا يكون له أن يأكل من ثمر حائطه. وهو إنما يأتي من عام إلى عام. ومن الحجة له قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يحل مال امرئ مسلم بغير طيب نفس منه» وقد فرق بين اللبن والثمار بأن اللبن

(17/272)


مختزن في الضروع، فهو بمنزلة ما اختزن من الثمار في البيوت. وقال في الرواية في الثمار: لا أحب لأحد أن يأكلها، ولم يقل لا يحل ذلك له، وإن كان عنده لا يجوز له إلا عند الضرورة التي تبيح له أكل الميتة إذا أمن أن يعد سارقا على ما قاله في موطاه؛ لأن أهل العلم قد اختلفوا في إجازة ذلك للآثار الواردة فيه. منها حديث عبيد الله ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «من دخل حائطا فأكل منه فلا يتخذ خبنة» . ومنها حديث سمرة بن جندب، أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإذا أذن له فليحتلب وليشرب، وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثا، فإن أجابه أحد فليستأذنه، فإن لم يجبه أحد فليشرب ولا يحمل» ، ولا حجة في شيء من هذه الآثار إلى مالك؛ لأن الحديث الأول قد ذكر فيه الحاجة، والحديث الثاني والثالث، يحتمل أن يكون المعنى فيهما في ذي الحاجة، كما في الحديث الأول. وقد حمل هذين الحديثين على ظاهرهما جماعة من أهل العلم عن أبي زينب قال: صحبت عبد الرحمن بن سمرة وأنس بن مالك، وأبا بردة في سفر، فكانوا يصيبون من الثمار. وقال الحسن: يأكل، ولا يفسد، ولا يحمل. وروي عن عمر بن الخطاب مثل ذلك في أموال أهل الذمة وغيرهم. وذلك خلاف ما ذكرناه من مذهب مالك، أنه لا يأكل إلا أن يحتاج. قال ابن وهب عنه: فإن دخل الحائط فوجد الثمر ساقطا فلا يأكل منه، إلا أن يحتاج، أو يعلم أن صاحبه طيب النفس به، يريد لصداقة بينهما، والله أعلم. فقد ذكر حارث بن مسكين قال: سمعت أشهب بن عبد العزيز

(17/273)


يقول: خرجنا مرابطين إلي الإسكندرية، فمررنا بجنان الليث بن سعد، فأكلنا من الثمر، فلما رجعت دعتني نفسي إلى أن أستحل ذلك من الليث، فدخلت إليه فقلت: يا أبا الحارث إنا خرجنا مرابطين، ومررنا بجنانك، فأكلنا من الثمر، فأحببنا أن تجعلنا في حل، فقال الليث: يا ابن أخي لقد نسكت نسكا أعجميا. أما سمعت الله يقول: {أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61] : فلا بأس أن يأكل الرجل من مال أخيه الشيء التافه الذي يسره بذلك. ومن أهل العلم من لم يجز له أن يأكل شيئا، وإن كان صديقا له إلا بإذنه. وهو مذهب مالك، - لأنه إذا لم يجز ذلك، وإن كان أباه أو أمه أو أخاه، فأحرى ألا يجيز ذلك إن كان صديقا. فيتحصل في المسألة إذ لم يحتج ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والفرق بين الصديق وغيره. وهو أعدل الأقوال، وأولاها بالصواب. وهذا في ثمر الحائط، دون لبن الماشية؛ لحديث عبد الله بن عمر في الموطأ في لبن الماشية. وقيل: بل ذلك في لبن الماشية وفي ثمر الحائط سواء، لحديث سمرة بن جندب الذي ذكرناه. وأما إذا احتاج فلا اختلاف في أنه يجوز له أن يأكل من ثمر الحائط الذي يمر به، ويحتلب من لبن الغنم الذي يمر بها ما يرد به جوعه من ذلك كله. وبالله تعالى التوفيق..

[الدؤابة للصبيان]
في الدؤابة للصبيان قال مالك: أكره الدؤابة للصبيان، وأن يترك بعض رأسه ويحلق بعضها.
قال محمد بن رشد: الدوابة للصبيان هي الناصية تترك في بعض رأس الصبي، ويحلق سائره، فكره ذلك لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن القزع» . وهو حلق بعض الرأس دون بعض. فعم

(17/274)


ولم يخص صغيرا من كبير. وكذلك كره في رسم الجامع من سماع أشهب من كتاب السلطان القصة والقفا للصبيان لهذا الحديث. وقال: إن كانوا يريدون أن يدعوا شعره كله فليدعوه، وإن كانوا يريدون أن يحلقوه كله فليحلقوه. وقد كاتبت في ذلك بعض الأمراء وأمرته أن ينهى عنه، فسئل عن القصة وحدها بلا قفا فقال مثل ما قال في القصة والقفا.
وقد مضى الكلام على ذلك هناك مستوفى، وبالله التوفيق.

[تفسير الشؤم في الدار والفرس]
في الشؤم في الدار والفرس
وسئل مالك عن تفسير الشؤم في الدار والفرس قال: ذلك فيما نرى: كم من دار سكنها ناس فهلكوا ثم سكنها آخرون فهلكوا، ثم سكنها آخرون فهلكوا، وهذا تفسيره فيما نرى، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: قوله سئل عن تفسير الشؤم في الدار والفرس معناه: سئل عن الشؤم الذي جاء الحديث أنه في الدار والفرس ما هو؟ والمروي في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حديثان في جامع الموطأ: أحدهما قوله: «إن كان ففي الفرس والمرأة والمسكن» يعني الشؤم. والثاني قوله: «الشؤم في الدار والمرأة والفرس» وليس ذلك بتعارض بين الحديثين. والمعنى فيهما أنه قال في الأول منهما: إن كان قبل أن يعلم أن ذلك يكون، فلما علم بإعلام الله له، إذ لا ينطق عن الهوى أن ذلك يكون، قال: «الشؤم في الدار والمرأة والفرس» وفسر مالك الشؤم بما قد فسره به مما يصيب ساكن بعض الدور في أغلب الأحوال، من الهلاك وشبهه

(17/275)


ومعناه، بعادة أجراها الله من غير أن يكون للدار في ذلك تأثير، أو عدوى، وقد ذهب بعض الناس إلى أن حديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في «الشؤم في الدار والمرأة والفرس» يعارضه ما جاء عنه من أنه قال: «لا عدوى ولا طيرة» . وضعف حديث الشؤم لما روي من «أن عائشة أنكرت على أبي هريرة حديثه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: الطيرة في المرأة والدار والدابة، وأقسمت أنه ما قاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قط. وإنما كان أهل الجاهلية يقولونه. ثم قرأت {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] » ومنهم من صحح الحديث وتأوله على أن معنى الشؤم في الدار، سوء الجوار، وفي المرأة سوء خلقها. والذي أقول به: إنه لا تعارض بين الحديثين؛ لأن المعنى الذي أوجبه في أحدهما غير المعنى الذي نفاه في الأخرى. نفى في الحديث الواحد أن يكون لشيء من الأشياء عدوى في شيء من الأشياء أو تأثير فيه بقوله: «لا عدوى ولا طيرة» ، إذ لا فاعل في الحديث سوى الله عز وجل. وأعلم في الحديث الأخر أنه قد يوجد الشؤم في الدار والمرأة والفرس، وهو تكرر الأذى على ساكن بعض الدور، أو نكاح بعض النساء، أو اتخاذ بعض الخيل بقضاء الله وقدره السابق على ما أخبر به في كتابه حيث يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} [الحديد: 22] .... الآية. وفي الفرس ركوبه فيما لا ينبغي ركوبه فيه، لا بعدوى في شيء من ذلك إلى شيء ولا تأثير له فيه، فلم ينف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقوله «لا عدوى» وجود ما هو موجود مما يعتدي، وإنما بقي أن يكون شيء من الأشياء يعدي على ما يعتقده أهل الجاهلية والجهالة بالله. ألا ترى إلى

(17/276)


ما جاء في الحديث الصحيح من قوله: «لا عدوى ولا هام ولا صفر، ولا يحل الممرض على المصح وليحلل المصح حيث شاء، قالوا: يا رسول الله وما ذاك؟ فقال رسول الله: إنه أذى» فنفى أن يكون لشيء عدوى، ونهى أن يحل الممرض على المصح؛ لأنه أذى، أي لأنه قد يتأذى بذلك على ما هو موجود من جري العادة في ذلك، من فعل الله وقدره السابق. ويبين هذا الذي ذكرناه، حديث أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا عدوى ولا هامة ولا صفر ". فقام أعرابي فقال يا رسول الله: إن الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيرد عليها البعير الجرب فتجرب كلها. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فمن أعدى الأول؟» وبالله التوفيق.

[تفسير حديث النبي عليه السلام اعلفه نضاحك]
في تفسير النضاح في الحديث وسئل مالك عن تفسير حديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اعلفه نضاحك» " قال: رقيقك؛ لأن النضاح عندهم الرقيق. ويكون من الإبل. ولكن تفسيره الرقيق.
قال محمد بن رشد: حديث النبي عليه السلام الذي جاء فيه «اعلفه نضاحك» هو حديث مالك في موطئه عن ابن شهاب «عن ابن محيصة الأنصاري أحد بني حارثة، أنه استأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إجارة الحجام فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى قال " اعلفة نضاحك» يعني رقيقك. وهو كما قال - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أن النضاح الرقيق.

(17/277)


وقد يكون من الإبل، والأظهر في الحديث أنه أراد النضاح فيه من الإبل؛ لأنه حال فيه اعلفه، ولم يقل أطعمه؛ لأن العلف إنما يستعمل في البهائم، لا في بني آدم. ويبين هذا قوله في غير هذا الحديث: «اعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك» . ولم ينه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن إجارة الحجام، من أجل أنها حرام، وإن كان قد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في كسب الحجام، أنه سحت. وروي عنه أنه قال: «السحت كسب الحجام» . وأنه قال فيه: " إنه خبيث " إذ لو كان حراما أو سحتا أو خبيثا لما جاز أن يطعمه رقيقه. وإنما المعنى فيه أنه من الكسب الذي يستحب لذوي الفضل والأقدار أن يتنزهوا عنه. فإن كان ولا بد فلا يأكلوه ويطعموه رقيقهم، كما جاء في الحديث، وقد قال مالك: لا بأس بإجارة الحجام. واحتج في ذلك بأن قال: كل ما يحل للعبيد أكله يحل للأحرار، وبالله التوفيق.

[تفسير قوله عليه السلام في الحديث انجو عليها بنقيها]
في تفسير قوله في الحديث «انجو عليها بنقيها» وسئل مالك عن تفسير قوله: انجو عليها بنقيها قال: نقيها شحومها وأنفسها. أما تسمع أنه يقال: لا تنقي فهو النقي.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن النقي الشحم والقوة في

(17/278)


النفس، والحديث الذي جاء هذا فيه. هو حديث مالك الذي رواه في موطئه عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن خالد بن معدان يرفعه: «إن الله تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق ويرضى به، ويعين عليه ما لا يعين على العنف، فإذا ركبتم هذه الدواب العجم فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض جدبة فانجو عليها بنقيها، وعليكم بسير الليل، فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطريق، فإنها طرق الدواب، ومأوى الحيات» وقوله في الحديث «ويعين عليه ما لا يعين على العنف» والعنف لا يحبه الله ولا يرضى به. والمعنى فيه إن الله يعطي صاحب الرفق من بلوغ حاجته التي يستعين بها على أمور دينه ودنياه، ما لا يعطي لصاحب العنف، يريد بهذا التأويل قوله في الحديث: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى» . وسائر ما في الحديث أدب أرشد النبي عليه السلام إليه المسافر، من أن ينزل الدواب منازلها في الخصب لترعى فيه، وتقوى على المسير، ويسرع السير عليها في الجدب قبل أن تضعف، فلا تقدر على السير. وحض على السير بالليل؛ لأن الدواب إذا استراحت بالنهار نشطت على المشي بالليل، وكان أخف عليها من المشي بالنهار، فقطعت فيه من المسافة ما لا تقطع في قدره من النهار. فهذا هو معنى قوله: «فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار» . إذ لا تطوى على الحقيقة لا في الليل ولا في النهار إلا للأنبياء معجزة وللأولياء كرامة.

(17/279)


[ما جاء في قول الرجل هلك الناس]
فيما جاء في قول الرجل هلك الناس وسئل مالك عن تفسير: «إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم» قال: ما أرى ذلك فيما أرى، والله أعلم، إلا أن يقول: هلك الناس، أي إني خير منهم. قال: وأما إذا قال هلك الناس تحزنا عليهم فلا بأس.
قال محمد بن رشد: الحديث الذي جاء هذا فيه وسئل مالك عن تفسيره هو حديث أبي هريرة في جامع الموطأ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم» وتفسير مالك صحيح لا اختلاف أعلمه في أن معنى الحديث، إذا قال ذلك إعجابا بنفسه، واحتقارا للناس. وأما إذا قاله إشفاقا على من بقي، لقلة الخير فيهم، وتحزنا على من مضى لكثرته فيهم، فليس ممن جاء الحديث فيه، والله أعلم. وقد قال مسلم بن يسار: إذا لبست ثوبا فظننت أنك فيه أفضل منك في غيره، فليس الثوب هو لك. قال مسلم: وكفى بالمرء من الشر أن يرى أنه أفضل من أخيه.

[خشية عمر بن عبد العزيز]
في خشية عمر بن عبد العزيز قال مالك: صلى بالناس عمر بن عبد العزيز المكتوبة، فقرأ بهم: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] فلما بلغ: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]

(17/280)


خنقته العبرة فلم يستطع أن يجاوز ذلك ثم أعادها فلما بلغ ذلك الموضع أيضا خنقته العبرة، فتركها. ثم قرأ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] .
قال محمد بن رشد: هذا من فعل عمر بن عبد العزيز نهاية في الخوف لله. ومن بلغ هذا الحد فهو من أهل الجنة بفضل الله. قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] . وقد روى الصلت عن ابن القاسم أنه قال: لا يطلق على من حلف بالطلاق، وأن عمر بن عبد العزيز من أهل الجنة. وسئل مالك عن ذلك فتوقف، وقال: عمر بن عبد العزيز إمام هدى أو قال رجل صالح، وفضائله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أكثر من أن تحصى. وقول ابن القاسم بالصواب أولى لأن الأمة قد اجتمعت على الثناء عليه، والشهادة له بالخير وهي معصومة. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «لن تجتمع أمتي على ضلالة» ، وقال: «أنتم شهداء الله في الأرض، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار» . وقد مضى هذا في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة.

[ما يلزم من بر الأب]
ما جاء فيما يلزم من بر الأب وسئل مالك عن الرجل يكتب اسمه قبل اسم أبيه فقال: هذا الضلال، والنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «كبر كبر» .

(17/281)


قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن للأب عليه حق السن الذي أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يقدم بسببه. وحق الأبوة الذي هو أكبر من حق السن. قال الله عز وجل: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] وقال: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» . ولما جاء من أنه ما بر أبويه من شد النظر إليهما أو إلى أحدهما. وبالله التوفيق.

[وضع المرأة جلبابها عند زوج ابنتها]
في وضع المرأة جلبابها عند زوج
ابنتها وسئل مالك عن الرجل أتضع أم امرأته عنده وهي قاعدة جلبابها؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الله يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] الآية. فأباح عز وجل أن تضع خمارها عن جيبها وتبدي زينتها عند ذوي محارمها من النسب والصهر، زوج ابنتها من ذوي محارمها، فجاز أن تضع عنده جلبابها، وقد كره مالك في رسم حلف في كتاب النكاح أن يسافر الرجل بامرأة أبيه، بعد أن يفارقها أبوه استحسانا، بعد أن استدل بقوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]

(17/282)


الآية. على جواز ذلك. وكره ذلك ابن القاسم فارقها أو لم يفارقها، لاحتمال أن يكون أراد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقوله: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع محرم من ذوي محارمها» من النسب دون الصهر. وقد نص الله في هذه المسألة على ذوي محارمها من النسب والصهر بقوله: {آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] فوضع جلبابها عنده أبين في الجواز من سفرها معه. وبالله تعالى التوفيق.

[صلاة الرجل في بيته بزوجته]
في صلاة الرجل في بيته بزوجته وسئل مالك عن الرجل يصلي في بيته المكتوبة، أيصليها بزوجته وحدها؟ قال: نعم. وتكون وراءه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن للرجل أن يصلي بزوجته وحدها وتكون وراءه صحيح مما اجتمع عليه العلماء، ولم يختلفوا فيه؛ لأن سنة النساء في الصلاة أن يكن خلف الرجال وخلف الإمام، لا في صف واحد معه ولا معهم، واحدة كانت أو اثنتين أو جماعة، وإنما الكلام في الرجل أو الرجلين إذا كانا مع الإمام، على ما مضى القول فيه في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله تعالى التوفيق.

[يقين يعقوب عليه السلام برؤيا ابنه يوسف]
في يقين يعقوب برؤيا ابنه يوسف وسمعته يقول: كان يعقوب يقول في غمراته التي كان فيها: فأين رؤيا يوسف؟ يقينا بما أراه الله.
قال محمد بن رشد: معنى هذا أنه كان يقول في غمراته التي

(17/283)


كانت تعتريه من شدة وجده على يوسف، لما كان يوسف منه، فأين رؤيا يوسف؟ يقينا بأنها ستخرج على ما تأولها عليه، وذلك أن يوسف لما قال له: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] تأول أن إخوة يوسف، وكانوا أحد عشر رجلا، وأبويه سيسجدون له، أعلمه الله بذلك، فقال: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] يقول: يحسدونك ظنا منهم، فكان حقا، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5] أي بين العداوة. ثم قال له: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] أي يصطفيك ربك، وهو الإخبار بالنبوءة. وهو شيء أعلمه الله يعقوب، أنه سيعطي يوسف النبوءة. وقوله {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] قيل: تعبير الرؤيا، وقيل: عواقب الأمور التي لا تعلم إلا بوحي النبوءة. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف: 6] بالنبوءة {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} [يوسف: 6] . أعلمه أنه سيعطي أولاد يعقوب النبوءة كلهم.

[ما يخشى على محتكر الطعام من فساد نيته]
فيما يخشى على محتكر الطعام من
فساد نيته قال: وسمعت رجلا كان عنده طعام كثير، فغلا الطعام، فأتى الناس يغبطونه بذلك، قال: فإني أشهدكم أنه للناس بما أخذته. وقال: أبجوع الناس تغبطوني.
قال محمد بن رشد: في قوله: هو للناس بما أخذته، دليل على أنه اشتراه للحكرة، ولم يصبه من حرثه. ومعنى ذلك أنه اشتراه في وقت لا يضر شراؤه بالناس، إذ لو اشتراه في وقت يضر شراؤه بالناس، لكان ما فعل من إعطائه لهم بما اشتراه به، هو الواجب عليه، إذ لا اختلاف في أنه لا يجوز احتكار شيء من الأطعمة في وقت يضر احتكاره بالناس، وأما

(17/284)


احتكارها في وقت لا يضر احتكارها فيه بالناس، ففيه أربعة أقوال، أحدها: إجازة احتكارها كلها: القمح والشعير وسائر الأطعمة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: المنع من احتكارها كلها جملة من غير تفصيل، للآثار الواردة في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وغيره، فقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا يحتكر إلا خاطئ» وهو مذهب مطرف وابن الماجشون. والثالث: إجازة احتكارها كلها ما عدا القمح والشعير، وهو دليل رواية أشهب عن مالك في رسم البيوع الأول من كتاب جامع البيوع. والرابع: المنع من احتكارها كلها، ما عدا الأدم والفواكه، والسمن، والعسل والتين، والزبيب وشبه ذلك. وقد قال ابن أبي زيد فيما ذهب إليه مطرف وابن الماجشون من أنه لا يجوز احتكار شيء من الأطعمة: معناه في المدينة، إذ لا يكون الاحتكار أبدا إلا مضرا بأهلها، لقلة الطعام بها، فعلى قوله، هم متفقون على أن علة المنع من الاحتكار تغلية الأسعار، وإنما اختلفوا في جوازه لاختلافهم باجتهادهم في وجود العلة وعدمها. ولا اختلاف بينهم في أن ما عدا الأطعمة من العصفر والكتان والحنا وشبهها من السلع يجوز احتكارها إذا لم يضر ذلك بالناس.

[الدعاء في حوائج الدنيا]
في استحباب الدعاء في حوائج الدنيا
قال: وحدثني يحيى بن سعيد أنه كان بإفريقية، قال: فأردت حاجة من حوائج الدنيا، قال: فدعوت فيها ورغبت ونصبت واجتهدت، قال: ثم ندمت بعد ذلك، فقلت: لو كان دعائي هذا في حاجة من حوائج آخرتي، قال: فشكوت ذلك إلى رجل كنت أجالسه فقال لي: فلا تكره ذلك. فإن الله قد بارك

(17/285)


لعبد في حاجة أذن له فيها بالدعاء. قال مالك: بينما عروة بن الزبير في المسجد، إذا برجل يصلي، ثم انصرف ولم يدع كثيرا. قال: فدعاه عروة بن الزبير فقال له: أما كانت لك حاجة إلى الله؟ والله إني لأدعو في حوائجي حتى في الملح، وقد بلغني أنه ما من داع يدعو إلا كان على إحدى ثلاث: إما أن يعطى الدعوة التي دعاها، أو يدخر له، أو يصرف عنه بها.
قال محمد بن رشد: قوله في الحكاية الأولى: فإن الله قد بارك لعبد في حاجة أذن له فيها بالدعاء. معناه قد بارك له في حاجة وفقه فيها للدعاء، إذ هو مأذون له في الدعاء في جميع حوائجه؛ لأن الدعاء عبادة من العبادات يؤجر عليها الأجر العظيم، أجيبت دعوته فيما دعا به أو لم تجب. لأنه لا يدعو ويجتهد في الدعاء إلا بإيمان صحيح، ونية خالصة. ولن يضيع له ذلك عند الله تعالى، فإن الله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] فهذا وجه بركة تلك الحاجة عليه إن كانت سببا لانتفاعه بدعائه في أخراه، وإن حرم المنفعة به في دنياه؛ لأن الذي أعطي خير من الذي حرم. وليس فيما جاء في الحديث من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، وإما أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه» . ما يدل على أنه لا يدخر له ولا يكفر عنه إذا استجيب له. لأن المعنى فيه إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، وإما أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه مع الاستجابة له. والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.

(17/286)


[حسن الأدب مع السائل الجاهل]
في حسن الأدب مع السائل الجاهل قال: وسمعته يقول جاء رجل بدوي إلى القاسم فقال له: أنت أفقه أم سالم؟ فقال له: ها أنذا وذاك سالم، فإن تأته لم يخبرك إلا بما أحاط به علما.
قال محمد بن رشد: لما سأله عما يكره الجواب فيه بما يعتقده في نفسه، من أنه أفقه من سالم، عدل له عن الجواب عما سأله عنه إلى الثناء على سالم بما يعتقده فيه من محاسن الأخلاق.

[اقتناء الكلاب]
فيما جاء في اقتناء الكلاب
قال محمد بن أحمد العتبي: وحدثني سحنون بن سعيد، عن ابن القاسم، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان» .
قال محمد بن رشد: القيراط مثل جبل أحد على ما جاء في حديث ثواب المصلي على الجنازة، فالمقدار الذي يكون للمصلي على الجنازة من الأجر، هو المقدار الذي يحط كل يوم من أجر مقتني الكلب لغير ماشية ولغير صيد. وهو عدد ما في جبل أحد من مثاقيل الذر؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] . فإذا كان من يعمل من

(17/287)


الخير والشر مثقال ذرة يراه، فالذي يعمل مثقال القيراط من الخير والشر. يكون له من الخير وعليه من الشر زنة جبل أحد من مثاقيل الذر، ولا يعلم قدر ذلك من الثواب أو الإثم الذي يستحق عليه العقاب، إلا أن يغفر الله له، إلا يوم الجزاء والحساب؛ لأن الثواب ليس بجسم، يعبر بالوزن، وإنما هو تمثيل وتشبيه. وقد يمثل ما يعقل مما لا يوزن، ليفهم معناه ويعلم. فعقلنا بهذا الحديث أنه ينتقص من أجر مقتني الكلاب لغير ماشية ولا صيد كل يوم من الثواب، عدد ما في جبل أحد من المقدار الذي تفضل الله به على من عمل أدنى يسير من الخير. وهو مقدار الذرة. وفي قوله في الحديث: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية» دليل على أنه يجوز اقتناء كلب الصيد وكلب الماشية. والاقتناء لا يكون إلا بالاشتراء. ففيه دليل على جواز بيع كلب الماشية والصيد، وهو قول ابن نافع وابن كنانة وسحنون وأكثر أهل العلم، والصحيح في النظر؛ لأنه إذا جاز الانتفاع به، وجب أن يجوز بيعه، وإن لم يحل أكله، كالحمار الأهلي الذي لا يجوز أكله، ويجوز بيعه لما جاز الانتفاع به. وهو دليل هذا الحديث، على ما ذكرناه، خلاف ما قاله ابن القاسم، ورواه عن مالك، من أنه لا يجوز بيع كلب ماشية ولا صيد، كما لا يجوز بيع ما سواها من الكلاب، لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن ثمن الكلب عموما.
وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع، وبالله تعالى التوفيق.

[قول النبي عليه السلام في غفار وأسلم وعصية]
قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في غفار
وأسلم وعصية وحدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، عن عبد الرحمن بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(17/288)


قال: «غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله» .
قال محمد بن رشد: إنما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عصية إنها عصت الله ورسوله، لما كان من غدرهم بأهل بير معونة، وذلك أن رعل وذكوان وعصية وبني لحيان، على ما في الصحيح «استمدوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عدو فأمدهم بسبعين من الأنصار، كانوا يسمون بالقراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنقار ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببير معونة قتلوهم وغدروا بهم. فبلغ النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان. قال أنس راوي الحديث: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع: بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. وأما أسلم، فإنما قال فيها: سالمها الله. لما روي عن أبي هريرة أسلم ومعه سبعون راكبا من أهل بيته. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الحمد لله إذ أسلمت بنو سهم طائعين غير مكرهين، ودعا لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فقال: أسلم سالمها الله» . وذلك إن إسلامهم كان سالما من غير حرب. وإما غفار فإنما خصهم بالدعاء والمغفرة - والله أعلم- لمبادرتهم إلى الإسلام، وقد أسلم أبو ذر في أول أيام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بمكة، غير ظاهر، وفي قصة إسلامه أنه قال: «أتيت رسول الله فأسلمت، فرأيت الاستبشار في وجهه، فقال: من أنت؟ فقلت: أنا جندب رجل من غفار، فكأنه ارتدع وود أني كنت من غير قبيلتي.» وذلك لما كانوا يقرفون به من الشر. وكانوا يستحلون

(17/289)


الشهر الحرام في الجاهلية، ويسرقون الحجيج، ويشبه والله أعلم أن يكون " إنما دعا لهم بالمغفرة ليمحو تلك السيئة ويزيلها عنهم، ثم حسن بلاء هاتين القبيلتين في الإسلام. ويقال كان مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أسلم يوم حنين أربعمائة فارس. ومن غفار مثل ذلك، ذكر ذلك الخطابي. وبالله التوفيق.

[التبرك بما لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم]
في التبرك بما لبسه رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مالك: حدثني يحيى بن سعيد، «أن النبي عليه السلام لبس بردة من صوف. قال فلبسها ونزع خلق ثوب كان عليه، قال فجاءه رجل فقال يا رسول الله اكسني إياه، قال: فأعطاه إياه، وأخذ خلق ثوبه، فكره الناس ما صنعه الرجل، فعاتبوه في ذلك، فقال: أما إني لم أسأله إياه أن ألبسه، ولكني أردت أن أجعله كفنا لي» .
قال محمد بن رشد: في هذا ما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من السخاء وبذل المال، والإيثار به عن نفسه، وترك رد من يسأله خائبا. وبالله التوفيق.

[الربا بين العبد وسيده]
في الربا بين العبد وسيده قال مالك: ولا أحب للسيد أن يكون بينه وبين عبده ربا؛ لأنه لو كان عليه أين كان يحاص سيده بما أربا؟ ولو أعتقه تبعه ماله، فلا أحب أن يكون بينه وبين عبده ربا.
قال محمد بن رشد: كره مالك الربا بين العبد وسيده، ولم يحرمه فقال: لا أحب للسيد أن يكون بينه وبين عبده ربا، وان كان العبد يملك على مذهبه ما ملكه سيده أو ملكه غيره بوجه جائز، من أجل أن ملكه لماله غير مستقر، إذ لسيده أن ينزعه منه، فلما كان له أن ينتزع ماله بغير رضاه، لم يحرم عليه أن يأخذ منه ما أربى معه فيه، إلا أنه كره ذلك، إذ لم

(17/290)


يأخذه بوجه الانتزاع، وإنما أخذه باسم الربا، فكره ذلك لذلك، ولما ذكره في الرواية. من أن الربا يثبت له عليه فيحاص به غرماءه إن كان عليه دين. ومراعاة للخلاف في ملك العبد أيضا، إذ من أهل العلم من يقول: إنه لا يملك، وإن ماله لسيده، ويجب عليه زكاته، ولا يجوز للعبد أن يتصرف فيه، وهو مذهب الشافعي. وأبي حنيفة، القولين وجه، وقول مالك أظهر؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ولا يوصف بالفقر والغنى من لا يملك، فربا السيد مع عبده من المشتبهات التي من تركها أجر، ومن فعلها لم يأثم، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الحلال والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن أتقى المشتبهات استبرا لدينه» وكذلك الربا مع الحربي في دار الحرب مكروه، وليس بحرام؛ لأنه لما جاز له أن يأخذ من ماله ما لم يؤتمن عليه لم يحرم عليه أن يربي معه فيه، وكره من أجل أنه لم يأخذه على الوجه الذي أبيح له أخذ ماله، وإنما أخذه بما عامله عليه من الربا. وبالله تعالى التوفيق.

[الحديث الذي جاء من أنه ما مات نبي حتى يؤمه رجل من قومه]
في الحديث الذي جاء من أنه «ما مات نبي
حتى يؤمه رجل من قومه» قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما مات نبي حتى يصلي وراء رجل من قومه» .
قال محمد بن رشد: قد روى مالك هذا الحديث عن ربيعة، فصحح «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذ خرج في مرضه الذي توفي منه وأبو بكر يصلي بالناس، صلى خلفه جالسا، ولم يخرج أبو بكر» عن الإمامة، فلم يجز للإمام

(17/291)


أن يؤم جالسا بالأصحاء قياما. وقد تعارضت الآثار في ذلك، فجاء في بعضها ما دل على «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما خرج في مرضه وأبو بكر يصلي بالناس، فتأخر أبو بكر عن الإمامة وتقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بالناس بقية صلاتهم وهو جالس، والقوم خلفه قياما» . وجاء في بعضها ما دل على أن أبا بكر لم يتأخر عن الإمامة وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما صلى مؤتما بأبي بكر. فمن الناس من صحح ما دل منها أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كان الإمام. ومعنى ذلك أنه أحرم خلفه، ثم أتم بالناس بقية صلاتهم، وصار أبو بكر مؤتما به فيها، إذ لا يصح أن يحرم بعد أن خرج أبو بكر عن الإمامة؛ لأنه لا يكون قد أحرم قبل بالناس، ولا يصح أن يحرم الإمام قبل القوم، ورأى ذلك شرعا شرعه لأمته، ولم ينسخه عنهم، ولا اختص به دونهم، فأجاز إمامة المريض جالسا، بالأصحاء قياما. وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك. ومنهم من صحح منها ما دل أيضا أنه كان الإمام، إلا أنه رأى ذلك من خواصه، فلم يجز لأحد بعده إذا كان مريضا أن يؤم بالأصحاء قياسا. وهو المشهور من قول مالك وقول أصحابه. ومنهم من ذهب إلى أن ذلك كان منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاتين، فكان في الصلاة الأولى هو الإمام، وائتم في الثانية بأبي بكر، فكان فعله في الصلاة الثانية ناسخا لفعله في الصلاة الأولى، والتأويلان قائمان لمالك في رواية ابن القاسم عنه في رسم سن من سماعه من كتاب الصلاة. وعلى هذا التأويل تتخلص الآثار من التعارض، فهو أولاها بالصواب. وقد زدنا هذه المسألة بيانا في رسم سن المذكور من هذا السماع، من كتاب الصلاة. وبالله تعالى التوفيق.

[القنوت في الصلاة]
في القنوت في الصلاة قال: وما يعجبني القنوت إلا في الصبح، ولا أرى القنوت في آخر رمضان ولا في أوله.
قال محمد بن رشد: قوله: ما يعجبني القنوت إلا في الصبح يدل

(17/292)


على أنه عنده مستحب، وليس بسنة. وهو مذهبه في المدونة لأنه قال فيها: لا سجود سهو على من نسيه. وقال فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى: القنوت في الفجر سنة ماضية، فعلى قوله من نسيها سجد لسهوه. وروى زياد عن مالك أنه يسجد للسهو عنه قبل السلام من ألزمه نفسه، ولا يسجد من لم يلزمه نفسه. معناه يسجد من اعتقد فيه أنه سنة. وقال يحيى بن يحيى: لو كنت ممن يقنت ثم نسيته لسجدت. وقوله: ولا أرى القنوت في آخر رمضان ولا في أوله مثله في كتاب الصيام من المدونة إنه لا يقنت في الوتر أصلا، لا في أول رمضان ولا في آخره، ولا فيما سواه. وهو المشهور عنه-. وقد اختلف قوله في ذلك. فروى علي بن زياد عنه أنه لا يقنت في الوتر إلا في النصف الآخر في رمضان. وروى ابن نافع عنه الروايتين جميعا. وقال في المدونة: ليس العمل على ما جاء من لعن الكفرة في رمضان. يريد- والله أعلم- لما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينما هو يدعو على مضر إذ جاءه جبريل فأومأ إليه أن اسكت، فسكت فقال: يا محمد إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابا {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] . ثم علمه القنوت» . وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا فمن أهل العلم من رأى القنوت في الوتر في رمضان كله، ومنهم من رآه في النصف الآخر منه وهو الأكثر، ومنهم من رآه في النصف الأول، ومنهم من رأى لعن الكفرة فيه على ما في الموطأ عن الأعرج أنه قال: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. وقد سئل في رواية محمد بن يحيى السيابي كيف كان ذلك؟ فقال: كان يدعو في النصف الآخر من رمضان في الوتر على الكفرة ويلعنهم، ويستنصر للمسلمين يجهر بذلك. وأول من قطعه زياد بن عبد الله وحين قطعه- والله أعلم- قال الأعرج: ما

(17/293)


أدركت الناس وقد أدرك جماعة من الصحابة إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان، إنكارا عليه، واستحسنه مالك في رواية محمد بن يحيى عنه. وقال: لم يكن في الزمن الأول زمن أبي بكر وعمر وعثمان، وقال ابن القاسم: كان مالك بعد ذلك ينكره إنكارا شديدا، وبالله تعالى التوفيق.

[العلم بكثرة الرواية]
في أن العلم ليس في كثرة الرواية قال: وسمعته يقول: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يضعه الله في القلوب.
قال محمد بن رشد: النور الذي يضعه الله في القلوب، هو الفهم الذي به تستبين المعاني فيتفقه فيما حمل، فشبه ذلك بالنور وهو الضياء الذي به ينكشف الظلام، فمن لم يكن معه ذلك النور، فهو بمنزلة الحمار فيما حمل من كثرة الروايات يحمل أسفارا. فمن أراد الله به خيرا أعطاه من ذلك النور. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» . وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] قال مالك: هو الفقه في دين الله. وقد أثنى الله عز وجل على من آتاه الفهم، فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] . والحكم الفهم والفقه، والله أعلم، وبه تعالى التوفيق.

(17/294)


[ما جاء من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة]
ما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
طاف على نسائه في ليلة واحدة فاغتسل
من كل واحدة منهن وحدثني مالك عن رجل من آل أبي رافع «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على نسائه ليلة من ذلك، فأصابهن، فاغتسل من كل طوفة غسلا، كلما فرغ من واحدة اغتسل. فقال له الذي يحمل له الماء: لو أخرت ذلك يا رسول الله. قال: هذا أطهر» . ولا أعلم إلا أن أبا رافع الذي كان يحمل له الماء.
قال محمد بن رشد: قوله: هذا أطهر، دليل على أنه كان له الغسل إلى آخرهن. ومعنى ذلك- والله أعلم- أنه فعله عند قدومه من سفره، ثم استأنف القسم لهن، أو بإذن التي كان في ليلتها؛ لأن من عدل الرجل بين نسائه، أن لا يطأ المرأة في يوم الأخرى. وكذلك قال مالك في موطئه: لا بأس أن يطأ الرجل جاريته قبل أن يغتسل، فأما النساء الحرائر فإنه يكره أن يصيب الرجل المرأة في يوم الأخرى. وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر في الجنب إذا أراد أن يعود توضأ وضوءه للصلاة، وإنما يؤمر بالوضوء عندهما - والله أعلم- رجاء أن ينشط فيغتسل كالجنب إذا أراد أن ينام. وقال أحمد بن حنبل: إن توضأ فهو أعجب إلي، وإن لم يفعل فأرجو ألا يكون به بأس. وكذلك قال إسحاق إلا أنه قال: لا بد من غسل الفرج إن أراد أن يعود. وليس لذلك وجه ظاهر، وبالله التوفيق.

(17/295)


[الرعي في الحرم]
في الرعي في الحرم وقال مالك حين «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى فدك رأى رجلا يرعى قال: " هشوا أو رعوا» .
قال محمد بن رشد: معناه في الحرم، والهش أن يضع المحجن في الغصن، فينفضه فيسقط منه، فترعاه الغنم. ولا يعضد ولا يكسر والعضد الكسر. وهذا في المدونة، وبالله التوفيق.

[حكم الأكل متكئا]
في أن من التواضع ترك الأكل متكئا وحدثني ابن القاسم عن مالك «أن ملكا خير نبي الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: أنبي ملك أم نبي عبد؟ فأشار إليه جبريل أن تواضع فقال: بل نبي عبد. فما رئي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يأكل متكئا حتى لقي الله» .
قال محمد بن رشد: فالأكل متكئا مكروه؛ لأنه من الكبر وقد كره مالك أن يأكل الرجل متكئا وواضعا يده اليسرى بالأرض؛ لأنه رآه من ناحية الاتكاء.
وقد مضى هذا في الرسم الذي قبل هذا.

[كراهية القصص]
في كراهية القصص وقال استبطأ القاسم بن محمد ابنه عبد الرحمن ليلة في الانقلاب فقال: ما حبسك يا بني؟ فقال: مررت بقوم يذكرون الله فجلست معهم، فقال: هذا حسن ولا تعد. قال: وسمعت مالكا يقول: سمعت أن سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وخارجة بن

(17/296)


زيد كانوا لا يجلسون إلى قاص الجماعة.
قال محمد بن رشد: القصص مكروه، وروي عن يحيى بن يحيى أنه قال: خرج معنا فتى من طرابلس، فكنا لا ننزل منزلا إلا وعظنا فيه، حتى بلغنا المدينة، فكنا نعجب بذلك منه، فلما أتينا المدينة إذا هو قد أراد أن يفعل بهم ما كان يفعل بنا، فرأيته في سماط أصحاب السقط، وهو قائم يحدثهم، وقد لهوا عنه، والصبيان يحصبونه ويقولون له: اسكت يا جاهل، فوقفت معجبا لما رأيت، فدخلنا على مالك فكان أول شيء سألناه عنه بعد ما سلمنا عليه ما رأينا من الفتى، فقال مالك: أصاب الرجال إذ لهوا عنه، وأصاب الصبيان إذ ذكروا عليه باطله، قال يحيى: وسمعت مالكا يكره القصص فقيل له: يا أبا محمد، فإذ تكره مثل هذا فعلى ما كان يجتمع من مضى؟ فقال على الفقه. وكان يأمرهم وينهاهم. وبالله التوفيق.

[فضل الرباط والجهاد]
في الرغبة في الرباط والجهاد وقال: عوتب أبو أيوب صاحب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الغيبة عن أهله، فقال: إني أحب أن أبعث من هذه الجزيرة، وكان قد لحق بغزو الجزائر.
قال محمد بن رشد: أبو أيوب الأنصاري من أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، اسمه خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة من بني النجار شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وشهد مع علي حروبه، وكان يلازم الرباط والجهاد، ولا يتخلف عن الغزو في كل عام، فلما ولى معاوية يزيد على الجيش إلى القسطنطينية جعل أبو أيوب يقول: وما علينا إن أمر علينا شاب فغزا تحت رايته قسطنطينة، فمات بها. وقد مضى خبره في ذلك في أول رسم من السماع.

(17/297)


وفضائل الجهاد والرباط أكثر من أن تحصى من ذلك قَوْله تَعَالَى في الجهاد: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 111] الآية وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ} [الصف: 10] الآية وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] ومن أحبه الله أمنه من عذابه وأكرمه بجواره في الجنة التي أعدها لأوليائه. «وسئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ فقال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله» وقال: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع، فقال الرجل: لو قمت الليل وصمت النهار ما بلغت نوم المجاهد» . «وقال لرجل له ستة آلاف دينار لو أنفقتها في طاعة الله، ما بلغت غبار شراك نعل المجاهد.» ومن ذلك قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الرباط: «رباط ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقوم ليلها لا يفتر ويصوم نهارا لا يفطر» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من رابط فواق ناقة، حرمه الله على النار» .
الرباط هو أن يخرج من منزله إلى ثغر يقيم فيه لحراسة ذلك الثغر

(17/298)


ممن يجاوره. وليس من سكن الثغر بأهله وولده مرابطا. وقد قيل فيه: إنه أفضل من الجهاد. روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: فرض الجهاد لسفك دماء المشركين، والرباط لحقن دماء المسلمين فحقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين. فقيل: إن ذلك حين دخل الجهاد ما دخل. والأظهر في تأويل ذلك أنه عند شدة الخوف على أهل ذلك الثغر، وتوقع هجوم العدو عليهم وغلبتهم إياهم على أنفسهم ونسائهم وذراريهم، إذ لا شك في أن إغاثتهم في ذلك الوقت وحراستهم مما يتوقع عليهم، أفضل من الجهاد إلى أرض العدو، فلا يصح أن يقال: إن أحدهما أفضل من صاحبه على الإطلاق، وإنما ذلك على قدر ما يرى وينزل. وذلك قائم من قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد.

[ما لا يؤخذ في صدقة الغنم]
في تفسير ما جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أنه لا يؤخذ في صدقة الغنم وقال مالك: الربا التي قد وضعت، والماخض الحامل، والأكولة شاة اللحم، وفحل الغنم التيس، والحافل ذات الضرع العظيم، وحزرات الناس، كرائم الأموال وضنائنهم. وقال: العقال القلوص من الإبل.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك للربا والماخض والأكولة وفحل الغنم، والحافل الذي جاء عن عمر بن الخطاب أنها لا تؤخذ في الصدقة في حديث سفيان الثقفي أن عمر بن الخطاب بعثه مصدقا، فكان يعد على الناس بالسخل فقالوا: أتعد علينا بالسخل ولا تأخذ منه شيئا؟ فلما قدم على

(17/299)


عمر بن الخطاب ذكر له ذلك، فقال عمر: نعم تعد عليهم بالسخلة، يحملها الراعي ولا تأخذها، ولا تأخذ الأكولة ولا الربي ولا الماخض ولا فحل الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية، وذاك عدل بين غذاء الغنم وخياره تفصيل صحيح، هو نص قوله، وتفسيره في الموطأ لذلك وتفسيره للحرزات الذي جاء عن عمر أنها لا تؤخذ في الصدقة في حديث عائشة أنها قالت: مر على عمر بن الخطاب بغنم الصدقة، فرأى فيها شاة حافلا ذات ضرع عظيم، فقال عمر بن الخطاب: ما هذه الشاة؟ فقالوا: شاة من الصدقة، فقال عمر بن الخطاب: ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون، ولا تفتنوا الناس، لا تأخذوا حزرات المسلمين نكبوا عن الطعام. تفسير صحيح أيضا لأن الحزرات مأخوذة من الحزر، وهو ما يحزر الرجل أنه خيار ماله وكريمه الذي يظن به. وأما تفسيره للعقال الذي جاء في «حديث أبي بكر الصديق من قوله: لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه حين ارتد من ارتد من العرب، ومنعوا زكاة أموالهم، فبعث لقتالهم، فقال له عمر بن الخطاب: يا أبا بكر، ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل، فقال: ألا أقاتل أقواما فرقوا بين الصلاة

(17/300)


والزكاة، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسام لقاتلتهم عليه» وقد اختلف فيه، فقيل: العقال الحبل الذي يعقل به البعير المأخوذ في الصدقة، وقيل: العقال صدقة عام. واحتج من ذهب إلى ذلك من اللغة بما روي أن معاوية استعمل ابن أخيه عمرو بن عتبة على صدقات كليب فاعتدى عليهم، فقال عمرو بن العداء الكلبي في ذلك:
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
لأصبح الحي أو بادوا ولم يجدوا ... عند التفرق في الهيجا جمالين
وقيل: العقال الفريضة المأخوذة، روي عن الأعرابي أنه قال: إذا أخذ المصدق غيرها في الماشية، قيل: أخذ عقالا. وإذا أخذ به ثمنا، قيل: أخذ نقدا، وقد روي في بعض الآثار: لو منعوني عناقا. مكان عقال، والعناق الصغير من أولاد المعز. ففيه حجة لمن يقول: إن الغنم إذا كانت صغارا كلها، يؤخذ منها. وهو قول أبي يوسف وقيل: إن فيها مسنة. وهو قول زفر. وقد قيل: لا شيء فيها. وهو مذهب محمد بن الحسن، وقد قيل في المذهب فيها قولان: أحدهما، وهو المنصوص عليه فيه: إن فيها مسنة. والثاني: إنه يؤخذ منهما قياسا على القول بأنه يؤخذ منها إذا كانت عجافا كلها أو ذوات عوار كلها. وكذلك يختلف أيضا إذا كانت أكولة كلها، أو مواخض على قولين: أحدهما إن فيها السن المأخوذ في الصدقة. ولا يأخذ منها إلا برضا ربها. وهو المنصوص عليه. والثاني: إنه يؤخذ منها قياسا على القول بأنه يؤخذ منها إن كانت صغارا كلها، أو عجافا كلها، أو ذات عوار كلها. وقد قيل: إن الخلاف لا يدخل فيها ولا في الصغار، ويلزم رب المال في الصغار أن يعطي مسنة باتفاق. ولا يجوز للساعي في المواخض والأكولة أن يأخذ منها

(17/301)


إلا برضا ربها. والصحيح دخول الاختلاف فيهما؛ لأن عمر بن الخطاب قال: وتأخذ الجذعة والثنية. وذلك عدل بين غذاء الغنم وخياره. فإذا كانت الغنم صغارا كلها، أو مواخض كلها أخذ منها، لعدم العلة التي توجب أن يأخذ الجذعة والثنية، وهي أن يكون في الغنم أرفع وأدنى فيكون السن عدلا بينهما.

[الصدقة في حب الفجل]
في الصدقة في حب الفجل وقال مالك: في حب الفجل الصدقة.
قال محمد بن رشد: قد اختلف قول مالك في الزكاة في حب القرطم فمرة قال: إن فيه الزكاة، ومرة قال: إنه لا زكاة فيه. وهو قول سحنون. وابن القاسم يرى فيه الزكاة من زيته، وقع ذلك في هذا الرسم من هذا السماع، من كتاب زكاة الحبوب. وهذا الاختلاف داخل في هذه المسألة إذ لا فرق بين حب القرطم وحب الفجل في إيجاب الزكاة فيهما لأن الزكاة إنما وجبت في كل واحد منهما عند من أوجبه، من أجل ما يخرج منه من الزيت قياسا على الزيتون. وما اجتمع الناس على إيجاب الزكاة في الزيتون، فالأظهر أنه لا زكاة في واحد منهما. وقول ابن القاسم: إن الزكاة تؤخذ من زيته إغراق في القياس، ومثله لمالك في رسم يسلف من هذا السماع، من كتاب الزكاة. وقد مضى هذا كله بما فيه زيادة بيان في الرسم المذكور من كتاب الزكاة. ولم يختلف مالك في أنه لا زكاة في حب بزر الكتان ولا في زيته. ولأصبغ في كتاب ابن المواز إن فيه الزكاة، وإنما فرق مالك بين بزر الكتان وحب القرطم في الزكاة في أحد قوليه؛ لأنه رأى أن الناس يعصرون الزيت الكثير من القرطم، ويتخذونه لذلك ولا يفعلون ذلك

(17/302)


في بزر الكتان، إذ لا فرق بينهما في القياس؛ لأن الزكاة إنما تجب في ذلك عند من أوجبها فيه، من أجل ما يخرج منه من الزيت، قياسا على الزيتون.

[ثناء ابن مسعود على معاذ بن جبل]
في ثناء ابن مسعود على معاذ بن جبل قال مالك: بلغني أن عبد الله بن مسعود كان يقول: يرحم الله معاذ بن جبل، كان أمة قانتا لله. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، إنما ذكر الله بهذا إبراهيم. قال ابن مسعود: إن الأمة التي تعلم الناس الخير، وإن القانت هو المطيع لله ورسوله.
قال محمد بن رشد: المعنى بين فيما وصف ابن مسعود معاذ بن جبل؛ لأنه من فضلاء الصحابة وعلمائهم. قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه أعلمهم بالحلال والحرام وإنه يأتي أمام العلماء يوم القيامة» وكان من السبعين الذين شهدوا العقبة من الأنصار، وشهد بدرا والمشاهد كلها. وآخى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينه وبين ابن مسعود. وقيل: بل آخى بينه وبين جعفر بن أبي طالب، وهو أحد عماله على اليمن، بعثه على الجند من اليمن واليا ومعلما. «وقال له حين بعثه: بما تقضي؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي رسوله» . وكان شابا جميلا براق الثنايا عظيم العينين، حسن الشعر، سمحا، لا يمسك، فلم يزل يدان حتى استغرق الدين ماله، فجعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغرمائه، ثم استعمله على اليمن، فقدم منه بعد موت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خلافة أبي بكر. وقد تجر في مال الله، فأصاب فيه، فأشار عليه عمر أن يتخلى عنه، فقدم به على

(17/303)


أبي بكر الصديق، فوهبه له، فلم يأخذ منه. فقال عمر: الآن حل له، ثم خرج إلى الشام، فمات بناحية الأردن في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة من الهجرة. وهو ابن اثنين وثلاثين سنة. وقيل: ابن ثمانية وعشرين سنة. ولم يولد له قط وقيل: إنه ولد له ولد، سماه عبد الرحمن، وبه كان يكنى، وبالله تعالى التوفيق.

[حكاية عن عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن عمر والقاسم بن محمد]
حكاية عن عمر بن عبد العزيز وعبد الله
ابن عمر والقاسم بن محمد وقال مالك: كان دخول زياد مولى ابن عياش على عمر بن عبد العزيز وهو مملوك، فقال: السلام عليكم، ثم قعد، فتفكر زياد فيها فلام فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال عمر: أما إني لم أنكر الأولى. قال مالك: سافر رجل مع ابن عمر، فكان يصوم، فيصب على رأسه الماء في الهواجر من شدة الحر، فيقول ابن عمر: إن عذبك الله بعد هذا إنك لشقي. قال مالك: التقى عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد. فقال له القاسم: عليك بالصبر في مواطن الصبر. قال: وعرض عليه عمر بن عبد العزيز أشياء فقال القاسم: إني امرؤ لا أرزأ أحدا شيئا.
قال محمد بن رشد: هذه حكاية كلها بينة في المعنى. فيها تواضع عمر بن عبد العزيز في أنه لم ينكر على زياد ترك تخصيصه بالسلام، وتسميته بما خصه الله به من الإمارة على العادة في ذلك. وفيه شدة خوف عبد الله بن عمر. والله تعالى يقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] . وفيها حض القاسم بن محمد لعمر بن عبد العزيز على الصبر؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 200]

(17/304)


ووعد بالثواب الجزيل عليه فقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وما فعله من رده لما عرضه عليه مع جواز الأخذ منه لعدله، فضل منه؛ لأن ذلك مما يستحب له فعله، للحديث الذي جاء: «إن خيرا لأحدكم ألا يأخذ من أحد شيئا، قالوا: ولا منك يا رسول الله؟ قال: ولا مني؛ لأنه إذا ترك ذلك فقد آثر به على نفسه غيره ممن يعطاه» .

[حكم الصلاة في الكنائس]
في صلاة الكنائس وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن نافع أن عمر بن الخطاب كان يكره الصلاة في الكنائس التي فيها الصور. قال مالك: وأنا أكره الصلاة في الكنائس لأن موضعها نجس ووطئهم بأقدامهم فيها.
قال محمد بن رشد: وقع هذا الحديث في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة ولم يذكر فيه التي فيها الصور. وفي قوله: التي فيها الصور دليل على أنه إنما كرهت الصلاة فيها إذا كانت عامرة؛ لأن العامرة هي التي تكون فيها الصور. وقد اختلف في علة كراهة الصلاة في الكنائس. فقال مالك: لنجاستها من أقدامهم وما يدخلون فيها من النجاسات. وقال ابن حبيب: لأنها بيوت متخذة للكفر بالله. وقيل: إن الصلاة تكره فيها للوجهين جميعا. فإن صلى فيها على القول بأن العلة في الكراهة إنها بيوت متخذة للكفر بالله، لم يجب عليه إعادة، بسط فيها ثوبا

(17/305)


صلى عليه أو لم يفعل. وإن صلى فيها على القول بأن العلة في الكراهة في الصلاة فيها نجاستها، لم تجب عليه إعادة إن صلى على ثوب بسطه، وإن صلى دون أن يبسط ثوبا فقيل يعيد أبدا. وهو قول ابن حبيب على أصله فيمن صلى بثوب نجس عامدا، إنه يعيد أبدا. وقيل يعيد في الوقت، إلا أن يضطر إلى النزول فيها، فلا يعيد، من أجل أن نجاستها غير متيقنة، وهو قول سحنون.
وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، وبالله تعالى التوفيق.

[موضع المقام من البيت وحدود]
في موضع المقام من البيت وحدود
الحرم ومواضع مناسك الحج قال مالك: كان المقام ملتصقا بالبيت فأخره عمر بن الخطاب إلى موضعه، وهو حدد علم الحرم ومعالمها. قال مالك: لما وقف إبراهيم على المقام، أوحى الله للجبال أن تأخري عنه، فتأخرت حتى أراه المناسك. وهو قول إبراهيم: ربنا أرنا مناسكنا.
قال محمد بن رشد: وقع هذا كله في كتاب الحج الثاني من المدونة بزيادة بيان ونص ذلك فيها: قال مالك: بلغني أن عمر ابن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة، أخر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم. وقد كان ملصقا بالبيت في عهد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وفي عهد أبي بكر، وقبل ذلك وقد كانوا قدموه في الجاهلية، مخافة أن يذهب به السيل، فلما ولي عمر أخرج أخبوطة كانت في خزانة الكعبة، قد كانوا قاسوا بها ما بين

(17/306)


موضعه وبين البيت إذ قدموه مخافة السيل فقاسه عمر، فأخرجه إلى موضعه اليوم، فهذا الذي كان في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. قال: وسار عمر في أعلام الحرم، واتبع رعاة قدماء كانوا مشيخة من مكة، كانوا يرعون في الجاهلية، حتى تتبع أنصاب الحرم فحدده، فهو الذي حدد أنصاب الحرم ونصبه. وقال مالك: وبلغني أن الله تعالى لما أراد أن يري إبراهيم مواضع المناسك، أوحى إلى الجبال أن تنحي له، فتنحت له حتى أراه مواضع المناسك. فهو قول إبراهيم في كتاب الله تعالى: (ربنا أرنا مناسكنا) وليس في التلاوة ربنا، وإنما فيها {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] مجازا، أي وأرنا مواضع مناسكنا، خرج ذلك مخرج: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي واسأل أهل القرية؛ لأن المناسك هي الأعمال التي يتقرب إلى الله بها، وينسك له في تلك المواضع من الطواف والإفاضة، والوقوف بعرفة والمزدلفة، وسائر أفعال الحج. والرواية في قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] رواية عين على ما نص عليه في الحديث. وقد قيل: إن مناسك الحج مشاعره وهي المواضع التي تفعل فيها أفعال الحج، من الطواف والسعي، والرمي والذبح. فعلى هذا القول يكون قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] على هذا الحديث رواية عين حقيقة، لا مجاز فيه. وقيل لم يرد بقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] رواية عين وإنما أراد علمنا إياها ودلنا كيف نصنع فيها. من ذهب إلى هذا بما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: قد فعلت أي ربي فأرنا مناسكنا أبرزها لنا علمنا إياها، فبعث الله عز وجل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فحج به. وقيل: المناسك في قوله عز وجل:

(17/307)


{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] المذابح، أي علمنا كيف تذبح نسائكنا.

[الرعي في الحرم]
في الرعي في الحرم قال مالك في «الذي رآه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يرعى في حرم المدينة وأرسل إليه فارسين يسوقانه سوقا رفيقا حتى يخرجاه من الحرم، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: هشوا وارعوا» . قال مالك: الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه ولا يكسر العود. فهذا الهش ولا يخبط.
قال محمد بن رشد: هذا تفسير ما تقدم قبل هذا في هذا الرسم ومثله في المدونة، وبالله التوفيق.

[مس الفرج]
في ما جاء في مس الفرج قال سحنون حدثني ابن القاسم عن مالك، عن يزيد بن عبد الملك بن المغيرة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أفضى بيده إلى فرجه ليس بينهما حجاب فقد وجب عليه الوضوء للصلاة» .
قال محمد بن رشد: وقد روي هذا المعنى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أوجه كثيرة. وروي «عن طلق بن علي أنه قال: قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاءه رجل كأنه بدوي فقال: يا رسول الله: ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ؟ فقال: وهل هو إلا بضعة منك؟» فمن

(17/308)


أهل العلم من أوجب الوضوء من مس الذكر، ومنهم من لم يوجبه، ومنهم من فرق بين العمد والنسيان، فاستعمل الآثار الواردة في ذلك، ولم يطرح منها شيئا. والأقوال الثلاثة قائمة في المذهب لمالك، روى أشهب عنه في كتاب الوضوء أنه قال: من مس ذكره انتقض وضوؤه. فظاهره في العمد والسهو، وروي عنه في كتاب الصلاة أنه سئل عن مس الذكر فقال: لا أوجبه رأيا، فروجع في ذلك فقال: يعيد ما كان في الوقت، وإلا فلا، فظاهره أيضا في العمد والسهو. وروى ابن وهب عنه في سماع سحنون من كتاب الوضوء، القول الثالث إنه لا إعادة عليه إلا أن يمسه عامدا، وإلى هذا يرجع ما في المدونة على تأويل بعض الناس، وقد تأول ما فيها على الظاهر من التفرقة بين باطن الكف وظاهره، ومن غير اعتبار يقصد، ولا وجود لذة. وهذا كله إذا مسه على غير حائل. واختلف قوله إن مسه على حائل خفيف على قولين: أحدهما: أنه لا وضوء عليه. وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه في سماع سحنون، من كتاب الوضوء، اتباعا لظاهر هذا الحديث. والثاني: أن عليه الوضوء، وهو قوله في رواية علي بن زياد، عن مالك. وأما إن كان الحائل كثيفا، فلا وضوء عليه قولا واحدا. وقد مضى هذا كله في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الوضوء لتكرر الحديث هناك.

[يصبح جنبا في رمضان]
ما جاء في الذي يصبح جنبا في رمضان وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن يزيد بن عبد الملك بن المغيرة، عن يزيد بن خصيبة، عن السائب بن يزيد، «عن عمر بن الخطاب أنه قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والله لينفض رأسه بيده فيتطاير عنه الماء من غسل الجنابة في رمضان» .

(17/309)


قال محمد بن رشد: الحديث إنما يرويه الناس عن ابن القاسم عن يزيد، عن عبد الملك، فوهم العتبي بقوله فيه: ابن القاسم عن مالك، ويزيد هذا متروك الحديث ضعيف، إلا أنه قد ثبت معناه من رواية عائشة وأم سلمه، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم» ذكر ذلك مالك في موطأه، ولا خلاف في ذلك إلا ما جاء عن أبي هريرة من أنه كان يقول من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم، وقد تبرأ من ذلك حين وقفه على عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام بإرسال مروان إياه إليه إلى أرضه بالعقيق على ما وقع من ذلك في الموطا، فقال: لا علم لي بذلك، إنما أخبرنيه مخبر، فروى عنه أنه الفضل بن عباس، وروى عنه أنه أسامة، وروى أن عبد الله بن عبد الله بن عمر

(17/310)


احتلم ليلا في رمضان فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر ثم نام قبل أن يغتسل فلم يستيقظ حتى أصبح، قال فأتيت أبا هريرة حين أصبح فاستفتيته في ذلك فقال: أفطر، فإن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بالفطر إذا أصبح جنبا، قال عبد الله بن عبد الله فجئت ابن عمر: فذكرت الذي أفتاني به أبو هريرة، فقال: قسم بالله لئن أفطرت لأوجعن مشفيك، فإن بدا لك أن تصوم يوما آخر فافعل.
وقد روي عن أبي هريرة من وجوه أنه نزع عن الفتوى بهذا.
والذي عليه جماعة الصحابة وفقهاء الأمصار: مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وعامة العلماء أن صيام من أصبح جنبا صحيح جائز لا قضاء عليه فيه، علم بجنابته قبل الفجر أو لم يعلم، وكذلك الحائض إذا طهرت من الدم قبل الفجر فاغتسلت بعده هي من أهل الصيام تصوم ولا تقضي، وقال ابن الماجشون: إنها إن طهرت قبل الفجر فقامت ولم تتوان في غسلها فلم تفرغ منه حتى طلع الفجر فليست من أهل الصيام قياسا على الصلاة، وهو قول محمد بن مسلمة، وحكى ابن عبد البر، عن ابن الماجشون: أنها إذا طهرت قبل فأخرت غسلها إلى بعد الفجر أن يومها يوم فطر لا يجزيها صيامه.
وخطأه في ذلك، احتج فيه عليه، وأراه غلطا فيما نسب من ذلك إليه، والصواب ألا فرق في هذا بين الحائض والجنب على ما ثبت عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ودل عليه قول الله عز وجل: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] الآية؛ لأن الجماع إذا كان مباحا إلى طلوع الفجر فالغسل إنما يكون بعده.
وفي ذلك بين جماعة التابعين اختلاف كثير، منهم إبراهيم النخعي

(17/311)


وعروة بن الزبير، وطاوس، وسالم بن عبد الله، والحسن، يتحصل فيه ستة أقوال أحدها، أن من أصبح جنبا فهو مفطر، والثاني: أنه يصوم ذلك اليوم ويقضيه، والثالث: أنه يستحب له القضاء، والرابع: الفرق بين أن يعلم بجنابته قبل الفجر أو لا يعلم بها إلا بعد الفجر، فإن علم بها قبل الفجر فهو مفطر، وإن علم بها بعد الفجر أتم صيامه وقضاه، والخامس: أنه إن علم بجنابته قبل الفجر أتم صيامه وقضاه، وإن لم يعلم بها إلا بعد الفجر أجزأ صيامه، والسادس: أنه إن علم بجنابته قبل الفجر استحب له القضاء، وإن لم يعلم بها إلا بعد الفجر فصيامه تام لا يؤمر فيه بالقضاء، فكذلك الحائض على مذهبهم إذا طهرت قبل الفجر فاغتسلت بعده، وبالله التوفيق.

[الإحرام على من أهدى هديه]
فيما جاء من أن الإحرام لا يجب على من أهدى
هديه فبعث به وحدثني عن عيسى، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن نافع، عن أبي نعيم القاري، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، عن أبيه «عن عائشة قالت: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بيدي، فيبعث بها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم» .
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث بيان ما كان عليه أزواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ من عملهن بأيديهن وامتهانهن في ذلك، وكذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يمتهن نفسه في عمل بيته، فربما خاط ثوبه وخصف نعله، وقد قلد هديه بيديه على ما جاء عن عائشة في غير هذا الحديث أنها فتلت قلائد هدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بيديها، ثم قلدها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بيده فلم يحرم عليها شيئا مما أحله الله حتى يخرج الهدي، وفيه أن من أهدى هديا لا يكون بتقليده وبإشعاره محرما

(17/312)


حتى يحرم، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم، وفي ذلك اختلاف بين السلف، من ذلك ما في الموطأ، عن ابن عباس من أنه قال: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي، وتابعه على ذلك جماعة سواه لحديث «جابر بن عبد الله قال: كنت عند النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ -جالسا فقد قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: أمرت ببدني الذي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا، فلبست قميصي ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي» .
فذهب قوم إلى أن الرجل إذا بعث بهديه وأقام في رحله في أهله فقلد الهدي وأشعره أنه يتجرد فيقيم كذلك حتى يحل الناس من حجهم.
وروي عن ابن سيرين أن ابن عباس بعث بهديه ثم وقع على جارية له فأتي مطرف بن الشخير في المنام فقيل له: ائت ابن عباس فمره أن يطهر فرجه فأبى أن يأتيه، فأتى الليلة الثانية، فقيل له مثل ذلك، فأبى أن يأتيه، وأتى ثالثة، وقيل له قول فيه بعض الشدة، فلما أصبح أتى ابن عباس فأخبره بذلك، فقال ابن عباس: ومم ذلك؟ فقال له: إني وقعت على فلانة بعد ما قلدت الهدي، فكتب ذلك اليوم الذي وقع عليها، فلما قدم ذلك الرجل الذي بعث معه الهدي سأله أي يوم قلدت الهدي؟ فأخبره، فإذا هو قد وقع عليها بعدما قلد الهدي، فأعتق ابن عباس جاريته تلك.

(17/313)


واختلفت الرواية في ذلك عن عبد الله بن عمر، فروى عنه نافع أنه قال: إذا فقد الرجل الهدي فقد أحرم، والمرأة كذلك، ما لم تحج فهو حرام حتى ينحر هديه، وروي عن أبي العالية أنه سمعه يقول: يقولون إذا بعث الرجل بالهدي فهو محرم، والله لو كان محرما ما كان له حل دون أن يطوف بالبيت، والله هذا أولى؛ لأنه أصح في النظر وأثبت من جهة الأثر، وإن كان نافع أثبت في ابن عمر من أبي العالية.
وهذه مسألة يتحصل فيها من أقوال العلماء أربعة أقوال.
أحدها: أنه لا يكون بالتقليد والإشعار محرما حتى يحرم، كان مع هديه أو لم يكن معه، وبعث به على أن يتبعه وهو يقيم في أهله، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه، على حديث عائشة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وما روي عنها من أنها قالت: لا يحرم إلا من أهل ولبى.
والثاني: ضد هذا القول، أنه يكون بالتقليد والإشعار محرما، كان مع الهدي أو لم يكن معه، وبعث به على أن يتبعه وهو يريد الحج، أو على ألا يتبعه ويقيم في أهله، وهو مذهب ابن عباس وجماعة سواه، على ما جاء في حديث ابن جابر.
والثالث: أنه يكون بالتقليد والإشعار محرما إذا أراد الحج، كان مع هديه أو بعث به، وهو يريد أن يتبعه وبحج، ولا يكون محرما إذا لم يرد الحج، بعث به مع من يقلده ويشعره أو قلد هو وأشعره وبعث به، وهو قول الثوري. والرابع: أنه لا يكون محرما بالتقليد إلا أن يكون مع هديه وهو يريد الحج، فإن بعث بهديه فقلد وأشعر وهو لا يريد الحج ثم بدا له أن يحج فلا يكون بخروجه محرما، حتى يدرك هديه فيأخذه ويسير به، وهو قول أبي حنيفة، ومن مذهبه لا يكون محرما إلا بالتقليد، ولا يراعى في ذلك الإشعار، وأنه إن أهدى الغنم فلا يكون بتقليدها محرما إذ لا يقلد الغنم،

(17/314)


ومن مذهبه أيضا ومذهب أبي يوسف ومحمد أنه إن بعث بهدي لمتعة ثم أقام أياما حكاما ثم خرج وقد كان قلد الهدي وأشعر، أنه لا يكون محرما بخروجه حتى يدركه ويسير به، بخلاف هدي التطوع، وفي حديث عائشة هذا ما يرد حديث «أم سلمة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: إذا دخل العشر فأراد أحدهم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا أظفاره حتى يضحي» إذ قد علم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كان لا يترك الأضحية، ولم يأخذ مالك بحديث أم سلمة وإن كان قد رواه؛ لأن حديث عائشة عنده أصح منه، وقد ترك مالك أن يحدث به، روي عن عمر أن ابن أنس سأله عنه فقال: ليس من حديثي، قال: فقلت لجلسائه قد رواه عنه شعبة وهو يقول ليس من حديثي، فقالوا لي إن لم يرد الأخذ بالحديث يقول: ليس من حديثي، وإلى ما ذهب إليه مالك من أنه لا بأس بحلق الرأس وقص الأظفار والشارب وحلق العانة من عشر ذي الحجة ذهب أبو حنيفة، واختلف قول الشافعي، فمرة قال: من أراد الضحية لم يمس في عشر ذي الحجة من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي، ومرة قال: أستحب ذلك، فإن فعل فلا بأس لحديث عائشة.
وقال الأوزاعي: إذا اشترى أضحية بعدما دخل العشر فإنه يكف عن ذلك حتى يضحي، وإن اشتراها قبل أن يدخل العشر فلا بأس.
فيتحصل في المسألة أربعة أقوال.
أحدها: أنه يجب ترك ذلك في العشر على من يضحي إذا كان واجد الضحية وإن لم يشترها بعد.
والثاني: أن ذلك لا يجب عليه إلا بشرائها في عشر ذي الحجة منذ اشتراها، وإن اشتراها قبل ذي الحجة لم يكن به بأس.
والثالث: أن ذلك يجب عليه في العشر إن اشتراها قبله، وفي بقية إن اشتراها بعد إن مضى بعضه.

(17/315)


والرابع: قول مالك وأصحابه، أن ذلك لا يجب عليه بحال على حديث عائشة..
وذهب الطحاوي إلى أن حديث عائشة غير معارض لحديث أم سلمة؛ لأن المعنى في حديث عائشة أنه لم يحرم عليه شيء مما أحله الله من أهله حتى ينحر الهدي على ما جاء في بعض الآثار، وفي حديث أم سلمة المنع من حلق الشعر وقص الأظفار لمن أراد أن يضحي في العشر اشترى أضحية أو لم يشترها، وكان واجدا لها فيباح له في العشر الإلمام بأهله على حديث عائشة، ويمنع من حلق الشعر وقص الأظفار على حديث أم سلمة، هذا الذي ذهب إليه الطحاوي، وهو خلاف مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما، وبالله التوفيق.

[الطيب عند الإحرام]
في الطيب عند الإحرام
«قالت عائشة: طيبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ في حجه لحرمه ولحله» .
قال محمد بن رشد: الحديث بهذا عن عائشة ثابت صحيح روى مالك في موطأه عنها قالت: «كنت أطيب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت» وقد روي عنها في هذا الحديث زيادة تبين معناه، وهي أنها قالت: «طيبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فطاف على نسائه ثم أصبح محرما، وإذا كان على هذا بالغسل قد أتى على الطيب» .

(17/316)


وهذه مسألة قد اختلف فيها الصحابة ومن بعدهم من التابعين، فمنهم من أجاز للمحرم أن يتطيب قبل الإحرام بما يبقى عليه بعد الإحرام، وأن يتطيب إذا رمى الجمرة قبل أن يطوف طواف الإفاضة، ومنهم من لم يجز ذلك، منهم عمر بن الخطاب جاء عنه أنه وجد ريح طيب من ذي الحليفة من معاوية بن أبي سفيان وابن كثير بن الصلت فتغيظ عليهما وأمرهما بغسل ذلك عنهما، وأنه قال بخطبته في عرفة في الحج: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب، وإلى هذا ذهب مالك فلم يجز لأحد أن يتطيب قبل الإحرام بطيب يبقى عليه بعد الإحرام، ولا أن يطيب قبل طواف الإفاضة، وإن كان قد رمى الجمرة، إلا أنه لا يرى على من فعل ذلك الفدية، لما جاء في ذلك من الاختلاف وحصل بين العلماء من الصحابة ومن بعدهم، والله الموفق.

[قول النبي عليه السلام في عمر بن الخطاب]
في قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في
عمر بن الخطاب وعنه أيضا عن نافع عن ابن عمر أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن الله جعل الحق على قلب عمر ولسانه» .
قال محمد بن رشد: ويروى: «إن الله ضرب بالحق على قلب عمر ولسانه» والمعنى في ذلك سواء، وهو أنه كان يرى الرؤية بقلبه ويقوله بلسانه فيوافق فيه الحق، وقد نزل فيه القرآن، بموافقته في تحريم الخمر، وفي أسرى بدر، وفي الحجاب، وفي مقام إبراهيم على ما جاء في ذلك كله، وكان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يظن الظن ما يكاد يخطئه، روي عن عبد الله بن

(17/317)


عمر أنه قال: قل ما يكون عمر يقول الشيء أظنه كذا إلا كان على ما ظن، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر من كثرة ما كان يصيب في قوله الحق، وقد توجد الزكانة والفطنة وإصابة الرأي في القول في كثير من الناس، وروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «كان فيما مضى محدثون يعني ملهمون، فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر» . فمن ذلك ما روي عنه أنه بعث بعثا أمر عليهم سارية بن زنيم - رجل من أصحابه -، فبينما عمر يخطب إذ صرخ ثلاث صرخات يقول: يا سارية بن زنيم الجبل الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، قال فشنع ذلك، فلما سمع عبد الرحمن بن عوف دخل على عمر فقال: كأنك أعرابي إذ صرخت ثلاث صرخات، بينما أنت تخطب يا سارية بن زنيم الجبل الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم قال: وقع في روعي أنه ألجأه العدو إلى الجبل، قال: فلعل عبدا من عبيد الله يبلغه صوتي، قال فجاء سارية من الجبل فقال: نعم سمعت صوتا يوم الجمعة نصف النهار يا سارية بن زنيم الجبل الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، وذكر أيضا أن سارية ابن زنيم لما قصد نساودرا بجرد وانتهى إلى عسكرهم نزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله، ثم إنهم استمدوا وتجمعوا وتجمعت إليهم أكراد فارس، فدهم المسلمين أمر عظيم وجمع كثير، ورأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في ساعة من النهار، فنادى من الغد الصلاة جامعة، حتى إذا كان في الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان أربهم والمسلمين بصحراء إن أقاموا فيها أحيط بهم، فإن أووا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد، ثم قال: يا أيها الناس إني رأيت

(17/318)


هذين الجمعين، وأخبر بحالهما، ثم قال يا سارية الجبل الجبل، ثم أقبل عليهم وقال: إن لله جنودا، ولعل بعضهم أن يبلغهم، ولما كانت تلك الساعة من ذلك اليوم أجمع سارية والمسلمون على الاستناد إلى الجبل، ففعلوا وقاتلوا القوم من وجه واحد، فهزمهم الله فكتبوا بذلك وباستيلائهم على البلد إلى عمر، فنفذ الرسول عن عمر لأمره الذي أمره به فيما غنموه، وقد سألوه أهل المدينة عن سارية وعن الفتح وهل سمعوا شيئا يوم الوقعة؟ فقال: نعم، سمعنا: يا سارية الجبل، وقد كدنا نهلك فألجأنا إليه، ففتح الله علينا.
ومن ذلك قوله: أدرك أهلك فقد احترقوا، وكان كما قال للذي سأله ما اسمك؟ فقال: جمرة، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب، قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة النار؟ قال: بأيتها؟ قال: بذات لظى.
وقد قيل إن قوله أدرك أهلك فقد احترقوا، من معنى ما روي عن ابن مسعود أنه قال: لا أقول لا أعبد هذا العود، إن البلاء موكل بالقول.

[ما جاء عن عمر بن الخطاب في أن القبلة ما بين المشرق والمغرب]
فيما جاء عن عمر بن الخطاب في أن
القبلة ما بين المشرق والمغرب وفيه أيضا عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن القبلة إنما تتحرى فيما بين المشرق والمغرب، لا في المشرق ولا في المغرب، بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يستقبلن أحدكم القبلة لبول ولا لغائط، ولكن شرقوا أو غربوا» ، وإنما خوطب بهذا أهل المدينة، إذ تكون القبلة فيما بين

(17/319)


المشرق والمغرب، إلا لمن كان في الجنب والشمال، وأما إن كان في المشرق أو المغرب فقبلته في الجنوب والشمال، أي يتحرى القبلة فيما بينهما على ما ذكرناه، ومن كان فيما بين الشمال والمشرق أو فيما بين الجنوب والمغرب فإنما يتحرى القبلة فيما يقابله من الخط الذي يكون بين الشمال والمغرب، ومن كان فيما بين الجنوب والمشرق أو فيما بين الشمال والمغرب فإنما يتحرى القبلة فيما يقابله من الخط الذي يكون مما بين المغرب إلى الجنوب إلى ما بين المشرق والشمال.
وقد قال بعض الناس في تفسير قول عمر بن الخطاب: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت، وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ولكن شرقوا أو غربوا» هو أن ينظر الرجل إلى مطلع الشمس وإلى مغربها عند اعتدال الزمن حتى يستوي الليل والنهار، فينصب خطا من المشرق إلى المغرب، ثم يصلي الناس إلى ذلك الخط يتعاطونه من الجهتين، ولا يشرقوا ولا يغربوا، وهو خطأ ظاهر وغلط بين؛ لأن التوجه في الصلاة إنما يجب بنص القرآن إلى شطر المسجد الحرام، يتحرونه من كل جهة من الجهات الأربع، لا إلى الخط الذي يخرج من المشرق إلى المغرب، وقد قال بعض الناس: إن البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل مكة، ومكة قبلة لأهل الحرم، قبلة لسائر الناس، وهذا أيضا ليس بصحيح، إذ لا يؤمر أحد أن يتوجه تلقاء الحرم، وإن بعد موضعه من مكة، إنما يؤمر أن يتوجه تلقاء بيت الله الحرام من مكة التي في داخل الحرم.
ووجه ما ذهب إليه قائل هذا القول: إن القبلة كلما بعدت اتسع الخطأ فيها، فيكون سبيل الذي يخرج في اجتهاده من أهل مكة عن استقبال شيء من المسجد كسبيل الذي يخرج في اجتهاده من سائر الناس عن استقبال

(17/320)


شيء من الحرم، وكسبيل الذي يخرج في اجتهاده من أهل الحرم عن استقبال شيء من مكة، وهذا لا معنى له، إذ لا يفترق في الحكم قلة الخطأ في ذلك من كثرته.
والخطأ في القبلة لا يخلو من أربعة أوجه.
أحدها: أن يكون الخطأ مما يرجع به من اجتهاد إلى اجتهاد..
والثاني: أن يكون مما يرجع فيه من يقين إلى يقين.
والثالث: أن يكون مما يرجع فيه من يقين إلى اجتهاد.
والرابع: أن يكون مما يرجع فيه من اجتهاد إلى يقين.
فأما ما يرجع فيه من اجتهاد إلى اجتهاد، مثل أن ينحرف الرجل عن القبلة من غير أن يشرق أو يغرب، فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره.
وأما ما يرجع فيه من يقين إلى يقين، مثل أن يصلي الرجل بمكة إلى غير القبلة، فعليه الإعادة في الوقت وبعده.
وأما ما يرجع فيه من يقين إلى اجتهاد، مثل أن يصلي الرجل مستدبر القبلة أو مشرقا أو مغربا، فهذا فيه قولان في المذهب، أحدهما أنه يعيد في الوقت، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك، والثاني: الفرق بين أن يشرق أو يغرب أو يستدبر القبلة، فإن شرق أو غرب أعاد في الوقت، وإن استدبر القبلة أعاد بدءا، وهو قول المغيرة.
وجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك، أنه لما كان لا يرجع إلى يقين لم يجب عليه الإعادة إلا في الوقت.
ووجه قول المغيرة بالتفرقة بين الذي يصلي مستدبر القبلة وبين الذي يصلي مشرقا أو مغربا، أن الذي صلى مستدبر القبلة يعلم قطعا أنه صلى إلى غير القبلة، والذي صلى مشرقا أو مغربا يوقن أنه صلى إلى غير القبلة، ولا يعلم

(17/321)


ذلك قطعا، لقول عمر بن الخطاب: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت..
ولعمري من صلى عندنا مغربا ليعلم قطعا أنه صلى إلى غير القبلة، إذ يعلم أن القبلة عندنا ليست في الغرب، كما يعلم أنها ليست في الجوف.
وأما الوجه الرابع: وهو ما يرجع فيه من اجتهاد إلى يقين، مثل أن يصلي في البعد من مكة مجتهدا في القبلة، ثم يأتي مكة فيعلم فيها أن صلاته الأولى كانت إلى غير القبلة، فالحكم في ذلك عندي حكم من يرجع من يقين إلى اجتهاد، ولا أعلم في ذلك نصا، وقد قال بعض العلماء: إن القبلة يستدل عليها في كل بلد بأي جهة كان من الأرض، بأن يستقبل الرجل الشمس ويجعلها بين عينه إذا استوت الشمس في كبد السماء في أطول يوم من السنة؛ لأن الشمس تكون في ذلك الوقت في ذلك مقابلة للبيت ومسامتة له، بدليل أنه لا فيء له، فإذا استقبل الناظر إليها فقد استقبل البيت، وهذا القول ظاهره الصحة، وليس بصحيح؛ لأن الشمس لا تستوي في كبد السماء في وقت واحد في البلد المتباين بالبعد الكثير، وبالله التوفيق.

[الإهلال بالحج]
ما جاء في الإهلال بالحج وعنه، عن نافع، عن أبي نعيم، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن» ، وقال: يهل أهل الحد من يلملم.
قال محمد بن رشد: ذو الحليفة مهل أهل المدينة على مقربة من

(17/322)


المدينة والجحفة مهل أهل الشام على بعد منها في الطريق من المدينة، وأما قرن ويلملم فليسا في طريق مكة من المدينة، وكذلك ذات عرق التي وقتها عمر بن الخطاب لأهل العراق فمن مر من أهل الشام ومن وراءهم من المغرب على المدينة كان له أن يؤخر إحرامه إلى مهله الجحفة، والفضل له أن يحرم من ميقات النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذي الحليفة، ومن مر من أهل العراق وأهل نجد أو أهل اليمن بالمدينة فعليه أن يحرم من ذي الحليفة مهل أهل المدينة، إذ لا يمر واحد منهم بطريقه على مهله وإنما يمر على الجحفة وليست بميقات له، وإنما هي ميقات لأهل الشام، وهذا بين في المدونة وغيرها، فكل من مر بميقات ليس هو له بميقات فعليه أن يحرم منه واجبا إلا أهل الشام إذا مروا بذي الحليفة عليهم أن يحرموا منه لأن ميقاتهم أمامهم، ومن لم يمر بميقات من المواقيت في طريقه فعليه أن يحرم إذا حاذى الميقات.
واختلف فيمن كان في البحر، فقيل إنه يحرم فيه إذا حاذى الميقات، وقيل لا يحرم حتى يخرج منه لقول الله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وهو قول مالك في رواية علي بن زياد، وبالله التوفيق.

[صيام عاشوراء]
ما جاء في صيام عاشوراء وعنه أيضا عن نافع عن أبي نعيم عن نافع مولى ابن عمر ذكر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صيام يوم عاشوراء فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «كان يوم عاشوراء يوما تصومه الجاهلية فمن شاء فليصمه ومن شاء فليفطر» .

(17/323)


قال محمد بن رشد: المعنى في هذا الحديث - والله أعلم - أنه كان بعد أن فرض رمضان لأن صومه كان واجبا قبل أن يفرض صوم رمضان، بدليل ما جاء عن عائشة في حديث الموطأ من قولها: «كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه؛» لأن في قولها فلما فرض رمضان كان هو الفريضة دليل ظاهر على أنه كان هو الفريضة قبل أن يفرض رمضان، وقد دل على هذا أيضا ما روي «عن عبد الرحمن بن سلمة الخزاعي عن عمه قال: غدونا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صبيحة عاشوراء وقد تغدينا، فقال: أصمتم هذا اليوم؟ فقلنا: قد تغدينا، قال: فأتموا بقية يومكم» وروي «عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر يوم عاشوراء فعظم فيه، ثم قال لمن حوله: " من كان لم يطعم منكم فليصم يومه هذا، ومن كان قد طعم فليصم بقية يومه» ؛ لأن هذا هو حكم الفرض لا حكم التطوع، إذ لا يصح صيام التطوع لمن لم يبيته، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» .
وقد روي عن ابن عباس ما دل على أن صومه لم يكن إلا للشكر لا للفرض، قال: «لما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هذا اليوم أظهر الله عز وجل فيه موسى على فرعون، فقال: أنتم أولى بموسى منهم فصوموه» فجمع الطحاوي بين الحديثين بأن قال: يحتمل أن يكون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب صيامه بعد أن لم يكن واجبا.

(17/324)


وما في الحديثين من التعليل يبعد الجمع بينهما على هذا، فالأولى أن يتأول على ما في حديث ابن عباس من قوله: فصوموه على أنه أراد: فصوموه واجبا كما كنتم تصومونه في الجاهلية.
ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم، وقد قيل فيه: إنه التاسع بدليل ما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لئن عشت إلى العام المقبل لأصومن عاشوراء يوم التاسع» ، وهذا الدليل يضعف بما في رواية آخر لهذا الحديث «لئن أعشت، إلى قابل لأصومن يوم التاسع» يعني عاشوراء لأنه يحتمل لأصومن التاسع مع العاشر كيلا أقصد إلى صيامه بعينه دون أن أخلطه بغيره كما يفعله اليهود، بدليل ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في يوم عاشوراء: «صوموه وصوموا قبله يوما وبعده يوما ولا تشبهوا باليهود» ، وبالله تعالى التوفيق

[ما جاء في ليلة القدر]
فيما جاء في ليلة القدر وعنه أيضا عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال: «أري ناس من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان، فقال: " إني أرى رؤياكم، قد تواطأت على السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» .
قال محمد بن رشد: ليلة القدر هي الليلة المباركة التي ذكر الله أنه أنزل فيها الكتاب المبين، وأنه يفرق فيها كل أمر حكيم وأنها {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] وأن الملائكة تتنزل فيها بكل أمر، وأنها سلام حتى مطلع الفجر، وفي تأويل ذلك خلاف.

(17/325)


واختلف أيضا هل كانت في حياة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم رفعت، أو هي باقية لأمته إلى يوم القيامة؟ وهو الصحيح من الأقوال، وهل هي في العام كله أو في شهر منه؟ وهو رمضان منه أو في العشر الأواخر منه أو في العشر الوسط أو العشر الأواخر؟ وهل هي في ليلة بعينها لا تنتقل عنها؟ واختلف على هذا في تعيينها على اختلاف ظواهر الآثار في ذلك، وقد ذكرنا بيان هذا كله مستوفى في كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.

[إرداف الحج على العمرة]
في إرداف الحج على العمرة وعنه أيضا عن نافع عن ابن أبي نعيم عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنه خرج فأهل بالعمرة من الشجرة ثم صار حتى ظهر على البيداء فقال: ما شاء الله إن الحج والعمرة إلا واحدا أشهدكم أني أوجبت الحج مع العمرة.
قال محمد بن رشد: إحرام ابن عمر هذا كان في الفتنة وهو يخشى أن يصد عن البيت فأحرم بعمرة من أجل أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان معتمرا إذ صده المشركون وقال: إن صددت عن البيت صنعت كما صنعنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين صد عن البيت على ما جاء عنه في غير هذا الحديث.
وقوله في هذا الحديث حين ظهر على البيداء: ما شاء الله معناه ما شاء الله أن يكون كان من الوصول إلى مكة والصدود عنها.
وقوله إن الحج والعمرة إلا وحدا معناه إن الحكم في الصدود عن البيت في الحج والعمرة سواء في أن يحل المصدود منها في الموضع الذي صد فيه على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(17/326)


وفي قوله أشهدكم أني أوجبت الحج والعمرة دليل بين على أن القران أفضل عنده من التمتع لأنه لم ينتقل من التمتع إلى القران إلا ابتغاء الفضل في ذلك.
وقد اختلف في الإفراد والتمتع والقران أن أيهم أفضل على اختلافهم في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل كان في حجة الوداع مفردا أو قارنا أو متمتعا؟ فمن صح عنده أنه كان مفردا رأى الإفراد أفضل وهو مذهب مالك، ومن صح عنده أنه كان قارنا رأى القران أفضل، ومن صح عنده أنه كان متمتعا رأى التمتع أفضل.
ومن أهل العلم من رأى الإفراد أفضل ثم التمتع لأن الله تعالى أباحه في القران، ثم القران، ومنهم من لم يفضل شيئا من ذلك على شيء منها؛ لأن الله تعالى قد أباحها كلها وأذن فيها ورضيها.
وإرداف ابن عمر الحج على العمرة التي كان قد أحرم بها قبل أن يعمل منها شيئا أمر متفق عليه من فقهاء الأمصار، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه أن المحرم بالعمرة له أن يردف الحج ما لم يطف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، فإن أردف الحج على العمرة قبل أن يتم الطواف بالبيت فهو قرن، واختلف بالتأويل على ما في المدونة إن أردفه عليها بعد أن يكمل الطواف بالبيت قبل أن يركع، وأما إن أردفه عليها بعد أن ركع وشرع في السعي أو قبل أن يشرع فيه فليس بقارن يمضي على سعيه ويحل ثم يستأنف الحج، وأما إن أردفه بعد أن أكمل السعي قبل أن يحلق فيلزمه الحج وليس بقارن ويكون عليه دم لتأخير الحلاق ولا يرتدف الحج على الحج ولا العمرة على العمرة ولا الحج على العمرة.
وقال أبو ثور: إذا أحرم لحجة فليس له أن يضم إليها عمرة، وكذلك إذا أحرم بعمرة فليس له أن يدخل عليها حجة ولا يدخل إحراما على إحرام، كما لا يدخل صلاة على صلاة، وما روي في السنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

(17/327)


من قوله لمن كان أحرم بالعمرة من أصحابه: «من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» يرد قوله، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.

[الاعتكاف في رمضان وتحري ليلة القدر]
في الاعتكاف في رمضان وتحري ليلة القدر وعنه أيضا عن نافع بن أبي نعيم عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري قال: «اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشر الوسط من رمضان فلما كانت ليلة إحدى وعشرين قال: من اعتكف معي فليعتكف هذه العشر الأواخر فإني رأيت ليلة القدر فأنسيتها ورأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين» .
قال محمد بن رشد: وقع في حديث أبي سعيد هذا في الموطأ «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف في العشر الوسط من رمضان» .
وقوله كان يعتكف يدل على أن ذلك كان فعله الذي يواظب عليه، وفي ذلك دليل على أن ليلة القدر قد يكون فيها وفيه زيادة أيضا، «قال أبو سعيد: فأبصرت عيناي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى جبينه أثر الماء والطين من صبح ليلة القدر ليلة أحد وعشرين من رمضان» فتبين من هذا أن ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين من رمضان وفي «أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعبد الله بن أنيس الجهني أن ينزل ليلة ثلاث وعشرين من رمضان» على ما وقع من ذلك في الموطأ دليل على أن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين من رمضان، فمن الناس من ذهب إلى أن ليلة القدر لا تنتقل، فحمل ذلك على التعارض وصحح أحد الحديثين ورآه أولى من الآخر، ومنهم من ذهب إلى أنها تنتقل فقال: كانت في العام الواحد ليلة إحدى وعشرين، وفي العام الثاني آخر ليلة ثلاث وعشرين، وفي عام آخر ليلة سبع وعشرين، على حديث أبي بن كعب

(17/328)


ومعاوية وهو الصحيح في النظر؛ لأنها كلها أحاديث صحاح فلا يصح أن يحمل التعارض والجمع بينها بالتأويل محتمل ظاهر بين، والله الموفق.

[قضاء الحاج بالليل ما فاته بالنهار]
في قضاء الحاج بالليل ما فاته بالنهار
قال مالك: بلغني أن ابن عمر أمر بعض أهله أن يقضوا ما فاتهم بالنهار بالليل ولم يبلغني أن يهرقوا دما.
قال محمد بن رشد: بعض أهله الذين أمرهم أن يقضوا ما فاتهم بالليل هما صفية بنت أبي عبيد زوجته وبنت أخ لها والتي فاتها رمي جمرة العقبة، يبين هذا الحديث الموطأ رواه مالك عن أبي بكر بن نافع عن أبيه أن بنت أخ لصفية بنت عبيد نفست فتخلفت هي وصفية حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبد الله بن عمر أن يرميا الجمرة حين أتتا، ولم ير عليهما شيئا، وهو ظاهر قول مالك في الموطأ، واختلف قوله في ذلك في المدونة، فمرة قال في ذلك بالدم، ومرة لم يقل فيه دما وكذلك من ترك رمي جمرة من الجمار الثلاث حتى غربت الشمس اختلف قول مالك في وجوب الدم عليه، مرة رآه عليه ومرة لم يره.
وأما من ترك رمي جمرة من الجمار حتى ذهبت أيام منى وفات الرمي فلم يختلف قوله في وجوب الدم، واستحب لمن ترك جمرة العقبة أو رمي يوم من أيام أن يهدي بدنة، فإن ترك جمرتين من يوم من أيام منى فليهد بقرة، وإن لم يترك إلا جمرة واحدة فشاة، والشاة تجزيه في ذلك كله في باب الإجزى، وبالله التوفيق.

(17/329)


[فضل هشام بن حكيم وقول عمر فيه]
ومن كتاب أوله [الشجرة] تطعم بطنين في السنة
في فضل هشام بن حكيم وقول عمر فيه وحدثني مالك عن هشام بن حكيم بن حزام ومثل ما حدثني به أولا، قال: كان عمر بن الخطاب إذا سئل الأمر الذي لا ينبغي يقول أما ما بقيت أنا وهشام فلا يكون ذلك، وقال هشام لبعض أمراء الشام ورأى نبطا قد أقيموا في الشمس لخراجهم فقال لهم: أشهد أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله ليعذب في الآخرة الذين يعذبون الناس في الدنيا» ، وكان هشام رجلا قد تبتل وترك نكاح النساء، وكان في حاله شبيها بالسياحة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا الإخبار بين لا وجه للقول فيه وكفى منه قول الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] الآية فوصفهم الله في التوراة لموسى بن عمران بما وصفهم به من السيماء التي في وجوههم من السجود، ووصفهم في الإنجيل لعيسى بأنهم كزرع أخرج شطأه أي فراخه يقال منه أشطأ الزرع إذا أفرخ يشطي فهو أشطأ وقرأ ابن كثير شطأه بفتح الطاء، وهما لغتان، وإنما مثلهم عز وجل بالزرع المشطأ لأنهم أبتداوا في الدخول في الإسلام وهم عدد قليلون ثم جعلوا يتزايدون ويدخل فيه الجماعة بعدهم ثم الجماعة بعد الجماعة حتى كثر عددهم كما يحدث في أصل الزرع الفرخ منه ثم الفرخ بعده حتى يكثر وينمي وقوله: فآزره يقول فقواه أي قوى الزرع شطئه، ويقرأ فأزره بالقصر وهو في القراءتين جميعا من المؤازرة وهي المعاقدة، فاستغلظ يقول فغلظ الزرع، فاستوى على سوقه، والسوق جمع ساق، وساق الزرع والشجر حامله، وقوله: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] معناه يعجب زراع هذا الزرع لتمامه وحسن نباته، وكذلك محمد

(17/330)


وأصحابه ابتدأ أمرهم بالضعف ثم قوي واشتد، فعل الله ذلك بأصحاب محمد ليغيظ بهم الكفار، وبالله تعالى التوفيق.

[حمل العلم بالإجازة]
في حمل العلم بالإجازة وسئل مالك عن الرجل يقول له العالم هذا كتابي فاحمله عني وحدث به.
قال: لا أرى هذا يجوز ولا يعجبني، ولقد كان ناس يفعلون ذلك وإنما يريد هؤلاء كثرة الحمل بالأمانة اليسيرة.
قال محمد بن رشد: معناه: هذا مكروه لا يعجبني؛ لأن ما يجوز لا يصح أن يقال فيه لا يعجبني، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم حلف قبل هذا.

[العمل مقدم على خبر الواحد]
في أن العمل مقدم على خبر الواحد
وحدثني أن محمد بن أبي بكر بن عمر بن حزام كان قاضيا وكان أخوه عبد الله بن أبي بكر كثير الأحاديث، وكان رجل صدق، فكان إذا قضى محمد بالقضية قد جاء فيها الحديث مخالفا للقضاء يقول له أخوه: لم يأت في هذا حديث كذا وكذا، قال: بلى، قال: فما لك لا تقضي؟ قال: فأين الناس عنه؟ يريد بذلك أن العمل أثبت من الأحاديث.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم عنده من مذهب مالك أن العمل أقوى عنده من خبر الواحد؛ لأن العمل المتصل بالمدينة لا يكون إلا عن توقيف فهو يجري عنده مجرى ما نقل نقل التواتر من الأخبار فيقدم على خبر الواحد وعلى القياس، والقياس أيضا مقدم على خبر الواحد؛ لأن خبر الواحد يجوز عليه النسخ والغلط والسهو والكذب والتخصيص ولا يجوز من الفساد على

(17/331)


القياس إلا وجه واحد وهو: هل الأصل معلول بهذه العلة أم لا؟ وما جاز عليه أوجه كثيرة مما تبطل الحجة به أضعف مما لم يجز عليه إلا وجه واحد، وكذلك إجماع أهل المدينة عنده من جهة حجة تجري مجرى نقل التواتر؛ لأنهم إذا أجمعوا على أمر من الأمور فلا يخلو من أن يكونوا أخذوه توقيفا أو رآهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأقرهم ولم يتعرض للنهي عنه ولا أنكره، وأي ذلك كان فقد حصل النقل له من جميعهم والتواطؤ عليه من كافتهم، فوجب أن يقدم على غيره ولا سيما إذا كان الأمر مما لا ينفك منه أهل عصر والحاجة إليه عامة كالأذان والإقامة والصلاة على الجنائز وترك أخذ الزكوات من الخضراوات وما أشبه ذلك كثير.
ولما كانت المدينة معدن العلم ومهبط التنزيل وعنها خرج العلماء، والكافة من العلماء بها مقيمون، والعمل جار منهم على ما استقر من أركان الشريعة وجب أن يكون إجماعهم على الحادثة يحج من سواهم ممن رحل عنهم فخالفهم لجواز أن يكون قد نسي أو شبه له، كما روي أن ابن مسعود أفتى في الكوفة بتزويج الأم قبل أن يدخل بها ثم قدم المدينة فأخبروه أن الأم مطلقة وأن العمل بخلاف ما أفتى، فرجع إلى الكوفة فأمر الرجل أن يفارق امرأته، ولو حصل إجماعهم من طريق القياس لوجب أن يقدم على قياس غيرهم؛ لأنهم وإن شاركوا أهل الأمصار في مقامات العلم فقد زادوا عليهم بمشاهدة الوحي وترتيب الشريعة ووضع الأمور مواضعها والعلم بناسخ القرآن من منسوخه واستقر عليه آخر أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأن القياسين إذا تعارضا وجب أن يقدم أرجحهما على الآخر ويرجح قياس أهل المدينة أيضا بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» .

(17/332)


[الدخول على المعذبين]
في النهي عن الدخول على المعذبين
إلا للاعتبار والبكاء وحدثني عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم» .
قال محمد بن رشد: هؤلاء القوم المعذبون هم ثمود قوم صالح أصحاب الحجر الذين كذبوه وعقروا الناقة التي أخرجها الله من- الصخرة آية إذ قال له قومه: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153] {مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154] ، قالوا له على ما في التفسير: إن كنت صادقا فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة، فتصدعت الصخرة فخرجت منها ناقة عشراء فنتجت فصيلا فقال لهم: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الشعراء: 156] أي بعقر {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 156] {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [الشعراء: 157] {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء: 158] وقال عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11] أي بطغيانها {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس: 12] {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} [الشمس: 14] أي أهلكهم {بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14] أي بالعقوبة {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15] قيل معناه فلم يخف الذي عقر الناقة العقبى من الله في ذلك، وقيل معناه فلا يخاف الله أن يتبع بذلك مثل قوله: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء: 69] ولما مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحجر ثمود في غزوة تبوك أمر أصحابه ألا يتوضئوا من بئر ثمود ولا يعجنوا خبزا بمائها ولا يستعملوا شيئا منها، فقيل له: إن قوما عجنوا خبزا من ذلك الماء فأمر

(17/333)


بالعجين فطرح للإبل علفا وأمرهم أن يستعملوا ماء بئر الناقة في كل ما يحتاجون إليه، أمر أصحابه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بأن لا يدخلوا بيوت ثمود وقال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم ونهاهم أن يخرج أحدهم منفردا فخرج رجلان من بني ساعدة كل واحد منهما منفرد عن صاحبه، أحدهما يريد الغائط فخنق أحدهما فأخبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذلك فدعا له فشفي، والآخر خرج في طلب بعير له فأخذته الريح فرمته في جبل طي فردته طي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالله تعالى التوفيق.

[مفاتح الغيب]
في مفاتح الغيب وحدثني عن مالك عن ابن دينار عن ابن عمر قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، علم الساعة ولا يدري أحد متى يأتي المطر، ولا يدري أحد ما في الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت» .
قال محمد بن رشد: قد روي حديث ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس لا يعلمهن إلا الله "، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] إلى آخر السورة» .
ويريد بمفاتح الغيب قول الله عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} [الأنعام: 59] وليس في قوله خمس لا يعلمهن إلا الله دليل على أنه يعلم سواها من المغيبات من عداه، بل لا يعلم أحد شيئا من الغيب إلا الله، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27]

(17/334)


فعم من جميع الغيوب بقوله: الغيب؛ لأن الألف واللام إذا دخلت على النكرة اقتضت استغراق الجنس، قال عز وجل: {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] فكأن معناه: إن الإنسان لفي خسر، بدليل استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم، وإذا اعتبرت هذه الخمس وجدتها مستغرقة لجميع الغيوب؛ لأن قوله عز وجل: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] معناه أنه يقتضي أنه لا تعلم نفس ما يكون في غد من الأشياء، وإنما ذكرنا الكسب دون ما سواه من الأشياء؛ لأنه جل ما يحرص الناس على معرفته من الأشياء، وقد «روي أنه جاء رجل من البادية فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد؟ وبلادي مجدبة فأخبرني متى ينزل المطر؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية» وبالله التوفيق.

[رفع الأمانة وفضل العلم]
في رفع الأمانة وفضل العلم وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن أول ما يرفع من الناس الأمانة وآخر ما يبقى فيهم الصلاة، وحدثني أنه بلغه أن ابن مسعود كان يقول: إذا لم يعلم أحدكم الفرائض وسنة الحج والطلاق فما فضله على أهل البادية؟
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا كله بين؛ لأن أهل البادية أهل جمالة، فإنما فضلهم أهل الحاضرة بالمعرفة بأمور الدين، قال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] .

(17/335)


[تصديق الرسل واليقين بقولهم]
في تصديق الرسل واليقين بقولهم وحدثني عن ابن القاسم، عن مالك، أنه بلغه أنه خرج مع موسى رجلان من أصحابه إلى البحر، فلما إليه قالا له: ماذا أمرك؟ قال. أمرني أن أضرب البحر بعصاي فقال له: افعل ما أمرك به ربك. فلن نخلفك، ثم ابتدرا البحر فألقيا أنفسهما فيه تصديقا له، قال مالك في تفسيره: فما زال البحر كذلك حتى دخل فرعون ومن معه، ثم رجع إلى ما كان.
قال محمد بن رشد: في كتاب الله بيان هذا، وتفسيره قال عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء: 52] فخرج بهم ليلا على ما روى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء: 53] {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] يعني هم قليلون في كثيرنا، وكان أصحاب موسى ستمائة ألف، وقيل إنه اتبعهم فرعون على ألف ألف حصان ومائتي ألف حصان، وقيل مبلغ جنوده كان أربعين ألف ألف {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] كما قال إلى حين أشرقت الشمس: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] {قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] يريد الطريق، قال قتادة: ذكر لنا أن مؤمنا من آل فرعون كان بين يدي نبي الله موسى يومئذ يسير ويقول: أين أمرت يا رسول الله، فيقول له موسى: أمامك، فيقول له المؤمن: وهل أمامي إلا البحر، والله ما كذبت ولا كذبت، ثم يسير ساعة

(17/336)


ثم يلتفت، فيقول: أين أمرك يا نبي الله؟ فيقول: أمامك، فيقول: وهل أمامي إلا البحر؟ والله ما كذبت ولا كذبت، ثم يسير ساعة، ثم يلتفت فيقول مثل ذلك، حتى دخلوا البحر، فلما انتهوا إلى البحر أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، جاءه جبريل على فرس وأمره أن يضرب بعصاه البحر، فضربه موسى بعصاه {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] ، أي كالجبل العظيم، صار اثني عشر طريقا لكل سبط طريق، وصار ما بين كل طريق منه مثل القناطير ينظر بعضهم إلى بعض، واتبعهم فرعون.
قال قتادة: ذكر لنا أنه لما خرج آخر أصحاب موسى دخل آخر أصحاب فرعون شطط البحر فغرقهم، قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [الشعراء: 67] أي لعبرة لمن اعتبر وحذر أن ينزل به ما نزل بهم، فأخرج الله آل فرعون كما قال: {مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 57] {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58] أي كريم في الدنيا، وقيل أي منزل حسن في الدنيا، قال: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] رجعوا إلى مصر بعدما أهلك الله فرعون وقومه.

[الاستمتاع بما أباحه الله من متاع الدنيا]
في جواز الاستمتاع بما أباحه الله
من متاع الدنيا قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول: دخل عباس البصري على ابن هرمز في بيته فرأى فيه أسرة ثلاثا عليها ثلاثة فراش ووسائد ومحابس معصفرة، فقال له يا أبا بكر ما هذا؟ فقال له ابن هرمز: ليس بهذا بأس، وليس الذي تقوله بشيء، أدركت الناس على هذا.
قال محمد بن رشد: هو كما قال ابن هرمز؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] إلى قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]

(17/337)


أي هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مستقرة سائغة خالصة، وروى ابن عمر عن النبي أنه قال: «إن الله يحب أن يرى نعمته على عبده» ، وروى «عن أبي الأحوص عن أبيه أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قشف الهيئة، فقال له رسول الله: " هل لك مال "؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل من الخيل والإبل والرقيق، قال: فكل ما آتاك الله من مال فلير عليك» .
وقال عمر بن الخطاب: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم.
جمع رجل عليه ثيابه وقال إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب، والقارئ ها هنا أراد به العابد الزاهد المتقشف؛ لأن القراء عندهم العباد العلماء، ومن هذا كان يقال عندهم للخوارج قبل خروجهم القراء، لما كانوا فيه من العبادة والاجتهاد.
وما فضل عند الرجل من ماله بعد أن أدى منه الواجب عليه فيه فاستمتاعه به في الرفيع من اللباس، والطيب من الطعام، والحسن من الركوب والجيد من السكنى من غير إسراف في شيء من ذلك كله لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] أولى من ترك ذلك وإمساك ماله، إذ لا أجر فيه، وإنما يؤجر على إمساكه إذا أمسكه لخير يريد أن يفعله منه، وقد يؤجر على الاستمتاع بماله في لباس الحسن، لما جاء من أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وما أشبه ذلك من الآثار التي ذكرناها، فبانت صحة قول ابن هرمز وأنه الفقه.

[الاستشارة في الفتوى]
في الاستشارة في الفتوى قال مالك: وجاء رجل ابن هرمز فأرسل بعض السلاطين

(17/338)


يستشيره في الفتوى فسأله أتراني أهلا لذلك؟ قال إن كنت عند الناس كذلك، ورأوك أهلا لذلك فباشر.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه الحكاية في كتاب الأقضية أنه قال له: إن رأيت نفسك أهلا لذلك ورآك الناس أهلا لذلك فافعل، وهي زيادة صحيحة لأنه هو أعرف بنفسه، فإذا لم ير نفسه أهلا لذلك فلا ينبغي له أن يفعل، وإن رآه الناس أهلا لذلك، وأما إذا لم يره الناس أهلا لذلك فلا ينبغي أن يفتي وأن رأى هو نفسه أهلا لذلك؛ لأنه قد يغلط فيما يعتقده في نفسه من أنه أهل لذلك، ولا حرج عليه إن فعل إذا علم من نفسه أنه قد كملت له آلات الاجتهاد بأن يكون عالما بالقرآن يعرف ناسخه من منسوخه، ومفصله من مجمله، وخاصه من عامه، عالما بالسنة مميزا بين صحيحها وسقيمها، عالما بأقوال العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار، وما اتفقوا عليه، وما اختلفوا فيه من أهل النظر والاجتهاد، بصيرا بوجه القياس، عارفا بوضع الأدلة في مواضعها، ويكون عنده من علم اللسان ما يفهم به معاني الكلام، فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال مع العدالة والخير والدين صح استفتاؤه فيما ينزل من الأحكام وجاز للعاصي تقليده فيها.

[طلب العلم وتقوى الله]
في طلب العلم وتقوى الله
قال مالك: وكان ابن هرمز يقول إن سأله رجل عن طلب العلم، إن رأيت أنك أهل لذلك فاطلبه وكان يقول: اتق الله بني آدم يحبك الناس وإن كرهوا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا عندي أنه كان إذا سأله رجل عن طلب العلم أواجب هو عليه أم لا؟ يجيبه بما ذكر من وجوب الأمر في رد ذلك عليه إلى ما يعلم من نفسه، فإن كان من أهل الذكاء والفهم ما ترجى به إمامته تعين عليه من العلم ما يحتاج في خاصته من وضوئه وصلاته وصيامه وزكاته إن كان من أهل الزكاة، وما يحل عليه ويحرم من المحرمات، وما يجوز عليه مما لا يجور في البيع إن كان من أهل التجارات، وبالله التوفيق.

(17/339)


وإنما قال: من اتقى الله يحبه الناس وإن كرهوا؛ لأن من اتقى الله يحبه الله ومن أحبه الله أحبه أهل السماء ووضع له القبول في الأرض، على ما جاء في الحديث من رواية أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أحب الله العبد قال لجبريل: قد أحببت فلانا، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله العبد، قال مالك: لا أحسبه قال في البغض إلا مثل ذلك» .

[صدقة الماشية]
في صدقة الماشية وحدثنى عن مالك، عن ربيعة، أنه ذهب معه إلى عبد الله بن واقد بن عمر وكان فاضلا واحدا، يعجب لفضله، فسأله عن كتاب عمر بن الخطاب إليه في الصدقة فأخرجه إليه.
قال محمد بن رشد: هذا هو سند مالك في كتاب عمر بن الخطاب في الصدقات الذي ذكره في موطئه أنه قرأه ولم يسنده، قال: فوجدت فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا كتاب الصدقة في أربع وعشرين من الإبل، فدونها الغنم، في كل خمس شاة، الكتاب إلى آخره بطوله هو كتاب صحيح مشهور عند أهل المدينة، أصله من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، روي عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر، «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كتب كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، وعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمر حتى قبض، فكان فيه:
في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم، في كل خمس ذود شاة» وذكر معنى ما ذكره مالك في موطئه في كتاب ابن عمر سواء، وروي عن ابن شهاب أيضا قال: أخرج إلي سالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر نسخة كتاب رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الصدقة، قال ابن شهاب أقرأنيها سالم فوعيتها

(17/340)


على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز وأمر عماله بالعمل بها، ولم يزل خلفاؤه يعملون بها، قال: وهذا تفسيرها: لا يؤخذ في شيء من الإبل صدقة حتى يبلغ خمس ذود، فإذا بلغت خمسا ففيها شاة، ثم ذكر معنى ما ذكر مالك عن عمر في كتابه، ثم قال: فإذا كانت إحدى وعشرين ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ ثلاثين ومائة، فإذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها حقة وبنتا لبون، وليس بين أهل العلم اختلاف في زكاة الإبل إلا في هذا الموضع، وهو إذا زادت الإبل على عشرين ومائة واحدا، فابن شهاب يقول فيها ثلاث بنات لبون على ما في حديثه، ومالك يرى الساعي مخيرا بين أن يأخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون، والمغيرة وابن الماجشون يقولان ليس فيهما إلا حقتين حتى تبلغ ثلاثين ومائة فيكون حقة وابنتا لبون، وروى ذلك أشهب عن مالك، وبالله التوفيق.

[كيد الشيطان]
في كيد الشيطان قال مالك: إنه ليقال إن الشيطان إذا لم يجبه العبد إلى المعاصي جاءه من قبل المقنط والإياس [منه] وتعظيم الشيء عليه.

(17/341)


قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى بغير هذا اللفظ في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الوضوء والجماعة من سماع أشهب منه، وليس في ذلك معنى يشكل فيحتاج إلى بيانه؛ لأنه من فعل الشيطان ووسوسته التي أقدره الله عليها ومكنه منها ابتلاء لعباده يجازي الحسن بإحسانه ويعاقب العاصي بإساءته، فهو يلبس على الناس بها ويفسد عليهم طاعتهم بما يلقي في نفوسهم من التقصير فيها، فالذي يؤمن به من اعتراه شيء منها أن يضرب عنقه ولا يلتفت إليه، فإن ذلك يقطعه عنه بفضل الله ورحمته، وبالله تعالى التوفيق.

[التورع من أخذ العطاء ومداراة الإمام]
في التورع من أخذ العطاء ومداراة الإمام وحدثني أنه لما قدم الوليد بن عبد الملك سأل عمر بن عبد العزيز أن يدله على رجل صالح يعطيه مالا، فدله على بشر ابن سعيد، فأرسل إليه بألف درهم أو خمسمائة درهم وحلة، فأبى أن يقبل منه، فدخل عليه عمر بن عبد العزيز وجده مغضبا، فقال: دللتني على حروري، فقال يا أمير المؤمنين: بل هو رجل متغن، وأنت تحب من هو أحوج منه تعطيه، فتركه الوليد وأعطى غيره.
قال محمد بن رشد: إنما رد بشر عطيته من أجل أنه لم يستجز أخذ جائزته، والله أعلم، وفهم ذلك منه الوليد، ولذلك غضب، فاستلطفه عمر بن عبد العزيز واعتذر إليه.
وقد اختلف في قبول جوائز الخلفاء، فروي عن مالك أنه لا بأس بذلك إذا كان المجبى حلالا، ومن أهل العلم من كرهها وإن كان المجبى ممن يعطاه على نفسه فله أجر ذلك.
وأما إن كان المجبى يشوبه حلال وحرام فالأكثر يكرهونها، ومنهم من يجيزها، وأما إن كان المجبى حراما فمنهم من يحرمها ومنهم من يكرهها

(17/342)


ومنهم من يجيزها، وهم الأقل.
ومن أعطى من المجبى الحرام أو المجبى الذي يشوبه الحرام والحلال مما فيه من الحرام فهو كمن أعطى من المجبى [الحرام] ، ومن أعطى مما فيه من الحلال، فهو كمن أعطى من المجبى الحلال، وإن كان الغالب على المجبى الحرام فله حكم المجبى [الحرام] ، ومن لم يأخذ من المجبى الحلال وإن كان يعدل في القسم فهو أفضل، لقول النبي عليه السلام: «إن خيرا لأحدكم ألا يأخذ من أحد شيئا قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا» لأن من ترك حقه فيه ولم يأخذه فقد آثر به غيره ممن يعطاه على نفسه، فله أجر ذلك ".

[ما جاء في وادي العقيق]
وقال مالك: " بلغني «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نائما بالعقيق، وأن رجلا حرك رجله بشيء، فقال له: لقد أيقظتني وإني أراني بواد مبارك» .
قال محمد بن رشد: وادي العقيق هو بذي الحليفة، عرس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فيه، فقيل له: إنك ببطحاء مبارك، روى موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه ريء وهو في معرس بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل له إنك ببطحاء مباركة» قال، وقد أناخ بنا سالم يتوخى المناخ الذي كان عبد الله ينيخ فيه يتحرى معرس رسول الله، وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي، بينه وبين الطريق وسط من ذلك، وقال عمر بن الخطاب: «سمعت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول بوادي العقيق: أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك» وقال: عمرة في حجة، والموضع المبارك هو الذي تزكو فيه الأعمال، وينال فيه الأجر الكثير من الله عز وجل، قال عز وجل:

(17/343)


{حم} [الأحقاف: 1] {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ - إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 2 - 3] وهي ليلة القدر التي قال عز وجل فيها إنها {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] أي ثواب العمل فيها أكثر من ثواب العمل في ألف شهر.

[جزاء الصادق في الدنيا]
في جزاء الصادق في الدنيا قال: وبلغني أنه يقال ما كان رجلا صدوقا ليس من أهل الكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف. قال محمد بن رشد: مثل هذا لا يكون إلا عن توقيف، وإن صح فمعناه في الغالب، والله أعلم، وقد أثنى الله على الصديقين في غير ما آية في كتابه فقال: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] وقال: {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] وقال عمر بن الخطاب فيما تقدم قبل هذا: عليكم بالصدق وإن ظننت أنه مهلكك، وقد مضى الكلام عليه، وكان ابن مسعود يقول: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار» ألا ترى أنه يقال صدق وبر، وكذب وفجر، وقد «قيل لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا» ومعناه أنه لا يكون مؤمنا ممدوح الإيمان ممن يمدح بأن يقال فلان مؤمن حقا.

[تفسير قوله تعالى بنين وحفدة]
في تفسير قَوْله تَعَالَى: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]
قال: وسمعت مالكا يقول في تفسير قوله عز وجل: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] قال: الحفدة الخدام والتباع.

(17/344)


قال محمد بن رشد: تفسير مالك للحفدة أنهم الخدام والتباع صحيح بين، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: الحفدة الأختان، وليس ذلك بمخالف لما قاله مالك لأن الأختان من الخدمة والتباع لأنهم يتصلون به بسبب الصهر فيحفون به ويشاركونه في أموره ويعينونه فيها، ومعنى الآية في قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] . إن الله عدد نعمته على خلقه بأن خلق من الرجال النساء، وأصل ذلك أن خلق حواء من آدم، فجعل النساء أزواجا للرجال يسكنون إليهم، ويكون لهم منهن البنون والأنسال، يكون منهم التباع والخدمة والعبيد والأعوان؛ لأن الناس يخدم بعضهم بعضا، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] وهي حكمة عظيمة في عمارة الدنيا، وعبرة ظاهرة لمن اعتبر، إذ لا يقوم حال أحد بنفسه، ولا يصل النفع إليه الذي به حياته إلا بعمل غيره من حرث وحصد ودرس وطحن وخبز وطبخ، والحرث لا يكون إلا بالآلات، يخدم في عملها الجماعات، وكذلك الخبز والطحن والطبخ، إذ لا بد لذلك كله من الآلات يعملها الجماعات، فلا يحصي أحد عدد ما يخدمه من البشر في اللقمة التي يأكل أو في الثوب الذي يلبس إلا الله عز وجل، فالفكرة في هذا وشبهه والاعتبار فيه وشكر الله تعالى عليه من أعظم العبادات.

[ما جاء في معاذ بن جبل]
قال مالك: بلغني أن معاذ بن جبل أمام العلماء برتوة.
قال محمد بن رشد: الرتوة الدرجة، وإنما يتقدمهم بالدرجة

(17/345)


لكونه أعلم منهم بالحلال والحرام على ما جاء في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ لأنه قال الله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] فدرجتهم في الآخرة على مقدار تقدمهم في المعرفة والعلم مع الفضل والدين، وبالله التوفيق.

[ولاية القاسي القلب]
في أن القاسي القلب لا ينبغي أن يولى
الإمارة قال مالك: إن عمر بن الخطاب دعا رجلا يستعمله، فجاء ابن لعمر صبي فأخذه عمر فقبله، فقال له يا أمير المؤمنين، أتقبله؟ قال: نعم، قال إن لي كذا وكذا ولدا ما قبلت أحدا منهم قط، فقال له عمر: أنت لا ترحم ولدك، فأنت للناس أقل رحمة، وأبى أن يستعمله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا وجه للقول فيه.

[تفسير وسبح بحمد ربك حين تقوم]
وفي تفسير
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] وسئل عن تفسير {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] قال: حين تقوم إلى الصلاة في رأيي، وقد قال الله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] .
قال محمد بن رشد: تفسير مالك في هذه الرواية لقوله عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] أي إن المعنى في ذلك حين تقوم

(17/346)


إلى الصلاة، هو مثل ما روي عن الضحاك أنه قال: معنى ذلك إذا قمت إلى الصلاة فقل: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك، بدليل احتجاجه على ذلك بقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] يريد أن المراد بذلك أن يسبح الله عز وجل في هذه الأوقات، وقد قيل في قوله عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] أن المعنى في ذلك أن يقال حين يقوم من نومه سبحان الله وبحمده.
والمختار في هذا من أقوال العلماء أن يكون المراد بالأمر بالتسبيح في هذه الآية وما أشبهها الصلوات المفروضات، لا التسبيح، بأن يقول سبحانك اللهم وبحمدك، إذ لا يجب على أحد فرضا واجبا أن يقول ذلك في الصلاة ولا في غير الصلاة، إنما يجب اعتقاد ذلك، والإيمان بمعنى التسبيح، وهو التنزيه لله عن مشابهة شيء من مخلوقاته، فمعنى قول الله عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] صلاة الظهر، وكذلك قوله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [الطور: 49] يعني ومن الليل فعظمه بالصلاة، وذلك صلاة المغرب والعشاء، وقوله {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] يعني صلاة الصبح.
وقد قيل: المعنى المراد بذلك ركعتا الفجر، وقد روي ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «سئل رسول الله عن إدبار النجوم فقال هما الركعتان قبل صلاة الصبح» .

[تواضع الصحابة وما كانوا عليه]
في تواضع الصحابة وما كانوا عليه
من الخدمة لأنفسهم وقال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب لقي رجلا وعلى عنقه شيء يحمله، فقال له: يا أبا الحسن ما بقي من شد؟، قال فوضع علي ذلك ثم شد بين يديه فقال له

(17/347)


عمر: إن البقية بعد الصالحة، قال ابن القاسم قال الليث: حزمة حطب.
قال محمد بن رشد: ليس في هذا معنى يشكل؛ لأن الشد الجري، فظن عمر أنه قد أعياه حمل ما كان يحمله لثقله فرآه يشده بين يديه أنه لم يدركه بذلك إعياء ولا كلال.

[الشفعة في البئر]
ومن كتاب صلى نهارا ثلاث ركعات
في الشفعة في البئر وسئل مالك عن تفسير لا شفعة في بئر، فقال: إنما ذلك في بئر الأعراب، وأما بئر الزرع ففيه الشفعة إذا كانت النخل لم تقسم.
قال محمد بن رشد: أما آبار الأعراب وهي الآبار التي تحتفر في البراري والمهامه للمواشي فلا شفعة فيها، إذ لا يجوز بيع مائها، وإنما يكون حافرها أحق بمائها حتى تروى ماشيته ويخلى بين الناس وبين الفضل، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» .
وأما بئر الزرع فلا اختلاف في وجوب الشفعة فيه إذا بيع جزء منها مع الأرض أو دون الأرض والأرض لم تقسم، واختلف إذا بيع جزء منها والأرض قد قسمت وبقيت البئر بينهما يقسمون ماءها بالقلد، فقال في المدونة: إنه لا شفعة في ذلك مثل قوله في هذه الرواية، وروى يحيى عن ابن القاسم في كتاب الشفعة فيما بيع: فيها الشفعة، وذهب سحنون وابن لبانة إلى أن رواية يحيى ليست بمخالفة لما في المدونة، واختلفا في تأويل

(17/348)


ذلك، وذهب غيرهما إلى أنها مخالفة لما فيها، واختلفوا في تأويل ذلك على ما قد ذكرناه وبيناه في سماع يحيى من كتاب الشفعة.
ولو أشهد حافر البئر في المهامه والبراري عند حفره إياها أنها لا يحفرها للصدقة، وإنما يحفر لتكون له يبيعها أو يبيع ماءها إن شاء ويمنع فضله إن أراد لكانت فيها الشفعة على رواية يحيى، وبالله التوفيق.

[قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريضة بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار]
ما جاء في قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قريضة بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار قال مالك: قسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قريضة بين المهاجرين ونفير من الأنصار، سمعت منه أنهم ثلاثة: سهل بن حنيف، وحارث بن الصمة، وسماك بن خرشة.
فأما النضير فإنها كانت صافية لم تكن فيها خمس.
وخيبر كانت صافية إلا قليلا منها فتحت عنوة، وذلك يسير فخمس ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ.
فقيل له يا أبا عبد الله: كان في خيبر زرع حين ساقاها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ؟ قال: نعم، كان ذلك يسيرا، وهي على حالها اليوم.
قال محمد بن رشد: قوله إن رسول الله قسم قريضة بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار خلاف ما وقع في المدونة، وخلاف ما وقع في رسم نذر قبل هذا من هذا الكتاب، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته، وما قاله في زرع خيبر من أنه كان يسيرا هو مثل ما قاله في المدونة من أنه كان يسيرا بين ضعاف السواد، إذ لا يجوز كراء الأرض

(17/349)


بالجزء مما يزرع فيها من الزرع، فتأول من ذلك على أنه كان يسيرا في حيز التبع. فجاز دخوله في المسافات.

[الصلاة في الهاجرة بين الظهر والعصر]
في الصلاة في الهاجرة بين الظهر والعصر
قيل لسعيد بن المسيب: إن قوما يصلون ما بين الظهر والعصر، قال سعيد: ليست هذه عبادة، إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكر في أمر الله، قال مالك: وإنما كانت صلاة القوم بالهاجرة والليل، لم تكن هذه صلاة القوم.
قال محمد بن رشد: قول سعيد بن المسيب في الصلاة فيما بين الظهر والعصر إنها ليست بعبادة، يريد أنها ليست عبادة من العبادات المرغب فيها، إذ ليس ذلك الوقت من الأوقات التي جاء الترغيب فيها في الصلاة كالهاجرة وصلاة الليل؛ لأنها ليست بعبادة أصلا على ظاهر قوله، وقد مضى في رسم حلف قبل هذا، وبالله التوفيق.

[المتوارثين يهلكون ولا يدرى أيهما مات]
في المتوارثين يهلكون ولا يدرى أيهما مات
قبل صاحبه قال مالك: بلغني أنه قتل طلحة بن عبد الله وابنه محمد بن طلحة يوم الجمل فاختصموا في ميراثه، فلم يورث أحد منهم من صاحبه، فأصلحت بينهم عائشة.
قال محمد بن رشد: هذا هو مذهب مالك وجميع أصحابه ألا يورث واحد منهما من صاحبه، ويكون ميراث كل واحد منهما لورثته من الأحياء، وهو مذهب زيد بن ثابت، وجمهور أهل المدينة، ومذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة وأصحابهما، فيما حكى ابن عبد البر أن الطحاوي ذكره، ولم يقع ذلك له في كتابيه المعروفين، وقد قيل إنه يورث كل واحد منهما من

(17/350)


صاحبه مما تركه لا مما ورثه عنه، مثال ذلك أن يموت رجل وابنه ولكل واحد منهما ولد ولا يدرى أيهما مات قبل صاحبه، ويترك كل واحد منهما ستمائة دينار فيورث الأب من ابنه، فيكون له من الستمائة دينار التي ترك مائة دينار تكون لولده الحي، ويورث الابن من أبيه، فيكون له من الستمائة التي ترك ثلاثمائة دينار تكون لولد الحي، فيحصل لولد الابن ثمانمائة دينار، خمسمائة دينار ورثها مما ترك أبوه، والثلاثمائة دينار التي ورثها أبوه عن والده، ويحصل لولد الأب أربعمائة دينار ثلاثمائة دينار ورثها من الستمائة التي ترك أبوه، والمائة دينار التي ورثها والده عن ابنه، وكذلك لو مات زوجان غرقا في البحر وترك كل واحد منهما أربعمائة دينار وعاصبا، فيورث الزوج من زوجته مائتي دينار من أربعمائة دينار التي تركت الزوجة، مائة دينار من الأربعمائة دينار التي ترك، فيصير لعاصب الزوجة مما تركت المائتان التي فضلت بعد نصيب الزوج، والمائة التي ورثت عن زوجها، ويصير لعاصب الزوج الثلاثمائة التي فضلت مما ترك بعد نصيب الزوجة، والمائتان التي ورث من زوجته، وهذا القول يروى عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وهو قول شريح وأبي عبيدة والشعبي وأبي حنيفة فيما ذكر في الفرائض.

[تبدئة الرجل أخاه على نفسه في كتاب الله وهو أصغر منه]
في تبدئة الرجل أخاه على
نفسه في كتاب الله وهو أصغر منه وسئل عن الرجل يكتب إلى أخيه وهو أصغر منه فيبتدئ باسمه قبله لمعرفته بحاله ودينه، وقال مالك: لا بأس بذلك إذا كانت تبدئته على هذا الوجه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أنه أبدأه على نفسه لفضله ودينه لا لغرض من أغراض الدنيا فلا بأس بذلك؛ لأن الرجلين إذا كان أحدهما أسن والأخر أفضل فالأفضل أولى بالتقديم من الأسن، وإنما يجب تقديم الأسن

(17/351)


إذا استويا في الفضل لأن زيادة السن زيادة في الفضل، وسيأتي هذا المعنى بزيادة عليه في رسم شك في طوافه.

[المراد باللينة من النخل]
في اللينة من النخل وقال مالك في قول الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] قال اللينة فأمر العجوة من الثمار من الألوان.
قال محمد بن رشد: قد قال في اللينة إنها لون من النخل، وروي ذلك عن ابن عباس، وقال مجاهد اللينة النخل كلها العجوة وغيرها ويشهد بصحة قول مالك ما وري عن ابن عباس وغيره من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقطع نخل بني النضير إلا العجوة، وذلك كانت قوتهم الذي يعتمدون عليها، وهي التي جاء الحديث في فض جلتها، قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «العجوة من الجنة» وثمرها يغدو ما لا يغدو غيره والله أعلم، فشق ذلك عليهم وقالوا: أنتم تزعمون أنكم تكرهون الفساد وهذا من الفساد دعوا النخل لمن غلب، فأنزل الله تعالى الآية بتصويب فعل نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأن ما أمر به عن إذنه عز وجل.
وقيل إنهم أخا قطعوا بعضا وتركوا بعضا سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لهم اجر فيما قطعوا؟ وهل عليهم وزر فيما تركوا؟ فأنزل الله الآية فهي دالة على إباحة القطع وعلى ألا حرج في الترك، وتوقف مالك في المدونة في الأفضل من ذلك، وتأول الآية على أنه لا بأس بالقطع

(17/352)


[والأظهر] أفضل من الترك، لما في ذلك من إذلال العدو وإصغارهم ونكايتهم، وقد قال الله عز وجل: {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] إلا أن يكون بلد يرجى أن يصير للمسلمين فيتوقف عن القطع والتحريق والتخريب أفضل بدليل نهي أبي بكر الصديق أمراء جيوشه إلى الشام لما علم من أن المسلمين يستفتحونها، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث المشهور: «وتفتح الشام فيأتي قوم فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» ، وبحضه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصلاة في بيت المقدس وبشد المطايا إليها، وما أشبه ذلك من الآثار الدالة على ذلك، وإنما نهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قطع العجوة لأنها من ثمار الجنة على ما روي عنه، والله أعلم، وقد مضى هذا الرسم من هذا السماع [من كتاب الجهاد المذكور] ، وبالله تعالى التوفيق.

[مناقشة الحساب]
في مناقشة الحساب وسمعته يقول: قالت عائشة: «من نوقش الحساب هلك.
» قال محمد بن رشد: قول عائشة هذا يشهد القرآن بصحته قوله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الانشقاق: 7] {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 9] ، وبالله التوفيق.
وهو حسبي ونعيم الوكيل.

(17/353)


[دعاء النبي عليه السلام في فتح خيبر]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت
في دعاء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في فتح خيبر قال: وسمعته يذكر أنه «لما كان فتح خيبر قال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله لا نستطيع القتال، قال: لم؟ قالوا: الجوع منعنا والبرد والعري، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم افتح عليهم اليوم أكثرها طعاما وودكا» .
قال محمد بن رشد: وقع هذا الحديث في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد، وزاد فيه ففتح الله عليهم خيبر، وإنما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خيبر: «اللهم افتح عليهم اليوم أكثرها طعاما وودكا؛» لأنه كان بخيبر حصون كثيرة ففتح الله عليهم ذلك اليوم بدعاء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خيبر نفسها، ولا شك في أنها كانت أكثرها طعاما وودكا، وبالله تعالى التوفيق.

[رفع عمر بن الخطاب صوته في صلاته بسورة النبي عليه السلام]
في رفع عمر بن الخطاب صوته في صلاته بسورة
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعدما كان يفعل وقول عائشة فيه قال مالك: قرأ عمر بن الخطاب بسورة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فرفع بها صوته فوق ما كان من قراءته كأنه يريد أن يسمع قراءتها أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقيل له: يا أمير المؤمنين لم رفعت صوتك؟ قال: أريد أن أذكرهن العهد، قال مالك: وكانت عائشة تقول: إذا أردتم أن يطيب لكم المجلس فاذكروا عمر.

(17/354)


قال محمد بن رشد: في رفع عمر بن الخطاب صوته في الصلاة فوق ما كان يفعل ليسمع أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قراءة السورة التي فيها ذكرهن ليذكرهن بذلك العهد دليل على إجازة رفع صوت المأموم بالتكبير ليسمع ذلك من بعد من الإمام فيقتدي بتكبيره، إذ لا فرق بالمعنى بين الموضعين، وقد كره ذلك جماعة من الفقهاء المتأخرين ولم يجيزوه، وفيما جاء في الحديث الصحيح من تأخر أبي بكر عن الصلاة بالناس إذ خرج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في مرضه وهو يصلي، فتقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر، دليل أيضا على إجازة ذلك؛ لأن المعنى فيه على القول بأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان الإمام في تلك الصلاة، أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضعف عن رفع صوته بالتكبير، فكان أبو بكر هو الذي يسمع الناس التكبير فيصلون بصلاته، أي يقتدون بتكبيره في صلاتهم خلف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وفي ذلك اختلاف قد مضى في رسم اغتسل فوق هذا.
وقول عائشة في عمر إن المجلس يطيب بذكره بين على ما قالته؛ لأن ذكر هديه وما كان عليه من أمره مما تنشرح له الصدور، وتطيب به النفوس، وبالله تعالى التوفيق.

[ما رأى النائم لعمر في خلافة أبي بكر]
فيما رأى النائم لعمر في خلافة أبي
بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال ابن القاسم: سمعت مالكا يذكر أن رجلا على عهد أبي بكر رأى فيما يرى النائم أن الناس حشروا، وأنه رأى عمر ابن الخطاب يفضل الناس قد فرعهم بثلاثة أدرع أو ثلاث بسطات، فقلت: بم

(17/355)


فضل عمر بن الخطاب؟ فقيل له: بالشهادة والخلافة وبأنه لا يخاف في الله لومة لائم، فأتى الرجل إلى عمر وهو قاعد مع أبي بكر فقص عليه الرؤيا، فقال عمر: أحلام نائم، فلما ولى أرسل إليه، فقال: أخبرني بالرؤيا، فقال: ما كنت أخبرتك فرددتها علي، فقال: أو لا تستحي أن تقصها وأبو بكر حي، فقصها عليه الرجل فقال: الخلافة، فقال: هذه أولهن ثم قال: وبالشهادة، فقال عمر: أنى لي بالشهادة والعرب حولي، ثم قال: والله إني لقادر على ذلك، ثم قال: وإنه لا يخاف في الله لومة لائم، فقال عمر: ما أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من دار الحق فأدير.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في المدونة فقال فيها: وما كنت تستحيي أن تذكر فضيلتي في موضع فيه أبو بكر؟ والذي ها هنا أولى وأصح في المعنى؛ لأنه إنما كره أن يقص الرؤيا بحضرة أبي بكر والله أعلم، لما فيها من ذكر الخلافة وأبو بكر خليفة، وأما فضيلته فمعلومة يعرفها أبو بكر ويقر له بها، وإن كان هو لا يدعيها، وما يظهر من قوله أن تذكر فضيلتي، وليس في الرؤيا ما يدل على أن له عليه فضلا، إذ لم يقل إن أبا بكر كان في جملة الناس الذين فضلهم، فإنما أنكر عليه أن يقص الرؤيا بحضرة أبى بكر لما فيها من خلافته، والله أعلم، وهذه الرؤيا وما كان مثلها حق؛ لأنها جزء من أجزاء النبوءة، قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرؤية الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة، أو من خمسة وأربعين، أو من سبعين» على ما روي من ذلك كله عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقد مضى الكلام في المعنى

(17/356)


في هذه التجزية مستوفى قبل هذا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[قول الأنصار إذ دعاهم النبي عليه السلام ليقطع لهم بالبحرين]
في قول الأنصار إذ دعاهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
ليقطع لهم بالبحرين قال: وسمعت مالكا يقول: حدثني يحيى بن سعيد، عن انس بن مالك، «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دعا الأنصار فأراد أن يقطع لهم بالبحرين فقالوا: لا يا رسول الله حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنه ستصيبكم أثرة من بعدي، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» .
قال محمد بن رشد: مصداق هذا الحديث في كتاب الله، حيث يقول في ثنائه على الأنصار: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] نزلت في الذي أضافه منهم ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفئي السراج، فجعل يري ضيفه أنه يأكل معه وهو لا يأكل، وقوله: ستصيبكم بعدي أثرة، يروى أثرة بفتح الألف والثاء، ويروى أثرة بضم الألف وإسكان الثاء، والمعنى في ذلك سواء يقول: سيأتي زمن يستأثر عليهم فيه بالأموال، وأراد بقوله: ستصيبكم أمته إلا المخاطبين بأعيانهم، فكان كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي هذا ترك الخروج على أمراء الجور.

(17/357)


[قول أبي بكر عند نزول قول الله عز وجل ولو أنا كتبنا عليهم]
في قول أبي بكر عند نزول قول
الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 66]
الآية قال: وسمعت مالكا يقول: لما نزلت هذه الآية {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] قال أبو بكر: والذي بعثك بالحق إن كنت لفاعلا.
قال محمد بن رشد: لا شك أن أبا بكر من القليل الذي استثنى الله في الآية، فلا أحد أحق بهذه الصفة منه، ويمينه على ذلك برة، وفي هذا حجة لرواية ابن الماجشون عن مالك فيمن حلف في أمر سلف لو كان كذا وكذا لفعلت كذا وكذا لما يمكنه فعله، لا حنث عليه، خلاف قول أصبغ إنه حانث، لا يدري هل كان يفعل أو لا يفعل.

[قول ابن عباس إنه لا يزال لله في الأرض ولي]
في قول ابن عباس: إنه لا يزال لله
في الأرض ولي
قال مالك: بلغني عن ابن عباس أنه كان يقول: لا يزال لله في الأرض ولي ما كان للشيطان فيها ولي.
قال محمد بن رشد: إن لم يكن هذا عند ابن عباس عن توقيف من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فإنه أخذه من قول الله عز وجل حاكيا عن إبليس: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص: 79] {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [ص: 80] {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [ص: 81] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83]

(17/358)


وفي هذا أن الإملاء باق إلى قيام الساعة، وبالله تعالى التوفيق.

[ما خص به عيسى دون سائر البشر]
فيما خص به عيسى دون سائر البشر قال مالك: بلغني أنه ما من مولود يولد إلا والشيطان يطعن في خصيبه، إلا عيسى ابن مريم فإن الشيطان حين طعن حال بينه وبين ذلك الحجاب.
قال محمد بن رشد: ولا يرى في غير هذا الحديث ألا تسمعون إلى صراخه؟ ومن هذا قال أهل العلم: إن المولود لا يورث حتى يستهل صارخا، وإن رضع أو عطس أو تنفس إلا وقد استهل، وكذلك قال سحنون: إن الرضاع يدل على الحياة، ولا يمكن أن يرضع حتى يستهل، وليس العطاس عنده مما يدل على الحياة، ورآه عبد العزيز بن أبي سلمة مما يدل على الحياة، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في أول سماع ابن القاسم من كتاب الزكاة.

[قرب الساعة]
في قرب الساعة قال مالك: وبلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بعثت أنا والساعة كأصبعي هاتين، وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام والأخرى» .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن قيام الساعة متصل بانقراض أمته إذ لا نبي بعده، قال الله عز وجل: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] .

(17/359)


[المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لقرب الساعة]
في المثل الذي ضربه النبي صلى الله
عليه وسلم لقرب الساعة قال مالك: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثلكم مثل قوم بعثوا طليعة إلى عدوهم فأراد أن يرجع إليهم فأعجله ما رأى منهم فألاح إليهم أتيتم أتيتم» .
قال محمد بن رشد: هذا مثل ضربه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقرب الساعة والحض على المبادرة بالأعمال قبل حلول الأجل، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، ولما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ناداهم اعملوا لما عند الله فإني لا أملك لكم من الله شيئا، وقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، وبالله تعالى التوفيق.

[النار التي تبعث في أرض اليمن]
في النار التي تبعث في أرض اليمن
في آخر الزمن قال مالك: بلغني أنه تبعث نار من أرض اليمن تسوق الناس سوقا إلى أرض المحشر.
قال محمد بن رشد: المحشر هي الشام التي يحشر الناس إليها

(17/360)


بعد البعث للحساب، وهذه النار التي تسوق الناس إلى أرض المحشر هي أول شرط من شروط الساعة الكبار التي تكون بين يدي الساعة كالدابة والدخان وياجوج وماجوج والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، يبين هذا قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أول أشراط الساعة بأن تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، ذكر البخاري في الترتيب، وخرج من رواية أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى» ، وهذا الحديث يشهد لصحته قول كعب الأحبار الذي يأتي بعد هذا في هذا الرسم من أن الساعة لا تقوم إلا على شعل نار بهذا الوادي، يعني وادي سرواغ بأكناف قديد، نار تضيء منه أعناق الإبل بأيلة، فيحتمل أن تكون هذه النار هي التي تبعث بأرض اليمن فتسوق الناس إلى أرض المحشر فتمر في طريقها على الحجاز على وادي سرواغ بقديد، ويحتمل أن تكون نارا أخرى، والله أعلم بحقيقة ذلك.
وأما أشراطها المؤذنة بقربها فكثيرة، من ذلك انشقاق القمر في حياة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على ما روي، قال الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] ومنها رمي الشياطين بالشهاب، ومنها موت الفجاة، والتطاول في البنيان، ومنها يؤتمن الخائن ويخون الأمين، وأن تلد الأمة ربها وربتها، وأشياء كثيرة أتت بها الروايات عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
والنبي أيضا من أشراطها إذ هو آخر الأنبياء لا نبي بعده، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، وأشار بأصبعيه التي تلي الإبهام والأخرى، يريد أن قيام الساعة متصل بانقراض أمته إذ لا نبي بعده، قال عز وجل: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] على ما مضى فوق هذا، وبالله تعالى التوفيق.

(17/361)


[التثبت في مسائل الاجتهاد]
فيما يلزم من التثبت
في مسائل الاجتهاد قال مالك: كان عمر بن الخطاب إذا شاور أصحابه قال لهم: ارجعوا وتثبتوا فإنه أثبت لكم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين؛ لأن ما يعين من الاجتهاد في الأحكام التي لا نص فيها في الكتاب ولا في السنة ولا فيما اجتمعت عليه الأمة، يفتقر إلى إعمال النظر في رد ما اختلف عليه إلى ما اتفق عليه بالمعنى الجامع بينهما، ووضع الأدلة في ذلك موضعها، وذلك لا يكون إلا بعد روية وتدبر، لا يصح إلا بصرف الهمة إلى ذلك، والانفراد له دون الاشتغال بما سواه، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.

[ما أمر به عمر من عد الأئمة]
فيما أمر به عمر
من عد الأئمة قال: وسمعت [مالكا] يذكر، قال عمر بن الخطاب: عدوا الأئمة، فعدوا له رهيطا، قال: سبحان الله أمتروك الناس بغير أئمة؟
قال محمد بن رشد: أراد عمر بالأئمة الأئمة في الدين والعلم الذين يفتونهم في ذلك كله، فلما لم يبلغ ما عدوا منهم إلا رهيطا قال: سبحان الله!! أنكر ألا يكون في عهده من الأئمة إلا من عدوه، هذا معنى قوله، والله أعلم، ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم» . كان الصحابة في زمن عمر

(17/362)


ابن الخطاب متوافرين، فيبعد ألا يكون فيهم أئمة يعتمد بهم [إلا رهيطا] .

[تعريف التقي]
في التقي قال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يقول: التقي ملجم لا يستطيع أن يعمل بكل ما يريد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين؛ لأن من خاف الله عز وجل حجزه خوفه عن هواه، قال الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] ، وبالله تعالى التوفيق.

[المسجد الذي أسس على التقوى]
في المسجد الذي أسس على التقوى قال مالك: بلغني أن المسجد الذي أسس على التقوى مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
قال محمد بن رشد: هذا الذي حكى مالك أنه بلغه، يريد عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، من أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هو مذهبه، وبه قال، وله احتج في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الصلاة، بأن قال: أين كان يقوم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أليس في هذا؟ ويأتونه أولئك. وقال الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] فإنما هو مسجد رسول الله

(17/363)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد قال عمر بن الخطاب: لولا أني رأيت رسول الله أو سمعته يريد أن يقدم القبلة وقال عند ذلك بيده ما قدمتها، قدمها عمر لموضع المقصورة الآن، فلما كان عثمان بن عفان قدمها إلى موضعها الذي هي به الآن، ثم لم تحول بعد، وهو مروي عن أبي سعيد الخدري وغيره، «أن رجلا من بني خدرة، ورجلا من بني عمرو بن عوف امتريا في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال العوفي: هو مسجدنا بقباء، وقال الخدري: هو مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرجا فأتيا النبي فسألاه عن ذلك فقال: هذا المسجد، هو مسجد رسول الله» وفي ذلك خير كثير، وإلى هذا ذهب ابن عمر.
وخالفه ابن عباس وجماعة من العلماء فذهبوا إلى أنه مسجد قباء مسجد سعد بن ختمة بظاهر ما في كتاب الله عز وجل من قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] إلى قوله: {الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] يريد الأنصار بما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لما نزلت: " يا معشر الأنصار إن رسول الله قد أثنى عليكم في الطهور في طهوركم، قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء، وفي بعض الآثار: ونستنجي بالأحجار ثم بالماء» ، فقال: هو ذلك فعليكموه، وهذا ليس بدليل قاطع لاحتماله التأويل؛ لأن أولئك الرجال كانوا في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأنه كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم من الصحابة.
واستدلوا أيضا ببنيان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياه، روي «عن عائشة أنها قالت: أول من حمل حجر القبلة بمسجد قباء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم حمل أبو بكر آخر، ثم حمل عمر آخر، ثم حمل عثمان آخر، فقلت: يا رسول الله أما ترى هؤلاء يتبعونك؟ فقال: أما هم

(17/364)


أمراء الخلافة من بعدي» وهذا لا دليل فيه أيضا؛ لأنه بنى مسجده أيضا فلم يختص بناء مسجد قباء دون مسجده، فصح ما ذهب إليه مالك بتأييد الأثر له عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالنص على أنه مسجده.
واستدلال مالك في رواية أشهب عنه بقول عمر بن الخطاب ظاهر، وذلك أن الله تعالى لما ذكر فيه أنه أسس على التقوى لم يستجز نقض أسه وتبديل قبلته إلا بما سمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك وأراه قد أراد أن يفعله.
وروي عن ابن عباس أنه قال: «لما بنى رسول الله مسجد قباء خرج رجال من الأنصار وهم اثنا عشر رجلا من المنافقين فبنوا مسجد النفاق، فقال رسول الله لأحدهم: ويلك ما أردت إلى ما أرى؟ فقال: يا رسول الله ما أردت إلا الحسنى، وهو كاذب، فصدقه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وروي «أن رسول الله أقبل من تبوك حتى نزل بذي أوان: بلد بينه وبين المدينة ساعة من النهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاقة، وإنا لنحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: إني على جناح سفر وحال شغل، أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو قد قدمنا أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد بما أنزل الله فيه من قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107] » يعني ليلا يصلون في مسجد قباء جميعا {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 107] يعني رجلا كان منهم يقال له أبو عامر الراهب، كان محاربا لرسول الله، وكان قد انطلق إلى هرقل، فكانوا يرصدون إذا قدم أبو عامر أن يصلي فيه، وكان قد خرج

(17/365)


من المدينة محاربا لله ورسوله، فقالوا: إذا رجع أبو عامر من عند هرقل أو من عند قيصر صلى فيه ثم يظهر على محمد: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] أي لا تقم يا محمد في المسجد الذي بنى هؤلاء المنافقون ضرارا وتفريقا بين المؤمنين، ثم أقسم عز وجل فقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ} [التوبة: 108] إلى قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] وكل القراء قرأ أسس بنيانه بالنصب في هذين الموضعين، وهذا بين في المعنى، إلا نافعا وابن عامر فإنهما قرآ أسس بنيانه بالرفع على ما لم يسم فاعله.

[ما جاء في الفردوس]
قال مالك: حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «الجنة مائة درجة، أعلاها وأوسطها الفردوس، منها تتفجر أنهار الجنة، وعليها العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» .
قال محمد بن رشد: في هذا أن الاختيار للداعي إذا دعا الله عز وجل يسأله أرفع المنازل؛ لأن الله جواد كريم يستجيب للداعي إذا دعاه، وبالله تعالى التوفيق.

[تسمية المولود يوم سابعه]
في تسمية المولود يوم سابعه قال مالك: يسمى الصبي في اليوم السابع.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لمالك في رسم يسلف المتاع والحيوان المضمون من سماع ابن القاسم من كتاب العقيقة، وإنما اختار مالك أن يسمى المولود يوم السابع لما جاء في الحديث من قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الغلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه

(17/366)


ويسمى» ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «سموا المولود يوم سابعه» ، والأمر في ذلك واسع، روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين ولد له ابنه إبراهيم: «ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم» «وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتي بعبد الله ابن أبي طلحة صبيحة الليلة التي ولد له فيها، فحنكه بثمر عجوة ودعا له وسماه عبد الله،» في حديث طويل.
ويحتمل أن يكون معنى ما في الحديث من تسمية المولود يوم سابعه ألا تؤخر تسميته عن ذلك؛ لأنه إذا سماه يوم السابع فهو مسمى يوم السابع وقبله، فيتفق الآثار على هذا، وقال ابن حبيب على اختيار مالك: ولا بأس أن يتخير له الأسماء قبل السابع، ولا يقع عليه الاسم إلا يوم السابع.
فإن مات قبل يوم السابع سمي بعد موته، ولم تترك تسميته؛ لأنه ولد ترجى شفاعته، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن السقط ليظل حبطيا على باب الجنة يقال له: ادخل الجنة، فيقول لا أدخل حتى يدخل أبواي» وذكر لمالك الحديث الذي ذكر أن السقط يقول يوم القيامة لأبيه: تركتني بلا اسم فلم يعرفه، وبالله التوفيق.

[ما أعطى عمر لامرأته بالشام حين قدمها]
فيما أعطى عمر لامرأته
بالشام حين قدمها
قال مالك: لما قدم عمر بن الخطاب الشام أعطى أبا عبيدة مائتي دينار يجعلها في حاجته، ثم دفع إلى معاذ بن جبل مثلها ففرقها، فقالت له امرأته: غفر الله لك، ما لنا فيها حق؟ وكانت قد

(17/367)


بقيت أربعة دنانير فطرحها إليها.
قال محمد بن رشد: في هذا ما كان عليه أبو عبيدة ومعاذ بن جبل من الزهد في الدنيا والرغبة فيما رغب الله فيه في بذل المال في طاعته وأثنى على فاعله بقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة: 177] إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] ، وبالله التوفيق.

[التحذير من الكذب]
في التحذير من الكذب قال مالك: يقال عن ابن مسعود كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن من يحدث بكل ما سمع يحدث بالحق والباطل، ولكن ليس ذلك بحقيقة الكذب المحرم إذ لم يختلقه هو، فإن كان كذبا فإثمه على دس من اختلقه، وقد مضى الكلام في الكذب وتقسيمه في أول رسم حلف قبل هذا.

[الصلاة بغير رداء]
في كراهية الصلاة بغير رداء وقال مالك: رأى ابن عمر نافعا يصلي بغير رداء، فقال له: ألا أخذت رداءك، فإن الله أحق من تجمل له، قال: وجاء عنه من وجه آخر أنه رآه يصلي في خلوته بثوب واحد، فقال له: ألم أكسك يوم الأول ثوبين؟. قال: بلى، قال: أفكنت تخرج إلى السوق بثوب واحد؟ قال: لا، قال: فالله أحق أن يتجمل له.
قال محمد بن رشد: حض ابن عمر نافعا مولاه على أن يصلي بردائه وفي ثوبين إن كان في خلوته هو مثل ما في المدونة لمالك من قوله:

(17/368)


وأحب إلي أن يجعل على عاتقه عمامة إن كان مسافرا أو صلى في داره، وكره في المدونة للإمام أن يجعل على عاتقه عمامة في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، ونزع بقوله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] .
وما كره تركه ففعله مستحب، والاستحباب في هذا على مراتب أربعة، فأعلاها في الاستحباب وأكرهها فيه صلاة الأئمة في مساجد الجماعات ومساجد القبائل بالأردية، وما كان في معناها من الغفائر والبرانس، ويليها في الاستحباب صلاة المنفرد في الجماعات ومساجد القبائل بالرداء وما كان في معناه، ويلي ذلك في الاستحباب صلاة الإمام في داره وفي فنائه بالرداء وما كان في معناه، ويلي ذلك صلاة المنفرد بداره بالرداء أو ما يقوم مقامها وهو أدناها مرتبة في الاستحباب، فإذا صلى الإمام بالناس في مساجد الجماعات بخس نفسه حظا وافرا من الأجر، والله أعلم بقدره، وإذا صلى وحده في مساجد الجماعات بغير رداء فقد بخس نفسه من الحظ والأجر دون ذلك، وإذا أم الرجل الجماعة في داره بغير رداء فقد بخس نفسه من الحظ والأجر دون ذلك، وإذا صلى الرجل في داره بغير رداء فلا بأس بذلك لأن الذي بخس نفسه في صلاته وحده بغير رداء يسير.

[عدد من قتل يوم الحرة]
في عدد من قتل يوم الحرة قال وسمعت مالكا يقول: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل كلهم قد جمعوا القرآن، قال ابن القاسم شككت أنه كان فيهم أربعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ.
قال محمد بن رشد: الحرة كان في خلافة يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين من الهجرة، وذلك أن أهل المدينة خلعوا طاعة يزيد بن معاوية

(17/369)


وأخرجوا المغيرة بالمدينة وكان القائم بذلك عبد الله بن حنظلة، فكتب بذلك مروان بن الحكم إلى يزيد فجيش إليهم الجيوش، فكان من أمرهم ما قد مضى في رسم حلف فيما ذكر مالك فيه عن سعيد بن المسيب من أنه قال: خلا مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يجمع فيه ثلاثة أيام يوم قتل عثمان ليوم الحرة ويوم آخر.

[ما حكي عن كعب الأحبار من أنه ستشتعل بوادي سوارغ نار]
فيما حكي عن كعب الأحبار من أنه ستشتعل
بوادي سوارغ نار قال مالك: قال كعب الأحبار لأبي واقد الليثي أبو واقد رجلا أعرابيا عارفا بالبلد وهو بأكناف قديد أي واد هذا؟ قال: هذا سوارغ، قال كعب: والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من هذا الوادي تضيء منه أعناق الإبل.
قال محمد بن رشد: مثل هذا من الأخبار بما يكون بالمغيبات لا يكون إلا عن توقيف، وشهد له ما خرجه البخاري من رواية أبي هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى» فإن صح هذا وكان على الحقيقة فهو من أشراط الساعة التي تكون بين يديها، مثل ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في النار التي تبعث من اليمن فتسوق الناس إلى المحشر على ما حكى

(17/370)


مالك فوق هذا أنه بلغه، ويحتمل أن يكون ذلك مجازا على غير حقيقة واستعارة من فتنة تكون بالوادي المذكور واختلاف واختلاط يبلغ ضرره إلى أن يكون أيلة، فإن المجاز جائز استعماله، وقد جاء ذلك كثيرا في القرآن والسنن والأخبار، من ذلك قول الله عز وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] والاشتعال لا يكون حقيقة إلا في النار، وقوله عز وجل: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] والذل لا جناح له حقيقة.

[إهلال عيسى ابن مريم بالحج]
في إهلال عيسى ابن مريم بالحج قال مالك: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليهلن ابن مريم بفج الروحا حاجا ومعتمرا، أو ليثنينهما، فقيل ما معنى ذلك؟ أيقرن أم يحج ويعتمر قال: بل يحج ويعتمر» .
قال محمد بن رشد: قد أعلم الله عز وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن عيسى ابن مريم ما قتل ولا صلب وأن الله رفعه إليه، وأخبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إخبارا أوقع العلم به أنه سينزل في آخر الزمن حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وفي بعض: فيهلك الله في أيامه الملل كلها، فلا يبقى إلا الإسلام، وتقع الأمنة في الأرض، حتى يرعى الأسد الإبل، والنمور مع البقر، والذياب مع الغنم، والغلمان بالحيات، فلا يضر بعضهم بعضا، فهذه الأحاديث يعضد بعضها بعضا، ويشهد بصحة ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ في هذه الحكاية، وقد وقعت في رسم الحج من سماع أشهب من كتاب الحج.

(17/371)


وقال مالك فيها متصلا بقوله: أو ليثنينهما، أراد في رأيي يجمعنهما، والجمع. بين الحج والعمرة هو القران بعينه، وذلك أظهر في تأويل ليثنينهما من قوله في هذه الرواية ليس معنى ذلك القران، وإنما معناه أن يحج ويعتمر، وبالله تعالى التوفيق.

[المقسطون على منابر يوم القيامة على يمين الرحمن]
ومن كتاب أوله سئل عن تأخير صلاة
العشاء في الحرس حكاية عن مالك أن كعب الأحبار تكلم بكلام- خفي فقال له عمر: ما لك تكلمت به؟ قال: لا شي، قال: لتخبرني، قال، قلت: ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، فقال عمر: إلا من حاسب نفسه، قال كعب: والذي نفسي بيده وأنه تعالى آثرها في كتاب الله.
قال محمد بن رشد: فهم عمر - والله أعلم - أن الكلام الخفي الذي تكلم به قاله بسببه، فلذلك سأله عنه وعزم عليه أن يخبره به.
وقوله: ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، معناه إن لم يعدل فيما جعل الله له عليه السلطان وهو معنى قول عمر ابن الخطاب: إلا من حاسب نفسه؛ لأن من عدل في سلطانه فهو في أرفع المنازل عند الله، روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «المقسطون على منابر يوم القيامة على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين» . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله» فبدأ بالإمام العادل، ومثل هذا كثير، وفي موافقة بقوله

(17/372)


إلا من حاسب نفسه، كتاب الله أي التورية على ما أخبر به كعب وحلف عليه، بيان قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فيه «إن الله ضرب بالحق على قلب عمر ولسانه» ، فكان يرى الرأي بقلبه ويقول الشيء بلسانه فيوافق الحق فيه، وقد نزل القرآن بموافقته في تحريم الخمر وفي أسرى بدر وفي الحجاب وفي مقام إبراهيم على ما جاء في ذلك كله.

[ما قل وكفى خير مما كثر وألهى]
في أن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وسمعت مالكا يقول كان داود النبي يقول: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
قال محمد بن رشد: في قول داود النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، دليل على أنه ليس بخير مما كثر إذا لم يله، وفي هذا تفضيل الغنى على الكفاف، وهو أيضا أفضل من الفقر على ما يختاره مما قيل في ذلك في رسم نذر منه، وبيان هذا بالحجة فيه، وبالله تعالى التوفيق.

[تواضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه]
في تواضع عمر بن الخطاب
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسمعت مالكا يقول: قيل لعمر: تركب دابة بالشام حين دخلها فقال: لا، إنما أعزنا الله بالإسلام.
قال محمد بن رشد: قال مالك في سماع أشهب من كتاب الدعوى والصلح وتلقي عمر يومئذ ببرذون نحاري فركبه حتى نزل عنه

(17/373)


وسبه فقيل له ما لك؟ فقال ركبتموني على شيطان حتى أنكرت نفسي، ولما دخل الشام تلقاه عجمها ركب خلف أسلم وقلب فرويه فجعلوا كلما لقوا أسلم يقولون أين أمير المؤمنين؟ فيقول أمامكم أمامكم حتى أكثروا، فقال له عمر: أكثرت عليهم، أخبرهم الآن، فسألوه فقال: هو هذا، فوقفوا كالمتعجبين من حاله، فقال عمر: لا يرون علينا ثياب قوم غضب الله عليهم، فنحن تزدري بنا أعينهم، ثم لم يزل قابضا بين عينيه حتى لقيه أبو عبيدة بن الجراح فقال: أنت أخي حقا لم تغيرك الدنيا، ولقيه على بعير خطامه حبل شعر أسود، وقد قال أنس بن مالك: رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين وقد وقع بين كتفيه برقاع ثلاث لبس بعضها فوق بعض، وهذا كله نهاية في التواضع من عمر بن الخطاب، ومن تواضع لله رفعه، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.

[الركوع بعد أذان المغرب]
في الركوع بعد أذان المغرب وسمعت مالكا يقول: أدركت بعض الشيوخ إذا سمع مؤذن المغرب قام فركع ركعتين قبل صلاة المغرب.
قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم: قال مالك: لا يعجبني هذا العمل لاختلاف بين أهل العلم في أن الصلاة قد حلت عند غروب الشمس لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى يبرز وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب» ولما جاء من أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وعن الصلاة

(17/374)


بعد العصر حتى تغرب الشمس، إلا أن صلاة المغرب قد وجبت بغروب الشمس، فلا ينبغي لأحد أن يصلي نافلة قبل صلاة المغرب؛ لأن تعجيل صلاة المغرب عند أول وقتها أفضل عند من رأى وقت الاختيار لها يتسع إلى مغرب الشفق، وهو ظاهر قول مالك في موطئه، وقد قيل إنه ليس لها في الاختيار إلا وقت واحد فلا يجوز أن تؤخر عنه إلا لقدر.
واختلف فيمن كان في المسجد منتظرا للصلاة هل له أن يتنفل بين الأذان والإقامة، فقيل ذلك له على ما حكاه مالك في هذه الرواية عن بعض من أدرك من الشيوخ، ومن حجتهم ما روى المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك قال: كان إذا نودي بالمغرب قام بباب أصحاب رسول الله يبتدرون السواري يصلون الركعتين، ومن حجتهم أيضا التعلق بظاهر ما روي عن النبي عليه السلام من قوله: «بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة. لمن شاء» على ما تأولوه من أنه أراد بذلك ما بين كل أذان وإقامة؛ لأن الإقامة أذان.
وقيل: ليس ذلك له، وهو مذهب مالك على ما روى ابن القاسم عنه في هذه الرواية من قوله: لا يعجبني هذا العمل.
وما ذهب إليه مالك من كراهة ذلك أظهر لثلاثة أوجه.
أحدها: حماية للذرائع؛ لأن ذلك لو أبيح في الناس فكان ذلك سببا لتأخير المغرب عن وقتها المختار، وعن أول وقتها المختار على مذهب من رأى لها وقتين في الاختيار.
والثاني: ما روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «عند كل أذان ركعتان ما خلا صلاة المغرب» .

(17/375)


والثالث: استمرار العمل من عامة العلماء على ترك الركوع في هذا الوقت، وأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يفعله ولا أبو بكر ولا عمر، إذ لو فعلوا ذلك لنقل عنهم، وقال إبراهيم النخعي من أجل هذا المعنى: إن الركعتين قبل المغرب بدعة، ويتخرج في المسألة قول ثالث بين أن يكون في المسجد جالسا من قبل غروب الشمس، وبين أن يدخل فيه بعد غروبها، فيجب إذا دخل فيه بعد غروبها منتظرا للصلاة ألا يجلس حتى يركع لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» ، وبالله تعالى التوفيق.

[سكنى البلد الذي تظهر فيه المناكر]
في كراهية سكنى البلد الذي تظهر فيه المناكر
ظهورا لا يقدر على تغييرها قال: وسمعت مالكا ذكر مرانطابلس في آثارها فقال: ما يعجبني سكنى هذه البلدة، وقال سعيد بن المسيب: إذا جئت قوما لا يوفون بالمكيال أو الميزان فأقل اللبث معهم، وإن حديث سعيد بن المسيب أيسر شدة مما ذكرتم.
قال محمد بن رشد: قوله في أثرها يريد في أثر أهلها مما يضيفون ويبيحون لهم ما لا يجوز مثل الربا وشبهه، والله أعلم، فكره السكنى معهم لذلك، كما كره سعيد بن المسيب المقام مع القوم الذين لا يوفون بالمكيال ولا بالميزان.

(17/376)


والسكنى معهم مكروه لوجهين، أحدهما: مخافة أن يعاقبهم الله على فعلهم فتأخذه العقوبة معهم، فقد روي «أن أم سلمة قالت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال رسول الله: " نعم إذا كثر الخبث» ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول ما يقال إن الله تعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحلوا العقوبة كلهم، والوجه الثاني: إذا عملوا بالربا ولم يوفوا بالمكيال والميزان فقد خالط مالهم الحرام والحلال، ولا ينفك من سكن معهم من معاملتهم، ومعاملة من خالط الحرام ماله مكروهة، ووقع في بعض الكتب، وسمعت مالكا يذكر أمر أنطابلس في أمر آبارها بالباء المعجمة من أسفل، فيحتمل أن يكون المعنى في ذلك على هذا أن آبارها ينضب الماء عنها فيضطر جميعهم إلى الغسل والوضوء والشرب من أجبابها ومراجلها، ولا يوقن بطهارة مائها؛ لأنه من ماء المطر يشرب إليها حتى يجتمع فيها، فقد تمر على المواضع النجسة، وقد تقع فيها النجاسات وتموت فيها الدواب، وتختلف في أخذ الماء منه أيدي الناس، ومنهم الجنب والحائظ ومن لا يتحفظ بدنه فيتوقى من النجاسة على ما يجب، فكره سكناها لذلك، وبالله التوفيق.

[حكم التنعم بالحلال]
في التنعم وزي العجم قال مالك: قال عمر: وإياكم وهذا التنعم وزي العجم.
قال محمد بن رشد: أما التنعم بالحلال فهو حلال وإن كان لا بد من السؤال عنه، قال الله عز وجل: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] وقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لتسألن عن نعيم هذا اليوم في الطعام» الذي كان عمله لهم أبو الهيثم بن التيهان، وقد كان صنع لهم خبزا من شعير، وذبح لهم شاة، واستعذب لهم ماء، لكنه يكره من أجل أنه إذا اعتاد التنعيم فيما رزقه

(17/377)


الله من المال قل فعله للخير فيه، وقد قال عمر بن الخطاب: إياكم واللحم فإن له ضراوة الخمر، وأدرك جابر بن عبد الله ومعه جمال لحم فقال ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين قرمنا إلى الفحم فاشتريت بدرهم لحما، فقال عمر: أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه عن جاره أو ابن عمه، أين تذهب هذه الآية؟ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] .
وأما زي العجم فمكروه للتشبه بهم، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «من تشبه بقوم فهو منهم، ومن رضي عمل قوم كان شريك من عمله» وقد جاء في لابسه أنه ملعون، وكذلك سيوفهم وشكلهم وجميع زيهم فهو مثله في اللعنة والكراهة، وروي «عن علي بن أبي طالب أن رسول الله نظر إلى رجل متنكب قوسا فارسية، فقال له يا صاحب القوس ألقها عنك فإنها ملعونة ملعون حاملها، وعليكم بهذه القسي العربية وبها الغنى، فبها يعين الله دينكم ويمكن لكم في البلد» فلا يجوز لأحد لبس شيء من زي العجم في صلاة ولا غيرها، ومن جهل فلبسه في صلاة فقد أساء، ولا إعادة عليه إن كان طاهرا، وبالله التوفيق.

[استكتاب النصراني]
في أن النصراني لا يستكتب وسئل مالك عن النصراني أيستكتب؟ فقال: لا أرى ذلك، ومن ذلك أن الكاتب يستشار، أفيستشار النصراني في أمر المسلمين وغير ذلك؟ فما يعجبني أن يستكتب.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا متكررا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب السلطان، وهو بين على ما قاله، ومثله في الأقضية من

(17/378)


المدونة، ولا ينبغي أيضا أن يستكتب القاضي من المسلمين إلا العدول المرضيين، وبالله التوفيق.

[النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد الصدقة ويقبل الهدية]
في أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرد
الصدقة ويقبل الهدية قال مالك: بلغني أن سلمان أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصدقة في أول الإسلام، فردها عليه، وأتى بهدية فقبلها منه.
قال محمد بن رشد: الفرق في المعنى بين الصدقة والهدية أن الصدقة هي ما يقصد بها المتصدق الإحسان إلى المتصدق عليه والتفضل عليه، والهدية هي ما يقصد بها المهدي إكرام المهدى إليه وإتحافه بالهدية لكرامته عليه ومنزلته عنده إرادة التقرب منه، فالمتصدق يتفضل على المتصدق عليه وليس المهدي يتفضل على المهدى إليه، وإنما المهدى له هو المتفضل على المهدي في قبول الهدية، فنزه الله تبارك وتعالى نبيه عن الصدقة بأن حرمها عليه، وأباح له الهدية لما فيها من صلة المهدي وإدخال السرور عليه بتبليغه، أما ما قصد بهديته إليه فهذا حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خاصته، لا تحل له الصدقة بوجه من الوجوه، ولا على حال من الأحوال.
وأما آله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنها تحرم عليهم الزكوات والكفارات التي هي أوساخ الناس، يغسلونها عنهم، لا صدقة التطوع جائز للرجل أن يتصدق على من شاء منهم بما شاء من ماله تطوعا.
والأصل في جواز ذلك ما روي «عن ابن عباس قال: قدمت عير المدينة فاشترى منه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - متاعا فباعه بربح أواق من فضة، فتصدق بها على أرامل بني عبد المطلب» .
واختلف فيما أخرج الرجل تطوعا من ماله دون أن يجب عليه صدقة للمساكين هل لمفرقها أن يعطي منها لفقراء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شيئا ويسوغ لهم

(17/379)


ذلك أم لا على قولين، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.

[قبول الرجل ما أعطي من غير مسألة]
في قبول الرجل ما أعطي من غير
مسألة قال مالك: بلغني «أن عمر بن الخطاب رد شيئا أعطيه، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لم رددته؟ فقال: للذي قلت يا رسول الله في العطية، قال: إنما ذلك على وجه المسألة، فأما ما أتى الله به من غير المسألة فإنما هو رزق رزقك» إقيل له: كان في الحديث رخصة.
قال محمد بن رشد: قوله: رد شيئا أعطيه يريد رد شيئا أعطاه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من مال الله.
وقوله: للذي قلت يا رسول الله في العطية، يريد الحديث الذي جاء حرا «إن خيرا لأحدكم ألا يأخذ من أحد شيئا، قالوا: ولا منك يا رسول الله؟ قال: ولا مني» .
وقوله فيما أعطي الرجل من غير مسألة أنه رزق رزقه الله دليل على إباحة أخذ الرجل عطية الإمام من بيت المال إذا لم يعلم أن كان المجبى حلالا أو حراما، وليس عليه أن يبحث على ذلك، وكذلك إذا علم أن في المجبى حلالا وحراما له، في ظاهر الحديث رخصة أن يأخذ دون أن يبحث هل أعطاه مما فيه من الحلال، أو مما فيه من الحرام، أو مما اختلط حلاله بحرامه، وقد مضى قبل هذا في رسم الشجرة القول في الأخذ من بيت المال على افتراق أموال المجبى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
تم الجزء الثالث من الجامع والحمد لله

(17/380)