البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [كتاب الجامع الأول] [لباس الحرير للرجال]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب الجامع الأول من سماع ابن القاسم، من كتاب أوله مساجد القبائل، قال مالك: رأيت ربيعة يلبس القلنسوة وبطانتها وظهارتها خز وكان إماما.
قال محمد بن رشد: الخز هو ما كان سداه حريرا فالحم بالوبر.
وقد اختلف فيه وفيما كان في معناه من الثياب المشوبة بالكتان والقطن كالمحررات التي سداها حرير وطعمتها قطن وكتان - على أربعة أقوال:
أحدها: أن لباسها جائز من قبل المباح، من لبسها لم يأثم بلبسها، ومن تركها لم يؤجر بتركها، وهو مذهب
ابن عباس وجماعة من السلف، منهم ربيعة على قوله في هذه الرواية؛ لأن لباس القلنسوة لباسهم؛ لأنهم تأولوا أن النهي والتحريم في لباس الحرير للرجال إنما ورد في الثوب المصمت الخالص من الحرير.
والثاني: أن لباسها غير جائز، وإن لم يطلق عليه أنه حرام، فمن لبسها أثم، ومن تركها نجا، إذ قد قيل في حلة

(17/5)


عطارد السيراء، التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» - إنها كانت يخالطها الحرير، كانت مضلعة بالقز، وهو مذهب عبد الله بن عمر، والظاهر من قول مالك، وإن كان قد أطلق القول فيه أنه مكروه، والمكروه ما كان في تركه ثواب، وليس في فعله عقاب. إذ قد يطلق فيما هو عنده غير جائز، تحرزا من أن يحرم ما ليس بحرام، والذي يدل على ذلك من مذهبه قوله في المدونة: وأرجو أن يكون الخز في الصبيان خفيفا.
والثالث: إن لباسه مكروه على حد المكروه، من لبسه لم يأثم بلبسه، ومن تركه لم يؤجر على تركه، وهذا هو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأن ما اختلف أهل العلم فيه لتكافؤ الأدلة في تحليله وتحريمه، فهو من المشبهات التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه من اتقاها فقد استبرأ لدينه وعرضه» ، وعلى هذا القول يأتي ما حكاه مطرف من أنه رأى على مالك بن أنس كساء

(17/6)


إبريسم كساه إياه هارون الرشيد، إذ لم يكن ليلبس ما يعتقد أنه يأثم بلباسه.
والرابع: الفرق بين ثياب الخز وسائر الثياب المشوبة بالقطن والكتان، فيجوز لباس ثياب الخز اتباعا للسلف، ولا يجوز لباس ما سواها من القطن والكتان، بالقياس عليها؛ لأن الخز إنما استجيز اتباعا للسلف؛ لأن لباسه رخصة، والرخص لا يقاس عليها، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وهو أضعف الأقوال، إذ لا فرق في القياس بين الخز وبين غيره من المحررات التي قيامها حرير ة وطعمها قطن أو كتان؛ لأن المعنى الذي من أجله استجاز لباس الخز من لبسه من السلف أنه ليس بحرير محض، موجود في المحررات وشبهها، فلهذا المعنى استجازوا لبسه لا من أجل أنه خز، إذ لم يأت أثر للترخيص لهم في لباس الخز، فيختلف في قياس غيره عليه. وبالله التوفيق.

[يعاب العالم بما لا يؤثر في عدالته]
خبر: قد يعاب العالم بما لا يؤثر في عدالته قال مالك: بلغني أن رجلا دخل على رجل له قدر، وهو يأكل، فلم يعرض عليه أن يأكل معه، فعاب عليه ذاك ذلك الرجل، فقال: إن في مستمعها أمورا كثيرة وقد يكون في العالم الأمر يعاب به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن هذا مما يعاب به الرجل؛ لأنه من مذموم الأخلاق، وليس من مكارمها ومحاسنها، وإن النقص الذي يعاب به الرجل لا يخلو من أكثر البشر. فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاثة: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد» .

(17/7)


وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية ابنة مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد» وليس لهذا العيب تأثير في العدالة؛ لأنه إنما يؤثر فيها العيوب في الأديان، لا في الأخلاق ولا في الأبدان.

[خبر في فضل أبي أيوب الأنصاري وعمر بن عبد العزيز]
وقال مالك: بلغني أن الروم يستصبحون على قبر أبي أيوب الأنصاري. قال مالك: وبلغني أن صالح بن علي مر بموضع قبر عمر بن عبد العزيز، فقيل له: إن هاهنا راهبا قديما فأرسل إليه لعله يعرف موضعه، فقال: عمن تسألني؟ عن قبر الصديق؟
قال محمد بن رشد: أبو أيوب الأنصاري هذا، من كبار أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، شهد العقبة وبدرا وسائر المشاهد، عليه نزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قدم المدينة مهاجرا من مكة، حتى بنى مسجده ومساكنه، فانتقل إليها، وكان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، مع علي بن أبي طالب في الحروب كلها، ومات بالقسطنطينية في خلافة معاوية، خرج إليها غازيا تحت راية يزيد فمرض بها، فلما ثقل عاده يزيد، فأوصاهم إذا مات أن يكفنوه ثم يأمر الخيل بالركوب، فيحملوه إلى حيث يقدرون على الوصول إليه فيدفنونه تحت أقدامهم عند مصاقبتهم

(17/8)


العدو، ففعلوا، فقبره عند سورها معلوم معظم محفوظ يستصبحون عليه على ما قاله في الرواية، ويستسقون به إذا أمحلوا فيسقون. ويروى أن يزيد أمر الخيل أن تقبل وتدبر على قبره ليعفى أثره، فقال لهم الروم صبيحة دفنهم إياه: لقد كان لكم شأن، فقالوا: نعم صاحب لنا من كبار أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي ودفناه حيث رأيتم فوالله لئن نبشتموه، لا يضرب لكم ناقوس بأرض العرب ما دامت لنا مملكة، فما أقدموا على ذلك بل تنافسوا في حفظه، وتبركوا بقبره، وذلك كرامة عظيمة من الله عز وجل. وقول الراهب في عمر بن عبد العزيز عمن تسألني عن قبر الصديق؟ هو من هذا المعنى؛ لأن الله إذا أحب عبدا أحبه أهل السماء، ووضع له القبول في الأرض، وانطلقت الألسنة بالثناء عليه. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه فانظروا ماذا يتبعه من حسن الثناء» . وبالله التوفيق.

[خبر في صفة الريح التي عذب بها عاد]
قوم هود
قال مالك: وسئلت امرأة من بقية قوم عاد يقال لها هريمة: أي عذاب الله أشد؟ قالت: كل عذابه شديد، وسلامة الله ورحمته ليلة لا ريح فيها، ولقد رأيت العير يحملها الريح فيما بين السماء والأرض، ويقال: ما فتح عليهم إلا مثل حلقة الخاتم،

(17/9)


ولو فتح عليهم مثل منخر الثور لأكفت الأرض.
قال الإمام القاضي: يشهد بصحة هذه الحكاية قول الله عز وجل: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} [الذاريات: 42]-يريد: ما مرت به- {إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42] أي: كالشجر اليابس الهشيم، ومنه قَوْله تَعَالَى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] يريد: مما مرت به، إذ لم تدمر هودا، ولا من كان آمن به، وذلك أن هودا لما خوف قومه بعذاب الله إن لم يؤمنوا به، سخروا به، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22] {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحقاف: 23] ، أي: لا يعلم متى يأتي العذاب إلا الله {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف: 23] {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] فرحوا به لأنهم كانوا في محل وظنوا أنهم يمطرون به، وقالوا: كذب هود كذب هود، فلما خرج نبي الله هود، فشامه، قال لهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] فجاءتهم ريح جعلت تلقي الفسطاط، وتجيء بالرجل الغائب، وتذهب بالظعينة حتى ترى كأنها جرادة، تدمر كل شيء مما مرت به، ترمي بعضه على بعض وتهلك. ومما قاله في الحكاية من قوله: ويقال ما فتح عليهم إلا مثل الخاتم، ولو فتح عليهم مثل منخر الثور لأكفت الأرض، هو مروي عن ابن عباس. ومثله لا يكون رأيا. قال: ما أرسل الله على عاد من الريح إلا قدر خاتمي هذا. ونزع خاتمه، يريد والله أعلم: فتح الله عليهم من خزائن ريح

(17/10)


العذاب بابا إلا بقدر حلقة الخاتم. وبالله التوفيق.

[الإشفاق من استفتاء من ليس من أهل الفتوى]
في الإشفاق من استفتاء من ليس من أهل الفتوى قال مالك: إن ربيعة بكى، فقيل له: ما الذي يبكيك؟ أقضية نزلت بك؟ قال: لا ولكنه أبكاني أنه اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ. قال: وسمعت مالكا يقول: كان سليمان بن يسار أفقه رجل كان ببلدنا بعد سعيد بن المسيب، والكثير ما كانا يتفقان في القول، فكان إذا ارتفع الصوت في مجلسه، أو كان مرا أخذ نعليه ثم قام.
قال محمد بن رشد: إنما بكى ربيعة من استفتى من لا علم له؛ لأن ذلك مصيبة في الدين، وهي أعظم من المصيبة في المال. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من قلوب الناس، ولكنه يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» ، فلا يصح أن يستفتى إلا من كان من العلماء الذين كملت لهم آلات الاجتهاد، بأن يكون عارفا بالكتاب، والذي يجب عليه أن يعلم منه ما تعلق بذكر الأحكام من الحلال والحرام، فيعرف مفصله ومجمله، ومحكمه وناسخه ومنسوخه، دون ما فيه من القصص والأمثال، والمواعظ والأخبار، ويحفظ السنن المروية عن النبي في ذلك من بيان الأحكام وناسخها ومنسوخها ويعرف معاني الخطاب وموارد الكلام ومصادره، من الحقيقة والمجاز، والخاص والمفصل والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، ويعرف من اللسان ما

(17/11)


يفهم به معاني الكلام ويعرف أقاويل العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وما اتفقوا عليه مما اختلفوا فيه، ويعرف وجه النطق والاجتهاد والقياس، ووضع الأدلة في مواضعها والترجيح والتعليل. وما تضمنته هذه الحكاية من أن سعيد بن المسيب كان أفقه من سليمان بن يسار هو المشهور الذي ذهب إليه مالك ومن أخذ بناحيته. وأما ربيعة وعبد العزيز بن أبي سلمة، ومن أخذ بناحيتهما وأهل الكوفة، فيقولون: سليمان بن يسار أفقههما، وقد قيل: إن الفقه كان له، والذكر لسعيد، فهما جميعا فرسا رهان في الفقه والدين والورع. وما حكاه عن سليمان بن يسار: من أنه كان إذا ارتفع الصوت في مجلسه أو كان مرا أخذ نعليه ثم قام - من أدل الدلائل على ورعه وخيره وفضله؛ لأن رفع الصوت في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكروه حتى في العلم، فقد كان رسول أمير المدينة يقف بابن الماجشون في مجلسه إذا استعلى كلامه وكلام أهل مجلسه، فيقول له: يا أبا مروان، اخفض من صوتك، وأمر جلساءك يخفضوا من أصواتهم. روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم وبيعكم وشراءكم وسل سيوفكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم، وجمروها أيام جمعكم، واجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم» . وبنى عمر بن الخطاب رحبة بناحية المسجد تسمى البطيحاء، وقال: من أراد أن يلغط وينشد شعرا ويرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة. والمراء في العلم منهي عنه. فقد جاء: أنه لا تؤمن فتنته، ولا تفهم حكمته. وبالله التوفيق.

[رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل ولا حرم إلا ما في كتاب الله]
في أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل ولا حرم إلا ما في كتاب الله قال مالك: بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال

(17/12)


في اليوم الذي توفي فيه، ووقف على بابه، فقال: «إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه، يا فاطمة بنت رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله، اعملا لما عند الله، فإني لا أغنيكما من الله شيئا» .
قال الإمام القاضي: هذا حديث يدل على صحته قول الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقال: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فالمعنى في ذلك أن الله عز وجل نص على بعض الأحكام، وأجمل القرآن في بعضها، وأحال على الأدلة في سائرها بقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فبين النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما أجمله الله في كتابه كما أمره به حيث يقول: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فما أحل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أو حرم ولم يوجد في القرآن نصا فهو مما يبين من مجمل القرآن أو علمه بما نصب من الأدلة فيه. فهذا معنى قوله والله أعلم: «لا أحل إلا ما أحل الله في

(17/13)


كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه» ، فما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

[تفسير قول النبي عليه السلام أمرت بقرية تأكل القرى]
في تفسير قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«أمرت بقرية تأكل القرى» " وسئل مالك: عن تفسير حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت بقرية تأكل القرى» قال: يثرب تفتح في رأيي، قال: وأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] قال: يلون المدينة.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك لهذا الحديث بين صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن معناه أمرت بالهجرة من مكة إلى قرية تفتح منها القرى، وهي التي يسميهما الناس يثرب، فكان كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتحت عليه وعلى أصحابه بعده منها سائر القرى وهي المدن والأمصار. وتمام الحديث في الموطأ وهو قوله: «يقولون يثرب وهي المدينة، تنفي الناس كما تنفي الكير خبث الحديد» فمعنى قوله "يقولون يثرب " أي: يسميها الناس يثرب وهي المدينة، فسماها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وقوله «تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد» ليس على عمومه، ومعناه: في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لا يخرج من المدينة في حياة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ويرغب عن المقام معه إلا مريض

(17/14)


الإيمان، وأما بعد وفاته، فقد خرج منها إلى العراق والشام جماعة من جلة أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمون الناس القرآن والإسلام؛ لأنهم رأوا ذلك أفضل من المقام بالمدينة بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وإن كان الصلاة في مسجده خيرا من الصلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام لعظم الأجر على تعليم الناس الإسلام والقرآن، والله أعلم.

[مواساة الأنصار للمهاجرين]
في مواساة الأنصار للمهاجرين قال: وسمعت مالكا: «لما قدم المهاجرون على الأنصار، قال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: واسوهم، قالوا: يا رسول الله، نقاسمهم الثمر، قال: أَوَغَيْرَ ذلك، قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: يكفونكم المئونة وتقاسمونهم الثمر، قالوا: سمعنا وأطعنا» . قال: إن كان أحدهم لتكون له امرأتان فيخير أخاه في أيتهما شاء. وما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة إلا وما دار من دور الأنصار إلا وفيها الأنصار.
قال محمد بن رشد: في هذا فضل الأنصار في مواساتهم المهاجرين القادمين عليهم، وكفى بالثناء على ذلك قوله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فيما أشار عليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أن يكفوهم المؤونة، ويقاسموهم الثمر

(17/15)


جواز المساقاة على ما ذهب إليه مالك وجميع أصحابه والشافعي، فهو حجة له في إجازتها وتبطل عند أبي حنيفة فيما ذهب إليه من أنها لا تجوز قوله: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما ساق يهود خيبر من أجل أنهم كانوا عبيدا للمسلمين، وبالله التوفيق.

[ما يفضل به العراق على الشام]
في ما يفضل به العراق على الشام قال: وسمعت مالكا يقول: أقدم معاوية بن أبي سفيان رجلا من أهل الدين والفضل الشام، فقال: سئل بعد ذلك: كيف وجدت الشام؟ فقال: ما رأيت إلا خيرا، إلا أن ظمأ الهواجر الذي كان يصيبني بالعراق لم أجده، وإني كنت أسمع المؤذنين يتجاوبون عند الصلاة، وإني أسمع هاهنا النواقيس، وإني كنت أجالس أقواما يتخيرون طيب الكلام، كما يتخير أطايب الثمر. قال سحنون: هو عامر بن عبد قيس.
قال محمد بن رشد: فضل العراق على الشام بثلاثة: أحدها: ظمأ الهواجر فيها، وهو شدة ما يصيب الصائم في صيامه فيه من أجل حره؛ لأن العراق بلاد حرارة، والشام بلاد باردة، والأجور في الأعمال على قدر ما يلحق العامل من المشقة فيها، فكأن الصيام في العراق أفضل من الصيام بالشام، ألا ترى أن أجر المتوضئ في الوضوء، في زمان البرد والشتاء أكثر من أجره في زمان الحر والصيف، وذلك بين من قوله في الحديث: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد» ... الحديث، والثاني: كثرة أهل الخير

(17/16)


فيه، والثالث: عدم سماع النواقيس فيه، إذ لا أهل ذمة فيه، وإن كان فيسير، بخلاف الشام، والله أعلم.

[فضل سعد بن معاذ]
فيما يروى من فضل سعد بن معاذ قال مالك: مر سعد بن معاذ بعائشة وهي في أطم من الآطام، عليه درع مقلصة مشمرة الكمين، فقالت عائشة: ما أخاف على الرجل إلا من أطرافه، وما رأيت رجلا أجمل منه حاشى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأصيب أكحله، فقال: اللهم إن كانت حرب بني قريظة لم يبق منها شيء فاقبضني إليك، وإن كانت بقيت فأبقني حتى أجاهد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعداءه، فلما حكم في بني قريظة، توفي وفرح الناس، وقالوا: نرجو أن تكون قد استجيبت دعوة سعد.
قال محمد بن رشد: سعد بن معاذ من فضلاء الصحابة من الأنصار، رُوِيَ عن عائشة أنها قالت: كان في عبد الأشهل ثلاثة، لم يكن بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أحد أفضل منهم: سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وعباد بن بشر، وهو الذي جاء فيه أنه اهتز العرش لموته. وفضائله أكثر من أن تحصى والآطام الحصون فمروره بعائشة وهي في حصن من الحصون كان في بعض غزواتها مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقرع بين نسائه عند غزوه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها. ولما رأته في درع مقلصة مشمرة الكمين أعجبها ذلك منه لما فيه مما يبعد

(17/17)


الكبر عنه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين لا ينظر الله عز وجل يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا» . وَرُوِيَ عن ابن عباس أنه كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قميص قطني قصير الطول، قصير الكمين. وروي عن أنس قال: قميص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى رسغه.
وكان سعد بن معاذ أصيب أكحله يوم الخندق بسهم رمي به، فضرب له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيمة في المسجد، ونقله إليها ليعوده من قريب، فكان يعوده كل يوم إلى أن نزفه الدم فمات من جرحه بعد الخندق بشهر وبعد قريظة بليالٍ، وكان قد دعا الله قبل موته بما جاء في الرواية. وروي أنه قال في دعائه: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعل لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. فلما نزل بنو قريظة على حكم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَكَّمَهُ فيهم فحكم أن تقتل رجالهم ويسبى نساؤهم وذَرَارِيهِمْ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أنفعة» ، وكانوا أربعمائة، فأمر بهم رسول الله صلى

(17/18)


الله عليه وسلم فَأُخرجوا وخندق لهم خناديق، وضربت رقابهم فيها، فلما فرغ من قتلهم انفتق عرقه، فمات، فعلم أنه استجيبت دعوته. وبالله التوفيق.

[الالتحاء بالعمامة]
في ترك الالتحاء بالعمامة وسئل مالك: عن العمامة يعتم بها الرجل في بيته عند غسله أو مرضه، ويصلي بها في بيته، لا يجعلها تحت حلقه، قال: لا بأس بذلك، يردده على أنه لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله لا بأس بذلك، أي: لا كراهية في ذلك وأما في المساجد والجماعات، فيكره ترك الالتحاء بها، ويقال: إن ذلك من بقايا عمل قوم لوط، ولما كان التعمم من غير التحاء خلاف شكل العربي المستحسن، كره تركه في المساجد، اتباعا لظاهر قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ، والمصلي يناجي ربه، ويقف بين يدي خالقه، وهو أحق من تزين له. وقد رأى عبد الله بن عمر مولاه يصلي بغير رداء، فقال له: أرأيت لو كنت مرسلك إلى السوق، أهكذا كنت تمضي؟ قال: لا، قال: فالله أحق من تجمل له.

[لباس القلانس]
في لباس القلانس وسئل مالك: عن القلانس، هل كانت قديمة ومن أول من أحدثها؟ قال: كانت في زمان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقبل ذلك فيما روي، وكانت لخالد بن الوليد قلنسوة، قاتل بها يوم اليرموك وكان اليوم شديدا، فوقعت

(17/19)


من رأسه، فدخل مدخلا متعبا في طلبها حتى أخرجها، فعوتب في ذلك، فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين حلق ناصيته، أخذت شعره، فحملته فيها، فلذلك طلبتها.
قال محمد بن رشد: القلانس ما كان لها ارتفاع في الرأس على أي شكل ما كانت. وقد روي عن ابن عمر أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبس قلنسوة بيضاء» . وهو يشهد لما قاله مالك في هذه الحكاية من أن القلانس كانت في زمن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأنها من الزي الحسن، وبالله التوفيق.

[سرد الصيام]
في سرد الصيام قال: وسمعت مالكا يقول: سرد سعيد بن المسيب الصيام، فقيل له: إن قوما يحتجون بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعثمان بن مظعون، فقال: إن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كان إمام المسلمين كان يعمل الأشياء ليوسع على الناس، وقد سرد قوم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: سرد الصيام هو أن يتابع الرجل إياه، فلا يفطر إلا في الأيام المنهي عن صيامها، وذلك صيام الدهر وقد كرهه جماعة من العلماء لحديث أبي قتادة «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه سئل عن صيام الدهر، فقال: " من فعل ذلك لا صام ولا أفطر، أحب الصيام إلى الله عز وجل

(17/20)


صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما» . ولا حجة لهم في الحديث؛ لأن قوله فيه: «لا صام ولا أفطر» ليس معناه الدعاء عليه، فيقتضي ذلك النهي عن صيام الدهر، وإنما معناه: ما صام وما أفطر؛ لأن الحروف قد يبدل بعضها من بعض، أي: ما صام الصيام الذي أعلى مراتب الصوم، إذ لا يؤمن أن يضعف على التمادي على ذلك، أو على سائر ما كان يفعله من أعمال البر، كالصلاة وقراءة القرآن، وما أشبه ذلك من الأعمال التي قد يضعف عنها بموالاة الصيام.
وذكر في الرواية: أن قوما يحتجون لذلك بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعثمان بن مظعون، ولم يذكر فيها نص ما قاله له. وفي الصحيح عن أنس بن مالك أنه قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: وأين نحن من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» . فإن كان عثمان بن مظعون أحد هؤلاء الثلاثة رهط، فهذا هو نص الكلام الذي قاله له، وإن لم يكن هو فالكلام الذي قاله له هو ما كان في معناه والله أعلم، يدل على ذلك تأويل مالك له، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعمل الأشياء ليوسع على الناس، وهو تأويل جيد؛ لأن معناه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم ويفطر، وإن كان الأفضل أن يسرد الصيام مخافة أن يسرده الناس، فلا يقدرون على التمادي على ذلك، ويضعفون عن سائر

(17/21)


أعمال البر، فلا يختار الرجل أن يترك سرد الصيام إلا مخافة أن يضعف على التمادي على ذلك، وعن سائر أعمال البر؛ لأن الصوم والفطر أفضل من سرد الصيام إذا لم يضعف عن التمادي ولا على شيء من أعمال البر، فهذا معنى ما ذهب إليه مالك. يشهد بصحته قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقوله: {اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله لا يمل حتى تملوا، اكلفوا عن العمل ما لكم به طاقة» ، وقوله: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» .

[الحجامة والإطلاء يوم السبت والأربعاء]
في الحجامة والإطلاء يوم السبت والأربعاء وسئل مالك: عن الحجامة والإطلاء يوم السبت ويوم الأربعاء؟ قال: لا بأس بذلك، فقيل له: فتفعله أنت، قال: نعم، وَأُكْثِرُهُ وأتعمده، وليس يوم إلا وقد احتجمت فيه، ولا أكره شيئا من هذا لا حجامة ولا طلاء ولا نكاحا ولا سفرا في شيء من الأيام.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا بأس بالحجامة

(17/22)


والإطلاء والنكاح والسفر وغير ذلك من الأشياء في يوم السبت ويوم الأربعاء؛ لأن الامتناع من شيء من ذلك في يوم السبت ويوم الأربعاء، من التطير الذي قد أبطله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: «لا طيرة» وبقوله: «لا عدوى، ولا هام ولا صفر» . والأصل في تطير الناس بيوم الأربعاء ما جاء من أن الأيام النحسات التي أهلك الله فيهما قوم عاد بالريح، كانت ثمانية أيام أولها الأربعاء وآخرها الأربعاء. وهي الثمانية الأيام التي قال الله فيها: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ} [الحاقة: 7] ... الآية، والأصل في تطيرهم يوم السبت أن بني إسرائيل عدوا فيه فمسخهم الله قردة وخنازير. قال تعالى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف: 163]
الآية. ولصحة إيمان مالك بالقدر، ومعرفته أن اليوم لا يضر ولا ينفع، وتصديقه بما جاء عن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إبطال التطير، كان لا يكره حجامة ولا نكاحا ولا شيئا من الأشياء في السبت والأربعاء، بل يتعمد ذلك فيهما، وكذا ينبغي لكل مسلم أن يفعل؛ لأن من يتطير فقد أثم. وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طيرة، والطيرة على من تطير» ومعنى قوله "من تطير" أي: عليه إثم ما تطير به على نفسه، يكون قد نفي ذلك في أول الحديث بقوله: «لا طيرة» ، وبالله التوفيق.

(17/23)


[بحث عمر بن عبد العزيز عن أقضية عمر بن الخطاب]
في بحث عمر بن عبد العزيز عن
أقضية عمر بن الخطاب قال مالك: وكان عمر يرسل إلى سعيد بن المسيب عن أقضية عمر بن الخطاب.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الروايات: كان ابن عمر، والصواب: كان عمر، يريد بذلك عمر بن عبد العزيز؛ لأنه كان أتبع الناس لعمر بن الخطاب، يسير في سيرته في جميع الأمور، وذلك من جملة فضائله التي تؤثر عنه، وبالله التوفيق.

[صيام أيام الغر]
في صيام أيام الغر وسئل مالك: عن صيام الغر الثلاثة الأيام: ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر، فقال: ليس هذا ببلدنا وإني لأكره أن يتعمد صيامها، وقال: الأيام كلها لله.
قال الإمام القاضي: وقعت هذه المسألة في هذا الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب الصيام. وقد روي فيها وفي الأيام البيض، وهي أول يوم من الشهر، ويوم عشرة، ويوم عشرين، أنها صيام الدهر. وقد روي عن مالك: أنه كان يصوم الأيام البيض. وقد كتب إلى هارون الرشيد في رسالته يحضه على صيام الأيام الغر، ويذكر الحديث فيها. فإنما كره في هذه الرواية صيامها ولم يحض عليها مخافة أن يكثر العمل بذلك لكثرة إسراع الناس إلى الأخذ بقوله، فيحسب ذلك من لا علم عنده من الواجبات. وقد ذكرنا ذلك هناك.

[ركوب البحر]
في ركوب البحر قال: وقال مالك: استأذن معاوية بن أبي سفيان عمر بن

(17/24)


الخطاب في ركوب البحر فأبى أن يأذن له، فلما ولي عثمان بن عفان، كتب إليه يستأذنه، فأبى ثم رد عليه، فكتب إليه عثمان: إن كنت تركبه بأهلك وولدك، فقد أذنت لك، فركبه معاوية ومعه امرأته بنت قرطة، قال مالك: سأل عمر بن الخطاب عمرو بن العاص عن البحر فقال: خلق ضعيف، دود على عود، إن ضاعوا هلكوا، وإن بقوا فرقوا، قال عمر: لا أحمل فيه أحدا، فلما كان بعد عمر، حمل فيه، فلم يزل يركب حتى كان عمر بن عبد العزيز، فاتبع فيه رأي عمر بن الخطاب.
قال محمد بن رشد: البحر على ما وصفه به عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فلا شك في أن ركوبه غرر، وقد اختلف القضاء من عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، في إباحة ركوبه للناس، فمنع من ذلك عمر بن الخطاب وتبعه في ذلك عمر بن عبد العزيز، وأباحه عثمان بن عفان وبإباحته استمر الأمر بعد خلافة عمر بن عبد العزيز إلى هلم جرا، وهو الأظهر لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] لأنه يبعد أن يعدد الله من نعمه على عباده ما حظره عليهم. ووجه المنع من ذلك أن قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] لما احتمل أن يكون إخبارا بما يفعلون لا يقتضي الإباحة، وجب أن يمنع من ذلك لما فيه من الغرر، تعلق بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وبظاهر قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] ، وهذا في ركوبه في الحوائج وطلب المال والتجارة وأما في ركوبه في الجهاد والحج، فلا اختلاف في جواز ركوبه في ذلك، لم

(17/25)


يختلف فيه قضاء الخلفاء والله أعلم. لأن السنة قد دلت على جوازه وذلك «قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأم حرام حين نام عندها ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت له: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: " ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون لجج هذا البحر، ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» يريد في الجنة، جزاء غزوهم في البحر، يركبون لجه، وإذا جاز في الغزو، فأحرى أن يجوز في الحج. وهذا إذا ركب في إبان ركوبه، وأما في حين ارتجاجه فلا يجوز ركوبه في غزو ولا حج ولا غيره.
وهذا هو معنى قول عثمان بن عفان لمعاوية: إن كنت تركبه بأهلك وولدك، فقد أذنت لك، أي: إن كنت تركبه في إبان ركوبه، وفي حال ترجو السلامة فيه، ولا تكون مغررا بأهلك وولدك، فقد أذنت في ركوبه في هذه الحال، والله أعلم.

[فيما يذكرعن المغيرة بن شعبة في نكاح النساء]
فيما يذكر عن المغيرة بن شعبة في
نكاح النساء قال مالك: قال المغيرة بن شعبة، وكان نكاحا للنساء، وكان ربما اجتمع عنده أربعة، ثم يفارقهن جميعا، قال: كان يقول: صاحب المرأة الواحدة إن مرضت مرض معها، وإن حاضت حاض معها، وصاحب المرأتين ناران تشتعلان.
قال محمد بن رشد: في هذا وصف ما كان عليه المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مما وهبه الله إياه من القدرة على كثرة الاستمتاع بالمباح من النساء، وتلك فضيلة في الدنيا والآخرة؛ لأن الرجل يؤجر في وطء زوجاته

(17/26)


وجواريه وفي الاغتسال من وطء كل واحدة منهن كلما وطئها، فهو يستمتع بالحلال، ويؤجر باستمتاعه به، فأي موهبة أعظم من هذه. وبالله التوفيق.

[الأميرين في الغزو أحدهما في البر والآخر في البحر يجتمعان]
في الأميرين في الغزو، أحدهما في
البر، والآخر في البحر يجتمعان
قال مالك: أَمَّرَ عثمان بن عفان - عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، عمرو على البر، ومعاوية على البحر، فإذا اجتمعا فمعاوية الأمير، فلما بلغا رأس مغزاهما أرسل معاوية إلى عمرو أن يأتيه فأبى فأرسل يعزم عليه، فقال عمرو: وأنا أعزم على نفسي ألا آتيك، فقال معاوية: فادن مني على شاطئ البحر، فأتى عمرو على قوس متوكئا عليها، فكلمه ما شاء الله، فقال له معاوية: أشات أنت أم أمه؟ فقيل لمالك: ما أراد أشات أنت؟ قال: يثنون، فقال: أمه؟ فقال: قافلون.
قال محمد بن رشد: وقع في موطأ ابن وهب: أشاتون أم أمه؟ فقال: أمه، فقفلوا جميعا. وإنما لم يأت عمرو معاوية إذ عزم عليه في الإتيان إليه، إذ لم يجب عليه الإتيان إليه من أجل أنه لم يجعل له عليه عثمان بن عفان إمرة إلا إذا اجتمعا. ولعله قد كانت عليه في الإتيان إليه مشقة، ولما سأله أن يدنو منه أجابه إلى ذلك لخفة الأمر عليه. والحكاية كلها بينة، لا إشكال فيها، وفيها إجازة الغزو في البحر وقد ذكرنا فوق هذا أنه مما لا يختلف في جوازه.

[المؤمن إذا غدر]
في أن المؤمن إذا غدر لم يلزم
الوفاء له بالإيمان وسئل مالك: عن أهل قبوس فيما كتب إليه عبد المالك بن

(17/27)


صالح إلى مالك من أمرهم، فقال: رأيت لهم عهودا كثيرة من معاوية وعبد المالك وسليمان وغيرهم، فقلت: يا أبا عبد الله، فإن عرف منهم عدو، أترى أن يجلوا؟ قال: إني لا أرى ذلك إن عرف وتبين أن يجلوا منها.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله؛ لأن الوفاء بالأيمان واجب. قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم» ، وقال: «يجبر على المسلمين أدناهم» . فإذا أمن الإمام أهل البلد أن يقروا ببلدهم لزم ذلك من بعده من الأئمة، ولم يكن له أن ينقضه، فيجليهم عن ذلك البلد إلا أن يحدثوا ما يوجب ذلك عليهم. وبالله التوفيق.

[يوصي أن يحبس جواريه]
في الذي يوصي أن يحبس جواريه
المدة الطويلة وسئل مالك: فقيل له: إن محمد بن سليمان أوصى في جواريه أن يحبسن سبعين سنة، ثم هن أحرار، فسأل أمير المؤمنين عنهن بعض من حضره، فقال مالك: ما رأى في ذلك؟ فقال: منهم من رأى أن يبقين، ومنهم من رأى أن يحبسن، قال مالك: يبعن أو يعتقن.
قال محمد بن رشد: قول مالك: يبعن أو يعتقن، معناه: ينظر السلطان فيه، فإن رأى أن يبعن بعن، وإن رأى أن يعتقن أعتقن وعجل

(17/28)


عتقهن، هكذا قال في رسم المُحرم يتخذ الخرقة لفرجه من هذا السماع من كتاب العتق. ووجه النظر في ذلك أن ينظر في ذلك، فمن كان له منهن من السن ما يعلم حقيقة أنها لا تعيش سبعين سنة، بيعت إذ قد علم أن العتق لا يدركها، فهي كمن أوصى لها بعتق بعد موتها، ومن كان لها منهن من السِن ما يمكن أن تعيش إليه عجل عتقها؛ لأن بقاءها سبعين سنة، من الضرر البين بها. وقد زدنا المسألة هناك بياناً، وذكرنا ما فيها من الاختلاف.
وأما قول من قال: إنهن يُبعن أو يحبسنَ جملة من غير أن ينظر إلى أسنانهن يوم أوصى، فلا يصح، إلا أن يستوي أسنانهن في أنه يعلم في أنهن لا يعشن سنة، أو في أنه يشبه أن يعشن أكثر من السبعين، واللَّه الموفق.

[ما يروى من مناقب سعد بن معاذ]
فيما يروى من مناقب سعد بن معاذ
قال مالك: لما كان يوم بدر، قَالَ رَسُولُ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أشِيرُوا عَلًيّ، فَقَامَ أبُو بَكر، فَتَكًلّمَ ثمَّ قَالَ: أشِيرُوا عَلَيَّ فَقَامَ عُمَر، فَتَكًلّمَ، ثمَّ قَعَدَ، ثَمّ قَالَ: أشِيرُوا عَلَيَّ، فَقَالَ سَعدُ بْنُ مُعَاذٍ: كَأنَّكَ إِيَّانا تُرُيدُ يَا رَسُولَ اللهِ لَا نَقولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيل: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ، وَلَكِنْ اذْهَبَ أنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا مَعَكُم مُتبِعونَ، لَوْ أتَيْتَ الْيَمَنَ لَسَلَلْنَا سُيُوفَنَا وَاتَّبَعْنَاكُم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خُذُوا مَصَافَّكُم» .
قال محمد بن رشد: هذا المقام المحمود من مناقب سعدٍ المأثورة وهي كثيرة؛ لأنه من فضلاء الصحابة، وكفى من الشهادة لفضله اهتزاز عرش الرحمن لِمَوتهِ. وقد مضى قبل هذا شيء من خبره وقد وقع

(17/29)


في البخاري «عَن عبدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قَالَ: شَهدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بْنِ الأسْوَدِ مَشْهَدَاً لأنْ أكُونَ صَاحِبَه أحَبًّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أتَى النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْم موسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَشِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ، قَالَ: فَرأيْتُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أشْرَق وَجْهُهُ وَسَرَّهُ قولُه» .

[انحياز السرية إلى العسكر]
في انحياز السرية إلى العسكر وسئل مالك: عن القوم يكونون في الغزو فيبعث السرية القليلة نحواً من عشرين أو ثلاثين، فيلقون أضعَافهم من العدو، فيكثرون عليهم، فيريدون أن ينحازوا إلى أصحابهم، أترى لهم في ذلك سَعة؟ قال: نعمٍ. وتأول كتاب الله {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] قيل له: أفترى ذلك واسعاً لهم فيما بينهم وبين ما في القرآن؟ قال: نعم.
قال الإِمام القاضي: هذه مسألة فيها نظر لأنه لم ير لهم سعة في الانحياز إلى أصحابهم، إلا إذا كان الذين لقوا من العدو أكثر من أضعافهم، والذي يدل عليه القرآن، أن للجماعة أن تنحاز إلى فئتها وإن كان العدد الذين لقوا أقل من مثلهم، إذ ليس انحيازهم إلى فئتهم ليكروا ثانية فِراراً. قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] الآية، فدل ذلك على أنه ليس بفار من تحيز إلى فئة ليعود، وقد جاء بيان ذلك في السنة، رُوي «عنْ

(17/30)


عَبد الله بْنِ عُمَر أنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَاصَ النَّاسُ حيْصةً، فَكنْتُ فِيمَنْ حَاصَ فَقُلْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِن الزَّحْفِ، وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ؟ فَلَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَة فَبِتْنَا فِيهَا، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أنْفُسَنَا عَلَى رَسُول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ، وَإِلاَّ ذَهَبْنَا، فَأتَيْنَاه قَبْلَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ، فَخَرَجَ فَقَالَ: "مَنِ الْقَوْمُ؟ " فَقُلْنَا: نَحْنُ الفَرَّارُونَ. قَالَ: "بَلْ أنْتُمُ الْعَكَّارُونَ، أنَا فئَتكُم وَأنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ"، فَأتَيْنَاهُ حَتَّى قَبَّلْنَا يَدَيْهِ» . والعكارون هم الكرارون، فالمعنى في ذلك: أنهم لما كروا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو فئتهم ليرجعوا إلى ما يأمرهم به، كان ذلك كرّاً منهم إليه، وعودةً إلى ما كانوا عليه من بذلهم أنفسهم لقتال عدوهم، فاستحقوا بذلك اسم العَكَّارِين، لا الفرَّارِين. وهذا عندي من خواص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا يكون الِإمام فئة للسرية إذا خرجت من عنده فأقام هو -يعنِي الِإمام- في بلده، وإنما يكون فئة لها إذا أخرجها من عسكره، فلقيت جماعة، وإن كانت أقل من مثليها فانحازت إلى الفئة التي خرجت منها. والله الموفق.

[عدة أصحاب بدر]
في عدة أصحاب بدر
وسئل عن عدة أصحاب بدر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: ثلاثمائة وثلاثة عشر.
قال محمد بن رشد: في الصحيح للبخاري عن البراء بن عازب قال: كنا أصحاب محمد نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضع عشرة وثلاثمائة. وقد قيل: إنهم كانوا سبعة عشر وثلاثمائة، ثمانون رجلاً من

(17/31)


المهاجرين كلهم شهدها بنفسه، إلا ثلاثة رجال، وهم: عثمان وطلحة وسعيد بن زيد فلم يشهدوها بأنفسهم. وضرب لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسهامهم وأجورهم، فهم كمن شهدها، واحدٌ وستون رجلًا من الأوس، ومائة وسبعون رجلاً من الخزرج، واثنان من الأوس. ذكر ذلك ابن عبد البر في الدرر في اختصار السير.

[كتاب المغازي]
في كتاب المغازي وسُئل مالك: عن المغازي أَتَرى أَن تكتب؟ فأنكر ذلك وقال: ما أدركت الناس يكتبونها، فقيل له: مَن الناس؟ أهل الفقه؟ فقال: نعم، ولا أرى أَن تكتب، ولا أُحب أن أَكتبها، ولا أبتدع ذلك، وما وجدت الناس أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ والتابعين، القاسم وسعيد وسالم، يكتبونها. ولقد أدركت شيخاً كبيراً قد زاد على المائة خمس سنين ما يقبل منه حديثه، وُيعاب ذلك على من يقبله ويجرح.
قال محمد بن رشد: إنَّما كره كتاب المغازي بطولها مخافة مواقع الكذب فيها، وإذ ليس في سياقتها بكمالها فائدة، من تحليل أو تحريم، تعبد الناس بحفظه والتفقّه فيه، كالأحاديث المروية عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الأحكام، ووقع في بعض الكتب مكان يجرح يطرح، والمعنى في ذلك سواء.

(17/32)


[الأمر بإتقان العمل]
في الأمر بإتقان العمل
وحدَّثنا مالك: «أَن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ فَكَأَنَّهُ رأى في لَبنَةٍ خَلَلًا فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُصْلَح، وقال: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ عَمَلاً أَنْ يُحَسِّنَهُ أَوْ يُتْقِنَه» .
قال محمد بن رشد: هذا حديث بيِّن المعنى، ليس فيه ما يخفى فيحتاج أَن يُبَيَّن.

[صفة مصحف مالك المكتوب على عهد عثمان]
في صفة مصحف مالك المكتوب
على عهد عثمان
قال ابن القاسم: وأخرج إلينا مالك مصحفاً لجدِّه، فحدَّثنا أنه كتب على عهد عثمان بن عفان، فوجد حليته فضة وأغشيته من كسوة الكعبة، فوجدنا في البقرة: (وَأَوْصَى) وفي آل عمران: (سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) . وفي المائدة: (يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) وفيها أيضاً: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) وفي براءة: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وفي الكهف: (لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهما مُنْقَلَبًا) وفي قد أفلح: كلها الثلاث لله، وفي طسم " باخِعٌ "

(17/33)


(فتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) وفي حمِ عسق (فَيمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وفي الزخرف: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) وفي الحديد: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ، وفي الشمس وضحاها: (فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) وفي الطوْل: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وأَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) .
قال الِإمام القاضي: ما ذكر ابن القاسم في هذه الحكاية من أنه وجد في المصحف الذي أخرج إليهم مالك لجده المكتوب على عهد عثمان، في البقرة، وفي آل عِمران، وفي المائدة، وفي براءة، وفي الكهف، وفي قد أفلح، وفي طسم، وفي الطول هو كله مثل ما ثبت بين اللوحين عندنا في المصاحف، وأما الذي ذكر أنه وجده في حم عسق، وفي الزخرف، وفي الحديد، وفي الشمس وضحاها، فهو خلاف ما ثبت بين اللوحين عندنا في المصاحف؛ لأن الذي ثبت عندنا في حم عسق (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، وفي الزخرف: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وفي الحديد (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وفي الشمس وضحاها: (فلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) ولا تأثير في هذا الاختلاف، إذ لا يتغير بشيء منه المعنى ولا اختلاف أحفظه في إجازة تحلية المصحف بالفضة، وأما تحليته بالذهب

(17/34)


فأجيز وكره، وظاهر ما في الموطأ إجازته، وقد أقام إجازة ذلك بعض العلماء من حديث فرض الصلاة قوله فيه: «فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي ثم غَسَلَهُ بِمَاءَ زَمْزَمَ، ثمَّ جَاءَ بطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ ممتلئ حِكْمَةً وَإِيْمَاناً فَأفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ثمَّ أطْبَقَهُ» ، والمعنى في إقامة ذلك منه خفي وقد يبثه في موضعه، وبالله التوفيق.

[المعنى الذي من أجله تركت البسملة في براءة]
في المعنى الذي من أجله تركت
البسملة في براءة
قال مالك في أول براءة: إنما ترك من مضى أَن يكتبوا في أولها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فكَأَنَّه رآه من وجه الإتباع في ذلك، وكان في آخر ما أنزل من القرآن، وسمعته يقول: أخبرني ابن شهاب: أن القتل استحر يوم اليمامَة في القراء وحَمَلَة القرآن في خلافة أبي بكر الصديق، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر خليفة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو جمعت القرآن فإني أخاف عليه، أن يذهب، فقال: أفعلُ ما لم يفعل رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يزل يكلمه حتى عطفه بعض العطف، ورأى ما قال، فوقف واستشار أَصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرأوا ذلك، فجمعه أَبو بكر، وكتبه في الصُّحف، فلمَّا مات أبو بكر، قبضه عمر، وكان عنده، فلما مات أوصى إِلى حفصة، فقبضته حفصة، وكان عمر أَوصى إِليها وذلك في رأْيي لمكانتها

(17/35)


من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقبضت حفصة الكتاب، فلما ولي عثمان بن عفان، اختلف الناس في اختلاف القرآن اختلافاً شديداً، حتى إِن كان الرجل ليقول للرجل أَنا أكفُر بالذي تقول، فلما رأى ذلك عثمان بن عفان، بعث إلى حفصة يسألها الكتاب فأتت عليه فأعطاها أيماناً أخذتها عليه لا يزيد فيه حرفاً ولا ينقص منه حرفاً، وأن يردها عثمان بن عفان وجميع القراء، وأرسل إلى البلدان وجميع قراء الناس، حتى إن كان الِإنسان ليأتي بالآية في جريدة فكتبه عثمان بن عفان، وردَّه إليها، وبعث في الأجناد يأمرهم بالقراءة، فلما كان مروان بن الحَكم، أرسل إلى تلك الصحف التي كانت عند حفصة فأَحرقها بالنار.
قال محمد بن رشد: ما تأوّله مالك من أنه إنَّما ترك من مضى أَن يكتبوا في أَول براءة " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " من وجه الإتباع، المعنى فيه، والله أعلم: أنه إنما ترك عثمان ومن كان بحضرته من الصحابة المجتمعين على جمع القرآن البسملة بين سورة الأنفال وسورة براءة، وإن كانتا سورتيِن، بدليل أن براءة كانت من آخر ما أَنزل الله من القرآن، وأَن الأنفال أُنزلت في سنة أربع، اتباعاً لما وجدوه في الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر، وكانت عند حفصة. وقَدْ رُوِي عَنِ ابْنِ عًبّاس أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، مَا حَمَلَكُم أَن عَمَدْتُمْ إِلَى الَأنْفَال، وهي مِنَ المَثَانِيَ وَإِلَى بَرَاءَة وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ فَقَارَنْتُم بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُما سَطْرَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَوَضَعْتمُوهَا فِي السَّبْع الطُّوَل، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: كَانَ رَسُوْلُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معنا يَأتِي عَلَيْهِ الزَّمانُ،

(17/36)


وَهُوَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ وَدَخَلَ بَعْضُ مَنْ يَكْتُبُ، يَقُوْلُ: ضَعُوا هذَا فِي السُّورةِ الَّتِي فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَاتُ قَالَ: ضَعُوا هَذِه الآيَاتِ فِي السُّورَةِ التِي فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتِ الَأنْفَالُ مِنْ أَوَائِل مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَة مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ - يَعْنِي نزولَاَ- وَكَانَتْ قَصّتُهَا شَبِيهَةً بِقصَّتِهَا، فَظَنَنْت أَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْهَا، وَتُوفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْها فَمِنْ أَجل ذَلِكَ قَارَنْتُ بَيْنَهُمَا ولم أكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْع الطُّوَل.
في حديث ابن عباس هذا عن عثمان بن عفان أنه ظنَّ أَنها منها، ولذلك لم يكتب بينهما " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَذلك خلاف لما ذهب إِليه مالك من أنها ليست منها وأنها سورة أُخرى فاتبع ما وجد في المصحف من ترك الفصل بينهما " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وهو الأظهر أنها ليست منها، وأَنَّها سورة أخرى بدليل افتراقهما في النزول، وبدليل ما روي عن أوس بن حذيفة أنه قال: سألتُ أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كيف كنتم تحزِّبون القرآن؟ قالوا: كنا نحزِّبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، يريدون: وحزب المفصل، إِذ قيل: إن الثلاث سور من أَول القرآن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والخمس سور: المائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، وبراءة، والسبع سور: يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحْل، والتسع سور: إِسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، والحجر، والمؤمنون، والنور، والفرقان، والِإحدَى عشرة الطواسِين، والعنكبوت، والرُّوم، ولقمان، والسجدة، والأحزاب، وسبأ، وفاطر، ويس والثلاث عشرة: والحاقة،

(17/37)


وصاد والزُّمر، وحم، يعني إلى حم، وسورة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، والفتح، والحجرات، وحزب المفصل، إلَا أنه لما احتمل أن يكونا سورة واحدة لاشتبَاه قصصهما، وإذ قد يجتمع في السورة الواحدة ما أُنزل في أزمان متباعدة ولم يأت عن النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نص بأنهما سورتان، ولم يجد عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الصحف بينهما فصل " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " اتبع ما وجده فيها، فكان إتباعه لذلك في موضع الاحتمال، لا في موضع اليقين. والله أَعلم بالحقيقة في ذلك كيف كان. وقد قيل: إنَّما ترك عثمان الفصل بين السورتين " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "؛ لأنها حروف رحمة، وسورة براءة ليست من جنس ما تراد به الرحمة؛ لأنها إنما هي وعيدات، وتخويفات، ونقض عهود، وِإبانةُ نفاق مَن نافق، وهذا يرده البسملة في: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] وقيل: إِنَّه إنما ترك الفصل بينهما بـ" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " إعظاماً لمخاطبة المشركين به، وهذا يرده ما في كتاب الله من قصة سليمان في كتابه إلى صاحبة سَبَأ وما في سنّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ من كتابه إِلى المشركين: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وِإنَّما أخذت حفصة الأيمان على عثمان في الصحف أَن لا يزيد فيها ولا ينقص منها؛ لأنها اؤتُمنت عليها، فلم ترد أن يغير شيئاً منها بزيادة ولا نقصان فوفَّى لها - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعنها بما وعدها به، وحلف لها عليه، وصرفها إِليها على حالها، بعد أن كتب ما فيها وزاد إليها ما خرج عنها ممَّا ثبت عنده أنَّه قرآن بنقل الكَّافةِ عن الكافة، لا بالشهادة على ذلك، وما جاء من أَن عثمان كان لا يثبت آيةً في المصحف حتى يشهد عنده فيها رجلان، ليس معناه حتى يشهدا عنده أَنَّها من القرآن، وِإنَّما معناه حتى يشهد عنده كل واحد منهما أَنَّه

(17/38)


أَخذها عن النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِن فيه، لا من غيره عنه، وعلى موضعها من السورة التي هي منها مع حصول العلم أنها من القرآن باستفاضة نقل الكافة عن الكافة، فما ذكر من أن الِإنسان كان يأتي بالآية في جريدة، معناه: كان يأتي بالآية فتذكر، ويعلم أنها قرآن فيثبتها في المصحف بعد الشهادة عنده على موضعها من السورة، وعلى سماع من فِي النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأثبت الآيتين من آخر سورة براءة قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] ... إلخ السورة، بشهادة رجل واحد لِما تضمنتهُ مما هو معلوم من صفات النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقد مرَّ بي فيما أحسب أَنَّه إِنَّما أَثبتها بشهادة خزيمة بن ثابت إِذ قد جعل رسول الله شهادته كشهادة رجلين. ولما حصل العلم على أَن ما تضمنه مصحف عثمان، هو جميع القرآن لا زيادة فيه ولا نقصان منه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] رأى مروان بن الحكم مع استشارته مع علماء عصره أن يحرق الصحف المجموعة من القرآن، في زمن أبي بكر الصدّيق إذ كانت لم تستوعب جميعه، وبالله التوفيق.

[الِإقبال على الذكر بعد الصبح وترك الكلام]
في الِإقبال على الذكر بعد الصبح
وترك الكلام قال مالك: وكان نافع مولى ابن عمر؛ وسعيد بن أَبي هند، وموسى بن ميسرة، يجلسون بعد الصبح يذكرون الله ثم ينصرفون حين السُّبحة وما يكلم أحد منهم صاحبه.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في الصلاة الثاني من المدونة بهذا المعنى سواء، وزاد فيها: يفترقون للركوع، يريد أنهم كانوا

(17/39)


يجلسون في مواضعهم التي يصلون فيها للذكر، وما يكلم أحدهم صاحبه، فإِذا حلَّت الصلاة تفرقوا لركوع الضحى، ثم انصرفوا وهذا على ما ذهب إليه مالك من أنه يكره الكلام بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، ولا يكره فيما بين ركعتيّ الفجر إلى صلاة الصبح، لما روي عن عائشة أَنَّها قالت: «إِنَّ النَبيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقهِ الأيْمَنِ، فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَانَةً حَدَّثَنِي حَتَّى يَأتِيَهُ ألْمُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، وَذلِكَ بَعْدَ طُلُوع الْفَجْرِ» . وأهل العراق على ضد قول مالك يكرهون الكلام بعد ركعتيّ الفجر إلى صلاة الصبح، ولا يرون به بأساً بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. وقال أحمد بن خالد: والسنّة ترد ما قالوا. وما قال مالك حديث عائشة هذا يرد ما قاله أهل العراق وحديثه: أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حًوّلَ وَجْهَهُ إِلَى النَّاس، وَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رًؤْيا؟ يرد ما قاله مالك، وَحدُّ المكروه ما كان في تركه ثواب، فإِذا ترك الرجل الكلام بعد صلاة الصبح وأقبل على الذِكر أجر على الذكر، وعلى ترك الكلام، وإن ترك الكلام ولم يذكر الله أجر على ترك الكلام عند مالك، وعند أهل العراق لا يؤجر على الذكر خاصة، إِن ذَكر الله، كما يقول مالك في ترك الكلام بعد ركعتي الفجر إلى صلاة الصبح، وبالله التوفيق.

[الاختيار في قيام رمضان]
في الاختيار في قيام رمضان وسئل مالك: عن القيام في رمضان: أَمع الناس أحبُّ إليك أم ينصرف إلى منزله؟ قال: بل ينصرف إلى منزله، وليس فيه

(17/40)


شك، إذا كان ممن يقرأُ القرآن ويقوى عليه، وما قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في بيته. وحدثنا مالك: أن يزيد بن عبد الله بن هُرمز كان ينصرف إلى منزله، ويقوم بأهله، وكان ربيعة بن عبد الرحمن ينصرف ولا يقوم مع الناس، قال مالك: الانصراف لمن قوي عليه أفضل.
قال الإمام القاضي: هذا كما قال، والحجة في ذلك قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أفْضَلُ الصلاَةِ صَلَاتُكُم فِي بُيُوتِكُم إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» ، وقول عمر بن الخطاب إذ جمع الناس على قارئ واحد: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالتِي تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضل مِن الَّتِي تَقُومُونَ. يعني آخر الليل. وكان الناس يقومون أوله وهذا للرجل في خاصة نفسه، ما لم يكن ذلك سبباً لتعطيل القيام في المسجد؛ لأنها سنة أحياها عمر بن الخطاب لما ارتفعت العلة التي من أجلها ترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القيام في رمضان بالناس في المسجد، وذلك «أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثمَّ صًلّى الْقَابِلَةَ، فَكثرَ النَّاسُ، ثًمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أًو الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجُ إلَيْهِم رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلًمّا أَصْبَحَ قال: رَأَيْتُ الَّذِي صَنعْتم فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوج إلَيْكُم إلّاَ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُم» . وَذَلكَ فِي رَمَضَانَ. وَقَد قالت عائشة: «إِن كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيَدَع الْعَمَلَ وَهُو يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، خَشْيَةَ أَنْ

(17/41)


يَعْمَلَ بِهِ الناسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِم» . ومن أهل العلم من رأى القيام مع الناس في رمضان في المسجد أفضل من الصلاة في البيوت؛ لأنها سنة لا ينبغي تضييعها، وهو قول محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم من أصحاب مالك.
وذهب الليث بن سعد إلى نحو ما اخترناه، فقال: لو أَن الناس كلهم قاموا في رمضان لأنفسهم ولأهليهم حتى تركوا المسجد لا يقوم فيه أحد لكان ينبغي أن يخرجوا من بيوتهم إلى المسجد حتى يقوموا فيه في رمضان؛ لأن قيام الناس بالمسجد في رمضان من الأمر الذي لا ينبغي تركه، وهو مما سن عمر بن الخطاب وجمعهم عليه.
قال: فأما إذا كانت الجماعة قد قامت في المسجد فلا بأس أن يقوم الرجل لنفسه في داره لأهل بيته، ومن حجة من ذهب إلى هذا قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عَلَيْكُم بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَاشِدِينَ مِنْ بَعْدي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنوَاجِذِ» .

[حسن الصوت بالقرآن وما يخاف من العين]
في حسن الصوت بالقرآن وما يخاف من العين
قال مالك: وكان عمر بن عبد العزيز حسن الصوت بالقرآن، فصلى بهم يوماً فأصابته العين حين قدم الشام.
قال محمد بن رشد: حسن الصوت بالقرآن موهبة من الله، وعطية؛ لأن حسن الصوت مما يوجب الخشوع ورقة القلوب، ويدعو إلى الخير. وقد قيل في قول الله عز وجل: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] : حسن الصوت، وما يصيب المعين يقول العائن إذا لم يُبرِّك، أمر أجرى الله به العادة في الغالب، مع القدر السابق، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

(17/42)


وسلم: «عَلَامَ يَقْتُلُ أحَدُكُمْ أخَاهُ؟ ألاَ بَرَّكْتَ، إِنَّ الْعَيْنَ حَق» . يريد: إن اللَه قد أجرى العادة به؛ لأن قول العائن هو المُحدِث لما أصاب المعين، وبالله التوفيق.

[في أن صهيبا صلى على عمر بن الخطاب]
وسئل مالك: هل صلى صهيبٌ على عمر؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: حقق مالك في هذه الرواية أنه صلى عليه، ومثله في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم من كتاب الجنائز، ووقع في سماع أشهب منه. قلت له: أبلغك أن عمر بن الخطاب صلى عليه صُهيب؟ قال: لم أسمع ذلك، ولكني أظن ذلك، لقول عمر بن الخطاب: يصلي بكم صهيب ثلاثاً، وهو ظني أن صهيباً صلى عليه، وذلك لقوله: يصلي بكم صهيباً، وهو ظن كاليقين؛ لأنه يبعد في القلوب أن يستخلفه على الصلاة أيام الشورى فيصلي عليه غيره، ولم يجتمعوا بعدً على إمام.
وهو صهيب بن سنان الرومي يعرف بالرومي، وهو من العرب؛ لأنه أصابه سبيٌ وهو صغير، فصار أعجمي اللسان. صحب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل أن يوحى إليه، ثم أسلم معه بمكة هو وعمار بن ياسر في يوم واحد، وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً فهو من المهاجرين الأولين. وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ كَانَ يُؤمِن باللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ،

(17/43)


فَلْيُحِبَّ صُهَيْباً حُبّ الْوَالِدَةِ وَلَدَهَا» .

[حكاية عن مروان بن الحكم في شدته في الحدود]
حكاية عن مروان بن الحكم في
شدته في الحدود قال مالك: حدثنا يحيى بن سعيد أن امرأة خرجت إلى بعض الحرار فلما نزلت قرقوة عرض لها رجل من أصحاب الحمر، فنزل إليها ثم أرادها على نفسها فكشف عنها ثيابها فامتنعت منه فرمت بحجر فشجته ثم صاحت، فذهب، فأتت مروان بن الحكم، وكانت فيه شدة في الحدود فذكرت ذلك، فسألها عن اسمه فلم تعرفه، وقال لها: تّعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم، فأُدخلت بيتاً ثم قال: ائتوني بالمكارين الذين يكرون الحمر، وقال: لا يبقى أحد أكريتموه، إلا جئتموني به، فأتوه بهم فجعل يُدخل عليها رجلًا رجلاً، فتقول: ليس هو هذا حتى دخل عليها به مسجوجاً، فقالت: هو هذا، فأمر به مروان أن يحبس في السجن، فأتى أبوه فكلمه فيه فقال مروان: جانيك من يجني عليك، وقد تُعدي الصحاحَ مَباركُ الجَرب، فقال أبوه: ليس كذلك، إنما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فقال مروان: لاها الله لا يخرج منها حتى ينفدها الفيد؟ وهم بما كشف منها، فقال أبوه: هي علي، فأمر به مروان فأخرج، فقيل لمالك: أترى هذا من القضاء يؤخذ به؟ قال: ليس هذا عندي من القضاء ولكنه على غلطة من مروان، ولقد كان مروان يُؤتَى إليه بالرجل قد قبَّل المرأة فيَنزع ثَنِيَته.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في رسم مساجد القبائل

(17/44)


من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود. وما تضمنته عن مروان بأنه قضى للمرأة بدعواها على الذي ادعت عليه أنه أرادها على نفسها وكشف عن ثيابها بألفي درهم بما ادعت عليه من كشفه إياها مع الشبهة التي ألحقت التهمة به وحققت الظنة عليه - لا يأخذ به مالك ولا يرى عليه القضاء به، إذ لا يرى العقوبات في الأموال؛ لأن العقوبات في الأموال أمر كان في أول الإسلام، من ذلك ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في مانع الزكاة: أنا آخذها منه، ونظر عزمة من عزمات الإسلام.
وما روى عنه في حريسة الجبل: أن فيها غرامة مثليها. وما روي عنه: من أن سَلَبَ مَنْ أحد وهو يصيد في الحرم لمن أخذه. كان ذلك كله في أول الِإسلام وحكم به عمر بن الخطاب، ثم انعقد الِإجماع بأن ذلك لا يجب، وعادة العقوبات على الجرائم من الأبدان، وقد أنكر ذلك على مروان بن الحكم، فقال على سبيل إنكار ذلك عليه: إنه كان يؤتى بالرجل يقبل المرأة فينزع ثنيته. وهذه نهاية في الِإنكار.
والعقوبات في الجرائم عند مالك على قدر عقوبات الوالي وعظم جرم الجاني على أن لا يجاوز الحد، وقد أمر مالك صاحب الشُّرط في الذي وجد مع صبي في سطح، وقد جرده وضمه إليه وغلق على نفسه معه، فلم يشكوا في المكروه بعينه، أن يضربه ضرباً مبرحاً ويسجنه سجناً طويلاً حتى تظهر توبته، وتتبيّن، فسجنه صاحب الشرط أياماً قبل أن يضربه، فكان أبوه يختلف إلى مالك ويتردد، ويقول: اتق الله فما خلقت النار باطلاً، فيقول له مالك: أجل وإن الذي أبقى عليك ابنك لمن الباطل، ثم ضربه صاحب الشرط أربعمائة سوط، فانتفخ، فمات، فما أكبر ذلك مالك ولا بالى به. فقيل له: يا أبا عبد الله، إن مثل هذا من الأدب والعقوبة لكثير، فقال: هذا بما اجترم، وما رأيت أنه أمسه من العقوبة إلا بما اجترم. وقال مطرف بن عبد الله في المبسوطة: الأدب إلى الحاكم موكل إلى نظره، يؤدب في ذلك

(17/45)


باجتهاده وإن أتى الأدب على النفس وإخراج الروح، وله في الواضحة: إن أقصى ما يبلغ من الأدب في المعروف بالجرم ثلاثمائة فما دون ذلك.
وروي عن أصبغ: أن أقصى الأدب في جرم الفاسد البيِّن الفساد مائتان. وروي عنه: أن ذلك إلى اجتهاد الِإمام، وإن أتى على النفس.
وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية ابن عباس أنه قال: «مَنْ بَلَغَ حَدَاً في غَيْرِ حَدٍّ فَهُو مِنَ الْمُعْتَدِينَ» . وذهب إلى هذا محمد بن مسلمة، فقال: انتهى غضب الله في الزانية والزاني إلى مائة جلدة، فقال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] فلم يجعل عليهما أَكثر من ذلك فلا يتجاوز في العقوبة ثمانون سوْطاً.
وقد روى عبْد الله بن مسلمة بن القعب عن مالك: أنه لا يجاوز فيها خمسة وسبعينَ، وأنه كان يقول: الأدب عندي دون الحد. والمشهور عنه المعلوم من مذهبه: أن ذلك إلى اجتهاد الإمام، وهو مذهب ابن القاسم.
وقال أبو حنيفة: لا يبلغ بالضرب أكثر من ثلاثة أسواط في الأدب، ولا يزاد على الثلاثة إلا في حد. وروي ذلك عن الليث بن سعد، وقال أبو يوسف: لا يبلغ في الأدب ثمانين، وقال ابن أبي ليلى، وابن شُبرمة: لا يبلغ فيه مائة.
ومن أهل العلم من رأى: أنه لا يضرب أكثر من عشرة أسواط. وروي مثله عن أشهب. قال: لا يزيد السلطان في الأدب على عشرة أسواط ولا المكتب "كذا" على ثلاثة فإن زاد على ثلاثة اقتص منه. وقد مضى هذا كله في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود.

[فضل الزمن المتقدم على المتأخر]
في فضل الزمن المتقدم على المتأخر قال مالك: قال عبد الله بن مسعود: لَيْسَ عَامٌ إلَّا وَالَّذِي

(17/46)


قَبْلَهُ خَيْرٌ مِنْه، فقال مالك: أراه منذ زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، إن عامنا هذا أخصب وأرخص سعرِاً من العام الماضي، فقال: أيهما أكثر فقهاء وقراء وأحدث عهداَ بالنبوة؟ قال: الذي مضى، قال ابن مسعود: ذلك الذي أردت.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين ليس فيه ما يشكل؛ لأن صلاح الزمن وخيره إنما في صلاح أهله وكثرة الخير فيهم، وفساده وشره إنما هو بفساد أهله وشرهم، وقلة الخير والدعة فيهم، والخير والصلاح في الناس بكثرة علمائهم وخيارهم. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْقُرًونِ قَرْني ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهم ثم الَّذِينَ يَلُونَهُم» ، فزمن قرنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير من زمن القرن الذي بعده وزمن القرن الذي بعده خير من زمن القرن الذي يليه، وزمن الذي يليه خير من زمن الذي يليه، وهكذا أبداً؛ لأن الزمن إنما يُمدح بأهله، لا بكثرة الرخاء والخصب فيه، إذ قد يكثر الشر في زمن الرخاء فيكون زمنا مذموماً وتقل المعاصي والشر في زمن قلة الرخاًء والجذب، فيكون زمناً ممدوحاً. فهذا وجه قول ابن مسعود "ما من عام إلا والذي قبله خير منه ". وبالله التوفيق.

[ما يجوز من فتنة المال]
وحدثنا مالك، عن يحيى بن سعيد: أن عمر بن الخطاب لما رأى ما جُلب إليه من المال الذي أفاء الله عليه، فقال: ما ظهر مثلُ هذا قط في أًمةٍ إلا سفكت دماؤها، وقطعت أرحامها، قال مالك: ولا أرى دعاء بما دعا به إلا لما خاف من الفتن، وقد كان يجب أن يعيش في الدنيا ويستمتع منها.

(17/47)


قال الإِمام القاضي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما ظهر مثل هذا في أمة إلا سفكت دماؤها وقطعت أرحامها، معناه: أن الناس بما ركب الله فيهم من حب المال والرغبة فيه، والحرص عليه، حسبما ذكره في كتابه حَيثُ يَقُولُ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] يتنافسون فيه ويتقاتلون عليه فيسفكون دماءهم، ويقطعون أرحامهم بسببه.
وقول مالك: ولا أرى دعاء بما دعا به إلا لما خاف من الفتن، يريد: دعاءهُ الذي دعا عند صدره: من مِنا؛ إذ أناخ بالأبطح، فكوم كومة بطحاً ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يده إلى السماء، ثم قال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، واستشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط. وما قاله مالك من أَنه إنما دعا بما دعا به لما خافه من الفتن - بيِّن، من قوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، فإنما تمنى الموت مخافة أن يعيش فيمتحن بالفتن، ويكون منه تضيع أو تفرط فيما يلزمه فيها، إذ هو الخليفة للمسلمين.
وقول مالك: وقد كان يحب أن يعيش في الدنيا، ويستمتع بها، ليس معناه: أنه كان يحب أن يعيش فيها لمجرد التمتع بالشهوات المباحة، وإنما معناه: أنه كان يحب أن يعيش في الدنيا ويستمتع بما يقوى به على طاعة ربه، ويتقرب به إلى خالقه من الصلوات والأعمال الزاكيات، فخيْرُ الناس مَن طال عمره، وحسن عمله؛ لأن زيادة السن زيادة في الفضيلة.
ولهذا يقدم الأسن من الرجلين في الصلاة عند استوائهما في العلم والدين. والدليل على هذا: «قَوْلُ رَسُول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّجُلَيْنِ الأخَوَيْنِ اللَّذَيْنِ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بأرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَذُكِرَتْ فَضِيلَةُ الأوَّل عنْدَهُ فَقَالَ: "ألمْ يَكُنْ الآخَرُ مُسْلِمَاً؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ وَكَانَ لَا بَأسَ بِهِ، قَالَ: "وَمَا يُدْرِيكُم مَا بَلَغَتْ بِهِ صلاَتُهُ بَعْدَهُ؟ إِنَّمَا

(17/48)


مَثَلُ الصَّلَاةِ كَمَثَل نَهْرٍ عَذْب غَمْرٍ بِبَلَدٍ أحَدِكُمْ يَقْتَحِم فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا تَرَوْنَ ذَلِكَ يُبقِي من درَنِهِ؟ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاَتُهُ» . وليس قول عمر: اللهم اقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، بخلاف لما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «لاَ يَتَمَنَّينَّ أَحَدُكُم الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ» لأنه إنما دعا بما دعا به، شفقة على دينه، وخوفاً من أن تدركه فتنة تصده عن القيام بأمور المسلمين في دينهم ودنياهم، لما غصب به من الخلافة عليهم. والنهيُ إنما هو عن تمني الموت عند نزول المصائب في الدنيا وحلول البلايا فيها سخطاً بالقضاء وقلة رضا به، وعدم صبر على الأذى والشدة، لا عند الخوف على فساد الدين بحلول الفتن. والله أعلم.

[حكاية من سعد بن معاذ]
قال مالك: وكان من أمر سعد حين مرَّ وعليه الدرع وهو يقول:
مَهْلًا قليلاً نَلْحَقُ الْهَيْجَا حَمَلْ ... لَا بَأْسَ بالْمَوْتِ إِذَا حَلَّ الَأجَلْ
قال محمد بن رشد: حين مر وعليه الدرع المقلصة المشمَّرة الكمين، فقالت: ما أخاف على الرجل إلا من أطرافه. وقد مضى الكلام على هذا في صدر هذا الرسم. وقوله في البيت:
مهلا قليلاً نلحق الهيجا حَمَلْ
معناه الدعاء على أن يمهله الله على ضعفه حتى يلحق الحرب؛ لأن

(17/49)


الحَمَل: الصغيرُ من ولد الضأن، وقد يحتمل أن يكون قال ذلك وهو ضعيفٌ من الجرح الذي أصابه بالخندق، فمات منه بعد شهر. وقوله في قسم البيت الثاني:
لَا بَأسَ بِالْمَوْتِ إِذَا حَلٌ الأجَلْ
معناه: لا أكره الموت في سبيل الله، بل أرغبه إذا لم يكن منه بُدٌّ، وحان له الأجل. وبالله التوفيق.

[إجلاء عمر يهود خيبر]
في إجلاء عمر يهود خيبر قال مالك: قال ذلك اليهودي لعمر، وَقَدْ أقَرَّنَا مُحَمَّدٌ، فَقَالَ عُمَرُ: ألَمْ أسْمَعْهُ يَقُولُ لَكَ: كَيْفَ بكَ إِذا رَقَصَتْ بك قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيلةٍ، قال: إِنَّمَا كانت هَزِيلَةً مِنْ أبِي الْقَاسِم، فَقَالَ عُمَرُ: كًلّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْل.
قال محمد بن رشد: القائل ذلك لعمر، من اليهود رجل من كفار أهل خيبر، حين أجلى أهل خيبر عن خيبر بما ثبت عندهُ من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأرْض الْعَرَبِ» - وروي: بِجَزِيرَةِ العَرَبِ، وجزيرة العرب هي منبتهم: مكة والمدينة واليمامة واليمن، وقيل لها جزيرة العرب، لِإحاطة البحر والأنهار بها من أقطارها إلى البصرة، فأبطل عمر احتجاج اليهودي عليهم في إجلائهم عن خيبر، بإقرار النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إياهم فيها بما أخبر أنه سمعه من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأن ذلك يدل

(17/50)


على أن إقراره إياهم فيها لم يكن على التأبيد بِحق أوجبه لهم، وإنما كان لمنفعة المسلمين، إلى أن يأمر بإجلائهم فَيُمْتَثَلَ أمرُهُ فيها، وذلك من أعْلام نبوته؛ لأنه أخبر بما كان قبل أن يكون، فكان كما أخبر به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك أجلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يهود نجران وَفَدَك. فأما يهود خيبر فخرجوا منها ليس لهم من الأرض والثمر شيء، وأما يهود فَدَكَ فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالحهم على ذلك، فأعطاهم عمر قيمته من ذهب وورق وجمال وأقتاب وأجلاهم عنها. وبالله التوفيق.

[السبب التي استحل به رسول الله صلى الله عليه بني النضير]
في السبب التي استحل به رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بني النضير
قال مالك: «جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بني النضير يستعينهم في دية فقعد في ظل جدار، فأرادوا أن يلقوا عليه رَحَا. فأخبرهُ الله بذلك، فقام وانصرف، فبذلك استحلهم وأجلاهم إلى خيبر» وصَفيَّةُ من أهلها، سباها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر، قال: «فرجع إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجلاهم على أن لهم من أموالهم ما حملت الإبل والصفراء والبيضاء والخلقة والدِّنَان وَمِشَكِّ الحمل» . قال: الصفراء والبيضاء الذهب والورق والخلقة السلاح والدنان الفخار ومشك الحمل يستقي فيه الماء جلود يدبغونها بشعرها، «فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ حين رجعَ إليهم: يَا أخَاييثُ يَا وُجُوهَ القِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ» .
قال الِإمام القاضي: الدية التي ذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

(17/51)


وسلم إلى بني النضير ليستعينهم فيها هي دية الرجلين الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية في منصرفه من بئر معونة، بعد أن أسره عامر بن الطفيل وأطلقه، وذلك أنهما نزلا معه في ظل، فسألهما: ممن أنتما؟ فقالا: من بني عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما قتلهما وهو يرى أن قد أصاب منهما ثأره من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بئر معُونة، وكان معهما عهد من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلم به عمرو فلما قدم على رسول الله وأخبره الخبر، قال: لقد قتلت قتيلين كان لهما جوار، لأدينهما، هذا عمل أبي براء، وذلك أن أبا براء الكلابي، ويعرف بملاعب الأسِنّة، كان قد وفد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدعاه إلى الِإسلام فلم يسلم ولم ينقد. وقال له: لو بعثت رجالَاَ من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم لرجوت أن يستجيبوا لك، فقال له النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إني أخشى عليهم أهل نجد، فقال: أنا جارٌ لهم، فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم جماعة من أصحابه، قيل: في سبعين من خيار المسلمين، فنهضوا حتى نزلوا ببئر معونة، وبعثوا منها حرام بن ملحان بكتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عدو الله عامر بن الطفيل فلم ينظر في كتابه حتى عَدَى عليه فقتله، واستصرخ عليهم قبائل من سليم عُصية ورعل وذكوان فأجابوه وخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فأخذوا سيوفهم، ثم قاتلوا حتى قُتلوا من عند آخرهم إلا من كان منهم غائباً في سرحهم.
منهم عمرو بن أمية، أسروه فأطلقه عامر بن الطفيل بعد أن جر ناصيته في رقبة كانت على أمه زعم. فلما ذهب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني النضير، وكانت بينه وبينهم موادعة، ليستعين بهم في دية هذين القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية ولهما منهما منه جوار. قالوا له: اجلس يا أبا القاسم حتى تطعم، وترجع بحاجتك، ونقوم نتشاور ونصلح أمرنا فيما جئتنا به، فقعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أبي بكر، وعمر وعلي ونفر من الأنصار إلى جدار

(17/52)


من جُدرهم فتآمروا على قتله، وقالوا: مَن رجل يصعد على ظهر البيت فيلقي على محمد صخرة فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك بعضهم وهو عمرو بن جِحاش وأوحَى الله إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بما ائتمروا به من ذلك، فقام ولم يشعر أحد ممن معه ونهض إلى المدينة، فلما استبطأه أصحابه وراث عليهم خبره، أقبل رجل من المدينة فسألوه، فقال: لقيته وقد دخل أزقة المدينة، فقالت اليهود لأصحابه: لقد عجل أبو القاسم قبل أن نقيم له حاجته، ولحق به أصحابه بالمدينة، فأخبرهم بما أوحى الله به إليه ونزل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} [المائدة: 11] ... الآية، وأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه بالتهيؤ إلى قتالهم وخرج بهم إليهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فتحصنوا منه في الحصون، فحاصرهم ست ليال، وأمر بقطع النخل وإحراقها. ودسَّ إليهم عبد الله بن أبي ابنُ سلول ومن معه من المنافقين أنهم يقاتلون معهم وينصرونهم، وذلك قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ} [الحشر: 11] إلى قوله: {لا يُنْصَرُونَ} [الحشر: 12] فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم فألقوا بأيديهم وسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكف عن دمائهم ويخليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر.
وذلك معنى قوله في هذه الرواية: وأجلاهم إلى خيبر ومنهم من صار إلى الشام، وكان ممن صار منهم إلى خيبر أكابرهم كحيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق فدانت لهم خيبر، فَصفيَّةُ بنتُ حيي بن أخطب من أهل خيبرَ كما قاله مالك في هذه الرواية؛ لأن أباها حيي بن أخطب من بني النضير، احتمل إلى خيبر، فصار من أهلها. وروي عن الحسن قال: بلغني «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أجلى بني النضير. قال لهم:

(17/53)


" امْضُوا فَهَذَا أوَّلُ الْحَشْرِ وَأنَا عَلَى الأثَرِ» . وأنزل الله تعالى في ذلك في سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر: 2] إلى قوله: {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] . وذلك أن المؤمنين جعلوا يخربونها من ظاهرها وجعلوهم يخربونها من أجوافها لما أيقنوا أن الله أعلم بغلبة المسلمين عليهم فيها. وقد قيل: إنما كانوا يخربون بيوتهم ليبنوا ببعضها ما هدم المسلمون من حصونهم. والأول أظهر. والله أعلم.
وأنزل في أمرهم: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر: 3] يقول عز وجل: لولا أن كتب على اليهود من بني النضير في أم الكتاب الانتقال من موضع إلى موضع، ومن بلد إلى آخر لعذبتهم في الدنيا بالقتل والسباء، لكني رفعت العذاب عنهم في الدنيا بالقتل، وعذبتهم فيها بالجلاء، ولهم في الآخرة عذاب النار مع ذلك.
وأنزل تعالى في أمرهم: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6] فكانت بنو النضير صافية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لم تخمس، فكانت منها صدقاتَه، على ما قاله مالك في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد، وما وقع في المدونة من أنه قسم النضير بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار، معناه: ما بقي منها بعض صدقاته، وإنما خص بذلك المهاجرين دون الأنصار، حاشى سهل بن حنيف وأبي دُجانة، لفقرهما، والحارث بن الصمة؛ لأنه كان شرط على الأنصار في بيعة العقبة أن يواسوا من يأتيهم من المهاجرين، فكانوا يكفونهم المئونة، ويقاسمونهم في الثمر فلما جلا بنو قينقاع وبنو النضير، قال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن

(17/54)


شِئْتُم بَقِيتُم عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ، وَقَسَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُم رَجَعَتْ إِلَيْكُم أمْوَالُكُم وَقَسَمْتُ لَهُم دونَكُم» فاختاروا ذلك ففعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد وقع في رسم صلى نهاراً بعد هذا من قول مالك: إِن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسم قريظة بين المهاجرين، ونفَرٍ من الأنصار، سمعت منه أنهم ثلاثة: سهل بن حُنيف، والحارث بن الصمة، وسماك بن حرشة. قال: فأما النضير فإنها كانت صافية، لم يكن فيها خُمس، وخيبر، كانت صافية إلا قليل منها فتحت عنوة، وذلك يسير، فخمس ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما في المدونة وفي سماع أشهب عن مالك من كتاب الجهاد هو الصحيح؛ لأن ما لَم يُوجَفْ عليه بخيل ولا ركاب، هو الذي لا خمس فيه، ولا حق لأحد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقسمه باجتهاده، فخص بالنضير المهاجرين للمعنى المذكور، إلا ثلاثة من الأنصار، ومنها كانت صدقاته، وكذلك ما كان من خيبر، لم يُوجَفْ عليه بخيلٍ ولا ركاب، لم يكن فيه خمس، ولا حق لأحد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقطع منه لأزواجه، وأما ما كان منها قد أوجف عليه بالخيل والركاب، فخمَسه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقسمه بين الغانمين، وكذلك قريظة؛ لأنها افتتحت بقتال، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان، أحرزا أموالهما، أحدهما يامن بن عمير وابن كعب بن عمرو بن جحاش. وذكر أنه جعل جعلاً لمن قتل ابن عمه عمرو بن جحاش لما هم به في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

[عمر بن عبد العزيز زهده في زهده وخوفه الله]
حكاية عن عمر بن عبد العزيز في زهده وخوفه الله قال مالك: أمر عمر بن عبد العزيز رجلاً يشتري له ثوباً

(17/55)


بستمائة درهم، للحاف، فسخطه، فلما ولى أمر ذلك الرجل، أن يشتري له كساء بسبعة دراهم، فلما جاء به أخذه فلبسه ثم تعجب لحسنه، فضحك الرجل، فقال له عمر: إني لأظنك أحمق، تضحك من غير شيء، قال: إنما ضحكت لمكان اللحاف الذي أمرتني أن أشتريه بستمائة درهم، قال: فصمت ساعة، ثم قال: أخشى ألا يشتري أحد ثوباً بستمائة درهم وهو يخاف الله.
قال محمد بن رشد: هذا من زُهد عمر بن عبد العزيز في الدنيا وخوفه لله نهاية في ذلك. وفضائله أكثر من أن تحصى، ومناقبه مشهورة لا تخفى، قد حصل الإجماع على الثناء عليه والشهادة بالخير له، حتى قال ابن القاسم في رواية الصلت عنه على ما وقع في سماع عبد الله بن الحسن من كتاب الأيمان بالطلاق: إن من حلف بطلاق امرأته أنه من أهل الجنة لا تطلق عليه امرأته. وقد مضى الكلام على ذلك هنالك. وبالله التوفيق.

[أول ظعينة قدمت المدينة]
في أول ظعينة قدمت المدينة
قال مالك: كان أَول ظعينة قدمت المدينة أُم سلمة، فخرجت وحدها من مكة مهاجرة، فرآها رجل من قريش فتبعها حتى إِذا نزلت حط رحلها ورحل لها، حتى إِذا أَرادت الرحيل تنحَّى عنها، فإِذا همَّت بالرحيل رحل لها، حتى رأى المدينة، فقال لها: هذا الموضع الذي تريدين ثم انصرف.
قال محمد بن رشد: أُم سلمة هذه هي بنت أَبي أُمية بن المغيرة المعروف بزاد الراكب، أحد أَجواد قريش المشهورين بالكرم زوج النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كانت قبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ تحِت أَبي سلمة بن عبد الأسود فولدت له أَولاداً منهم أبو سلمة الذي كُنيت به، وهاجرت معه إلى

(17/56)


أرض الحبشة، وذكر ابن عبد البر في كتاب الصحابة له: أَنها أَولُ من هاجرت مع زوجها إلى أَرض الحبشة. وذكر في كتاب الدرر له: أَن أول من خرج من المسلمين فارّاً بدينه إلى أَرض الحبشة عثمان بن عفان مع زوجته رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم رجع أَبو سلمة مع زوجته أم سلمة المذكورة من أرض الحبشة إلى مكة في جملة من رجع إليها، لمَّا كان اتصل بهم من أن قريشاً قد أَسلمت أَو أَكثرها خبراً كاذباً، ثم هاجر أبو سلمة ثانية من مكة إلى المدينة، وحبست عنه امرأته أم سلمة سنة، ثم أَذن لها باللحاق بزوجها، فانطلقت مهاجرة، فكانت أول ظعينة قدمت المدينة على ما قاله مالك في هذه الرواية. والرجل الذي شيعها من قريش حتى رآها تحل المدينة وكان كافراً هو عثمان بن طلحة، وذكر ابن عبد البر في كتاب الصحابة من رواية محمد بن مسلمة المغني عن مالك قال: هاجرت أم سلمة وأم حبيبة إلى أرض الحبشة ثم خرجت مهاجرة إِلى المدينة، وخرج معها رجل من المشركين، وكان ينزل بناحية منها، إِذا نزلت، ويسير معها إذا سارت، ويرحل بعيرها ويتنحَّى إذا ركبت، فلما رأى خيل المدينة قال: هذا الأرض التي تريدين ثمَّ سلَّم عليها وانصرف. والذي في هذه الرواية من أنها إِنما خرجت من مكة مهاجرة يريد بعد رجوعها إليها من أرض الحبشة هو الصحيح، والله أَعلم.

[تفسير بَكّةَ ومكَّة]
في تفسير بَكّةَ ومكَّة
قال: وسئل مالك: عن تفسير مكة وبَكة؟ فقال: بكة موضع البيت، ومكة غيره من المواضع، يريد القرية.
قال محمد بن رشد: أَراه أخذ ذلك والله أعلم من قوله عزَّ وجلّ؛ لأنه قال في بَكَّة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] وهو إِنَّما وضع بموضعه الذي وضع فيه لا فيما سواه من

(17/57)


القرية. وقال في مكة: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] ، وذلك إنَّما كان في القرية لا في موضع البيت.

[ما جاء من أن عبد المطلب حفر بئر زمزم]
فيما جاء من أنَّ عبد المطلب حفر بئر زمزم قال مالك: رأى عبد المطلب أنه يُقال له: احفر زمزم، لا تنزف ولا تهزم، بين فرث ودم، تروي الحجيج الأعظم، في موضع التراب الأعصم. قال: فحفره.
قال الِإمام القاضي: قد جاء في الصحيح: أن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كان بينه وبين أهله ما كان خرج بابنه إسماعيل وأمه ومعهم شنة فيها ماء، حتى قدم مكة، فوضعها تحت دوحة فجعلت تشرب من الشنّة ويدرّ لبنها حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلّي أحس أحداً فصعدت على الصفا فنظرت فلم تر أَحداً ثم هبطت فلما صارت في الوادي، رفعت رأسها فسعت سعي الِإنسان المجهود، ثم صعدت على المروة، فلم تر أحداً، فعلت ذلك سبع مرات وابنها يلتوي من العطش، فلما كان في آخر ذلك، سمعت صوتاً فأصغتَ إليه فقال: قد سمعت أن كان عندك غواث، فإذا جبريل فقال بعقبه هكذا، فاندفق الماء فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفن، قال: فقال أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ تَرَكَتْهُ كَانَ الْمَاءُ ظَاهِراً» أي: لكانت زمزم عيناً معيناً، فيحتمل أن يكون بعد ذلك قد رفعت السيول فتلقاه الرمل والتراب حتى انطمس وعفا أثره، فكان من عبد المطلب في حفره ما ذكر في هذه الحكاية، والله أعلم.

(17/58)


[ما يزع الِإمام الناس]
فيما يزع الِإمام الناس قال مالك: بلغني أَن عثمان بن عفان قال: ما يزع الِإمام الناس أكثر مما يزعهم القرآن، قال: يزعهم يكفهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن الذين ينتهون من الناس عن محارم الناس مخافة السلطان، أكثر من الذين ينتهون عنها لأمر الله، ففي الِإمام صلاح الدين والدنيا، ولا اختلاف بين الأمة في وجوب الِإمامة ولزوم طاعة الِإمام.

[تكنية الصبي]
من تكنية الصبي وسئل مالك: عن الصبي أيُكنَّى؟ قال: لا بأس بذلك، فقيل له: فكنّيت ابنك أبا القاسم، قال: أمَّا أنا فلا أفعله، ولكن أهل البيت يكنّونه فلا أرى بذلك بأساً.
قال محمد بن رشد: قوله في تكنية الصبي: إنَّه لا بأس بذلك - يدل على أن ترك ذلك أحسن عنده، ولذلك قال في تكنية ابنه: أمَّا أنا فلا أفعله. وأهل البيت يكنونه. وإنَّما كان تركه أحسن، لما في ظاهره من الِإخبار بالكذب؛ لأن الصبي لا ولد له يكنى عن اسمه به كما يفعل ذلك من له ولد من الرجال، وجاز، ولم يكن فيه إثم ولا حرج، إِذ لا يقصد بذلك إلى الِإخبار بأنه والد للمكنى باسمه، وإنَّما تجعل الكنية التي يكنَّى بها اسماً علماً له على سبيل الِإكرام له والترفيع به، وبالله التوفيق.

[دليل النبي عليه السلام في هجرته إِلى المدينة وما ظهر في ذلك من معجزاته]
في دليل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في هجرته إِلى المدينة وما ظهر في ذلك من معجزاته قال مالك: كان اسم الدليل رقيط، وكانوا أربعة، النَّبي عليه

(17/59)


السلام، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولي أبي بكر، والدليل.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في بعض الكتب: رُقيط، وفي بعضها: أُريقط. وقال ابن عبد البر في الدرر له: إِن اسمه عبد الله بن أرقط. ويقال: أريقط. وكان النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر قد استأجراه حين خروجهما من مكة ليدل بهما إلى المدينة، وكان معهما عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، فكانوا في مسيرتهم إلى المدينة أربعة كما قال، وذلك أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما بايَع أهل المدينة الأنصار، ودخلوا في الِإسلام، وهاجر إليها من هاجر من المسلمين، شق ذلك على قريش، وقالوا: هذا شيء شاغل لا يطاق، فأجمعوا أَمرهم على قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فبيّتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج، فأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله عزَّ وجلّ أن يعمي عليهم أثره فطمس اللَّه تعالى على أبصارهم، وخرج وقد غشيهم النوم فوضع على رؤوسهم تراباً ونهض فلما أصبحوا خرج عليهم علي وأخبرهم أن ليس في الدار دَيار، فعلموا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فات ونجا وتواعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أَبي بكر الصدِّيق للهجرة، ودفعا راحلتيهما إلى الدليل المذكور، وكان كافراً لكنهما وَثقا به، فاستأْجراه ليدل بهما إلى المدينة، ثم نهضا حتى دخلا الغار بجبَل ثور، وكانت أسماء بنت أَبي بكر تأتيهما بالطعام، ويأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالأخبار ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم، فيعفي آثارهما، فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف فقفا الأثر حتى وقف على الغار، فقال: هاهنا انقطع الأثر، فانظروا، فنظروا فإِذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته، وأمر الله تعالى حمامة فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إلى ذلك أيقنوا أن ليس في الغار أحد، فرجعوا، «فقال أبو بكر للنَّبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ عِنْدَ قَدَمَيْهِ لأبْصَرَنا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» .

(17/60)


فلما مضت لبقائهما في الغار ثلاثة أيام أتاهما الدليل براحِلتيهما وأسماء بسُفرتهما، وكانت قد شقًت نِطاقها، فربطتَ بنصفه السُفرة، وانتطقت النصف الآخر ولهذا سميّت أم النطاقين فركبا راحلتيهما وأردف أبو بكر عامر بن فُهيرة، وتقدمهم الدليل، فصاروا أربعة كما قال في الحكاية، حتى وصلوا إلى المدينة. وروي عن النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ» . وقد وصف أصحاب السير مراحله في طريقه مرحلة مرحلة، وما كان منه فيها من أعلام نبوَته المعجزات، من ذلك خبره مع سراقة بن مالك بن جعشم وذلك أنهم مروا في مسيرهم بناحية موضع سراقة بن جعشم، فلما رآهم علم أنهم الذين جعلت فيهم قريش ما جعلت لمن أتى بهم، فركب وتبعهم ليردهم بزعمه، فدعا عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فساخت يدا فرسه في الأرض، ثم استقلَّت فأتبعها دخان، فعلما أنها آية فناداهم قفوِا علي وأنتم آمنون فوقف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فهم به فساخت يدا فرسه، فقال: ادع الله لي فلن تر مني ما تَكره، وأنا أَنصرف عنك الطلب فدعا له فاستقلت فرسه، وسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَن يكتب له كتاباً فأمر أبا بكر فكتب له وانصرف، وجعل يرد كل من لقي يقول لهم: قد كفيتكم هذه الناحية فكان أَول النهار طالباً لرسول الله وآخره معه راداً للطالبين عنه. وخبره مع أُم معبد حين مروا بها في خيمتها في شاتها الحائل على ما هو مشهور معلوم بنقل الثقات وساروا على غير الطريق المعهودة حتى وصلوا إلى المدينة فنزلوا بقباء ضحى يوم الاثنين، وقيل: عند استواء الشمس، لاثنتي عشرة ليلة خلت لربيع الأول، وأول من رآه رجل من اليهود وكان أكثر أهل المدينة قد خرجوا ينظرون إليه، فلما ارتفع النهار وقلصت الظلال، واشتدَّ الحَر يَئِسوا منه وانصرفوا ورآه

(17/61)


رجل من اليهود كان في نخل له، فصَاح: يا بني قيلة، هذا جدّكم قد جاء، يعني حظكم، فخرجوا وتلقوه، فقيل: إنَّه دخل معهم المدينة، فقيل: إنًه نزل على سعد بن خيثمة، وقيل: إنَّه نزل على كلثوم بن هرم، وكان فيمن خرج إليه قوم من اليهود كان فيهم عبد الله بن سلام، قال: فلما نظرت إلى وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعت منه: «أَيها النًاسُ أفْشُوا السَّلامَ وَأَطْعِموا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الَأرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللًيْل وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنًةَ بِسَلاَمٍ» .

[ذم الحسد]
في الحسد
قال مالك: بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكِبَر والشحّ، حسد إبليسِ وتكبّر على آدم، وشحّ آدم، فقيل له: كلْ من شجر الجنة كلها إلَا التي نهاه الله فشحَّ فأَكل منها.
قال محمد بن رشد: الحسد من الذنوب العظام لأن الله تَعالى نهى عنه وحرمه في كتابه وعلى لسان رسوله فقال عزَّ وجلّ: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] وقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] أن يعطيه مثل ما أعطاه لغيره، دون أن تزول

(17/62)


النعمة عنه فليس ذلك بمحظور ولا حسد، وإنما هو الغبطة، تقول غبطت الرجل في كذا، وحسدته عليه، فالغبطة مباحة، والحسد محْظور. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا حَسَدَ إِلّاَ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُل آتَاهُ اللًهُ الْقُرْآنِ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْل وآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَهُوَ يُنْفِقهُ آنَاءَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ» معناه لا حسد أصلاً، لكن في هذين الاثنتين تغابطوا فيهما فالاستثناء في الحديث استثناء منقطع، ومن الناس من ذهب إلى أن قول النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليس على عمومه؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد أَباحه في الخير، وقال: «لا حسد إلّاَ في اثنتين» ، والذي ذهب إلى هذا قال: إن الحسد على وجهين: حسد معه بغيٌ، وحسدٌ لا بغي معه. وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِذَا حَسَدْتُم فَلَا تَبْغُوا» .
والبغي والله أعلم هو أَن يريد الإِضرار بالمحسود بزوال النعمة عنه، فالحسد الذي لا بغي معه جائز، والحسد الذي معه البغي محظور. فالحسد على هذا ينقسم على قسمين: حسد في الخير، وحسد في المال، فالحسد في الخير مرغب فيه، إذ لا بغي فيه، والحسد في المال جائز إذا لم يكن معه بغي، ومحظور إن كان معه بغي، وكذلك الكبر محظور مذموم؛ لأن الكبرياء إِنَّما هي لله تعالى، فمن تكبَّر قصمه الله ومن تواضع رفعه الله.
والشحّ على وجهين: شحّ بالواجبات، وشحّ بالمندوبات، فأما الشحّ بالواجبات فحرام، وأما الشح بالمندوبات فمكَروه. فمن وُقي الشح في الوجهين فقد أفلح، قال عزَّ وجلّ: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16] .
وقوله في آدم: فشحَّ فأكل منها. معناه: فشحَّ أَن يأكل من ثمر الجنَّة التي أباح الله له الأكل منها إِبقاءً عليها وشحًّا بها، وأكل من التي نهاه الله عنها. والله الموفق.

(17/63)


[الأدب في الأكل]
في الأدب في الأكل وسُئل مالك: عن رجل يأكل في بيته مع أهله وولده، فيأكل معهم فيما بينهم، ويَتناول ذلك من أَيديهم، قال: لا بأس بذلك، وسُئل مالك: عن القوم يأكلون في مثل الحرس، فيتناول بعضهم بين يدي بعض، وبعضهم يتوسع لبعض. قال: لا خير في ذلك، وليس هذا من الأخلاق التي تعرف عندنا.
قال محمد بن رشد: إنَّما لم ير بأساً إذا أكل الرجل في بيته مع أهله وولده، مما يليهم؛ لأن الرجل لا يلزمه أن يتأدَّب مع أهله وولده في الأكل، ويلزم أَهله وولده أن يتأدّبوا معه فيه، وعليه هو أَن يأمرهم بذلك على ما جاءت به السنّة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في قوله لربيبه عمر بن أبي سلمة: «سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» ، وكذلك الرفقاء إذا اجتمعوا في الأكل يلزم أن يتأدَّب كل واحد منهم في أكله مع صاحبه، فلا يأكل إلَّا مما يليه على ما قاله مالك في القوم يأكلون في مثل الحرس أَو في مثل الجريش على ما وقع في بعض الكتب. وهذا في الطعام الذي صفته واحدة، لا تختلف أغراض الآكلين فيها كالثريد واللحم وشبهه، وأما الطعام المختلف الذي تختلف أغراض الآكلين فيه، فلا بأس أن يتناول بعضهم ما يعجبه منه، وإن كان يلي غيره. وقد جاءت به السنّة. رُويَ عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ عِكْرَاشٍ بْنِ ذُؤيْبِ قَالَ: «بَعَثَنِي بَنُو مرةَ بن عُبَيْدٍ بِصَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ إِلَى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدْتُهُ جَالِساً بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ فَأَتَيْتُهُ بِإِبلٍ كَأَنَّهَا عُرُوقُ الأرطى فَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: عِكْرَاشُ بْنُ ذُؤيْبٍ، فَقَالَ: ارْفَعْ فِي النَّسَبِ، فَقُلْتُ: ابْنِ حُرْقُوصٍ بْنِ جعْدةَ بْنِ عَمْرِو بنِ النزال بنِ مُرَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ. وهَذه صَدَقَاتُ بَنِي مُرةَ بن عُبَيدٍ، فَتَبَسَّمَ

(17/64)


رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثمَّ قَالَ: بَل هذه إِبِلُ كرمي ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُوسَمَ بِمِيْسَم إِبِل الصَّدَقَةِ وَتُضَمَّ إلَيْهَا ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي وَانْطَلَقَ بِي إِلَى مَنْزِل أُمِّ سَلَمَةَ زَوْج النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: هَلْ مِنْ طَعَام؟ فَأَتَتنَا بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ وَالْوَدكِ فَأَقْبَلْنَا نأكلُ مِنْهَا فَأكًلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَجَعَلْتُ أَخْبِطُ فِي نَوَاحِيهَا، فَقَبَضَ رَسولُ اللَّهِ بِيدهِ الْيًسْرَى عَلَى يَدِي الْيُمْنَى. وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ، ثمَّ أَتَتْنَا بِطَبَقٍ فِيهِ ألْوَانٌ مِن رطِبِ أَوْ ثَمْرِ -شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْرَاشٍ: رُطَباً كَانَ أَو ثَمْراً؟ - فَجَعَلْتُ آكُلُ مِمَّا بَيْنَ يَدِيَّ فَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّبَقِ، وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ حَيْث شِئْتَ ثمَّ أَتَتْنَا بِمَاءٍ فَغَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ مَسَحَ بِبَلَل كَفَّيْهِ وَجْهَهُ وذِرَاعَيْهِ وَرَأسهُ ثمَّ قَال: لا يَا عكْرَاشُ هذَا الْوُضوءُ» .

[كراهية التنعُّم وزَيِّ الأعاجم]
في كراهية التنعُّم وزَيِّ الأعاجم
قال مالك: بلغني أَن عمر بن الخطاب قال: إِيَّايَ والتَّنعّمَ وَزَيَّ الأعَاجِمَ.
قال محمد بن رشد: قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِيَّاي والتنعم، معناه: التحذير من التنعم بالمُباحات في الدنيا، وذلك منه على سبيل التورع فيها، والتقلل منها؛ لأن من تنعم بشيء في الدنيا، فلا بد أن يسأل عن تنعمه، وما يجب لله من الحقوق فيه، قال عزَّ وجلّ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] . قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه في الطعام الذي أكلوه عند أَبي الهيثم بن التيهان، وقد صنع لهم

(17/65)


خبزاً من شّعير وذبح لهم شاة واستعذب لهم ماء فعلق في نخلة: «لتسألنَّ عن النعيم هذا اليوم» . ومن حق المسلم الخائف لله، لا يتنعّم في الدنيا، ويطوي بطنه عن جاره وابن عمه، وقد أدرك عمر بن الخطاب جابر بنَ عبد الله ومعه حِمل لحم، فقال: ما هذا؟ فقال: يا أَمير المؤمنين قدمنا إلى اللحم، فاشتريت بدرهم لحماً فقال عمر: أَمَا يريد أحدكم أن يطوي بطنه عن جاره وابن عمه؟ أَين تذهب هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] ، وأمَّا زي العجم فإنَّما نهى عنه عمر بن الخطاب لما فيه من التشبّه بهم، وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «مَن تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم، وَمَنْ رَضِيَ عَمَلَ قَوْم كَانَ شَرِيكَ مَنْ عَمِلَهُ» . فزي العجم منهي عنه ملعون لابسه، وكذلك سيوفهم وشكلهم، وجميع زيهم، هو مثله في اللعنة والكراهة، قال ذلك ابن حبيب في الواضحة، فلا يجوز لأحد لبسه في صلاة ولا غيرها، ومن جهِل فلبسه في الصلاة فلا إعادة عليه إذا كان طاهراً وقد أساء. وبالله التوفيق.

[إيثار الرجل المساكين على نفسه]
في إيثار الرجل المساكين على نفسه
بالطيب من الطعام قال مالك: كان طاووس يشتري الجزرة لسُفرتِهِ، فيدفعها إِلَى المساكين قبل أن يذبحها، وكان يعمل الطعام الطيب، ويدعو إليه المساكين، فقيل له: لو دعوت أشراف الناس،

(17/66)


فقال: لا، إن هؤلاء لا عهد لهم بمثل هذا، فقيل لمالك: فإِنَّه كان بمصر رجلٌ يسمى مروان اليحصبي يفعل ذلك، فقال: ما أَجود أن يفعل هذا، وأعجبه العمل به.
قال محمد بن رشد: الفضل في هذا بيِّن لا يخفى، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] . وقال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] . وقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فإذا أعطى الرجل المساكين فضل الطعام كان له عند الله فضل.

[يَمُد من بسم الله الرحمن الرحيم ما لا يُمَدُّ]
فيمن يَمُد من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ما لا يُمَدُّ وسئل مالك: عن مد " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، أترى به بأساً؟ قال: لا بأس به، وما الذي يسْأَل عن مثل هذا؟ قال: وسألته عن مد " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " قبل أن يجعل السين، قال: ما يعجبني.
قال محمد بن رشد: إذا لم ير بأساً في المد في الخط فيما بين السين والميم من " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وأنكر السؤال عنه؛ لأن الجواز فيه بيِّن، بل هو مستحب مستحسن؛ لأن مد الخط في كتاب اسم الله تفخيمٌ له، وتحسين فيه، ومن الحق أن يفخم له عز وجل في الكتاب، ويحسن غاية ما يقدر عليه، على ما جرى به عمل الناس في القديم والحديث، ولا يدمج ويخرج، وأما المد فيما بين الباء والسِّين من اسم الله في الخط،

(17/67)


فوجه الكراهة في ذلك، أن الباء ليست من اسم الله، وإنما دخلت عليه للِإلزاق والِإعلام بالبداءة؛ لأن المعنى في ذلك: أستفتح كلامي وفعلي باسم الله، فلا يحسن أن يفرق بينهما بالمد كما يفعل بين الحرفين من الاسم ليحْسن به؛ إذ ليس من الاسم، وبالله التوفيق.

[القران في الثمر]
في القران في الثمر وسئل مالك: عن القران في الثمر، قال: لا خير في ذلك، قال ابن القاسم: يعني أن يكون الإنسان يأكل ثمرتين أو ثلاثاً في لقمة. قال مالك: خرج عمر بن الخطاب إلى أرض الحبشة في الجاهلية في جهد أصابهم، فاستضاف قوماً من الحبشة فجاءوهُ بخزيرة غير كبيرة، وعلى رأسها شيء من سمن، فطفق أحدهم يدور منها مثل النواة فيأكله، قال عمر: فخيَّرتُ نفسي بين أن آكل كما كنت آكل أو آكل كما يأكلون، فرأيت أن آكل كما يأكلون، فأكلت، وذكر ذلك عند القران في الثمر. قال ابن القاسم: يعني بخزيرة: عصيدة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: إنه يأكل الإِنسان ثمرتين أو ثلاثاً في لقمة - تفسير صحيح لا اختلاف فيه وفي صحته، وإنما قال مالك: لا خير في ذلك، للنهي الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقد اختلف في علة النهي عن ذلك، فقيل: إنما نهى عنه لما فيه من سوء الأدب، فعلى هذا لا يجوز لمن واكل قوماً يلزمه أن يتأدب في أكله

(17/68)


معهم - أن يقرن دونهم، وإنما يجوز ذلك له مع أهله وولده، إذ لا يلزمه أن يتأدب في أكله معهم على ما مضى فوق هذا من أنه لا بأس إذا أكل معهم أن يتناول مما بين أيديهم، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية. وما فعله عمر بن الخطاب مع الذين استضافهم في الخزيرة التي أتوه بها؛ لأنهم لما أتوه بها، فقد أذنوا له في الأكل منها على أي صفة شاء، فرأى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يترك عادته في الأكل، تأدباً معهم. وقيل: إنما نَهى عن ذلك لئلا يستأثر في الأكل على من يواكله بأكثر من حقه، فعلى هذا يجوز لمن أطعم قوماً وأكل معهم أن يقرن دونهم. وهو قول مالك في رسم الأقضية من سماع أشهب بعد هذا.
وللشركاء في الطعام إذا كان ملكاً لهم، وأطعموا إياه أن يقرن أحدهم إذا استأذن أصحابه في ذلك. وذلك مروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية ابن عمر. قال: «نهى رسول اللَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُقرِن الرجُلُ بَيْنَ الثَّمْرَتَيْنِ حَتَى يَسْتَأذِنَ أَصْحَابَهُ» وبالله التوفيق.

[انتظار الِإمام الناس للخطبة بعد صعوده على المنبر]
في انتظار الِإمام الناس للخطبة
بعد صعوده على المنبر قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب صعد المنبر فجلس عليه وصمت حتى ذهب الأذان إلى العوالي فأذن الناس بجلوس عمر على المنبر قبل الخطبة حتى جاءوا ثم تكلم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[قال الِإمام القاضي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : إنما جلس عمر على المنبر قبل الخطبة ليعلم الناس أنه يريد أن يخطب عليهم فيجتمعوا لاستماع خطبته. وهذا أحسن من الفعل في الخطبة على الناس لأمر ينزل بهم، لا في خطبة الجمعة؛ لأنه إنما يجلس فيها على المنبر ما دام

(17/69)


المؤذنون يؤذنون، على ما أتت به السنة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

[صفة القصد المحمود]
في صفة القصد المحمود
قال: وسمعت مالكاً يذكر القصد وفضله، قال: وإياك من القصد ما تحب أن تُرفع به، فقيل له: لم؟ فقال: ما يعجب به، ولعجب الناس.
قال محمد بن رشد: القصد الاقتصاد في الإنفاق واللباس، وفي معناه جاء الحديث: «ما عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ» ، وكفى في بيان فضله ثناءُ الله تعالى على أهله بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ، وذكر مالك في الموطأ أنه بلغه عن عبد اللهِ بن عباس أنه كان يقول: الْقَصْدُ وَالتُّؤدة وَحُسْنُ السّمت جُزْءٌ مِن خَمْسِةِ وَعِشْرِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوءَةِ. وقد روي عن ابن عباس معناه مرفوعاً إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَيُكْرَهُ مِنَ الْقَصْدِ كَمَا قَال: مَا يُعْجَبُ بِهِ فَاعِلُه فَيُعْجِبُ النَاسَ، وَيَذْكُرونَهُ بِهِ، ويُشَارُ إليه بسببه.
وقد روي عن الحسن قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفى بالمرء مِن الشرِّ أن يشَارَ إليُه بالأصَابع في دينه أَوْ دُنْيَاهُ، إلاَّ مَنْ عَصَمَ اللَهُ» . وروي عن رجل من الأنصار أنه قال: ما استوى رجلان صالحان، أحدهما يشار إليه، والآخر لا يشار إليه؛ لأن الرجل

(17/70)


إذا أُثني بالخير عليه وأُشير به إليه، لا يخلص من أَن يعجبه ذلك، ويُسَر به، ولا ينبغي للرجل أن يسر إلا بما يرجوه مِنَ الثواب عند الله في الدار الأخرى، لا بثناء الناس عليه في الدنيا. وبالله التوفيق.

[القاضي لا يقضي وهو جائع]
في أن القاضي لا يقضي وهو جائع
ولا وهو شبعان جداً قال مالك: إنه يقال: لا يقضي القاضي وهو جائع من غير أن يشبعِ جداً؛ لأن الغضب يحضر الجائع، والشبعان جداً يكون بطيناَ.
قال محمد بن رشد: هذا بيِّن على ما قاله؛ لأن القاضي لا ينبغي له أن يقضي إلا وهو فارغ البال عما يشغله، ليفهم ما يقضي به، كما لا ينبغي له أن يصلي إلا وهو فارغ البال عما يشغله في صلاته. فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُصَلِّين أَحَدُكُم بِحَضْرَةِ الطَّعَام، وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُه الأخْبَثَانِ: الْغَائِطُ وَالبَوْلُ» . وبالله التوفيق.

[أحكام ما أحله الله ونهى عنه وعفا عنه]
في أحكام ما أحله الله ونهى عنه وعفا عنه قال مالك: يقال: أمرٌ أحله الله فاتبعوه، ونهيٌ نَهى الله عنه فاجتنبوه، وعفو عفا الله عنه فدعوه. قال مالك فيه {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101] .

(17/71)


قال ابن القاسم: وشذ قوله في هذه الحكاية: أمر أحله الله فاتبعوه، معناه: أمر أحله الله فأحلوه؛ لأن ما أحله الله فهو حلال، يجوز أكله، ولا يجب.
وقوله فيها: عفو عفا الله عنه فدعوه، يدل بحمله على ظاهره، أن المسكوت عنه محظور لا يباح أكله، وإلى هذا ذهب مالك في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان؛ لأنه قال فيه في المد الذي يأكله الناس: أنه ينبغي للِإمام أن ينهى الناس عما يضر بهم في دينهم ودنياهم، واحتج للمنع من جواز أكله بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] ، أما الطين من الطيبات ولم يحمله مالك في هذه الرواية على ظاهره، بل رأى المعنى في قوله: فدعوه اختياراً لا إيجاباً، بدليل قوله فيها: قد رفع اللَّه فيه الحرج عنهم بعفوه عنه؛ لئلا يحرم عليهم إن سألوه عنه فيسوؤهم ذلك، فقول مالك في هذه الرواية: إن المسكوت عنه مباح، وإلى هذا ذهب أبو الفرج.
ووجه القول الأول من طريق النظر: أنه قد ثبت أن الأشياء مِلكُ مالك، والأصل لا يستباح مِلْك أحدٍ إلا بإذنه، ووجه الثاني وأن خلق اللَّه تعالى له دليل على الِإباحة، إذ لا يجوز أن يخلقه عبثاً لغير وجه منفعة.

[امتيار القمح من بلد إلى بلد]
في امتيار القمح من بلد إلى بلد قال مالك: بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز على

(17/72)


أيْلَة كتب إليه: إن قومي يمتارون القمح منها يمتارونه إلى غيرها، وإنه بلغني أن أَمير المؤمنين منع طعاماً أن ينقل. فكتب إليه عمر: ما ظننت أن أحداً أبَه لهذا، وإن الله تعالى أحل البيع وحرم الربا، فخل بين الناس وبين البيع والابتياِع.
قال مالك: كان مِن العيب الذي يُعاب به من مضى ويرونه ظلماَ عظيماً منعُ التجر.
قال محمد بن رشد: المعنى عندي والله أَعلم فيما كتب به عامل أيلة إلى عمر بن عبد العزيز أن الناس كانوا يمتارون القمح من أيلة إلى غيرها ليبيعوه بها فهمَّ أن يمنعهم من ذلك لما بلغه أنه منع طعاماً أن ينقل وإنما كان منع والله أعلم مِن نقله للاحتكار، فكتب إليه: ما ظننت أن أحداً أبه لهذا، أي: ما ظننت أن أحداً هم بالمنع من مثل هذا فلا تمنع منه، وخل بين الناس وبينه، فإن الله قد أَحل البيع وحرم الربا، فنقل الطعام من بلد إلى بلد للبيع جائز، وإن أضر ذلك بسعر البلد الذي ينقل منه كان بأن تعلية الأسعار بالبلد الذي ينقل منه ترخيصاً في البلد الذي ينقل إليه.
والمسلمون في جميع البلد أُسوة، ليس بعضهم أحق بالرفق من بعض. وأما نقل الطعام من بلد إلى بلد للاحتكار، ففيه خلاف وتفصيل، قد مضى القول فيه في رسم يسلم من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، فلا معنى لإِعادته هنا.
وقول مالك: كان من العيب الذي يعاب به من مضى ويرونه ظلماً عظيماً منع التجر، معناه: شراءُ الطعام للحكرة؛ لأن الحكرة قد أتت آثار في التشديد فيها، فحملها بعض من مضى على عمومها في جميع الطعام، وفي كل الأزمان، ولم ير ذلك مالك.

(17/73)


وقد مضى تحصيل القول فيما يجوز من الاحتكار مما لا يجوز منه في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع فأغنى ذلك عن إعادته.

[التسليم لأمر الله والرضا بقدَره]
في التسليم لأمر الله والرضا بقدَره
وسمعت مالكاً: يذكر أن القاسم بن محمد وقف بعرفة ومعه عمر بن الحسين فافتقد عبد الرحمن، فقال القاسم: يا عمر، التمس أخاكَ، فالتمسه فلم يجده، فقال القاسم: قضاء الله خير للمؤمنين.
قال محمد بن رشد: في هذا الرضا بقضاء الله والتسليم له، والِإيمان بالقدر خيره وشره من عقود الِإيمان، فقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتًّى الْعَجْزِ وَالْكَيْس، أَوِ الْكَيْس وَالْعَجْزِ» ، فالتكذيب به كفر وضلال، وقد مضى القول في هذا في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين والمرتدين، فلا وجه لِإعادته.

[لباس الرجل الثوب المصبوغ]
في لباس الرجل الثوب المصبوغ قال مالك: رأيت ابن المنكدر يلبس الثوبين المصبوغين

(17/74)


الموردين المتينين بالزعفران، ولقد رأيت في رأسه الغالية، ورأيت ابن هرمز يلبس الثوبين بالزعفران، ورأيت عامر بن عبد الله، وربيعة بن عبد الرحمن وهشام بن عُرْوة يفرقون شعورهم، وكانت لهم شعور، وكانت لهشام جمة إلى كتفيه. قال مالك: إن كان ابن عمر ليتبع أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى إن كان يخاف على عقله.
قال محمد بن رشد: اختلف السلف الماضي في لباس المزعفر والمعصفر من الثياب، لما رُوي: من «أنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أن يَتَزَعْفَرَ الرَجُلُ» وأنه «نَهَى عَنِ المُعَصْفَرِ» . ولما جاء «عن عبد الله بن عمر، وقال: رَآني رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيَّ ثَوْب مُعَصْفَرٌ، فَقَالَ: "ألْقِهَا فَإنَّهَا ثِيَابُ الْكُفّارِ» . «وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ، أنَّهُ قَال: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلاَ أَقُولُ نَهَاكُم عَنْ لِبَاسَ الْمُعَصْفَرِ» .
ولم ير أكثرهم في ذلك بأساً. منهم عبد الله بن عمر والبراء بن عازب وطلحة بن عبيد اللَّه ومحمد بن علي وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وأبو وائل شقيق بن سلمة وزر بن بن حبيش وعلي بن حُسين ونافع بن جبير بن مطعم، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم. وقال مالك في الموطأ في الملاحق المعصفرة في البيوت للرجل وفي الأفنية: لا أعلم من ذلك شيئاً حراماً، وغير ذلك من اللباس أحب إلي.
وما حكاه مالك عن عامر بن عبيد الله وربيعة وهشام من أنهم كانت لهم شعور، هو المستحسن عند عامة العلماء، لما في ذلك من الاقتداء بما كان عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، فقد روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه كان يَسْدُلُ شَعَره، وكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُؤُوسَهُم، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُؤُوسَهم، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْل الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، ثًمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ رَأَسه. وروي أَن شَعرَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كَانَ دونَ الْجُمَّةِ وَفَوْقَ الْوَفْرَة» وروي «عن أنس أنه قِيلَ لَه:

(17/75)


كَيْفَ كَانَ شَعَر رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: كَانَ شَعراً رَجِلاً لَيْسَ بِالْجَعْدِ وَلاَ بِالسَّبِطِ، بَيْن أُذُنِهِ وَعَاتِقِه» . وروي عن أنس أيضاً أنه قال: «كَانَ شَعَرُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْرِبُ مَنْكِبَيْه» . وروي عن أنس أيضاً أنه قال: «كَانَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، شَعَرُهُ إلى شَحْمَةِ أُذُنِهِ» .
ومن أهل العلم من ذهب إلى أن إحفاء الشعر أحسن من اتخاذه؛ لما روي «عن وائل بن حجر قال: أَتَيْنَا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولِي شَعَرٌ طَوِيلٌ فَقَالَ: ذبَابٌ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِينِي فَذَهَبْتُ فحززته، ثم أَتَيْتُ النَّبَيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: ما عَنَيْتُك، ولَكِنْ هَذَا أَحْسَنُ» . قالَ: وما جعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسن كان لا شيء أحسن منه.
ومعقولٌ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد صار بعض هذا القول إلى هذا الأحسن وترك ما كان عليه قبل ذلك؛ إذ هو أولى بالمحاسن كلها من دون الناس، وليس حديث وائل بن حجر في هذه بحجة بينة، لاحتمال أن يكون شعره قد طال طولاً كثيراً خرج به عن الحد المستحسن، ولهذا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءه وقد حزه: " هَذَا أَحْسَنُ "، ولعله لم يحزه كله وأبقى منه لِمَّةً أو وفرة.
ومن الصحابة من كانت له لمة، ومنهم من كانت له وفرة، ومنهم من حلق، فالأمر في ذلك واسع، وما تظاهرت به الآثار من أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له شعر طويل أحسن، ففيه الأسوة الحسنة، وقد كان ابن عمر على ما حكاه عنه مالك هاهنا يتبع أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حتى إن كان ليخاف على عقله وقد رُئي يدور بناقته في مَوْضِعٍ رَأَى نَاقَةَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد دارت به فيه، فقيل له في ذلك، فقال: أحببتُ أن تطأ ناقتي المواضع التي وطئتها ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(17/76)


[تفسير قول الله وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا]
في تفسير قول الله {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وسئل مالك: عن قول الله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ما تفسيره؟ أن يدعى قبل أَن يَشهد، أو يكون قد أشهد، فقال: إنما ذلك بعدما أشهدوا، وأما قبل أن يشهدوا فأرجو أَن يكون في سعة، إذا كان ثَم من يشهد، وليس كل أمر يجب على الرجل أن يشهد عليه من الأمور أُمور لا يجب على الرجل أن يشهد فيها.
قال محمد بن رشد: قول مالك: قول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] . معناه: إذا دعي لأدَاء الشهادة بعدما أشهد، وأما إذا دعي ليشهد فهو في سعة إذا كان ثم من يشهد - صحيح، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه واجب على كل من دعي إلى الشهادة أن يجيب دُعي إلى أن يستحفظ الشهادة أو يؤدي ما حفظ، لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الشاهد لا يصح أن يسمى شاهداً إِلا بعد أن يكون عنده علم بالشهادة، وأما قبل أن يعلم فليس بشاهد، ولا يدخل تحت قوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] إلا من هو شاهد. وهذه المسألة قد مضى القول عليها في أول نوازل سحنون من كتاب الشهادات وتمامه في رسم شهد على شهادة ميت من سماع عيسى منه.
وقوله: وليس كل أمر يجب للرجل أن يشهد عليه - صحيح؛ لأن مَن دعي أن يشهد على أمر مكروه فيكره له أن يشهد عليه فقد

(17/77)


روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي النعمان بن بشير بن سعد؛ إذ أشهده على أنه نَحل ابنه النُّعمان غلاماً له، لَمَّا أَخبرهُ بأنه خصَّ ابنه بنحلة الغلام، دون سائر ولده: «أَشْهِدْ غَيْرِي فَإنِّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» ، ومن دعي إلى أن يشهد على حرام فلا يحل له أن يشهد عليه، ومن دعي إلى أن يشهد على أمر جائز أو مستحب أو واجب، فالإجابة عليه فرض من فروض الكفاية، وبالله التوفيق.

[تقوى الله]
في تقوى الله قال: وسمعت مالكاً يذكر أنَّ رجلاً أمر رجلَاَ بتقوى الله، ثم قال له: إنما هو لحمُك ودمُك.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه؛ لأنه إن اتقى الله سلم من عذاب الله وإن لم يتقه خاف على نفسه وبدنه في الآخرة عقاب الله، وبالله التوفيق.

[ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]
فيما كان عليه أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مالك: بلغني أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا ينزعون الدلاء في سقي النخل على ثمره، ثمرة كل دلو.
قال محمد بن رشد: في هذا بيان ما كان عليه أصحاب رسول

(17/78)


الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التقليل من الدنيا وامتهانهم فيها بإجارة أنفسهم للخدمة والعمل، فذلك جائز لا عيب فيه، ولا غضاضة على من فعله، فقد قالت ابنة شعيب لأبيها في موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ نَبِيِّ إلاَ وَقَدْ رَعَى غَنَماً. قِيلَ لَهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَهِ؟ قَالَ: وَأَنَا» . واستئجار الرجل الرجلَ على سقي النخل كلُ دلو بدرهم إذا لم يواجبه على عدد معلوم، يشبه كراء الدار مشاهرة، له أن يترك متى شاء، ولرب النخل أَن يمنعه من التمادي على السقي إذا شاء ما لم ينقده، فإن نقده عدداً من الثمر لزمهما جميعاً بمنزلة إذا واجبه على عدد معلوم. وبالله التوفيق.

[الإغلاظ على أهل الجور من الأمراء بالقول]
في الإغلاظ على أهل الجور من الأمراء بالقول وذكر مالك: أن الحجاج قال لعبد الله بن عمر في كلام قاله له عبد الله بن عمر إلا يكون ضرب عنقه، فقال له عبد الله: إذن لسقرك الله به في جهنم على رأسك.
قال محمد بن رشد: قول عبد الله بن عمر للحجاج فيما كان هم به من قتل عبد الله بن عمر: إذن لسقرك الله به في جهنم على رأسك - يدل على ما هو معلوم من مذهب عبد الله بن عمر أن القاتل لا توبة له وأن الوعيد لاحق به؛ لأنه أخبر أنه لو فعل لسقره الله به في جهنم على رأسه، ولم يستثن توبةً ولا غيرها. وقد روي أنه سُئل عن القاتل عمداً هل له من توبة؟

(17/79)


قال: ليستكثر من شرب الماء البارد. يريد: أنه لا توبة له، وهو مذهب ابن عباس وأبي هريرة وزيد بن ثابت.
روي أن سائلاً سأل ابن عمر وابن عباس وأبا هريِرة عمن قتل مؤمناً متعمد، أَهل له من توبة؟ فكلهم قال: هل يستطيع أن يحييه؟ هل يستطيع أن يبتغي نَفَقاً في الأرض أو سُلًماً فِي السمَاءِ؟
وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه روي عنه أن إمامة القاتل لا تجوز وإن تاب، ويؤيد هذا المذهب ما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كُلُّ ذَنْبِ عَسَى اللَّه أَنْ يَعْفُوَ عَنْه إلَّا مَنْ مَاتَ كَافِراً أَوْ قَتَلَ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً» وذلكَ والله أعلم لأن القتل يجتمع فيه حق لله تعالى وحق للمقتول المظلوم. ومن شروط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التباعات عليهم. وهذا ما لا سبيل للقاتل إليه إلا بإذن يدرك المقتول قبل موته، فيعفو عنه ويحلله من قتله إياه طيبةً بذلك نفسه.
وذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة، توبته مقبولة، فممن رُوي ذلك عنه: ابن عباس، وأبو هريرة، وعلي بن أبي طالب ومجاهد وغيرهم، ولكلا القولين وجه من النظر باختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فقلما تجدهم يختلفون، إلا فيما تتعارض فيه الحجج وتتكافأ فيه الأدلة، فينبغي لمن لم يواقع هذا الذنب العظيم أن ينتهي عنه ويستعيذ بالله منه مخافة ألا يصح له منه متاب، فيحق عليه سوء العذاب ويناله شديد العقاب. ولمن أوقعه أن يتوب إلى الله ويستغفره، ولا ييأس من رحمة الله، {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] .
وكان ابن شهاب إذا سئل: هل للقاتل توبة يتعرف منه

(17/80)


هل قتل أم لا؟ ويطاوله في ذلك، فإن تبين له منه أنه لم يقتل، قال: لا توبة له، وإن تبين له منه أنه قتل، قال: له توبة، وهو من حسن الفتوى.
ومن توبة القاتل أن يعرض نفسه على أولياء المقتول فإن أقادوا منه وإلا بذل لهم الدية، وصام شهرين متتابعين، أو أعتق رقبة إن كان واحداً أو أكثر من الاستغفار، ويستحب له أن يلازم الجهاد، ويبذل نفسه لله، وهذا كله مروي عن مالك، وفيه دليل على الرجاء عنده في قبول التوبة.
واختلف أيضاً في القاتل إذا أُقيد منه هل يكون القصاص كفارة أم لا؟ على قولين وقد مضى في كتاب المقدمات القول في أحكام القاتل في الآخرة وفي الدار الدنيا مستوفى، وبالله التوفيق.

[الحاكم لا يلزمه القعود للحكم إلا في ساعات من النهار]
في أن الحاكم لا يلزمه القعود للحكم إلا في ساعات من النهار قال مالك: سألني صاحب السوق في شغله بأمر الناس وقضائه بينهم، فكأنه رآه من أشغال أهل المدينة بعمله، فقال: إني ما أكاد أن أفرغ، قال مالك: ما ذلك عليك، اقعد للناس في ساعات من النهار، وإني أخاف عليك أن تكثر فتخطئ، ولم يرَ ذلك عليه، أن يتعب نفسه للناس نهاره إلا ساعة واحدة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو ممَّا لا اختلاف فيه، إذ لا يلزمه الحمل على نفسه بموالاة الجلوس، وربما كان ذلك سبباً إلى أَن يكل ذهنه فيُخطئ في حكمه، فالحسن أن يجم نفسه في ساعات من النهار، فإن ذلك ممَّا يعينه على ما هو بسبيله، وله أَن يخرج إلى ضيعته يستريح بذلك المرة بعد المرة، ويقيم فيها اليوم واليومين على ما قاله ابن القاسم في رسم الجامع من سماع أَصبغ من كتاب تضمين الصناع، وبالله التوفيق.

(17/81)


[التحليل من المظالم]
في التحليل من المظالم وسُئل مالك: عن قول ابن المسيب في فعله: إِنَّه كان يقول: لا أحلل أحداً، فقال: ذلك يختلف، فقلت: يسلف الرجل الذهب فيهلك، ولا وفاء له. قال: أرى أن يحلله، فإِنَّه أفضلِ عندي فإن الله يقول: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وليس كل ما قال أحد وإن كان له فضل يتبع على ما قال. قيل له: فالرجل يظلم الرجل، قال: لا أرى ذلك، هو مخالف عندي للأول، يقول الله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ} [الشورى: 42] ويقولُ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فلا أرى أن يجعل في حل من ظلم.
قال محمد بن رشد: اختلف في التحليل من التباعات والظلامَات على ثلاثة أَقوال: أَحدها: إِن ترك التحليل منها أَولَى وهو مذهب سعيد بن المسيب هذا. والثاني: إِن التحليل منها أفضل. والثالث: تفرقة مالك بين التباعات والظلامات، فوجه القول الأول أَن التباعات والظلامات يستوفيها صاحبها يوم القيامة من حسنات من وجبت له عليه، على ما جاء من أن الناس يقتصُّ بعضهم لبعض يوم القيامة بالحسنات والسيئات وهو في ذلك الوقت مفتقر إلى زيادة حسناته، ونقصان سيئاته، بما له من التباعات والظلامات التي حلَّل منها، وهو لا يدري هل يوازي أجره في التحليل

(17/82)


ما يجب له من الحسنات في الظلامات والتباعات، ويزيد عليها أو ينقص منها، فكان الحظ ألَّا يحلل منها. ووجه القول الثاني: أن التحلل إحسان للمحلل عظيم، وفضل يسديه إليه جسيم، ينبغي عليه المكافأة من الله عزَّ وجلّ، وهو تعالى أَكرم من أن يُكافئه بأقل مما وهب، فإنَّه عزَّ وجلّ يقول: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن: 17] فهذا القول أظهر والله أعلم.
ووجه تفرقة مالك في هذا بين الظلامات والتباعات ما استدلَّ به قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] فرأَى ترك تحليل المظالم للظالم عقاباً له، هو عليه محمود، لما في ذلك من الِإخافة له، والردع بذلك عن أن يعود إلى مثله، وأما في الدنيا فالعفو والصفح عن الظالم أولى من الانتصار منه بأخذ الحق منه في بدنه أو ما له لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] وقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] ولا يعارض هذا قوله عَزَّ وجلّ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] ؛ لأن المدحة من الله تعالى، وإن كانت متوجهة بهذه الآية لمن انتصر من بغي عليه بالحق الواجب، ولم يتعد في انتصاره منه وكان مُثاباً على ذلكَ، لما فيه من الردع والزجر، فهو في العفو والصفح أَعظم ثواباً، بدليل قوله بعد ذلك: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] . وقيل:

(17/83)


إِنَّ الآية نزلت في الباغي المشرك، وينبغي أن يكون معنى الآية في الانتصار ممَّا فيه حد لله، لا يجوز العفو عنه. والله أعلم.

[أَمر الرجل بالمعروف من يعلم أَنَّه لا يطيعه]
في أَمر الرجل بالمعروف من يعلم
أَنَّه لا يطيعه وسئل مالك: عن الرجل يأمر الرجل بالمعروف، وهو يعلم أَنَّه لا يطيعه، وهو ممَّن لا يخاف، مثل الجار والأخ، قال: لا أرى به بأساً، ولا يشبه ذلك إذا رفق به، فإِنَّ الله ربما نفع بذلك. يقول الله: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] . قال مالك: بلغني أن رجلَاَ من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقع بالشام، وأنه انهمر في الخمر فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فكتب إليه: {حم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 1 - 2] إلى قوله: {الْمَصِيرُ} [غافر: 3] ، قال: فتركَ ذلك الرجل الخمر فتاب ونزع عنها.
قال محمد بن رشد: قوله لا أرى به بأساً، معناه: جائز له أن يفعله. وإن ظنَّ أنَّه لا يطيعه، إذ لعلَّه سيطيعه فينفع الله بذلك، لا سيّما إذا رفق به، إذ لا يشبه الرفق في ذلك ترك الرفق فيما يرجوه من أن ينتفع بقوله. واستدلَّ على استحباب الرفق في ذلك بقول عمر، مع الذي بلغه عنه أنه انهمر في الخمر من أصحاب النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذ وعظه بما كتب له من كتاب الله، ولم يُغلظ عليه بالقول. وفي قوله: لا بأس أن يأمره بالمعروف وإن علم أنه لا يطيعه نص منه على أَنَّه لا يلزمه ذلك، وهو صحيح؛ لأنَّ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاثة شرائط: شرطان

(17/84)


في الجواز، أحدُهما: أن يكون ممَّن يعرف المعروف من المنكر، إذ لا يأمن إذا كان جاهلا بذلك أن يأمر بمنكر أو ينهَى عن معروف. والثاني: أن يأمن، أن يغلب على ظنّه أن نهيه عمَّا نهى عنه من المنكر، لا يؤدي إلى منكر أعظم منه، مثل أن ينهى عن شرب الخمر، فيؤدّي إلى قتل نفس، وشرط ثالث في الوجوب بعد حصول شرطي الجواز، وهو أن يعلم أَو يغلب على ظنه أَن أمره بالمعروف مؤثر في فعله، وداع إليه، وأن نهيه عن المنكر مُزيلٌ له أَو لبعضه، فإذا علم ذلك أو غلب على ظنه، وجب عليه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإن لم يعلم ذلك ولا غلب على ظنه، لم يجب ذلك عليه، وكان في سعة من تركه. وهذا هو معنى قول مالك في هذه الرواية: لا أرى به بأساً حسبما بيناه. وقد مضى في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب السلطان تمام القول مستوفى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبالله التوفيق.

[تقبيل العبد أو المولى ليد مولاهُ أو سيّده]
في تقبيل العبد أو المولى ليد
مولاهُ أو سيّده وسُئل مالكٌ: عن الرجل يقدم من السفر فيتناوَل غلامه ومولاه يده فيقبلها. قال: ترك ذِلك أحب إِليّ، وذكر له حديث سالم "شيخ يقبل شيخاً" فأَنكره إنكاراَ شديداً، قال: فَإِيَّاكم مثل هذه الأحاديث أن تهلكوا فيها.
قال محمد بن رشد: إنَّما كره مالك أن يقبل يد الرجل مولاه أو غلامه في سلامه عليه عند قدومه من سفر أو شبهه، وإن كان له عليه حق صار به دونه في الكفاءة والمرتبة والحرمة، فقال: ترك ذلك أَحبّ إليّ من أجل أنه قد يكون أكرم منه عند الله إن كان أَتْقَى منه لله بنص قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] إذ قد جمعته وإيَّاه حرمة الِإسلام،

(17/85)


فصار بذلك وليّاً له، وأخاً فيه. قال عزَّ وجلّ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] . والنّبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان أحق أن تكون التحية له بتقبيل يديه، إذ هو سيد الخلق أجمعين، ورسول رب العالمين، الشافع يوم القيامة فيِ المُذنِبِين، لو كان ذلك ممَّا يُستحق في الشرع، فإذا لم تكن التحية له إلاَّ بما شرعه الله من السلام، وجب أن يستوي في ذلك الفاضل والمفضول، والعبد وسيده، والمولَى ومولاه.
وِإنَّما ينبغي أن يفعل ذلك المولى بمولاه، والعبد بسيده، فلا ينهاه إذا لم يكن مسلماً. فقد روي عن صفوان بن عسال المرادي، قال: «قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... لا تقل نبيّ، إنَّه لو سمعه كان له أربعة أعين، فأَتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألاه عن تسع آيات بيّنات، فقال لهم: "لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حًرّمَ اللَّهُ إِلّا بِالْحَقِّ وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إلَىٍ السُّلْطَانِ لِيَقْتُلَهُ، وَلَا تَسْحَرُوا، وَلَا تأكلُوا الرِّبا، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلَا تُوَلّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُم خَاصَّة الْيَهُودِ أن لَا تَعْدُوا يَوْمَ السَّبْتِ". فَقَامُوا فَقبَّلُوا يَدَهُ. وفي بعض الأحاديث: فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَقَالَا: نَشْهَد أَنكَ نَبِيُّ اللَّهِ وَإِنَّا نَخَافُ إِنِ اتَّبَعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ» . قال الترمذي: وهو حديث حسن صحيح.
وأَما حديث سالم الذي أَنكره إذ ذكر له، فهو ما روي أن عبد الله بن عمر كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَر، قَبَّلَ سَالِماً، وَقَالَ: شَيْخٌ يُقَبِّلُ شَيْخاً. وإنَّما ذكر له والله أَعلم، لما جرى من ذلك القبلة، لا على سبيل الحجة في جواز تقبيل العبد والمولى يد سيده أو مولاه لافتراق المعنى في ذلك؛ لأن تقبيل العبد أو المولَى يد سيده أو مولاه على سبيل التعظيم،

(17/86)


وتقبيل الرجل لابنه الكبير وما أشبهه من ذوات المحارم من النساء، على سبيل المحبة والمودة والحَنان والرحمة، كتقبيل الطفل الصغير، فذلك بخلاف تقبيل الرجل يد سيده ومولاه، وِإنَما أَراد عبد الله بن عمر بقوله: "شيخ يقبل شيخاً" الِإعلام بأن ذلك جائز على هذا الوجه، لا على وجه مكروه.
وقد جاء ذلك عن النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. روي عن عائشة من روايةِ محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عنها قالَ: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامِ إِلَيْهِ رَسول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُريَاناً يَجُر ثَوْبَهُ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرياناَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ» . وَقَالَ فيه الترمذي: إِنَّه حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث الزهري من غير هذا الوجه. وجاء أيضاً «عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنهُ اعْتَنَقَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَقبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ حِينَ قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ» . فيجب أن يُتَأَوَّل ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تقبيله لزيد بن حارثة، وما روي عن عبد الله بن عمر من تقبيله لابنه سالم، أنَها إِنَّما كانت فيما بين العينين أَو الرأس، أو الخدين، لا في الفم. ولما كان الأظهر في القبلة إِذا أطلقت أنها في الفم، أنكر مالك حديث سالم في تقبيل عبد الله بن عمر إِيَّاه، وقوله: "شيخ يقبل شيخاً"، وقال: "إِيَّاكم أَن تهلكوا في مثل هذه الأحاديث"، فنهى أَن يُتحدث بها، تحذيراً منه أَن يحملها الجاهلُ على ظاهرها فيستبيح بها أَن يقبل الرجل وليهُ أو قريبه أَو صديقه أَو ولده الكبير في فمه، فيتراقى ذلك في الناس إلى ما لا يصلح، وهذا من نحو ما مضى في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى من كتاب المحاربين والمرتدين، لا يروي لنا أَحد هذه الأحاديث: «إنَّ اللَّه خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورتِهِ» أَو نحو هذا من الأحاديث، وأعظم أن يتحدث بها أَحد أو يرويها لِما يخشى من أَن يحملها الجاهل على ظاهرها من تشبيه الله بخلقه

(17/87)


فيهلك بذلك، ومالك يكره للرجال المعانقة والقبلة فيما بين العينين، ويرى ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك خاصاً له. روي عن علي بن يونس المدني قال: كنت جالِساً عند مالك، فإِذا سفيان بن عُيينة بالباب يستأذن، فقال مالك: رجل صاحب سنة، أدخلوهُ، فدخل فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال مالك: وعليكم السلام يا أَبا محمد ورحمة الله وبركاته، فصافحه مالك، وقال: يا أَبا محمد لولَا أنها بدعة لعانقناك، فقال سفيان بن عيينة: عانق خيرٌ منك ومنا النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قال مالك: جعفر، قال: نعم، قال: ذلك حديث خاص يا أبا محمد، ليس بعامٍّ. قال سفيان: ما يعم جعفر يعمنا إذا كنا صالحين، وما يخصه يخصنا، أَفَتَأذن لي أَن أُحدث في مجلسك؟ قال: نعم، يا أَبا محمد. قال: حدَّثني عبد الله بن طاوس عن أَبيه، عن عبد الله بن عباس قال: «لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرُ بن أبي طالبِ من الحبشة، اعتَنَقَهُ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبلَ بين عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: " جَعْفَر أَشْبَهُ النَّاس بِي خَلْقاً وَخُلُقَاً يَا جَعْفَرُ مَا أَعْجَبَ مَا رَأَيْتَ بِأَرْض الْحَبَشَةِ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذَا سَوْدَاءُ عَلَى رَأسِهَا مِكتَلٌ فِيهِ بُرٌّ فَصَدَمَهَا رَجَلٌ عَلَى دَابَّتِهِ فَوَقَعَ مِكْتَلُهَا وَانْتَشَرَ بًرُّهَا فَأَقْبَلَتْ لِتَجْمَعَهُ مِنَ التُّرَابِ، وَهِيَ تَقُولُ: وَيْل لِلظالِم من دَيَّانِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيْلٌ لِلظَّالِم مِنَ الْمَظْلوم يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيْلٌ للَظّالِم إِذَا وُضِعَ الْكُرْسِيُّ لِلْفَصْل يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقالَ النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "لَا يُقَدسُ اللَهُ أُمَّة لَا يَأْخَذُ ضَعِيفُهَا مِنْ قَوِيِّهَا حَقَّهُ غَير متمتع ".» ثمَّ قَالَ سُفْيَانُ: قَدِمْتُ لِأصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأُبَشِّرَكَ بِرُؤْيَا رَأَيْتُهَا، ثمَّ قَالَ مَالِكٌ: قَامَتْ بِشَارَتُكَ خَيْرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ سُفْيَانُ: رَأَيْتُ كَأَنَّ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْشَقَّ فَأقْبَلَ النَّاسُ يَهرعون من كُلِّ جِانبٍ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَردّ بِأَحْسَنِ رَدٍّ، قالَ

(17/88)


سُفيَانُ: فَأُتِيَ بِكَ واللَّهِ أعْرِفُكَ فِي مَنَامِي كَمَا أعْرِفُكَ فِي يَقَظَتِي، فَسًلّمْتَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْكَ السلاَمَ، ثُمَّ رَمَى في حَجْرِكَ بِخَاتَمٍِ، ثُمّ نَزَعَهُ مِنْ أصْبُعِهِ، فَاتَّقِ اللَّهَ فيمَا أعْطَاكَ. فَبكى مالك بُكَاءً شديداَ. قال سفيان: السلام عليكم. قال: خارج الساعة؟ قال: نعم، فودَّعه مالك وخرج. وأمَّا القُبلة للرجل في الفم من الرجل، فلا رخصة فيها بوجه ولا على حال إن شاء اللَه.

[ضحك النبيّ عليه السلام سُروراً بما أعطى الله أمته]
في ضحك النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُروراً بما أعطى الله أمته
قال مالك: «وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَهِ تَبسَّمَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: مَا يضحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَال: " لِهَذَا المُؤمِنِ يُصِيبُهُ مَا يُحِبُّ فَيُشْكَرُ اللَّهَ فَيَكُونُ خَيْراً لَهُ» .
قال محمد بن رشد: يشهد بصحة هذا الحديث قول الله عزَّ وجلّ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [التوبة: 128] ... الآية، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «لِكُلِّ نَبيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا فَأُرِيدُ أَن أختَبِئَ دَعْوتِي شَفاعَةً لأِمَّتِي» . والله الموفق.

[مشي عيسى ابن مريم على الماء وإحيائه الموتى]
في مشي عيسى ابن مريم على الماء
وإحيائه الموتى قال مالك: بلغني أن عيسى ابن مريم قال له رجل من

(17/89)


أصحابه: إنك تمشي على الماء، فقال له عيسى: وأَنت إِن كنت لم تخط خطيئة مشيت على الماء، فقال له الرجل: مَا أَخطأت خطيئة قط. فقال له عيسى: فامش، فمشى ذاهباً وراجعاً، حتى إذا كان ببعض البحر إِذا هو قد غرق، فدعا عيسى فأخرج، فقال له عيسى: ما لك ذهبت ورجعت فغرقت؟ أَليس زعمت أنك لم تخط خطيئة قط؟ فقال: ما أخطأتَ شيئاً قط، إِلَّا أَنَّه وقعِ في قلبي أَنِّي مثلك.
قال مالك: وبلغني أن عيسى ابن مريم أتته امرأتان فقالتا له: ادع الله يخرج لنا أَبانا فإِنَّه مات ونحن غائبتان عنه، قال: فأين قبره؟ فأشارتا إليه في قبره، فدعا فأُخرج، فإذا هو ليس هو، قال: ثم دلَّتاه على قبر آخر فخرجَ فإذا هو هو، والتزمتاه، ثم قالتا له: اتركهُ يكون معنا. قال: كيف أتركه وليس له رزق يعيش فيه؟
قال الِإمام القاضي: مشيُ عيسى ابن مريم على الماء معجزة من معجزاته، وكذلك مشي الرجل من أَصحابه على الماء بحضرته إلى أن غرق بما حدث به نفسه من معجزاته أَيضاً؛ لأن ما كان من الآيات الخارقة للعادات في زمن نبي من الأنبياء، لبعض أصحابه فهو معدود في جملة معجزاته، والخطيئة التي غرق من أَجلها صاحب عيسى ابن مريم هي مما قد يجاوز الله لهذه الأمة بفضله عن مثلها. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَجَاوَزَ اللَّهُ لأِمَّتِي عَمَّا حًدّثْت بِهِ نَفْسَهَا مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانٌ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ يَدٌ» . ويروى الحديث: "مَا حَدَّثَتْ بِهِ نَفْسَهَا" بالنصب، "وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا" بِالرفع، فمن رواه "ما حدثت به أنفسُها" بالرفع، قال: الخواطر التي ببعض الرجل من غير قصد منه إِليها ولا اختيار لها، مثل قوله عزَ وجلّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] ،

(17/90)


وبدليل ما روي «أن أَصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَنا يُحَدِّثُ نَفْسَه بِالشَيْءِ؛ لأن يَكُونَ حُمَمةَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ مِنْكُم إِلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ وَالْحَمْدُ لَلّهِ الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ» . قالوا: وإن كان في الحديث: إن أحدنا يحدث نفسه، وإنَا نحدث أنفسنا، فإن جواب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهم بقوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ مِنْكُم إِلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ» هو المعتمد، وفيه الحجة لقوله فيه: ذلك صريح الإيمان ومحض الإيمان، أي: إن التوقِي من أَن ينطق بما غلب على نفسه من خطوات الشيطان أو يعتقده - هو من صريح الإيمان الذي يثاب عليه فاعله.
ومن روى: "ما حدثت به أنفسها" بالنصب، قال: معناه: ما يهمُ به العبد باختياره من المعاصي أن يفعله، ثم لا يفعله، فتجاوز الله لأمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك.
واستدلَّ من ذهب إلى هذا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تجاوز الله"، والتجاوز لا يكون إلَّا عمَّا كان للإنس فيه كسب باختياره له.
وبما رُوي عن النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّه قال: «قَالَ اللًهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةِ فَاكْتبُوهَا عَلَيِهِ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْراً وَإِذَا هًمّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَلَا تَكْتُبُوها عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ خَشْيَتِي فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً» . وقد رأيت لبعض أهل الأصول من المتكلمي: أَن الهموم بالسيئة خطية، وأَرى

(17/91)


هذا القائل ذهب في الحديث إلى رواية من رواه "حدثت به أنفسُها" بالضم، والله أَعلم. وأما إحياء عيسى الموتى فليس من فعله، ولا داخلٌ تحت قدرته، وِإنَّما هو أمر كان يفعله الله دليلَاَ على صدقه فيما يُخبر به عن الله، ومصداق ذلك في كتاب الله عزَّ وجلّ: {وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110] ، وذلك بين أيضاً في هذا الحديث، وقوله فيه: فدعاه فأخرج، فلم يكن له في ذلك إلّاَ إجابة الدعوة، وبالله التوفيق.

[فضائل عمر بن عبد العزيز]
قال مالك: جاء مسلمة بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز وهو مريض يموت، فاستأذن عليه، فمنع، فألقى بنفسه، فقعد، ثم قال: لا أبرح حتى يؤذن لي، فأذن له فدخل، وقيل له: أقل المكث، فقال: لقد لَيَّنْتَ لنا قلوباً كانت قاسية، وجعلت لنا في الصالحين ذكراً.
قال مالك: وبلغني أن هشام بن عبد الملك قال له: إنا لا نعيب أبانا ولا نضع شرفنا في قومنا، فقال له عمر: ومن أعيبُ ممن عابه القرآن؟
قال مالك: كتب عمر بن عبد العزيز: إن من قطع به من الجزية، فأسلفوه من مال المسلمين، قال مالك: وبلغني أن عمر بن عبد العزيز كان يغاضب بعض أهله، فكان له نساء، فكان يأتيها في ليلتها فيبيت في حجرتها وتبيت هي في بيتها، فقيل له: أفترى ذلك؟ فقال: نعم، وكذلك في كتاب اللَّه: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز ترك أن يخدم، فكان يدخل بعد المغرب، فيجد الخوان موضوعاً عليه منديل، فيتناوله فيقدمه (كذا) إليه فيكشف المنديل ويأكل، ويدعو عليه من كان معه.

(17/92)


قال محمد بن رشد: هذا كله بيِّن لا إشكال فيه، فيه الإِقرار لعمر بن عبد العزيز بالفضل، وتواضعه هو في تناوله أخذ طعامه هو بيده، وعدله بين نسائه فيما يلزمه فيه العدل بينهن من المبيت في بيت كل واحدة منهن في ليلتها وإن كان واجداً عليها.
وقد مضى في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح ما يلزمه في العدل بينهن مما لا يلزم، وفي رسم الأقضية الثاني، ورسم الطَّلاق من سماع أشهب فيه. فلا معنى لذكره هنا، وفيه اهتباله بالوصية لأهل الذمة بأن يسلف من احتاج منهم من بيت مال المسلمين، معناه: إذا كان شيء يرجوه. وأما من افتقر منهم واحتاج ولم يكن له شيء يرجوه، فالواجب أن ينفق عليه من بيت مال المسلمين. وباللَّه التوفيق.

[افتراق أحوال الناس في عبادتهم وأَعمالهم]
في افتراق أحوال الناس في عبادتهم وأَعمالهم
قال: وحدثنا ابن القاسم عن مالك عن يحيى بن سعيد قال: يقال: رُبَّ نائم مغفور له، وقائم مشكور، ودائب مضيع، وساع لغيره.
قال محمد بن رشد: النائم المغفور له هو الذي يكتب له أجر عمله بالنية، فيغفر له بذلك. قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنَ امْرِئ تَكُونُ لَهُ صَلاَةً بِلَيْلٍ يَغْلُبُه عَلَيْهَا نَوْمٌ إِلاَّ كُتِبَ لَهُ أجْرُ صَلاَتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهَا صدَقَةً» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض غزواته بالمدينة: «إن بالمدينة أقْواماً مَا سِرْتُم مَسِيرةً وَلَا قَطَعْتُم وَادِياً -أو كما قال- إِلَّا وَهُمْ مَعَكُم". قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "حَبَسَهُم الْعُذْرُ» . وقال اللَّه عز وجل:

(17/93)


{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] ... الآية. فدل ذلك على استوائهم في ذلك مع أولي الضرر.
والقائم المشكور هو الذي يعمل العمل على سنته، والدائب المضيع هو الذي يعمل العمل على غير السنة، والساعي لغيره كثير، فترى الرجل يسعى في طلب الرزق، ولعله لا يتوقى فيه ولا يؤدي حق اللَّه منه فيصير لوارثه، فيفعل الخير منه، ويؤدي حق اللَّه فيه فيؤجر، وينعم فيما قد سعى له غيره فيه، فإنما للرجل من ماله ما لبِس فأبلى، أو أكل فأفنى، أو تصدق في طاعة اللَّه فأمضى اللَّه.
قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلّاَ مَا تَصَدَّقْتَ فَأمْضَيْتَ، أوْ أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أوْ لَبِسْتَ فَأبْلَيْتَ» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أيُّكُم مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ ماله؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنّا أَحَدٌ إِلَّا ماله أحَبُّ إِلَيْهِ مِن مَال وَارِثِهِ. قَالَ: "اعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ؟ " قَالُوا: مَا نَعْلَمُ إِلَّا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "مَا مِنْكُم مِن رَجُلٍ إِلّاَ مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إِلَيْهِ مِن ماله"، قَالًوا: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "إِنَّمَا مَالُ أحَدِكُم ما قدًّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أخَّرَ» ، ومعنى هذا الحديث: إِن ما ترك الرجل من مال لوارثه ولم ينتفع به في حياته، فكأن لم يكن له بمال؛ لأن ملكه إياه في حياته منتف عنه في الحقيقة، وإنما انتفى عنه في الحقيقة الانتفاع به، وباللَّه التوفيق.

[يعطي اللَّه في الدنيا لمن يحب ولمن يبغض]
فيما يعطي اللَّه في الدنيا لمن يحب ولمن يبغض قال: وحدثنا ابن القاسم عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، قال: يقال: "إِنَّ اللَّه يحب العبد حتى يبلغ من حبه إياه إن يسكنه في

(17/94)


أَعلى غُرف الجنة، ثم يعمد إلى خير ما يعلم له من الدنيا فيكون ما يكره ذلك العبد، فيكثر له منه حتى إن الناس لا يرحمونه، وإن الله ليرحمه به، وإن الله ليبغض العبد حتى يبلغ من بغضه له ما يسكنه في أسفل درك جهنم، ويعطيه من الدنيا شر ما يعلم فيكون ما يحب ذلك العبد، فيكثر له منه ".
قال محمد بن رشد: مثل هذا لا يكون رأياً، ومصداقه في كتاب اللَّه، قال اللَّه عز وجل: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] .

[نهي النساء عن لباس القباطي]
في نهي النساء عن لباس القباطي قال مالك: وبلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لباس القباطي، قال: فإن كانت لا تشف، فإنها تصف.
القباطي ثياب ضيقة تلصق بالجسم لضيقها فتبدو ثخانة جسم لابسها من نحافته، وتصف محاسنه، وتبدي ما يستحسن منه مما لا يستحسن، فنهى عمر بن الخطاب أن يلبسها النساء امتثالاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] ، واللَّه أعلم.

[ما ذكر في قتل يحيى بن زكريا]
فيما ذكر في قتل يحيى بن زكريا
قال مالك: وبلغني أن يحيى بن زكريا إنما قتل في امرأة، وأن بخت نصر لما دخل بيت المقدس بعد زمن طويل، وجد دمه يفور لا يطرح عليه سقي تراب، ولا شيء إلا فار وعلا عليه، فلما رآه

(17/95)


دعا بني إسرائيل وسألهم، فقالوا: لا علم لنا، هكذا وجدناه. وأخبرنا به آباؤنا عن آبائهم: أنهم هكذا وجدوه. قال بخت نصر: هذا دم مظلوم ولأقتلن عليه، فقتل سبعين ألفاً من المسلمين والكفار فهدأ بعد ذلك.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الحكاية: إِن يحيى بن زكرياء إنما قتل في امرأة ولم يبينِ كيف كان سببه مع المرأة التي قتل من أجلها؟ فرُوي عَنِ ابْنِ عًبّاس «أن رَسولَ اللَهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ أسْرِي به رَأى زَكَرِيَّاءَ فِي السمَاء، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَه: يَا أبَا يَحْيى، أخْبِرْنِي عَنْ قَتْلِكَ، وَكَيْفَ قَتَلَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ؟ فَقَالَ: يَا مُحَمَدُ، أخْبِرُكَ أنَّ يَحْيىَ كَانَ خَيْرَ أهْل زَمَانِهِ وَأجْمَلَهُم وَأصْبَحَهُم وَجْهاً. وَكَانَ كَمَا قَالَ اللَهُ: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] لَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّسَاءِ، فَهَوِيَتْهُ امْرَأةُ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَعَصَمَهُ اللَّه، وَامْتَنَعَ مِنْهَا، فَأَجْمَعَتْ عَلَى قَتْله، وَكَانَ لَهُم عِيد يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنةٍ، وَكَانتْ سُنَّةُ الْمَلِكِ معه إِذَا وَعَدَ لَمْ يُخْلِفْ وَلَا يَكْذِبُ، فَخَرَجَ إِلَى الْعِيدِ، فَقَامَتِ امْرَأتُهُ فَشَيَّعَتْه، وَكَانَ بِهَا مُعْجَباً وَلَم تَكنْ تَفْعَلُهُ، فَقَالَ لَها الْمَلِكُ: سَلِي حَاجَتَكِ، فَمَا تَسألِيني شَيْئاً إِلَا أعْطَيْتُكِ، فَقَالَتْ: دَم يَحْيىَ، فَقَالَ: سَلِي غَيرَهُ، قَالَتْ: هُوَ ذَلِكَ، قَالَ: هُوَ لَكِ، فَبَعَثَ إِلَى يَحْيىَ وَهُوَ فِي مِحْرَابِهِ يُصَلِّي وَأنَا إِلَى جَنْبِهِ أصَلِّي فَذُبحَ فِي طَسْتٍ فَحُمِلَ رأسُهُ وَدَمُهُ إِلَيْهَا، قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فَمَا بَلَغَ مِنْ صَبْرِكَ؟ قَالَ: ما أبطلت مِنْ صَلاَتِي، فَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَيْهَا فَوَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَلما أمْسَوْا خَسَفَ اللَّهُ بالْمَلِكِ وَأهْلَكَ بَيْتَهُ وَحَشَمَهُ، فَلَمَا أصْبَحُوا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: قَدْ غَضِبَ إلهُ زَكَرِيَّاء لِزَكَرِيَّاءَ، فَتَعَالَوْا حَتَّى نَغْضبَ لِمَلِكِنَا فَنَقْتُلَ زَكَرِيَّاءَ، فَخَرَجُوا فِي طلَبي لِيَقْتُلُونِي فَجَاءَنِي النذِيرُ، فَهَرَبْتُ مِنْهُم وَإِبْلِيسُ أمَامَهُم يَدُلُّهُم عَلًيّ فَلًمّا تخَوّفْت أَن يَلْحَقُونِي عَرَضَتْ لِي شَجَرَةٌ، فَنَادتني: إليَّ إِلَيَّ، فَانْصَدَعَتْ لِي، فْدَخَلتُ فِيهَا وَأخَذَ إِبْلِيسُ بِطَرَفِ رِدَاء لي وَالْتَأمَتِ الشَّجَرَةُ فَبَقِيَ طَرَفُ رِدَائِي خارِجاَ مِنَ الشَّجَرَةِ، فجاءَت بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ إِبْلِيس: دَخَلَ فِي هَذِهِ

(17/96)


الشَجَرَةِ، وَهَذَا طَرَفُ رِدَائِهِ دَخَلَهَا بِسِحْرِه، فَقَالَ: نَحْنُ نَحرِقُ الشَّجَرَةَ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: بَلْ شقُوهَا، فَشَقُّوها فانْشَقَقْتُ مَعَ الشَجرةِ بِالمِنْشَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: يَا زَكَرِياءُ، هَلْ وَجَدْتَ مسا أوْ وَجَعاً؟ قَالَ: لَا، إِنمَا وَجَدْتُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ، جَعَلَ اللَهُ رُوحي فيهَا» .
وقد جاء في بعض الأخبار: أن سبب طلبهم ليقتلوه حين هرب منهم، فانصدعت له الشجرة، هو أن مريم لما حملت قالوا: ضيع بنت سيدنا في كفالته إياها حتى زنت. وروىِ عن ابن عباس: أن الذي انصدعت له الشجرة فدخل فيها هو أشعب - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل عيسى، وأن زكريا مات موتاً. فاللَّه أعلم.
وقد جاء في بعض الأخبار: أن يحيى بن زكريا كان تحت يدي ملك، فهمت بنت الملك بأبيها، وقالت: لو تزوجت أبي فيجتمع لي سلطانه دون نسائه إن تزوجني، ودعته إلى نفسها، فقال: يا بنية، إن يحيى بن زكريا لا يُحل لنا هذا. فقالت: من لي بيحيى بن زكريا، ضيف عليَ، وحال بيني وبين تزويجي أبي، فأغلب على ملكه ودنياه دون نسائه، فتحيلت لقتل يحيى وأمرت اللعاب، فقالت: ادخلوا على أبي فالعبوا فإذا فرغتم فإنه سيحكِّمكم، فقولوا: دم يحيى بن زكريا ثم لا تقتلوا غيره، وكان الملك إذا حدث فكذب، أو وعد فأخلف، خُلع واستبدل غيره، فلما لعبوا وكثر عجبه منهم، قال: سلوني، قالوا: نسألك دم يحيى بن زكريا، قال: سلوني غير هذا، قالوا: لا نسألك غيره، فخاف على ملكه إن هو خالفهم أن يستحل بذلك خلعه، فبعث إلى يحيى وهو في محرابه يصلي، فذبحوه ثم جروا رأسه، فاحتمله الرجل في يده، والدم في الطَّست معه حتى وقف على الملك ورأسه في يد الذي يحمله، والرأس يقول: لا يحل لك ما تريد. وروي عن كعب

(17/97)


نحو من هذا، إِلاَ أنه قال: لما قتل يحيى أقبل رأسه ينحدر ويقول بين يدي ظهراني الناس: لا يحل لك ما تريد من نكاح أختك، قال كعب: كانت أخته. وقال غير كعب: كانت بنت أخيه.
وقد جاء: أنها كانت زوجة أخيه؛ لأن ذلك في زمن لم يكن للرجل منهم أن يتزوج امرأة أخيه بعده. وإذا كذب متعمِّداً لم يول الملك فمات الملك. وأراد الملك أن يتزوج امرأة الملك الذي مات، وكان أخاه، فسألهم فرخصوا له، فسأل يحيى بن زكريا، فأبى أن يرخص له، فحقدت عليه امرأة أخيه، وجاءت بنت أخي الملك الأول إليه، فقال: سليني اليوم حكمك، فقالت: حتَى أنطلق إلى أمي، فأتت أمها فقالت: قولي له: إن أردت أن تفي لنا بشيء، فأعطني رأس يحيى بن زكرياء، قال: قولي غير هذا خير لك، قال: فلبث وكره أن يخالفها فلا يولى الملك. فدفع لها يحيى بن زكريا فذبحته فناداها مناد من فوقها: يا ربة البيت الخاطئة العادية، أبشري فإنك أول من يدخل النار، وخسف بابنتها وجاءوا بالمعاول، فجعلوا يِحفرون عليها، وتدخل في الأرض حتى ذهبت.
ولما كثر الفساد في بني إسرائيل، وجاهرَوا بالمناكر، وعلوا في الأرض واستكبروا فيها كما أخبر اللَّه عز وجل بقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] ... الآية - انتقم منهم بما سلط عليهم. ويقال: إنه كان من فسادهم الثاني قتل يحيى بن زكرياء، فبعث الله عليهم بخت المجوسي، فسبى وقتل منهم سبعين ألفاً وخرَّب بيت المقدس، وحرق التوراة. وكان من شأنه في دم يحيى الذي وجده نصر البابلي يفور ما ذكر في الحكاية.
وجاء في بعض الأخبار: أن الذنوب والمعاصي لما كثرت في بني إسرائيل، بعث الله لهم نبيّاً يقال له أرمياء، فلما أنذرهم بعذاب اللَّه لهم على طغيانهم وعصيانهم، وأنه مُهلكهم ومُخلي الأرض منهم، وقعوا به فضربوه وحبسوه، فَأنجز اللَّه وعده، وسلط عليهم بخت نصر، ولم يزل أرمياء محبوساً حتى جاء بخت نصر فيما لا يحصى من العدد، فحاصرهم

(17/98)


حتى مات من مات منهم في الحصَار، إلى أن نزلوا على حكمه، فقتل مقاتلتهم كل قتلة، منهم من حرق بالنار، ومنهم من بطح على وجهه ومشيت عليه الخيل والدواب، وصفد الأحبار والرهبان، وسبى النساء والولدان، وحرق التوراة، وخرب المسجد.
وجاء في بعض الأخبار: أن رجلًا من علماء أهل الشام وجد نعت بخت نصر في الكتاب: إنه غلام يتيم، وله أم وله دواته ينزل ببابل وهو من أهلها، فقدم الرجل بابل، فطلبه وسأل عنه حتى عرفه بالنعت، وكان فقيراً يسرق الفراريج في صغره، فقال العالم ذات يوم: إنك ستملك الشام، فتظهر على الناس فاكتب لي ولقومي أماناً، فقال: لا أدري ما هذا الذي تذكر؟ فلم يزل به حتى كتب له ولقومه أماناً، فلما شب قطع الطريق واجتمع الناس إليه فأرسل إليه ملك فارس جيشاً فهزمهم، ثم أرسل إليه جيشاً آخر فهزمهم، ثم سار إلى فارس، فغلب عليها، ثم لبث ما شاء اللَه أن يلبث، ثم توجه إلى الشام، فلما دنا من الشام، خرج العالم إلى مقدمته، فقال: إن الملك عندي بصحة، فجعل قوم يدفعه إلى قوم حتى دخل عليه، فقال له: هل تعرفني؟ فقال: ما أعرفك. فقص عليه العالم القصة، فقال: ما أدري ما هذا الذي تقول، ما هذا إلا مال ورثتهُ عن آبائي، فلم يزل به حتى أقر له، ووفى بأمانه، وأمنه، وقال: لا تخبر أحداً.
فلما ظهر على الشام إذا هو بدم يحيى بن زكريا يفورُ، فقال: لأقتلن على هذا الدم حتى يسكن، فقتل عليه سبعين ألفاً، فجعل لا يسكن حتى جاء قاتله، فقال: هذا الدم لا يسكن أبداً حتى تقتلني، فأنا الذي قتلته، فسكن الدَم وظهر على الشام وخرب بيت المقدس وحرق التوراة. وبالله التوفيق.

[التوقي في حمل الحديث]
في التوقي في حمل الحديث
قال مالك: وبلغني أن ابن سيرين كان يقول: إنما هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تحملون دينكم. قال: وكان يحدث بالحديث ثم يتركه، ويقول لأصحابه: قد تركت حديث كذا وكذا فاتركوه.

(17/99)


قال محمد بن رشد: قوله: فانظروا عمن تحملون دينكم - يدل على أنه لا يجب قول خبر الراوي والعمل به، إلا بعد أن ينظر فيه، فتعرف عدالته، بأن يكون مجتنباً للكبائر متوقياً للصغائر.
هذا أحسن ما قيل في حدِّ العدالة؛ لأن من واقع كبيرة من الكبائر، فهو فاسق محمول على الفسق حتى تعلم توبته منها، ومن لم يتوق من الصَّغائر، فليس بعدل حتى تعلم توبته منها؛ لأن متابعة الصغائر كمقارفة الكبائر، والشافعي يشترط المروءة في جواز الشهادة، ولا تصح العدالة إلا بعد الإِسلام والبلوغ. فهذه الثلاثة أوصاف مشروطة في العدالة، فمن ظهر فسقه لم تقبل روايته، ومن ظهرت عدالته، قبلت روايته إجماعاً.
واختلف إذا جهلت حاله، فلم يعلم منه فسق ولا ظهرت منه عدالته، فقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يحمل على العدالة، وتقبل روايته، وكذلك قالوا في الشهادة على الأموال خاصة، دون الشهادة على ما سواها من الحدود والأبضاع وشبهها. واستدلوا لِما ذهبوا إليه من ذلك بقول عمر بن الخطاب: "الْمُسْلِمُونَ عُدولٌ بَعْضُهم عَلَى بَعْضٍ " ... الحديث، ولا حجة لهم في ذلك، إذ ليس على ظاهره؛ لأن معناه: إنما هو أن المسلمين هم الذين تجوز شهادتهم على بعضهم، لا الكفار، بدليل قوله: "وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لا يُؤسر رَجَلٌ فِي الإِسْلاَم بِغَيْرِ الْعُدًول". والذي ذهب إليه مالك وجمهور العلماء أنه لا تقبل روايته، ولا تجوز شهادته إلا بعد أن تعرف عدالته؛ لقوله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] إذ لا يُرضى إِلاَّ من عرف بالعدل والرضا.
وقد مضى الكلام على هذا مستوعبا في سماع سحنون من كتاب الشهادات، وأما تحمُّل الخبر والشهادة فلا يشترط في صحته إلا الميز والضبط خاصة، لا الإِسلام، ولا البلوغ، ولا العدالة، ولا الحرية.

(17/100)


وتَرْكُ ابن سيرين للحديث بعد أن حدث به قد يكون لنسخٍ بلغه فيه، أو لشيء اتصل به عن روايته، واللَّه أعلم.

[حفظ قبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم]
في حفظ قبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال مالك: انهدم حائط بيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي فيه قبره، فخرج عمر بن عبد العزيز، واجتمع رجالات قريش، فأمر عمر بن عبد العزيز فستر بثوب، فلما رأى ذلك عمر بن عبد العزيز من اجتماعهم، أمر مزاحماً أن يدخل يخرج ما كان فيه فدخل فَقَمَّ ما كان فيه من لبِنٍ أو طحين وأصلح في القبر شيئاً كان أصابه حين انهدم الحائط ثم خرج وستر القبر، ثم بنى.
قال محمد بن رشد: إنما ستر عمر بن عبد العزيز القبر إكراماً له وخشي لما رأى الناس قد اجتمعوا أن يدخلوا البيت فيتزاحموا على القبر فيؤذوه بالوطء لتزاحمهم عليه رغبةً في التبرك به، فأمر مزاحماً مولاه بالانفراد بالدخول فيه، وقمه وإصلاح ما انثلم منه بانهدام الحائط عليه. وإنما ستر القبر على الناس وبنى عليه بيتاً صيانة له مخافة أن ينتقل تُرابه ليستشفى به، أو ليتخذ مسجداً يصلى فيه، فقد قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ لَا تَجّعَلْ قَبْرِي وَثناً يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْم اتَّخَذُوا قُبورَ أنْبِيَائِهم مَسَاجِد» . وباللَّه التوفيق.

[حرمة ظهر المسجد]
في أن لظهر المسجد من الحرمة ما للمسجد قال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يفرش له على ظهر المسجد في الصيف فيبيت فيه ولا تأتيه فيه امرأة. ولا تقربه وكان فقيهاً.

(17/101)


قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن لظهر المسجد من الحرمة ما للمسجد، ألا ترى أنه لم يجز في المدونة للرجل أن يبني مسجداً ويبني فوقه بيتاً يرتفق به. واحتج للمنع بفعل عمر بن عبد العزيز هذا. وقال: إنه لا يورث المسجد ولا البنيان الذي يكون على ظهره، ويورث البنيان الذي يكون تحته، وإنما اختلف هل لما فوق المسجد من ظهره حكم المسجد في جواز صلاة الجمعة فيه؟ على قولين: أحدهما: قوله في المدونة: إنه يعيد مَن فعل ذلك ظهراً أربعاً، وأشهب يكره ذلك ابتداء ولا يرى عليه إعادة إن فعل، في وقت ولا غيره، وهو اختيار أصبغ. وفي كتاب السرقة من المدونة دليلٌ على هذا القول، وهو قوله فيه في الذي ينشر ثيابه على ظهر بيته وهو محجورٌ عن الناس، فيسرقها سارق: إنه يقطع. وفي المبسوطة لأنس بن مالك، وعروة بن الزبير: أنهما كان يصليان الجمعة بصلاة الِإمام في بيوت محمد بن عبد الرحمن وبينها وبين المسجد الطريق، وذلك خلاف مذهب مالك وأصحابه.

[غسل اليد قبل إدخالها في الوضوء]
في غسل اليد قبل إدخالها في الوضوء قال مالك: قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا قَامَ أحَدُكُمْ مِن مَنَامِهِ، فَلْيُفْرِغْ عَلَى يَدِهِ الْمَاءَ قَبْلَ أنْ يُدْخِلَهَا" فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ أصْنَعُ بِهَذَا الْمِهْرَاس؟ فَقَالَ أبُو هُرَيرَة: أفٍّ لَكَ» .
قال محمد بن رشد: لما أمره في الحديث أن يُفرغ عَلى يديه الماء قبل أن يدخلهما ليه، سأله كيف يصنع بالمهراس الذي لا يُمكنه أن يفرغ منه

(17/102)


على يديه، وتأول عليه أبو هريرة أنه لم يسأله مستفهماً، وإنما سأله معارضاً للحديث، يقول: كيف يأمره أن يفرغ على يده من الماء قبل أن يدخلهما فيه، وقد يكون المهراس، فلا يمكنه أن يفرغ على يده منه؟ ولذلك قال له: أفٍّ لك، أي: لا تعارض الحديث، يريد أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاله. وهذه الزيادة وقعت في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء. ومضى الكلام على هذه المسألة في غير ما موضع من الكتاب المذكور. وتحصيل القول في ذلك: أن الماء إذا وجده القائم من نومه في مثل المهراس الذي لا يمكنه أن يفرغ منه على يديه ليغسلهما، فإن أيقن بطهارة يده أدخلها فيه، وإن أيقن بنجاستها لم يدخلها فيه، واحتال لغسلها، بأن يأخذ الماء بفيه، أو بثوب، أو بما قدر عليه. وإن لم يوقن بنجاستها ولا بطهارتها، فقيل: إنه يدخلها في المهراس، ولا شيء عليه؛ لأنها محمولة على الطهارة، وهو قول مالك في آخر سماع أشهب من كتاب الوضوء. وقيل: إنه لا يدخلها فيه، وليحتلْ لغسلها بأخذ الماء بفيه، أو بما يقدر عليهِ، وهو ظاهر قول أبي هريرة في هذه الرواية. وأما إِن قام من نومه، فوجد الماء في إناء يُمكنه أن يفرغ منه على يديه في الماء، فلا يدخل يديه في الماء حتى يغسلهما، فإن أدخلهما فيه قبل أن يغسلهما فالماء طاهر إن كانت يده طاهرة، ونجس إن كانت يده نجسة على مذهب ابن القاسم: يتيمم ويتركه، فإن لم يعلمِ بيده نجاسة فهي محمولة على الطهارة، لا تفسد عليه المَاء، وسواء أصبح جنباَ أو غير جنب، خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من تفرقته بين الوجهين.

[تفسير مائلات مُميلات]
في المائلات المميلات وسئل مالك: عن تفسير مائلات مُميلات. قال: مائلات عن الحق، مميلات مَن أطاعهن.
قال محمد بن رشد: يريد: سئل عن تفسير ما جاء في الحديث من قوله "مَائِلَات مميلات"، وهو حديث وقع في الموطأ بكماله موقوفاً على أبي

(17/103)


هريرة قال: «نسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلاَت لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَريحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمَائَةِ عَامٍ» . ومثله لا يكون رأياً. وقد رواه عن مالك مرفوعاً عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عبد اللَّه بن نافع الصائغ. والكاسيات العاريات من النساء هن اللواتي يلبسن الرقيق من الثياب التي تصف وتشف ولا تستر، فهنَّ في الحقيقة لابسات، وفي المعنى: عاريات.
وقوله: «إِنًهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَهوَ يُوجَدُ مِن مَسِيرَة خَمْسِمائَةِ عَام» - مَعناه: إِن هذا هو جزاؤهن عند اللَّه عز وجل على هذا الفعل، إن جازاهن عليه ولم يغفره لهن، فإنه عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، وليس معنى قوله "إِنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ" على التأبيد، وإنما معناه: إِنَّهنَّ لا يدخلن فيها إلا بشفاعة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في المذنبين.

[الخروج من المسجد بعد الأذان]
في كراهية الخروج من المسجد بعد الأذان قال مالك: بلغني أن رجلًا قدم حاجاً وأنه جلس إلى سعيد بن المسيب وأذن المؤذن فأراد أن يخرج من المسجد، واستبطأ الصلاة، قال له سعيد: لا تخرج، فإنه بلغني أنه من خرج بعد المؤذن خروجاً لا يرجع إليه، أصابه أمر سوء. قال: فقعد الرجل، ثم إنه استبطأ الِإقامة، قال الرجل: ما أظنه إلا قد حبسني فخرج،

(17/104)


فركب راحلته فصرع، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال: ظننت أنه يصيبه ما يكره.
قال محمد بن رشد: قول سعيد: وقد بلغني أنه من خرج بعد المؤذن خروجاً لا يرجع إليه أصابه أمر سوء - معناه: إن ذلك بلغه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذ لا يقال مثله بالرأي، وهي عقوبة معجلة من اللَه عز وجل للخارج بعد الأذان من المسجد على أن لا يعود إليه لإيثاره تعجيل حوائج دنياه على الصلاة التي حضر وقتها.
قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ، وأمّا إن خرج راغباً عنها وآبياً من فعلها فهو منافق. وقد قال سعيد بن المسيب: بلغني أنه لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء، إلى حد يريد الرجوع إليه، إلا منافق. وباللَّه تعالى التوفيق.

[ما كان عليه أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في حياته]
فيما كان عليه أصحاب رسول اللَّه
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته
إلى أن توفي في التقلل في الدنيا
وترك التنعُّم فيها والرضا بالدون من العيش قال: وسمعت مالكا، يقول: سمعت أنه توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس بالمدينة منخل ينخل به، فقيل لبعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف كنتم تفعلون؟ قالوا: نطحن الشعير ثم ننفضه ثم ننفخه، فما طار طار، وما بقي بقي.
قال الِإمام القاضي: في هذا دليل على أن أحوال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم تتسع بالوفر والغنى في حياته، كما اتسعت بعد وفاته

(17/105)


مما أفاء الله عليهم من الغنائم والفتوحات، التي وعدهم الله بها حيث يقول: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20] ، فكثرت أموالهم من ذلك واتسعت أحوالهم، وصاروا أهل ثروة وغنى، منهم الزبير بن العوام، بلغت تركته خمسين ألف ألف ومائتي ألف، بعد أن ودَى عنه ابنه عبد الله ما كان عليه من الدين، وذلك ألف ألف ومائتا ألف، باع فيه بعض ما كان تخلفه من الأموال، وقطع من الغابات التي كان تخلفها ميراثاً قطعة لعبد الله بن جعفر في أربعمائة ألف كان له عليه، فباعها ابن جعفر بستمائة ألف، ربح فيها مائتي ألف، وفضلت من الغابة بعدما باع منها مائة ألف، فقوم على معاوية، وأخبر بذلك، وعنده عمرو بن عثمان، ومنذر بن الزبير وعبد الله بن ربيعة، فقال عمرو بن عثمان: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال منذر بن الزبير: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال عبد الله بن ربيعة: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال معاوية: قد أخذت السهم الباقي ونصف السهم بمائة ألف وخمسين ألفاً، وكان له أربع زوجات، وأوصى بثلث ماله، فأخرج الثلث، وأصاب كل امرأة من نسائه، ألف ألف ومائتا ألف وكانوا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في كلتا الحالتين محمودين؛ لأنهم صبروا في حالة الفقر على ضيق العيش، وشكروا الله على ذلك وقنعوا بما أعطوا، وآثروا على أنفسهم من القليل كما وصفهم الله به؛ حيث يقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فكان لهم من الأجر على ذلك كله ما لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل. وشكروا الله في حال الغنى على ما آتاهم الله من فضله، ووسع عليهم من رزقه، وأدوا ما افترض الله عليهم في أموالهم من الزكوات الواجبات، وقاموا بما يلزمهم القيام به من اللازمات، وتطوعوا لوجه الله تعالى بما لا يلزمهم من القرب والصدقات، فكان لهم من الأجر على ذلك كله ما لا يعلم مقداره إلا الله

(17/106)


عز وجل، وقد اختلف الناس في الفقر والغنى على أربعة أقوال: فمنهم من ذهب إلى أن الغنى أفضل، ومنهم من ذهب إلى أن الفقر أفضل. ومنهم من توقف في ذلك، ولم ير المفاضلة. وهذا فيمن كَان يؤدي ما لله عليه من حق في حال الفقر لفقره، وفي حال الغنى لغناه؛ لأن من كان يؤدي حق الله الواجب عليه في الفقر، ولا يؤدي حقهُ الواجب عليه في الغنى فلا اختلاف في أن الفقر أفضل له من الغنى، ومن كان يؤدي حق الله الواجب عليه في الغنى، ولا يؤدي حقه الواجب عليه في الفقر، فلا اختلاف في أن الغنى أفضل؛ لأن الفضل في الفقر والغنى ليس لذاتهما، وإنما هو لما يكتسب بسبب ما يؤجر عليه، فيكتسب بسبب الفقر الرضا والصبر، على ما قسم له، والشكر لله على ذلك، والتصرف والخدمة فيما يحتاج إليه من كسوته ونفقته، ونفقة من يلزمه الِإنفاق عليه، فيؤجر على ذلك كله، ويكتسب بسبب المال الصبر على إنفاقه في الواجبات، وما يندب إليه من القربات، مع حبه إياه، قال تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177] إلى قوله: {هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] . والشكر لله تعالى على ما أتاه من فضله فيؤجر على ذلك كله. والذي أقول به في هذا تفضيل الغنى على الفقر وتفضيل الفقر على الكفاف، وإنما قلت: إن الغنى أفضل من الفقر، لقوله عز وجل: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] فلو كان الفقر أفضل من الغنى، لكان تعالى يأمرنا أن نسأله تفضيل الأفضل بالأدنى، وذلك خلاف المعلوم

(17/107)


من المعنى، وقوله عز وجل: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فلو كان الفقر أفضل من الغنى لكان تعالى قد امتن عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بأن نقله من الأفضل إلى الأدنى، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فلو كان ما كانوا فيه أفضل وأولى لم يكن لحزنهم معنى، وقَوْله تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} [البقرة: 268] وشتان في الفضل بيْن ما يُعبد الله به من الغنى، وما يعبد الشيطان به من الفقر، وقوله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] وَقَوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74] وما أشبه ذلك من الآيات كثير، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: حين قيل له: ذهب الأغنياء بالأجور: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] ، وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا نَفَعَنِي مَال مَا نَفَعَنِي مَالُ أبِي بَكْرِ» ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ ضَمِنْتُ لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ» ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إِنَّكَ أنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيرٌ

(17/108)


مِنْ أنْ تَذَرَهُم عالة يَتَكًفّفُونَ النَّاسَ» . وأمره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقبول ما أتى من غير مسألة، ونهيه عن إضاعة المال، وعن الوصية بما زاد على الثلث. وما أشبه ذلك من الأحاديث التي يكثر عددها ولا يمكن حصرها، ولأن الفقير يؤجر من وجهين: أحدهما: الصبر على الفقر والفاقة، مع الرضا بذلك، والشكر لله تعالى عليه، والثاني: تصرفه وعمله فيما يعيد به على نفسه ما لا بد له منه من نفقته ونفقة من تلزمه نفقته.
والغني يؤجر من وجوه كثيرة، منها الشكر لله عز وجل على ما أتاه من فضله، ومنها الصبر على ما يعطيه من ماله لوجه الله عز وجل في الواجب عليه من الزكاة، وفيما سِوى ذلك من القربات ومن الِإنفاق على ما يجب عليه الِإنفاق عليه من الزوجات والبنين الصغار والآباء والأمهات المعدمِين، مع حبه له، وشحه عليه.
قال عز وجل: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177] ... الآية، وقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] ثناءً منه عز وجل بذلك عليهم. وقد يتزوج الغني الزوجتين والثلاث والأربع، ويتسرى الِإماء ذوات العدد، فيستمتع بوطئهن، ويؤجر بذلك فيهن. والفقير لا يقدر على شيء من ذلك، وما فضل على الرجل من ماله بعد أن أدى منه الواجب عليه فيه باستمتاعه به في الرفيع من اللباس الطيب، والطعام الحسن، والحسن من الركوب، والجيد من السكنى من غير إسراف في شيء من ذلك كله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ، أولى من ترك ذلك وإمساك المال، إذ لا أجر في مجرد إمساك المال، وإنما يؤجر على إمساكه إذا أمسكه لخير يريد أن يفعله منه. وقد يؤجر على الاستمتاع بماله في لباس الحَسَن؛ لأن الله يحب أن يرى أثر

(17/109)


نعمته على عبده. «وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صاحب جابر بن عبد الله لما لبس الثوبين الجديدين بأمره له بذلك ونزع الخفين: "مَا لَهُ ضَرَبَ اللهُ عُنُقَه، أَلَيْسَ هَذَا خَيْرٌ لَهُ؟» وقال عمر بن الخطاب: إنِّي لأحِبَ أنْ أنْظُرَ إلَى الْقَارِئِ أَبْيَضَ الثِّيَاب. وقال: إِذا أوسعَ اللهُ عليكم فَأوْسِعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ.
ويؤجَر عَلى التوسعة على أهله في الِإنفاق. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتَّى مَا تَجْعَل فِي فِي امْرَأتكَ» . ففي هذا كله بيان واضح على أن وجود المال خير من عدمه؛ لأنه إذا عدِمه لم ينتفع بعدمه، وإذا وَجَدَه انتفع بوجوده، إما باستمتاع مباح غير مكروه لا أجر له فيه، وإما باستمتاع مندوب إليه فيه أجر إلى ما يفعل منه من الخير الواجب والتطوع، وإنما قُلت: إن الفقر أفضل من الكفاف؛ لأن الذي عنده الكفاف، إنما يؤجَر على شكر نعمة الله عليه فيما أعطاه من المال الكفاف الذي لا فضل فيه عما يحتاج إليه، فأغناه ذاك عن الكدْح والتصرف فيما يحتاج إليه.
والفقير يؤجر من وجهين، حسبما ذكرناه، واستدل من ذهب إلى أن الفقر أفضل من الغني بقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ولا دليل لهم فيه؛ لأن الأغنياء يشاركونهم في الصبر، والأجور في الأعمال على قدر النيات فيه.

(17/110)


قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن اللهَ قَدْ أوْقَعَ أجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نيَّتِهِ» ، ومقدار النيات لا يعلمها إلا المجازي عليها. روي: أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء. ولا دليل فيه أيضاً، إذ ليس على عمومه؛ للعلم الحاصل بأن طائفة من أغنياء المسلمين كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان يدخلون الجنة قبل كثير من الفقراء وأنهم أفضل من أبي ذر، وأبي هريرة، ولأن السبق إلى الجنة لا يدل على زيادة الدرجات فيها، وكذلك ما روي من كون "الفقراء أفضل أهل الجنة" لا دليل لهم فيه، إذ ليس لهم فيه في الحديث أنهم أكثر أهل الجنة وأفقرهم، وإنما كانوا أكثر أهل الجنة؛ لأن الفقراء في الناس أكثر من الأغنياء، فالمحمودون منهم أكثر من المحمودين من الأغنياء، وليس الكلام في أي الطائفتين أكثر، وإنما هو في أيهما أفضل، أي: أكثر ثواباً.
وقد بينا وجه كثرة الثواب في ذلك، وأقوى ما يحتج به من ذهب إلى أن الفقر أفضل من الغنى، هو أن الفقراء أيسر حساباً وأقل سؤالاً، إذ لا بد أن يسأل صاحب المال من أين كسبه؟ وهل أدى الحق الواجب عليه فيه أم لا؟ وسأل أيضاً عن تنعُّمه فيه بالمبَاح من المطاعم والملابس، بنص قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] ، وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأصحابه: «لَتُسْألُنّ عَنْ نَعِيم هَذَا الْيَوْم» ، في طَعَامٍ صنَعَهُ لَهُم أبُو الْهَيْثَم بن التَّيْهان: خبز شَعيرِ ومَاءٍ مُسْتَعْذَب. وهذا لا حجة لهم فيه أيضاً؛ لأن السؤال عن ذلك كله لا

(17/111)


يضرهم إذا أتوا بالبراءة منه. بل يؤجرون على ما يذكرونه من فعل الواجب عليهم فيه، ولا خفاء في أن من وجب لله عليه شيء، فسُئل: هل عمله أم لم يعمله؟ فوجد قد عمله، أفضل ممن لم يجب عليه، ولا سئل عنه؛ لأنه يؤجر على ما عمل من الواجب، كما يؤجر على ما عمل من التطور. وإنما توقف على المفاضلة بين الفقر والغنى من لم يفصل أحدهما على صاحبه، والله أعلم. من أجل أن لكل طائفة منها معنى تؤجرُ عليه دون الأخرى، والأجور في ذلك على قدر النيات في ذلك المعنى، ولا يعلم قدرها إلا المجازي عليها، فوجب الوقوف عن ذلك؛ لاحتمال أن يؤجر الفقير على معنى واحد، لقوة نيته فيه أكثر مما يؤجر الغني على معان كثيرة، لضعف نيته فيها.
وهذا صحيح مع التعيين، فلا يصح أن يقال: إن أَجر فلان في غناه لكثرة ما يفعل منه من الخير - أكثر من أجر فلان في فقره ورضاه بما قسم الله له من ذلك، ولأن أجره في فقره ورضاه بما قسم الله له منه أكثر من أجر فلان في غناه على ما يفعل منه من الخير.
وأما في الجملة فالغنى أفضل من الفقر لما بيناه من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وأما من فضل الكفاف على الفقر والغنى، فلا وجه له في النظر والله أعلم. وأما الفقير الذي لا يقدر أن يقومَ بما يحتاج إليه حتى يسأل، فالغني أفضل منه قولاً واحداً، والله أعلم؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السًّفْلَى» ؛ لأن اليد السفلى هي السائلة، والعليا النافقة، وقد استعاذ النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الفقر المُنسى، كما استعاذ من الغني المطغي. وباللَّه التوفيق.

[ما يتشرف به الرجل من مناقب سلفه]
حكاية عن عمر بن عبد العزيز فيما يتشرف به الرجل من مناقب سلفه وسمعت مالكاً يذكر: أن عمر بن عبد العزيز قام إليه رجلٌ فذكر

(17/112)


مناقب أبيه، فقال: شهد بدراً والعقبة وما أشبه ذلك، ثم قام إليه رجل آخر من أهل الشام، فقال: إن أباه شهد الزاوية، وكان مع الحجاج بن يوسف، فقال عمر: كم من شيء يفرح به صاحبه، وهو عليه وَبالٌ يوم القيامة، ثم قال عمر:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبَا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا
قال محمد بن رشد: هذا كما قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن الرجل إنما يتشرف بمناقب أبيه على الحقيقة، ويجب أن يفرح بها إذا كانت مما يُقربه إلى الله تعالى؛ لأنه يرجو أن يلحقه الله بدرجته لِتقر به عينه، بدليل قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] ، وبالله التوفيق.

[تحفظ الرجل بدينه]
في تحفظ الرجل بدينه وسمعته يذكر: أن رجلاً من الحكماء قال: ما كنتَ لاعباً لا بدَّ أن تلعب به، فلا تلعب بدينك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يسامح أحداً في شيء من دينه إن لم يكن عليه في مسامحته فيه إثم، وإن سامحه في ماله أو فيما هو ... وذلك أن يصبح الرجل صائماً متطوعاً فيريده رجل من الفقراء في صنيع يصنعه، فقد قال مطرف: إنه إن حلف عليه بالطلاق والعتق ليفطرن فأعنته، ولا يفطر وإن حلف هو فليكفر، ولا يفطر، وإن عزم عليه أبواه أو أحدهما في الفطر فليطعهما وإن لم يحلفا عليه، إذا كان ذلك رِقَّةً منهما عليه لاستدامة صومه. وقد مضى الكلام على هذه

(17/113)


المسألة في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب الصيام. وبالله التوفيق.

[الارتزاق من الصدقات]
في الارتزاق من الصدقات قال مالك: كان أرزاق عمال المدينة من الصدقات، وكان أبو بكر بن محمد يذكر إنما هي غفلة، وفرض له رزقه سبعة وثمانين ديناراً وثلث دينار من فَدَك.
قال محمد بن رشد: قوله: كان أرزاق عمال أهل المدينة من الصدقات، معناه، والله أعلم: أن الأموال من الصدقات وغيرها كانت مختلطة. فإذا ارتّزق منها وهي مختلطة كان بعض رزقه من الصدقات إذا لم يخرج في غيرها من وجوه الصدقة عوض ما أعطي منها، واستجازة ذلك غفلة؛ كما قال أبو بكر بن محمد، إذ لا يتحقق السلامة من ذلك، ويحتمل أن يكون إنما كانوا يرزقون من الصدقات، وبتأويل أنهم كانوا أمهر عمالًا ينظرون في جميع الأمور من الصدقات وغيرها، وأما لو لم يكن لهم نظر عليها ولا عمل فيها لما جاز أن يرزقوا منها؛ لأن الصدقات إِنما هي لمن فرضها الله لهم في كتابه بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] ، لا يجوز أن يخرج عنهم إلى غيرهم. والأمراء والكتَّاب والعُمال وجُباة الأموال إنما يُرزقون من بيت المال. وبالله التوفيق.

[كراهية طول الكمين]
في كراهية طول الكمين قال ابن القاسم: بلغني أن عمر بن الخطاب قطع كُم رجل إلى قدر أصابعه بشفرة، ثم أعطاه فضل ذلك، وقال له: خذ هذا فاجعله في حاجتك.
قال الإِمام القاضي: إنما فعل عمر بن الخطاب هذا؛ لأنه رأى

(17/114)


أن الزيِادة في طول الكمين على قدر الأصابع مما لا يحتاج إليه، فرآه من السرَف، وخشي أن يدخل عليه منه عجب، وفي مثل هذا قالت عائشة: ما أخَافُ عَلَى الرًجُل إلاَّ مِنْ أَطْرَافِهِ؛ إذْ مَر عليها سعدُ بن معاذ وَعَلَيْهِ دِرْع مقلصة مشمرة الكمين، على ما مضى في أول السماع. وقد تكلمنا على ذلك هنالك. والله الموفق.

[ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من شظف العيش]
فيما كان عليه أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من شظف العيش وحدثني ابن القاسم عن مالك عن عمر بن الخطاب، قال وهو بمكة: لقد رأتني وما لِيَ من طعام غير أن خالاتٍ لي كنَّ يحفنَّ حفنة حفنة من زبيب.
قال محمد بن رشد: هذا من معنى ما تقدم القول فيه قبل هذا، فلا معنى لِإعادته، وبالله التوفيق.

[طول الرداء]
في كراهية طول الرداء
قال مالك: بلغني أن عاملًا لعمر بن عبد العزيز على اليمن، وأنه ارتدى ببُردة، وكانت طويلة فانجرت من خلفه، فقيل له: ارفع ارفع، فرفع فانجرت بين يديه. قال: هكذا الشيء يجعل بغير قدره.
قال محمد بن رشد: إنما قيل له: ارفع؛ لما انجرت خلفه، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلى مَنْ جَرَّ إزَارَه بَطَراً» ، فطول الرداء مكروه، مخافة أن يغفل عنه فيجره من خلفه. وقد

(17/115)


جاء النهي عن ذلك لمن فعله بَطراً، فالتوقي من ذلك على كل حال من الأمر الذي ينبغي. وبالله التوفيق.

[تفسير وَقُدُورٍ راسِيَاتٍ]
في تفسير {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]
وسئل مالك: عن تفسير {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] ، قال: لا تحمل ولا تحرك. بدليل قوله: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32] ، قال مالك: يريد أثبتها. وسئل مالك: عن تفسير {كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13] ، قال: كالجوبة من الأرض فيما أرى.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك للقدورِ الَرّاسِيَاتِ التي لا تحمل ولا تحرك بدليل قوله: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32] أثبتها تفسير صحيح نحو تفسير السدي؛ لأنه قال فيِ {رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] : معناه ثابتات في الأرض، عظام تنقر من الجبال بأثافيها، فلا تحول عن أماكنها. وقال مجاهد في تفسير قوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13] معناه: وصحاف كالحياض، وهو نحو تفسير مالك في هذه الرواية، وقوله عز وجل في أول الآية: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] ، يعملون له ما يشاء من مساجد. وقيل: من مساجد وقصور.
وقوله: {وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] يُرِيدُ تصاوير من نحاس ولم تكن الصور يومئذ. وروي: أن سليمان أمر الشيطان ببناء بيت المقدس، فقالوا له: زوبعة الشيطان وله عين في جزيرة في البحر يردها كل سبعة أيام، فأتوها فنزحوها، ثم صبوا فيها خمراً فجاء لورده، فلما أبصر الخمر قال في كلام له: ما عليك، إنك إذا شربك صاحبك تظهرين عليه عذره في أساجيع له لا أذوقك اليوم، فذهب ثم رجع لظمأٍ آخر، فلما رآها قال كما قال أول مرة ثم ذهب ولم يشرب حتى جاء لظمأٍ لإِحدى وعشرين ليلة، فقال: ما علمت أنك لتذهبن الهم في سجع له، فشرب منها فسكر، فجاءوا إليه فأروهُ خاتم

(17/116)


شجرة فانطلق معهم إلى سليمان، فأمرهم بالبناء، فقال زوبعة: دلوني على بيض الهدهد، فدل على عشه، فأكب عليه جمجمته، يعني زجاجة، فجاء الهدهد فجعل لا يصل إليها، فانطلقت، فجاء بالماس الذي يثقب به الياقوت، فوضعه عليه فقط الزجاجة نصفين، ثم ذهب ليأخذه، فأزعج بالماس إلى سليمان، فجعلوا يستعرضون الجبال، كأنما يخطون في نواحيها في نواحي الجبال في الطين، قال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] ، أيَ: توحيداً. وقال بعضهم: لما نزلت لم يزل إنسان منهم قائماً يصلي. قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] أي: أقل الناس المؤمن.

[رقية البثرة الصَّغيرة مخافة أن تعظم]
في رقية البثرة الصَّغيرة
مخافة أن تعظم قال مالك: بلغني أن عائشة كانت ترى البثرة الصغيرة في بدنها فتلح عليها بتعويذ، فيقال لها: إنها صغيرة، فتقول: إن اللَّه يعظم ما يشاء من صغير، ويصغر ما يشاء من كبير.
قال محمد بن رشد: فعل عائشة هذا مطابق لما تواترت به الآثار عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. من ذَلِكَ «حَدِيثْ عُثْمَان ابْنِ أبي الْعَاص أنه أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبِهِ وَجَعٌ قَدْ كَادَ أَن يُهْلِكَهُ، فَقَالَ لَه رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "امْسَحْهُ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مًرّاتٍ، وَقُلْ: أَعُوذُ بِعَزّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِه مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ". قَالَ: فَقُلْتُ ذلك، فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي فَلَمْ أَزلْ آمُرُ بها أهلي وغيرهم» . وحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

(17/117)


وسلم: «كَانَ إذَا اشْتَكَى يقْرأُ بِالْمُعَوِّذَاتِ عَلَى نَفْسِهِ، قَالَتْ: فَلًمّا اشْتَدَ وَجَعُهُ كُنْت أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ عَلَيهِ بِيَمِينِه، رَجَاءَ بَرَكَتِهَا» .
ولا يكون التعويذ والرقية في المرض، إلا بكتاب الله على ما جاء في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. واختلف في رقية أهل الكتاب، فأجاز ذلك الشافعي إذا كانت بكتاب الله؛ لحديث يحيى بن سعيد عن عمر عن عائشة: أن أبا بكر الصديق دخل عليها يوماً وهي تشتكىِ، ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: ارقيها بكتاب الله. وكره ذلك مالك؛ إذ لا يدري أَهَلْ ترقى بكتاب الله أو بغير ذلك مما يضاهي السحر؟ وقوله من طريق النظر أظهر، والله أعلم.
وقد مضى في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة - القول في تعليق التمائم على المريض وعلى الصحيح؛ مخافة المرض مستوفى، فلا وجه لإعادته، والله أعلم.

[صفة نعل النبي عليه السلام]
في صفة نعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
وسئل مالك: عن نعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - التي رآها كيف حدُّوها؟ قال: رأيتها إلى التدوير ما هي وتخصيرها في مؤخرها وهي مخصرة ومعقبة من خلفها، قلت: كان لها زمامان. قال: ذلك الذي أظن، قال: وكانت عند آل ربيعة المخزوميين من قبل أم كلثوم أمهم.
وسمعت مالكاً يذكر: أن عند آل عمر بن الخطاب فراش من شعر وجرس، وكان ذلك الفراش لحفصة، قلت له: ما قصة الجرس؟ قال: لا أدري إلا أنه بلغني كذلك.

(17/118)


قال محمد بن رشد: ليس في هذه الحكاية ما يشكل، فتكلم عليه حامي الحرمين الذي سئل عن قصته، فقال: لا أدري والأجراس كانت تعلق في أعناق الِإبل لتعرف مواضعها بأصواتها إن شدت أو ضلَت.
وتأول مالك: أنهم إنما كانوا يعلقونها عليها من أجل العين، وبوَّب على ذلك في موطئه " باب في نزع المعاليق والجرس "، وأدخل عليه ما حدَّثه عبدُ اللَّه بن أبي بَكْر عن عبَّاد بن تميم «أن أَبَا بَشيرِ الأنصارِي أَخبرَهُ: أَنه كَانَ مَعَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض غَزَواته، قَالَ: فَأَرْسَل رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولاً، قَالَ عبدُ اللَّهِ بنُ أَبي بَكرِ: حسبت أَنَّهُ قَالَ، وَالنَّاسُ في مَقِيلِهِم: "لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدةٌ مِنْ وَتَرِ أَو قِلاَدةُ إلَّا قُطِعَتْ» .
فرأَى مالك الأجراس دَاخلة في عموم ما أَمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقطعه من أعناق الِإبل، وتأول أن ذلك إنما كانوا يفعلونه من أجل العين، وتابعه على تأويله جماعة من أهل العلم، فلم يجيزوا أَن يعلق على الصحيح من بني آدم ولا من البهائم شيء من العلائق خوف نزول العين.
وقد مضى الكلام مستوفى على هذا المعنى في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة. ومعنى السؤال في هذه الحكاية عن قصة الجرس، إنما هو لِمَ كانوا يحبسونه ويرفعونه، وقد جاء النهي في استعماله فلم يجبه على سؤاله. والجواب فيه أن استعماله وإن كان لا يجوز ففي حبسه منفعة، وهو أنه يذكر به العهد القديم، ويتراحم من أجله على من قد مات من السلف الكريم. والله أعلم.

(17/119)


[مناقب مصعب بن عمير]
خبر في منقبة مصعب بن عمير قال مالك: إن مصعب بن عمير كانت عليه جبة من صوف مرقوعة بفروة، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثه إلى المدينة يدعو الناس إلى الِإسلام، ويعلمهم القرآن وأنه حين قتل كانت تّلك الجبة عليه.
قال محمد بن رشد: مصعب هذا القرشي العبدري من بني عبد الدار بن قصي كان من جلة الصحابة وفضلائهم، بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة قبل الهجرة بعد العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، كان يُدعى القارئ. وقيل: إنه أول من دخل المدينة من المهاجرين، وأول من جمع الجمعة بالمدينة قبل الهجرة، ثم قدم بعده المدينة عمرو بن أم كلثوم، ثم عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود، وبلال، ثم أَتى عمر ابن الخطاب في عشرين راكباً، ثم هاجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقدم المدينة، وكان مصعب بنُ عمير هذا فتَى مكة شباباً وجمالاً، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكره فيقول: «مَا رَأَيْت بِمًكّةَ أَحْسَنَ لِمَّةً وَلَا أَرَقَّ حُلّةً وَلَا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِن مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْر،» فَبَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو إلَى الإسْلَام فِي دار ابْن الأرْقَم، فَأسْلَمَ، وَكَتَمَ إسْلاَمَهُ خَوْفاً مِن أمِّهِ وَقَوْمِهِ وَكان يَخْتَلِفُ إلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِرّاً فَبَصرَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ يُصَلِّي فَأَخْبَرَ بِهِ قَوْمَهُ وَأُمَّهُ، فَأَخَذُوه فَحَبَسًوهُ، فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوساً عِنْدَهُم حَتَّى خَرَجَ مُهَاجِراً وَاسْتُشْهِد يَوْمَ أُحُدِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا نَمِرَةٌ، كَانُوا إذَا غَطُّوا بِهَا رَأسَهُ خَرَجَت رِجْلاَهُ، وَإذَا غَطُّوا بِهَا رِجْلَيْهِ، خَرَجَ رَأسُهُ، وَهِى الْجُبّة الْمَرْقُوعَةُ بِالْفَرْوَةِ. عَلَى مَا قَالَه فِي هَذِه الْحِكَايَةِ، وَاللَّه أعلم. فَأَمَرَهُمّ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

(17/120)


وَسَلَّم أَن يغَطُّوا بهَا رَأسَه وَيَجْعَلْوا عَلَى رِجْلَيه من الِإذْخِرِ. وبالله التوفيق.

[الصيام قبل الاستسقاء]
في الصيام قبل الاستسقاء وسئل مالك: عن الصيام قبل الاستسقاء مما يعمل به، فقال: ما سمعت إنكاراً على من عمله.
قال الإمام القاضي: الصيام قبل الاستسقاء مما لم يأت به أثر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولا عن الخلفاء الراشدين المهديين بعده، وإذا هو أمر أحدثه بعض الأمراء استحسنه كثير من العلماء، فعله موسى بن نصير بإفريقية، حين رجع من الأندلس فاستحسنه الخزامي وغيره من علماء المدينة.
وإلى هذا ذهب ابن حبيب فقال: استحب للِإمام أن يأمر الناس قبل بروزه للمصلى بهم أن يصبحوا صياماً يومهم ذلك. ولو أمرهم أن يصوموا ثلاثة أيام، آخرها اليوم الذي فيه يبرزون - كان أحب إلي.
والمعلوم من مذهب مالك إنكارُ هذه الأمور المحدثات كلها، من ذلك أنه كره في سماع ابن القاسم القراءة في المسجد والاجتماع يوم عرفة بعد العصر في المساجد للدعاء والدعاء عند خاتمة القرآن. فيحتمل ما في هذه الرواية من قوله: ما سمعت إنكاراً على مَن عمله، أن يكون انتهى كلامه -أي: مالك - إلى قوله: ما سمعت، أي: ما سمعت أن ذلك يفعل، ويكون إنكاراً على من عمله من قول ابن القاسم. أخبر أن مالكاً أراد بقوله: ما سمعت الِإنكار على، فيكون ذلك مطابقاً لمذهب ابن القاسم، ويحتمل أن يكون الكلام كله من قول مالك فيقتضي جواز ذلك عنده إذ قد نفى أن يكون سمع الإِنكار على من عمله. والأول من التأويلين أولى. واللَّه أعلم.
وقد مضى هذا كله في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب

(17/121)


الصيام؛ لتكرَّر المسألة هناك. وبالله التوفيق.

[اتخاذ الِإبل من مال الله ليحج بها الناس]
في اتخاذ الِإبل من مال الله ليحج بها الناس قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب اتخذ إبلًا من مال الله يعطيها الناس، يحجون عليها، فإذا رجعوا ردوها إليه.
قال محمد بن رشد: هذا من النظر الصحيح في مال اللَّه؛ لأن أولى ما صرف فيه مال اللَّه ما يستعان به على أداء فرائض اللَّه، فينبغي للأئمة أن يأنسوا في ذلك بفعله. فقد قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنواجذِ» وقد مضى هذا كله في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب الحج لتكرر الحكاية عن عمر بن الخطاب فيه، وباللَّه تعالى التوفيق.

[ما جاء عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في زينب زوجته]
ما جاء عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
في زينب زوجته قال مالك: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنسائه: «أوَّلُكُنَّ يَلْحَقُنِي أطْوَلُكُنّ بَاعاً» ، قال: فكن يتطاولن حتى ينظرن أيهن أطول؟ حتى هلكت زينب، وكانت امرأة صناعاً، عظيمة الصدقة، فلما ماتت عرفن أن رسول اللَّه أراد بذلك الصدقة، وأنها قالت: إِني أرى عمر بن الخطاب سيبعث إلي بكفني وكانت قد

(17/122)


أعدت لها كَفَناً، فإن بعث إلي بشيء فتصدقوا به. قال: وكان عمر أول من جعل عليها هذا النعش الذي جعل على النساء سترها به.
قال الِإمام القاضي: ويروى أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أطْوَلُكُن يَداً أسْرَعُكنً لَحَاقاً بِي» والمعنى في ذلك سواء؛ لأنه أراد طول اليد والباع بالصدقة، وذلك من الاستعارات البليغة الحسنة، وفيه فضل الصدقة وعلَم من أعلام النبوءة؛ لأنه أخبر بمن يموت بعده أولاً من نسائه، فكان كما قال، ولم يصرح باسمها لما كان عليه من الخلق الكريمة، مخافة أن يعلمها بما تشفق منه وتكرهه؛ لأن المؤمن يكره الموت لشدته، ويخاف تعجيله، ويود تأخيره رجاءَ الازدياد من الأعمال الصالحات.
وقد «قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأخوين اللذين تأخرت حياة أحدهما، فذكرت فضيلة الأول عند رسول اللَّه، فقال: "أَلَمْ يَكُنِ الآخَرُ مُسْلِمَاً؟ فَقَالوا: بَلَى كَان لَا بَأسَ بِهِ. قَالَ: فَمَا يُدْرِيكم مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاَته؟ إِنَّمَا مَثَلُ الصّلاَةِ كَمثَل نَهْرٍ عَذْبٍ غَمْرٍ يَقْتَحِمُ فِيه أحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مًرّاتٍ، فَمَا تَرَوْنَ ذَلِكَ يُبْقِي مِن دَرَنِهِ، فَإِنَّكُم لَا تَدْرُونَ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاَتُه» .
وقد روي عن شريح بن هانئ عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب لقاء اللَه أحب اللَه لقاءه، ومن كره لقاء اللَّه كره اللَّه لقاءه ". قال شريح: فأتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثاً إن كان ذلك فقد هلكنا، قالت: وما ذلك؟ قلت: " من أحب لقاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه، ومن كره لقاء اللَّه كره اللَه لقاءه» ، فبينتَ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن ذلك إنما هو عند المعاينة وحضور الموت، وحين لا تقبل توبة التائب، إن لم يتب قبل ذلك. وزينب هذه بنت جحش تزوجها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنة خمس من الهجرة، وقيل: في سنة ثلاث،

(17/123)


وكانت قبله تحت زيد بن حارثة الذي كان تبَنَاهُ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] ... الآية، وذلك أن المنافقين تكلموا في ذلك لما تَزوجها، فقالوا: تزوجِ حليلة ابنه، وقد كان ينهى عن ذلكـ فأنزل الله هذه الآية، أنزل قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]
الآية، وقال: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] . فدعي من يومئذ زيد بن حارثة، وكان يدعى زيد بن محمد، وكانت زينب تفخر على نساء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بأن اللَّه زوجه إياها، تقول: إِن آباءَكن أنكحوكن، واللَه أنكحني من فوق سبع سماوات. وتوفيت سنة عشرين من خلافة عمر. وهي السنة التي افتتحت فيها مصر. وقيل: توفيت في سنة أحد وعشرين، وهي السنة التي افتتحت فيها الإسكندرية، واللَّه أعلم.

[الاختيار للذبائِح]
في الاختيار للذبائِح قال مالك: ولقد أخبرني شيخ من بني عبد الأشهل، قال: أدركت الناس يختارون لذبائحهم.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الصيد والذبائح ساقها فيه على أن الاختيار للمرأة إذا اضطرت إلى ذكاة ذبيحة وعندها نصراني أن تذكيها ولا تكلها إلى النصراني. ووجه اختيار أهل الفضل للذبائح صحيح؛ لأن الفاسق وإن كانت تؤكل ذبيحته، لكن لا ينبغي أن يؤتمن ابتداء على الذبح، مخافة أن يقصر فيما يلزمه فيه، فيكتم ذلك، ولا يعلم به. وذلك مأمون من أهل الفضل.
وقد مضى في الرسم المذكور من الكتاب المذكور بيان القول فيمن تجوز ذبيحته ومن لا تجوز ومن تكره.

(17/124)


[الشكر على الطعام والشراب]
فيما يلزم من الشكر على الطعام والشراب قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب أتى قُباء فاستسقى فسُقي عسلًا، فقال: من يأخذه يشكر عليه، فقال رجل: أنا، فأعطاه إياه.
قال الِإمام القاضي: معنى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من يأخذه يشكر عليه - أي: من يأخذه يشكر الله تعالى على النعمة به حق شكره. وقد «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه في الطعام الذي صنعه لهم أبو الهيثم بن التَيِّهان والماء الذي استعذبه لهم: " لَتُسْألُنّ عَن نَعِيم هذا الْيَوْم» ، أي: هل أديتم الواجب عليكم من الشكر للَّه تعالى، وباللَّه التوفيق.

[إجابة عبد اللَّه بن الأرقم عن النبي عليه السلام]
في إجابة عبد اللَّه بن الأرقم عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
قال مالك: بلغني «أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إليه كتاب، فقال: " مَنْ يُجِيبُ عَنِّي؟ " فقال ابن الأرقم: أنا. فأجاب عنه، فأتى به النبي فأعجبه وأنفذه» فكان عمر يعجبه ذلك، ويقول: أصاب ما أراد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يزل في قلبه، حتى لما ولي استعمله على بيت المال. فقال عمر: ما رأيت أحداً أخشَى للَّه منه، حاشَى رسول اللَّه.
قال الإِمام القاضي: عبد اللَّه بن الأرقم هذا القرشي الزهري أسلم

(17/125)


عام الفتح، وكتب للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثم لأبي بكر، واستكتبَه أيضا عمر، واستعمله على بيت المال وعُثمان بعده أيضاً سنين حتى استعفاه من ذلك فأعفاه. وروي أنه أعطاه ثلاثمائة درهم، فأبى أن يأخذها. وقال: إنما عملت للًه، وإنما أجري على اللَّه.
وروى ابن وهب عن مالك قال: بلغني أن عُثمان أجاز عبد الله بن الأرقم، وكان له على بيت المال بثلاثين ألفاً، فأبى أن يقبلها. وروي: أنه بلغ من أمانته عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب، ويأمره أن يطبعه ويختمه من غير أن يقرأه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأمانته عنده.

[أشد البَلاءِ مَا هو]
في أشد البَلاءِ مَا هو؟ قال مالك: كان يقال: من أشد البلاء الِإملاء في المعاصي.
قال محمد بن رشد: هذا بيِّن شهد له قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] فلا شيء أشدُ على العبد من الازدياد في الِإثم الموجب لسخط الرب؛ لأن العبد إذا ابتلي في ماله أو جسمه، إِن رضي بقدر اللَّه وصبر واحتسب - أُجِرَ، وإن سخط ولم يصبر ولا احتسب ثم مع ذهاب ماله وفقدان صحته، لم يتكرر عليه الِإثم كما يتكرر على من أملي له في المعاصي، وباللَّه التوفيق.

[إقادة الِإمام من نفسه]
في إقادة الِإمام من نفسه
قال مالك: بلغني أن أبا بكر لما تولى أمر الناس ضرب رجلًا ثم ندم، فقال: ما لي وما لهذا؟ لأردنها عليه، فلما سمعت عائشة أرسلت إلى عمر، فجاءَه، فقال: ما لَكَ؟ قال: قد ضربتُ رجلًا وقد واللَّه أعلم؛ لأن اللَّه قال فيها: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ،

(17/126)


كنت مُعافى من هذا أن أضرب أحداً أو أشتمه. فقال له عمر: كذلك الإمام. قال: ومَا المَخرج؟ قال: تأتي الرجل فتسأله أن يجعلك في حل، فأتاه فأحله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه ضربه أدباً بالاجتهاد في غير حد، فخشي أن يكون قد أخطأ في الاجتهاد، فتجاوز في الضرب، وضربه فيما كان يجب التجاوز فيه، وترك الأدب بالضرب. وهذا على طريق التواضع والورع والخوف للَّه والتنحي من المتشابه، لا على سبيل الوجوب؛ لأن للإمام أن يؤدب الجناة بالضرب، كما يؤدب الرجل عبده وأمته، وكما يؤدب الرجل زوجته بالضرب، فلا يكون عليه في ذلك حرج، لقوله عز وجل: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] فالِإمام مأجور على اجتهاده وإن أخطأ فيه. قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِن اجْتهَدَ الْحَاكِمْ فَأخطَأ، فَلَهُ أجْرٌ، وَإِن أجْتَهَدَ فَأصابَ فَلَهُ أجْرَانِ» . وباللَّه التوفيق.

[اختلاف قدر الِإطعام باختلاف البلدان]
في اختلاف قدر الِإطعام باختلاف البلدان سمعت مالكاً يقول: إن أنس بن مالك كانت له مكيلةٌ بالعراق، فأطعم عشرة، ثم جاء هاهنا، يريد المدينة، فكال بها فأطعم عشرين.
قال محمد بن رشد: يريد أنه أطعم بالمدينة عشرين مسكيناً من

(17/127)


المكيلة التي كان يطعم منها بالعراق عشرة مساكين، وذلك في كفارة اليمين. وذلك يختلف باختلاف عيش أهل البلد، وذلك حجة لقول مالك في المدونة.
وأما عندنا هاهنا فليكفر بِمدِّ النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الأيمان باللَّه. وأما أهل البلدان فإن لهم عيشاً غير عيشنا، فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم، ولا ينظر في البلدان إلى مد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيجعله مثل ما جعلته في المدينة.

[تفسير السبع المثاني]
في السبع المثاني قال: وسمعت مالكاً يقول: السبع المثاني أُم القرآن.
قال محمد بن رشد: قول مالك في السبع المثاني هي أم القرآن هو قول جمهور العلماء. وروي عن ابن عباس في قول اللَّه عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] ، قال: فاتحة الكتاب. قيل لها ذلك لأنها تُثَنَّى في كل ركعة.
وقد قيل في فاتحة الكتاب: إنها السبعُ المثاني والقرآن العظيم. وذلك مروي عن ابن عباس، وبيِّنٌ من حديث أبَي بن كعب في الموطأ: «أن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَادَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ مِن صَلَاتِهِ لَحِقَهُ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى يَده، يُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: "إِنِّي لأرْجُو أن لَا تخْرُجَ من الْمَسْجِد حَتَّى تَعْلَمَ سُورَةً، مَا أنْزَلَ الله في التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الإِنْجِيل مِثْلَهَا"، فَجَعَلْتً أبْطِئُ فِي الْمَشي، رَجَاءَ ذَلِكَ، ثُمَّ قلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، السّورةَ الَّتِي وَعَدْتَنِي، قَالَ: كَيْفَ تَقْرَأ إِذَا افْتَتَحْتَ؟ قَالَ: بِقَرَاءةِ "الْحَمْدُ لِلّهِ" حَتَّى أتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا، فَقَالَ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هِيَ هذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي"

(17/128)


وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمُ.» على ما جاء في حديث أبي قال: المعنى في ذلك، أنها تعدل القرآن في الثواب، كما تقول قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ ثلث القرآن في الثواب.
وقد مضى الكلام في معنى ذلك مجرداً في رسم يتخذ الخرقة لفرجه من كتاب الصلاة من سماع ابن القاسم. وقيل لها سبعٌ، لأنها سبع آيات، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] آية. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] آية. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] آية. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] آية. {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] آية. {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] آية. {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] آية. ومن جعل بِاسْم اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم آية من الحمد، وأوجب قراءتها في الصلاة. وهو مذهب الشافعي لم يعد الَذِينَ أنْعَمت عَلَيْهِم. وباللَّه التوفيق.

[إقامة قبلة مسجد النبي عليه السلام]
في إقامة قبلة مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك: سمعت أن جبريل هو الذي أقام لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبلة المسجد مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مسجد المدينة.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله: إنه أقام له قبلة المسجد، أي أعلمه بحقيقة، سمت القبلة، وأراه إياها وذلك واللَّه أعلم حين حولت القبلة إلى الكعبة. وذلك أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بالمدينة ستة عشر شهراً يصلي إلى بيت المقدس، ثم حولت القبلة إلى المسجد الحرام، قبل بدر بشهرين. قال عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} [البقرة: 144] إلى

(17/129)


قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . فتحول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصلاته إلى الكعبة، وأقام له جبريل قبلة مسجده، وأراه السمت إليها، فقِبلتُه قُبالة الميزَاب، على ما قاله في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة. ولم يختلف في أن صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كانت إلى بيت المقدس، حتى حولت القبلة وإنما اختلف في صلاته بمكة قبل قدومه المدينة، فروي أنها كانت إلى الكعبة، وروي أنها كانت إلى بيت المقدس، وأنه كان يصلي إلى بيت المقدس، الكعبة بين يديه وباللَّه التوفيق.

[ضرب الرجل امرأته]
في كراهية ضرب الرجل امرأته قال مالك: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أُحب أن أَرى الرجل ثامراً فريض عصبه رقبته على امرأته يقاتلها» .
قال الإمام القاضي: هي قوله يقتبها أي يكثر منازعتها وضربها وهذا من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مطابق لما أنزل الله في كتابه العزيز من قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] لأن من أكثر من ضرب امرأته لم يعاشرها بالمعروف كما قال الله عزَّ وجلَّ. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبة بعرفة: «فَاتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّكُم أَخَذْتمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُنَّ بِكلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمِ عَلَيْهَنّ أَلَاّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُنَّ أَحَداً تَكْرَهُونَ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباَ غَيْرَ مُبْرِّحٍ وَلَهُنّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ» .

(17/130)


[: تفسير إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْل والحضِّ على مداومة العمل]
في تفسير: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْل والحضِّ على مداومة العمل وسُئل مالك عن تفسير: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] قال: هي قيام الليل، وهي بلسان الحبشة إذا قام الرجل قالوا: قد نشأ فلان. قال: وحدَّثنا مالك قال أبو هريرة: الغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ وَشَيْء مِن الدُّلَج وَالْقَصْدَ تَبْلُغُوا. فقيل له وما المدلج إلى الصلاة؟ يعني صلاة الصبح.
قال محمد بن رشد: قول مالك في ناشئة الليل قيام الليل، مروي عن ابن عباس روي عنه أنَّه قال: نَاشِئَةُ اللَّيْل هِيَ مَا وَرَاءَ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ، وَأنه قال: الصَّلَاةُ بَعْدَ الْعِشَاءِ نَاشِئَةُ اللَيْل. وروي مثله عن قتادة. وقال مجاهد: ساعة تسجد من الليل فهي ناشئة، وسكت مالك عن تفسير بقية الآية فقوله: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل: 6] . تُقرأ على وجهين: وطْئاً وَوِطَاء. فقيل معناه: أَثبت في القلب، وقيل معناه: أَشد في تواطئ القلب. وقيل معناه فراغ القلب. وقوله: {وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] معناه وأَصوب قيلًا. وأَصدق في التلاوة. وأَجدر أَلَّا يلبس عليك الشَيطان تلاوتك. قال: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا} [المزمل: 7] أي فراغاً طويلًا لحوائجك. قال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8] وقول أبي هريرة: الْغُدُوُّ وَالرَّواحُ وَشَيْء مِنَ الدُّلَج وَالْقَصْدَ تَبْلُغُوا ادأبُوا على هذه الأعمال، وهي صلاة الصبح، وصلاة الضحى والرواح إلى سائر الصلوات في الجماعات، تبلغوا بها وإن قلت إلى ما تريدون من مرضات ربكم، يقول ولا تحملوا على أنفسكم بكثرة العمل فتقطعون عنه. يشهد بصحة قوله قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَمل حَتَى تَمَلُّوا أكْلُفُوا مِنَ الْعَمَل مَا لَكُم بِهِ طَاقَةٌ» وكان أحبّ

(17/131)


العمل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ الذي يدوم عليه ما حبه، وقال: «إِنَّ المُنبِت لَا أرضاً قَطَعَ، وَلَا ظَهْراً أَبْقَى» والله أعلم.

[رفع اليدين في الدعاء]
في رفع اليدين في الدعاء قال مالك: رأَيت عامر بن عبد الله بن الزبير يرفع يديه وهو جالس بعد الصلاة يدعو فقيل له: أَترى بذلك بأساً؟ قال لا أرى بذلك بأساً.
قال الإمام القاضي: إجازة مالك في هذه الرواية لرفع اليدين في الدعاء عند خاتمة الصلاة نحو قوله في المدونة لأنه أَجاز فيها رفع اليدين في الدعاء، في مواضع الدعاء، كالاستسقاء، وعرفة، والمشعر الحرام، لأن ختمة الصلاة موضع للدعاء. واختلف قوله في المدونة في المقامين عند الجمرتين، فرآه في كتاب الصلاة من مواضع الدعاء ترفع الأيدي فيهما ولم يره في كتاب الحج الأول من مواضع الدعاء التي ترفع الأيدي فيها. وسئل في رسم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة عن رفع اليدين في الدعاء، فقال: ما يعجبني فظاهره خلاف لما في هذه الرواية ولما في المدونة وقد يحتمل أن يتأول ذلك على أنه إنَّما أراد الدعاء في غير مواضع الدعاء، ولذلك قال: إِنَّه لا يعجبه رفع اليدين في ذلك.
وقد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم المحرم المذكور من كتاب الصلاة وفي رسم شك في طوافه منه وبالله التوفيق.

[ترك الاهتمام بهَمَّ سَنَةٍ عَلَى يَوْمٍ]
في ترك الاهتمام بما يأتي قال مالك: قال عيسى ابن مريم: لَا تَحْمِلُوا هَمَّ سَنَةٍ عَلَى يَوْمٍ حَسْبُ كُلِّ يَوْم بِمَا فِيهِ.

(17/132)


قال الإمام القاضي: وصية عيسى ابن مريم بما أوصى من هذا حكمة، إذ لا يدري المهتم بما يحتاج إليه في السنة، هل يعيش إلى تمام السنة أم لا؟ فاهتمامه بما يخاف من الموت قبل السنة آكَدُ عليه من الاهتمام بما يحتاج إِليه في السنة وبالله التوفيق.

[أي المواضع أَفضل من مسجد النبي عليه السلام للصلاة]
في أي المواضع أَفضل من مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للصلاة؟ وسُئل مالك عن الصلاة في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيّ المواضع أَحبُّ إليك؟ قال: أَمَّا النافلة، فمُصلَّى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وأَما الفريضة، فالتقدم إلى أول الصف أَحب إلي.
قال محمد بن رشد: استحب مالك صلاة النافلة في مصلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للتبرك بموضع صلاته، ورأَى للصلاة في ذلك الموضع فضلاً على سائر المسجد. ومن الدليل على ذلك، «أَنَّ عُتبان بنَ مَالكِ، قَالَ لِرَسُول اللهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يا رَسولَ اللَّه. إِنهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ وَالْمَطَرُ، وَأَنَا رَجَلٌ ضَرِير البَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيتي مَكَاناً أَتَخِذُهُ مُصًلّى فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: " أَيْنَ تُحِبًّ أَنْ أصَلِّيَ؟ " فَأَشَارَ لَهُ إِلَى مَكَان مِنَ الْبَيْتِ فَصَلَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» فإذا كان ذلك الموضع من بيته بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه صلاة واحدة أَفضل من سائر بيته، وجب أن يكون الموضع الذي يواظب على الصلاة فيه من مسجده أفضل من سائر المسجد بكثير وإنما قال: إنَّه يتقدم في الفريضة إلى أَول الصف، يريد إلى أَول

(17/133)


الصفوف، وهو الصف الأول، لأن فضل الصف الأول معلوم بالنص من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فهو أولى مما علم فضله بالدليل ومُصلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من مسجده هو العمودُ المخلق قاله ابن القاسم في رسم نذر سنه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة وبالله التوفيق.

[ما يلزم في التثبت في مسائل الاجتهاد]
فيما يلزم في التثبت في مسائل الاجتهاد وتقديم اجتهاد أهل المدينة
قال مالك: وبلغني أن ابن مسعود كان يُسأل عن المسألة فيفكر فيها شهراً ثم قام فقال: اللَّهم إن كان صواباً فمن عندك، وإن كان خطأً فمن عند ابن مسعود يسأل عن الشيء بالعراق، فيقوم فيه، ثم يقدم المدينة، فيسأل، ثم يجد الأمر على غير ما قال، فإِذا رجع لم يحط رحلته، ولم يدخل بيته حتى يرجع إلى ذلك الرجل فيخبره بذلك.
قال محمد بن رشد: المسألة التي فَكّر فيها شهراً ثم أَجاب فيها، فقال ما قال، هي مسألة الرجل يموت عن زوجته قبل الدخول وقبل أَن يفرض لها هل لها مع الميراث صداق أم لا؟ وهي مسألة اختلف فيها الصحابة ومن بعدهم فروي «أن ابن مسعود سُئل عنها فقال: ما سًئلت منذ فارقت النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن شيء أَشد علي من هذه المسألة. سألوا غيري، فَترددُوا فِيها شهراً وقالوا: من نسأل؟ أنتم جلة أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذه البلد، فقال: سأقول فيها رأْيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني والشَّيطان. أرى لها مهر امرأة من نسائها لا وكْس ولا شطط. ولها الميراث، وعليها العدة. فقال معقل بن سنان وفي بعض الآثار معقل بن يسار وفي بعضها أيضاً فقام ناس من أشجع،

(17/134)


فقالوا: نشهد أَن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قضى فيها مثل الذي قضيتَ في امرأة منا يقال لها: يرْوع بنت واشق، قال فرأيت ابن مسعود لم يفرح بشيء مثل ما فرح يومئذٍ» . وقال عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، لا صداق لها. ولها الميراث على ما وقع في الموطأ من أَن ابنة لعُبيد اللَّهِ بْنِ عمر، كَانَتْ تَحْتَ ابْن لِعَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، فمَاتَ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَمْ يُسَم لَهَا صَدَاقاً فَابْتَغَتْ أمُّهَا صَدَاقَهَا وَهِيَ بِنْتُ زَيْدٍ بنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: لَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ، وَلَوْ كَانَ لَهَا صَدَاقٌ، لَمْ تُمْسِكْهُ، وَلَم نَظْلِمْهَا فَأبَتْ أمها أنْ تَقْبَلَ ذلكَ، فَجَعَلُوا بَيْنَهُم زَيْدَ بْنَ ثَابِتَ فَقَضَى أنْ لَا صَدَاقَ لَهَا، وَلَهَا الْمِيرَاثُ. فأخذ مالك والليث بن سعد والأوزاعي بمذهب ابن عمر. وهو قول ابن شهاب ومذهب أهل الحجاز. وأَخذ أَبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي بما روي عن ابن مسعود، وجاء عن النبي عليه السلام في يروع بنت واشق. واختلف قول الشافعي في ذلك، فروي عنه مثل قول مالك، وروي عنه مثل قول أَبي حنيفة، وذكر المزني عنه أَنَه قال: إِن ثبت حديث يروع، فلا حجة لأحد معَ السنة، وإن لم يثبت فلا مهر لها. ولها الميراث. وقال مسروق لا يكون ميراثاً حتى يكون مهراً يريد والله أَعلم وجوب المهر لوجوب الميراث.
وقد تعلق من ذهب إلى أَن الحق عند الله فيما لا نص فيه من مسائل الاجتهاد. وقد يصيبه المجتهد وقد يخطئه بقول ابن مسعود: هذا إن يكن صواباً فمن الله، وإن

(17/135)


يكن خطأً فمن ابن مسعود ولا تعلق له في ذلك، لاحتمال أن يريد إصابة النص إن كان في النازلة نص لم يعلم به، كحديث يروع بنت واشق في نازلتِه. والصواب أَن كل مجتهد مصيب عند الله تعالى.
وقد بينا هذه المسألة بياناً شافياً في كتاب الأقضية من مختصر كتاب الطحاوي في شرح مشكل الحديث والشيء الذي سُئِل عنه بالعراق فقال فيه: ثم قدم المدينة فوجد الأمر بخلاف ما قال، فلما رجع لم يحط رحلته ولا دخل بيته، حتى أتى الرجل، فأَخبره بذلك، هو أَنه سئل عن نكاح الأم بعد الابنة إن لم تمس الابنة، فأَرخص في ذلك فلما قدم المدينة سأَل عن ذلك فأُخبر أن الأمر بخلاف ما قال، وأَن الشرط إنَّما هو في الربائب، لا في أُمهات النساء، فرجع الكوفة، فلم يدخل منزله حتى أتى الرجل الذي رخص له في ذلك، فأمره أن يفارق امرأَته على ما وقع من ذلك في الموطأ وقد روي إجازة ذلك عن علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت. وقال به من شذَّ من العلماء. وله وجهان من التأويل: أَحدهما أن يجعل قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] عائد على الربائب وعلى أُمهات النساء، بإِضمار أَعني إذ لا يجوز في العربية أَن يكون اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ. نعت لأمهات الربائب، وبنات الأمهات، لأن بنات الأمهات مخفوض بالإِضافة، وأُمهات الربائب مخفوض بمن، ولا يجوز أَن ينعت بنعت واحد، ما عمل فيه عاملان. والوجه الثاني أن يجعل قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] شرط لاتصال الكلام، فيبيح نكاح الأم إذا لم يدخل بالبنت، ويبيح نكاح الربيبة إذا لم يدخل بالأم، فالقياس عليها. وبدليل قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] إذ لا تكون الربيبة في حجره حتى يدخل بأُمها، لأن من ذهب إلى هذا يجعل قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] كلاماً متصلًا

(17/136)


تاماً، فيصح رد قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] إِلَى أول الكلام وهو قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] أَوْ إِلَيهما جميعاً بإِضمار أَعني على ما ذكرناه. والذي قال به عامة العلماء وفقهاء الأمصار: مالك، والشافعي، وأَبو حنيفة، إِن الأم مبهمة لا شرط فيها، وإن الشرط إِنَّما هو في الربائب، فلا يحل نكاح الأم إذا تزوج البنت، وإن لم يدخل بها هو الصحيح، لِأنَّ الظاهر أن الكلام يتم في قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ويحسن الوقف عليه ثم يبتدأُ بقوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] الآية.

[ما ذكر من خلاء مسجد النبيّ عليه السلام]
في ما ذكر من خلاء مسجد النبيّ عليه السلام
قال مالك: بلغني أَن سعيد بن المسيب قال: خلاء بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أيام، لم يجمع فيه من حين كان: يوم قُتل عثمان، ويوم الحَرة، ويوم آخر قال مالك: أُنسيته.
قال محمد بن رشد: أما قتل عثمان رضي الله عنه وما وقع يوم قتله ممَّا أدى إلى الاشتغال عن إِقامة الصلاة في المسجد على العادة، فهو معروف، وأمَّا يوم الحَرة فإنه كان في خلافة يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين من الهجرة وذلك أَن أهل المدينة خلعوا طاعة يزيد بن معاوية، وكان القائم بذلك عبد الله بن حنظلة. وكان قد وفده أمير المدينة عثمان بن محمد إلى يزيد بن معاوية فيمن وفد إليه مع بنين ثمانية، فأعطاه مائة أَلف، وأعطى كل واحد من بنيه عشرة ألف درهم، سِوى كسوتهم وحملانهم، فلما قدم المدينة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ فقال: أَتيتكم من عند رجل والله لو.

(17/137)


لم أَجد إلاَّ بنيَّ هؤلاء، لجاهدته بهم، قالوا: سمعنا أَنَّه أجازك وأكرمك وأعطاك، فقال: قد فعل، ولكني ما قبلت ذلك منه، إِلّاَ أن أتقوَى به عليه، وحض الناس فبايعوه، ودعوا إلى الرضى والشورى، وأَمَّرُوا على قريش عبد الله بن مطيع العدوي وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة الغسيل وعلى قبائل المهاجرين معقل بن سنان الأشجعي، وأَخرجوا أمير المدينة ومن كان بها من بني أُمية، فبلع ذلك ابن عباس وهو بالطائف، فقال: أميران؟، هلك القوم. وكتب مروان إلى يزيد بالذي كان من أمر القوم، فأَمر بقُبة فضربت له خارجاً من قصره، وقطع البعوث على أَهل الشام، وولَّى عليهم مسلم بن عقبة، وبعث أَهل المدينة إلى كل ماء بينهم وبين أهل الشام، فصبوا فيها زقاً من قطران، وغوروه، فأرسل الله عليهم ماء السماء، فلم يستقوا بدلو حتى وردوا المدينة، فخرج إليهم أَهل المدينة بجموع كثيرة، وبهيئةٍ لم يُر مثلها فلمَّا رآهم أَهل الشام، هابوهم وكرهوا قتالهم فأمر مسلم بسريره، فوضع بين الصَّفين، ثم أَمر مناديه: قاتلوا عني ودعوا، فشدَّ الناس في قتالهم، وانهزم أهل المدينة وعبد الله بن حنظلة متسانداً إِلى بعض بنيه يغط نوماً، فنبَّهه ابنه، فلما فتح عينه، ورأى ما صًنع، أَمر أكبر بنيه، فتقدم حتى قتل، فلم يزل يقدمهم واحداً بعد واحد حتى أَتى القتل على جميعهم، فكسر هو جفن سيفه، وقاتل حتى قتل. ودخل مسلم بن عقبة المدينة، ودعا الناس إلى البيعة على أَنهم خَوَلٌ ليزيد ابن معاوية، يحكم في أَهليهم ودمائهم وأموالهم ما شاء، حتى أَتى يزيد بن عبد الله بن زمعة أَسيراً، وكان صديقاً ليزيد بن معاوية وصفيّاً له فقال: بايع على أَنك خَوَلٌ لأمير المؤمنين، يحكم في دمك وأَهلك ومالك، فقال أُبايعك على أني ابن عم أمير المؤمنين، يحكم في دمي وأَهلي، فقال: اضربوا عنقه، فوثب مروان فضمه إليه، فقال: يبايعك على ما أَحببت، فقال: والله ولا أقيلها إِيَّاه أبداً وقال: إن تنحا وإلّاَ فاقتلوهما جميعا. فتركه مروان وضربت عنق ابن زمعة. وقتل معقل بن سنان الأشجعي صبرا

(17/138)


ومحمد بن أَبي حذيفة العدوي صبراً ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي صبراً. وانتهى عدد من مثل ذلك اليوم من قريش والأنصار ثلاثمائة رجل، وستة رجال. هذا كله على ما ذكره بعض المؤرخين والله أعلم بصحة ذلك. فهذه المحنة هي التي أوجبت ذلك اليوم خلاء مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من التجميع كاليوم الذي قتل فيه عثمان. والله أسأله العصمة والغفران برحمته. وقد وقع في رسم مرض بعد هذا من قول ابن القاسم: إِنَّه سمع مالكاً يقول: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل كلهم قد جمعوا القران. قال ابن القاسم: شككت أنه قال: كان فيهم أربعة أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
واليوم الثالث الذي ذكر مالك أَنَّه أنسيه. قال محمد بن عبد الحكم هو يوم خرج بها أَبو حمزة الخارجي وكان خروجه فيما ذكروا في خلافة مروان آخر خلفاء بني أُمية الذي خلفه أَبو العباس السفاح من بني العباس في سنة ثلاثين ومائة قال خليفة ابن خياط في تاريخه: سار أَبو حمزة في أول سنة ثلاثين ومائة. يريد المدينة، واستخلف على مكة إبراهيم بن الصباح الحميري، وجعل على مقدمته بلج بن عقبة السعدي، وخرج أهل المدينة فالتقوا بقُديدٍ يوم الخميس لتسعة خلون من صفر سنة ثلاثين ومائة، وبلج في ثلاثين ألف فارس، فقالوا لهم: طريقنا تأتي هؤلاء الذين بغوا علينا، وجاروا في الحكم، ولا تجعلوا أخذنا بكم، فإنَّا لا ندري قتالكم، فأبوا وقاتلوهم،، فانهزم أَهل المدينة، وجاءهم أبو حمزة فقال له علي بن الحصين: اتبع هؤلاء القوم، وأجهز على جريحهم، فإن لكل زمن حكماً والأثخان في هؤلاء أمثل. قال: ما أرى ذلك، وما أَرى أَن أُخالف من مضى قبل. ومضى أَبو حمزة إلى المدينة فدخلها يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر، سنة ثلاثين ومائة. ففي يوم دخوله إياها والله أعلم خلا مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أن يجمع فيه وأصيب من قريش يومئذٍ ثلاثمائة رجل، ومن آل الزيبر، اثنا عشر رجلَاَ، فما سمع الناس بواكي أَوجع

(17/139)


للقلوب من بواكي قديد، ما بقي بالمدينة أَهل بيت إلَّا وفيهم بكاء. وقالت نائحة تبكيهم:
ما للزَّمَانِ وَمَاليه ... أفْنى قُديدٌ رِجالِيهْ
فَلأَبْكِينَّ سرِيرةً ... وَلأبُكِينَّ عَلَانِيَهْ

[تشميت العاطس]
في تشميت العاطس
وسُئل مالك عن العاطس إذا لم يحمد الله أَو لم يسمعه أَيَشمته؟ قال: لا يشمته حتى يسمعه يحمد الله. قيل له: فإنه ربما كانت الحلقة كثيرة الأهل فأَسمع القوم يشمتونه؟ قال: إِذا سمعت الذين يلونه يشمَتون فشمته.
قال الإمام القاضي: إِنما قال: إنه لا يشمته حتى يسمعه يحمد الله لما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أنه قال: «إِذَا عَطَسَ أحَدُكُم فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلّهِ ". وإذا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَلْيَقًلْ لَه، يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُم اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم» . وروي عنه أنه قال: «إذا عَطَسَ أحَدُكُم فليحْمِدْ وَلْيَقُلْ لَهُ مَنْ عِنْدَهُ يَرْحَمُكَ اللهُ وَلْيَرُدَّ عَلَيْهِ يَغْفِرُ اللهُ لَنَا وَلَكُمْ» . وقال مالك: إن شاء قال العاطس في الرد على من شمته: يغفر الله لنا ولكم، وإن شاء قال: يهديكم الله ويصلح بالَكم. وهو قول الشافعي أي ذلك قال فحسن، وقال أصحاب أبي حنيفة يقول: يغفر الله لنا ولكم، ولا يقول يهديكم الله ويصلح بالكم. وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: يهديكم اللهُ ويصلح بالكم. وهذا شيء قالته الخوارج لأنهم لا يستغفرون

(17/140)


للناس. والصحيح ما ذهب إليه مالك من أنه يرد عليه بما شاء من ذلك إذ قد جاء عن النبي الأمران معاً. وقد اختار الطحاوي وعبد الوهاب وغيره، يهديكم الله ويصلح بالكم على قوله: يغفر الله لنا ولكم. لأن المغفرة لا تكون إلا من ذنب، والهداية قد تعري من الذنوب. والذي أقول به: إن قوله: يغفر الله لي ولكم أولى إذ لا يسلم أحد من مواقعة الذنوب، وصاحب الذنب محتاج إلى الغفران، لأنه إِن هدي فيما يستقبل ولم يغفر له ما تقدم من ذنوبه، بقيت التَبَاعات عليه فيها، وإن جمعهما جميعاً. فقال: يغفر الله لنا ولكم، ويهديكم ويصلح بالكم كان أحسن وأولى إلا في الذمي إذا عطس، ويحمد الله فلا يقال له: يرحمك الله، وإنما يقال له: يهديك الله ويصلح بالك، لأن اليهودي والنصراني لا تغفر له السيئات، حتى يؤمن. ومما يدل على هذا ما رُوي: مِنْ «أن الْيهودَ كَانُوا يَتَعَاطَسونَ عِنْدَ النَّبيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَجَاءَ أنْ يَقُولَ: يَرْحَمُكُم اللهُ، فَيَقُولُ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم.» واختلف في تشميت العاطس فقيل: هو واجب على كل من سمعه كرد السلام، وقيل هو ندب وإرشاد وليس بواجب. ولا اختلاف في أنه لا يجب تشميت العاطس إذا لم يحمد الله. وإنما أمر العاطس أن يحمد الله لما في العطاس من المنفعة ما لم يكن مضنوكاً على ما دل عليه قوله في الحديث: «إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ، ثمَّ إِن عَطسَ فَشَمِّتْه، ثَمّ إن عَطِسَ فَشَمِّتْهُ ثم إِنْ عَطَسَ فَقل: إنك مضْنُوكٌ. وقال عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي بَكْر: لاَ أدرِي أبَعْدَ الثّالِثَةِ أو الرابِعَةِ.» ويقال: تشميت، وتسميت، وقال الخليل تسميت العاطس لغة في تشميته. وقال ثعلب: التشميت معناه: أبعد الله عنك الشماتة، وجنبك ما يشمت به عليك. وأما التسميت فمعناه جعلك الله على سمت حسن وبالله التوفيق لا إلهَ إلا هو رب العرش العظيم.

(17/141)