البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب الجامع
الثاني] [قراءة الطالب على الراوي]
ومن كتاب أوله حلف أن لا يبيع سلعة سماها في العرض على العالم هل يقال فيه
حدثنا؟ وسئل مالك فقيل له: أرأيت ما عرضنا عليك القول فيه حدثنا قال: نعم،
قد يقول الرجل يقرأ على الرجل: أقرأني فلان وإنما قرأ عليه. ولقد قال ابن
عباس: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف، فقيل له: أفيعرضِ الرجل أحب إليك أم
تحدثه؟ قال: بل يعرض إذا كان مثبتاَ في قراءته، وربما غلط الذي يحدث أو
سها، إِن الذي يعرض أحب إلي وأعجب في ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب مالك، إِن
قراءة الطالب على الراوي أصح له من قراءة الراوي عليه، لأن الطالب
إذا كان هو القارئ فيها وغلط رد عليه الراوي بعلمه، مع حضور ذهنه أو من
بحضرتّه، وإذا كان الراوي هو القارئ لم يرد عليه الطالب، إِما لجهله، وإِما
لمهابته الشيخ، وإِما لأنه صادف موضع اختلاف، فيظن ذلك له مذهباً يحمله
عنه. وروى ابن أبي أويس عنه أنه قال: السماع عندنا على ثلاثة أضرب: أولُها
قراءةٌ على العالم، والثاني قراءة العالم عليك، والثالث أن يدفع
(17/143)
العالم إليك كتاباً قد عرفه، فيقول: اروه
عني. والذي عليه الجمهور أن قراءة الطالب على العالم مقدمة على قراءة
العالم على الطالب، وروى علي وابن عباس أنهما قالا: قراءتك على العالم،
كقراءة العالم عليك، وهو مذهب أهل المدينة قديماً وحديثاً، فهي ثلاثة
أقوال. وأهل العراق لا يجيزون الرواية عن العالم حتى يكون هو القارئ وقد
قال بعض الحفاظ: لا يختلف أهل الحديث في أن أصح مراتب السماع، قول العالم:
سمعت فلاناً قال: سمعت فلانا، ولا فرق في حكم اللسان بين أن يقول سمعت
فلاناً أو حدثني أو أخبرني، أو أنبأني أو خَبَّرني أو قال لي، أو ذكر لي،
وإنما تفترق هذه الألفاظ عند المحدثين في استعمالها من جِهة العرف والعادة،
لا من جِهة موضع اللسان. وروي عن ابن وهب أنه قال: يقال فيما هو قراءة عن
العالم: أخبرنا وفيما هو سماع من لفظ العالم: حدثنا فكأنه أراد أن يعرف
بهذا من حديثه، ما هو سماع عن الراوي مما هو قراءة عليه واختار ابن إسحاق
بن رَاهويه وجماعة من أصحاب الحديث، أخبرنا في الوجهين جميعاً. وقالوا:
أخبرنا أعم في التحديث من حدَّثنا. وهذه الألفاظ كلها في السماع من العالم
حقيقة، وفي القراءة عليه مجازاً.
والحقيقة فيه أن يقول: قرأت على فلان، لأن العدول من الحقيقة إلى المجاز
فيما لا يلتبس فيه المعنى جائز سائغ موجود في القرآن وفي السنن وفي الآثار.
وساغ المجاز في هذا لما كان الحكم فيما هو سماع وفيما هو قراءة سواء من جهة
أنه إذا قرأ على العالم فقد أقر به وأمره بنقله عنه، إذا
(17/144)
سمعه منه، وكذلك الإِجازة، وإن كانت على
مراتب، أعلاها المناولة، وأدناها أن يقول له: ما صح عندك من حديثي فارْوه
عني من غير أن يعين له شيئاً يستوي مع السماع من العالم والقراءة عليه في
إقراره وأمره بنقله عنه، فجاز أن يقول فيه: حدثنا وأخبرنا مجازاً ومن
المحدثين من ذهب إلى أنه يقول في الِإجازة: أنبَأنا ليفرق في ذلك بين
الِإجازة وبين السماع والقراءة.
وقد قيل إِنه يجوز لمن أتى إلى العالم بجزءٍ فسأله هل هو من حديثه؟ فأخذه
فنظره، وقال له: نعم هو من حديثي: إِنه يجوز له أن يحدث به عنه وإِن لم يقل
له حَدث به عني. وكذلك لو رآهُ ينظر في جزء، فقال له ما هذا الجزء؟ فقال:
جزء من حديثي عن شيوخي فسرقه الطالب واستحسنه من غير علمه، لجاز له أن يحدث
به عنه. ونظير هذا: أن يأتي الرجل بذكر حقّ إلى رجل، فيقول له: أتعرف هذا
الصك؟ فيقول: نعم هو دين علي لم أؤده بعد، فإِنه يصح له أن يشهد بما فيه،
وإِن لم يقل له: اشهد به على اختلاف في هذا في مذهبنا. وبالله التوفيق.
[تفسير قول الله تعالى وَلْيُوفوا نُذُورَهُم]
في تفسير قول الله تعالى:
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] وسئل مالك عن تفسير قول الله:
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] قال هو رميُ الجمار. من كلام العرب
أن يسمعوا العقل النذر، يريدون بذلك العدد.
قال محمد بن رشد: إِنما تأول مالك إِن مراد الله بقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] هو رمي الجمار، من أجل أن الوفاء بالشيء لا يكون
إلا بإِكماله إلى آخره. ورمي الجمار هو آخر عمل الحج مع الطواف الذي ذكره
الله معه فقال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]
واستدل على ذلك بأن
(17/145)
العرب تسمي العقل نذرا. وهو العدد الذي يجب
في الجراح. يريد فكذلك رمي الجمار، سماه الله نذراً، لأنه عددٌ واجب رميه
في الحج.
وقد مضى في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج لتكرار المسألة هناك.
وبالله التوفيق.
[تفسير قوله عز وجل سَوَاءٌ الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ]
في تفسير قوله عز وجل:
{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] وسئل مالك عن هذه الآية
{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] قال: سواء في الحق
والسعة. والباد: أهل البادية وغيرهم ممن يقدم عليهم. وكانت الفساطيط تضرب
في الدور. ولقد سمعت أن عمر بن الخطاب كان ينزع أبواب مكة إذا قدم الناس.
قال محمد بن رشد: تأويل مالك لهذه الآية، على أن حق أهل مكة وغيرهم ممن
يقدم عليهم من الناس في دور مكة، سواءٌ. واستدلاله على ذلك بما ذكر بأن عمر
بن الخطاب كان ينزع أبواب مكة إذا قدم الحاج يدل على أنها لا تباع ولا
تكرى، خلاف ظاهر أقوال ابن القاسم في كتاب كراء الأرضين، وكتاب الحوائج من
المدونة ولما ذكر فيهما من نفاق كراء الدور بها في أيام الموسم.
وليس في الآية بيان يرفع العذر، لاحتمال رجوع الضمير من قوله تعالى:
{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] على المسجد المذكور، دون
سائر البلاد. على ما قاله جماعة المفسرين. والأصل في اختلاف أهل العلم في
هذه المسألة خلافهم في افتتاح مكة في ذهب إلى أنها افتتحت عنوة. قال: إن
دورها لا تباع ولا تكرى. وهو قول أبي حنيفة وجماعة سواء ويشهد لهذا القول
ما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(17/146)
وسلم قال: «مَكَّة كُلُّها مُبَاح لا
تُبَاعُ وَلا تُؤَاجَرُ» ومن ذهب إلى أنها مؤمَّنة. والأمان كالصلح، وأن
أهلها مالكون لرباعها. وأجاز لهم بيعها وكراءها. وهو قول الشافعي. ولا خلاف
عند مالك وأصحابه في أنها افتتحت عنوة. إلا أنهم اختلفوا، هل من بها على
أهلها فلم تقسم كما لم يُسبَ أهلُها لما عظم الله من حرمتها؟ أو هل أقرت
للمسلمين؟. فعلى هذا جاء الاختلاف في جواز كرائها في المذهب، فروي عن مالك
في ذلك ثلاثة روايات: إحداها المنع. والثانية الِإباحة. والثالثة كراهية
كرائها في الموسم خاصة.
وقد مضى هذا كله في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج لتكرر المسألة
هناك.
[حرق ما التبس من كتب الخصوم]
في استحسان حرق ما التبس من كتب الخصوم
قال مالك: وقد كان قاض في زمن عثمان وأنه رُفع إليه كتب قد تقادم أمرها
والتبس الشأن فيَها، فأخذها فأحرقها بالنار. فقيل لمالك: فَحَسَنٌ ذلك،
قال: نعم. هذه الأمور لا أرى ما هي.
قال محمد بن رشد: معنى هذه الكتب إنها كتب في الخصومات، طالت المحاضر فيها
والدعاوي، وطالت الخصومات حتى التبس أمرها على الحكام، فإذا احرقت قيل لهم:
بينوا الآن ما تدعون، ودعوا ما تلبسون به من طول خصوماتكم، ووثقوا العمل
علي وهو حسن من الحكم على ما استحسنه مالك.
وقد مضى هذا في الرسم من هذا السماع من كتاب الحج لتكرر المسألة هناك.
(17/147)
وإنما أمر بحرق الكتب، ولم يأمر بخرقها
وتمزيقها، صيانة لما وقع من أسماء الله فيها كما فعل عثمان بالصحف، إِذ جمع
القرآن. وبالله التوفيق.
[بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أجمله
الله في القرآن والصلاة والزكاة]
في بيان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أجمله الله
في القرآن والصلاة والزكاة قال مالك: الحج كله في كتاب الله تعالى والصلاة
والزكاة ليس لهما في كتاب الله تفسير. ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن
ذلك.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا إن الحج كله في كتاب الله تعالى مفسر،
وإن الصلاة والزكاة ليستا مفسرتيْن فيه، وأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
فسرهما وليس ذلك بصحيح، بل ما أتى في القرآن من ذكر الحج مفتقراً إلى
التفسير والبيان الذي فسرهُ به رسول الله وبين مراد الله تعالى فيه قولاً
وعملًا، كافتقار الصلاة والزكاة إلى ذلك سواء، ولو تركنا وظاهر ما في
القرآن من أمر الحج لما صح لنا منه امتثال أمر الله تعالى به، إذ لم يبين
فيه شيئاً من صفة عمله وترتيبه في أوقاته التي لا يصح إلا فيها، وشرائطه
التي لا يتم إلا بها وسنته التي لا يكمل إِلّا بها، فليس الكلام على ظاهره،
وإنما معناه الذي أراده به أن الحج كله في كتاب الله تبارك وتعالى، والصلاة
والزكاة، تََم الكلام هاهنا، ثم ابتدأ فقال ليس لها أي لجميع ذلك في كتاب
الله تفسير.
ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك، ويبين تأويلنا
هذا ما في كتاب محمد بن المواز من قوله: وكذلك الحج والزكاة ونزل وجوبهما
في القرآن مجملاً، وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ما أراد منه وفسره وبينه. وقوله في الرواية أيضاً ليس لها ولم يقل لهما،
وقد نقل ابن أبي زيد هذه الرواية بالمعنى على ظاهرها نقلا غير
(17/148)
صحيح فقال فيها: الحج كله في كتاب الله
تعالى. وأما الصلاة والزكاة فذلك مجمل فيه ولهذا وشبهه رأى الفقهاء قراءة
الأصول أولى من قراءة المختصرات والفروع. وقد تقدم هذا كله في هذا الرسم من
هذا السماع لتكرر المسألة هناك.
[الركوع بعد صلاة الجمعة]
في الركوع بعد صلاة الجمعة
قال مالك: ليس من السنة أن يركع الِإمام بعد الجمعة في المسجد وأما غيره
فليركع إن شاء.
قال الإمام القاضي: إنما قال مالك: ليس من السنة أن يركع الِإمام بعد
الجمعة في المسجد لما بلغه من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان إذا صلى الجمعة انصرف ولم يركع في المسجد، وإذا دَخل بيته
ركع ركعتين» وقع له ذلك في المدونة قال فيها: وينبغي للإِمام اليوم إذا صلى
الجمعة أن يداخل منزله ويركع ركعتين، ولا يركع في المسجد.
وقال في هذه الرواية فيمن عدى الِإمام: إنه يركع إن شاء، فظاهر قوله فيها
إباحة الركوع له دون كراهة، خلاف ما في المدونة من كراهة ذلك له، لأنه قال
في كتاب الصلاة الأول منها: أنه لا يتنقل في المسجد، لكراهة ذلك بدليل قوله
في كتاب الصلاة الثاني منها: أحب إلي أن ينصرف ولا يركع في المسجد. قال:
وإِن ركع فواسع، لأنه إذا استحب ترك الركوع، فقد كره الركوع.
وقوله: وإن ركع فواسع، يريد: إِنه لا إِثم عليه ولا حرج إن فعل، فعلى ما في
المدونة. إِن صلى أجر في صلاته، وإن قعد ولم يصل أجر في قعوده، لأن حد
المكروه ما في تركه ثواب، كما أن حد المندوب ما في فعله ثواب.
وعلى ما في هذه الرواية، إِن صلى أجر في صلاته، وإن قعد ولم يصل لم يؤجر في
قعوده. وقد كان من أدركنا من الشيوخ يحملون ما في كتاب الصلاة الأول من
المدونة على ما في كتاب الصلاة الثاني منها، ويقولون: قوله: وإن ركع فواسع،
يدل على أنه لم يكره له
(17/149)
الركوع مثل ظاهر هذه الرواية، وليس ذلك
بصحيح، لما بيناه من أنه إذا استحب ترك الركوع فقد كره الركوع. وذهب
الطحاوي إلى أنه يجوز أن يتنفل بعد الجمعة في المسجد أربعاً ولا ينتفل
بعدها ركعتين، وينتفل ركعتين في بيته بعد صلاة الجمعة على تصحيح أحاديث
رواها في ذلك.
[إمامة الأعمى]
في إمامة الأعمى وسئل عن الأعمى يؤُم
الناس، قال: نعم قد أمّ على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أعمى.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في قوله الأول من كتاب الصلاة من المدونة قال: لا
بأس أن يُتخذ الأعمى إماماً. وقد أمّ على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أعمى ابن مكتوم، وإنما لم ير مالك في ذلك بأساً،
من أجل أن حاسة البصر لا تعلق لها بشيء من فرائض الصلاة، ولا بسنتها ولا
بفضائلها، بل ربما كان بصره سبباً لاشتغاله عن الِإقبال عليها. فقد جاء «أن
رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُعل في نعليه شِراكان
جديدان، فأمر أن يُنزعا وترد فيهما الحلقتان اللتان كانتا فيهما. قيل: لِمَ
يا رسول اللَّه؟ قالَ: إنِّي نظرت إليهما في الصلاة» . وصلى - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خَمِيصَةٍ شَامِيةٍ، لَهَا عَلَمٌ،
فَلَمَا انْصَرَفَ مِنْ الصلَاةِ رَدَّهَا إِلَى مُهْدِيهَا إِلَيْهِ أبي
جهْم وَقَالَ: «إِنِّي نَظَرْتُ إِلَى عَلَمِهَا فِي الصَّلاَةِ فَكَادَ
يَفْتِننُي» . وإذا خشي النبي
(17/150)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - الفتنة في صلاته
بالنظر فيها؟ إلى ما يروق منظره، فغيره بذلك أولى. ولهذا المعنى كره
العلماء تزويق المساجد. وكذلك سائر الحواس الخمس، لا تعلق لها بشيء من
الصلاة حاشى السمع، فإِن الأصم لا ينبغي أن يُتخذ إماماً راتباً، لأنه قد
يسهو فيسبح له، فلا يسمع، فيكون ذلك سبباً لِإفساد الصلاة.
وإنما كره أن يتخذ الأعمى إماما راتباً مَن كرهه. واللَّه أعلم. من أجل أنه
قد يتوضأ بماءٍ غير طاهر، يصلي بثوب نجس، وهو لا يعلم، إذ لا يبصر النجاسة،
ولا تغير لون الماء، وأما نقصان الجوارح كاليد والرجل فلهما تعلق بالصلاة،
ولذلك اختلف في إمامة الأشل، والأقطع، وقد مضى الكلام على هذا في سماع
زونان من كتاب الصلاة.
[الحض على الصدق وما جاء فيه]
في الحض على الصدق وما جاء فيه قال:
وسمعت مالكاً يقول: قال عمر بن الخطاب: عليك بالصدق ولو ظننت أنه مُهلك.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن ظننت أنه مهلك. معناه: وإن خشيت ذلك، ما لم
تتيقنه، لأن الظن قد يكون بمعنى الشك، وبمعنى اليقين، وذلك لما يلزم الرجل
أن يصدع فيه بالحق، لما يرجو في الصدق من الصلاح، ويخاف في الكذب من
الفساد، كالكلام عند السلطان وشبه ذلك، فهذا الذي ينبغي فيه الصدق، وإن ظن
أن في ذلك هلاكه، ما لم يتيقن الهلاك في الصدق فيه فيسعُه السكوت عليه. ولا
يحل له الكذب فيه، إِلَا أن يضطر إلى ذلك بالخوف على نفسه، وإنما يلزمه
الصدق وإن خاف على نفسه فيما عليه من الحقوق، كالقتل والسرقة والزنا. وشبه
ذلك. والكذب ينقسم على أربعة أقسام: كذب لا يتعلق فيه حق لمخلوق، وهو الكذب
فيما لا مضرة فيه، ولا يقصد به وجهاً من وجوه الخير، وهو قول الرجل في
حديثه كان كذا وكذا، وجرى كذا وكذا، لِما لم يكن ولا جرى، فهذا الكذب محرم
في الشريعة بإجماع العلماء، وهو الذي جاء فيه عن النبي عليه السلام: " إن
(17/151)
الْمُؤْمِنَ الممدُوحَ إيمَانُه لَا
يَكُونُ كَذَّاباً " وهو الذي يغلب عليه. الكذب حتى يعرف وقد كان جباناً
وبَخِيلاً. وعن ابن مسعود: إنهُ لَا يَزالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَتُنْكَثُ
في قلبه نُكْثَةٌ سَوْدَاءُ حًتّى يَسْوَدً قَلْبُه فَيُكْتَبَ عِنْدَ
اللَّهِ مِن الْكَذَّابينَ. والتوبة منه بالإِقلاع عنه والاستغفار منه.
وكذب يتعلق به حق لمخلوق، وهو أَن يكذب الرجل على الرجل، فينسب إليه أنه
فعل ما لم يفعل، أو قال ما لم يقل، وهو أشد من الأول، لأن التوبة منه لا
تصح، إلا أن يحلله صاحبه، أو يأخذ حقه منه. وكذب فيما لا مضرة فيه على أحد،
ويُقصد به وجه من وجوه الخير، وهو الكذب في الحرب والِإصلاح بين الناس وكذب
الرجل لامرأته فيما يَعِدُها ليستصلحها، فهذا كله جوزته السنة.
وقيل: إنه لا يباح فيه إلا معاريض الكلام، لا النص بالكذب. والأول أصح، لأن
التصريح بالكذب في ذلك جائز، يدل عليه قوله عز وجل حكاية عن إبراهيم: {بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وقوله في قصة يوسف: {فَلَمَّا
جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ
أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]
إلى قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] وقد قيل: إن معاريض
القول جائزة في كل موضع، لما جاء عن بعض السلف إن فيها مندوحة عن الكذب،
والذي أقولُ به: إن ذلك مكروه، لما فيه من الألغاز على المخاطب، فيظن أنه
قد كذبه، فيعرض نفسه بذلك إلى أن ينسب إليه الكذب، فتركه أحسن، وكذبه في
دفع مظلمة عن أحد، مثل أن يختفي رجل عنده ممن يريد قتله أو ضربه، فيسأل هل
هو عنده أو يعلم مستقره؟ فيقول: ما هو عندي ولا أعلم مستقره. فهذا الكذب
واجب، لما فيه من حقن دم الرجل، أو الدفع عن بشرته. وباللَّه التوفيق.
(17/152)
[حكم دخول
الأسواق]
في جواز دخول الأسواق وكراهية ترديد اليمين قال: وسمعت مالكاً يذكر، قال:
كان ابن عمر ربما أتى السوق وجلس فيه،، وأنه قعد يوماً ورجل يبيع شيئاً،
وهو يحلف ويردد، وابن عمر يَسمعه. فقال له: اتق اللَّه، ونهاه، فإن هذه
سبعون يمينا. فقال: لا واللَّه رداً على ابن عمر فقال: هذه إحدى وسبعون.
قال محمد بن رشد: أما دخول الأسواق والجلوس فيها فلا اختلاف أن ذلك مباح
غير محظور، ولا مكروه. وكفى من الدليل على ذلك، قَوْله تَعَالَى: {وَمَا
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ
الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] رداً لقول
المشركين: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي
الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] الآية وإنما نهى ابن عمر الرجل عن ترْدِيد
الأيمان ووعظه في ذلك، لأن من ردد الأَيمان وأكثر منها لم يسلم من مواقعة
الحِنث فيها والتقصير في الكفارة، وأن يحلف على ما لم يفعله يقيناً فيأثم
في ذلك كله.
وأما حلف الرجل على شيء أن لا يفعله فلا كراهية في ذلك، لأن اللَّه أمر
نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالحلف باسمه في غير ما آية فقال: {قُلْ إِي
وَرَبِّي} [يونس: 53] وقال: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] ،
وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيراً ما يحلف "
لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ "، وَلَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ فلا وجه
لكراهية ذلك، لأن القصد إلى الحلف بالشيء تعظيم له، فلا شك في أن في ذكر
اللَّه عز وجل على وجه التعظيم له أجراً عظيماً.
وقد مضى هذا المعنى في آخر رسم الجنائز والذَّبائح والنذور، من
(17/153)
سماع أشهب من كتاب النذور في تكلمنا على ما
وقع هناك من أن عيسى بن دينار كان يقول: يا بني إسرائيل، إن موسى كان
ينهاكم أن تحلفوا باللَّه إِلاَ وأنتم صادقون ألا وإني أنهاكم أن تحلفوا
باللَّه كاذبين أو صادقين واللَّه أعلم.
[تعجيل ما اجتمع عند العامل من زكاة الفطر]
في الأمر بتعجيل ما اجتمع عند العامل
من زكاة الفطر قال مالك: بلغني أن عاملًا لعمر بن عبد العزيز كتب إليه
يخبره أنه اجتمع عنده من زكاة الفطر شيء كثير، وأن ذلك لما رجوا من عدل
أمير المؤمنين فكتب إليه عمر إنهمِ لم يخبروني وإياك كما رجوا، فإذا جاءك
كتابي هذا فإن جاءك ليلا فإن استطعت ألا تصبح حتى تقسمه فافعل، وأي شيء
رأيي فيه حين تكتب إلي فيه؟ قال سحنون: يقال: إنه عثمان.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في كتاب زكاة العين في رسم الرطب
باليابس من هذا السماع على خلاف ما وقعت هاهنا إذ لم يذكر هناك كون الزكاة
مجتمعة عند العامل من زكاة الفطر ونص الرواية هناك قال: وسمعت مالكاً يذكر
أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز كتب إليه إن الناس قد أسرعوا في أداء الزكاة
فرغبوا في ذلك لموضع عدلك، وأنه قد اجتمعت عندي زكاة كثيرة فكأن عمر كره
ذلك من كتابه لمدحه، فكتب إليه: ما وجدوني وإياك على ما رجوا وظنوا،
فاقسمها. قال ابن القاسم: وقال عمر: وأيُّ رأيٍ لي فيها حين تكتب إلي؟ وهذا
أصح مما وقع هاهنا لأن زكاة الفطر، الحكم فيها أن تجمع قبل يوم الفطر فتفرق
يوم الفطر. لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أغْنُوهُم عَنْ طَوَافِ
هَذَا الْيَوْم» . فلو كان المجتمِع عنده من
(17/154)
زكاة الفطر نبه عمر على تأخير تفريقها عن
يوم الفطر وأما سائر الزكوات فلا حد في وقت تفريقها إلَّا أن الواجب فيما
اجتمع فيها تعجيل تفريقها على ما أمر به عمر بن عبد العزيز وباللَّه
التوفيق.
[الِإقبال على الذكر والتسبيحِ في الصلاة]
في الِإقبال على الذكر والتسبيحِ
في الصلاة قال مالك: كان عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود وعامر بن عبد اللَّه،
لا ينصرفان من صلاتهما لأحد يجلس إليهما قلت له: أفيحسب ذلك له؟ قال: نعم
إِلا أن يأتيه الرجل إلى الحاجة الخفيفة، تكون به إليه أو الرجل يسأله عن
المسألة تنزل به، فهذا، وما أشبهه أرى أن ينصرف فيه. وأما غيره فلا.
قال محمد بن رشد: إنما كانا يفعلان ذلك، لما جاء عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أنه قال: «مَنْ سَبحَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلَاثاً
وَثَلَاثِينَ، وَكَبرَ ثَلَاثاً وَثَلاَثِين، وَحَمِدَ ثَلَاثاً
وَثًلاَثِينَ، وَكمّلَ الْمِائَةَ بِلاَ إِلَهَ إِلَا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ، غفِرتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ-»
، ولما يُرجى من قبول الدعاء، عند خاتمة الصلاة، فهو حسن من الفعل،
والاقتداء بهما في ذلك خير. وبالله التوفيق.
[يقول للرجل في منازعة ما يشبه أن يريد به
القذف]
في الذي يقول للرجل في منازعة ما
يشبه أن يريد به القذف وسئل عن رجل كانت بينه وبين رجل محاورة فقال:
واللَّه لأجلدنك حدين. أترى هذا فرية؟ قال: أرى أن يحلف بالله ما
(17/155)
أردت فرية وما أردت إلا كذباً، فإن حلف
قال: رأيت أن يؤدب له.
قال محمد بن رشد: قال: إنه إن حلف أدب، وهو صحيح، لأنه سب يشبه أن يكون
أراد به القذف. فإن حلف أنه لم يرد القذف، لم يسقط عنه الأدب الذي يجب عليه
في السب، ولم يقل إن نكل عن اليمين: ما يكون الحكم فيه، والحكم في ذلك أن
يسجن حتى يحلف، واختلف إن طال سجنه ولم يحلف فقيل إنه يؤدب ولا يحد، يريد
أدَباً فوق الأدب الذي يؤدب إذا حلف وهو مذهب ابن القاسم. وقيل إنه يحد إذا
طال سجنه ولا يحلف.
وقد مضى هذا المعنى في رسم الحدود من سماع أصبغ من كتاب الحدود في القذف
وفي غير ما موضع واللَّه الموفق.
[ما جاء عن صفوان بن أمية في تأليف النبي عليه
السلام إياه بالعطاء]
ما جاء عن صفوان بن أمية في تأليف النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - إياه بالعطاء قال مالك: بلغني «أن صفوان بن أمية
وكان من المؤلفة قلوبهم وكان شريفاً. قال: لقد حضرت حُنْيْنا مع رسول
اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما أحد من الخلق أبغضَ إلي
منه. فما زال يعطيني حتى ما كان أحد من الخلق أحب إِلي منه» .
قال محمد بن رشد: في هذا بيان موضع العطاء والإِحسان من النفس، وما له فيه
من التأثير، ولعلم اللَّه عز وجل بذلك جعل للمؤلفة قلوبهم سهماً من الصدقة،
ليسلموا فيسلم بإسلامهم مَن وراءهم. واختلف في الوقت الذي بُدئ فيه
بائتلافهم، فقيل: قبل أن يسلموا لكي يسلموا، وقيل: بعد ما أسلموا كي يحبب
إليهم الِإيمان، فكانوا على ذلك إلى صدرٍ من خلافة أبي بكر الصديق، وقيل
إلى صدر من خلافة عمر، ثم قال لأبي
(17/156)
سفيان: " قدْ أغْنَى اللهُ عنكَ وعن
ضرَبَائِك ". إنما أنت رجل من المسلمين. وقطع ذلك عنهم. واختلف هل يعود ذلك
إليهم إن احتيج إليه أم لا يعود إليه؟ فرأى مالك أنه لا يعود. وهو مذهب أهل
الكوفة. وقيل: إنه يعود إن احتيج إليه ورأى ذلك الِإمام وهو قول ابن شهاب
وعمر بن عبد العزيز وإليه ذهب الشافعي والله أعلم.
[التوقي في الحديث عن النبي عليه السلام]
في التوقي في الحديث عن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب شيع قوماً
خارجين إلى العراق، فقال لهم خيرا، ثم أوصاهم بما أوصاهم به، وقال لهم:
أقلوا الحديثَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا
شريككم في ذلك في الأجر، قال: لا ولكن أنا أفعل ذلك أنا أقل الحديث عن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
قال محمد بن رشد: المعنى عندي فيما أمر به عمر بن الخطاب في إقلال الحديث
عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مع أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالتبليغ عنه وقوله: «لِيُبَلِّغ الشَّاهِد الْغَائِبَ» وقوله:
«بَلِّغوا عَنِّي وَلوْ آيَةً» هو أنه لما كان للصاحب أن يقول: قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا وكذا لِما لم يسمعه منه،
وإنما حدثه به غيره من الصحابة، فكان بمنزلة ما سمعه منه، من أجل أن الجرحة
مرتفعة عنهم، خشي أن يكون الذي سمع الحديث من
(17/157)
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد نقله إلى
غيره من الصحابة على المعنى، ولا يستوي جميعهم في ذلك، لتباينهم في العلم،
فأمر ألا يحدث الصاحب بالحديث الذي لم يسمعه من النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - إِلا أن يكون الذي حدثه به عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
من فقهاء الصحابة، مخافة أن يكون نقله على المعنى الذي عنده، وليس كما ظنه.
وفي الاحتياط في الانتقاء في ذلك بالاجتهاد تقليل الحديث عن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - كما أمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإذا
شاركهم في إقلال الحديث، فقد شاركهم في الأجر على ذلك وباللِّه التوفيق.
[معاقبة من لم يشهد الجمعة والمنع من البيع في
يوم الجمعة]
في معاقبة من لم يشهد الجمعة والمنع
من البيع في يوم الجمعة وسئل مالك عن إمام بلد يأمر إذا فُرغ من صلاة
الجمعة من يخرج، فمن وجد لم يحضر الجمعة، ربطه بعمد المسجد، فأنكر ذلك،
ورأى أنه قد أخطأ، فقيل له: أفَيُمنعُ السوق قبل الأذان يوم الجمعة؟ قال:
لا قد قال ذلك الرجل الصالح، حين جاء ولم يغتسل كنت في السوق، فأنت تعلم أن
الأسواق قائمة على عهد عمر بن الخطاب، ورأى أنه أخطأ حين جاء إلى الجمعة
ولم يغتسل، فإنما ذهب إلى السوق في حاجته، فأنت تعلم أن الأسواق كانت قائمة
في زمن عمر بن الخطاب والذاهب إلى السوق عثمان، ولا أرى أن يمنع أحد يوم
الجمعة الأسواق، يريد إلى انتصاف النهار قال ابن القاسم: وكذلك قال لنا
مالك.
قال محمد بن رشد: إمام البلد الذي سئل مالك عن فعله أنكره، ورأى أنه قد
أخطأ، هو عمر بن عبد العزيز واللَّه أعلم لأن هذه الحكاية ذكرها سحنون في
نوازله من كتاب الشهادات وزاد فيها وعوقب. وقال: أراه عمر بن عبد العزيز.
قال أصبغ: بل لا شك فيه أنه عمر بن عبد
(17/158)
العزيز، وإنما رأى مالك أن فعله خطأ
وأنكره، لوجهين: أحدهما: أنه لم يرَ أن يعاقب من وجد لم يشهد الجمعة، إذّ
لعله قد كان له عذر منعه من شهودها يتوالى ذلك من فعله ويتكرر، فيتبين أنه
قصد إلى ترك شهودها بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ تَرَكَ
الْجُمُعَةَ ثلاث مًراتٍ مِن غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا علة، طَبَعَ اللَّه عَلَى
قَلْبِهِ بِطَابع النِّفَاقِ» . والثاني: معاقبته على ذلك بربطه بسارية
المسجد، إذ لم يتخذ المسجد لذلك، وإنَّما ينبغي أن يؤدب على ذلك بالسجن أو
الضرب. وقوله: إنه لا يمنع السوق قبل الأذان يوم الجمعة إذا نوديِ بالصلاة،
فوجب أن لا يمنع فيما قبله، واحتجاجه على ذلك بأن الأسواق كانت قائمة في
زمن عمر بن الخطاب إلى حين أذان الجمعة بالحديث الذي ذكره صحيح. وباللَّه
تعالى التوفيق.
[العمل بالصرف]
في العمل بالصرف وسُئل مالك عن العمل
بالصرف هل يكره للرجل أَن يعمل به؟ قال: نعم، إلَّا أن يكون في ذلك يتقي
الله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن الرِّبا في الصرف كثير لدخوله في أَكثر
وجوهه، فالتخلص منه عسير، لا يسلم من عمل به، إلًا
(17/159)
أن يتقي الله ويتحفظ فيه وقليل ما هم،
ولذلك كان الحسن يقول: إن استقيت ماءً فسقيت من بيت صراف فلا تشربه. وكره
أَصبغ أن يستظل بظل الصيرفي. قال ابن حبيب: لأن الغالب عليهم الربا. ولذلك
استحب مالك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف للرجل أن
يصرف من التجار إن وجد صرفا ومن أَهل الصيانة.
[الاهتمام بهمِّ السّنَةِ في اليوم]
في النهي عن الاهتمام بهمِّ السّنَةِ في اليوم قال مالك بلغني أَن عيسى ابن
مريم كان يقول: لا تحملوا هَم سَنةٍ على يوم، حَسْبُ كل يوم بما فيه، قيل
له: وما تفسير ذلك عندك، قال: يَقول: لا تهتموا برزق السنة وطلبه ولكن
يوماً بيوم.
قال محمد بن رشد: وقد مضى هذا متكرراً في الرسم الذي قبله والكلام عليه فلا
وجه لإِعادته.
[الشروط في النكاح]
في كراهية الشروط في النكاح قال مالك:
وأشرت على قاض منذُ دهْرِ أَنِ أنْهَ الناس ألَّا يتزوجوا بالشروط، ولا
يتزوجوا إلَّا على دين الرَجلِ وأمانته وأنه كتب في ذلك كتاباً وصيحَ به في
الأسواق، وعابها عيباَ شديداً.
قال محمد بن رشد: يريد الشروط اللازمة بيمين، كطلاق الداخلة، وعتق
السُّرِية، وما أشبه ذلك. فهذه الشروط التي يكرهها مالك، فإِذا وقع النكاح
عليها مضى ولم يفسخ قبل الدخول ولا بعده، ولزم الشرط، ووجه الكراهية في
ذلك، أن المرأة قد حطَّت من صداقها بسبب الشروط، ولا تدري هل يفعل الزوج
ذلك أَم لا؟ فأَشبه ذلك الصداق
(17/160)
الفاسد. وقد روي عن سحنون لهذه العلة،
أَنَه نكاح فاسد، يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، ويكون فيه الصداق المسمى،
وللخروج من هذا الاختلاف يعقد الناس هذه الشروط في صدقاتهم على الطوع، وذلك
إذا وقع الشرط في أَصل النكاح على تسمية الصداق. وأَما إذا نكحها نكاح
تفويض على الشرط، فلا اختلاف في أَن النكاح لا يفسد.
وقد مضت هذه الحكاية متكررة والكلام عليها باستيعاب من هذا في هذا الرسم من
هذا السماع من كتاب السلطان.
[ما يستحب من مكارم الأخلاق]
في ما يستحب من مكارم الأخلاق قال مالك:
لقد أَدركت بعض من مضى، وإِنَّه لتكون تحته المرأة ما له بها حاجة، يمنعه
الحياء والتكرم أَن يطلقها ويطلع أحد منهما على مثل ما اطلع عليه. وفي حديث
ابن عمر قال: «إنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَبِرَ ذَهَبَ حُسامُهُ، كَمَا
يَذْهَبُ حُسَامُ السَّيْفِ» . قال مالك: الحسام الغيرة. قال: وهو في السيف
حده. وكان رجل يسائله عن بيت بعض أَهله، قال: قال مالك: أراها صفية. قال:
هذا منزلُها.
قال محمد بن رشد: معنى هذا أن ابن عمر لما أرى الرجل منزل زوجته صفية. قال
هذا القول، كأَنه يقول: لو كنت في غير هذا السِّن لكرهت سؤالك. وبالله
التوفيق.
[فضل عُمر بن حُسين وعبادته]
في فضل عُمر بن حُسين وعبادته
قال مالك: كان عمر بن حسين من أَهل الفضل والعلم، وكان عابداً، ولقد
أَخبرني رجل أَنَّه كان يسمعه في رمضان يبتدئ
(17/161)
القرآن في كل يوم إِذا راح فقيل له: أكان
يختم؟ قال: نعم في رأيي في يومه وليلته. وكان في رمضان إذا صلَّى العشاء
انصرف فإذا كان في ليلة ثلاث وعشرين قائماً مع الناس، لم يكن يقم معهم
غيرها، فقيل له: فالرجل المحصي يختم القرآن كل ليلة، قال: ما أَجود ذلك إن
القرآن إمامٌ لكل خير.
قال الإمام القاضي: استحبَّ مالك في هذه الرواية قراءة القرآن كله في كل
يوم وليلة، ولمن قدر على ذلك، على ما روي عن عمر بن حسين وقال: ما أَجود
ذلك، إن القرآن إمامٌ لكل خير وقد ذكر في موطئه عن يحيى بن سعيد أَنَّه
قال: كنت أنا ومحمد بن يحيى بن حبان جالسين فدعا محمد رجلًا قال: أخبرني
بالذي سمعت من أَبيك فقال: أَخبرني أَبي أَنَه أتى زيد بن ثابت، فقال: كيف
ترى في قراءة في سبع؟ فقال: حسن، ولأن أقرأه في نصف شهر أَو عشرين، أحب
إليَّ، وسألني لم ذلك؟ قّال: فإني أسلك، قال زيد: لكي أتدبره وأقف عليه
وإنَّما رأى زيد بن ثابت قراءة القرآن في شهر أَو عشرين يوماً أحب لله من
قراءته في سبع. وإن كان للقراء بكل حرف من القرآن عشر حسنات بالألف من
الحمد عشر حسنات وباللام عشر حسنات، وبالحاء عشر حسنات، لأن الحسنة قد
تضاعف إلى سبعمائة فرجا أَن تكون حسناته إِذا قرأ القرآن في شهر أَكثر من
حسناته إذا قرأه في سبع، لتضعيف الحسنات له في قراءته من أَجل تدبره.
وبالله التوفيق.
[من أين يستحب للداخل مكة أَن يدخلها وأن يخرج منها]
قال مالك: بلغني أَن ابن عمر، دخل مكة من عقبة كَدَاء
(17/162)
وخرج من كُدى.
قال محمد بن رشد: كَداء هي الثنية التي بأَعلى مكة بشرقها وكُدى هي الثنية
التي بأَسفلها بغربيها وذلك مما يستحب للحاج أَن يفعله لأن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله دخل مكة يوم الفتح، وفي حجته وفي
عُمَره الثلاث من العقبة كداء، وهي الثنية التي بأعلى مكة. وخرج من الثنية
السفلَى التي يُقال لها عقبة كُدى. وقال: «خُذُوا عَنَي مَنَاسِكَكُم» .
وبالله التوفيق.
[ضحَّى بالليل]
فيمن ضحَّى بالليل وسُئل مالك عن رجل قدم على أَهله من الليل بعد يوم
النحر، فوجد عندهم ضحية قد أَعدوها، فضحى بها بالليل، قال أَرى أن يعود
بضحية أُخرى. وقال في الحديث الأضحى يَوْمَانِ بَعْدَ يَوْم الأضْحَى
وَلَيْسَ يُضحَّى بِلَيْل. قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28]
. ولم يذكر الليل، فأَرى عليه الِإعادة وإن الذي يفتِي أن يضحي بالليل، قد
جارَ جوْراً بعيداً.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة وغيرها من أن من
ضحى بالليل أَعاد وروي أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ ضحَّى لَيْلاً أعَادَ
وَمَنْ ضحَّى قَبْلَ الِإمَام أعَادَ» . وكذلك الهدايا، لا تنحر ولا
(17/163)
تذبح بالليل، ومن فعل ذلك لم يجزه، لا
اختلاف في هذا إلَّا ما قاله أَشهب في الهدي إن نحره في الليل إذا لم يكن
في ليلة النحر أَجزأه والله أعلم.
[تحديد يوم الحج الأكبر]
في يوم الحج الأكبر وسُئل عن يوم الحج الأكبر، فقال: هو يوم النحر.
قال محمد بن رشد: اختلف أَهل العلم في قوله عزّ َوجلّ: {وَأَذَانٌ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:
3] هل الأكبر نعت لليوم، أو للحج؟ واختلف الذين قالوا: إنَه نعت للحج،
فمنهم من قال: إنَّما قيل له الأكبر لأن ثمَّ حجاً أصغر، وهو العمرة، ومنهم
من قال: إنما قيل له الأكبر، لأنه عنى به حج أَبي بكر، إذ وقع في ذي
القعدة، على ما كان عليه أهل الجاهلية من النسيء، وقد كان الحج في العام
الذي قبله في ذي القعدة أيضاً فسماه الله الأكبر، لأن الأكبر من الحجتين
الواقعتين في ذي القعدة.
وقيل: إن حجة أبي بكر وقعت في ذي الحجة، فسمَّاها الله الأكبر، لاستدارة
الزمن إليه وثبوت الحج فيه إلى يوم القيامة واختلف الذين قالوا: إن الله
نعت اليوم أيضاً، فمنهم من قال: إنَّه يوم عرفة، لقول رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الحج عَرَفَة» . ولأن من فاته الوقوف بعرفة،
فقد فاتّه الحج. ومنهم من قال: إنَّه يوم النحر، وإلى هذا ذهب مالك، وهو
أَظهر الأقوال، لأن المراد به المجتمع الأكبر، ولأن رسول الله
(17/164)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث
أبا بكر أميراً على الحج سنة تسع، والنسيء قائم، والمشركون يحجون مع
المسلمين، وكان قريش ومن ولدته قريش، يقفون بالمشعر الحرام يوم عرفة، ويقف
سائر الناس بعرفة، ثم يجتمعون كلهم يوم النحر بمنى، فأَمر الله تعالى نبيّه
عليه السلام أن يؤذن الناس ببراءة الله ورسوله من المشركين يوم الحج الأكبر
أي يوم اجتماعهم الأكبر وهو يوم النحر، ليسمع جميع الناس النداء، فيبلغ
شاهدهم غائبهم، فكان مما أوذنوا به ألَّا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف
بالبيت عريان، وتليت عليهم سورة براءة إنذاراً لهم، وإعذاراً إليهم.
وقد مضى هذا كله في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب الحج
لتكرر المسألة هناك وبالله التوفيق.
[الرقى بالحديد والملح وعقد الخيط]
في الرقى بالحديد والملح وعقد الخيط
قال: وسُئل مالك عن الرقى بالحديد والملح وعقد الخيط، فكره ذلك كله، وكان
العقد عنده في ذلك أَعظم كراهية فقيل له: فالشيء ينجم، ويجعل عليه حديدة،
قال: أما التنجيم فأَرجو أَن يكون خفيفاً، إنَّه ليقع في قلبي إنَّما
التنجيم لطول الليل.
قال الإمام القاضي: كراهة مالك للرقى بالحديد والملح، وعقد الخيط بينه، لأن
الاستشفاء لا يكون بما سوى كلام الله تعالى وأسمائه الحسنى، وما يعرف من
ذكره جلَّ جلاله، وتقدست أسماؤه، ورأى العقد في الخيط، أشد في الكراهة، لأن
العقد في الخيط من ناحية السحر الذي أمر الله تعالى بالاستعاذة منه بقوله:
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] واستحبَّ التنجيم
إذ ليس فيه أكثر من التبرك بالنجوم، لما جعل الله فيها من المنفعة لعباده
باهتدائهم بها في ظلمات البر والبحر.
(17/165)
وقد مضى في رسم الصلاة الأول من سماع أَشهب
من كتاب الصلاة زيادات في هذا المعنى، لها بيان. وبالله التوفيق.
[ما جاء عن معاذ بن جبل من عدله بين نسائِه]
فيما جاء عن معاذ بن جبل من عدله بين نسائِه قال مالك: حدَّثني يحيى بن
سعيد أَن معاذ بن جبل كانت له امرأتان وأنهما هلكتا في طاعون جميعاً فأَسهم
بينهما أَيَّهما تدفن قبل.
قال محمد بن رشد: هذا لا يلزم، لأن العدل بينهما إنّما يجب لهما عليه في
حياتهما، بدليل قوله عزَّ وجلّ: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ
فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] فإنَّما فعل ذلك تحريَاَ
للعدل بينهما على وجه الاستحباب، وقد كان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا
كان يَوم إحداهما لم يشرب من بيت الأخرى الماء. ذكر ذلك مالك عنه في رسم
الطلاق من سماع أَشهب، من كتاب النكاح، وإنما كان يفعل ذلك تحرياً للعدل
والمساواة بينهما، من غير أن يكون ذلك واجباً عليه. لا بأس على الرجل أَن
يتوضأ من ماء المرأة من زوجاته، ويشرب من بيتها الماء، ويأكل من طعامها
الذي ترسل إِليه في يوم غيرها، من غير أَن يتعمد بذلك ميلاً، وأن يَقف
ببابها، فيتفقد من شأنها وحالها، ويسلم من غير أن يدخل عليها أَو يجلس
عندها.
وقد ذكرنا في رسم الطلاق المذكور من سماع أشهب من كتاب النكاح الحجة في
جواز ذلك، من السنَة وبالله التوفيق.
[صبغ الشعر]
في صبغ الشعر وسُئل مالك عن الصبغ
بالحنّا والكتم. قال ذلك واسع.
(17/166)
وأَما السواد فما سمعت فيه شيئاً. وغيره من
الصباغ أَعجب إليّ منه.
قال محمد بن رشد: أما صبغ الشعر وتغيير الشيب بالحنا والكتم، والصفرة، فلا
اختلاف بين أَهل العلم في أن ذلك جائز، وإنَّما اختلفوا هل الصبغ بذلك
أحسن، أو ترك الصبغ جملة أحسن؟، بدليل هذه الرواية أن ترك الصبغ أحسن، لأنه
لما وسع في الصبغ دلَّ على أن تركه عنده أحسن. ودليل ما في الموطأ أن الصبغ
بذلك أحسن، لأنه قال فيه: إن ترك الصبغ كله واسع إن شاء الله، ليس على أحد
فيه ضيق. ودليل هذا ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنِّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ
فَخَالِفُوهُم» وما ذكره في موطئه عن أبي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ
قَالَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ.
قَالَ: وكَانَ جَليساً لَهُم، وَكَانَ أَبْيَضَ اللِّحْيَة والرأس قَالَ:
فَغَدا عَلَيْهِم ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَدْ حَمَّرَهَا فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ:
هذَا أَحْسَنُ فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي عَائِشَة زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَتْ إِلَيَّ الْبَارِحَةَ جَارَتَهَا
نُخَيلَةَ فَأَقْسَمَتْ عَلًيّ لأصْبُغَنَّ، وَأَخْبَرَتْنِي أَنَّ أَبَا
بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ يَصْبُغُ. وفي هذا الحديث بيان أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصبُغ قاله مالك، إذ لو صبغ لأرسلت
بذلك عائشة إلى عبد الرَّحمن.
وقد «سُئل أنس بن مالك عن الخضاب فقال: خضب أبو بكر بالحنا والكتم، وخضب
عمر بالحنا قيل له: فرسول الله، قال: لم يكن في لحيته عشرون شعرة بيضاء»
وسُئل سعيد بن المسيب، أَخضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؟ قال: " لم يبلغ ذلك ". وروي «عن أَبي الدرداء أَنَّه قال: ما
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يخضب، ولكنه قد كان فيه شعرات بيض،
فكان
(17/167)
يغسلها بالحنا والسدر» وما في كتاب الحج من
الموطأ من قول عبد الله بن عمر وأَما الصفرة فإني رأيت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصبغ بها، فأَنا أحب أَن يصبغ بها. قيل: في
الثياب، وقيل معناهُ في الخضاب. وكان مالك لا يخضب، وروي أن بعض ولاة
المدينة قال له: ألا تخضب يا أبا عبد الله، فقالَ له: لم يبق عليك من العدل
إلَّا أن أخضب. وكان الشافعي قد عجل به الشيب فكان يخضب. وأما الخضاب
بالسواد، فكرهه جماعة من العلماء، لما رُوي من أَنَه «جِيءَ بأَبِي قُحافة
إِلَى النَّبِيَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَ الْفَتْح. وكَأَنَ رَأسَهُ
ثَغَامَة فقال: اذهْبُوا بِهِ إِلَى بَعْض نِسَائِهِ، فَغَيِّرُوهُ،
وَجَنِّبُوهُ السوَادَ» . وقد سُئل سعيد بن جبير عن الخضاب بالوسمة فقال:
يكسو الله العبد في وجهه النور، ثم يُطفِئه بالسواد، وقد خضب بالسواد
جماعة، منهم الحَسن، والحسين، ومحمد، بنو علي بن أَبي طالب، ونافع بن
جُبير، وموسى بن طلحة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعقبة بن عامر، وكان عقبة
ينشد في ذلك.
تخَضَّبُ أَعْلاها وَتَأبَى أُصولها ... وَلَا خَيْرَ فِي الأعْلَى إِذَا
فَسَدَ الأصْلُ
وكان هُشيم يخضب بالسواد، فأَتاه رجل فسأله عن قول الله عزَّ وجلّ:
{وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] فقال له: إِنه الشيب. فقال له السائل:
فما تقول فيمن جاء النذير من ربه فسود وجهه، فترك الخضاب. وبالله التوفيق.
(17/168)
[غضب سعيد بن المسيب على ابن شهاب]
في غضب سعيد بن المسيب على ابن شهاب قال
بلغني أَن سعيد بن المسيب غضب على ابن شهاب، وقال: ما حكمك علي أن حدثت عني
بحديثي ابن مروان؟ فما زال حتى ترضاه. فقلت له: أهو حديث أُمهات الأولاد؟
قال: نعم.
قال محمد بن رشد: حديث أمهات الأولاد الذي عاتبه على أن حدَّث به، عنه عبد
الملك بن مروان هو ما كان حدث به بأنَّ عمر بن الخطاب قضى بأن أُمهات
الأولاد، متعة لساداتهنً ما عاشوا، ثم هنَّ بعد موتهم أحرارٌ من رءوس
أموالهم، بعد مشورة من حضره من بقية العشرة والمهاجرين والأنصار، فيحتمل أن
يكون مذهبه في أُمهات الأولاد خلاف ذلك، ولذلك عاتبه على أَن حدَثه بحديثه،
لأنه قضى بما حدَّثه به، ورآهُ حجة، لانعقاد الِإجماع عنده على ذلك من
الصحابة، ولم ير ذلك هو حجة إذ قد رَجع علي بن أبي طالب حين أفضت إليه
الخلافة عن ذلك، فبطل الإِجماع على مذهب من يرى أَن الإِجماع لا ينعقد إلًا
بعد انقراض العصر، وإذا بطل الإِجماع وسع الخلاف، فرأَى سعيد حكم ابن مروان
بما حكم به خطأ أَوجبه عليه ما حدث به عنه، فلذلك عاتبه على ذلك، وغضب عليه
من أجله. وهذا على أن الحق في واحد، ولو كان عنده كل مجتهد مصيب، لما عاتب
ابن شهاب على أَن حدثه بحديثه. وبالله التوفيق.
[وضع الحكمة عند من لا يعقلها]
في كراهية وضع الحكمة عند من لا يعقلها
قال وحدَّثني مالك أَنَّه بلغه أَن لقمان قال لابنه: لا تضع الحكمة عند من
لم يعقلها، ولا يعيها ولا يعمل بها، فإن مثل ذلك كمثل الذي يتغنى عند رأس
الميت. فقيل له ما تفسيره؟
(17/169)
قال: الذي يتغنى عند رأس الميت من السفه،
وإن الذي يضع الحكمة عند غير أَهلها هو الأمر الذي لا ينبغي.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لا يحتاج إلى بيان والله الموفق.
[أغضبته امرأته فطلّقها البتة]
حكاية فيمن أغضبته امرأته فطلّقها البتة وحدَثني سحنون عن ابن القاسم عن
مالك عن ربيعة أن رجَلَا كان من أَشراف الناس، وأَنَّه كان بينه وبين
امرأته عتاب في جوف الليل، فلما أصبحت وخرج زوجها إلى الصبح، جمعت عليها
ثيابها وخرجت، حتى أتت امرأة مروان بن الحكم، فذكرت ذلك لها، فلما دخل
مروان من الصلاة ذكرت امرأته له شأنها، فقال لها: وأين هي؟ فقالت: هي في
الحجاب، فأَرسل مروان إلى زوجها فوادعه في ذلك، فقال للرسول الساعة؟ ما له؟
قال: لا أدري إلَّا أنه أمرني أن أدعوك، فخرج حتى دخل عليه فذكر له شأنها
فقال له الرجل: وما يدريك؟ أنه كان بيني وبينها أمر، قال: هي أخبرت بذلك،
قال: فأين هي؟ قال: هي في الحجاب قال: فإنها طالقة البتة. قال مروان: ما
هذا الذي دعوتك له، فقال: أَما إذا بلغت هذا فهي طالق البتة.
قال محمد بن رشد: هذه حكاية ليس فيها معنى يحتاج إلى شرحه وبيانه. والله
الموفق.
[الركوع بعد صلاة الجمعة]
في الركوع بعد صلاة الجمعة قال: وحدثنا
سحنون عن ابن القاسم، عن مالك عن نافع، عن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي بعد
(17/170)
الجمعة شيئاً حتى ينصرف» .
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام قبل هذا من هذا الرسم على هذه المسألة فلا
معنى لِإعادته وباللَّه تعالى التوفيق.
[تعريف النجش]
في النجش قال مالك: قال نافع: عن ابن عمر: إِن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عن النَّجْش» .
قال محمد بن رشد: النجش هو أن يعطي الرجل العطاء في السلعة، لا يريد
شراءها، ليغتر بذلك غيره. فإن فعل ذلك غيره ليس من قبل البائع، ولا كان له
فيه سبب، لزم المشتري الشراء، وباع الناجش بالِإثم، وإن كان البائع هو دسَّ
من زاد في السلعة، أو كان له فيه سبب، مثل عبده أو أجيره أو شريكه أو ما
أشبه ذلك، فالمشتري بالخيار في السلعة، ما كانت قائمة، إن شاء التزمها
بالثمن الذي كان اشتراها به، وإن شاء ردها، وإن فاتت في يده، ردت إلى
القيمة، وإن كانت أقل من الثمن. قاله ابن حبيب في الواضحة.
وقد مضى هذا في هذا السماع من كتاب السلطان وباللَّه تعالى التوفيق.
[الحض على حياطة الدين]
في الحض على حياطة الدين وحدثني سحنون
عن ابن القاسم عن مالك أن عطاء بن يسار كان يقول: دينَكم دينَكم فأما
دُنياكم فلا أوصيكم بها أنتم عليها
(17/171)
أحرص وأنتم بها مستوصون.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بيِّن لا يفتقر إلى كلام وباللَّه التوفيق.
[لباس الخز]
في لباس الخز، والشرب في القدح المضَبّب بالفضة وسئل مالك عن
لباس الخز فقال: أما أنا لا يعجبني، ولا
أحرمه. فقيل له: فالقدَح تكون فيه الحلقة من الفضة أو تضبيب في شفته؟ قال:
ما يعجبني أن يشرب فيه وهذا ليس من عمل الناس ولا يعجبني ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام مستوفى على لباس الخز محصلاً غاية التحصيل
في أول مسألة من سماع ابن القَاسم، فلا معنى لإِعادته. وأما الحلقة من
الفضة، تكون في القدح والتضبيب في شفتهِ، فقياسه قياس العلم من الحرير في
الثوب، كرهه مالك، وأجازه جماعة من السلف. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه
أجازه على قدر الأصبعين والثلاث والأربع. وقع ذلك في مختصر ما ليس في
المختصر لابن شعبان، وسيأتي التكلم على هذا في سماع أصبغ وباللَّه تعالى
التوفيق.
[النفخ في الطعام والشراب]
في النفخ في الطعام والشراب وسئل مالك
عن النفخ في الطعام أتكرهه كما تكره النفخ في الشراب؟ قال: نعم هو مكروه.
قال محمد بن رشد: هذا بيِّن على ما قاله لأن المعنى الذي جاء من أجله النهي
عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن النفخ في الشراب وهو مخافة أن يتطاير
من ريقه فيه شيء، فيتقزز ذلك من سواه موجود في الطعام. وقد روي ذلك عن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نصاً، روِي عن عقيل «عن ابن شهاب قال:
بَلَغَني أن
(17/172)
رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نَهى عَنِ النفْخ فِي الطعَام وَالشرَابِ» وباللَّه تعالى
التوفيق.
[رفع اليدين في الدعاء]
في رفع اليدين في الدعاء
وسئل عن رفع اليدين في الدعاء فكره ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المُحرِم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن
القاسم من كتاب الصلاة. وقد مضى في الرسم الذي قبل هذا الكلام على هذا
مستوفى فلا معنى لِإعادته.
[لبس الخز]
في لبس الخز قال مالك: وذكر لبس الخز
فقال: قوم يكرهون لباس الخز ويلبسون القلانس من الخز، تعجباً من اختلاف
رأيهم. وإنما كره لباس الخز لأن سداه حرير.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة أول رسم من سماع ابن
القاسم حسبما ذكرناه فوق هذا فلا معنى لِإعادته.
[عدد مَن قتل من الأنصار يوم أحُد ويوم حسر أبي عبيد ويوم اليمامة]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق في عدد مَن قتل من الأنصار يوم أحُد ويوم
جسر أبي عبيد ويوم اليمامة قال مالك: حدثني يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب
(17/173)
قال: قتل من الأنصار في ثلاث معارك، سبعون
يوم أحد، ويوم جسر أبي عبيد ويوم اليمامة.
قال محمد بن رشد: كانت الوقْعة بأحد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاثٍ من
الهجرة. وذلك أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج
عشية يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة خَلَتْ من شوال، وكانت الوقْعة يوم السبت
بعده، وكانت اليمامة في سنة إحدى عشرة من الهجرة في خلافة أبي بكر الصديق.
روي أن أبا بكر الصديق وجه خالد بن الوليد إلى اليمامة، وأمره أن يصمد
لمسيلمة الكذاب، فلما دنا من اليمامة نزل وادياً من أوديتهم، فأصاب فيها
مُجاعة بن مرارة، في عشرين رجلاً كانوا خرجوا في طلب رجل من بني نمير فقال
لهم خالد: يا بني حنيفة، ما تقولون؟ قالوا: نقول: منَّا نبي ومنكم نبي.
فعرضهم خالد على السيف، فقتلهم إلا مجاعة، فاستوثق منه بالحديد، ثم سار،
فاقتتلوا، فكان أول قتيل من المشركين رحال بن عُنفوة، فاقتتلوا قتالاً
شديداً، فانكشف المسلمون، ثم تداعوا، فقال ثابت بن قيس بن شماس: بِئسَ ما
عودتم به أنفسكم يا معشر المسلمين، اللَّهم إني أبرا إليك مما يصنع هؤلاء،
ثم قاتل حتى قتل.
وروي عن هشام بن عروة عن أبيه قال: جاء المسلمون حتى بلغوا الرِّحال، فقال
ابن العوام: يا أيها الناس قد بلغتم الرحال، فليس لأحدٍ مفر عن رحله،
فارجعُوا فرجعوا، فهزم اللَّه المشركين، وقتل مسيلمة. وكانت وقعة جسر أبي
عبيدة في آخر شهر رمضان، وأول شوال، من سنة ثلاث عشرة، في صدر خلافة عمر بن
الخطاب. وذلك أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث أبا عبيد بن مسعود
الثقفي إلى العراق، فلقي جابان بيْن الحرة والقادسية، ففض جمعه، وأسره،
وقتل أصحابه. ففدى جابان نفسه، ثم أغار على تلك النواحي، وبعث البعوث في
تلك الجهات فسبوْا ومثَّلُوا، فلما رجع المشركون منهزمين إلى مليكهم شتمهم
وأقصاهم ودعا بهمان ذا الحاجب وعقد له على اثني عشر ألفاً وأعطاه سلاحاً
كثيراً. وحمل معه من آلة الحرب أوقاراً ودفع إليه الفيل الأبيض، وبلغ
(17/174)
أبا عبيد مسيرهم، فعبر الفرات، وقطع الجسر،
وأقبل ذو الحاجب فنزل، وبينه وبين أبي عبيد الفرات، فأرسل إليه، إما أن
تعبُر إلينا أو نعبُر إليك، فقال أبو عبيد: نعبُر إليكم، فعقد له ابن صلوتا
الجسر، وعبر، فالتقوا في مضيق، وقدم ذو الحاجب جاليوس معه الفيل الأبيض،
فاقتتلوا قتالاً شديداً وضرب أبو عبيد مشفر الفيل، وضرب أبو محجن عرقوبه،
وقُتل أبو عبيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقد كان قال: إن قُتلت فعليكم فلان،
وإن قُتل فعليكم فلان، وإن قُتل فعليكم فلان. فقُتل جميع الأمراء، وأخذ
المثنى بن حارثة الراية، واستحرَّ القتل في المسلمين، فمضوا نحو الجسر، حتى
انتهوا إليه، وقد سبقهم إليه عبد اللَّه بن يزيد الخَطي، ويقال: عبد بن
يزيد الثقفي، فقطع الجسر، وقال: قاتلوا عن دينكم، فاقتحم الناس الفرات فغرق
ناس كثير، ثم عقد المثنى الجسر، وعبر المسلمون، واستشهد يومئذ من المسلمين
ألف وثمانمائة، وقيل: أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وانحاز بالناس المثنى بن
حارثة الشيباني. وباللَّه التوفيق.
[ما وعد به عمر رضي اللَّه عنه من المساواة بين الناس في العطاء]
في ما وعد به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من المساواة بين الناس في
العطاء قال: وحدثني مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر بن الخطاب قال:
لَئِن بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ، لألْحِقَنَّ أسْفَلَ النَّاس بِأعلَاهُمْ.
قال الإمام القاضي: كان أبو بكر الصديق يساوي بين الناس في قسم مال اللَّه
عليهم، ولا يفضل أحداً في العطاء بسابقةٍ ولا قِدَم، فكلمه عمر بن الخطاب
في ذلك، فقال: تلك فضائل عملوها لله، وثوابهم فيها على اللَّه. وهذا المعاش
الناس فيه أسوة، وإنما الدنيا بلاغ. وقسم عمر بن الخطاب بعد أبي بكر، ففاضل
بين الناس، وفرض لهم الديوان على سوابقهم في الِإسلام وفضلهم على أنفسهم،
وكان يقول: الرجل وبلاؤه،
(17/175)
والرجل وسابقته. وظاهر قول عمر هذا: لئن
بقيت إلى قابل، لألحقن أسفل الناس بأعلاهم، إنه رجوع منه عن مذهبه الذي كان
يسير به من تفضيل أهل السوابق والفضل في العطاء على من لا سابقة له في
العطاء، ولا فضل معلوم، إلى مذهب أبي بكر في المساواة بينهم. وذهب ابن حبيب
إلى أن معنى قوله عنده التسوية على جميع الناس من المال، حتى يصير نصيب
أدنى المسلمين لكثرة ما أفاء اللَّه به عليهم، مثل ما يصيب أعلاهم منه، يوم
قال هذا القول، ولم يرد أن يرد الأعلى إلى الأسفل، وإنما تأول قوله على
هذا، لأنه اختار مذهبه على مذهب أبي بكر وأخذ عثمان بِفعْل عمر، وأخذ علي
بالعراق بفعل أبي بكر، ساوى ولم يفضل، ثم وليَ عمرُ بن عبد العزيز، فأخذ في
ذلك باْلأمْرَينِ جميعاً، وذلك أنه فرض العطاء، ففاضل فيه بين الناس على
قدر شرفهم، ومنازلهم في الإِسلام، وقسم قسمين على العامة على غير ديوان
العطاء، فساوى بين الناس في ذلك، واختار مالك فعل أبي بكر الصديق. فقال:
يبدأ بالفقراء ثم يساوي بين من بقي، إلا أن يشاء الإِمام أن يحبسه لنوائب
الِإسلام. ومعنى قوله: يساوي بينَ من بقي، أن يعطي الصغير قدر ما يغنيه،
والكبير قدر ما يغنيه، والمرأة قدر ما يغنيها، فإن فضل شيء ورأى الِإمام أن
يحبسه لنوائب الإِسلام حبسه وإن رأى أن يرده عليهم رده. وقال: قد يُجيز
الإمام الرجل بالجائزة، لوجه يراه قد استحق به الجائزة. وباللَّه التوفيق.
[إقادة الإِمام من نفسه]
في إقادة الإِمام من نفسه
قال: وبلغني أن عمر بن الخطاب ضرب رجلًا بالدِّرَة، ثم قال عمر للرجل:
اسْتَغْفِرْ لِي، فقال الرجل: أنت استغفر لي، فأنا ظالم، ثم قال عمر: أولا
عِلْمَ لَكَ بِنَزَوَاتِ الْإِمَارَةِ أوِ الْمُلْكِ؟ قال مالك: حدثني عاصم
بن عبيد اللَّه بن عاصم، أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، نَزَلَ يَوْماً
بِطَرِيقِ مَكَّةَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَمَّا اشْتَدَّت
(17/176)
الشَّمْسُ، خَرَجَ مِنْ تَحْتِهَا،
فَطَرَحَ عَلَيْهِ ثَوْبا يَسْتَظلَّ بهِ، فَنَادَاهُ رَجُلٌ: يَا أمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ لَكَ في رَجُلٍ قَدْ رَثَدْتَ حَاجَتَه، وَطَالَ
انْتِظَاره؟ فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ رَثَدَهَا؟ فَقَالَ: أنْت فما زال القول
والمراجعة حتى ضربه بالمحقنة، فأخذ الرجلِ بثوب عمر، وقال: عجلت علي قبل أن
تنظر، فإن كنت مظلوماَ رددتني إلى الحق، فقال عمر: صدقت، ثم أخذ عمر بثوب
الرجل ثم أعطاه الدِّرة، فقال له: اسْتَقِدْ مِنِّي. فقال الرجل: ما أنا
بفاعل، فقال له عمر: واللَّه لتفعلنَّ أو لتفعلن ما يفعل المنصف من حقه.
قال الرجل: فإني أعفو قال: فالتفت عمر إلى الرجل من أصحابه، فقال: أنصفت من
نفسي قبل أن ينتصف مني. وأنا كاره فلو كنت بالأراك لسمعت خنين ابن الخطاب.
قال محمد بن رشد: هذا من عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نهاية في
الخوف والورع للَّه تعالى، إذ لم يضربه متعدياً عليه فيكون القود منه
واجباً، وإنما ضربه بالاجتهاد الذي رأى به أن الضرب يجب عليه فإن كان أصاب
في اجتهاده، فله أجران، وإن كان أخطأ فله أجر والضرب مع الخطأ في الاجتهاد
خطأ والخطأ لا قصاص فيه، إِلَّا أنه خشي أن يكون قد قصر فيما يلزمه، فيكون
مسئولاً عن ذلك، فتورع بما فعل لئلا يبقى عليه سؤال ولا تبعة يوم القيامة،
والخنين بالخاء المعجمةَ يريد البكاء وقيل الخنين الغنة التي تصير في صوت
الباكي، من تردد البكَاء يقال فيه خَنً يَخِنُّ خَنِيناً. وقيل: الخَنين
الضحك إذا خرج جافياً والخُنَة ضرب من الغُنَة يقال امرأة خناء وغناء.
وباللَّه تعالى التوفيق.
(17/177)
[صفة إشعار البُدْن في الحج]
في صفة إشعار البُدْن في الحج قال: وحدثني عن ابن القاسم عن نافعِ عن أبي
نعيم عن نافع مولى عبد الله بن عمر أنه كان يُشعر بُدْنهُ من الشقين جميعاً
إذا كانت صعاباً مقرنة موثقة.
قال محمد بن رشد: زاد في هذا الحديث في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب
الحج. وَإِنًمَا كَانَ ابنُ عُمَرَ يَفْعَلُ هَذَا ليدللها بِذَلِك،
وَلَيْسَ لأنَّ ذَلِكَ سُنَةُ إشْعَارِهَا، وَإِنَّمَا سُنةُ إِشْعَارِهَا،
صَعْبَةً كَانَتْ أو دُلُلًا مِن الشَق الأيْسَرِ. وقوله: وإنما كان ابن
عمر يفعل هذا ليدللها بذلك يدل على أنه يشعرها من الشقين جميعاً معاً خلاف
ما ذهب إليه ابن المواز من أن معنى قوله من الشقين جميعاً أي من أيَ الشقين
أمكنه ومثل تأويل ابن المواز حكى ابن حبيب عنه نصاً من رواية مطرف عن
العمري عن نافع عن ابن عمر. وزاد في صفة الإِشعار أنه طولًا في سنامها وفي
المدونة عرضاً وقوله: إِن السنة في الإِشعار أن تكون في الشق الأيسر، هو
مثل ما في المدونة. وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الإِشعار
في الشق الأيمن. وروي هذا كله في كتاب الحج. ووجه الإِشعار في الشق الأيسر
وفي الأيمن وباللَه التوفيق.
[تفسير يَجِدْ فِي الأرْض مُرَاغَماً]
في تفسير يَجِدْ فِي الأرْض مُرَاغَماً
وسئل مالك عن قول اللَّه تعالى: {مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء:
100] قال المراغم الذهاب في الأرض، وَسَعَةً، سعة البلد.
(17/178)
قال محمد بن رشد: قوله: المراغَم الذهاب في
الأرض بين في المعنى. يقول: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
[النساء: 100] أي ومن يهاجر في سبيل الله قومه وأهله، ويخرِج عنهم، ولا
يبالي بأن يُعادوه، يجد في الأرض مراغماً كثيراً أي مضطرباَ ومطلَباً
وتحولًا وسعةً في البلاد، وقيل: في الرزق، وقيل: في إظهار الدين، لما كان
يلحقهم من تضييق المشركين عليهم في أمر دينهم حتى يمنعوهم من إظهاره،
والمراغم والمهاجر واحد، تقول: راغمت وهاجرت، وأصله أن الرجل كان إذا أسلم
خرج عن قومه مراغماً لهم، أي مغاضباً ومهاجراً أي مقاطعاً من الهجران، فقيل
للمذهب مراغم، وللمصير إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هجرة لأنها كانت
بهجرة قومه. وباللَه تعالى التوفيق.
[أخذ الماء إلى الأذنين في الوضوء]
في أخذ الماء إلى الأذنين في الوضوء
قال: وحدثني مالك عن نافع عن ابن عمر أَنه كَانَ يَمسحُ رَأسهُ بالْمَاء،
وَيُدْخِلُ أصْبَعَهُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يُدْخِلُهَا فِي أُذُنِهِ.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك وابن القاسم وجميع أصحابهما أن الأذنين
يستأنف لهما الماء، فمسحهما مع استئناف الماء لهما سنة، والمنصوص عليه عن
مالك أن الأذنين من الرأس، ويستأنف لهما الماء، فإنما السنة على هذا في
استئناف الماء لهما، لأن بلة اليد تذهب في مسح الرأس، فيستأنف أخذ الماء
لهما سنة. وقد قيل في غير المذهب: إنهما من الرأس يمسحان معه، ولا يستأنف
لهما ماء. وقيل: إنهما من الوجه، يغسلان معه. وقيل: إن باطنهما من الوجه
وظاهرهما من الرأس. والصواب ما ذهب إليه مالك يشهد بصحته الحديث، قوله:
«إذَا
(17/179)
تَوَضَّأ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ فَمَضْمَضَ
خَرَجَ الْخَطَايَا من فِيهِ» إلى قوله: «فَإِذَا مَسَحَ رَأسَهُ خَرَجَتِ
الْخَطَايَا مِنْ رَأسِهِ حَتَى تَخْرُجَ مِنْ آذُنَيْهِ» وبالله تعالى
التوفيق.
[التكبير في العيدين]
في التكبير في العيدين وحدثني عن نافع
عن أبي نعيم عن نافع مولى ابن عمر أن ابن عمر قال: التَّكْبِيرُ فِي
الْعِيدَيْنِ فِي الأولَى سَبْعاَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وفِي الآخِرَةِ
خَمْساً قَبْلَ الْقِرَاءَةِ.
قال محمد بن رشد: وقف نافع عن نافع هذا الحديث عن ابن عمر، وأسنده عبد الله
بن عامر الأسلمي عن نافع عن ابن عمر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وروي أيضاً عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية كثير بن عبد الله
المزني عن أبيه عن جده وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كبر في
العيدين في الأضحى والفطر، في الركعة الأولى سبعاَ قبل القراءة، وفي الركعة
الأخيرة خمساً قبل القراءة، على ما وقع في رسم من بعد هذا.
وهذا أمر متفق عليه في المذهب، في أن التكبير في صلاة العيدين سبعاً في
الأولى بتكبيرة الإِحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة الإِحرام، وفي خارج
المذهب في ذلك اختلاف كثير في عدد التكبير، وفي موضعه، لاختلاف الآثار في
ذلك، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وعن جماعة من أصحابه، فروي عن
النبي عيه السلام من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن التكبير في
العيدين سبع في الأولى وخمس في الآخرة سوى
(17/180)
تكبيرة الصلاة. وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن التكبير فيهما أربعٌ أربعٌ، مثل تكبير الجنائز،
وروي عن علي بن أبي طالب أنه كان يكبر في النحر خمس تكبيرات: ثلاثٌ في
الأولى واثنتين في الثانية، وأنه كان يكبر يوم الفطر إحدى عشرة تكبيرة،
يفتتح بتكبيرة واحدة، ثم يقرأ، ثم يكبر خمساً، يركع بإحداهن، ثم يقوم
فيقرأ، ثم يكبر خمساً، يركع بإحداهن. وفي موضع التكبير ثلاثة أقوال:
أحدها: مذهب مالك أنه يكبر في الأولى قبل القراءة، وفي الآخرة قبل القراءة،
فلا يوالي بين التكبيرتين، ولا بين القراءتين.
والثاني: أنه يكبر في الأولى والثانية بعد القراءة، فيوالي بين التكبير،
ولا يوالي بين القراءة، وهو الذي مضى عن علي بن أبي طالب.
والثالث: أنه يكبر في الأولى قبل القراءة، وفي الثانية بعد القراءة، فيوالي
بين القراءة، ولا يوالي بين التكبير. وهو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد
على ما روي من أن عمر بن الخطاب وعبد الله اجتمع رأيُهما في تكبير العيدين
على تسع تكبيرات. خمس في الأولى، وأربع في الآخرة. وبالله التوفيق.
[من أسباب السعادة]
فيما يقال فيه: إنه من السعادة
قال مالك يقال: من السعادة المرأة الصالحة، والمسكَنُ الوَاسع، والدابة
الصالحة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بيِّن، لأن من اجتمعت له هذه الثلاثة
الأشياء، فقد سلم في دنياه.
[براءة هل يقال فيها بسم الله الرحمن الرحيم]
في براءة هل يقال فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ قال وسئل
مالك عن براءة يقرأ فيها بسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ
(17/181)
الرَّحِيم قال مالك: تقرأ كما أُنزلت ليس
فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في أول رسم من هذا السماع
مستوفى فلا معنى لِإعادته وبالله تعالى التوفيق.
[التحري في الشهادة]
في التحري في الشهادة قال مالك: قال عمر
بن الخطاب لرجل: أتشهد أنه شرب خمراً قال: أشهد أنه قاءها. قال عمر: هذا
التعمق، يعني في الشهادة.
قال محمد بن رشد: في هذا: إنه يجوز للرجل أن يشهد بما علمه من جهة النظر
والاستدلال كما يجوز له أن يشهد بما علمه ضرورة بالعيان، لأن عمر بن الخطاب
أمر الرجل وهو أبو هريرة أن يشهد أنه شربها وهو لم يعاين شربه إياها، وإنما
عاين أنه قاءها، فلما توقف عن الشهادة بذلك، قال له: ما هذا التعمق؟ يعني
في الشهادة.
وقد مضى هذا الوجه الذي توقف أبو هريرة من أجله على الشهادة أنه شربها في
رسم الأشربة والحدود من سماع أشهب من كتاب الحدود في القذف، وهو يحتمل أنه
لم يشربها باختياره، وإنما أكره عليها، فصُبت في حلقه، ولم ير عمر الشهادة
تبطل بهذا الاحتمال، لأن أمره يحمل على أنه شربها باختياره، إذ لم يدَّع
أنه أُكره على شربها، وإنما أنكر أن يكون شربها. وفي قول عمر لأبي هريرة:
أتشهد أنه شربها؟ دليل بين واضح على أن القاضي لا يقضي بعلمه. وبالله تبارك
وتعالى التوفيق.
[فضل الشهادة في سبيل الله]
في فضل الشهادة في سبيل الله قال مالك:
وحدثني يحيى بن سعيد «أن رجلَاَ يسمى حارثهّ
(17/182)
استشهد يوم بدرٍ وأن أمه حزنت عليه، فاجتمع
إليها النساء يعزينها وقلن ما لك لا تبكين على حارثة؟ فقالت: لا أبكي عليه
حتى يأتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسأله، فإن كان
في الجنة لا أبكي عليه، وإن كان غير هذا فسترين بكائي، قال: فعجلت فلقيت
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند بير أبي عنبة عند
الحرة، فقالت: يا رسول الله: أَقُتِلَ حَارِثَة؟ قال: نَعَمْ، قالت: أفي
الْجَنَّةِ هُو؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: يَا أمَّ حَارِثَةَ، إنَّهَا لَجِنَانٌ كَثِيرَةٌ وإنَّهُ فِي
الْفِرْدَوْس الأعْلَى.» قال مالك: «إن عبد الله بن عمرو بن حرام أبا جابر
بن عبد الله صاحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان استشهد
يوم أحد، وأنه كان عليه دين قد رهقه فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: إذا كان الجداد فآذني فأَذنته فوضع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده ودعا فيه فكال منه لأهل دينه وبقي بعد
ذلك مثل الذي كان فيه قبل قضاء الدين» .
قال محمد بن رشد: حارثة المذكور في الحديث الأول هو حارثة بن سُراقة بن
الحارث الأنصاري من بني النجار، شهد بدراً فكان أول قتيل قتل فيه، رماه
حبان بن العرقة بسهم وهو يشرب من الحوض، فأَصاب حنجرته فقتله. وفيه أن
منزلة الشهيد في سبيل الله، أرفعُ المنازل في الجنة عند الله. قال عز وجل:
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل
عمران: 169]
(17/183)
الآية. وبير أبي عنبة على ميل من المدينة
خرجت إلى النبي فتلقته عند البير المذكور. وأما حديث عبد الله بن حرام ففيه
علم جليل من أعلام نبوة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لأنه كان عليه من
الدين أكثر مما في الحائط من الثمر بكثير، لا يشك في ذلك، فكال منه لأهل
دينه جميع ديونهم وبقي بعد ذلك من الثمر مثل ما كان فيه قبل قضاء الدين
ببركة دعاء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وفي قوله: فكال منه لأهل دينه
وبقي منه بعد ذلك مثل الذي كان فيه بعد قضاء الدين، تقديم وتأخير، وصواب
الكلام دون تقديم ولا تأخير فكال منه لأهل دينه، وبقي منه بعد ذلك بعد قضاء
الدين مثل الذي كان.
ففي بعض الآثار: وَبَقِيَ لَنَا خَرْص نَخْلِنَا كَمَا هُوَ. وفي بعضها:
وَفَضِلَ مِنْة مِثْلُ ثَمَرِ النَّخْل فِي كلِّ عَامٍ. والحديث يروى من
وجوه كثيرة بألفاظ مختلفة، وعلى المعجزة في ذلك متفقة. منها ما روي «عن
جابر بن عبد الله أن أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيداً وَعَلَيْهِ
ديْنٌ، فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حقُوقِهِم. قَالَ جَابِرٌ: فَأَتَيْتُ
النَّبيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَكَلَّمْتُهُ، فَسَأَلَهُم أَنْ
يَقبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي وَيُحَلٍّلُوا أَبِي فَأبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهم
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَائِطِي وَلَمْ
يَكْسِرْهُ لَهُم وَلَكِنَّهُ قَالَ: سَأَغْدُو عَلَيْكَ، فَغَدَاه عَلَيَّ
حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِي النَّخْل وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا
بِالْبَرَكَةِ» . الحديث، وفي هذا الحديث من الفقه أنه من كان له على رجل
مكيلة ثمر فجائز له أن يأخذ منه فيما له من المكيلة ثمراً جِزافاً في رءوس
النخل إذا كان قد استجد وحان قِطافه، إذا لم يشك أن ذلك مما كان له من
المكيلة، ويحلله من بقية حقه، وهو مذهب مالك. ومن أهل العلم من يخالفه في
ذلك وبالله التوفيق.
(17/184)
[سؤال الِإمارة]
في النهي عن سؤال الِإمارة قال مالك: سمعت وكان مما يحدث به الناس أن النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لَا تَسَل الْإمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ
تُؤتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ تعَنْ عَلَيْهَا وَإِنَّكَ إِنْ تُؤتَهَا
عَنْ مَسألَتِهَا تُوكَلْ إلَيْهَا» .
قال محمد بن رشد: الذي قال ذلك له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عبد
الرحمن بن سَمُرة، كذلك في البُخاري عنه. والمعنى في هذا الحديث بيِّن. فيه
من الفقه أنه لا ينبغي أن يولى القضاء من أراده، وإن اجتمعت فيه شروط
القضاء، مخافة أن يوكل إليه، فلا يقوم به، ولا يقوى عليه. قال رسول اللَّه
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنا لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى
عَمَلِنَا مَنْ أرَادَ» ونظر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى
شاب في وفد وفدَ عليه، فاستحلاه وأعجبه، فإذا هو يسأله القضاء فقال له عمر:
كدت أن تغُرنا بنفسك، إن الأمر لا يقوَى عليه من يُحبه.
[ما يُحذَّر من فساد الزمان]
فيما يُحذَّر من فساد الزمان قال مالك: يوشك أن يأتي على الناس زمان يَقل
فيه الخير في الدين، ويقل فيه الخير في الدنيا.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ُثَم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُم» وقال
(17/185)
عبد الله بن مسعود: ما من عامٍ إلا وَالذي
بعده شر منه. واللَّه أعلم. وبه التوفيق.
[صفة السوائب والبَحائر]
في السوائب والبَحائر قال: وحدثني عيسى عن ابن القاسم عن مالك عن زيد بن
أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قَالَ: «أوَّلُ مَن نَصَبَ النُّصُبَ، وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَغيًرَ
عَهْدَ إِبْرَاهِيمَ عَمْرُو بنُ لحَيّ. وَلَقَدّ رَأيْتُه في النَّارِ
يَجُرُّ قُصْبَهُ يُؤذِي أهْلَ النَّارِ بِرَائِحَتِهِ. وأوَّل مَنْ بَحّرَ
الْبَحَائِرَ رَجُلٌ مِن بَنِي مُدْلِجٍ، عَمَدَ إِلى نَاقَتَيْنِ لَهُ
فَجَذَعَ أذناهما وَحَرَّمَ ألكانَهُمَا وَظُهُورَهُمَا، ثمَّ احْتَاجَ
إِلَيْهِمَا فَشَربَ ألْبَانَهُمَا وَرَكِبَ ظُهُورَهُمَا، قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَلَقَدْ رَأيْتُهُ
وإياهُمَا يخْبِطَانِهِ بِأخْفَافِهِمَا وَيَعَضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا»
.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في صفات المسميات بهذه الأسماء. وما السبب الذي
من أجله كانت العرب تفعل ذلك. فروي عن أبي هريرة أنه قال: «سمعت رسول
اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لأكثمَ بن الجَوْن
الخُزاعي، يَا أكثمُ رَأيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحيِّ يَجُرّ ُقُصْبَهُ فِي
النَّارِ، فَمَا رَأيْتُ مِن رَجُلٍ أشْبَهَ مِنْ رَجلٍ منك به وَلَا به
منك. قالَ أكثمُ: أَيَضُرّنِي شَبَهُهُ يَا نَبِيَّ الله قَالَ: لاَ
لِأنًكَ مُؤْمِن وَهُوَ كَافِر وَإِنًهُ كَانَ أوّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ
إسْمَاعِيلَ فَنَصَبَ الأوْثَانَ وَسَيَبَ السَّائِبَةَ فِيهِمْ» وَإِن ذلك
الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة إناثاً ليس فيهن ذكر، سيبت فلم تُركب ولم يجز
وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى تشق أذنها ثم خلى
سبيلها مع أمها في الِإبل، فلم يُركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها
إلا ضيف، كما فعل بأمها
(17/186)
فهي البَحِيرة، ابنة السائبة، والوصيلة إن
الشاة إذا أنتجت عشرة إناث متتابعات، في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت
وصيلة، قالوا: وصلت، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكر منهم، دون إناثهم، إِلَا
أن يموت منها شيء، فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم، والحامي إن الفحل إذا
تم له عشر إناث متتابعات، ليس فيهن ذكر، قالوا: حما ظهره فلم يركب، ولم يجز
وَبره ويخلى في إبله يضرب فيها، ولا يتبع به لغير ذلك. قال اللَّه لمحمد -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ
وَلا سَائِبَةٍ} [المائدة: 103] الآية، وقال قتادة: البحيرة من الإِبل،
كانت الناقة إذا انتجت خمسة أبطن، فإن كانت الخامسة ذكراً كان للرجال دون
النساء، وإن كانت أنثى بتكوا أذنها ثم أرسلوها فلم ينحروا لها ولداً. ولم
يشربوا لها لبنَاَ ولم يركبوا لها ظهراً.
وأما السائبة فإنهم كانوا يسيبون بعض إبلهم، فلا تمنع حوضاً أن تشرع فيه،
ولا مرْعى أن ترْتع فيه، والوصيلة الشاة كانت إذا وَلدت سبعة أبطن، فإن كان
السابع ذكراً ذبح وأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت.
وقالوا أيضَاَ: إن الوصيلة: الشاة إذا ولدت سبعة أبطن ذبحوا السابع إذا كان
جدْياً وإن كان عناقَاَ استحيوها، وإن كان جَدياً وعناقاً استحيوهما
كليهما، وقالوا: إن الجدي وصلته أخته فحرمته علينا. وجملة القول في هذه
الآية: إن القوم كانوا يحرمون من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله
عليهم، اتباعاً منهم لخطوات الشيطان، فوبخهم اللَّه بذلك. ولا يضر الجهل
بكيفية ذلك. واختلف في قوله عز وجل: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103] في المعني بالذين
كفروا، وبالمراد بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]
فقيل: الذين كفروا هاهنا أهل الكتاب، والذين لا يعقلون أهل الأديان، وقيل
هم أهل ملة واحدة. والمفترون المبتدعون والذين لا
(17/187)
يعقلون، الأتباع، وقيل هم مشركوا العرب،
لأن الابتداء كان فيهم فالخبر بهم أولى من غيرهم إذا لم يكن عَرَضَ في
الكلام ما يصرف من أجله عنهم إلى غيرهم. والقُصْب: المِعَي في قوله: يجر
قُصْبه والجمع الأقصاب، والبَحِيرة المشقوقة الأذن، والبَحْر الشقّ. وقوله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَقَدْ رَأيْتُهُ فِي النًارِ
يَجُر قُصْبَهُ وفِي أهْلَ النارِ بِرَائِحَتِهِ» . معناهُ: أنه عرضت عليه
النار في الدنيا ممثلة، فرآه فيها ممثلًا في الدنيا على الحال التي تكون
عليها في الآخرة، لأن الآخرة هي دار الجزاء والعقاب التي يصير الناس فيها
فريقين: فريقٌ فِي الْجَنَةِ، وَفَرِيقٌ فِي السعيرِ. وباللهَ التوفيق.
[أحب الناس إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم]
فيمن هو أحب الناس إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَن
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْثاً وَأمَرَ عَلَيْهِم أسَامَهَّ بْنَ
زَيدٍ فَطَعَنَ النَّاسُ فِي إمَارَتِهِ، فَقَامَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِن تَطْعَنُوا فِي إمَارَتِهِ،
فَقَدْ كنْتُم تَطْعَنُونَ فِي إمَارَةِ أبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ وَأيْمُ
اللَّهِ إنْ كَانَ لَخَلِيقاً بِالِإمَارَةِ وَإِن كَانَ لَمِنْ أحَبِّ
الناس إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أحَبِّ النَّاس إِلَيَّ بَعْدَه» .
قال محمد بن رشد: قَدْ روي «أنَّ عَلِيّاً سَألَ النَّبَي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: أيُّ النَّاس أحَبُّ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: فَاطِمَةُ بِنْت
مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ أسْألُكَ عَنِ النِّسَاءِ، وَإِنَّما
أسْألُكَ عَنِ الرِّجَال، قَالَ: مَنْ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأنْعَمْت
عَلَيْهِ
(17/188)
أسَامَةُ بْنُ زَيْدِ. قَالَ عَلِيّ: ثَم
مَنْ؟ فَقَالَ: ثُمَّ أنْتَ، فَقَالَ الْعَباسُ شِبْهَ الْمُغْضَبِ: ثمَّ
مَنْ يَا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ثمَّ عَمَي، فقَالَ: جَعَلتَ عمكَ آخِرَ
الْقَوْم، فَقَالَ: يَا عَباسُ، إِنَّ عَلِياً سَبَقَكَ بِالْهِجرَةِ» .
ورُوي «أن عَمْرو بْنَ العاص سَأل النبيَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَنْ
أحَبّ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: عَائِشَةُ، فَقُلْتُ: مِنَ الرجَالِ، قَالَ
أبُوهَا. قُلْتُ: ثَُم مَنْ؟ قَالَ: عُمَرَ بْنُ الْخَطّابِ، فَعَدَ
رِجالاً.» وَرُوي أنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتَ عَنْ أَي أصْحَابِ رَسُول اللهَ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أحبّ إِلَيْهِ؟ قَالَتْ: أبُو
بَكرِ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَ أبو عُبَيْدَةَ بْنِ الْجرَاحِ. وَرويَ عنها
أنَّهُ ذُكِرَ لَهَا عَلِيٌّ فَقَالَتْ: مَا رَأيْتُ رَجلا كَانَ أحَبَّ
إِلَى رسول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ وَلَا
امْرَأةٌ أحَب إلَى رَسُول اللَهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مِنَ امرأَتهِ.
والحكم في هذه الأحاديث أن لا تحمل على التعارض، وأن تصحح بِأن يُقال: إِن
أهل بيت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أحب إليه ممن سواهم، وإن أحب أهل
بيته إليه من النساء، فاطمة، ومن الرجال علي بن أبي طالب، ثم العباس، لأن
ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقديمه أسامة على علي في
محبته إياه كان واللَّه أعلم إذ كان من أهل بيته، تبنَّى ابنه زيداً لأنه
كان اْبن ابنه، فلما نسخ اللَّه ذلك بقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا
أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] وقوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ
هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] فخرج عن أن يكون من أهل بيته،
ذهب المعنَى الذي من أجله تقدم في محبته، فعادت المحبة إلى من ذكر بعده،
وهو علي بن أبي طالب، وأن أحب، من سِوى أهل بيته إليه من النساء، عائشة،
ومن الرجال أبوها، ثم عمر بن الخطاب، ثم أبو عبيدة بن الجراح واللَّه
الموفق.
(17/189)
[ما جاء من أن يحيى بن زكرياء لم يُذنب
ذنباً بخلاف مَن سواه]
فيما جاء من أن يحيى بن زكرياء لم يُذنب ذنباً بخلاف مَن سواه وحدثني ابن
القاسم عن مالك عن يحيى بن سعيد بن المسيب قال: ما من الناس أحد إلا يلقى
اللَّه يومَ القيامة ذا ذنب، إلا يحيى بن زكرياء، فإن اللَّه تعالى ذكر
يحيى فقال: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل
عمران: 39] قال: ثم ذُبح ذبحاً قال: ثم تناول سعيد بن المسيب شيئا من الأرض
صغيراً فقال: لم يكن ذَكَرُه إِلا مثل هذا.
قال محمد بن رشد: الحديث مرفوع إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ومثله لا
يكون رأْيا. رواه سعيد بن المسيب عن ابن العاص سمع رسول اللَّه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأتِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ولهُ ذَنْب إِلَّا مَا كَانَ مِنْ يِحْيَى ابْنِ زَكَرِياء»
وذكر الحديث. وفي قوله: كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَلَهُ ذَنْبٌ إِلَّا مَا كَانَ مِن يَحْيَى ابْنِ زَكَرِيًاءَ دليل ظاهر
على أن الأنبياء غير معصومين من الذنوب الصغائر، إذ لا اختلاف أنهم معصومون
من الكبائر.
ويدل على ذلك من القرآن قوله عز وجل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقد قيل: إِنهم
معصومون من الصغائر والكبائر، وأن الخطاب في قوله تعالى للنبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - والمراد به أمته. والمعنى في ذلك: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] . في الدين لتهتدي به أنت والمسلمون فيكون
ذلك سبباً لغفران ذنوبهم. والأظهر أن الخطاب في ذلك للنبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - وأن المعنى فيه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}
[الفتح: 1] . إِنا حكمنا لك حكماً
(17/190)
يبين به لمن سمعه أو بلغه أنا قضينا لك
بالنصر والظفر على من خالفك، وناصبك من كفار قومك، لتشكر ربك على ذلك
وتسبحه وتستغفره فيغفر لك بفعلك ذلك، ما تقدم من ذنبك وما تأخر. وقيل:
عَنَى بالفتح، فتح مكة، فيغفر له على شكره ذلك ما تقدم من ذنبه قبل الفتح
وما تأخر عنه، وقيل: ما تقدم من ذنبه قبل الرسالة، وما تأخر عنها. وقيل: ما
تقدم من ذنبه يوم بدر، وما تأخر عنه يوم حُنْينٍ، وذلك أن الذنب المتقدم
يوم بدرٍ أنه جعل يدعو ويقول: «إِنْ تَهْلِكْ هَذِه الْعِصَابَةُ لَا
تُعْبَدُ فِي الأرْض أبَداً» فأوحى اللَّه إليه من أين تعلم أنه إن أهلكتُ
هذه العصبة لا أعبد في الأرض؟ فكان هذا الذنب المتقدم، وأما الذنب المتأخر،
فيوم حُنيْنٍ لَما انهزم الناس، «قال لعمِّه الْعبّاس، ولابن عَمِّه أبي
سفيان: ناوِلاني تحفْاً مِنْ حَصَاةِ الْوَادي فَنَاوَلَاهُ فَأخَذَهُ
بِيَدِه وَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْكُفّار، وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ،
لَا ينصَرُونَ، فَانْهَزَُم الْمُشْرِكُونَ عَن آخِرِهِم، وَلَمْ يَبْقَ
أحدٌ إِلّاَ امْتَلَأتْ عَيْنَاهُ رَمْلاً وَحَصاً ثمَّ نَادى أصْحَابَه،
فَرَجَعُوا فَقَالَ لَهُم عِنْدَ رُجُوعِهِم: لَو لَمْ أرْمِهِم لَمْ
يَنْهَزِمُوا فَأنْزَلَ اللًهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ
اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] » . فكان هذا هو الذنب المتأخر. واللَه أعلم.
والذي أقول به: إِن الأنبياء معصومون من القصد إلى إتيان الصغائر، كما أنهم
معصومون من القصد إلى إتيان الكبائر، إلا أنهم يؤاخذون لمكانهم ومنزلهم بما
ليس بكبائر ولا صغائر، في حق من سواهم. وهذا نحو قول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أمْلِكُ، فَلَا
تُؤَاخِذْنِي بِمَا تَمْلِكُ وَلَا أمْلِكُ» فسأل الله عز وجل أن لا يؤاخذه
بما ليس في وسعه، ولا يدخل تحت طاقته وقدرته، وأن يغفر ذلك له، وإن كان
الله قد تجاوز لعباده عنه بقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:
286]
(17/191)
ونحو ما كان من شأنه مع ابن أم مكتوم حتى
عاتبه اللَّه على ذلك بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1] {أَنْ جَاءَهُ
الأَعْمَى} [عبس: 2] ، إلى قوله: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس: 11] والحَصور
الذي لا يقدر على جماع النساء. ومنه حصر الخطيب في خطبته، والقارئ في
قراءته. ومنه حصر العدو. وقوله: ذُبح ذبحاً قد مضى الكلام على السبب الذي
من أجله ذبح في رسم نذر سنة قبل هذا فلا معنى لإِعادته.
[أشراط الساعة]
فيما هو من أشراط الساعة
وحدثني ابن القاسم عن مالك عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن معمر بن
مُحيريز، قال: من أشراط الساعة المعلومة المعروفة أن يرى الرجل يدخل البيت،
فلا يشك من يراه أنه يدخل لسوء إِلَاّ أن الجُدُر تواريه.
قال محمد بن رشد: يريد: إِن من أشراطها المؤذنة بقربها، أن يكثر الفسوق في
الناس، ويشتهر المتهمون به، فإذا رُئي الواحد منهم يدخل البيت الذي يتهّم
أهلُه بالمكروه، لم يشك رائيه أنه يدخله لسوء يريده لغلبة ظنه بذلك، وهي
كثيرة. من ذلك أن يؤتمن الخائن، ويخون الأمين، وأن يوسَّد الأمر إلى غير
أهله وأنْ تَلِدَ الأمةُ رَّبَّتَها. على ما أتت به الروايات عن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وهي أكثر من أن تحصى.
والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أشراطها، إذ لا نبي بعده
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُعِثْتَ أنَا وَالساعَةَ
كَهَاتيْنِ وَأشَارَ بِأصْبُعِه الْوُسْطَى الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ» .
وأما الأشراط
(17/192)
الكبار التي بين يدي الساعة، فمنهما
الدابة، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وباللَّه التوفيق.
[ما أعلم النبي عليه السلام به من الفتنة التي
تكون بعده]
فيما أعلم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - به من الفتنة التي تكون بعده
قال مالك: «ذكر النبي عليه السلام فتنة، فقالوا: يا رسول اللَّه ما النجاةُ
منها؟ فقال: " تَرْجِعُوَنَ إِلَى أمْرِكُمُ الأوَّل» . قال مالك: «قال
النبي عليه السلام لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص: " يَا عَبْدَ اللَّهِ،
كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ الناس قَدْ مَرِجَتْ
عُهُودهم وَأمَانَتُهُم وَاخْتَلَفُوا وَشَبَّكَ بَيْنَ أصابِع يَدِهِ؟
فَقَالَ: كَيْفَ بِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَدَعُ عوَامَّهُم
وَعَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ» .
قال محمد بن رشد: في هذا علم من أعلام نبوة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،
لأنه أخبر بما كان بعده من الفتون والاختلاف، ودل على وجه السلامة من ذلك
بقوله: «تَرْجِعُونَ إِلَى أمْرِكُم الأوَّل» . يريد التمسك بكتاب الله.
وباللَّه التوفيق.
[ترك تولي الولاية للرَّجُل]
في أن ترك تولي الولاية للرَّجُل خير له قال مالك: دعا عمر بن الخطاب رجلاً
ليوليه ولاية فأبَى فجعل عمر يديره عليها، فقال الرجل: نَشَدْتُكَ باللَّه
أي ذلك تعلم أنه خيرٌ لي؟ قال: تركها خير لك.
قال محمد بن رشد: في رواية أخرى قال: فاعفني، قال: قد فعلت. وإنما رأى عمر
بن الخطاب ترك الولاية خيرا له، وإن كان في العمل
(17/193)
فيها بالصواب أجر عظيم، مخافة أن لا يتخلص
في عمله، ويضعف عن إقامة الواجب عليه فيها، ولا يعدلُ بالسلامة شيء. وإذا
كان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: وددت أني أَنجُو مِنْ
هَذَا الأمْرِ كَفَافَاً لَا لِي وَلَا عَلًيّ، فكيف بمن بعده من الناس؟
وبالله التوفيق.
[ترك عمرما كان أراده من كتاب الأحاديث]
ومن كتاب أوله حلف ليرفعنَّ أمراً إلى السلطان في ترك عمر ما كان أراده من
كتاب الأحاديث. قال مالك: كان عمر بن الخطاب قد أراد أن يكتب الأحاديث، أو
كتب منها ثم قال: كتاب مع كتاب الله تعالى لا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا والله أعلم أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - كان أراد أن يكتب الأحاديث المأثورة عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -، ليجعلها أصلاً يحمل الناس عليها في الآفاق، كما يفعل
بالقرآن، فتوقف عن ذلك، إذ لا يقطع على صحة نقل الأحاديث عن النبي عليه
السلام، كما يقطع على صحة نَقل التواتر، فقامت الحجة فَرأى أن يكل أمر
الأحاديث إلى الاجتهاد، والنظر في صحة نقلها، ووجوب العمل بها، وأما أن
يكتب الرجل الحديث قد رواه لِيَتَذَكَّرُه ولا ينساه، فلا كراهة في ذلك.
وقد «حدَث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحديث، فجاء
رجلٌ من أهل اليمن فقال: " اكتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّه، فقال: اكْتُبُوا
لأِبِي فلانٍ ".» وقال أبو هريرة: مَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ أكْثَرَ حَدِيثاً عَنْهُ
مِنِّي، إلَاّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَإنَّهُ كَانَ
يَكْتُبُ وَلَا أكْتُبُ.
ولولا أن العلماء قيدوا الحديث ودنوه وميزوا الصحيح منه من السقيم، لدرس
العلم وعمي أمر الدين. فالله يجازيهم على اجتهادهم في ذلك بأفضل جزاء
المحسنين. وبالله التوفيق.
(17/194)
[القلائد في أعناق الإبل والأجراس]
في كراهة القلائد في أعناق الإبل والأجراس
وسئل مالك عن كراهية القلائد في أعناق الإبل أهو مثل الجرس؟ قال: لا الجرس
أشدُّ. قيل له: لم كُره الجرس؟ قال: لا أراه كُرِه إلا لصوته. ذلك الذي يقع
في قلبي.
قال محمد بن رشد: تعليق الأجراس والقلائد، وهي التمائم بما ليس فيه ذكر
اللَّه، في أعناق الإبل مكروه عند عامة العلماء، لِمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ
فِي مُوَطَّئهُ، مِن «أَنَّ رَسُولَ اللًّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
بَعَثَ فِي بَعْض أسْفَارِه رَسُولاً، وَالنَّاسُ فِي مَقِيلِهِم، أَلَّا
يبْقى فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَة مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلَادةِّ إلاَ
قُطِعَتْ. فعمَّ ولم يخص جرساً من غيره» . ورأى مالك الجرس أشد، لما فيه من
الِإذاية بصوته.
وفي رسم باع غلاماً بعد هذا عن سالم بن عبد الله أنه مر على عير لأهل
الشام، وفيها جرس، فقال لهم سالم: إن هذا نهي عنه فقالوا له: نحن أعلم بهذا
منك إنما يُكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا صغير، فليس فيه بأس، فسكت
سالم. وإذا كان الجرس إنما يكره لصوته كما قال مالك، فلا شك في أنه كلما
عظم فهو أشد كراهية. ويحتمل أن يكون وجه الكراهية فيه شبهه بالناقوس الذي
يضرب به النصارى. وقد جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال:
«الْعِيرُ الَّتِي فِيهَا الْجَرَسُ، لَا تَصْحَبُهَا الْمَلاَئكَةُ» وقع
هذا بعد هذا في رسم باع غلاماً المذكور. وقوله في الحديث قِلاَدة مِنْ
وَتَرٍ أو قِلاَدَة
(17/195)
شك من المحدث. ومن أهل العلم من ذهب إلى
أنه إنما تكره القلادة من الوتر خاصة، لأن البهيمة قد تختنقُ بها في خشبة
أو شجرة، والخيط ينقطع سريعاً، فلا تختنق به. وأما الحديث الذي جاء: «قلدوا
الْخَيْلَ وَلَا تُقلَدُوهَا الأوتار» . فمعناه لا تركبوها في الدخُول وطلب
التراث. وأما التميمةُ بذكر الله وأسمائه، فأجازها مالك مرة في المرض،
وكرهها في الصحة، مخافة العين، أو لِما يُتقى من المرض، وأجازها مرةً بكل
حال، في حال الصحة والمرض. ومن أهل العلم من كره التمائم في كل حال، كان
فيها ذكر أو لم يكن، وفي كل حال، كان ذلك في حال الصحة أو المرض لما جاء في
الحديث، مِنْ أن «من تَعَلَّقَ شَيْئاً وُكِلَ إلَيْهِ، وَمَنْ عَلَّقَ
تَمِيمَةً فَلَا أتَمً اللَّهُ لَه وَمَنْ عَلَّقَ وَدَعةَ فلا وَدَعَ
اللهُ لَهُ» . ومنهم من أجازها على كل حال في حال المرض، ومنع منها في حال
الصحة. لما روي عن عائشة من أنها قالت: ما عُلَقَ بَعْدَ نُزُول الْبَلَاء
فَلَيْسَ بِتَمِيمَةٍ.
وقد مضى هذا والكلام عليه مستوفى في الرسم الذي قبل هذا. وبالله التوفيق.
[حكم الخضاب]
في الخضاب قال مالك في قول عائشة: إنَّ أَبَا بَكْرِ كَانَ يَصْبُغُ، من
الدلائل على أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصبُغ
ولو كان يصبغ لبدأت به.
قال محمد بن رشد: يريد لبدأتْ به ولَذكرتْه لعبد الرحمن بن
(17/196)
الأسود بن عبد يغوث حين أرسلتْ إليه
جاريتها نُخَيْلَةَ، تَعزمُ عليه أَن يصبُغ، وتخبرُه أن أبا بكر الصديق كان
يصبُغ.
وقد مضى هذا كله والكلام عليه مستوفى في الرسم الذي قبل هذا وبالله
التوفيق.
[تفسير الفَدادين والداء العًضال]
في تفسير الفَدادين والداء العًضال وما جاء من أن بخيبر وادياً قد سال
ناراً وسئل مالك عن تفسير الفدَّادِين قال: هم أهل الجفا. قال مالك: وقد
سألت عنهمِ، فقيل ليِ: هم أهل الجفا وقال مالك: إنه يقال: إن بخيبر وادياَ
قد سال ناراَ.
وسئل مالك عن الداء العُضال فقال: هو الهلاك في الدين.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك للفدادين يريد الفدادين المذكورين في حديث أبي
هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رَأسُ
الْكُفْرِ فِي الْمَشْرِقِ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاَءُ فِي أَهْل ألْخَيْل
وَالِإبِل وَالْفدَّادينَ مِنْ أَهْل الْوَبَر. وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْل
الْغَنَم» . صحيح وتفسيره أيضا للداء العضال يريد المذكور في حديث مالك:
أنَّهُ بَلَغَهُ أَن عُمَرَ بْنَ الْخَطَابِ أَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى
الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُ كَعْبُ الأحْبَارِ: لَا تَخْرجْ إلَيْهَا يَا
أمِير الْمُؤمِنِين، فَإنَّ بِهَا تِسْعَةَ أَعْشَارِ السِّحْرِ، وبِهَا
فَسَقَةُ الْجِنِّ، وبِهَا الدَّاءً الْعُضَالُ. صحيحِ أيضاً بيِّن، لا
إشكال فيه. وما ذكره من أنه يقال: إن بِخيْبَرَ وادياً قَدْ سَالَ نَاراَ،
فالمعنى في ذلك إن صح أنه كان فيما خلا من الأمم السالفة عقوبة لأحد، أو
معجزة لنبي. وبالله التوفيق.
(17/197)
[حديث عيينة بن بدر]
في حديث عيينة بن بدر قال ابن القاسم:
سأَلنا مالكاً عن حديث عيينة بن بدر حين دخل على رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد عنده امرأة يقال لها: أمُّ مسلمة، وهو
الحديث الذي قال فيه عيينة ما هذه الحُميراء؟
قال محمد بن رشد: عيينة بن بدر هذا هو عيينة بن حصن بن بدر الفزاري يكنى
أبا مالك، أسلم بعد الفتح وشهد الفتح مسلماً. وهو من المؤلفة قلوبهم. وكان
من الأعراب الجفاة. وحديثه الذي سأل ابن القاسم مالكاً عنه هو ما روي أنهُ
«دَخَلَ عَلَى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِغَيْرِ إِذْنٍ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَيْنَ
الِإذْنُ؟ فَقَالَ: مَا اسْتَأذَنْتُ عَلَى أَحَدٍ مِن مُضَر وَكانَت
عَائِشَةُ مَعَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَالِسَةً فَقَالَ:
مَنْ هَذهِ الْحُمَيْرَاءُ؟ فَقَاَلَ: أُمُ الْمُؤمِنِين، فَقَالَ أَفَلَا
أَنْزِلُ لَكَ عَنْ أَجْمَلَ مِنْهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ هَذَا يَا
رَسُولَ الله فَقَالَ: هَذَا أَحْمَقٌ مُطَاعٌ وَهًوَ عَلَى مَا تَرَيْنَ
سَيِّدُ قَوْمِهِ» .
وفي حديث آخر أَنَهُ دَخَلَ عَلَى رَسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وَذَلِكَ قَبْل أَن يَنْزِلَ الْحِجَابُ، وعِنْدَهُ عَائِشَةُ
فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: عَائِشَةُ. قَالَ أَفَلَا أَنْزِلُ لَكَ
عَن أُمِّ المُؤْمِنينَ فَتنْكِحُهَا فَغَضِبَتْ عَائِشَةُ وَقَالَتْ: مَنْ
هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا أَحْمَقٌ مُطَاعٌ يعني في قومه وكان لعيينة هذا ابنُ
أخ له دين وفضل من جلساء
(17/198)
عمر بن الخطاب. يقال له الحر بن قيس. فقال
لابن أخيه: ألا تدخلني على هذا الرجل؟ قال: إني أخاف أن تتكلم بكلام لا
ينبغي. فقال: لا أفعل فأدخله على عمر فقال: يا ابن الخطاب، والله ما تقسم
بالعدل، ولا تعطي الجزل، فغضب عمر غضباً شديداً حتى هم أن يوقع به. فقال
ابن أخيه: يا أمير المؤمنين: إن الله يقول في كتابه: {خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] قال:
فخلى عنه عمر. وكان وقافاً عند كتاب الله. وإنما سأل ابن القاسم مالكاً عن
حديث عيينة المذكور. والله أعلم هل بلغه أم لا؟ لما فيه من جهله على رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقول رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، وحِلْمِه عليه. وبالله التوفيق.
[اللِّقْحَة الصَفِيّ]
في اللِّقْحَة الصَفِيّ هي الغَزيرَة الكثيرة اللبن.
قال محمد بن رشد: قول مالك في اللقحة الصفي:
إنها الغزيرة الكثيرة اللبن صحيح، لأن ذلك مفسر في الحديث: حديث أبي هريرة
رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول اله قال: «نِعْمَ
المنيحَة اللَّقْحَةُ الصَفِيُ، والشَّاةُ الصَّفِيُّ تَغْدُو بِإنَاءٍ
وَتَرُوحُ بآخَر» ومعنى الصفي المختارة، لأن صاحب اللقاح والغنم، يصطفي
لنفسه غزار اللبن منها أي يختارها. فإذا منح جاره وابن عمه ما يصطفيه
ويختاره، فنعمت المنحة هي، كما جاء في الحديث قَال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:
267] الآية والله أعلم وبه التوفيق.
(17/199)
[حكاية عن عمر
بن عبد العزيز]
قال مالك: لما قدم على عمر بن عبد العزيز ابن زرارة قال: يا أمير المؤمنين:
جئتك من عند قوم أحوج الناس إلى معروفك وصلتك، قال: أجل يا ابن زرارة إلا
من كان من أهل قسطنطينة.
قال محمد بن رشد: يريد والله أعلم بقوله: إلا من كان من أهل قسطنطينة إلا
من كان من أسرى المسلمين بقسطنطينة فإنهم لا يحتاجون من صلتي ومعروفي إلى
أكثر مما أصلهم وإنما هذه من أمرهم. فقد ذكر بعض المؤرخين أنه كتب إلى
الأسرى بقسطنطينة لَسْتُم أسرى ولكنكم حُبسَاء في سبيل الله ولست أقْسِمُ
شيئاً إلا خصصت أهلكم بمثله. وقد بعثت إلى كل شخص منكم خمسة دنانير، وبعثت
أن يُفادَى كبيركم وصغيركم فأبشروا وبالله التوفيق.
[التلبية في الحج في القفول]
في النهي عن التلبية في الحج
في القفول قال مالك: كان رجل من أهل العراق يُحرم بالحج إذا قفل فلقيه مولى
لابن عباس، أراه عكرمة، وكان مفوهاً. فقال له: لم فعلت هذا؟ إني أظنك رجلِ
سوء يقول الله في كتابه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ
رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وأنت تلبي راجعا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن المدعوّ إنما يجيب الدعاء حتى يصل إليه
ولا وجه لِإجابته في انصرافه عنه. وذلك ازدراءٌ من فعله، ولذلك قال عكرمة
لمن رآه يلبي في رجوعه من الحج، أراك رجل سوء لأن
(17/200)
إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إنما دعا الناس إلى الحج كما أمره عز وجل حيث يقول: {وَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] من عرفة فإليها
تنهي غاية الملبي. وأجاز مالك لمن أبقَ غلامه، أو ذهب بعض متاعه في ذهابه
إلى الحج، فرجع في طلبه أن يلبي في رجوعه في طلبه، لأنه في حكم الذاهب، وقد
مضى في هذا الرسم من هذا السماع في كتاب الحج. وبالله التوفيق.
[التحذير من الأهواء]
في التحذير من الأهواء
قال مالك: كان هاهنا رجل يقول: ما بقي من دين إلا وقد دخلت فيه يعني
الأهواء فلم أر شيئاً مستقيماً، يعني بذلك فرق الِإسلام، فقال له الرجل:
أنا أخبرك ما شأنك لم تعرف المستقيم، إِنك رجل لا تتقي الله. يقول الله في
كتابه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] .
قال محمد بن رشد: أهل الأهواء على ثلاثة أقسام: قسم يكفرون بإجماع وهم
الذين اعتقادهم كفر صريح، كالذين يقولون: إِن جبريل أخطأ بالوحي، وإنما كان
النبي علي بن أبي طالب. وقسم لا يكفرون بإجماع وهم الذين لا يؤول قولهم إلى
الكفر إلا بالتركيب، وهو أن يقال: إذا قال كذا وكذا، فلزمه عليه كذا أو كذا
وإذا قال كذا وكذا لزمه عليه كذا وكذا، حتى يؤول بذلك إلى الكفر. وقسم
يختلف في تكفيرهم وهم الذين يعتقدون مذهباً يسد عليهم طريق المعرفة بالله
تعالى، كنحو ما يعتقده القدَرية والمعتزلة والخوارج، والروافض. فروي عن
مالك أنهم يكفرون بمآل قولهم. قاله في أول سماع ابن القاسم من كتاب
المحاربين والمرتدين، فيستتابون على هذا القول كالمُرْتَدِّ وقيل: إنهم لا
(17/201)
يكفرون بمآل قولهم لقول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - في المثل الذي ضربه فيهم. وتتمارَا في الفرق، لأنه يدل عن
الشك في خروجهم عن الِإيمان، وإذا شك في خروجهم عن الِإيمان وجب ألا يحكم
بكفرهم إِلا بيقين فيضربون على هذا القول، كما فعل عمر بن الخطاب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - بصبيغ ولا يقتلون. وبالله التوفيق.
[ما كان عليه الناس من ضيق العيش في أول الأمة]
فيما كان عليه الناس من ضيق
العيش في أول الأمة قال مالك: كان الناس في أول هذه الأمة، ليس لهم غداءٌ
ولا عشاء، إن وجد شيئاً أكل وإلا ترك. يعني في أوَّل الساعة.
قال محمد بن رشد: الغداء والعشاء نهاية الترفه في الدنيا ولذلك قال عز وجل
في أهل الجنة: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:
62] أي إِن الذي بين غدائهم، وعشائهم في الجنة قدر ما بين غداءِ أحدنا
وعشائه في الدنيا لأنه لا ليل في الجنة ولا نهار. وهذا مثل قوله عز وجل:
{خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] و {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] يعني من أيام الدنيا
وبالله التوفيق.
[حسن الصوت بالقرآن]
في حسن الصوت بالقرآن وسئل مالك عن
النفر يكونون في المسجد، فيحف أهل المسجد، فيقولون لرجل حَسَن الصَّوت
اقرأْ علينا. يريدون حسن صوته، فكره ذلك وقال: إِنما هذا يشبه الغناء، فقيل
أفرأيت
(17/202)
الذي قال عمر لأبي موسى؟ ذَكِّرْنَا
رَبَّنَا فقال: إِن من الأحاديث أحاديث قد سمعتها وأنَا أتقيها، ووالله ما
سمعت هذا قط قبل هذا المجلس، وكره القراءة بالألحان. وقال هذا عندي يشبه
الغناء، ولا أحِبُّ أن يعمل بذلك. وقال: إِنما اتخذوها يأكلون بها، ويكسبون
عليها. قال: وسئل مالك عن النفر يتحلقون في السورة الواحدة، فكره ذلك،
وقال: لا يعجبني هذا من العمل. قال ابن القاسم فهو رأيي.
قال محمد بن رشد: إنما كره مالك للقوم أن يقولوا للحسن الصوت: اقرأ علينا،
إذا أرادوا بذلك حسن صوته كما قال، لا إذا قالوا ذلك له استدعاءً لرقة
قلوبهم بسماع قراءته الحسنة. فقد روي أن رسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا أذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أذِنَ لِنَبيٍّ
يَتَغنَّى بالقرآن» أي ما استمع لشيء يحسن صوته بالقرآن طلباً لرقة قلبه
بذلك.
وقد كان عمر بن الخطاب إِذَا رَأى أبا موسى الأشعري قال: ذَكّرْنَا
رَبَّنَا فَيَقْرَأ عِنْدَهُ. وكان حسن الصوت، فلم يكن عمر ليقصد الالتذاذ
بحسن صوته، وإنما استدعى رقة قلبه بسماع قراءته للقرآن، وهذا لا بأس به،
إذا صح من فاعله على هذا الوجه. وقول مالك: إن من الأحاديث أحاديث قد
سمعتها وأنا أتقنها، إنما اتقى أن يكون التَّحدثُ بما روي عن عمر بن الخطاب
من هذا ذريعةً لاستجازة قراءة القرآن بالألحان ابتغاء سماع الأصوات الحسان،
والالتذاذ بذلك، حتى يقصد أن يقدم الرجل للِإمامة لحسن صوته، لا لما سوى
ذلك، مما يجب أن يرغِّب في إِمامته لأجله، فقد روي عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أنه قال: «بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتّاً» . فذكرها أحدها:
«نشْوا يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمون أحَدَهُم
لِيُغَنِّيَهُم، وَإِنْ كَانَ
(17/203)
أقَلَّهُم فِقْهاً» . فالتحذيرُ إنما وقع
في الحديث لِإيثارهم تقديم حَسَنِ الصوت على الكثير الفقه، فلو كان رجلان
مستويَيْن في الفضل والفقه، وأَحدهما أحسن صوتا بالقراءة، لَما كان مكروهاً
أن يقدم الأحسن صوتاً بالقراءة، لأنها مزية زائدة محمودة، خصه الله بها.
وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي موسى
الأشعري تغْبيطاً له بما وهبه الله من حسن الصوت، «لَقَدْ أوتِيتَ
مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيرِ آل دَاوودَ» .
وأما ما روي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ مِنَّا مَن
لَمْ يَتَغَنَّ بالْقُرْآنِ» . فقيل معناه: من لم يستغن بالقرآن أي من لم
ير أنه به أَفضل حالاً من الغناء بغناه. وقيل: معناه من لم يحسن صوته
بالقرآن استدعاء لرقة قلبه بذلك. وقد قيل لابن أَبي مليكة: أحَدِ رُواة
الحديث: فمن لم يكن له حلق حسن. قال: يحسنه ما استطاع والتأويل الأول أولى،
لأن قوله في الحديث. «لَيْس منَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» يدل
على أنه من لم يفعل ذلك فهو مذموم، وليس من ابتغى ثواب الله من غير أن يحسن
به صوته مذموماً على فعله.
وقد مضى هذا في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة لتكرر المسألة
هناك. وإِنما كره مالك لقوم يتحلقون في السورة الواحدة، لأنه أَمر مبتدع،
ليس من فعل السلف، ولأنهم يبتغون من الألحان وتحسين الأصوات بموافقة بعضهم
بعضاً، وزيادة بعضهم في صوت
(17/204)
بعض، على نحو ما يفعل في الغناء فوجه
المكروه في ذلك بيِّن. وقد مضى هذا في رسم من سماع ابن القاسم من كتاب
الصلاة. وبالله التوفيق.
[نهي عمر للمهاجرين أن يتخذ مالا خلف الروحا]
في نهي عمر للمهاجرين أن يتخذ مالا خلف الروحا
قال مالك: قال عمر بن الخطاب: لَا يَتَّخِذْ أحدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
مَالًا خَلْفَ الرَّوْحَا، فَإِنَّ قَلْبَ الرَّجُل مُعَلَّقٌ بِمَالِهِ.
قال محمد بن رشد: إِنما قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا لأنه استحب
للمهاجرين المقام بالمدينة التي هاجروا إليها فالمهاجر لا يجوز له المقام
بمكة لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُقِيمًنّ مُهَاجِرٌ
بِمَكَةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ فَوْقَ ثَلَاثٍ» . ويستحب له المقام
بالمدينة وترك الخروج منها إلى غيرها على ما يدل عليه قول عمر في هذا
الحديث. وبالله التوفيق.
[وقت فتح خيبروالخندق والفتح]
في وقت فتح خيبر والخندق والفتح قال مالك فتحت خيبر على رأس ستِّ سنين،
والخندق على أربع، والفتح على ثمان.
قال محمد بن رشد: قوله في خيبر إنها فتحت على رأس ستِّ سنين صحيح. كذا قال
أهل السير. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما
انصرف من الحُديبية إلى المدينة، مكث بها ذا الحجة، وبعض المحرم، ثم خرج في
البقية منه غازياً إلى خيبر، ولم يبق من السنة السادسة من الهجرة، إلا شهر
وأيام، وكان الله عز وجل قد وعده إياها وهو بالحُديبية. فأنزل عليه:
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18] الآية. فلم يختلف
أهل العلم أنها
(17/205)
البيعة بالحُديبية وكانت الشجرة سمرة
بالحديبية. وأما قوله في الخندق: إِنه كان على أربع، فهو خلاف ما قاله أهل
السير من أنه كان في شوال من السنة الخامسة. وكان سببه أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أجلَى بني النضير خرج نفر من
سادات اليهود منهم حُيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، حتى قدموا مكة،
فدعوا قريشاً إلِى حرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فأجابهم أهل مكة إِلى ذلك، ثم خرجوا إلى غطفان، فدعوهم فأجابوهم، فخرجت
قريش يَجرهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان يقودهم عُيينة بن حصين الفزاري،
فأقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان
بمن معها من أهل نجد، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم
وخروجهم إليه، شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق، فرضي رأيه، وعمل
المسلمون في الخندق، ونكص المنافقونَ وجعلوا يتسللون لِوَاذاً فنزلت فيه
آيات من القرآن وكان من فرغ من المسلمين من حصته، عاد إلى غيره فأعانه حتى
كمل الخندق، وكانت فيه آيات بينات، وعلامات للنبوءة مذكورات.
وأما قوله في الفتح: إِنه كان على ثمان، فهو صحيح، لأن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَما انصرف من عمرة القضاء سنة سبع، أقام
بالمدينة ذا الحجة والمحرم، وصفر، وشهري ربيع، ثم بعث - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - في جمادى الآخرة من السنة الثامنة الأمراء إلى الشام، وأمَّر
على الجيش زيد بن حارثة مولاه.
وقال: إِن أصيب فعلى الناس جعفر بن أبي طالب، وشيعهم وودعهم، ثم انصرف
ونهض، وكان من أمرهم ما هو مذكور في السيَر. ثم أقام رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة بعد بعث موتة، جمادى ورجب، ثم حدث
الأمر الذي أوجب نقض عقد قريش المعقود يوم الحديبية، تركتً ذكره احتصاراً.
وخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عشرة آلاف،
واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وكان خروجه لعشر
خلون من رمضان من سنة ثمان كما قال مالك في الرواية. وبالله تعالى التوفيق.
(17/206)
[لباس الحرير في الجهاد]
في لباس الحرير في الجهاد
قال مالك: وسئل عن رجال بالإسكندرية يتهيئون يوم العيد بالسلاح، ويلبسون
عليها ثياباً من حرير، ليتهيَّبوا بها العدو. قال مالك: ما يعجبني لبس
الحرير، ولم ير ابن القاسم بأساً أن يتخذ منها راية في أرض العدو.
قال محمد بن رشد: أما اتخاذ الراية من الحرير فلا اختلاف في جواز ذلك، وأما
لباسه عند القتال، فقد أجازه جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول ابن
الماجشون وروايته عن مالك لِما في ذلك من المباهاة بالِإسلام، والِإرهاب
على العدو، ولما يقي عند القتال من النبل وغيره من السلاح، وهو قول محمد بن
عبد الحكم. وحكاه ابن سفيان عن مالك من رواية عيسى عن ابن القاسم عنه، فإن
استشهد وهو عليه، نزع عنه على مذهب من لا يجيز له لباسه في الجهاد.
وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الجهاد لتكرر المسألة
هناك.
[شراء اللحم يأخذ منه كل يوم رطلاً أو رطلين والثمن إلى العطاء]
في شراء اللحم يأخذ منه كل يوم رطلاً أو رطلين والثمن إلى العطاء وحدثنا
مالك عن عبد الرحمن بن المحبر عن سالم بن عبد الله، قال: كنا نبتاعٍ اللحم
من الجزارين بسعر معلوم، نأخذ بكل يوم رطلين أَو ثَلاثةً نشترط عليهم أَن
ندفع الثمن إلى العطاء قال: وَأنا أرى ذلك حَسَناً. قال مالك: وما أرى به
بأساَ. وذلك إذا كان الطعام معروفاً، وإن كان الثمن إلى أجل فلا أرى به
بأساً.
قال محمد بن رشد: قوله: كنا نبتاع اللحم من الجزارين بسعر
(17/207)
معلوم، نأكل كل يوم رطلين أو ثلاثة، نشترط
عليهمِ أن ندفع الثمن إلى العطاء. يدل على أن ذلك كان معلوماً عندهم
مشهوراَ من فعلهم، لاشتهار ذلك من فعلهم، سميت بيعة أهل المدينة، وهذا
أجازه مالك وأصحابه، اتباعاً لما جرى عليه العمل بالمدينة بشرطين: أحدهما
أن يشرع في أخذ ما سُلم فيه، والثاني أن يكون ذلك أصل المسلم إليه على ما
قاله غير ابن القاسم في سماع سحنون، من كتاب السلم والآجال، فليس ذلك بسلم
محض، ولذلك جاز تأخير رأْس المال فيه، ولا شراء شيء بعينه حقيقة، ولذلك جاز
أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله.
وقد روي عن مالك أنه لم يجز ذلك، ورآه ديناً بدين. وقَال: تأويل حديث ابن
المحبر أن يجب عليه ثمن ما يأخذ كل يوم إلى العطاء، وهو تأويل سائغ في
الحديث، لأنه إِنَّما سمى فيه السوم ولم يأخذه في كل يوم، ولم يذكر عدد
الأرطال التي اشترى منه، فلم ينعقد بينهما في ذلك بيع على عدد مسمّى، من
الأرطال، فكلما أخذ منه شيئاً وجب عليه ثمنه إلى العطاء ولا يلزم واحداً
منهما التمادي على ذلك، إذا لم يعقد بيعهما على ثمن معلوم مسمى من الأرطال،
وإجارة ذلك مع تسمية عدد الأرطال التي يأخذ منها في كل يوم رطلين أو ثلاثة،
على الشرطين المذكورين هو المشهور في المذهب. وقوله في هذه الرواية: وَأَنا
أرى ذلك حسناً، معناه: وأنا أجيز ذلك استحساناً اتباعاً لعمل أهل المدينة.
وإن كان القياس بخلافه. وبالله التوفيق.
[حكاية عن سعيد بن المسيب]
قال مالك: بعث رجلٌ إلى سعيد بن المسيب بخمسة آلاف درهم، وكان أموياً،
فجاءه الرسول وهو يحاسب غلاماً له في نصف درهم، يذكر أنه له قِبَله، فعرض
عليه الخمسة الآلاف فأبى أن يقبلها، فعجب الرسول منه فقال: أنا أعطيك خمسة
آلاف وأَنت تحاسب في نصف الدرهم، قال: النصف درهم هو أحب إلي من هذه الخمسة
الآلاف.
(17/208)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، إن النصف درهم أحب إليه من هذه الخمسة الآلاف. لأن
الأمير الذي أعطاه الخمسة الآلاف لم يكن الخليفة أو أميراً مفوضا إليه
قسمةُ مال الله بين الناس وإِجازةُ من يستحق الجائزة منهم، فلا يجوز له
الأخذ منه، وإِن كان للخليفة أو من فوض إليه الخليفة أمر مال الله،
فتَرْكُه خير من أخذه، وإن كان المجبى حلالاً وعدل في قسمه بين الناس، لأنه
إذا تركه، ليعطى لمن هو أحوج إليه منه فقد أجر في ذلك، مع قول النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِحكيم بن حزام: «إِن خَيْراً لِأحَدِكُمْ أن لَا
يَأخُذَ مِن أحَدِ شَيْئاً، قَالَ: وَلَا مِنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ:
وَلَا مِنَي» وتركه لمحاسبة غلامه بما له عنده، من إضاعة المال المنهي عنه.
[علم الحرير في الثوب]
في علم الحرير في الثوب وسُئل مالك عن
الملاحف يكون فيها العلم من الحرير قدر الأصبع والأصبعين والثلاثة، فكره
ذلك، وقال: لا أحب لباسها.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في آخر رسم حلف قبل هذا فلا معنى
لإِعادته.
[ما يلزم المستشار من النصح]
فيما يلزم المستشار من النصح قال عيسى:
وأَخبرني ابن القاسم عن يحيى بن زكريا، «أَن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له رجل أَشِرْ عَلي. قال ابن القاسم لا أَعلمه
إِلا قال لي فحَسَرَ رسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عَنْ ذِرَاعَيْهِ وَقَال: "الْمُسْتَشارُ أَمينٌ» .
(17/209)
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث أن على
المستشار للمستشير أَن يعمل نظره فيما يراه من الرأي، ولا يشير عليه إلاَّ
بعد أن يَتثَبَّتَ في ذلك، ويجهد النظر فيه، فإنًه قد ائْتَمَنَه في ذلك،
ورجا حسن نظره له، وأَداءُ الأمانة من الإيمان والنصيحةُ من الدِّين. قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ
قِيلَ: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَلِأئمَّةِ
المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِم» . وبالله التوفيق.
[صلاة الرجل في داره بصلاة الِإمام]
في صلاة الرجل في داره بصلاة الِإمام
قال: وسُئل مالك عن الدار تكون قريباً من المسجد يصلون بصلاة الناس في
المسجد قال: نعم إلَّا الجمعة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها، ولا أَعرف في ذلك اختلافاً
في مذهبنا. وبالله التوفيق.
[ترك الصلاة بين الظهر والعصر]
في ترك الصلاة بين الظهر والعصر وذكر
مالك الصلاة بين الظهر والعصر فقال: كان عمر بن الخطاب إذا صلَّى الظهر
يقعُد للناس يحدّثهم بما يأتيه من أَخبار الأجناد ويحدثونه عن أَحاديث
النبيّ عليه السلام، وقوم إذا رأوا الناس يتحدثون يقولون لهم: اذكروا الله
ولم يكن ذلك شأن الأخيار وكانوا يتحدثون.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن ما بين الظهر والعصر
(17/210)
ليس من الأوقات المرغب فيها للصلاة
كالْهواجِرِ وآخر الليل بدليل ما ذكره عن عمر بن الخطاب، فلا يعاب على أَحد
ترك الصلاة فيما بين الظهر والعصر والحديث فيه إذ كان الأخيار يفعلونه. وقد
اختار مالك في رسم صلَّى نهاراً ثلاث ركعات من كتاب الصلاة على القعود
لمذاكرة العلم في الأوقات التي تستحب فيها الصلاة، ولم ير ما بين الظهر
والعصر من تلك الأوقات، بدليل قول سعيد بن المسيب، وقد قيل له: إن قوماً
يصلون ما بين الظهر والعصر: ليست هذه عبادة، إنَّما الورع عمَّا حرم الله
والتفكر فيما أمر الله به، يريد أنها ليست عبادة إنما العبادة الورع عمَّا
حرم الله والتفكير في أمر الله يريد: أنها ليست عبادة من العبادات المرغب
فيها لا أنها ليست عبادة أصلاً، وبالله تعالى التوفيق.
[تواضع عمر بن الخطاب وإشفاقه على المسلمين]
حكاية في تواضع عمر بن الخطاب وإشفاقه على
المسلمين قال مالك لما خرج عمر بن الخطاب إلى الشام لقيه راهب فجعل
يتعجب ويقول: ما رأيت ملكاً في رهبانيته قبل اليوم. قال مالك: كانت
الرِّمادة في زمن عمر بن الخطاب سنين ليست واحدة، وأول ما أُغيثوا في
الخريف. قال: وقال مالك عن عمر في السمن الذي اشترته له عاتكة، لا أطعمه
حتى يجيء الناس من أَول ما يحيون، قال يريد: حتى يُغاث الناس.
قال محمد بن رشد: الذي رأى الراهب من حال عمر التي تعجب منها هو ما وقع في
سماع أَشهب من كتاب الدعوى والصلح من أنه لما خرج إلى الشام فتلقاه عجمها
ركب خلف أَسلم وقلب فروهُ، فجعلوا كلما لقوا أَسلم، قالوا: أَين أمير
المؤمنين؟ فيقول: أَمامكم أَمامكم، حتى أكثر، فقال له عمر كثرت عليهم،
أخبرهم الآن، فسألوه فقال: هو هذا. فوقفوا كالمتعجبين من حاله، فقال عمر:
لا تَروْنَ عَليَّ كَسْوة قوم غَضِبَ اللِّهُ عَلَيْهِم، فنحن تزدري بنا
أعينهم، ثم لم يَزل قابضاً بين عينيه،
(17/211)
حتى لقيه أبو عبيدة بن الجرَّاح فقال: أَنت
أخي حقاً لم تغيِّرك الدنيا. ولقيَه عَلَى بعِيرٍ خطامه حبل شَعَر أَسود.
قال مالك: وتلقى عمر يومئذٍ ببِرْذَون تخاربي فركبه ثم نزل عنه وسبَّه،
فقيل له: ما له؟ قال: حملتموني على شيطان حتى، أنكرت نفسي. وقوله في
الرمادة: إنها كانت سنين، مثله في المدونة وبالله التوفيق.
[قصة ثابت بن قيس مع ضيفه]
في قصة ثابت بن قيس مع ضيفه
قال: وسمعت مالكاً يحدّث «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
قَالَ لِثَابِتِ بْن قَيْس بن شَمَّاس: انقَّلِبْ بِهَذَا الرِّجُلَ
فَأَضفْهُ اللَّيْلَةَ فَانْقَلَبَ بِهِ ثَابِت فَقَالَ لَأهْلهَ: إِذا
وَضَعْتُمُ الطَّعَامَ فَضَعوا أَيْدِيَكُم وَارْفَعُوهَا وَلَا تَمَسّوا
فيه شَيْئَاَ، وَقَالَ: أَطْفِئُوا الْمِصْبَاحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ
أَقْبَلَ إِلَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فقَالَ: يا ثَابِتُ مَا
فَعَلْتَ بِضَيْفِكَ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسولهُ أَعْلَمُ. قَالَ: إِنَّ
اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيَضْحَكُ لِفِعْلِكَ بِضَيْفِكَ» .
قال محمد بن رشد: لم يسم البخاري الرجل المنقلب بالضيف إلى منزله في هذا
الحديث، ذكر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ:
مَا مَعَنَا إِلاَّ الْمَاءُ. فَقَالَ رَسُولُ الله صًلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم: مَن يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟ قَالَ رَجَلُ مِنَ الأنْصارِ:
أَنَا فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أكْرِمِي ضَيْفَ رَسُول
اللَّهِ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَاّ قُوتُ الصِّبْيَانِ فَقَالَ
هَيِّئي طَعَامَكِ وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا
أَرَادوا عَشَاءً فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا،
وَنوَّمَتْ صِبْيَانَهَا ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا
فَأَطْفَأَتْهُ فَجَعَلاَ يُريَانِهِ أَنَّهُمَا يأكلاَنِ فَبَاتَا
طَاوِيين فَلما أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُول اللًهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
(17/212)
فَقَالَ: ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ أَوْ
عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] » وروي عن أبي هريرة أنه قال:
«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِيُضِيفَهُ فَلَْم يَكُن عِنْدَهُ مَا يُضِيفهْ، فَقَالَ: أَلَا رَجُلٌ
يُضِيفُ هَذَا - رَحِمَهُ اللَّهُ -؟ فَقَالَ رَجُل مِنَ الأنْصَارِ
يُقَالُ لَهُ: أَبُو طَلْحَةَ، فانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ فَقَالَ
لْامْرَأَتِهِ» . وساق الحديث بمعنى حديث البُخاري. فيحملُ أن يكون ثابت بن
قيس بن شماس يُكنَى أبا طلحة، ويحتمل أن يكون رجلاً آخر فعل مثل ما فعل
ثابت بن قيس في وقت آخر. ومعنى ضَحِكَ اللَّهً مِن فَعَالِكُمَا
اللَّيْلَةَ أي أَبدى رضاه عن ذلك، وعظيم كرامته لهما على ذلك وأَظهر بمنه
عليهما جزيل ثوابه على فعليهما، لأن معنى الضحك في لسان العرب راجع إلى
ظهور ما كان مستتراً. يقال: ضحكت الأرض إذا ظهر فيها النبات، وضحك الطريق
إذا ظهر وتبين فيحمل من الله عزَّ وجلّ على ما ذكرناه مما يليق به، ولا
يستحيل في صفته. وقوله في حديث البخاري: أَوْ عَجِبَ شك من المحدث في أَي
اللفظين قاله النبيّ عليه السلام، ومعناهما متقارب، لأن معنى عجب الله من
فعل الرجل أي رضي عنه وعظم عنده من أَجله قدرُه، لأن المتعجب منا، معظم لما
تعجب منه، راضٍ به، وذلك جائز في صفة الله تعالى، وذلك لا يكون منا إِلّاَ
مِن أمر يطرأُ علينا علمُه، وذلك مستحيل في حقه تعالى، لتقدم علمه بما كان
ويكون، فيحمل التعجب إذا أُضيف لله تعالى على ما يليق به ويجوز في حقه، دون
ما يستحيل عليه ولا يجوز. ومعنى قوله: باتا طاوييْن أَي ضامري البطن من
الْخَوَا يقال طويَ بطنُه يطوى فإذا تعمد ذلك، قيل:
(17/213)
طوى بَطنَه يَطويه. والطيان الجائع. قاله
الكسائي. وبالله التوفيق.
[حكاية عن عُيينة بن بدر]
قال مالك: قدم عُيينةُ بن بدر المدينة فنزل على ابن أَخ كان أَعمى، فبات
ابن أَخيه يصلي، فلما أَصبح غدا إلى المسجد، فقال: ما رأيت قوماً أَوجهَ
للناس لما وجهوهم له من هذا الحي من قريش، كان ابن أخي عندي أربعين سنة لا
يطيعني، وإنهم قد وجهوه لأمر فأطاعهم، ما زالَ الليلة يصلي. قال: فدخل عمر
بن الخطاب فقال: والله ما تعطينا الجزيل، وما تقضي بيننا بالحق، قال: فقعد
عمر فاستوى. قال: فقام ابن أخيه فقعد بينه وبين عمر، ثم قال: يا أمير
المؤمنين: إن الله يقول في كتابه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، فقال
عمر: أَخْرِجُوهُ عَني.
قال محمد بن رشد: عيينة بن بدر هذا هو عيينة بن حصن بن بدر يكنى أَبا مالك،
أَسلم بَعد الفتح. وقيل قبل الفتح، وشهد الفتح مسلماً. وهو من المؤلفة
قلوبهم. وكان من الأعراب الجُفاة وقد مضى حديثه قبل هذا الرسم في دخوله على
النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بغير إذن، وما قاله بحضرة عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - ممَّا أغضبها. وابن أَخيه هو الحر بن قيس بن حصن، الذي
تمارى مع ابن عباس في صاحب موسى الذي سألَ لقاءه على ما ذكر من شأنهما في
القرآن، فعربهما أُبي بن كعب، فحدَّثهما بقصة موسى والخضر، على ما وقع من
ذلك في كتاب العلم من كتاب البخاري وبالله التوفيق.
(17/214)
[التمسك بما سنَّهُ رسول الله صلى الله
عليه وسلم وولاة الأمر من بعده]
ومن كتاب أوله سَن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
التمسك بما سنَّهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وولاة
الأمر من بعده
قال مالك بن أَنس: إِن عمر بن عبد العزيز قال: سنَّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وولاة الأمر من بعده سنناً. الأخذ بها
اتًباعاً لكتاب الله واستكمالًا لطاعته، وقوة على دين الله، ليس لأحد
تبديلها، ولا تغييرها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها مهتد، ومن
استنصر بها منصور، ومن تركها اتَّبَعَ غَيْر َسَبِيل الْمُؤْمِنينَ،
وَوَلّاَه اللَّه مَا تَوَلَّى وصلاه جهنّم، وساءت مصيراً.
[ما جاء من إن الأعمال بالنيات]
فيما جاء من إن الأعمال بالنيات وقال
مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن علقمة بن وقاص
أنه سمع عمر بن الخطاب على المنبر يقول: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات وإِنَّما لكل امرئ ما نَوَى
فمن كانت هجرتُه إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجُها فهجرتُه إلى ما هَاجَر
إليه» .
قال محمد بن رشد: لفظة إنما في قوله إنّما الأعمال بالنيات هي من ألفاظ
الحصر ولا ترِدُ أبداً إلا على سببه، فهي تنفي الحكم عن السبب وتوجبه
للمذكور وتدل على نفيه عما سواه. وقد قيل إنها لا تدل على ذلك، فقول النبي-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الأعمال بالنيات» معناه إنما
العبادات التي ينتفع بها عند الله ما أخلصت النية فيه للَّه، والسبب الذي
ورد عليه هذا الحديث ما روي أن رجلاً هاجر يريد نكاح امرأة، فنفى رسول
اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديث أن يكون له في هجرته
ثواب،
(17/215)
وأوجب الثواب في الأعمال التي يراد بها
وجهُ الله، يريد العبادات منها، لأن لفظ الأعمال هاهنا عموم يراد به
الخصوص، فدل على أنه لا ثواب فيما لم يرد به وجه اللَّه من الأعمال. ومن
الناس من قال: لا دليل في الحديث على ذلك وإنما هو معلوم بالإجماع. وهذا
الذي قلته من أن معنى الحديث إيجاب الانتفاع بالعمل إذا قارنته النية، ونفي
الانتفاع به إذا لم تقارنه النية معقول منه تجري مجرى النص في العلم به، إذ
لا يصح أن يحمل على ظاهره في الإعلام بوجود الأعمال بالنيات وعدمها بعدم
النيات.
وقد ادعى بعض أصحاب أبي حنيفة فيه الإِجمال بحق ظاهره، وذلك بعيد، لاستحالة
حمله عليه. وهذا فيما كان من العبادات يصح أن يفعل للًه ولغير الله، أما ما
كان من العبادات لا يصح أن يفعل للَّه، وذلك كالنظر والاستدلال عند من يراه
أول الواجبات ولا يصح أن يفعل إِلَا للَه وذلك النية، إذ لو افتقرت النية
إلى نية في لتسلسلت النيات إلى ما لا نهاية له، وذلك مستحيل، والكلام في
هذا المعنى وما يتعلق به يطول فأومأنا منه إلى هذا القدر من البيان وباللَه
التوفيق.
[قتل المشرك في الحرب بعد أن قال لا إله إلا اللَّه]
في قتل المشرك في الحرب بعد أن قال لا إله إلا اللَّه قال: وسمعت مالكاً
قال: بلغني «أن رجلًا من المسلمين في بعض مغازي النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل على رجل من المشركين، فلما علاه بالسيف قال
المشرك: لا إله إِلَّا اللَّه. فقال الرجل: إنما تتعوذ بها من القتل فقتله،
فأتى إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره، فقال
رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف لك بلا إله إلا
اللَّه. فقال: يا رسول اللَّه إنما كان يتعوذ بها من القتل، فما زال يعيدها
على النبي والنبي يعيد عليه: فكيف لك بلا إله إلا اللَّه. فقال الرجل: وددت
أني أسلمت في ذلك اليوم، وأنه بطل ما كان من عملي قبل ذلك، وأني استأنفت من
ذلك اليوم» .
(17/216)
قال محمد بن رشد: الرجل المذكور في الحديث
هو أسامة بن زيد، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بعثه في جيش إلى الحراقات من جهينة، فكان من أمره مع المشرك ما ذكره في
الحديث، فعنّفه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قتله
بعد أن قال: لا إله إلا الله، وعذره باجتهاده فلم تنحط بذلك مرتبته عنده
لأنه اجتهد فأخطأ، فكان له في ذلك أجر، على ما روي عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أن «القاضي إذا اجتهد فأصاب فله أجران،
وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» .
وإنما عنفه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه ترك
الاحتياط، إذ كان الاحتياط ترك قتله وإن كان أداه اجتهاده إلى إجازة قتله،
فلم يكن كمن قتل مسلماً عمداً فيأثم في قتله، ولا كمن قتله خطأ فيكون عليه
في قتله ما على قاتل الخطأ من الكفارة والدية على العاقلة.
ويحتمل أن يكون تأول في الاجتهاد قول اللَّه عز وجل: {فَلَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا} [غافر: 84] الآية إلى قوله: {فِي عِبَادِهِ}
[غافر: 85] أي الذين تقدموا ذلك الزمان كفرعون في قوله لما أدركه الغرق:
{قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] . فأجيب عن ذلك بأن
قيل له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}
[يونس: 91] . فأعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن مجيء
البأس من اللَّه بخلاف مجيئة من الناس.
وقد روي «عن خالد بن الوليد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بعثه إلى ناس من خثعم فاستعصموا بالسجود فقتلهم، فودّاهم النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنصف الدية ثم قال: أنا بريء من كل مسلم مع
مشرك لا تراءى نارهما» (كذا) . وإنما وداهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما ودّاهم به تطوعاً منه وتفضلًا عليهم واستئلافاً
لمن سواهم، إذا لم يكن قتلهم من الخطأ الذي تكون فيه الدية والكفارة، وإنما
كان باجتهاد من خالد بن الوليد في قتلهم كما فعل في بني
(17/217)
جذيمة، إذ دعاهم إلى الإِسلام فلم يحسنوا
أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا، وجعل يقتل ويأسر فيهم، فقال
رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذ بلغه ذلك: «اللهم
إني أبرأ إليك مما فعله خالد» . فعنفه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إذ لم يتثبت حتى يقف عن إرادتهم بقولهم: صبأنا صبأنا. وفعل خالد في هؤلاء
كفعل أسامة في قتيله بعد أن قال: لا إله إِلَّا اللَّه، فلم يكن عليه حرج
فيما فعل إن شاء اللَّه بل كان ما جوا في اجتهاده والمعنى فيما روي عن
عِمراَن بن حُصين قال: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
فِي سَرِيَّةٍ فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ أبِي عَلَى رَجُلٍ مِنَ
المُشْرِكِينَ، فَلَمَّا غَشيَهُ بِالرُّمْح قَال: إِنِّي مُسْلِم
فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أتَى النَّبِيِّ فَقالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي
قَدْ أذْنَبْتُ فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنِّي
حَمَلْتُ عَلَى رَجُلٍ، فلَمَّا غَشِيَهُ بِالرُّمْح قَالَ: إِنِّي
مُسْلِمٌ فَظَنَنْت أَنَّهُ مُتَعَوِّذ، فَقَتَلْتُهُ، فَقَالَ: أَفَلَا
شَقَقتَ عَنْ قَلْبه حَتَّى يَستَبينِ لَكَ؟ قَالَ: وَيَسْتَبِينَ لي؟
قَالَ: قَدْ قَالَ لَكَ بِلِسَانِهِ فَلَمْ تصَدِّقْهُ عَلَى ما فِي قَلبه،
فلَمْ يَلْبَثِ الرَّجُلُ أَنْ مَاتَ فَدُفِنَ فَأصْبَحَ عَلَى وَجْهِ
الأرْض فقلنا عَدُوٌّ نَبشه، فأمَرْنَا عبيدنا وَمَوالينا فحرسُوهُ،
فأصْبَح عَلَى وَجْهِ الأرض، فقلنا فَلَعَلَهُم غَفلُوا، فحَرَسْنَا
فَأَصْبحَ على وَجه الأرض، فأَتَيْنَا النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الأرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ
وَلَكِن أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يخْبِرَكم بِعِظَم الدَم، ثَمّ
قَالَ: انتَهُوا بِهِ إلَى سَفْح هَذا الْجَبَل، فَأَنْضِدُوا عَلَيْهِ مِن
الْحِجَارَةِ فَفَعَلْنَا» انتهى الحديث، إنَّه إنما قتله بعد أن علم أن
قتله لا يجوز بقيام الحجة عنده على ذلك. والدليل على ذلك من الحديث قوله
فيه للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إِنِّي قَدْ أَصَبْتُ ذَنْباً
فاسْتَغْفِرْ لِي والله أعلم.
[كراهية تفسير القرآن بما يظهر من المعنى]
في كراهية تفسير القرآن بما يظهر من المعنى
فيه قال مالك: أَخبرني يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب
(17/218)
أنه سُئل عن آية في كتاب الله، قال سعيد:
لا أَقول في القرآن شيئاً. قال ابن القاسم: قال مالك: وبلغني عن القاسم بن
محمد نحو ذلك قال مالك: وبلغني أَنَّ أَبا بكر قال: أَيُّ سماء تُظلني؟
وَأَيُّ أَرضٍ تُقِلُّني إن أَنا قلت على الله ما لا أَعلم.
قال محمد بن رشد: هذا من قول الأئمة من السلف الصالح حجة لقول من ذهب إلى
أَن المتشابه من القرآن لا يعلم تأويله إلَّا الله، وأَن ذلك ممَّا استأثر
الله بعلمه، فلا يعلم تأويله سواه، وأن الوقف في الآية يَحسُن عند قوله:
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] فَثم تمَّ
الكلام، ثم يبتدئ القارئ بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] ومن أَهل العلم من يقول: إِن الراسخين في
العلم يعلمون تأويله أيَضاَ بما نصب لهم من الأدلة على معرفته، وجعل لهم من
الطرق الموصلة إليه.
وتمام الكلام الذي يحسن فيه الوقف، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل
عمران: 7] ، ثم يبتدئ القارئ بقوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران:
7] أي وهم يقولون: آمنا به. وسيأتي الكلام على تفسير الآية في رسم البز إن
شاء الله وبالله التوفيق.
[حكم المفاوضْة والمناظرة]
في استحسان المفاوضْة والمناظرة
قال مالك كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما رأيت أحداً لَاحَى الرجال لم يأخذ
بجوامع الكلم.
قال محمد بن رشد: الملاحاة المفاوضة والمناظرة، فمن تدرب في ذلك تعلم تحسين
العبارة في الحجة، فكان له بذلك فضل بيان الصواب بتحرير العلة. ورواه أَبو
عبيدة في غريب الحديث: "عَجِبْت لِمَن لَاحَنَ الرِّجَالَ " بالنون.
واللَّحَن الفطنة بفتح الحاء ومنه حديث النبي عليه
(17/219)
السلام: «وَلَعلَّ بَعْضَكُم أَن يَكُونَ
أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ» .
[تَمْتَشِطَ الْحَادُّ بِالْحِنَّاء وَتَجْعَلَ فِي عَيْنِهَا صَبِراً]
فيما كرهت أم سلمة للحادِّ أن تفعله
قال مالك: بلغني أَنَّ أمَّ سَلَمَةَ كَرِهَتْ أن تَمْتَشِطَ الْحَادُّ
بِالْحِنَّاء وَتَجْعَلَ فِي عَيْنِهَا صَبِراً.
قال محمد بن رشد: هذا في المدونة عن أمِّ سَلَمَةَ أنَّهَا كَرِهَتْ أن
تَمْتَشِطَ الْحَادُ بِالْحِنَّاء وقالت: تَجْمَعُ رَأسَهَا بِالسِّدْرِ،
وهو مذهب مالك. قال: لا تمتشط بالحناء ولا الكتم، ولا بشيء مما يختمر في
رأسها، وإنما كرهت - أم سلمة - أن تجعل في عينها صَبِراً لما جاء من «أن
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ دَخَل عَلَيْهَا وَهِيَ حَادٌّ
عَلَى أبِي سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلَتْ عَلَى عَيْنِهَا صَبراً، فقَالَ: مَا
هَذَا يا أمَّ سَلَمَةَ؟ قَالَتْ: إِنَّمَا هُوَ صبِرٌ يَا رَسُولَ
اللَّهِ. قَالَ: أجْعَلِيهِ بِاللَّيْل وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ» . ذكر
ذلك مالك في الموطأ وباللَّه التوفيق.
[قصر الصلاة بمنى وعرفة]
في قصر الصلاة بمنى وعرفة قال مالك:
بلغني أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد اللَّه يفتيان بقصر الصلاة بمنى
وعرفة، قال مالك: وحدثني نافع، أن ابن عمر كان يصلي ركعتين بمنى وعرفة، إلا
أن يصلي مع الِإمام فيصلي بصلاته.
قال محمد بن رشد: معناه أنهما كانا يفتيان من حج من أهل مكة أو
(17/220)
كان مقيماً بها من غير أهلها بقصر الصلاة
بمنى وعرفة، كما كان يفعل ابن عمر في رواية نافع. وهو مذهب مالك لم يختلف
قوله في أنه يقصر بمنى وبعرفة وفي مواطن الحج إلا في رجوعه من منى إلى مكة
بعد انقضاء حجه، إذا نوى الإِقامة بمكة أو كان من أهلها على ما تقدم، فكان
أولاَ يقول: إنه يتم، مراعاة لقول من يرى أنه يتم، إذ ليس في سفر تقصر في
مثله الصلاة، وهو مذهب أهل العراق، ثم رجع فقال: إنه يقصر حتى يأتي مكة،
بناء على أصله في أنه من أهل القصر دون مراعاة منه لقول غيره.
وكذلك اختلَف في ذلك أيضاً اختيار ابن القاسم. فمن ذهب إلى أنه يتم قال:
إنما قصر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى وعرفة،
لأنة كان مسافراً إذ لم يقم بمكة قبل. خروجه إقامة يجب عليه بها الإِتمام
وهو مذهب أهل العراق. ومن ذهب إلى أنه يقصر قال: بل قصر رسول اللَّه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ بمنى وعرفة وقد أقام بمكة إقامة تخرجه عن السفر، لأنه قدم
مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة. فأقام بمكة إلى يوم التروية. وذلك أربع ليال،
وقد مضى هذا المعنى في رسم شك من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة وباللَّه
التوفيق.
[ما يقال في الحج عند محاذاة الركن في بطن المسعى]
فيما يقال في الحج عند محاذاة الركن في بطن
المسعى وسئلِ مالك عما يتكلم به الناس إذا حاذوا الركن الأسود:
اللَّهُمَّ إِيمَاناَ بِكَ وَتَصدِيقاً بِكِتَابِكَ، وما يتبعه من الكلام
مثل ما يقول في بطن المسعى: اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ واعْفُ عمّا
تَعْلَمُ، فأَنكر ذلك وقال: ليس في هذا شيء معروف، ولا أعرف هذا، وأنكر أن
يكون هذا من العمل، قال: وليس في ذلك شيء معروف، إلا على ما تيسر.
قال محمد بن رشد: قد استحب ابن حبيب أن يقول الحاج عند استلام الركن:
بِاسْم اللَّهِ وَاللَّهُ أكْبَرُ اللَّهمَّ إِيماناً بِكَ، وَتَصْدِيقاً
بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال فقد حدثني أصبغ عن
ابن وهب عن محمد بن
(17/221)
عمر، أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علم
ناساً من أصحابه أن يقولوا هذا. واستحب أيضاً أن يقول في هرولته ببطن
المسيل بين الصفا والمروة: رَبِّ اغفِرْ وَارْحَمْ وَاعْفُ عَمَا تعْلَمُ
أنْتَ الرَّبُّ الأحْكَمُ، وَأنْتَ الأعَزُّ الأكْرَمُ. قال: فقد كان ابن
عمر يقوله في هذا الموضع على ما حدثني غسان بن قيس عن ابن جريح عن مجاهد،
وهذا كله من الكلام الحسن، فلا يكره مالك لأحد أن يقوله، وإنما أنكر أن
يكون هذا من القول أمراً قد جرى العمل به فلا يتعدَّى إلى مَا سِوَاه من
الذِّكر والدعاء. وبالله التوفيق.
[كراهية اتكاء الرجل على يده اليسرى عند أكله]
في ذكر كراهية اتكاء الرجل على يده اليسرى عند
أكله وسئل مالك عن الرجل يأكل وهو واضعِ يده اليسرى على الأرض.
فقال: إِني لأتَّقيه، وما سمعت فيه شيئاَ، وإني لأكرهه.
قال محمد بن رشد: كره مالك هذا لأنه أشبه عنده الاتِّكاءَ، وقد قال رسول
اللًه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أنا فَلَا آكُلُ
مُتَّكِئَاً» والمعنى الذي من أجله أبى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأكل متكئِاً هو مَا رُوي «أنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَرْسَلَ إِلَيهِ مَلَكاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، وَمَعَهُ جِبْرِيلُ،
فَقَالَ الْمَلَكُ: إِنَّ اللَّهَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْداً
نَبيّاً وبين أن تَكُونَ مَلِكاً، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى جِبْرِيل كَالْمُسْتَشِير، فَأشَارَ
جِبْرِيلُ إلَيْهِ أنْ تَوَاضَعْ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا بَلْ أكُونَ عَبْداً نَبِياً فَمَا أكَلَ بَعْدَ
تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَعَاماً مُتَّكِئاً» . ويحتمل أن يكون المعنى في ذلك
أنه يورث العجب والخيلاَء وأنه من فعل الأعاجم وباللَّه التوفيق.
[ثناء النبي عليه السلام على أصحابه]
في ثناء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على أصحابه قال مالك: بَلَغَنِي
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
(17/222)
«نِعْمَ الرَّجُلُ أبُو بَكْرٍ، نِعْمَ
الرَّجُلُ عمَر بْنُ الْخطَّاب، نِعْمَ الرجُلُ أبُو عُبَيْدَةَ بْنِ
الْجراح، نِعْمَ الرَّجُلٌ مُعَاذُ بْنُ جَبلٍَ، نِعْمَ الرَّجُلُ أسَيْدُ
بْنُ الْحُضَيْرِ، نِعْمَ الرجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ بْنِ شَمَاسٍ،
نِعْمَ الرَّجُل عُمَرُو بْن الْجَمُوحَ» .
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث تقديم أبي بكر الصديق على عمر بن الخطاب،
وليس في قوله: نِعْمَ الرَجُلُ أبو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجرَّاح بعد قوله
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، دليل على أنه أفضل الناس بعده، والذي عليه عامة
أهل السنة، وكافة علماء الأمة، أن أمة نبينا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أفضل
الأمم، كما أنه هو أفضل الأنبياء والرسل، وخاتم النبيين، وسيد الخلق
أجمعين، وأَن أفضل أصحابه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أبو بكر الصديق، ثم عمر
بن الخطاب، ثمِ عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب، وقد روي هذا عن مالك
نصاَ وقيل: إنه الذي رجع إليه بعد أن كان وقف في عثمان وعلي، فلم يفضل
أحدهما على صاحبه على ظاهر ما وقع في كتاب الديات من المدونة على أنه كلام
محتمل للتأويل، لأن قوله: ويرى الكف عنهما يحتمل أن يكون من كلام ابن
القاسم، حكاية عن مالك، ويحتمل أن يكون من قول مالك، حكاية عمن أدرك ممن
يقتدي به ولعله يريد في الرواية، لا في العلم والفقه، ولعلَّه قد صح عنده
عمَّن لم يدرك ممن هو أرفع مرتبةً ممن أدرك تفضيل عثمان على علي، فأخذ
بذلك، على ما روي عنه منصوصاً عليه، وقد وقع في بعض الروايات، ورأيته يرى
الكف عنهما، فيكون هذا تأويلاً من ابن القاسم على مالك، والتأويل قد يخطئ
ويصيب. ثم يقدم بعد هؤلاء الخلفاء في التفضيل، بقية العشرة، الذين شهد لهم
رسول اللًه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة، وهم الزبيرُ بن
العوَّام، وطلحة بن عُبيد اللَّه، وعبد الرحمن بن عوف، وسعدُ بن أبي وقاص،
وأبو عبيدة بن الجرَّاح، وسعيد بن زيد.
(17/223)
وهؤلاء العشرة كلهم بدريُون، ثم التقدم بعد
هؤلاء العشرة في الفضل لبقية أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، وهم أصحاب
الشجرة ومنهم من اتفقت له هذه المواطن كلها، ومنهم من نال بعضها، ثم مَنْ
أنْفَقَ مِن بَعْدِ الْفَتح وَقَاتَلَ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى
ومن أهل العلم من ذهب إلى أن من مات في حياة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الشهداء، مثل حمزة، وجعفر، وسعد بن معاذ، ومصعب بن
عمير، أو مات في حياته وإن لم يكن من الشهداء، كعثمان بن مظعوّن الذي قال
فيه رسول اللًه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذَهَبْتَ وَلَمْ
تَلبَّسْ مِنهَا بِشَيْءٍ» أفْضَل مِمَّنْ بَقِيَ بَعْدهُ. وإياه اختار ابن
عبد البر ومن حجتهم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«الشَهَدَاءُ أحَدُ هَؤُلَاءِ اشهد عَلَيْهِمْ، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ
الصدَيقُ: ألَسْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ بِإِخْوَانِهِم أسْلَمْنَا كَمَا
أسْلَموا وَجاهَدْنَا كَمَا جَاهَدُوا؟ فَقَال رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بَلَى وَلَكِنْ لَا أدرِي ما تُحْدثونَ
بَعْدِي» . وهذا لا حجة لهم فيه، لأن الحديث ليس على عمومه في أبي بكر
وغيره، لأن العموم قد يراد به الخصوص، كقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«اللَّهُمَّ أشْدُدْ وَطْأتَكَ عَلَى مُضَرٍ» . وإنما أراد الكافر منهم دون
المؤمن، فالقول الأول هو الصحيح، ويؤيده ما روي عن ابن عمر أنه قال: كُنَّا
نفاضل على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنقول:
أبو بكر ثم عثمان، ثم نسكَت، وباللَّه تعالى التوفيق.
(17/224)
[التوصية بالقبط]
في التوصية بالقبط قال مالك: عَن ابْنِ
شِهَاب، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكَ أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا افتَتَحْتُمْ مِصْرَ، فَاسْتَوْصُوا
بِالقِبْط خَيْراَ فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِماً» قال: وكان يقال: أم
إسماعيل بن إبراهيم آجرُ منهم.
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث علم من أعلام النبوءة، لأنه أعلم فيه بما
يكون من افتتاح مصر بعده، والرحم الذي للقبط هو ما ذكره من أن أم إسماعيل
منهم. وأما قوله: إِنَّ لهُم ذِمَّةً وَهم يومئذ لا ذمة لهم، لأنهم أهلُ
حرب، فمعناه: إِن لهم ذماماً برحمهم، يجب مراعاتها لهم إذا عوهدوا أو
مُلكوا ويقال: هَاجَرَ وَآجَر، وذلك واحدٌ، مثل أرقت الماء وهرقت الماء.
واللَّه الموفق.
[ما جاء من أن الكافر يأكل في سبعة أمعاء]
فيما جاء من أن الكافر يأكل في سبعة أمعاء
قَالَ مَالِكٌ عَن نَافِع عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْكَافِرُ يأكلُ فِي سَبْعَةِ
أَمْعَاءٍ، وَالْمُؤْمِنُ يأكلُ فِي مِعي وَاحِدِ» .
(17/225)
قال محمد بن رشد: هذا من المجاز على غير
حقيقة اللفظ، لأن عدد أمعاء الكافر والمؤمن سواء، فإنما هو مَثَلٌ ضربه في
قلة الأكل من كثرته، على سبيل الاستعارة. وهو كثير. من ذلك قوله عز وجل:
{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] واختلف في تأويله، فقيل: إنه
على ظاهره في مقدار أكل المؤمن من أكل الكافر، ومعناه: في الرجُل
بِعَيْنِهِ الَذِي ضَافَ النَّبيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهُوَ كَافِرٌ،
فَأمَرَ لَهُ النَّبيُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ
فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا ثَمّ بِأخْرَى فَشَرِبَه، ثُمَ بِأخْرَى
فَشَرِبَهُ، حًتّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْع شِياهٍ، ثمَ إِنَّهُ أصْبَحَ
فَأسْلَمَ فَأمَرَ لَهُ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بِشَاةٍ، فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أمَرَ لَهُ بِأخْرَى
فَلَمْ يَسْتَتمَّها فقال ذلك القول، فكان مقصوراً على ذلك الرجل الذي كان
سببه، ولم يكن على عمومه في كل مسلم وكافر، وقيل: ليس على ظاهره في مقدار
أكل المؤمن من أكل الكافر إذ قد يكون الكافر قليل الأكل، والمؤمن كثير
الأكل، وقد كان يطرح لعمر صاع من تمر فيأكله، حتى يأكل حشفه، وَمَن يُساويه
في جودة الإيمان؟ وإنما معناه: إِنَّ الكافر يرغب في الدنيا ويستكثر منها،
ولا يؤثر على نفسه، إذ لا يعتقد القربة بذلك، والمؤمن يدخر فيها، ولا
يستكثر منها، ويطوي بطنه عن جاره، ويؤثره على نفسه، أي إن هذا هو فعل
المؤمن الممدوح إيمانه، وهذا أولى ما قيل في تأويل الحديث. وقد قيل: المعنى
فيه إِن المسلم يسمي اللَّه تعالى على طعامه ليضع له البركة به، والكافر لا
توضع له البركة في طعامه أي لا يسمي اللَّه عز وجل واللَّه أعلم.
[ما جاء في أنَّ الحُمّى مِنْ فَيْح جَهَنَّمَ]
في أنَّ الحُمّى مِنْ فَيْح جَهَنَّمَ قال مالك: عَن نَافِعٍ عَن ابن
عُمَرَ إِنَّ النَّبيً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(17/226)
وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْحُمّى مِنْ
فيْح جَهًنّمَ، فأبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» .
قال محمد بن رشد: أعلم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بهذا الحديث أن ما
يجده المحموم من حر الحمى هو من حر جهنم، كما أعلم - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ما يجده الناس من شدة الحر، هو من فيح جهنم، فوجب
الِإيمان بذلك، وأن اللَّه عز وجل يبتلي المؤمن بالحمى من فيح جهنم، ليثيبه
على ذلك، وقد كان مجاهد يقول في قول اللَّه عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا
وَارِدُهَا} [مريم: 71] أن ورود المؤمن هو ما يصيبه في الدنيا من حمى ومرض،
وذلك حظ من النار. وروي ذلك في حديث عَنْ أبِي صَالِحٍ «عَنْ أبِي
هُرَيْرَةَ أنَّهُ قَالَ: خَرَجَ رسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَقُود رَجلاً مِنْ أصْحَابِهِ وَعِكاً وَأنَا مَعَهُ ثُمِّ
قَالَ: إِنَ اللَّهَ عًزّ وَجَلَّ قَالَ: هِيَ نَارِي أسَلِّطُهَا عَلَى
عَبْدِي الْمُؤْمِنِ لِتَكُون حَظَّهُ مِنَ النَّارِ فِي الآخِرَة» .
[ما يروى عن ابن عمر أنه كان يدعو به]
فيما يروى عن ابن عمر أنه كان يدعو به
قال مالك عن نافع، قال: كان ابن عمر يقول: اللَّهُمَّ أذهِبْ عَنِّي
الرَجْزَ.
قال محمد بن رشد: الرجز العذاب، قال عز وجل: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ
الرِّجْزَ} [الأعراف: 135] أي العذاب الذي أرسله عليهم من الطوفان والجراد
والقمل والضفادع. وقد يراد بالعذاب وسوسة الشيطان، لأنها مُؤدية إلى
(17/227)
العذاب. قال عز وجل: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ
النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11] إلى قوله: {رِجْزَ
الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] أي وسوسته، وهو الذي أراد ابن عمر بما دعا به.
واللَّه أعلم، لأن من سلم من وسوسة الشيطان بعصيانه، وترك طاعته، فقد نجا،
واستوجب جنة المأوى. فخير ما يدعو به العبد ويرغب فيه إلى ربه أن يعصمه من
الشيطان الرجيم. وباللَّه التوفيق.
[وصايا عمر بن الخطاب]
فيما ذكر عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أوصى به عن زيد
بن أسلم أنَّ عمرَ بْنَ الْخَطَّاب قَالَ: أوصِيكُم بِالأنْصَارِ خَيْراً
وأوصِيكُم بِالْعَرَب خَيْراً وَأوصِيكُم بَأهل الذِّمَةَ خَيْراً. وقال
مالك عن يحيى بن سعيدَ، أن عمر بن الخطاب كان يقول: مَنْ كَانَتْ لَهُ
أرْضٌ فَلْيَعْمُرْهَا، ومن كان له مال فليصل فيوشك أن يأتي من لا يعطي إلا
من أحب.
قال محمد بن رشد: المعنى في توصيته بمن وصى بهم أن يُحفظوا ويُراعوا
ويُحسَن إِلى مُحسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم. وإنما أوصى بالأنصار لتقدمهم في
الِإسلام، وسابقتهم فيه، ولأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أوصى بهم،
وَدَعَا لَهُم وَلِأبْنَائِهِم، فَقَالَ: «اللَّهًمَّ اغْفِرْ لِلأنْصَارِ،
وَلأِبْنَاء الأنْصَارِ» . وإنما خص العرب بالتوصية بهم دون غيرهم، من
العجم، لمكانتهم من النسب، ولما خشِي أن يُجْهَلَ عليهم، لما في كثيرٍ منهم
من الجهل، وإنما أوصى بأهل الذمة مخافة أن تُستخف إذايتُهم من أجل كفرهم.
وَقَدْ قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ
ظَلَمَ مُعَاهَداً أوْ ذِمِّيَاَ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وإنَّ
رَائِحَتَها لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ» . وإنما
(17/228)
أوصى الناس بحفظ أموالهم بالقيام عليها،
مخافة أن يضيعوها اتكالاً منهم على أعطيات الِإمام. وقد نهى رسول اللَّه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن إِضَاعَةِ الْمَال. وهذا من
إضاعته. وقد قيل في تأويله غيرُ ما وَجْهٍ. وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -: فَيُوشِكُ أن يَأتِيَ مَن لَا يُعْطِي إِلاَّ مَنْ أحبَّ. معناه:
فيغلب على الظن أن ذلك يكون فكان كما غلب على ظنه. وقد كان - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - يقول الشيء على ظنه، ويرأسه، فيكون على ما قال. من ذلك
قوله: " وَافَقْتُ ربِّيِّ فِي ثَلَاثٍ. منها: آيَةُ الْحِجَابِ، وآيَةُ
فِدَاءِ الأسْرَى، وَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ " وقد قال رسول اللَّه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَيَكُونُ بَعْدِي مُحَدَّثُونَ، فَإِن
يَكُنْ فَعُمَرُ، فَقَال: إِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ عَلَى قَلْبِ عمَرَ
وَلِسَانِهِ بِالصِّدْقِ» وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: كنّا نَعُدّ
السَّكِينَةَ تَنْطِقُ على لِسان عُمر.
وأما قوله: أدركْ أهلَك فقد احترقوا للذي سأله عن اسمه، فقال حمزة: فقال:
ابن من؟ قال: ابن شهاب. قال: مِمّن؟ قال من الحرقة، قال: أين مسكنك؟ قال:
بحرة النار، قال: بأيتها؟ قال: بذاتِ لظى. فكان كما قال، فإنما ذلك واللَّه
أعلم من معنى قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إِنَّ الْبَلاَءَ
مًوَكَّلٌ بِالْقَوْل» . وباللَّه التوفيق.
[ما يقاتل عليه الناس]
فيما يقاتل عليه الناس قال مالك عن أبي
الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْت أن أقَاتِلَ النَّاسَ حًتّى يَقُولُوا لَا
إِلَهَ إِلّاَ اللَّهَ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي مَاءهُم
وأَمْوَالَهُم إِلَّا
(17/229)
بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُم عَلَى اللَّهِ» .
قال محمد بن رشد: معنى قوله: " حَتَّى يَقُولُوا لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ "
أي حتى يسلموا فيقولوا لا إلهَ إلّاَ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ
اللهِ ويلتزموا سائر قواعد الِإسلام. وهي الصلاة والزكاة والصيام، وحج بيت
الله الحرام، من استطاع إليه سبيلاً، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بُنيَ الِإسْلَامُ عَلَى خَمْس شَهَادَة أَن
لَا إله إلاَّ الله وَإقَام الصَّلاَةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْم
رَمَضَانَ، وَحَجِّ بَيْتِ اللِّهِ الْحَرَام» لَا أن قتالهم يحرم بمجرد
قول لا اله إلا الله فقد قال أبو بكر الصديق: والله لأقَاتِلَنَّ من فرَّق
بَيْنَ الصَلاَةِ وَالزَّكَاةِ. وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة ذُكر في
بعضها مع شهادة أن لا اله إلا اللَّه الصلاة، وفي بعضها الصلاةُ والزكاة،
وفي بعضها الصيام والصلاة والزكاة وصيام شهر رمضان. وأداءُ الخمس وهو بين
ما ذهبنا إليه من أنَّ الشرائع داخلة في الحديث بالمعنى، وإن لم تذكر فيه.
وقد ذهب بعض من تكلم على معاني الحديث أن ما روي في هذا الحديث من اختلاف
الألفاظ فيه، محمولة على ظاهرها من التعارض، لأن المعنى فيها أنها مرتبة
على الأزمان، لأن الفرائض كانت تَنْزِلُ شيئاً بعد شيء، فالحديث الذي لم
يذكر فيه شيء من الشرائع، كان في أول الإسلام قبل فرض الصلاة، والحديث الذي
ذكر فيه الصلاة، ولم يذكر فيه الزكاة، كان قبل فرض الزكاة، والحديث الذي
ذكر فيه الزكاة والصلاة، ولم يذكر فيه صيام رمضان كان قبل فرض صيام رمضان.
والحديث الذي ذكر فيه صيام رمضان متأخراً عن الأحاديث الأول، والذي ذكرناه
وذهبنا إليه في تأويل الحديث أولى والله أعلم. ومعنى قوله - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: " وَحِسَابُهُم عَلَى اللَّهِ " أي أنه
(17/230)
هو يحاسبهم بما يعلمه من صدق نياتهم في
ذلك، إذ لا يعلم حقيقة ذلك سواه. فإن اعتقدوا بقلوبهم ما قالوه بألسنتهم،
كانوا مسلمين مؤمنين، وانتفعوا بإسلامهم، وإن لم يعتقدوه بقلوبهم، لم
ينتفعوا بإسلامهم. وقد تكلمنا في صدر كتاب المقدمات على حكم الِإيمان
والِإسلام والفرق بينهما عند من رآه وبالله التوفيق.
[ترك غسل الجمعة]
في جهل تارك غسل الجمعة قال مالك: بلغني عن ابن مسعود أنه سئل عن شيء فقال:
لئن جهلت هذا لأنا أجهل من تارك غسل يوم الجمعة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لأنه لا يترك سنة الغسل يوم الجمعة إلا
من جهل السنة في ذلك، ولم يعرف قدرها لمن التزمها، ولم يضيعها من الفضل في
ذلك، أو علمه فحرم التوفيق. وَقَدْ وَبَّخَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَاب
عُثْمَانَ بْن عَفانَ، إذْ جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ،
فَقَالَ: أَيَّةُ سَاعَةِ هَذِهِ؟ فَقَالَ يَا أميرَ الْمُؤْمِنِين:
انْقَلَبْتُ مِن السُّوقِ، فَسَمِعْتُ النِّدَاءَ، فَمَا زِدْت عَلى أن
تَوَضَّأت، فَقَالَ عُمَرُ وَالْوُضُوءَ أَيْضاً؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَن
رسولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يَأمرُ
بِالْغُسل. وبالله تعالى التوفيق.
[هل يكون الرجل أحق بمجلسه إذا قام عنه ثم رجع إليه]
في هل يكون الرجل أحق بمجلسه إذا قام عنه ثم
رجع إليه؟ وسئل مالك عن الرجل يقومُ من المجلس، فقيل له: إن بعض
الناس يزعم أنه إذا قام الرجل من مجلسه ثم رجع إليه، إنه
(17/231)
أحق به، فقال سمعت في ذلك شيئاً، وإنه لحسن
إن كان إتيانه قريباً، وإن تباعد ذلك حتى يذهب بعيداً ونحو ذلك، فلا أرى
ذلك له. وإن هذا لمن محاسن الأخلاق.
قال محمد بن رشد: قوله: وإنه لحسن إن كان إتيانه قريباً، معناه: إذا قام
عنه على أن لا يرجع إليه، وأما إن قام عنه على أن يرجع إليه فهو أحق به إن
رجع بالقرب، فتحصيل هذا أنه إن قام عنه على أن لا يرجع إليه فرجع بالقرب،
حسُن أن يقوم له عنه من جلس بعده فيه، وإن لم يرجع بالقرب، لم يكن ذلك عليه
في الاستحسان، وإن قام عنه على أن يعود إليه فعاد إليه بالقرب، كان أحق به،
ووجب على من جلس فيه بعده أن يقوم له عنه، وإن لم يعد إليه بالقرب، حسُن أن
يقوم له عنه مَن جلس فيه بعده، ولم يجب ذلك عليه. وبالله التوفيق.
[ما جاء في أن المرء مع من أحب]
قال مالك: عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: عَن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ
«إنَّ أعرابِياً أدْرَكَ النبيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَقَالَ: مَتَى
تَقُومُ السَّاعَة؟ فَقَالَ: وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا، قَالَ لَا شَيْءَ،
وَاللَّهِ لأنِّي قَلِيلُ الصَّلَاةِ، قَلِيلُ الصِّيَام، إلَّا أَنِّي
أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
فَإنَّكَ مَعَ مَن أحببت» .
قال محمد بن رشد: قوله: إني لقليل الصلاة، قليل الصيام، معناه في النافلة
لا في الفريضة، لأن من ترك بعض الصلاة المفروضة، والصيام المفروض، مضيِّعاً
لذلك أو مفرطاً فيه فمذهب ابن حبيب فيه أنه كافر. وذهب غيره إلى أنه لا
يكون كافراً بترك شيء من الشرائع إلا بترك الصلاة خاصة، تعلقاً بظاهر ما
روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: مَن
(17/232)
تَرَكَ الصَّلاَةَ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَن
تَرَكَ الصَلَاةَ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلهُ، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ فَقَدْ
حُشِرَ مَعَ هَامَانَ وَقَارُونَ) . والصحيح أنه لا يكون كافراً وإن تركها
مضيعاً لها أو مفرطاً فيها، إذا كان مقراً بفرضها. قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُن اللهُ عَلَى
الْعِبَادِ فِي الْيَوْم وَاللَّيلة، مَن جَاءَ بِهِن لَمْ يُضَيًعْ
مِنْهُن شَيئَاَ اسْتِخْفَافاً بِهَن، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أن
يُدْخله الجنةَ، ومَن لَم يأتِ بِهِن، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الله عَهْدٌ
إنْ شَاءَ عَذبَهُ، وإن شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» ، فإنما يستحق الرجل
بتضييع الصلوات اسم الفسق، لا اسم الكفر. وقوله في الحديث: كَان لَهُ
عِنْدَ اللَّهِ عَهْد أَن يدخله الجنة، معناه: ابتداءً دون أن يعذبه بإدخال
النار، وقوله: فَلَيْس لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إن شَاءَ عَذبَهُ، وإن
شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجنًةَ معناه: إن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، وإن شاء
أدخله الجنة ولم يعذبه، لأن من مات على الِإيمان، فلا بد له من دخول الجنة،
لأنهُ إن دخل النار، فلا بد أن يخرج منها بالشفاعة على ما تظاهرت به الآثار
وبالله التوفيق.
[سؤال الناس النبي عليه السلام الاستقاء]
في سؤال الناس النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الاستقاء وسمعت مالكاً يقول:
«أُتي إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقيل له: يَا نَبيَّ اللَّهَ:
اسْتَسْقِ لَنَا فَدَعَا اللَّهَ لَهُم فَسُقُوا. ثمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ
قابِل، جَاؤُوهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه: ادْعُ اللَّهَ أَنْ
يَسْقِينَا، فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ سَقْيَ الْكُفَّارِ؟» .
قال محمد بن رشد: في هذا دليل على صحة رواية أبي
(17/233)
المعصب عن مالك، إن الاستسقاء على سنة
الاستسقاء من البروز إلى المصلى لا يكون إلا عند الحطمة الشديدة، ولا يؤثر
عنه ولا عن أصحابه فيما علمت خلاف ذلك، فيحمل على البيان للمذهب، ويشهد
لصحتهما أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنمَا
اسْتَسْقَى حِينَ جَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه: هَلَكَتِ
الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتِ السبُلُ، فَادْعُ الله وبالله التوفيق.
[ما جاء في أن لله عباداً أهل عافية في الدنيا والآخرة]
قال مالك وبلغني أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إنَّ لَلّهِ
عباداً أَهْلَ عَافِيَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، إذ قد يكون الرجل يرزق المال الحلال
فيعيش منه العيش الحسن، ويؤدي حق الله، ويقيم فرائضه من الصلاة والزكاة
والصيام والحج، ويجتنب محارمه، ويعافيه الله في بدنه طول حياته، ثم يميته
على الِإيمان، فيكون معافيه في الدنيا والآخرة وبالله التوفيق.
[الحلف بالله على الصدق]
في الحلف بالله على الصدق قال مالك:
بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: إنَّ مُوسَى قَالَ لِقَوْمِهِ: لَا
تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إلاَّ وَأَنْتُم صَادِقُونَ، وَأَنَا أَقُولُ لَكُم
لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ صَادِقِينَ وَلَا كَاذِبِينَ، قُولُوا: بَلَى
وَنَعَمْ.
(17/234)
قال محمد بن رشد: ظاهر قول عيسى ابن مريم -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن شرعه مخالف لشرع موسى - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - قبله فيِ إباحة الحلف بالله عز وجل على الصدق، ومخالف لشرعنا
أيضاً، لأن اللَّه تعالى قد أمر نبيه بالحلف باسمه في غير ما آيةٍ فقال:
{قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس: 53] ، وقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] وقال: قُلْ: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}
[التغابن: 7] وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيراً
ما يحلف لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَلَا وَمُقَلِّب الْقُلُوب. وَلا
وجه لكراهة ذلك، لأن القصد إلى الحلف بالشيء تعظيم له، فلا شَك أن في ذكر
الله تعالى على قصد التعظيم له أجراً عظيماً، ويحتمل أن يكون عيسى ابن مريم
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما كره لهم اليمين بالله صادقين وكاذبين، مخافة
أن يكثر منهم، فيكون ذريعةً إلى حلفهم بالله على ما لم يقولوه يقيناً أو
يواقعوا الحنث كثيراً ويقصروا في الكفارة، فيواقعوا الإثم من أجل ذلك، لا
من أجل اليمين بالله.
وقد مضى في آخر سماع أشهب من كتاب النذور، لتكرر المسألة هناك.
[وصية لقمان لابنه]
في وصية لقمان لابنه قال مالك: وبلغني
أن لقمان قال لابنه: يا بُنَيِّ جَالِس الْعُلَمَاءَ، وَزَاحِمْهُم
بِرُكْبَتِكَ، فَلَعَلَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِم فَتصيبك مَعَهُم،
وقال له في الفجار، في مجالستهم، مثل ما قال له في العلماء في الرحمة
لئلاَّ ينزل عليهم سخط فيصيبك معهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين واضح ليس فيه ما يشكل وبالله تعالى
التوفيق.
(17/235)
[ما جاء في الِإبار]
قال مالك: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِبَعْض الْحَوَائِطِ وَهُم يَأبرُون النَّخْلَ وَيُلَقِّحُونَهَا،
فَقَالَ: " مَا عَلَيْكُمْ أَلّاَ تَفْعَلُوا " قالَ: فترك الناس الإبار في
ذلك العام، فلم تطعم النخل، فشكوْا ذلك إلى رسول اللًّه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إِنَّما أنَا بَشَر، فَاعْمَلُوا بِمَا
يُصْلِحُكُم» .
قال محمد بن رشد: التلقيح وضع الذكور في الأنثى. وقد روي هذا الحديث بألفاظ
مختلفة، يقرب بعضها من بعض منها: أنه قال: «مَا أَظنّ هَذَا يُغْنِي
شَيْئاً وَلَوْ تَرَكُوهُ لَصَلُحَ، أَوْ لَا لِقَاحَ، أَوْ مَا أَرَى
اللِّقاح شَيْئاً فتركوه فشيص فأخبر به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " مَا أنَا بِزَارِعٍ وَلَا صِاحِبِ نَخْلٍ،
لَقِّحُوا أو قال: " إنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنّاً، وَالظَّنُّ يَخْطِئُ
وَيُصِيبُ أَو لا تؤاخِذُوني بِالظَّنِّ، وَلَكِن إذَا حًدّثْتًكُم عَنِ
اللَّهِ شَيْئاً فَخُذُوهُ، فَإنِّي لَنْ أكْذِبَ عَلَى اللَّهِ» . فقال
الطحاوي فيما روي من ذلك كله: إنه ليس باختلاف تعارض، وإنما معناه أنه قال
ما قال من ذلك لقوم بعد قوم، فحكى كل واحد منهم ما سمع، ولم يكن - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن يعاني ذلك ولم يكن من بلد فيه نخل، فاتسع
له أن ينفي ما توهم بالظن استحالته، وهو أن يكون الِإناث من غير الحيوان
يأخذن من الذكور شيئاً، ولم يكن ذلك إخبار منه عن وحي. هذا معنى قول
الطحاوي والذي أقول به في ذلك إنه إنما قال للذين رآهم يأبرون النخل
ويلقحونها ما قال لهم مما روي عنه في ذلك أنه قاله لهم لما علمه من أنه لا
تأثير لشيء من
(17/236)
المخلوقات في شيء منها بإفساد ولا إصلاح.
وإنما الله هو المفسد المصلح، الفاعل لكل شيء، إلا أنه تعالى قد أجرى
العادة بأن يفسد من المخلوقات، وأن يصلحها عند مباشرة غيرها لها، ويعلم ذلك
من الناس من جرَّبه، فوجد العادة مستمرة عليه، كالأطباء الذين يعلمون
الأدوية النافعة من الضارة لتجربتهم وتجربة من تقدم من أسلافهم، ولا يسلم
من ذلك سواهم ممن لم يجرب من ذلك ما جربوه، فكذلك إبار النخل وتلقيحه، علِم
الانتفاع به من جربه من أهل النخل بطول التجربة، ولم يعلمه النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذ لم تتقدم له به تجربة، فقال لهم ما قال، مما هو
مذكور في الآثار. وقولي كالأطباء الذين يعلمون الأدوية النافعة من الضارة،
تَجَوُّزٌ في العبارة، إذ ليس الأدوية على الحقيقة بنافعة ولا ضارة، وإنما
النافع والضار الله رب العالمين.
[حكم الصفرة للرجل]
في إنكار النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الصفرة للرجل، وإقادته من نفسه قال
مالك: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
رَجُلاً فيه أثَرُ صُفْرَةٍ، فَطَعَنَهُ بقدحٍ كَانَ مَعُه، فَقَالَ: له:
أوْجَعْتنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَطَرَحَ الْقَدَحَ إلَيْهِ ثمَّ قَالَ
لَهُ: " اسْتَقِدْ " فَقَالَ لَهُ الرجُل: إنَّ اللَّهَ بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ وَعَلَيْكَ قَمِيصٌ، وَلَيْسَ عَلَيَّ قميصٌ. قال: فَكَشَفَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَمِيصَ عَنْهُ
فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُقَبِّلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ» .
قال محمد بن رشد: قوله: وبهِ أثَرُ صُفرَة معناه والله أعلم وبه ودع من
زعفران، ففي طعنِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياه
لِما رأى به من ذلك على ما يدل عليه ظاهر الحديث، دليل على أن ذلك لا يجوز
له، إذ لا ينكر على أحد ما يجوز له أن يفعله. وهذا نحو ما جاء عنه صلى الله
(17/237)
عليه وسلم من رواية أنس بن مالك: «أنه
نَهَى أن يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» وهو معارض لحديث أنس بن مالك في الموطأ
أنَّ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ إِلَى رَسُول اللهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِهِ أثرْ صُفْرَةٍ، فَسَألَهُ رَسُولُ
اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأخْبَرَهُ أنَّهُ
تَزَوَّجَ. الحديث إلى قوله: أوْلِمْ وَلَوْ بشَاةٍ لأن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُنكر عليه ما رأى به من أثر الصفرة، كما
فعل بالرجل الذي طعنه بالقدح. ولتعارض هذه الآثار اختلف العلماء هل يكره
للرجل أن يصفر لحيته بالزعفران، ويلبس الثياب المصبوغة؟ فذكر مالك في
الموطأ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ الثَّوْبَ
الْمَصْبُوغَ بِالْمِشْقِ، وَالْمَصْبُوغَ بالزّعْفَرَانِ. وجاء ذلك عن
جماعة من السلف، وأخذ به مالك وأصحابه، فأجازوا لباس الثياب المصبوغة
بالزعفران للرجال.
وإنما كره ذلك مالك في الإِحرام. وقد سئل ابن شهاب عن الخلوق، فقال قد كان
أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخلقون، ولا يرون
بالخلوق بأساً. وكره الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما أن يصبغ الرجل ثيابه
ولحيته بالزعفران. وقال ابن شهاب هذا جائز عند أصحابنا في الثياب دون
الجسد، وهو قول ثالث في المسألة.
وإقادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل الذي طعنه
بالقدح من نفسه تواضعاً منه لله بأن أعطى من نفسه ما لم يجب عليه، إذ لم
يفعل به إلا ما كان له أن يفعله به، لمخالفته ما كان قد علمه من أمره والله
أعلم. لكنه لما قال له: قدْ أوجعتني خشي أن يكون قد تجاوز القدر الذي كان
أراده خطأً منه. والخطأ ليس بمسئول عنه، فتنحى من ذلك بالِإقادة من نفسه
تطوعاً من غير
(17/238)
أن يجب ذلك عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -. وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم فمر به ابن غزية
حليف بني عدي ابن النجار وهو مستنصل من الصف فطعن في بطنه بالقدح، وقال:
استوِ في الصف يا سواد، فقال: أوجعتني يا رسول الله وقد بعثك الله بالحق
والعدل فأقدني قال: فكشف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عن بطنه. فقال. استقد. قال: فاعتنقه وقبل بطنه. فقال: مَا حَمَلَكَ عَلَى
هَذَا يا سَوَادُ قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك
أن يمس جلدي جلدك، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
له بخير وقاله» .
وقع هذا الحديث في البر لابن هشام فإن كان حديث الجامع، على ما يدل عليه
ظاهره من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِنما طعن
الرجل من أجل ما رأى به من الصفرة، فهو حديث آخَر، في رجل آخَر، ويحتمل أن
يكون هو الحديث بعينه، ويكون المعنى فيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى الرجلَ يريد سواد بن غزية، وفيه أثر صفرة خارجاً
عن الصف يوم بدر، فطعنه بقدح كان بيده، ليعتدل في الصف. الحديث. وقوله:
فجعل الرجل يقبل ذلك الموضع، إشارة منه إلى الموضع الذي كشفه له ليستقيد
منه. وبالله تعالى التوفيق.
[ما جاء من أن رسول الله لم ينتقم قط لنفسه]
فيما جاء من أن رسول الله لم ينتقم قط لنفسه
قال مالك: بلغني «أن عائشة قالت: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلّي اللهُ
عَلَيْهِ وَسلّمَ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ أتَى إِلَيْهِ إِلّاَ أَنْ تُنْتَهَكَ
حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتقِم لِلّهِ مِنْهَا» .
قال محمد بن رشد: يشهد لما قالته عائشة قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى
خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] «وسئلت عائشة عن خُلقِ رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ
(17/239)
وسلم قالت: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ»
تريد أنه كان جبل على ما حَض الله عليه في القرآن من العفو والصفح. والتفضل
والإِحسان بقوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]
{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] وقوله:
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل
عمران: 134] فكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحلمُ عمن جهل
عليه، ويعفو عمن ظلمه، فلا ينتقم إلا لله، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُعِثْتُ لأتَمِّم حسن الأخْلَاقِ» وبالله التوفيق.
[التحذير من الدخول في الفتن]
في التحذير من الدخول في الفتن
قال مالك: وبلغني أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان مجالس رجل من الأنصار
يسمى أبا جُهَيْم، قال: فكان عبد الله ابن عمرو بن العاص يحدثه عن الفتن،
فلما كانت الفتنة، بلغ أبا جهيم الذي كان من عبد الله بن عمرو بن العاص.
قال: دخل فيما دخل فيه. وقد كان يحدثني بما يحدث به في الفتن. إن لله علي
أَلَّا أكلمه أبداً. قال: فقدم عبد الله بن عمرو بن العاص فلقي الرجل فكلمه
فأبى ثم كلمه فأبى فقال عبد الله: أنَا أعْرِفُ لم تركت كلامي لما كنت
أُحدثك؟
قال محمد بن رشد: أبو جُهَيم هذا هو والله أعلم عبد الله بن جهيم الأنصاري
الذي روى عن النبي عليه السلام في المارِّ بَيْنَ يَدَي
(17/240)
الْمُصَلي أنَّهُ لَوْ عَلِمَ مَا عَلَيْهِ
فِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ لَكَانَ أنْ يَقِفَ أرْبَعِينَ خَيْرٌ لَهُ
مِنْ أن يَمُرَ بَيْنَ يَدَيْهِ ويحتملّ أن يكون أبو جهيم بن الحرث بن
الصمة الأنصاري الذي روى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه أتى من نحو
بير جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه شيئاً، حتى أتى على جدار،
فمسحَ بوجهه ويديه، ثم رد عليه. وعبد الله بن عمرو بن العاص من فضلاء
الصحابة، ولد لأبيه عمرو وهو ابن بضع عشرة سنة، وأسلم قبله، وكان يسرد
الصوم، ويقوم الليل، فشكاه أبوه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وإن لأهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَإِنَّ
لَزَوْجك عَلَيْك حَقاً قُمْ وَنَمْ وَصُمْ وأفْطِرْ صُمْ ثَلَاثَةٌ
أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ، قَالَ: فَإنِّي
أطِيقُ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُهُ في الصِّيَام حَتَى
قَالَ لَهُ: لَا صَوْمَ أفضَلُ مِنْ صَوْم دَاوُودَ يَصُومُ يَوْماً
وَيُفْطِرُ يَوْماً» «ونازل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أيضاً في ختم القرآن فقال: " اخْتمْهُ في شَهْرٍ، فَقَالَ: إِنِّي أطِيقُ
أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعه حَتَّى قَالَ: لَا تَقْرَأهُ
فِي أقلَّ مِنْ سَبْع» وروي في أقلَّ مِنْ خَمْسٍ والأكثر على سبع.
فوقف عند ذلك فكان لَمَّا أسنَّ يقول: وددت أنَّي قبلت رخصة رسول الله -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -. والذي كان يحدث به أبا جُهَيم عن الفتن هو ما روي
عن النبي عليه السلام من التحذير منها نحو قوله: «سَتَكُونُ فِتَنٌ
الْقَاعِد فِيها خَيْر مِنَ الْقَائِم، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ
(17/241)
المَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ
الساعِي مَن تَشَرَّفَ لَهَا تَستَشْرِفُه وَمَنْ وَجَد فيهَا مَلْجأً
وَمَعَاذَاً فَلْيَعُذْ بِهِ ".» وقوله: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفِّاراً
يَضرِب بَعْضُكُم رِقَابَ بَعْضٍ» وما أشبه ذلك من الآثار المروية في ذلك
عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإِنه كان حافظاً
لآثاره، لأنه استأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
يكتب حديثَه فأذِنَ له في ذلك، فكان واقفاً عليه وحافظاً له. والذي دخل فيه
من أمر الفتنة وهجره عليه أبو جُهيم، هو شهوده صفين وقتاله مع معاوية. وقد
ذكر أنه كانت بيده الراية يومئذ، وليس ذلك مما يقدح في عدالته، لأنه لم
يفعل ذلك إلا وهو على بصيرة من أمره فيما أداه إليه اجتهاده.
وقد روي أنه اعتذر من ذلك وأقسم أنه لم يرم فيها برمح ولا بسهم، وأنه إنما
شهدها لعَزْم أبيه عليه في ذلك، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال له: «أطع أبَاكَ» . وإنما أطاعه بما عرض عليه من الحجة
التي ظهرت عليه حينئذ، لا أنّه أطاعه ويعتقد أنه على خطأ. هذا ما لا يحل أن
يتأول عليه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه لا طَاعَةَ لأَحدٍ في
مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ثم اعتذر بعد ذلك من الأمر، إذ ظهر له خلاف رأيه
الأول فيه، فهو محمود في كِلتي الحالتين، وَعتْبُ أبي جُهيم عليه، إنما كان
إذ لم يتورع عن ذلك. وقد كان في سعة منه. وإن كان يرى حينئذ أن معاوية على
صواب لأنه رآه مغرراً إذ من يقاتل على الاجتهاد فيما لا نص فيه، فقد تذكره
البصيرة في خلاف رأيه، وهو قد نشب في القتال، فتذكره الحمية مما دخل فيه من
القتال فيتمادى عليه،
(17/242)
فيكون قد وقع في الحرج، والتوقي من ذلك هو
الحظ، كفعل أحد ابني آدم، إذ قال لأخيه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} [المائدة:
28] ولا شك أنه رجع إلى تكليمه إذ بين له الوجه الذي دخل فيما دخل فيه من
أجله، فهو الذي يدل عليه قوله له: أنا أعرف لما تركت كلامي لما كنت أحدثك
به، لأن المعنى في ذلك، أنا أعرف ذلك، وإنما دخلت فيما دخلت فيه لوجه كذا
والله أعلم.
[التحفظ من سوء الظن ونصيحة الِإمام لرعيته]
في التحفظ من سوء الظن ونصيحة الِإمام لرعيته قال مالك: بلغني أن ابن عمر
باع من رجلين تبناً، قال: فكان يكيل لهما، وقعد إلى جنب حائط في ظله، فذهب
الظل عنهما، وأصابت ابن عمر الشمس، فقال له الرجل: إن لو انصرفت عن الشمس،
فإنا لا نزيد على حقنا. فقال: أما إني لا أرى إلا وقد صدقتكما، ولكن القعود
في الشمس أحب إلي من ظن السوء.
قال مالك عن قطن بن وهب عن عمه، أنه سمعه يقول: كنت مع عمر بن الخطاب حتى
إذا كنا بالرَّوْحَا أو قريباً من الروحا، رأى عمر بن الخطاب راعياً فعدل
إليه من الطريق برواحله، حتى دنا منه، ثم قال: يا راعي إني رأيت مكاناً هو
أكلأ من هذا المكان الذي أنت فيه، فانتقل إليه وهو مكان كذا وكذا، ألا وإن
كل راع مسئول عن رعيته. ثم انصرف.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذين الحديثين بيِّن، ليس فيه ما يخفى فيحتاج
إلى بيانه وبالله التوفيق.
[التحذير من اتباع الهوى ومن الزيغ البعيد]
في التحذير من اتباع الهوى ومن الزيغ البعيد
وقال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: أُحَذِّرُكُم مَا
(17/243)
مَالَتْ إِلَيْهِ الأهْوَاء وَالزَّيْغَ
الْبَعِيدَ.
قال محمد بن رشد: إنما حذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من اتباع الهوى لقوله
عز وجل: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] والزيغ البعيد هو الِإغراق في
القياس، والغلو في الدِّين، وكلاهما مذمومان، لأنك لا تكاد تجد الِإغراق في
القياس إلا مخالفاً للسنة، والغلو في الدِّين منهي عنه. قال عز وجل: {يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:
77] وبالله التوفيق.
[حكاية بينة في المعنى ليس فيها ما يخفى]
قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: إني لست متبوعاً ولكن
متَّبِعاً، ولست بقاض ولكن منفَذ، ولست بخير من أحدكم ولكنَي مِن أثقَلِكم
حملاً. قال مالك: ورفعوه إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: " مَنْ
«أحْدَثَ في المدينَةِ أوْ أَوَى مُحْدِثاَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ
وَالُمَلاَئِكَةِ والنَّاس أجْمَعِينَ» . قال مالك: يريد من عمل بمعاصي
الله، أو أوى أهل المعاصي في رأي. قال مالك: بلغني أن المِسْوَر بن مخرمة،
دخل على مروان، فجلس معه. قال: فسأله مروان عن شيء، أو ابتدأَهُ به المسور
فقال له: بئس ما قلت، فركضه مروانُ برجله، قال: فخرج المسور، قال: ثم إن
مروان نام فأتِيَ في المنام، فقيل له: ما لك وللمسور؟ {كُلٌّ يَعْمَلُ
عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا}
[الإسراء: 84] ، قال
(17/244)
فأرسل مروان إلى المسور فقال: إني قد زجرت
عنك في المنام، وأخبره بالذي رأى، فقال له المسور: ولقد نهيت عني في اليقظة
والمنام، وما أراك تنهى.
قال مالك: كان في المسجد مجلس من أهل الفضل فيما مضى والفقه، فكان الرجلان
يأتيان في الأمر يكون بينهما، فيدليان بحججهما، فإذا رأوا أن أحدهما أظلمُ،
قالوا له: ما نراك إلا أظلم. ووعظوه. فإن انتهى، وإلا حصبوه بالحصباء كلهم،
حتى يقوم من عندهم وباللَّه التوفيق.
[ما روي عن النبي عليه السلام في سعد بن معاذ]
في قول مالك فيما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في سعد وسألت
مالكاً عن الحديث الذي يذكره الناس عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في
سعد بن معاذ. فأنكره وقال: إني أنهاك أن تقوله، وما يدعو أمرأ أن يتكلم
بهذا ولا يدري ما فيه من التغرير. وقال مالك: حدثنيِ يحيي بنِ سعيد قال:
لَقَدْ نَزَلَ لِمَوْت سعد بْنِ مُعَاذ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ مَا نزَلُوا
الأرْض قَبْلَهَا.
قال محمد بن رشد: إنما نهى مالك أن يتحدث بهذا الحديث وهو ما رُوي أنّ
الْعَرْشَ اهْتَزَّ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ويتكلم به، مخافة أن يَشِيعَ في
الناس فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها فيسبق إلى ظنونهم التشبيه
بها، لظنهم أنّ العرش إذا اهتز أي تحرك، تحرك الله بتحركه، كالجالس منا على
كرسيه إذا تحرك الكرسي تحرك هو بتحركه. وليس عرش الرحمن بموضع استقرار له،
إذ ليس في مكان، ولا مستقر بمكان، تعالى
(17/245)
عن ذلك ذو الجلال والِإكرام. وقد اختلف في
تأويل الحديث، فقيل: بأن المراد بالعرش سريره الذي حمل كلليه، فيكون المعنى
فيه: إِن الله أحياه معجزة للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأفهمه منزلته
عند الله، فاهتز هيبة له، كما أحيا الجذع الذي كان يخطب إليه، إذ صنع له
الكرسي فحنَّ إليه وجأر، حتى ارتجَّ له المسجد، وقيل: إن المراد به عرش
الرحمن، وذلك مذكور في بعض الآثار، فقيل على هذا المعنى فيه: إنه اهتز
حملته استبشاراً لقُدومه عليهم. خرج مَخْرَجَ: وَاسْأْل الْقَرْيَةَ أي
أهلها. وَمَخْرَجَ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَذَا
جَبَلٌ يُحِبًّنَا وَنُحِبُّه» . أي يحبنا أهله ونحب أهله. وقيل المعنى
فيه، اهتز حقيقة بأن أحياه الله، وأفهمه منزلته عنده، فتحرك هيبة له، ولا
يلحق ذلك الله عز وجل، إذ ليس بمستقر عليه ولا يحويه مكان. وبالله التوفيق.
[ما كتب به عبد العزيز إلى ابنه عمر]
فيما كتب به عبد العزيز إلى ابنه عمر
قال مالك: بلغني أن عبد العزيز كتب إلى ابنه عمر بن عبد العزيز وهو
بالمدينة: إنَّه لا دين لمن لا نية له، ولا جديد لِمَن لا خِلقَ له، ولا
مال لمن لا رفق له، وكأنه بلغه عنه إسرافٌ في الكسوة. فلقد رؤي بعد كتاب
أبيه إليه، وإِن ثوبه لمرقوع.
قال محمد بن رشد: قوله لا دين لمن لا نية له صحيح، يشهد له قول النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنيَّاتِ» ومعناه نفي
الانتفاع بالعمل دون نية، لا نفي العمل، فمن أسلم ولم تكن له نية في
أعماله، فهو ضعيف الدِّين، ليس له دين ممدوح، وقوله: لا جديد لمن لا يلبس
الخلق، حكمة صحيحة منه، لأنه إِن لم يضن ثوبه الجديد بالخلق خلق الجديد
بسرعة، فلم يكن له جديد. وقوله: لا مال لمن لا رفق له،
(17/246)
صحيح أيضاً لأن من لا يرفق بماله، هلك
سريعاً. وفي الحديث المحفوظ: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ، يُحِبًّ الرِّفْقَ
وَيرْضَى بِهِ وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لاَ يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ، فَإذَا
رَكِبْتُم هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعُجْمَ، فَأنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا،
فَإنْ كَانَتِ الأرْضُ جَدْبَةً، فَانْجُوا عَلَيْهَا بِنقْيِهَا فإنَّ
الأرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْل مَا لَا تُطْوَى بِالنَّهَارِ» وقال رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ المُنْبَتَّ لا أرضاً
قَطَعَ، وَلَا ظَهْراً أبْقَى» وبالله التوفيق.
[أول من أحدث القتل]
أحاديث بينة في المعنى قال مالك: بلغني أن ابن آدم الذي قتل أخاه حمله على
عنقه، قال: فَبَعَثَ اللهُ الغرابَ، قال: {يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ
أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} [المائدة:
31] قال ابن القاسم بلغني أن ما من قتيل يقتل إلا ضوعف عليه العذاب، لأنه
أول من أحدث القتل. قال ابن القاسم:
وسمعت مالكاً قال: حدثني أبو الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«قَالَ اللهُ تَعَالَى يا ابْنَ آدَمَ أنْفِقْ أنْفِقْ عَلَيْكَ» ، حدثنا
مالك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أذِنَ لِي أنْ
أحَدِّثَ عَن مَلَكِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِنّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أذُنِهِ
وَعاتِقِهِ لمجرَى الطَّيْرِ سَبْعِينَ عَاماً» .
قال محمد بن رشد: هذه أحاديث بينة في المعنى ليس فيها ما يخفى فلا وجه
لتكلف القول بما هو بيِّنٌ يُدْرَى.
(17/247)
[التكبير في الفطر والأضحى]
في التكبير في الفطر والأضحى قال سحنونٌ
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بن نَافِعٍ عَن كُثَيِّرَ بْن عَبْدِ اللهِ
الْمُزَنِي، عَنْ أبيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَكانَ من أصْحَاب رَسُول اللهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «أن النبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ فِي الْعِيدَيْنِ فِي الأضْحَى وَالْفِطْرِ،
فِي الرَّكْعَةِ الأولَى سَبْعاً قَبْلَ الْقِرَاءةِ وَفِي الرَّكْعَةِ
الثَّانِيَةِ خَمْساً قَبْلَ الْقِرَاءَةِ» .
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة قبل هذا في رسم كتب عليه ذكر
حق فلا وجه لِإعادته.
[أخذ زكاة الفطر من أهل البادية]
في أخذ زكاة الفطر من أهل البادية قال
ابن القاسم: وحدثني عبد الله بن نافع عن كُثير بن عبد الله عن رِبح بن عبد
الرحمن عَنْ أَبى سَعِيِدِ الْخُدْري «أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أخَذَ زَكَاةَ الفِطْرِ مِنْ أهْل البَادِيَةِ» .
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك وأصحابه والشافعي وأبي حنيفة. وقال الليث
بن سعد ليس على أهل العمود زكاة الفطر أصحاب الخصوص والمظال، وإنما هي على
أهل القرى. وهو قول ضعيف، لأنه كما يستوي الحاضرة والبادية في جميع شرائع
الدين، من الصلاة والصيام، وزكاة العين والحرث والماشية، فكذلك يلزم أن
يستويا في زكاة الفطر. وبالله التوفيق.
(17/248)
[ما جاء في أن
يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم ابنا خالة]
في أن يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم ابنا خالة قال: وبلغني أن عيسى ابن
مريم ويحيى بن زكريا ابنا خالة، وكان حماهُما جميعاً معاً، فبلغني أن أم
يحيى قالت لمريم: إني أرى ما في بطني سجد لما في بطنك، لتفضيل عيسى، فإن
الله جعله يُحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ولم يكن ليحيى عيشٌ إلا عشب
الأرض، وإن كان ليبكي من خشية الله، حتى لو كان على خده القار لأذابه، ولقد
كان الدمع اتخذ في وجهه مجرى.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بيِّن، ليس فيه ما يخفى فيُحتاج إلى بيانه.
وبالله التوفيق.
[ما جاء في أَن الدعاء لا يرد القدَر]
في أَن الدعاء لا يرد القدَر قال: وحدَّثني مالك أن ابناً لعبد الملك بن
مروان مرض، فكأنَّهم رقوا له. قال: فقالت أُمه لو أخرجته إلى القراء والناس
يدعون له. قال: فخرج، ثم إنه مات، قال: فدخل عليها عبد الملك. فقالت: قد
دُعي له فمات، قال عبد الملك: إن لِلَّهِ عَزَائِمَ مِنْ قَضَائِهِ لَا
مَرْدُودَ لَهَا.
قال محمد بن رشد: قول عبد الملك، إن لله عزائم من قضائه لا مردود لها، كلام
ليس بمحصل، لأن فيه دليلاً على أنَّ له عزائم من قضائه يردها الدعاء،
والدعاء لا يرد القضاء، إذ لا يدعو الداعي، ولا يجاب لدعائه إلّاَ بأمر من
الله. قد سبق به القضاء. فقد علم اللهُ في أَزله، من يدعو فيجيب دعاءه، ومن
يدعو فلا يجيب دعاءه. ومن لا يدعو إذا لم يوفقه للدعاء. وعلم أن من قضى
عليه أَن يدعو فيجيب دعاءه فيما دعا به وسأَله لو سبق قضاؤه ألَّا يدعو في
ذلك الشيء لم يكن إذ لم يدع فيه،
(17/249)
لأن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون، إذ
قدْ قدَّره وقضى به ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان. قال عز وجلّ: {وَلَوْ
رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] وهم لا يردون، إذ قد
سبق في علم الله أَنهم لا يردون، فقد يود الرجل الشيء ويُحِب أَن يكون،
فيدعو فيه، فيجيب الله دعاءه فيه، ويكون بما سبق من قضاء بذلك، وقد لا يجيب
دعاءه ولا يكون إذا كان قد سبق من قضاء الله أَن ذلك لا يكون، وقد لا يدعو
فيه فيكون أيضاً. ولا يكون بما سبق أيضاً من قضائه بأن ذلك لا يكون، أَو
يكون.
فلو قال عبد الملك بن مروان: إن عزائِم الله وقضاياه لا مردود لها، لكان
قوله صحيحاً، وإن لم يستجب للداعي فيما دعا فيه، أُجر في دعائه. فكتبت له
به حسنات وكفرت عنه سيئات. لأنَه عبادة من العبادات.
[موقع الحسنة من قلب المؤمن]
في موقع الحسنة من قلب المؤمن
قال مالك: وبلغني أن ابن مسعود قال: لأن أَعلم أَن اللهَ قد قبِل مني حسنة،
أحبُّ إلي ممَّا على الأرض.
قال محمد بن رشد: هذا اعتقاد صحيح، لأن ما على الأرض جميعاً لو كان له يموت
ويتركه. والجزاء من الله عزَّ وجلّ على الحسنة المقبولة سرمداً أبداً لا
نهاية له، فينبغي لكل مسلم أَن يُسر بقبول الله تعالى له حسنة واحدة أكثر
ممَّا يسر بمتاع الدنيا كله لو أعطيه، وأَمكن أن يملكه وينفعه، لأنه متاع
قليل، يموت ويتركه. وبالله التوفيق.
[المشرك يُسلم هل يُثاب على ما عمل من خير في حال شركه]
في المشرك يُسلم هل يُثاب على ما عمل من خير في حال شركه؟ وسُئل مالك عن
عمل أَهل الشرك، أَبلغك أَنهم ما عملوا من خير كتب لهم بعد أن يسلموا
حسناتٍ؟ فأنكر ذلك وقال: لا
(17/250)
أدري ما هذا؟ وإنما الأعمال بالنية فأما
اليهود والنصارى يعملون الآن، فإذا أسلموا كتب لهم، فأنكر ذلك.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا في أن الكافر لا يثاب إذا أسلم بما عمله من
الخير في حال كفره، صحيح، واحتجاجه في ذلك بقول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» . بين واضح، لاسيما بما في الحديث من
قوله فيه: «وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته
إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته
إلى ما هاجر إليه» والكافر ما عمل في حال كفره من صلة رحم أو فعل معروف، أو
عتق رقاب أو قرا ضيف فإنما يريد بذلك أن يحمد بذلك ويشكر عليه، فليس له بما
فعله من ذلك إلا ما نوى به، وإذا كان المسلم لا يكون له بما عمله إذا لم
يرد به وجه الله إلا ما نواه من أمر دنياه، فأحرى ألا يكون للكافر إلا ذلك،
ويؤيد هذا ما روي «عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله: إن أبي كان يفعل
كذا وكذا ويصل الرحم. قال: إن أباك أراد أمرا فأدركه» . أي إنما كان ذلك
منه لمعنى قد بلغه وناله في دنياه، فلا ثواب له عليه في أخراه وقد ينتفع
بذلك ولده من بعده، فيكون له به شرف عند الناس وحرمة، ويؤيد هذا ما روي من
«أن سلمان بن عامر أتى النبي عليه السلام فقال: إن أبي كان يقري الضيف،
ويفعل ويفعل، وإنه مات قبل الإسلام، فقال: " لن ينفعه ذلك ". فلما ولى قال
علي الشيخ، فلما جاء قال إن ذلك لن ينفعه، ولكن في عقبه، إنهم لن يفتقروا
ولن يذلوا ولن يجزوا.» والمعنى في رده إياه والله أعلم أنه أراد أن يبين له
أن قوله لن ينفعه ذلك، إنما أراد بذلك أنه لا ينفعه في الآخرة، ولم يرد أن
المنفعة بذلك في الدنيا تنقطع بموته، إذ قد ينتفع بذلك عقبه من بعده، فيكون
لهم به حرمة يراعون من أجلها ويتمكنون من
(17/251)
اكتساب المال بسببها، فيبين له آخرا ما
أجمله من قوله أولا، وقد قيل في تأويل رده: إنه إنما كان لوحي أتاه به
الملك في الحين. والذي قلته أولى والله أعلم. وما روي «عن حكيم بن حزام أنه
قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرأيت أمورا كنت
أتحدث بها في الجاهلية، من صدقة وعتاقة وصلة رحم، هل لي فيها من أجر؟ فقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أسلمت على ما أسلفت من
خير.» يحمل على أن ذلك الخير هو الخير الذي يناله في دنياه من المحمدة
والشكر والثناء وينتفع به ولده من بعده. فيحظى عند الناس من أجله. وبالله
التوفيق.
[النهبة حكمها]
في النهبة قال مالك: أخبرني شيخ قديم قال: لما كانت فتنة ابن الزبير انتهب
الناس تمرا من تمر مال الله، قال: فاشترت أمي ذلك الثمر، فعملت منه خلا حتى
طاب وذهبت الفتنة، فأمرتني أمي أن أذهب إلى ابن عمر فأسأله عن ذلك، فذهبت
إلى ابن عمر فسألته عنه فأفتاني أن أهرقه، ولا آكله، قال مالك: أرى ابن عمر
إنما كرهه لموضع النهبة.
قال محمد بن رشد: وجه فتوى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المرأة أن
تهرقه ولا تأكله، هو أن الثمر الذي عملته منه هو من مال الله، فكان الحق
منه أن يقسمه الإمام بالاجتهاد، فلما لم تكن هي ممن لها الاجتهاد في ذلك،
لم يأمرها بالتصدق به، ورأى لها الخلاص أن تهرقه ولا تأكله، لأن تصدقها به
من غير أن يكون لها الاجتهاد في ذلك، من جنس النهبة التي وقعت فيه أولا.
والله أعلم. ويحتمل أن يكون ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أفتاه
بإراقته وترك أكله، عقوبة لها على ما فعلت من عملها إياه من التمر المنهوب
ولم يأمرها بالصدقة، لئلا يظن ظان أنها تصدقت به على ملكها، فتكون مأجورة
في فعلها، فيكون ذلك ذريعة إلى استجازة ذلك الفعل، وهذا من
(17/252)
نحو ما قيل فيمن يفعل ما لا يجوز له من
تخليل الخمر إنها لا تؤكل وتهرق، ولا يتصدق بها. وقد ذهب جماعة من العلماء
إلى أن أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بإكفاء القدر يوم خيبر من
لحوم الحمر الأهلية، إنما كان من أجل أنها كانت نهبة. وأما ما ينثر على
الصبيان عند خروج أسنانهم، وفي العرائس، فتكون فيه النهبة، فكرهه مالك بكل
حال، لظهور الآثار الواردة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك. من
ذلك نهيه عن النهبة، وأنه قال: «النهبة لا تحل» وأنه قال: «من انتهب فليس
منا» وفي ذلك تفصيل أما ما ينثر عليهم ليأكلوه على وجه ما يؤكل دون أن
ينتهب حرام، لا يحل ولا يجوز، لأن مخرجه إنما أراد أن يتساووا في أكله على
وجه ما يؤكل. فمن أخذ منه أكثر مما كان يأكل منه مع أصحابه على وجه الأكل
فقد أخذ حراما، وأكل سحتا لا مرية فيه. ودخل تحت الوعيد. وأما ما ينثر
عليهم لينتهبوه، فهذا كرهه مالك، وأجازه غيره. وتأول أن نهي النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الانتهاب، إنما معناه انتهاب ما لم يؤذن في
انتهابه، بدليل ما روي عن عبد الله بن قوط قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب الأيام إلى الله يوم النحر ثم يوم
القر» فقرب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدنات
خمسا، أو ستا فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فلما وجبت جنوبها قال كلمة
خفية لم أفقهها، فقلت للذي كان إلى جنبي: ما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ؟ قال: قال: " من شاء اقتطع ". وما روي من «أن صاحب هدي رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال يا رسول الله: كيف
(17/253)
أصنع بما عطب من الهدي فقال له رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " انحرها، ثم ألق قلائدها في دمها،
ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها» . لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أباح في
هذين الحديثين للناس الذين يحل لهم الهدي أن يأخذ منهم من شاء ما أخذ، من
غير مقدار ولا قسم معلوم، وفي هذا بيان إن شاء الله.
[تحريق رحل الغال]
في تحريق رحل الغال وسئل مالك عن الحديث
الذي جاء فيه من غل أحرق رحله. فأنكر ذلك وقال لا حرق في الإسلام، ولا يحرق
رحل رجل في الإسلام.
قال محمد بن رشد: الحديث الذي جاء بإحراق رحل الغال حديث شاذ لم يأخذ به
مالك ولا أحد من فقهاء الأمصار ولا قال بذلك من الفقهاء إلا مكحول، وقوله
شاذ بعيد في النظر إذ لا يحل إهلاك مال أحد بذنب من الذنوب، وإن قتل. وإن
صح الحديث، فمعناه أنه كان في أول الإسلام حين كانت العقوبات في الذنوب
بالأموال. من ذلك ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في مانع الزكاة
أن خذوها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا. وما روي عنه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ في حريسة الجبل، أن فيها غرامة مثليها وجلدات نكال. وما روي عنه
من أن من أخذ يصيد في حرم المدينة شيئا فلمن أخذه سلبه ثم نسخ ذلك كلها
بالإجماع، على أن ذلك لا يجب، وأن العقوبات إنما تجب في الأبدان، وقد روي
أنه يجب عليه مع حرق رحله، ضرب عنقه. حكى «أن مسلمة بن عبد الملك، دخل
(17/254)
أرض الروم فغل رجل، فبعث مسلمة إلى سالم بن
عبد الله فقال: حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
يقول: " من أخذتموه قد غل فاضربوا عنقه وأحرقوا متاعه» وهذا ما لم يقل به
أحد من فقهاء الأمصار، ويعارضه القرآن قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا
مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] فإذا لم يجب على السارق في سرقة ما لا حظ له
فيه، ضرب عنقه، فأحرى ألا يجب ذلك على من سرق من المغنم الذي له فيه حظ.
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يحل دم امرئ
مسلم إلا بإحدى ثلاث: أن يكفر بعد إيمان أو يزني بعد إحصان أو يقتل نفسا
بغير نفس» فاقتضى ذلك إسقاط القتل عمن سوى هؤلاء الثلاث نصا، فلا يصح أن
يوجب القتل على الغال بهذا الحديث، وإن صح إلا أن يعلم أنه كان بعده، فيكون
ناسخا له، لأنه إذا احتمل أن يكون قبله وأن يكون بعده، لم يصح أن يحمل على
أنه كان بعده، لأن الدماء محظورة فلا تباح إلا بيقين.
[ركوع الإمام وغيره في المسجد بعد الجمعة]
في ركوع الإمام وغيره في المسجد بعد الجمعة
قال مالك: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى الجمعة
انصرف من المسجد ولم يركع بعدها في مقامه شيئا. قال مالك: والإمام يفعل
ذلك، فأما الناس، فمن شاء ركع، ومن شاء لم يركع، قال ابن القاسم: وأحب إلى
غير الإمام أن يرجع إلى بيته فيصلي ركعتين.
(17/255)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام
عليها في رسم حلف قبل هذا مستوفى فلا معنى لإعادته.
[المثل الذي ضربه رسول الله لأمته مع من قبلها من الأمم]
في المثل الذي ضربه رسول الله لأمته مع من
قبلها من الأمم وحدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن
عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «إنما أجلكم فيما خلا من الأمم
كمثل ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى
كرجل استعمل عمالا فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط، قيراط فعملت
اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار
إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى على قيراط قيراط ثم قال من
يعمل من صلاة العصر إلى مغيب الشمس على قيراطين قال: فأنتم الذين تعملون من
صلاة العصر إلى مغيب الشمس على قيراطين قيراطين. قال: فغضبت اليهود
والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال: فهل ظلمتكم من حقكم شيئا؟
قالوا: لا. قال: فإن فضلي أوتيه من أشاء» .
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث مثلان، ضربهما النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
-، أحدهما في مقدار مدة أمته، من سائر الأمم، وهو قوله في أول الحديث: إنما
أجلكم فيما خلا من الأمم، كمثل صلاة العصر إلى مغرب الشمس، فأعلم صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ بهذا المثل، أن نسبة مدة أمته، من نسبة مدة سائر الأمم
كنسبة مدة ما بين العصر إلى المغرب من نسبة مدة جميع النهار، وذلك نحو
الربع في المقادر. والمثل الثاني في مقدار أجور
(17/256)
أمته، من أجور أهل التوراة، والإنجيل. وهو
قوله: " وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا " إلى آخر
الحديث. فأعلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بهذا المثل، أن أجور أمته ضعف أجور
أهل التوراة وضعف أجور أهل الإنجيل، وإن كانوا أقل عملا منهم؛ لأن مدتهم
أقصر مدة منهم. وهذا في الجملة، والمعنى فيه على التفصيل، والله أعلم، أن
لمن آمن بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وعمل بما شرعه إلى أن توفي، من
الأجر ضعف ما لمن آمن بموسى وعمل بما شرعه، إلى أن توفي، وضعف ما لمن آمن
بعيسى وعمل بما شرعه إلى أن توفي أيضا، وقد خرج البخاري هذا الحديث عن عبد
الله بن عمر، من غير رواية مالك معناه وإن خالفت ألفاظه ألفاظه، وخرجه من
رواية يزيد عن أبي بردة عن أبي موسى بما يخالف لفظه ومعناه، من الأجراء
الآخرين الذين عملوا من العصر إلى المغرب، يستوجبون أجر الفريقين جميعا
الذين عملوا من أول النهار إلى نصف النهار، ومن نصف النهار، إلى حين صلاة
العصر، ويذهبان غما ولا شيء لهما. وهذا المثل إنما ضربه صلى الله عليه فيمن
آمن بموسى من أهل التوراة، وكان على شرعه، إلى أن بعث عيسى، فلم يؤمن به،
وفيمن آمن من أهل الإنجيل بعيسى، وكان على شرعه، إلى أن بعث النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلم يؤمن به؛ لأن هذين يبطل أجرهما جميعا، الأول
بكفره بعيسى، والثاني بكفره بمحمد عليه السلام، ويكون لمن آمن بالنبي عليه
السلام ضعف ما كان يكون لمن آمن بموسى ولم يدرك عيسى ولا كفر به، وضعف ما
كان يكون لمن آمن بعيسى، ولم يدرك نبينا عليه السلام، ولا كفر به. وأما من
آمن بموسى وكان على شرعه إلى أن بعث عيسى فآمن به، أو كان على شرع عيسى إلى
أن بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فآمن به، فله أجره مرتين، على ما جاء
فيما كتب به النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى هرقل، وبالله التوفيق.
(17/257)
[أنكر لون ولده]
في الذي أنكر لون ولده وحدثني عن ابن
شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: «أن رجلا من أهل المدينة أتى إلى
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فقال: يا رسول الله، ولدت امرأتي غلاما
أسود. فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك من
إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن
فيها لورقا. قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: فأراه عرقا نزعه، قال: فلعل ابنك
نزعه عرق» .
قال محمد بن رشد: زاد في حديث آخر: ولم يرخص له في الانتفاء منه. وهو
المعنى فيه. فلا اختلاف فيمن أقر بوطء امرأته فجاءت بولد لما يلحق به، ولم
يستبرئها، فأنكر لونه أنه يلزمه، ولا يكون له أن ينفيه عن نفسه؛ لأن اللعان
لا يكون إلا على ستة أوجه، الثلاثة منها متفق عليها، وهي أن ينفي حملا لم
يكن مقرا به ويدعي الاستبراء، أو يدعي رؤية لا مسيس بعدها في غير ظاهرة
الحمل، أو ينكر الوطء جملة، فيقول: لم أطأها قط، أو منذ مدة كذا وكذا، لما
لا تلحق به الأنساب. والثلاث المختلف فيها هي أن يقذف زوجته ولا يدعي رؤية،
أو ينفي حملها ولا يدعي استبراء، أو يدعي رؤية ولا مسيس بعدها في حامل بينة
الحمل. وفي هذا الحديث إثبات الحكم بالقياس؛ لأن القياس إنما هو تمثيل
الشيء بالشيء، وإجراء حكمه عليه. وبالله التوفيق.
[الاستعانة بالمشرك على قتال العدو]
في الاستعانة بالمشرك وحدث عن مالك، عن الفضيل بن أبي عبد الله، عن
(17/258)
عبد الله بن دينار، عن عروة بن الزبير، «عن
عائشة زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنها قالت: خرج النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة، أدركه رجل قد كان يذكر منه
جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
حين رأوه، فلما أدركه قال: يا رسول الله: جئتك لأتبعك، وأصيب معك، فقال له
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: أرجع
فلن أستعين بمشرك، قالت عائشة: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل
فقال كما قال أول مرة، فقال: لا، أرجع فلن أستعين بمشرك، قالت. فرجع، ثم
أدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم،
قال: فانطلق» .
قال محمد بن رشد: وقع هذا الحديث في كتاب الجهاد من المدونة، وأخذ به مالك
وأصحابه، فلم يجيزوا للإمام أن يستعين بالكفار على قتال العدو، ولا أن يأذن
لهم في الغزو مع المسلمين، ولا منفردين أيضا؛ لأنه وجه من العون، ولأنهم
يستبيحون فيه ما لا يجوز في الغزو على ما قاله أصبغ في نوازله؛ لقول النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لن أستعين بمشرك» . ولما روي من «أن الأنصار
قالوا يوم بدر: ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا حاجة لنا فيهم» . وهو نص قول ابن القاسم
في سماع يحيى من كتاب الجهاد. قال: لا أحب للإمام أن يأذن لهم بالغزو.
ودليل على أنهم إن لم يستأذنوه لم يجب عليه أن يمنعهم.
(17/259)
وعلى هذا يحمل غزو صفوان بن أمية مع رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حنينا والطائف، خلاف قول أصبغ
في نوازله إنهم يمنعون من ذلك أشد المنع. وقد ذكر أبو الفرج عن مالك أنه لا
بأس على الإمام أن يستعين بالمشركين في قتال المشركين إذا احتاج إلى ذلك.
وهو دليل قوله للأنصار: لا حاجة لنا فيهم. وقد روي عنه - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - «أنه لما بلغه جمع أبي سفيان ليخرج إليه يوم أحد استعان بيهود
النضير. فقال لهم: (إنا وأنتم أهل كتاب، وإن لأهل الكتاب النصر على أهل
الكتاب، فإما قاتلتم معنا، وإما أعرتمونا سلاحا» فإن غزوا بإذن الإمام أو
بغير إذنه منفردين تركت لهم غنيمتهم ولم تخمس، وإن غزوا مع المسلمين في
عسكرهم، لم يكن لهم في الغنيمة نصيب، إلا أن يكونوا متكافئين أو يكونوا هم
الغالبين فتقسم الغنيمة بينهم وبين المسلمين قبل أن تخمس، ثم يخمس سهم
المسلمين خاصة. وأهل الكتاب وغيرهم عند مالك سواء في هذا. وحكى الطحاوي عن
أبي حنيفة وأصحابه أنهم أجازوا الاستعانة بأهل الكتاب دون من سواهم من
المشركين عبدة الأوثان والمجوس، وصحح الآثار على ذلك. قال: وإنما لم يستعن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحلفاء الأنصار من يهود،
للحلف الذي كان بينهم وبين عبد الله بن أبي المنافق؛ لأنهم خرجوا بذلك من
حكم أهل الكتاب، وهو من التأويل البعيد، ولا بأس بأن يستعار السلاح من
الكفار، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأجاز
ابن حبيب أن يقوى الإمام على من سالمه من أهل الحرب على من لم يسالمه منهم
بالقوة والسلاح أن يسايروا عسكر المسلمين ما لم يكونوا في داخله وبسبيل
أهله. وقد مضى في أول سماع يحيى من كتاب الجهاد، وبالله التوفيق.
(17/260)
[في الرؤيا
والحلم]
وحدثنا محمد بن أحمد العتبي، عن عيسى بن دينار، أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان،
فإذا رأى أحدكم الذي يكرهه في منامه فلينفث عن يساره ثلاث مرات ويتعوذ
بالله من الشيطان الرجيم، فإنها لا تضره» . قال عيسى: وقال لي ابن وهب مثل
هذا، إلا أنه قال: يقول: «أعوذ بالله بما عاذت به ملائكة الله ورسوله من شر
ما رأيت في منامي أن يصيبني منه شيء أكرهه في الدنيا والآخرة وليتحول على
شقه الآخر» .
قال محمد بن رشد: الحديث الذي ذكره موسى عن عيسى بن دينار هو في الموطأ
مسند من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي قتادة بن ربعي أنه سمع النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «الرؤيا الصالحة من الله» . الحديث. فزاد
فيه الصالحة. وهو يبين ما في الحديث. والمعنى فيه أن الرؤيا الصالحة وهي
الحسنة التي تبشر بالخير في الدنيا وفي الآخرة، لا مدخل فيها للشيطان. وهي
من الله جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة، إذا رآها الرجل الصالح. وروي
من خمسة وأربعين جزءا، وروي من سبعين جزءا. والمعنى في هذه التجزئة، أن ما
يصاب في تأويله من هذه الرؤيا التي هي على الصفة المذكورة، يتخرج على ما
يعبر به مما يخطأ في تأويله. فلا تخرج على ما يعبر يكون جزءا من خمسة
وأربعين أو من ستة وأربعين أو من سبعين، إذ لو خرجت كلها على ما تعبر لكانت
كالنبوءة في الإخبار
(17/261)
بالمغيبات. وهذا هو الفرق بين الأنبياء
وبين رؤيا سائر الناس؛ لأن رؤيا سائر الناس قد يخطأ في تأويلها فلا تخرج
على ما تعبر. وقد يصاب في تأويلها فتخرج على ما تعبر. وما يصاب في تأويله
منها هو الجزء من النبوءة، لكونه في معنى النبوءة. فالرؤية الصالحة المبشرة
من الله عز وجل، جزء من الأجزاء المذكورة في الحديث، إن كانت من الرجل
الصالح، وإن لم تكن من الرجل الصالح فلا يقال فيها، وإن كانت من الله عز
وجل، إنها جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوءة، ولا من ستة وأربعين، ولا
من سبعين. والرؤيا المكروهة تنقسم على قسمين: منها رؤيا من الله عز وجل، قد
يصاب في تعبيرها فتخرج على ما يعبر به، وقد يخطأ في تعبيرها فلا تخرج على
ما تعبر به، ولا يقال فيها أيضا: إنها جزء من خمسة وأربعين جزءا ولا من ستة
وأربعين ولا من سبعين. ومنها حلم من قبل الشيطان، يحزن به الإنسان لا يضر
رائيه، فأمر الرجل إذا رأى في منامه ما يكرهه أن يستعيذ بالله من شر ما
رأى، فإذا فعل ذلك موقنا بما روي في ذلك لم يضره ما رأى، أو المعنى في ذلك
أن الله لا يوفقه للاستعاذة مما رأى إلا بيقين صحيح، إلا فيما هو من تحزين
الشيطان، وفيما هو بخلاف ما تأوله مما كره. وقد يصرف الله عنه ما كرهه مما
رآه في منامه، وإن كان من الله، بالاستعاذة منه، كما يصرف عنه سوء القدر
بالدعاء الذي سبق في علمه أنه يصرف به على ما تقدم القول فيه قبل هذا
الرسم، وبالله التوفيق.
تم الجزء الثاني من الجامع بحمد الله.
(17/262)
|