البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

كتاب المرتدين والمحاربين
من سماع ابن القاسم من مالك بن أنس
قال وحدثني محمد بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة عن عائشة أنها قالت : ما رأيت ما ترك الناس في هذه الآية : {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا} الآية .
قال محمد بن رشد : روي عن عبد الله بن عباس أنه قال في تأويل هذه الآية : إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم إذا ما اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله وينصف بعضهم من بعض ، فإ ، أجابوا كم بينهم بكتاب الله حتى ينصف المظلوم من الظالم ، فمن أبى منهم فهو باغ وحق على الإمام أن يجاهدهم ويقاسمهم حتى يفوا إلى أمر الله ويقروا بحكم الله ، وروي أن الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرخ إقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(16/359)


أقبل على حمار حتى وقف في مجلس من مجالس الأنصار فكره بعضهم موقفه وهو عبد الله بن أبي بن سلول ، فقال له : خل لنا سبيل الريح من نتن هذا الحمار وأمسك بأنفه ، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغضب له بعض القوم وهو عبد الله بن رواحة ، فقال له : قلت هذا القول ؟ فوالله لحماره أطيب ريحاً منك ، فاستبا ، ثم اقتتلت عشائرهما ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يصلح بينهم فكأنهم كرهوا ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية {وإن طائفتان} إلى آخر الآية ، فأرادت عائشة رضي الله عنها بقولها ، والله أعلم ، ما رأيت ما ترك الناس في هذه الآية نسبة التقصير إلى من أمسك من الصحابة عن الدخول في الحرب التي وقعت بينهم واعتزلهم وكف عنهم ولم يكن مع بعضهم على بعض ، ورأت أن الحظ لهم والواجب عليهم إنما كان أن يروموا الإصلاح بينهم ، فإن لم يقدروا عليه ، كانوا مع من رأوا أنه على الحق منهم على ما تقتضيه الآية ، وإنما أمسك من مسك منهم عن نصرة بعضهم على بعض طلباً للخلاص والنجاة مما شجر بينهم إذ لميبن لهم من كان على الحق منهم والله أعلم ، فكان فرضهم ما فعلوه من الإمساك ، إذ لا يحل قتال مسلم بشك ، كما كان فرض كل من قاتل منهم ما فعلوه من القتال لاعتقاد أنه مصيب به باجتهاده ، فكلهم محمود على ما فعله ، القاتل منهم والمقتول في الجنة ، فهذا الذي يجب على كل مسلم
أن يعتقده فيما شجر بينهم لأن الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه وعلى لسان رسوله فقال عز من قائل : {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وقال : {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} ، أي خياراً عدولاً ، وقال : {محمد رسول الله والذين معه} ، الآية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(16/360)


أصحابي كالنجوم بأيهم إقتديتم إهتديتم ، وقال : عشرة من قريش في الجنة فسمى فيهم عليا وطلحة والزبير والذي يقول أئمة أهل السنة والحق أن عليا رضي الله عنه ومن إتبعه كان على الصواب والحق ، وأن طلحة والزبير كانا على الخطأ إلا أنهما رأيا ذلك باجتهادهما فكان فرضهما ما فعلاه ، إذ هما من أ÷ل الاجتهاد ، ومن الناس من يجعل هذه المسألة من مسائل الاجتهاد ، ويقول إن كل مجتهد فيها مصيب كسائر مسائل الأحكام ، وليس ذلك بصحيح ، ومن أئمة المعتزلة من يقف في علي وطلحة والزبير وعائشة فيقول : لا يدري من المصيب منهم من المخطئ ؟ ومن الناس من يقول : إن من خالف علياً كان على الخطأ والعصيان إلا أنهم تابوا ورجعوا إلى موالاة علي رضي الله عنه قبل أن يموتوا ، واستدلوا على ذلك برجوع الزبير وندم عائشة وبكائها إذ ذكر لها يوم الجمل ، وقول طلحة لشاب من عسكر علي وهو يجود بنفسه : امدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين .
والذي قلناه من أنهم اجتهدوا فأصاب علي واخطأ طلحة والزبير هو الصحيح الذي يلزم اعتقاده ، فلعلي أجران لموافقته الحق باجتهاده ولطلحة والزبير أجر واحد لاجتهادهما وبالله التوفيق .

(16/361)


مسألة
قال مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن ابن شهاب إن شداد ابن أوس غطى رأسه فبكى فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : إنما أخاف عليكم من قبل رؤسائكم الذين إذا أمروا بطاعة الله أطيعوا ، وإذا أمروا بمعصيته أطيعوا إنما مثل المنافق كالجمل المختنق فمات في ريفه لا يعدوا شره ريقه ، قال عيسى : قال ابن القاسم : الريق الذي يجعل للخروف يمنع به الرضاع .
قال محمد بن رشد : شداد ابن أوس هذا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار بن أخي حسان بن ثابت الأنصاري قال فيه عبادة ابن الصامت : كان شداد ابن أوس ممن أوتي العلم والحلم ، وقال أبو الدرداء يؤتي الرجل العلم ولا يؤتيه الحلم ويؤتيه الحلم ولا يؤتيه العلم وإن أبا يعلى شداد ابن أوس ممن أتاه الله العلم والحلم ، وبكاؤه من حذره على الناس طاعتهم لرؤسائهم في الطاعة والمعصية من الحلم الذي أتاه الله إياه ، ومثيله للمنافق بالجمل الذي يختنق في ريقه فيموت فيه من العلم الذي قد أتاه إياه لأنه تمثيل صحيح ، لأن المنافق يهلك باعتقاده فلا يتأذى به سواه إذ لا يظهره كالخروف يموت بريقه إذا اختنق به فلا يتأذى به سواه وبالله تعالى التوفيق .
مسألة
قال مالك : قال آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} ويقول الله {فأما الذين اسودت وجوههم} الآية ، قال مالك : فأي كلام

(16/362)


أبين من هذا ؟ قال ابن القاسم وروايته تاولها على أهل الأهواء قال ابن القاسم قال مالك : إنما هذه الآية لأهل القبلة ، قال مالك كان هاهنا رجل يقول والله ما بقي دين إلا وقد دخلت فيه ، يعني الأهواء فلم أر شيئاً مستقيماً ، يعني بذلك فرق الإسلام فقال له رجل : أنا أخبرك ، ما شأنك لا تعرف المستقيم لأنك رجل لا تتقي الله ، قال تعالى : {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} قال سحنون : بلغني أن الذي قال له ذلك القاسم بن محمد .
قال محمد بن رشد : تأويل مالك لهذه الآية في أهل القبلة يدل على أنه رآهم كفاراً بما يؤول إليه قولهم وذلك في مثل القدرية الذين يقولون إنهم خالقون لأفعالهم قادرون عليها بمشيئتهم وإرادتهم دون مشيئة الله لم يرد الكفر والعصيان من عبادة ولا شاءه ولا قدره عليهم ، ففعلوه هم بمشيئتهم وقدرتهم وإرادتهم وفي مثل المعتزلة الذين ينكرون صفات ذات البارئ عز وجل من علمه وكلامه وإرادته وحياته إلى ما سوى ذلك من الأشياء التي تسد عليهم طريق المعرفة بالله تعالى وأشباههم من الروافض والخوارج والمرجئة لأن هؤلاء ونحوهم هم الذين يختلف في تكفيرهم بما لقولهم فيرى من يكفرهم بما لقولهم على من صلى خلفهم إعادة الصلاة في الوقت وبعده ويستتيبهم أسروا بدعتهم أو أعلنوا على ما قاله في رسم يدبر من سماع عيسى فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بالمرتد ، ولا يرى من لا يكفرهم بما لقولهم إعادة الصلاة على من صلى خلفهم ولا استتابهم وإنما يفعل بهم كما فعل عمر ابن الخطاب بصبيع من ضربه أبداً حتى يتوب ، ومنهم من يستحب له إعادة الصلاة في الوقت ، ومنهم من يفرق بين أن يكون الإمام الذي تؤدي إليه .
الطاعة أو غيره من الناس حسبما مضى القول فيه في رسم الصلاة الثاني من

(16/363)


سماع أشهب من كتاب الصلاة ، ومن أهل الأهواء ما هو اعتقادهم كفر فلا يختلف في تكفيرهم ، ومنه ما هو خفيف لا يؤدي بمعتقديه إلى الكفر إلا بالتركيب ، وهو أن يلزم على قوله ما هو أغلظ منه وعلى ذلك الأغلظ ما هو أغلظ حتى يؤول به ذلك الأغلظ إلى الكفر فهذا لا يكفر به بإجماع ، والكفر بالله الذي هو التكذيب برسول الله أو بشيء مما جاء به عن الله مضاد للإيمان الذي هو المعرفة بالله والتصديق به وبكل ما جاء به رسوله من عنده ، فلا يجتمع الكفر والإيمان في محل واحد لتضادهما ، وهما من أفعال القلوب ، فلا يعلم أحد كفر واحد وال إيمانه قطعاً لاحتمال أن يظن خلاف ما يظهر كالمنافقين والزنادقة وشبههم إلا بالنص من صاحب الشرع على كفر أحد أو إيمانه أو بأن يظهر منه عند المناظرة والمجادلة والمباحثة لمن ناظره أو باحثه ما يقع له به العلم الضروري لأنه معتقد لما يجادل عليه من كفر أو ما يدل عليه من مذهب يعتقده إلا أن أحكامه تجري على الظاهر من حاله ، فمن ظهر منه ما يدل على الكفر حكم له بأحكام الكفر ، ومن ظهر منه ما يدل على الإيمان حكم له بأحكام الإيمان .
ويدل على الكفر وجهان باتفاق ، أحدهما أن يقر على نفسه بالكفر ، والثاني أن يفعل فعلاً أو يقول قولاً قد ورد السمع والتوقيف بأنه لا يقع إلا من كافر فيصير ذلك علماً على الكفر وإن لم يكن كفراً في نفسه ، وذلك نحو استحلال شب الخمر وغصب الأموال واستباحة القتل والزنا والسرقة وعبادة شيء من دون الله والاستخفاف بالرسل وجحد سورة من كتاب الله وأمثال ذلك مما ورد التوقيف فيه أنه لا يكون إلا من كافر ، ووجه ثالث على اختلاف وهو أن يقر على نفسه باعتقاد مذهباً يسد عليه طريق المعرفة بالله كنحو ما يعتقده القدرية والمعتزلة والخوارج والروافض فقيل إنهم يكفرون بذلك ، وهو الذي يدل عليه قول مالك في هذه الرواية حسبما ذكرناه وقوله في آخر كتاب الجهاد في المدونة أنهم يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا لأن هذا هو حكم المرتد ، وقيل إنهم لا يكفرون بذلك هو الأظهر لقول النبي صلى الله عليه

(16/364)


وسلم في الخوارج ويتمارى في الفرق لأنه يدل على الشك في خروجهم عن الإيمان وإذا شك في خروجهم منه وجب ألا يخرجوا إلا بيقين وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مالك في الذي يسافر إلى أرض البربر فيدخل بلاد أهل الأهواء فيكون معه السيف والسرج فيريد أن يبيع منهم وهم أصحاب بدع وأصحاب أهواء يقاتل بعضهم بعضاً ، قال : لا أحب أن يبيع السلاح لمن يناوئ به أهل الإسلام .
قال محمد بن رشد : قوله لا أحب معناه لا يجوز أن يفعل ذلك ، وقد اختلف إ ، فعل ذلك ومضى وفات ولم يعلم من باعه منه ولا قدر على رده فيما يلزمه فيما بينه وبين ربه في التوبة من ذلك على ثلاثة أقوال ، أحدها أنه يلزم أن يتصدق بجميع الثمن وهذا على القول بأن البيع فيها غير منعقد وأنها باقية على ملكه لوجوب رد الثمن على هذا القول إلى المبتاع إن علمه والصدقة عنه به إن جهله كالربا والثاني أنه لا يلزم أن يتصدق إلا بالزائد على قيمته لو بيع على وجه جائز ، وهذا على القول بوجوب فسخ البيع في القيام وتصحيحه بالقيمة في الفوات ، والثالث أنه لا يجب عليه أن يتصدق بشيء منه إلا على وجه الإستجاب مراعاة للاختلاف ، وهذا على القول بأن البيع إن عثر عليه لم يفسخ ويباع على المبتاع ، وقد مضى هذا المعنى في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب التجارة إلى أرض الحرب .
ومن كتاب الحرب
وسمعت مالكاً يقول لرجل سألتني أمس عن القدر ؟ فقال له

(16/365)


الرجل : نعم ، قال : يقول الله تعالى في كتابه : {ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} حقت كلمته ليملأن جهنم منهم ، فلا بد من أن يكون ما قال .
قال محمد بن رشد : هذه الآية بينة في الرد على أهل القدر كما قال ، وذلك أنهم يقولون إن الله تعالى أمر عباده بالطاعة وأرادها منهم ونهاهم عن المعصية ولم يردها منهم ، فلم يكن ما أراد من الطاعة وكان ما لم يرد من المعصية ، لأن العبد عندهم خالقون لأفعالهم بمشيئتهم وإرادتهم دون إرادة بهم وخالقهم ، وذلك ظلال بين وكفر صريح عند أكثر العلماء ، لأنهم يلحقون العجز بالله تعالى في أن يكون ما لا يريد ، ويريد ما لا يكون ، والجهل به أيضاً لأنهم إذا كانوا هم الخالقون لأفعالهم بمشيئتهم فلا يعلم وقوعها منهم على قولهم حتى يفعلوها ، وهذا كفر صريح وتكذيب لقوله تعالى في غير ما آية من كتاب وذلك قوله تعالى : {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً} وقوله : {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} وقال : {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} وقال : {الله خالق كل شيء} وقال : {خلقكم وما تعملون} وقال : {ألا يعلم من خلق} والآيات في

(16/366)


الرد عليهم أكثر من أن تحصى وأبين من أن تخفى ، وقد قال عون بن معمر سمعت سعيد ابن أي عروبة وكان يترهب بمذهب أهل القدر يقول : ما في القرآن آية أشد علي من قوله : {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} ق آل : فقلت القرآن يشق عليك ؟ والله لا أكلمك أبداً فما كلمته حتى مات ، فرحم الله عون بن معمر ، والآثار في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم متواثرة لا تحصى ، من ذلك قوله : كل شيء بقدر ، وقوله : لا تسئل المرأة طلاق أختها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها وقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ، فقال رجل ففيم العمل ؟ فقال رسول الله إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على
عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار ، وقول آدم لموسى في حديث محاجته أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق وبالله التوفيق .
مسألة
قال سحنون : وأخبرني بعض أصحاب مالك أنه كان قاعداً عند مالك فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الله : مسألة ، فسكت عنه ، ثم قال له مسألة ، فسكت عنه ، ثم عاد عليه فرفع إليه مالك رأسه

(16/367)


كالمجيب له ، فقال له السائل : يا با عبد الله {الرحمن على العرش إستوى} كيف كان استواءه ؟ قال فطأطأ مالك رأسه ساعة ثم رفعه ، فقال : سألت عن غير مجهول وتكلمت في غير معقول ولا أراك إلا إمرء سوء أخرجوه .
قال محمد بن رشد : قد روى عن مالك أنه أجاب هذا بأن قال إستواء من غير مجهول ، والكيف منه غير معقول ، والسؤال عن هذا بدعة وأراك صاحب بدعة ، وأمر بإخراجه ، وهذه الرواية تبين معنى قوله : سألت عن غير مجهول وتكلمت في غير معقول لأن التكييف هو الذي لا يعقل ، إذ لا يصح في صفات الباري عز وجل لما يوجبه من التشبيه بخلقه تعالى عن ذلك ، وأما الاستواء فهو معلوم غير مجهول كما قال لأن الله وصف به نفسه فقال في محكم كتابه {الرحمان على العرش إستوى له ما في السماوات وتما في الأرض وما بينهما وما تحت الترى} وقال : {ثم استوى على العرش الرحمان فاسأل به خبيرا} فوجب الإيمان بذلك وأن يوصف بما وصف به نفسه من ذلك ويعتقد أنها صفة من صفات ذاته وهي العلو ، لأن معنى قوله تعالى على العرش استوى على العرش علا ، كما يقال استوى فلان على العرش علا عليه واستوت الشمس في كبد السماء علت ، ولما كان العرش أشرف المخلوقات وأعلاها وأرفعها مرتبة ومكاناً أعلم الله تعالى عباده بقوله : {الرحمان على العرش إستوى} أي علا فإنه أعلى منه ، وإذا كان أعلى منه فهو أعلى من كل شيء ، إذ كل شيء من المخلوقات دون العرش في الشرف والعلو والرفعة فالمعنى في وصف الله عز وجل نفسه بأنه استوى على العرش أنه أعلى منه ومن كل مخلوق ، لا أنه استوى عليه بمعنى الجلوس عليه والتحيز فيه

(16/368)


والممارسة لأنه مستحيل في صفات الله تعالى ، لأنه من التكييف الذي هو من صفات المخلوق ولذلك قال فيه مالك في الرواية : إنه غير معقول ، ولا أنه استوى عليه بمعنى أنه إستولى عليه لوجهين ، أحدهما أن الإستيلاء إنما هو بعد المدافعة والمقالبة ، والرب تبارك وتعالى منزه عن ذلك والوجه الثاني أن الإستيلاء هو القهر والقدرة ، والله تعالى لم يزل قادراً قاهراً عزيزاً مقتدراً ، قوله ثم استوى على العرش يقتضي استفتاح هذا الوصف بد أن لم يكن ولا يمتنع أن يكون استواء الله على عرشه من صفات ذاته وإن لم
يصح وصفه بها إلا بعد وجود العرش كما لا يوصف بأنه غير لما غايره إلا بعد وجود سواه ، وقد قيل إن استواء الله تعالى على عرشه من صفات فعله ، بمعنى أنه فعل في العرش فعلاً سمي نفسه به مستوياً على العرش ، أو بمعنى أنه قصد إلى إيجاده أو إحداثه ، لأن الإستواء يكون بمعنى الإيجاد والإحداث كما قال تعالى : {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} قصد إلى إيجادها وإحداثها .
وحمل الاستواء فيما وصف الله به نفسه من استوائه على عرشه على أنها صفة ذات من العلو والارتفاع أولى ما قيل في ذلك والله أعلم .
ومن كتاب مرض وله أم ولد
قال ابن القاسم : قال مالك : قال عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر للتنقل ، قال مالك : أراه يعني أصحاب الأهواء .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأن من خاصم أهل الأهواء والبدع وجادلتهم ، يوشك أن يسمع من شبههم ما لا يظهر له إبطاله

(16/369)


فينتقل عن إعتقاده إلى ذلك ، فلا ينبغي للرجل أن يمكن زائغاً من أذنه ولا ينعمه عيناً بالمجادلة في بدعته وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مالك في رجلين اصطحبا في سفر فقتل أحدهما صاحبه فقال : إن كان قتله على وجه الحرابة أو أخذ متاعه فإني أرى أن يقتل ، وإن كان قتله على وجه العداوة أو نائرة فذلك إلى أوليائه إن شاء واقتلوه وإن شاء واعفوا .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، وهو مما لا اختلاف فيه ، لأن القتل على أربعة أوجه خطأ وعمد وشبه عمد وغيلة ، فالخطأ فيه الدية على العاقلة ، والعمد فيه القصاص للأولياء إلا أن يعفوا على الدية أو بغير دية ، وهو أن يقتل قاصداً للقتل على وجه النائرة والعداوة وشبه العمد قيل فيه الدية ولا قصاص ، وقيل فيه القصاص ، وهو أن يعمد للضرب فيقتل به غير قاصد للقتل ، والقولان لملك ، والمشهور عنه أن فيه القصاص ، وقتل الغيلة وهو أن يقتله على ماله ، فهذا يجب عليه القتل حداً من حدود الله عز وجل لا عفو للأولياء فيه قياساً على المحارب في قوله . وجل {إنما جزاء الذين يحاربون} الآية .
ومن كتاب صلى نهاراً
وسئل مالك عن رجل نادى رجلاً باسمه فقال لبيك اللهم لبيك أعليه شيء ؟ قال مالك : إن كان جاهلاً أو على وجه السفه فلا شيء عليه .

(16/370)


قال محمد بن رشد : أما الجاهل فبين أنه لا شيء عليه لأنه لا يدري ما معنى الكلام ، وإنما هو شيء حفظه من تلبية الملبين فجرى على لسانه ، وأما الذي قاله على وجه السفه فلم ير عليه مالك في ذلك شيئاً فمعناه الذي يقوله على وجه الاستخفاف بالداعي له لإرادته بإجابته إياه بهذا الكلام ضد هذا الكلام الذي لا يليق به معناه فعرض له بذلك أنه لا شرف له ولا حق ولا كرامة يستوجب بها الإجابة ، وأما لو قال ذلك على وجه السفه إستخفافاً بالتلبية في الحج لوجب عليه الأدب المؤلم ، وهو محمول على أنه قاله على وجه الاستخفاف بالداعي حتى يعلم أنه أراد بذلك الاستخفاف بالتلبية لأن هذا معلوم في كلام الناس أن يراد بالكلام ضد موجبه فمعناه فيقال لإبن الأسود ابن الأبيض ، ومنه تسمية الأعمى أبو بصير ، والمهلكة الفائزة ، ومثل هذا كثير ، ولا يحمل على أحد أنه قال لأحد مجداً معتقداً أنه إله إلا أن يقر بذلك على نفسه وهو عاقل غير مجنون ولا سكران وبالله تعالى التوفيق .
ومن كتاب طلق بن حبيب
قال مالك : بلغني أن رجلاً قال لعمرو بن العاص وكان عمرو عاملاً على البحرين في زمان النبي عليه السلام ، وأنه قال له إن النبي قد توفي فالحق ببلدك فالحق ببلدك وإلا فعلنا وفعلنا يتواعده فقال له عمرو بن العاص لو كنت في حفش أمك لدخلنا عليك فيه .
قال محمد بن رشد : القائل لعمرو قرة بن هبيرة بن سلمة كان ارتد وأتى به موثقاً إلى أبي بكر مع عيينة وشهد عليه بذلك عمرو بن العاص فأراد بقوله هذا أنه لا يفلته ولا ينجو منه حتى يقيم حد الله عليه ، وبالله التوفيق .

(16/371)


من كتاب ليرفعن أمراً
قال وسئل مالك عن طريق بخراسان وبه قوم من أهل الكفر قريباً منهم يخرجون إلى تلك الطريق فيقطعون على المضعفين من المسلمين مثل الرجل والقافلة الضعيفة وإن كانت جماعة لهم قوة لم يقدموا عليهم وهم ليست لهم من القوة أن يظهروا على ما حاز المسلمون ، إلا أنهم يقطعون على هؤلاء أترى هاذ مرابطاً ؟ قال : نعم إذا كانوا يقطعون فإنما مثل هؤلاء مثل اللصوص فأرى أن يحرس ذلك الموضع وكأنه رآه مرابطاً .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله لأنه يجب حراسة القليل من المسلمين كما يجب حراسة الكثير ، وقد قال تعالى : {كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً} الآية فملازمة حراسة هذه الطريق رباط الأجر الرباط على قدر الخوف على أهل ذلك الموضع ، وقد قال عبد الله بن عمر فرض الجهاد لسفك دماء المشركين والرباط لحقن دماء المسلمين ، فكان يقول حقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين يريد والله أعلم أن الرباط أحب إليه من الجهاد على غير إصابة السنة فقد قيل إنه إنما قال ذلك حين دخل الجهاد ما دخل لأن الرباط إنما هو شعبة من شعب الجهاد والأجر فيه على قدر الخوف في ذلك الموضع ، وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مالك في القوم يكونون على السفر فيلقاهم اللصوص ، قال : يناشدونهم بالله فإن أبوا فيقاتلونهم وسئل عنها سحنون فقال :

(16/372)


أرى أن يقاتلا ولا يدعوا لأن الدعوة لا تزيد إلا شدة واستئساداً وجرأة ، فلا يرى أن يدعوا ويقاتلوا بلا دعوة .
قال محمد بن رشد : تكلم سحنون على ما يعرف من غالب أمرهم ، وتكلم مالك على قدر ما يجرى في النادر منهم ، وذلك يرجع إلى أنه إن رجى إن دعوا أو نشدوا أن يكفوا استحب دعاؤهم وترك معاجلتهم بالقتال وإن تيقن ذلك وجب أن يدعوا ، وإن خيف إن دعوا أن يستأسدوا ويعالجوا المسلمين وجب أن لا يدعوا كما قال سحنون ، وأما دعاء أهل الحرب قبل القتال فقد مضى القول فيه مستوفى في أول نوزل أصبغ من كتاب الجهاد وبالله التوفيق .
ومن كتاب سن في الطلاق
قال مالك : أما المحارب فرجل حمل على قوم بالسلاح على غير نائرة ولا دخل ولا عدوة أو قطع طريقاً أو أخاف المسلمين فهذا إذا أخذ قتل ولا ينتظر به ، والإمام يلي قتله ، ولا يجوز فيه عفو ، وأما المغتال فرجل عرض لرجل أو صبي فخدعه حتى أدخله بيتاً فقتله ثم أخذ متاعه ومالاً إن كان معه المال ، وإنما يقتله على ذلك ، فهذه الغيلة ، وهو يعد بمنزلة المحارب ، وأما ذو النائرة والعداوة فرجل دخل عليه رجل في حريمه مكابراً له حتى جرحه أو قتله أو ضربه ثم خرج مكانه ولم ينتهب متاعاً إنما كان ضربه إياه لنائرة كانت بينهما ، فهذه النائرة لا يشك فيها أحد فإذا أخذ هذا فعليه القصاص ، والعفو يجوز فيه من أولياء المقتول ، فإن عفوا جلد مائة وحبس عاماً .

(16/373)


قال محمد بن رشد : هذا تقسيم صحيح في قتل العمد على المشهور في المذهب من أن شبه العمد باطل لأن القتل عمداً ينقسم على ثلاثة أقسام عند من لا يرى القود في شبه العمد ، وقد مضى ذلك في رسم مرض وله أم ولد .
وقوله حتى جرحه أو ضربه يريد فمات في الحين من ضربه لمن جرحه وأما إن حيي بعد ذلك حياة بينة فلا يقسم إلا بقسامة أولياء المقتول ، وقد مضى بيان ذلك في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الديات وفي غير ما موضع منه وبالله التوفيق .
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من مسائل القراض
قال أشهب وابن نافع سئل مالك عن جارية أطمعت إنساناً في بلح شيئاً أذهبت عقله فمرة يفيق ومرة يذهب عقله فصيح ويرعد ، وقد اعترفت بذلك على نفسها وزعمت أنها لا تقدر على حل ذلك عنه ، لأن ذلك دخل في بطنه افتراها بذلك ساحرة تقتل ؟ فقال أراها قد أتت عظيماً ، فأرى أن لا تترك وأن يرجع أمرها إلى السلطان وإني لأراها محقونة بكل شر ، قيل لمالك أفترى عليها القتل ؟ فقال : لا أدري ما القتل ولكني أراها قد أتت عظيماً وأنها محقونة بكل شر ، فأرى أن يرجع أمرها إلى السلطان ، أفعلت هذا الفعل بغيره من الناس قبله ؟ فقال السائل : نعم ، قال : أرى أن يرفع أمرها إلى السلطان وأراها محقونة بكل شر ، فأما القتل فلا أدري .
قال محمد بن رشد : توقف مالك عن إيجاب القتل على من فعل هذا الفعل بأحد ، بقوله : فأما القتل فلا أدري صحيح لأن القتل لا يجب إلا بكفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق على ما قاله في

(16/374)


الحديث أو فسد في الأرض على ما نصه الله في محكم التنزيل ، وإنما توقف مالك في هذه المسألة لما خشي أن يكون هذا الفعل من السحر الذي يحكم على فاعله بالكفر لقوله تعالى : {وما يعلمان من أحد حتى يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر} وليس هذا من السحر بسبيل ، إنما السحر ما يفعله الساحر في غير المسحور فيتأذى به المسحور بما يصيبه به من ذهاب عقله حتى يخيل إليه بأنه يفعل الشيء ولا يفعله ويتوهم رؤية المستحيلات من الأمور ، وإنما هذا من ناحية ما يسقاه الرجل أو يطعم إياه من الأشياء المسمومة التي تأتي على نفسه أ ويصيبه بلاء في جسمه أو اختلال في عقله فإن أتت على النفس وجب على الفاعل في ذلك القتل فإن لن تأت على النفس لم يجب عليه في ذلك إلا الضرب والسجن إلا أن يكن أراد بما سقاه من ذلك ذهاب عقله لأخذ ماله فيكون ذلك من الغيلة الموجبة للقتل ، فيحتمل أن يكون ظن مالك هذا بهذه المرأة ولم يتحققه ، ولذلك توقف في قتلها ولم يوجبه .
مسألة
وسئل عن رجلين لقيا رجلاً نحو عين القسري وفي ثوبه رطب فسألاه من الرطب فأبى ، فأخذاه وكتفاه ونزعا منه الرطب وثوبه ، ثم وجد فقال سألني الأمير عن ذلك ، قيل له فما قلت له فيهما ؟ فقال إنه ليقول قاتل حارب ، قيل أفترى ذلك ؟ قال : إنهما ليشبهان ذلك ، وما أرى من أمر بين في القتل والصلب والقطع ، قيل لمالك : إن رجلين بالأندلس أخذا ومعهما دابتان فسئلا عنهما ، فقالا أما إحداهما فوجدناها ترعى في فحص فلان فأخذناها ، وأما هذه الأخرى فوجدنا عليها رجلاً فأنزلناه عنها وأخذناها منه ، فقال : هذه مثل الأخرى الذي نزعا منه الثوب والرطب .

(16/375)


قال محمد بن رشد : إنما لم ير مالك في هذا القتل والصلب والقطع وذهب إلى أن يؤخذ فيه بأيسر عقوبات المحارب وهو الضرب والسجن ، لأنه لم يخرج محارباً ولكنه أخذ مالاً على سبيل الحرابة فأشبه المحارب ، فهو عند مالك في الحكم بمنزلة الذي يخرج محارباً فيؤخذ في أول خروجه قبل أن يقتل أو يأخذ مالاً أو يخيف سبيلاً ، ووجه الشبه بينهما أن هذا تحققت عليه الحرابة بخروجه محارباً ولم يكن منه شيء من عناها ولا أخ مال وال إخافة سبيل ، والأول وجد منه معنى الحرابة وهو أخذ المال على سبيل المحاربة وليس بما فعل اسم المحارب إذا لم يقصد الحرابة ولا خرج إليها ، فسقط عنه بذلك ما يجب على المحارب إذا أخاف السبيل وخذ المال ، فهذا وجه القول في هذه المسألة والله أعلم .
مسألة
قال لنا مالك : أرسل الأمير فسألني عن رجل صحب قوماً فلما حضر غداؤهم جاءهم بسويق معه فصبه مع سويقهم فأكلوا منه وهم أربعة ولم يأكل هو ، فلم يلبث رجلان من القوم أن ماتا ولبط بصاحبهما فلم يدر أحيين هما أم ميتين حتى مثلهما من الغد وأخذ منهم خمسة دنانير ثم أخذ فسئ عن ذلك فقال : قد فعلت ، ,إنما هو سويق أعطانيه إنسان فأخبر أنه يسكر من أ :له فأطعمتهم إياه ليسكروا ، ولم أرد قتلهم وإنما أردت أن أخدرهم فآخذ ما معهم ، فلما طعموه فمات هذان ولبط بهذين حللت من أكمامهم خمسة دنانير فذهبت بها ، ولم أظن أن ذلك يقتل ، ولم يكن ذلك الذي أردت ، فاعترف على نفسه بهذا بغير ضرب ولا امتحان ، فما ترى ؟ فقلت لمالك فهل رأيت فيه يا أبا عبد الله ؟ فقال لي رأيت عليه القتل ،

(16/376)


فقلت له أرأيت عليه القتل ؟ قال : نعم رأيت عليه القتل ، فقلت له أرأيت ذلك عليه للحرابة ؟ فقال لي : نعم للحرابة ولما أراد من قتلهم أرأيت الذي سمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه في الشاة فمات بعضهم ألم يكن ذلك على هذه القتل ؟ فقلت له : إن تلك اليهودية التي سمت لرسول الله أرادت القتل ، وهذا لم يرد القتل ، فقال لي ومن يقبل ذلك منه أنه لم يرد القتل ؟ فلا يقبل منه ولا يغني ذلك عنه ، قد سحرت تلك الجارية سيدتها فأمرت بها فقتلت ، وهذا لم يعتذر بعذر فيقول أخطأت وإنه لعظيم أن يفعل هذا بابن السبيل ثم يسلم فاعله هذا مع أخذه أموالهم وأنهما ماتا مكانهما ، إني قد كنت قلت للرسول : قل للأمير لا يعجل به ، ثم نظرت في ذلك بعد ذهابه فأرسلت إليه فجاءني فقلت له قل للأمير يقتله .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة بينة وقد استدل مالك لما ذهب إليه من إيجاب القتل عليه بما ذكر مما لا مزيد عليه ، وأما قوله قد سحرت تلك الجارية سيدتها فأمرت بها فقتلت بها فلم يقله على سبيل الحجة لإيجابه القتل على الذي أطعم لأصحابه السويق المسموم فمات بعضهم وأخذ منهم الدنانير واعترف بذلك على نفسه ، إذ ليس منه بسبيل وإنما ذكره على سبيل الاغتباط بالفتوى بقتل من وجب عليه القتل لأن حدود الله يجب البدار إلى إقامتها وترك التأني في ذلك ، فقال أمرت بقتل هذا بما وجب عليه من القتل بالحرابة كما أمرت بقتل تلك بما وجب عليها من القتل بالسحر ، فقد كان إذا سئل في شيء من الحدود أسرع الجواب وأظهر السرور بإقامة الحدود ، وقد بلغني أنه يقال :

(16/377)


لحد يقام بأرض خير له من مطر أربعين صباحاً ، ولو قال هذا الرجل ما أردت قتلهم ولا أخذ أموالهم وإنما هو سويق لا شيء فيه إلا أنه لما ماتوا أخذت أموالهم لم يكن عليه شيء غير رد المال ، قاله في كتاب ابن المواز وبالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية الثاني
وسئل مالك عن المسلم يرتد عن الإسلام فيعرض عليه الإسلام فيسلم أترى عليه حداً فيما صنع من ارتداده عن الإسلام إلى الكفر ؟ فقال : لا أرى عليه حداً إن رجع إلى الإسلام ، إنما كان عليه القتل لو ثبت على النصرانية فأما إذا رجع إلى الإسلام فلا شيء عليه ، واحتج في ذلك بآية من كتاب الله ، قال سحنون وكذا لو رجع عن شهادته قبل أن يقضي بها ، وإنه يقال ولا عقوبة عليه وإن كان غير مأمون لأنه لو عوقب الناس بالرجوع عن شهادتهم لم يرجع أحد عن الشهادة شهد بها على باطل إذا تاب خوفاً من العقوبة قياساً على المرتد .
قال محمد بن رشد : أما المرتد فإنما لم يجب عليه حد فيما صنع من ارتداده إذا رجع إلى الإسلام لقوله تعالى : {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وهذه الآية التي ذكر أنه احتج بها من كتاب الله والله أعلم ، وأما قول سحنون في الراجع عن شهادة شهد بها قبل الحكم وهو غير مأمون إنه لا يعاقب فهو خلاف مذهب ابن القاسم ، لأنه قال في المدونة : ولو ردت لكان لذلك أهلاً ، واعتلال سحنون لإسقاط العقوبة عنه بما ذكره من

(16/378)


أن الشهود لو عوقبوا بالرجوع عن شهادتهم لم يرجع أحد عن شهادة شهد بها على باطل بين ، وأما قياسه ذلك على المرتدين فليس بصحيح ، لأن المرتد إنما سقطت عنه العقوبة بالآية المذكورة ، لا من أجل أن معاقبته لو عوقب لم يجترئ أحد على الرجوع إلى الإسلام خوفاً من العقوبة ، لأن القتل يجب عليه بالتمادي على الكفر فهو أشد من العقوبة التي يخشاها إن رجع إلى الإسلام فلا تشتبه المسألتان ولا يصلح قياس أحداهما على الأخرى .
مسألة
وسئل عن المرتد إلى الإسلام هل له حد يترك إليه ؟ فقال : إنه ليقال ثلاثة أيام وأرى ذلك حسناً وإنه ليعجبني ولا يأتي من الاستظهار الأخير ، وسئل عن قول عمر بن الخطاب أفلا حبستموه ثلاثاً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً هل ترى أن يتربص بالذي يكفر بعد إسلامه كذلك أو يستتاب ساعتئذ ؟ قال : ما أرى بهذا بأساً وليس على هذا أمر جماعة الناس .
قال محمد بن رشد : قوله وليس على هذا أمر جماعة الناس يريد في الإ]قاف ثلاثاً قاله ابن أبي زيد في النوادر متصلاً بقوله هذا الظاهر من الرواية ، ويحتمل أنيريد أنه ليس أمر جماعة الناس على إستتابة المرتد إذ من أهل العلم من يرى أنه يقتل ولا يستتاب على ظاهر قول النبي عليه السلام : من بدل دينه فاقتلوه وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة في رسم الصلاة من سماع يحيى بعد هذا ، واحتج بما روي من أن أبا موسى الأشعري وقف على معاذ بن جبل وأمامه مسلم تهود ، فقال له معاذ أنزل أيا أبا موسى ، فقال : لا والله لا نزلت حتى يقتل هذا ، فقال فلو رأى عليه استتابة ما قاله ،

(16/379)


وقد قال بعض الرواة عن أبي موسى في هذا الحديث إنه قد كان استتابه قبل ذلك أياماً وهو الصحيح إن شاء الله لأنه لم يحفظ عن الصحابة رضي الله عنهم اختلاف في استتابة المرتد وإنما اختلفوا في حدها ، فمنهم من قال يستتاب مرة واحدة ، ومنهم من قال شهراً ، ومنهم من قال ثلاثة أيام وهو الذي عليه أكثر أهل العلم ، والأصل في ذلك قوله تعالى : {قل تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لأحد أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام الحديث فبان بهذا أن الثلاثة أيام في حيز اليسير فمن ذلك أخذ استظهار الحائض بثلاثة أيام إذا استمر بها الدم ومنه أخذ الحاكم التلوم في الإعذار ثلاثة أيام ، ومنه أخذ تأخير الشفيع بالنقد ثلاثة أيام ، ومنه أخذ جواز تأخير رأس مال السلم اليومين والثلاثة ، وما أشبه ذلك في غير موضع من العلم كثير ، وقد مضى في نوازل سحنون من كتاب الديات القول فيمن قتل مرتداً عمداً قبل أن يستتاب وتوجيه الاختلاف في ذلك وبالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية الثالث
وسئل مالك عن القدرية فقال قوم سوء فلا تجالسوهم ، قيل ولا تصلي وراءهم ؟ قال : نعم ، وقال سحنون : كان ابن غانم يقول في كراهية مجالسة أهل الأهواء أرأيت لو أن أحدكم قعد إلى سارق في كمه بضاعة أما كان يختزنها منه خوفاً أن يغتاله فيها فلا يجد بداً أن يقول نم ، قال : فدينكم أولى بأن تحرزوه وتتحفظوا به ، وسئل

(16/380)


عن الرجل يكون بينه وبين الرجل من أ÷ل القدر في ذلك منازعة حتى يبقى يأتيه القدري فيأخذه بيده ونتصل إليه ، فقال إن كان جاء نازعاً تاركاً لذلك فليقبل منه ذلك وليكلمه وإن لم يكن جاء لذلك فإني أراه في سعة من ترك كلامه ، قيل له : إنه قد يتشبث ويتعلق ويأخذ بيدي ويسألني الكلام ؟ فقال : لا أرى بأسا أن يترك كلامه .
قال محمد بن رشد : قول مالك في هذه الرواية في أهل القدر إنهم قوم سوء فلا يجالسوا ولا يصلي وراءهم ، نص منه على أنهم لا يكفروا بإعتقادهم خلاف ظاهر قوله في أول رسم من سماع ابن القاسم آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء هذه الآية : {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} الآية ، قال فأي كالم أبين من هذا ، قال ابن القاسم : ورأيته تأولها على أهل الأهواء ، فالقدرية عند عامة العلماء كفار لأنهم نسبوا إلى الله تعالى العجز والجهل في قوليهم إن الله لم يقدر المعاصي ولا الشر وإن ذلك جار في خلقه وسلطانه بغير قدرته ولا إرادته فنفوا القدرة والإرادة في ذلك عن الله تعالى ونسبوها لأنفسهم حتى قال بعض طواغتهم إنه لو كان طفل على حاجز بين الجنة والنار لكان الله تعالى موصوفاً بالقدرة على طرحه إلى الجنة وإبليس موصوفاً بالقدرة على طرحه في النار ، وإن الله لا يوصف بالقدرة على ذلك وزعموا أن خلاف هذا كفر وشرك وعند بعضهم قوم سوء ضلال لأنهم خالفوا أهل السنة والجماعة في عقود الدين لأن الله تعالى أضلهم وأغواهم ولم يرد هداهم وعمى بصائرهم عن الحق ولم يرد شرح صدورهم له ، كما قال تعالى : {فمن يرد الله أن يهديه} الآية وقد تواترت الآثار بإخراجهم عن الإسلام وإضافتهم إلى أصناف الكفر ، من ذلك

(16/381)


قول النبي عليه السلام القدرية مجوس هذه الأمة والقدرية نصارى هذه الأمة وقوله صنفان من أمتي ليس لهم نصيب في الإسلام المرجئة والقدرية ، وقوله : لكل أمة مجوس ، ومجوس هذه الأمة القدرية لا تعودوهم إذا مرضوا ولا تصولا عليهم إذا ماتوا ، وقوله صلى الله عليه وسلم إتقوا هذه القدرية فإنها شعبة من النصرانية ومن مثل هذا ونحوه كثير ، وقد نهى مالك عن مجالستهم وإن لم يرهم كفاراً بما لقولهم على هذه الرواية لوجوه ثلاثة ، أحدها أنهم إن لم يكونوا كفاراً فهم زائغون ضلال يجب التبرؤ منهم وبغضهم في الله لأن البغض في الله والحب فيه من الإيمان ، وقد
قال تعالى : {لا تجد قوماً} الآية ، وهم ممن حاد الله ورسوله باعتقادهم الفاسد الذي خرجوا به عن الملة في قول كافة الأمة ، والوجه الثاني مخافة أن يعرض بنفسه سوء الظن بمجالستهم فيظن به أنه يميل إلى هواهم ، والثالث مخافة أن يستمع كلامهم فيدخل عليه شك في اعتقاده بشبههم وكفى من التحرير عن ذلك المثل الصحيح الذي ضربه مالك في رواية ابن غانم عنه ونهى عن الصلاة خلفهم على مقتضى هذه الرواية من أنهم كفار لأنهم وإن لم يكونوا كفاراً هم زائغون ضلال ، وقد قال النبي عليه السلام أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون فإن صلى خلفهم على هذه الرواية أعاد في الوقت وهو مذهب ابن القاسم ، وقيل لا إعادة عليه ، وهو مذهب سحنون وكبار أهل مالك ، وأما على القول بأنهم يكفرون بما لقولهم فيعيد من صلى خلفهم في

(16/382)


الوقت وبعده ، وهو قول محمد بن عبد الحكم ، وقد فرق في ذلك بين أن يكون هو الوالي الذي تؤدي إليه الطاعة أو غيره ، وقد مضى هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم وقوله في الذي غايظه القدري في منازعته إياه ثم جاءه متنصلاً إليه إنه لا يكلمه حتى يعلم صحة متنصله مما قال وتوبته عنه ، وأنه إنما يريد بكلامه معه التثبت في اعتقاد أهل السنة ، وأما إن لم يعلم صحة ذلك فله سعة في ترك كلامه كما قال مخافة أن يظهر له التنصل والتوبة وغرضه أن سمعه شبهة رجاء أن يشككه في اعتقاده فمن الحظ له أن لا ينعمه عيناً بذلك وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن عذاب اللصوص بالرهزة بهذه الخنافس التي تحمل على بطونهم ، فقال لا يحل هذا إنما هو السوط والسجن وإن لم يجد في ظهره مضرباً فالسجن ، قيل أرأيت إن لم يجد في ظهره مضرباً أترى أن يسطح فيضربه في أليتيه ؟ فقال : لا والله لا أرى ذلك ، إنما عليك ما عليك ، وإنما هو الضرب في الظهر بالسوط أو السجن أرأيت إن مات ؟ قال : فقيل له : أرأيت إن مات أيضاً بالسوط ؟ قال : فإنما عليك ما عليك .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأنه لا يصلح أن يعاقب أحد فيما يلزمه فيه العقوبة إلا بالجلد والسجن الذي جاء به القرآن ، وأما تعذيب أحد بما سوى ذلك من العذاب فلا يحل ولا يجوز ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن الله ليعذب في الآخر الذين يعذبون الناس في الدنيا .
ومن كتاب أوله قراض ثم مساقات
وسئل عن المحارب إذا تاب ونزع وظهر لجيرانه وجاء إلى

(16/383)


المسجد أترى عليه شيئاً أو أحب إليك أن يأتي السلطان ؟ قال : بل أحب إلي أن يأتي السلطان .
قال محمد بن رشد : قوله أحب إلي أن يأتي السلطان يدل على أنه ليس بواجب عليه وأنه إن ترك ما هو عليه ونزع منه وظهر بجيرانه وجاء إلى المسجد فهي توبة شرعية من إقامة حد الحرابة عليه وإن لم يأت الإمام ، وقد اختلف في صفة التوبة التي تقبل منه وتسقط عنه حد الحرابة على ثلاثة أقوال ، أحدها أنها تصح بأحد الوجهين إما بأن يترك ما هو عليه ويظهر لجيرانه ويأتي إلى المسجد معهم ، وإما بأن يلقى سلاحه ويأتي الإمام ، وهو مذهب ابن القاسم ، والقول الثاني أن توبته لا تقبل منه إلا بالإتيان إلى السلطان فإن لم يأت السلطان وترك ما هو عليه وظهر لجيرانه وشاهد الصلوات معهم لم ينتفع بذلك ، وأقام الإمام عليه الحد وهو قول ابن الماجشون ، والقول الثلث عكس هذا القول أن توبته لا تقبل منه إلا بترك ما هو عليه ويظهر لجيرانه ويشاهد الصولات معهم فإن لم يفعل ذلك وألقى سلاحه وأتى الإمام أقام عليه الحد فإن نزع وترك ما هو عليه وظهر لجيرانه وجاء المسجد ثم أتى الإمام بعد ذلك قبل أن يظهر عليه برئ من الحد بإجماع ، وقد اختلف فيما تسقط عنه التوبة من الأحكام على أربعة أقوال ، أحدها أنه لا يسقط عنه إلا حد الحرابة خاصة ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الناس من الدماء والأموال فيضمن الأموال ويكون لأولياء المقتول القصاص منه إن أحبوا ، والثاني أنها تسقط عنه حقوق الحرابة وحقوق الله تعالى من الزنا والسرقة وشرب الخمر ولا يسقط عنه ما سوى ذلك من الدماء والأموال ، والثالث أنها تسقط عنه حد الحرابة وحقوق الله والأموال إلا أن يوجد من ذلك شيء بعينه فيرد إلى أهله ، ولا تسقط عنه الدماء فيكون لأولياء المقتول القصاص ، والرابع أنها تسقط عنه كل شيء من الحدود والدماء والأموال إلا أن يوجد منها شيء بعينه فيرد إلى أهله وبالله التوفيق .

(16/384)


ومن كتاب الحدود
وسئل عن الرجل يلقى الرجل بعد العشاء أو في السحر في الخلوة فيبتزه ثوبه حتى ينتزعه منه أترى عليه قطعاً ؟ قال : لا أرى عليه قطعاً حتى يكون محارباً أو لصاً ، فأما الذي يأخذ الرجل في الليل فيكابره على ثوبه فينتزعه إياه فلا أرى عليه قطعاً قد كان عندك حديثاً ههنا ربما اتبع الرجل في المسجد فانتزع ثوبه عن ظهره .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله لأنه هذا إنما هو مختلس ليس بسارق فيقطع ، ولا محارب فيحد حد الحرابة ، لأن السارق هو الذي يأخذ المتاع من حرزه والمحارب هو الذي يخرج على الناس ليقطع عليهم الطريق ويأخذ منهم أموالهم بسلاح أو بغير سلاح خارج المصر باتفاق ، أو داخل المصر على اختلاف .
ومن كتاب الأقضية
وسئل عن رجل به لمم فقيل له إن شئت أن نقتل صاحبك قتلناه ، فقال له بعض من عندنا : لا تفعل إصبر واتق الله ، وقال له بعضهم : اقتله فإنما هو مثل اللص يعرض يريد مالك فاقتله ، فقال إن أعظمهم عندي جرماً الذي مثله باللص ، قيل فما رأيك ؟ قال : لا علم لي بهذا هذا من الطب .
من سماع موسى ابن القاسم
قال العتبي : حدثنا موسى بن معاوية الصمادحي ، قال :

(16/385)


حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن أبي جعفر عن أبيه علي بن حسين قال : وجدنا صحيفة مقرونة مع قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بسم الله الرحمان الرحيم أشد الناس عذاباً القاتل غير قاتله والضارب غير ضاربه ، ومن جحد نعمة مولاه فقد كفر بما أنزل الله ومن آوى محدثاً فعليه لعنه الله وغضبه لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل .
قال محمد بن رشد : قوله به لمم أي خبل وصرع وبه جنون من مس الشيطان ، قال تعالى : {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} لا يقوم أكلة الربا في الآخرة إلا كما يقوم في الدنيا الذي يصيبه الخبل والصرع من الجنون وقوله : وقيل له إن شئت أن تقتل صاحبك قتلناه هو من كذب الذين يعالجون المجانين ومخاريقهم الذين يزعمون أنهم يقتلون بكلامهم وعزائمهم الشيطان الذي يصرع المجنون ويسجنونه إن شاءوا ويعاقبونه بما شاءوا ، وذلك من خرق العادة الذي خص الله به سليمان عليه السلام بإجابته دعوته في قوله : {وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد} الآية . وقد جاء في الصحيح عن النبي عليه السلام أنه قال : إعترض لي الشيطان في مصلاي هذا فأخذته بحلقه فخنقته حتى أني لأجد برد لسانه على ظهر كفي ولولا دعوة لأخي سليمان قبلي لأصبح مربوطاً تنظرون إليه ، فإذا لمي قدر النبي عليه السلام على ربطه من أجل دعوة أخيه سليمان وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فأحرى

(16/386)


أن لا يقدر الذي يعالج المجانين على قتل الشيطان بالكلام دون أن يراه أو يباشر قتله بما أجرى الله العادة من أنه يقتل به الأحياء فإذا كان قتله إياه من المستحيل المحتم الذي لا يدخل تحت قدرته لم يصح أن يقال ذلك جائز كما قاله الذي مثله باللص فأنكر عليه قوله مالك إلا أن ذلك لا يجوز كما ذهب إليه العتبي بدليل إدخاله على ذلك الحديث الذي ذكره من سماع موسى .
والخبل والصرع والتخبط الذي يعتري المجنون مرض من الأمراض يصيبه من وسوسة الشيطان إياه وتفزيعه له وترويعه إياه بما يسوله له ويلقيه في نفسه ، إذ لا يقدر له على أكثر من الوسوسة التي أمر الله بالاستعاذة منها في سورة الناس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي لمي قدر منكم إلا على الوسوسة وقال إن الشيطان لا يفتح غلقاً ولا يحل وكأ ولا يكشف أماً ، ولكون ما يصيب المجنون من الصرع من الأمراض قال مالك في هذه الرواية : لا أعلم في هذا من الطب ، يريد أن الطبيب هو الذي يداوي الأمراض ويعالج الأدواء بما أنزل الله لها من الدواء ، لا هؤلاء الذين يكذبون فيما يزعمون من قتلهم الشيطان وبالله التوفيق .
ومن سماع ابن دينار من ابن القاسم
وسئل عن نصراني اشترى جارية مسلمة ، ولما وجدت معه قال : أنا مسلم ، ثم علم أنه نصراني وقال أنا نصراني وإنما قلت أنا مسلم لمكانها ، قال : يؤدب ، قيل له : أيبلغ به السبعين ؟ قال : الأدب في هذا دون ذلك .

(16/387)


قال محمد بن رشد : إنما رأى عليه الأدب في تملكه المسلمة وعذره في قوله أنا مسلم لما خاف العقوبة على اشترائه المسلمة بصدقة في ذلك ولم يجعل قوله أنا مسلم إسلاماً يراه بالرجوع عنه مرتداً ، وهذا مثل ما في رسم الأقضية من سماع يحيى بعد هذا من قول ابن القاسم خلاف قول أشهب : إنه لا عذر له في مثل هذا ويقتل إن لم يرجع إلى الإيمان وبالله التوفيق .
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك
قال في النصراني يوجد على الزندقة قال : شرك وزندقته .
قال محمد بن رشد : قد قيل في النصراني واليهودي يتزندق : إنه يقتل لأنه خرج من ذمة إلى غير ذمة ، وإن إن أسلم يقتل كالمسلم يتزندق ثم يتوب إنه يقتل ولا تقبل توبته روي ذلك عن ابن الماجشون وبعض الأندلسيين على ما حكى أبو بكري بن محمد ، وذلك ظاهر في المعنى إذ ليس للزنديق ذمة إذ لا يصح أن تؤخذ منهم الجزية لأنها إنما تؤخذ من أهل الكتاب بالقرآن ومن المجوس بالسنة ، وفي سماع أصبغ بعد هذا في الساحر من أهل الذمة إذا عثر عليه أنه يقتل إن لمي سلم ، والسحر بمنزلة الزندقة ، فيتحصل في النصراني يتزندق ثلاثة أقوال ، أحدها أنه يترك وزندقته ، والثاني أنه يقتل وإن أسلم والثالث أنه يقتل إلا أن يسلم ، وأما الزنادقة من المسلمين فالحكم فيها أن يقتلوا من غير استتابة ، بخلاف المرتدين ، واختلف في ميراث من تزندق من المسلمين يقتل على زندقته هل يكون ميراثه لجماعة المسلمين أو لورثته من المسلمين ؟ وكذلك يختلف في ميراث من تزندق من النصارى واليهود فقتل على زندقته على قول من يوجب عليه القتل هل يكون ميراثه لجماعة المسلمين أو لورثته من أهل الدين الذين كان عليه .

(16/388)


ومن كتاب لم يدرك
وسئل عن المرتد يقتل في ارتداده نصرانياً أو يجرحه ، قال : إن أسلم لم يقتل به ولم يستقد منه في جرح ، لأنه ليس على دين يقر عليه ، وحاله في ارتداده في القتل والجراح إن اسلم حال المسلم إن جرح مسلماً اقتص منه وإن قتل نصرانياً لم يقتل به ولم يستقدمنه ، قال عيسى : إن ثبت على ارتداده حتى قتل فالقتل يأتي على ذلك كله .
قال محمد بن رشد : اختلف قول ابن القاسم في المرتد يجرح أو يقتل في ارتداده ثم يسلم ، فمرة نظر إلى حاله يوم الحكم في القود والدية ، ومرة نظر إلى حاله فيهما يوم الجناية ، ومرة فرق بين الدية والقود فنظر إلى القود يوم الفعل ، وإلى الدية يوم الحكم ، فعلى قول الذي نظر إلى حاله يوم الحكم في القود والدية قال إن قتل مسلماً قتل به وإن جرحه اقتص منه ، وإن قتل نصرانياً أو جرحه لم يقد منه في القتل ولا اقتص منه في الجرح إذ لا يقتل المسلم بالكافر ولا يقتص له منه في الجرح ، وكانت الدية في ذلك في ماله ، وإن كان القتل خطأ كانت الدية على العاقلة لأنه مسلم يوم الحكم له عاقلة تعقل عنه جناياته ، وهو قوله في هذه الرواية وفي رسم العتق بعد هذا من هذا السماع ، وعلى القول الذي نظر إلى حاله يوم الفعل في القود والدية يقاد منه إن قتل مسلماً أو كافراً لأنه كان كافراً يوم الفعل ، والكافر يقتل بالكافر والمسلم ، وإن جرح نصرانياً عمداً اقتص منه ، وإن جرح مسلماً عمداً جرى ذلك على الاختلاف في النصراني يجرح المسلم حسبما مضى القول فيه في أول سماع أشهب من كتاب الجنايات .
وإن قتل مسلماً أو نصرانياً خطأ كانت الدية على المسلمين لأنهم ورثته يوم الجناية ولا عاقلة له يومئذ ، وهو قول ابن القاسم فيرسم الصلاة من

(16/389)


سماع يحيى بعد هذا أنه إن قتل هو خطأ ودي عنه من بيت مال المسلمين ، وعلى هذا القياس يجري حكم جناياته على القول الثالث الذي فرق فيه بين القود والدية وال اختلاف فيما قال عيسى من أن القتل يأتي على ذلك كله إن ثبت على ارتداده حتى يقتل وبالله التوفيق .
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار
قال ابن القاسم في المرتد إذا تزوج في ارتداده ثم قتل وقد دخل بها فإني أرى أن تعاظ بمسيسه إياها وليس لها صداق ولا ميراث .
قال محمد بن رشد : إنما لم يوجب لها الصداق وإن دخل بها لأنه رأى المال والله أعلم قد وجب لجماعة المسلمين بارتداده إن قتل على ردته ، فهو على ظاهر الرواية محجور عليه في ماله بنفس إرتداده وإن لم يحجر عليه فيه بعد ، فلا يجوز له إذا قتل على ردته بيع ولا شراء ولا يلحقه فيه المدانية ولا تجوز له في المحابات ، وهو ظاهر ما في النكاح الثالث من المدونة ، ونص قول سحنون قال ما أعرف فيه الحجر وردته حجر ، ويصير بالردة ممنوعاً من ماله إلا أن يبايعه أحد في ذمته ، وكذلك يجوز له إن تزوج يهودية أو نصرانية في ذمته كما يجوز مبايعة المفلس ونكاحه في ذمته ، قال : وإذا باع المرتد شيئاً نظر فيه الإمام فإن رأى بيع غبطة أمضاه وإن كان فيه محابات أوقفه فإن تاب كان عليه ، وإن قتل أبطله ، وكذلك إن تزوج وبنى فإن قتل فلا شيء لها ، وإن تاب فلها الصداق ، والمعلوم من مذهب ابن القاسم المنصوص له في كتاب ابن المواز وكتاب ابن سحنون وغيرهما أن ما باع المرتد أو اشترى أو أقر به قبل تحجير السلطان لازم له ما خلا نكاحه وإن قام سنين يبيع ويشتري قبل أن يعلم

(16/390)


بردته وما أقر به أو بايع بعد الحجر عليه لم يدخل في ماله إلا أن يتوب ، وروي مثل ذلك عن مالك ، وعلى هذا يأتي ما في كتاب ابن المواز من أن المرتد إذا تزوج في ردته ودخل بها فلها الصداق في ماله إن كان صداق مثلها ، لأن المعنى في ذلك إذا كان ذلك قبل أن يعلم الإمام بارتداده فيحبسه للقتل ويحجر عليه إذ لا اختلاف في أنه ليس لها صداق في ماله إن قتل على ردته أو مات فيها إذا كان تزوجه بعد أن حجر عليه فيه وإن دخل ، وإنما الاختلاف إذا تزوج قبل أن يحجر عليه ودخل فقتل على ردته أو مات فيها ، فقيل إن لها صداقها إلا أن يكون أكثر من صداق مثلها وهو المنصوص عليه لابن القاسم ، وقيل إنه لا صداق لها وهو مذهب سحنون وظاهر هذه الرواية ، وقد ذكرت لأصبغ فردها بالتأويل إلى المعلوم من مذهبه فقال : ذلك إذا
تزوج بعد الحجر عليه ، وهو تأويل محتمل ينتفي به الخلاف عن ابن القاسم وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم : إذا أخفى الرجل ديناً فأتى تائباً منه قبلت منه توبته ولم يقتل ، قال : وإن أخذ على دين أخفاه مثل الزندقة أو اليهودية أو النصرانية وكان ديناًي خفيه قتل ولم يستتب لأن توبته لا تعرف وإن أنكر ما شهد عليه به لم يقبل إنكاره وقتل ولم يستتب وإن ادعى التوبة أيضاً لم تقبل توبته .
قال محمد بن رشد : هذا أمر متفق عليه في المذهب أن المرتد المظهر الكفر يستتاب ، وأن الزنديق والذي يسر اليهودية أو النصرانية أو ملة من الملل سوى ملة الإسلام يقتل ولا يستتاب ، والشافعي يرى أنهما يستتابان جميعاً الذي يعلن الكفر والذي يسره إذا ظهر عليه وحضرته البينة فيه ، وعبد العزيز بن أبي سلمة يرى أنهما يقتلان جميعاً ولا يستتاب واحد منهما على ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم : من بدل دينه فاقتلوه وقد مضى هذا في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب .

(16/391)


ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار
وحدثني ابن القاسم عن الليث بن سعد عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي أن أبا بكر الصديق استتاب امرأة من بني فزارة من قيس يقال لها أم قرفة ارتدت عن الإسلام فلم تتب فضرب عنقها .
قال محمد بن رشد : إنما جاء هذا الحديث حجة على أهل العراق في قولهم المرأة إن ارتدت تحبس وتكره على الإسلام ولا تقتل . وروي ذلك عن ابن العباس والحسن ، وقالوا : إنها أسلمت لم تسترق كالرجل يرتد ثم يتوب . وقال الحسن إن أسلمت كانت أمة للمسلمين مثل الحرة تسبى . والصحيح أنها تقتل إن لم تسلم ، لأن قول النبي عليه السلام من غير دينه فاقتلوه عام يتناول الرجال والنساء ، وقد روي عنه عليه السلام الإستتابة في امرأة ارتدت ، واستدل أهل العراق لما ذهبوا إليه من أن المرتدة لا تقتل بنهي النبي عليه السلام عن النساء من كفار أهل الحرب وهذا لا حجة فيه لأنهن إنما لم يقتلن لأجل أنهن لا يقاتلن ، بدليل قوله في الحديث إذ وقف على المرأة المقتولة ما كانت هذه تقاتل ، فالمرأة إذا لم تقاتل لم تقتل ، وإذا قاتلت قتلت ، وكذلك الرجل أيضاً إذا علم أنه ممن لا يقاتل كالرهبان وشبههم لم يقتل ، فلا فرق في هذا بين الرجال والنساء إلا أن الرجل محمول على أنه يقاتل حتى يعلم أنه ممن لا يقاتل والمرأة محمولة على أنها لا تقاتل

(16/392)


حتى يعلم أنها تقاتل ، وقد ساوى الله عز وجل في القتل بين الرجال والنساء في الزنا مع الإحصان فلذلك يجب أن يساوي بينهم في الكفر الذي هو أعظم من الزنا وأغلظ منه ، وقد مضى الكلام في سبي دراري المرتدين وأموالهم إذا بانوا بدراهم في سماع سحنون من كتاب الجهاد فلا معنى لإعادته .
وفي كتاب حمل صبياً
قال ابن القاسم قال مالك من قال لا يصلي استتيب فإما صلى وإما قتل ، ومن قال لا أتوضأ وأنا أصلي فإما أن يتوضأ وإما قتل ، ومن قال آل أؤدي زكاة مالي فإنه يؤخذ منه على ما أحب أو كره ، ومن قال لا أحج فأبعده الله ولا يجبر على الحج .
ومن مسائل نوازل سئل عنه أصبغ
قال أصبغ في الذي يدع الصلاة فيقال له صل فيقول لا أصلي فيقال له أتجحد ؟ أنها ليست عليك مفروضة من الله ؟ فيقول لست بجاحد لها وأعلم أنها الحق غير أني لا أصلي ، قال : أرى أن يقتل إذا قال لا أصلي وإن كان غير جاحد لها ، فتركه إياها أو إصراره على أنه لا يصلي جحد لها؛ فإن أقام على قوله لا أصلي قتل وإن زعم أنه غير جاحد لها وبلغني عن ابن شهاب أنه قال : إن فات وقتها ولم يصل ضربت عنقه ، وبلغني عن عبد الملك بن عبد العزيز أيضاً أنه كان يقول : إذا قال لا أصلي قتل كما قال أصبغ ، قال أصبغ : وأما الزكاة فإن جحدها أيضاً قتل ، وإن أقر أنها حق عليه وقال لا أؤديها أخذت منه إن شاء أو أبى ولا يقتل بقوله لا أؤدي ، لأنه يقدر

(16/393)


على أخذها منه صاغراً وإن دفع من يريد أخذها منه ، فإن كان ليس به قوة يدفع بها مثل أن يدفع هو بنفسه ضرب وأخذت منه كارها إلا أن يدفع في جماعة ويمنع بقوة فإنه يجاهد ويقتل ومن دفع معه كما فعل أبو بكر رحمه الله حين منع الزكاة فقال : والله لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه ، قال : ولو جحد الوضوء والغسل من الجنابة قتل ، وإن لم يجحد الوضوء والغسل من الجنابة إلا أنه قال أنا أؤمن بالوضوء والغسل ولا أتوضأ ولا أغتسل قتل أيضاً ، لأن تركه ذلك جحد له ، وكذلك لو قال لا أصوم رمضان وأصر على ذلك قتل وإن لم يجحد ، لأن تركه الصوم الذي فرضه الله عليه جحد له .
قيل : فإن قال لا أوتر قال أؤدبه على صلاة الوتر أدباً موجعاً وأضربه حتى يصلي الوتر ، قيل فركعتا الفجر قال : لا ، ركعتا الفجر هما أخف شأناً من التوتر ، الوتر سنة .
قال محمد بن رشد : أما من جحد فرض الوضوء والصلاة والزكاة أو الصيام أو الحج أو استحل شرب الخمر أو الزنا أو غصب الأموال أو جحد سورة أو آية من القرآن أو ما أشبه ذلك فلا اختلاف في أنه كافر ، وإن قال إنه مؤمن فيعلم أنه في ذلك كاذب للإجماع المنعقد على أن ذلك لا يكون إلا من كافرو إن لم يكن شيء من ذلك في نفسه كفراً على الحقيقة ، وأما من أقر بفرض الصلاة والصيام والوضوء وأبى من فعل ذلك وهو قادر عليه فقول مالك في هذه الرواية : إنه يستتاب في ذلك كله ، فإن أبى في شيء منه أن يفعله قتل يدل على أنه يقتل على الكفر ، فيكون ماله لجماعة المسلمين كالمرتد إذا قتل على ردته لأنه وإن لم يكن نفس الترك لشيء من ذلك كله كفراً على الحقيقة فإنه يدل على الكفر ، ولا يصدق من قال في شيء من ذلك كله إنه مؤمن بوجوبه عليه إذا أبى أن يفعله ، فحكمه حكم الزنديق الذي يقتل على الكفر

(16/394)


ولا يصدق فيما يدعيه من الإيمان .
وإلى هذا ذهب أصبغ في قوله : فإصراره على أن لا يصلي جحد لها ، وقد قيل : إنه يقتل على ذنب من الذنوب لا على الكفر فيرثه ورثته من المسلمين ، وهو أظهر الأقوال في هذه المسألة ، ومن أهل العلم من رأى نفس الترك للصلاة عمداً كفراً على ظاهر قول النبي عليه السلام : من ترك الصلاة فقد كفر ، ومن ترك الصلاة فقد حبط عمله ، وهو ظاهر قول عمر رضي الله عنه ، ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ، وذهب ابن حبيب إلى أن من ترك الصلاة وهو متعمد لتركها أو مضيعاً لها أو متهاوناً بها فهو كافر على ظواهر الآثار الواردة في ذلك عن النبي عليه السلام ، وقاله أيضاً في أخوات الصلاة من الزكاة والصيام ، واحتج بالمساواة بينها وبينهن بقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة وبين الزكاة ، وهو قول شاذ بعيد في النظر خطأ عند أهل التحصيل من العلماء ، لأن الدلالة تمنع من حمل الأحاديث على ظاهرها ، فالقياس عليها لا يصح ، وما قاله أصبغ من التفرقة فيمن منع زكاة ماله بين أن يكون وحده وبين أن يكون في جماعة فيمنع من ذلك ويدفع عنه بقوة صحيح مفسر لقول مالك لا اختلاف فيه .
وإنما لم يستت من أبى أن يؤدي زكاة ماله طوعاً لأن الواجب أن تؤخذ

(16/395)


مه كرها لقول الله عز وجل : {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} .
واختلف إذا أخذت منه كرهاً هل تجزيه أم لا ؟ فقيل إنها لا تجزيه لأنه لا نية له في أدائها ، والأعمال لا تصح إلا بالنيات ، وقيل إنها تجزئه لأنها متعينة في المال ، وهو الصحيح على مذهب مالك في إيجابها على الصبي والمجنون ، وإنما لم يستتب من قال لا أحج من أجل أن الحج ليس له وقت معلوم ، فإذا قال لا أحج وأبى الحج في هذا العام فله أن يحج فيما بعده ، وكذلك في الذي بعده ، وذلك بخلاف الصلاة الذي ينتظر به فيها آخر وقتها إذا أبى من فعلها ، فإن مضى الوقت ولم يصل قتل .
والوقت في ذلك طلوع الشمس للصبح ، وغروب الشمس للظهر والعصر ، وطلوع الفجر للمغرب والعشاء .
وقول أصبغ في ركعتي الوتر والفجر إنهما بخلاف الوتر لأن الوتر سنة يدل على أن ركعتي الفجر عنده ليستا بسنة ، وأما ركعتا الفجر فيستحب العمل بها خلاف رواية ابن القاسم عنه في رسم مساجد القبائل من كتاب الصلاة المذكور ، وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد منه وما يدل عليه ما في المدونة من أنهما سنة ، وأصل هذا الاختلاف اختلافهم في المعنى الذي من أجله تسمى النافلة سنة أن كان لكونها مقدرة لا يزاد عليها ولا ينقص منها أو لكون الاجتماع لها والجماعة مشروعين فيها وبالله التوفيق .
ومن كتاب شهد على شهادة ميت
وعن رجل من النصارى يقول للمسلمين ديننا خير من دينكم ،

(16/396)


وإنما دينكم دين الحمير ونحو هذا من التعريض القبيح ، ومثل قول النصراني للمؤذنين إذا قالوا أشهد أن محمداً رسول الله كذلك يعطيكم الله وإذا قال شتموا النبي عليه السلام ماذا يجب عليهم في ذلك كله ؟ وكيف لو أن رجلاً من المسلمين سمع بعض النصارى أو اليهود يشتمون النبي عليه السلام بشتم يجب عليهم فيه القتل فغاظ ذلك المسلم فقتله ماذا عليه في ذلك ؟ قال ابن القاسم : أما إذا قال ديننا خير من دينكم وما قال للمؤذنين فأرى أن يعاقبوا فيها عقوبة موجعة ولا يقصر فيها على السجن الطويل ، وأما شتمه النبي عليه السلام إذا شتمه شتماً يعرف قال قال مالك : أرى أن نضرب عنقه ، قال ذلك غير مرة إلا أن يسلم ولم يقل ليس يستتاب ، إلا أن محمل قوله عندي إن أسلم طائعاً من عنده نفسه ، فإن الله تعالى يقولك {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} قال ابن القاسم : ولقد سألنا مالكاً عن نصراني كان بمصر فشهد عليه أنه قال مسكين محمد يخبركم أنه في الجنة ، هو الآن في الجنة ، ما له لم ينفع عن نفسه إذ كانت الكلاب تأكل ساقيه لو كانوا قتلوه استراح الناس منه ، فسألناه عن ذلك وكتب إلينا بها من مصر ونحن بالمدينة ، فلما قرأته عليه صمت وقال : حتى أنظر فيها ، فلما كان بعد ذلك المجلس ، قال لنا أين كتاب الرجل ؟ فقلنا له : هو في المنزل ونحن نحفظ المسألة فقال لقد كنت حين قرأتم على هممت ألا أتكلم فيه بشيء ، ثم تفكرت في ذلك فإذا أنا أرى أن لا ينبغي الصمت عنه اكتبوا إليه يضرب عنقه ، قال ابن القاسم : قال مالك : وإذا شتم المسلم النبي ضربت عنقه ولم يستتب ، قال : وقال عيسى في الذي أغاظ فقتل النصراني الذي شتم النبي إنه إن كان شتمه شتماً يجب فيه القتل وثبت ذلك ببينة فلا شيء عليه ون لم يثبت ذلك أو شتمه شتماً

(16/397)


لا يجب عليه القتل ، فأرى عليه ديته ويضرب مائة ويسجن عاماً .
قال الإمام القاضي : هذا كله بين لا إشكال فيه ، إذ لا اختلاف في أن من سب النبي عليه السلام أو عابه أو نقصه بشيء من الأشياء يقتل ولا يستتاب مسلماً كان أو كافراً أو ذمياً إلا أن يبدو الذمي فيسلم قبل أن يقتل من غير أن يستتاب ، فلا يقتل لقوله تعالى : {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال : من قال إن إزار النبي عليه السلام وسخ أراد به عيبه قتل ، وروى عنه فيمن عير رجلاً بالفقر فقال له : تعيرني بالفقر وقد رعى النبي عليه السلام الغنم إنه يؤدب لأنه عرض بذكر النبي عليه السلام في غير موضعه ، وروى أن عمر بن عبد العزيز قال لرجل : أنظر لنا كاتباً يكون أبوه عربياً ، فقال كاتب له قد كان أبو النبي كافراً ، قال له جعلت هذا مثلاً فعزله وقال لا تكتب لي أبداً ، وهذا لأن الله تعالى أمر بتعزيزه وتوقيره ، فمن ضرب به المثل في مثل هذا فقد خالف حد الله فيما أمر به من تعزيزه وتوقيره ، فوجب عليه في ذلك الأدب ، وكذلك حكم سائر الأنبياء فيمن شتم أحداً منهم أو نقصه ، لقوله عز وجل : {لا نفرق بين أحد من رسله} وكذلك حكم من شتم ملكاً من الملائكة .
وحكم ميراث من قتل من المسلمين على سب النبي عليه السلام أو أحد من الملائكة أو النبيين حكم ميراث الزنديق يكون لورثته على قول مالك في رواية ابن القاسم عنه ، وهو مذهب ابن القاسم ، ولجماعة المسلمين في قوله على رواية ابن نافع عنه ، وهو اختيار ابن عبد الحكم ، وكذلك من شتم الله عز وجل يقتل بلا استتابة كالزنديق ، إلا أن يكون إنما افترى عليه بارتداده إلى دين دان به ، فإن أظهره استتيب وإن لم يظهره قتل دون استتابة .

(16/398)


ومن سبه عز وجل من المعاهدين بغير ما يحله إياه ويدين به ويؤخذ منه الجزية على أن يقر عليه فإنه يقتل ولا يستتاب ، لكنه إن أسلم ق بل أن يقتل لم يقتل لقوله تعالى : {قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} .
ومن كتاب جاع فباع امرأته
قال ابن القاسم أرى من قال إن الله لم يكلم موسى أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل أراه من الحق الواجب وهو الذي أدين الله عليه .
قال محمد بن رشد : أما من قال إن الله عز وجل لم يكلم موسى فلا إشكال ولا اختلاف في أنه كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل لأنه مكذب لما نص الله تعالى عليه في كتابه من تكليمه إياه حقيقة لا مجازاً بقوله : {وكلم الله موسى تكليماً} لأن المجاز لا يؤكد بالمصدر ، وأما من قال من أهل الإعتزال والزيغ والضلال إنه كلمه بكلام خلقه واخترعه في حين تكليمه إياه ، ونفي أن يكون كلام الله تعالى صفة من صفات ذاته وزعم أنه خلق من خلقه وأن القرآن مخلوق وأن أسماءه وصفاته محدثة مخلوقة وأن الصفة هو الوصف فنفوا أن يكون لله تعالى في أزله كلام أو علم أو قدرة أو إرادة ، فأهل العلم في تكفيرهم على فرقتين ، منهم من يكفرهم بذلك ، وهم الكافة ، ومنهم من لا يكفرهم بذلك لأنهم إنما فروا من الكفر إذ ظنوا بإضلال الله لهم أن من أثبت لله عز وجل حياة وكلاماً وعلماً وإرادة وسمعاً وبصراً فقد شبهه بخلقه ، لأن هذه صفات المخلوقين المحدثين ، ومالك ممن اختلف قوله في تكفيرهم حسبما مضى من قوله في أول سماع ابن القاسم من الأقضية الثالث من سماع أشهب ، والأدلة على إثبات صفات ذاته عز وجل وأنها قديمة غير مخلوقة ولا محدثة كثيرة ظاهرة بينة لمن شرح الله صدره وهداه ولم يرد إضلاله وإغواءه ،

(16/399)


وقد نص على ذلك المتكلمون في كتبهم وبينوا صحة ما عليه أهل السنة والجماعة من ذلك ، فلا معنى للتطويل والإكثار في جلب الأدلة على ما انعقد عليه الإجماع .
مسألة
قال ولا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن ولا يشبه يديه بشيء ولا وجهه تبارك وتعالى بشيء ولكنه يقول : له يدان كما وصف به نفسه ، وله وجه كما وصف نفسه تقف عندما وصف به نفسه في الكتاب فإنه تبارك وتعالى لا مثل له ولا شبيه ولا نظير ، ولا يروين لنا أحد هذه الأحاديث : إن الله خلق آدم على صورته أو نحوها من الأحاديث ، ولكن هو الله الذي لا إله إلا هو كما وصف نفسه ، ويداه مبسوطتان كما وصفهما ، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ، ولا يصفه بصفة ولا يشبه به شيئاً ، فإنه تبارك وتعالى لا شبيه له وأعظم ملك أن يحدث أحداً بهذه الأحاديث أو يرويها ، وضعفه .
قال محمد بن رشد : قوله لا ينبغي لأحد أن يصف الله عز وجل إلا بما وصف به نفسه في القرآن يريد أو وصفه به رسوله في متواتر الآثار واجتمعت الأمة على جواز وصفه به وكذلك آل ينبغي عنده على قوله هذا أن يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه في كتابه أو سماه به رسوله أو اجتمعت الأمة عليه ، والذي يدل على ذلك من مذهبه كراهيته في رسم الصلاة للرجل أن يدعو بيا سيدي ، وقال أحب إلي أن يدعوه بما في القرآن وبما دعت به الأنبياء بيا رب ، وكره الدعاء بيا حنان ، وهذا هو قول أبي الحسن الأشعري ، وذهب القاضي

(16/400)


أبو بكر بن الباقلاني إلى أنه يجوز أن يسمى الله تعالى بكل ما يجوز في صفته مثل مسير وجليل وحنان وما أشبه ذلك ما لم يكن ذلك الجائز في صفته مما اجتمعت الأمة على أن تسميته به لا تجوز كعاقل وفقيه وسخي وما أشبه ذلك .
وقوله ولا يشبه يدي ربه بشيء ولا وجهه تبارك وتعالى بشيء ، ولكن يقول له يدان كما وصف نفسه ، وله وجه كما وصف نفسه ، يقف عندما وصف به نفسه في الكتاب ، فإنه تبارك وتعالى لا مثل ولا شبيه ولا نظير قول صحيح بين لا اختلاف فيه بين أحد من أهل القبلة في أنه لا يجوز أن يشبه يديه ولا وجهه بشيء ، إذ ليس كمثله شيء كما قال تعالى في محكم كتابه ، ولا هو بذي جنس ولا جسم ولا صورة ، ولا اختلاف بينهم أيضاً في جواز إطلاق القول بأن لله يدين ووجهاً وعينين ، لأن الله وصف بذلك نفسه بكتابه ، فوجب إطلاق القول بذلك والاعتقاد بأنها صفات ذاته من غيرت كييف ولا تشبيه ولا تحديد ، إذ لا يشبهه شيء من المخلوقات ، هذا قول المحققين من المتكلمين ، وتوقف كثير من الشيوخ عن إثبات هذه الصفات الخمس وقالوا لا يجوز أن يثبت في صفات الله ما لم يعلم بضرورة العقل ولا بدليله وتأولوها على غير ظاهرها ، فقالوا المراد بالوجه الذات كما يقال وجه الطريق ووجه الأمر ذاته ونفسه ، والمراد بالعينين إدراك المرئيات ، والمراد باليدين النعمتين ، وقوله تعالى بيدي أي ليدي لأن حروف الخفض يبدل بعضها من بعض ، والصواب قول المحققين الذين أثبتوها صفات لذاته تعالى ، وهو الذي قاله مالك في هذه الرواية .
وصفات ذات الباري تبارك وتعالى تنقسم على ثلاثة أقسام قسم منها يعلم بالسمع ولا مجال للعقل فيه ، وهي هذه الخمس صفات : الوجه واليدان والعينان ، وقسم منها يعلم بالعقل وإن ورد السماع بها فإنما هو على معنى تأكيدها في العقل منها ولو لم يرد بها سمع لاستغنى في معرفتها عنه بالعقل ،

(16/401)


وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة لأن العلم بالنبوات لا يعلم إلا بعد العلم بأنه حي عالم قادر مريد ، ويستحيل وجود حي بلا حياة وقادر بلا قدرة ومريد بلا إرادة ، وقسم منها يعلم بالسمع والعقل ، فيصح العلم بالنبوات قبلها ويصح العلم بها قبل النبوات وهي السمع والبصر والكلام والإدراك لأن الدليل قائم من العقل على أنه عز وجل سميع بصير مدرك ، والسمع قد ورد بذلك ، ويستحيل وجود سميع بلا سمع ، وبصير بلا بصر ، ومتكلم بلا كلام ، ومدرك بلا إدراك .
وما تضمنته هذه الرواية من كراهية مالك لرواية هذه الأحاديث التي يقتضي ظاهرها التشبيه وإعظامه أن يحدث بها مثل ما روي من : الله خلق آدم على صوره ونحوها من الأحاديث ، فالمعنى من ذلك أنه كره أن تشاع روايتها ويكثر التحدث بها فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها فيسبق إلى ظنونهم التشبيه بها ، وسبيلها إذا صحت الروايات بها أن تتأول على ما يصح مما ينتفي بها عن الله تشبيهه بشيء من خلقه كما يصنع بما جاء من القرآن والسنن المتواترة والآثار مما يقتضي ظاهره التشبيه ، وهو كثير كالإتيان في قوله عز وجل : {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} والمجيء في قوله : {وجاء ربك والملك صفا صفا} والاستوى في قوله : {ثم استوى على العرش} وقوله : {الحرمان على العرش استوى} والنظر في قوله : {وجوه يومئذ ناظرة} والتنزل في قول النبي عليه السلام : يتنزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل ، الحديث ، والنزول والضحك وما أشبه ذلك .

(16/402)


والحديث في قوله : إن الله خلق آدم على صورته يروي على وجهين ، أحدهما إن الله خلق آدم على صورته ، والثاني إن الله خلق آدم على صورة الرحمان ، فأما الرواية إن الله خلق آدم على صورته فلا خلاف بين أهل النقل في صحتها لإشتهار نقلها وانتشاره من غير منكر لها ولا طاعن فيها ، وأما الرواية إن الله خلق آدم على صورة الرحمان فمن مصحح لها ، ومن طاعن عليها ، وأكثر أهل النقل على إنكار ذلك ، وعلى أنه غلط وقع من طريق التأويل لبعض النقلة توهم أن الهاء ترجع إلى الله عز وجل فنقل الحديث على ما توهم من معناه ، فيحتمل أن يكون مالك أشار في هذه الرواية بقوله وضعفه إلى هذه الرواية ، ويحتمل أن يكون إنما ضعف بعض ما تؤول عليه الحديث من التأويلات ، وهي كثيرة .
منها أن الهاء من قوله : إن الله خلق آدم على صورته عائدة على رجل مر النبي عليه السلام عليه وأبوه أو مولاه يضرب وجهه لطماً ويقول له : قبح الله وجهه فقال : إذا ضرب أحدكم عبده فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ، وقد روي أنه سمعه يقول قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فزجره النبي عليه السلام عن ذلك ، وأعلمه بأنه قد سب آدم لكونه مخلوقاً على صفته ومن دونه من الأنبياء أيضاً .
ومنها أن الكناية في قوله على صورته ترجع إلى آدم عليه السلام ، ولذلك ثلاثة أوجه :
أحدها أن يكون معنى الحديث وفائدته الإعلام بأن الله لم يشوه خلقه حين أخرجه من الجنة بعصيانه كما فعل بالحية والطاووس الذين أخرجهما منها على ما روى من أنه سلب الحية قوائمها وجعل أكلها من التراب ، وشوه خلق الطاووس .
والثاني أن يكون معناه وفائدته إبطال قول أهل الدهر الذين يقولون لا إنسان إلا من النطفة ولا نطفة إلا من إنسان ، ولا دجاجة إلا من بيضة ولا بيضة

(16/403)


إلا من دجاجة لا إلى أول .
والثالث أن يكون معناه وفائدته إبطال قول أهل الطبائع والمنجمين الذين يزعمون أن الأشياء تولدت بتأثير العنصر والفلك والليل والنهار ، فأعلم النبي عليه السلام بهذا الحديث إن الله خلق آدم على ما كان عليه من الصورة والتركيب والهيئة لم يشاركه في ذلك فعل طبع ولا تأثير فلك ، وخص آدم بالذكر تنبيهاً على سائر المخلوقات ، لأنه أشفها ، فإذا كان الله هو المنفرد بخلق دون مشاركة فعل طبع أو تأثير فلك فولده ومن سواهم على حكمه كذلك .
وقد قيل في ذلك وجه رابع ، وهو أن فائدة الحديث تكذيب القدرية فيما زعمت من أن صفات آدم منها ما خلقه الله تعالى ، ومنها ما خلقها آدم لنفسه ، فأخبر النبي عليه السلام بتكذيبهم ، وأن الله تعالى خلق آدم على جميع صورته وصفته ومعانيه وأعراضه ، وهذا كما تقول : عرفني هذا الأمر على صورته إذا أردت أن يعرفكه على الإستيفاء والإستقصاء دون الاستبقاء .
وقد قيل فيه وجه خامس وهو أن يكون معناه إشارة إلى ما يعتقده أهل السنة من أن الله خلق السعيد سعيداً والشقي شقياً وأن خلق آدم على ما علمه وأراد أن يكون عليه من أن يعصي ويتوب فيتوب الله عليه ، ففي الحديث دليل على أن أحوال العبد تتغير على حسب ما يخلق عليه وييسر له من الخير والشر ، وأن كل شيء بقضاء وقدر .
وقد قيل إن الكناية من قوله على صورته راجعة إلى بعض المشاهدين من الناس ، وأن المعنى في ذلك والفائدة فيه هو الإعلام بأن صورة آدم كانت على هذه الصورة إبطالاً لقول من زعم أنها كانت مباينة لخلق الناس على الحد الزائد الذي يخرج عن المعهود من متعارف خلق البشر إذ لا يأتي ذلك من وجه صحيح يوثق به .

(16/404)


ومنها أن الكناية في قوله على صورته راجعة إلى الله عز وجل ، وهو أضعف التأويلات لأن الأولى أن يرجع الضمير إلى أقرب مذكور إلا أن يدل دليل على رجوعه إلى الأبعد ، ولا دليل على ذلك إلا ما روي من : الله عز وجل خلق آدم على صورة الرحمان ، وقد ذكرنا أن بعض أ÷ل النقل لا يصحح الرواية لذلك ، وأن الراوي لها ساق الحديث على ما ظنه من معناه ، وقد قال بعض الناس إن ذلك لا يصح أيضاً من طريق اللسان ، لأن الاسم إذا تقدم فأعيد ذكره كني عنه بالهاء من غير أن يعاد الاسم ، ألا ترى أنك تقول إذا أخبرت عن ضب رجل لعبده : ضرب زيد غلامه ، ولا تقول ضرب زيد غلام زيد ، لأنك إذا قتل ضرب زيد غلام زيد يفهم من قولك أنه لم يضرب غلامه؛ وإنما ضرب غلام رجل آخر اسمه زيد ، وليس ذلك بصحيح ، لأن القرآن قد جاء بذلك ، قال تعالى : {يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفداً} ولم يقل إلينا ، فإنما يضعف الحديث من جهة النقل .
ومن ضعف رد الكناية من صورته إلى الله تعالى فلها وجوه كثيرة محتملة ينتفي بها التشبيه عن الله تعالى .
منها أن يكون المراد بالصورة الصفة لأن آدم موصوف بما يوصف الله به عز وجل من أنه حي عالم مريد سميع بصير متكلم ، ولا يوجب مشاركته له في تسميته والوصف تشبهه به لأن صفات الله تعالى قديمة غير مخلوقة ، وصفات آدم محدثة مخلوقة ، ويكون فائدة الحديث على هذا الإعلام بتشريف الله إياه بأن أبانه على سائر الجمادات والحيوانات .
ومنها أن يكون إضافة الصورة إليه إضافة تشريف وتخصيص لأن الإضافة قد تكون بمعنى التشريف والتخصيص على طريق التنويه بذكر المضاف إذا خص بالإضافة إليه ، وذلك نحو قوله ناقة الله فإنها إضافة تشريف

(16/405)


وتخصيص وتشريف تفيد التحذير والرد من التعرض لها ، ومن ذلك قوله تعالى {ونفخت فيه من روحي} وقوله في المسلمين : {وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض} إلى ما وصفهم به ، وقول المسلمين للكعبة : بيت الله ، وللمساجد ، بيوت الله فشرفت صورة آدم بإضافتها إلى الله عز وجل من أجل اختراعها وخلقها على غير مثال سبق ، ثم بسائر وجوه الشرف التي خص بها آدم من فضائله المعلومة المشهورة ، فالتشبيه منتفى على الله تعالى بهذا الحديث على جميع الوجوه من إعادة الضمير في صورته إلى الله عز وجل أو إلى آدم عليه السلام أو إلأى الذي خرج عليه الحديث على ما روي من أنه خرج على سبب أو إلى بعض المشاهدين والحمد لله رب العالمين .
وقد ذهب ابن [ ] إلى التمسك بظاهر الحديث فقال إن لله صورة لا كالصور ، كما أنه شيء لا كالأشياء فأثبت لله صورة قديمة زعم أنها ليست كالصورة قال إن الله تعالى خلق آدم على تلك الصورة ، فتناقض في قوله وتوغل في تشبيه الله تعالى بخلقه ، فهو خطأ من القول لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله يدير ماله
قال ابن القاسم : قال مالك من أسر اليهودية أو النصرانية قتل ولم يستتب ، قاله ابن القاسم ، وقال ميراثه لورثته من المسلمين ، ومن كفر برسول الله فأنكره من المسلمين فهو بمنزلة المرتد ، ومن

(16/406)


عبد شمساً أو قمراً أو حجراً أو غير ذلك فأولئك يقتلون إذا ظهر عليهم لا يستتابتون إذا كانوا في ذلك مظهرين للإسلام مستسرين بما أخذوا عليه ، لأن أولئك لا يعرف لهم توبة ويرثهم في ذلك ورثتهم من المسلمين لأنهم مقرون بالإسلام وبأحكامه ، وهم بمنزلة المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهم على غير الإسلام ، لأن النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان إسرار الكفر وإظهار الإسلام والاستخفاء به لأن الله تعالى يقول : {إذا جاءك المنافقون} الآية ولكن يستخفون بذلك ، قال ابن القاسم : ويجوز وصاياهم وعتقهم لأنهم يرثون ، قال لي سحنون : سألت ابن نافع عن ميراث الزنديق والمرتد لمن ميراثهما ؟ وله سمعت في ذلك من مالك شيئاً ؟ فقال ابن نافع : نعم سمعت مالكاً يقول : ميراثهما للمسلمين يسن بأموالهما سنة دمائهما ، قال سحنون ، فأخبرت بذلك ابن عبد الحكم فاستحسن روايته فيهما جداً ، قال ابن القاسم : وكل من أعلن من أولئك دينه الذي هو عيه وأظهره واستمسك به حتى يقول هو ديني فاقتلوني عليه أو اتركوني ، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، وميراثه للمسلمين كافة ، ولا يورث بورثة الإسلام ، وإنما هو بمنزلة المرتد عن دين الإسلام في جميع ذلك في الاستتابة والميراث ، فكل من يستتاب فلم يتب فلا يرثه ورثته من المسلمين ، لأنه خرج عن الإسلام ولا يرثه ورثته من الكفار لأنه لا يترك على ذلك الدين ويقتل عليه وميراثه لجماعة المسلمين بمنزلة الفيء ولا تجوز وصاياهم ولا عتقهم لأنهم لا يرثون إنما ميراثهم للمسلمين عامة ولا

(16/407)


يستتاب فمن إستسر ديناً فإن ورثتهم من المسلمين يرثونهم وتجوز وصاياهم وعتقهم .
قال محمد بن رشد : لا اختلاف في المذهب في أن ميراث المرتد لجماعة المسلمين مات في ردته أو قتل عليها بعد الإستتابة أو دون أن يستتاب على مذهب من لا يرى الإستتابة ، وفي كتاب ابن سحنون ، وقال أ÷ل العراق : إذا قتل المرتد دفع ماله إلى ورثته من المسلمين وذكر ذلك عن علي ابن أبي طالب والحسن وابن المسيب وقد ثبت في الحديث عن النبي عليه السلام : لا يرث المسلم الكافر ولا يتوارث أهل ملتين شيئاً وإن عليا لم يرث أبا طالب وإنما ورثه عقيل وطالب ، وأما حجتهم بابن المسيب فقد روى عنه أهل العراق وأهل الحجاز أنه قال نرث المشركين ولا يرثونا ، وهذا خلاف ثم ناقضوا فقالوا إن مات له ولد في حال ارتداده لم يرث منه ، ولا فرق بين ذلك ، هذا نص ما وقع في كتاب ابن سحنون فأما قوله إذ لا حجة لهم في قول ابن المسيب فصحيح لأن مذهبه على ما حكاه عنه أن المسلم يرث الكافر وهم لا يقولون بذلك فقوله صحيح على أصله ، لأنه إذا كان يرث عنده الكافر الذي يقر على كفره فأحرى أن يرث المرتد الذي لا يقر على كفره ، وأما ما ألزمهم من التناقض فلا يلزمهم ، لأنهم لم يجهلوا ماله إذا قتل على رده لورثته من أجل أنهم حكموا له بحكم الإسلام فيلزمهم ما ألزمهم من أن يكون له ميراث ابنه وإنما جعلوا ميراثه لورثته من المسلمين من أجل أنه على دين لم يقر عليه لأنهم لم يحملوا قول النبي عليه السلام لا يرث المسلم الكافر على عمومه في المرتد وغيره ، بل رأوه مخصصاً في الكافر الذي يقر على كفره .
ففي المسألة ثلاثة أقوال ، أحدهما قول مالك والشافعي أنه لا يرث المسلم الدمي ولا المرتد على عموم قول النبي عليه السلام لا يرث المسلم الكافر والثاني أنه يرث المسلم الدمي والمرتد وهو قول سعيد بن المسيب ومعاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان روى ذلك عن عمر بن الخطاب أنه

(16/408)


قال : أهل الشرك نرثهم ولا يرثونا ، والصحيح في الرواية أنه قال أ÷ل الشرك لا نرثهم ولا يرثونا ومن ذهب إلى هذا لم يبلغه الحديث فقال إن المسلم يرث الكافر ولا يرث الكافر المسلم قياساً على المسلم يتزوج الكافرة ، ولا يتزوج الكافر المسلمة ، ولا اختلاف في أن الكافر لا يرث المسلم والقول الثالث قول أهل العراق إن المسلم يرث المرتد ولا يرث الكافر الذي يقر على دينه .
وأما الزنديق ومن أسر الكفر فظهر عليه فإنه يقتل ولا يستتاب ولا يقبل منه توبته وإن تاب إذ لا يصدق فيها ويكون ميراثه لورثته من المسلمين على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك ، خلاف قول مالك في رواية ابن نافع عنه واختيار ابن عبد الحكم .
ووجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن القتل حد من الحدود يقام عليه بما شهد به عليه من الكفر ، ولا يصدق في الرجوع عنه إلى الإسلام إذ لم يكن مقراً بالإرتداد ، ومراعاة أيضاً لقول من يرى أن المرتد يقتل وإن رجع إلى الإسلام على ظاهر قول النبي عليه السلام من غير دينه فاقتلوه والميراث بخلاف ذلك لأنه مسلم في ذلك في الظاهر فلا يحرم الورثة ميراثه إلا بيقين ومراعاة لمن يقول إن المسلم يرث الكافر بكل حال ، فقول ابن القاسم وروايته عن مالك أظهر من قول مالك في رواية ابن نافع عنه : يسن بأموالهما سنة دمائهما وبالله التوفيق .
مسألة
وأما أهل الأهواء الذين هم على الإسلام العارفين بالله غير المنكرين له مثل القدرية والأباضية وما أشبههم ممن هو على غير ما عليه جماعة المسلمين والتابعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من البدع والتحريف لكتاب الله وتأويله على غير تأويله ، فأولئك يستتابون أظهروا ذلك أو أسروه فذلك سواء ، لأن إظهارهم ذلك

(16/409)


إسرار وإسرارهم إظهار فهم يستتابون وإلا ضربت رقابهم لتحريفهم كتاب الله عز وجل وخلافهم جماعة المسلمين والتابعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه بإحسان ، وبهذا عملت أئمة الهدى وعمر بن عبد العزيز رحمه الله ، قال : الرأي أن يستتابو فإن تابو وإلا عرضوا على السيف وضربت أعناقهم ومن قتل منهم على ذلك فميراثه لورثته لأنهم مسلمون إلا أنهم قتلوا لرأي السوء وسئل سحنون عن قول مالك في أهل البدع الأباضية والقدرية وجميع أهل الأهواء إنه لا يصلي عليهم فقال : لا أرى ذلك ، وأرى أن يصلي عليهم ولا يتركوا بغير صلاة لذنب ارتكبوه ، ومن قال لا يصلي عليهم فقد كفرهم ، وقد جاء الحديث أن رسولا لهل صلى الله عليه وسلم قال : لا تكفروهم بذنوبهم ، وإنما قال مالك لا يصلى على موتاهم تأديباً لهم ، ونحن نقول ذلك على وجه التأديب لهم ، فأما إذا بقوا وليس يوجد من يصلي عليهم فليس يتركون بغير صلاة وليصلي عليهم ، قيل له فأهل البدع أيستتابون فإن تابو وإلا قتلوا كما قال مالك ؟ قال :أما من كان بين أظهرنا وفي جماعة أهل السنة فإنه لا يقتل وإنما الشأن فيه أن يضرب مرة بعد أخرى وحبس وينهي الناس عنه أن يجالسوه وأن يسلموا عليه تأديباً له ، ولا يبلغ به القتل ، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب ضبيعاً ؟ ضربه بجريد وحبسه حتى إذا كادت أن تبرأ الجراح ضربه وحبسه إذا كادت أن تبرأ ضربه وحبسه ، ثم قال له ضبيع " يا أمير المؤمنين إن كنت تريد دواء فقد بلغت مني الدواء ، وإن كنت تريد قتلي فأجهز علي ، فخلى عمر عنه ونهى الناس أن
يجالسوه ، فيفعل فيمن كان بين

(16/410)


أظهر الجماعة مثل ما فعل عمر بضبيع ولا يقتل .
فأما من كان من أهل البدع قد بان عن الجماعة وصاروا يدعون إلى ما هم عليه ومنعوا فريضة من الفرائض كان على الإمام أن يستتيبهم فإن تابوا وإلا قتلوا ، ألا ترى أن أبا بكر الصديق رحمه الله تعالى استتابهم ، قال أبو بكر : لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه ، فجاهدهم أبو بكر رضي الله عنه وأمر بجهادهم وقتلوا على تلك البدعة ، فهذا يبين لك جميع ما سألت عنه من أمر أهل البدع وقد مضت فيهم سنة عمر بن الخطاب فيمن كان بين أظهر الجماعة ، وعن أبي بكر الصديق فيمن كان بان عن الدار ومنع فريضة ودعا إلى ما هم عليه .
فقيل له : فهؤلاء الذين قتلهم الإمام من أهل الأهواء لما بانوا عن الجماعة ودعوا إلى ما هم عليه ونصبوا الحرب هل يصلي على قتلاهم ؟ قال : نعم وهم من المسلمين ، وليس بذنوبهم التي استوجبوا بها القتل تترك الصلاة عليهم ، ألا ترى أن الزاني المحصن قد وجب عليه القتل بذنبه ، والمحارب والقاتل عمداً قد استوجبوا القتل ، فإذا قتلوا لم تترك الصلاة عليهم ، وليس بذنوبهم التي ارتكبوها واستوجبوا بها للقتل تخرجهم من الأحكام ، وأرى أن يصلى عليهم كما يصلى على أهل الإسلام والبدع .
قلت فما تقول في إعادة الصلاة خلف أهل البدع ؟ قال : لا يعيد من صلى خلفهم ، قيل لا في الوقت ولا بعد الوقت ؟ قال : لا في الوقت ولا بعد الوقت ، وكذلك يقول أصحاب مالك [أشهب والمغيرة وابن كنانة وغيرهم أنها لا تعاد الصلاة خلفهم وإنما يعيد من صلى خلف نصراني وإن هذا مسلم وليس ذنبه يخرجه عن الإسلام ،

(16/411)


فلما يجوز صلاته لنفسه فكذلك تجوز لمن صلى خلفه والنصراني لا تجوز صلاته لنفسه فكذلك لا تجوز] لمن صلى خلفه ، وقد أنزله من يقول إنه يعيد خلفه في الوقت وبعد الوقت بمنزلة النصارني ، وركب قياس قول الأباضية والحرورية الذين يكفرون جماعة المسلمين بالذنوب من القول ، وأخبرني ابن وهب عن [أسامة بن زيد عن أبي سهيل بن مالك أن عمر بن عبد العزيز قال له : ما الحكم في هؤلاء القدرية ؟ قال : قلت : يستتابون فإن تابوا قبل منهم وإن لم يتوبوا قتلوا على وجه البغي . وأخبرني ابن وهب عن مسلمة بن علي عن الأوزاعي أنه قال في الحروراء : إذا خرجوا فسفكوا الدماء فقتلهم حلال ، قال ابن وهب سمعت الليث يقول ذلك ، وأخبرني ابن وهب عن محمد بن عمرو عن ابن جريج عن عبد الكريم أن الحروراء خرجوا فنازعوا عليا وفارقوه وشهدوا عليه بالشرك فلم يبحهم ، ثم خرجوا إلى حروراء فأتى علي بن أبي طالب فأخبر أنهم يتجهزون من الكوفة ، فقال : دعوهم ثم خرجوا فنزلوا بالنهروان فمكثوا به شهراً فقيل له : أغزهم ، فقال : لا حتى يهريقوا الدماء ويقطعوا السبيل ويخيفوا الآمن فلم يهاجمهم حتى قتلوا فغزاهم فقتلوا .
قال الإمام القاضي قوله : وأما أهل الأهواء الذين هم على الإسلام العارفين فهم غير المنكرين له مثل القدرية والأباضية إلى آخر قوله فمن قتل منهم على ذلك في ميراثه لورثته لأنهم مسلمون إلا أنهم إنما قتلوا الدائهم السوء يدل على أنه إنما يقتلون عنده إذا أبوا أن يتوبوا على ذنب لا على كفر ،

(16/412)


والمعنى في ذلك أنه عنده كفر إلا أنه لما اعتقده على سبيل التأويل والفرار من الكفر حصل الرجاء لهم من الله في أن يتجاوزه عنهم فأشبه في ذلك الذنب وإن كان عنده في الحقيقة كفر يجب عليه به من الخلود في النار ما يجب على الكفار ، فالفرق بينهم وبين الكفار أنه لا يقطع بخلودهم في النار كما يقطع بخلود الكفار فيه ، ومن لا يكفرهم باعتقادهم يقول إن ذلك ذنب من الذنوب لا يجب عليهم به الخلود في النار ولا يجب قتلهم إن استتيبوا فأبوا إلا أن يبينوا بدراهم ويدعوا إلى بدعتهم ويمنعوا فريضة من الفرائض أو يسفكوا الدماء ويخيفوا السبيل على ما قاله سحنون وحكى أنه قول جماعة أصحاب مالك ، وهذا في مثل القدرية والأباضية والمعتزلة وشبههم ، إذ من أهل الأهواء ما هو كفر صريح لا يختلف في أنه كفر كالذي يقول إن جبريل أخطأ بالوحي وإنما كان النبي علي بن أبي طالب وما أشبه ذلك ، ومنه ما هو خفيف لا يختلف في أنه ليس بكفر كالذي يقول إن علي ابن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر وما أشبه ذلك ، وقد مضى هذا التفضيل من قولنا في أول رسم من سماع ابن القاسم وفي غير ما موضع وسيأتي بيانه أيضاً في هذا الرسم بعد هذا فالكفار يقطع على خلودهم في النار ، والقدرية والأباضية والمعتزلة وشبههم من أهل الأهواء لا يقطع بخلودهم فيه ، وأهل الأهواء يقطع على أنهم لا يخلدون في النار كالمصرين على الذنوب .
مسألة
قال عيسى ابن دينار قال ابن القاسم : ومن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شتمه أو أعابه أو نقصه فإن كان مسلماً قتل ولم يستتب ، وميراثه لجماعة المسلمين ، وذلك لأن المسلم الذي يدعي الإسلام ويشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة الزنديق الذي لا تعرف له توبة فلذلك لا يستتاب لأنه يتوب بلسانه ويراجع ذلك في قلبه ، فلا يعرف له توبة ، وأما إذا كان نصرانياً فإنه يقتل إلا

(16/413)


أن يسلم لأنه ليس على ذلك عوهد ولا نعمت عين على شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو يقتل صاغراً قميئاً إلا أن يسلم فيكون الإسلام توبته ونزوعاً منه عما كان يقول ومتصلاً منه وليس يقال له أسلم أو لا تسلم ولكن يقتل إلا أن يسلم ، وكذلك قال لي مالك ، قال العتبي : وبلغني عن مالك أنه قال : من السباب سب يجب القتل عليه ، ومنه ما لا يجب القتل عليه وأما قول الذمي من النصراني أو اليهودي إن محمداً لم يرسل إلينا وإنما أرسل إليكم وإنما نبينا عيسى وموسى وهو أرسل إلينا وهو نبينا وما أشبهه فليس عليهم في ذلك شيء ، لأن الله تعالى يقولك {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وقوله : {قاتلوا الذين لا يؤمنون} الآية ، فأما إن سبوه فيقولون ليس بنبي ولم يرسل ولم ينزل عليه شيء من القرآن وإنما هو شيء تقولونه . فالقتل على من قال ذلك واجب لا شك فيه ، والمسلم إذا قال في النبي عليه السلام شبه ذلك فالقتل عليه أيضا .
قال محمد بن رشد : هذا كله بين على ما قاله ، وقد تقدم في رسم شهد من سماع عيسى نحو هذا ما يبين بعضه بعضاً وبالله التوفيق .
مسألة
قال عيسى قال ابن القاسم : وأما من نبأ فإنه يستتاب ، فقلت له أسر ذلك أو أعلنه ؟ فقال : وكيف يسر ذلك ؟ قلت يدعو إليه في السر ، قال : إذا دعا إليه فقد أعلنه وليس للإسرار في ذلك وجه ،

(16/414)


وإن إسرار ذلك إظهاره وعلانيته ، وإن يستتاب في ذلك كله ، وميراثه لجميع المسلمين ، لأنه بمنزلة المرتد ، لأن من أظهر النبوة في نفسه ودعا إليها فقد كذب بما أنزل على محمد عليه السلام .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة فيها نظر ، والصواب أن يفرق فيها بين الإسرار والإعلان ، وأن يكون حكمه إذا دعا إلى ذلك في السر وجحد في العلانية حكم الزنديق ، لا تقبل له توبة إذا حضرته البينة وهو منكر للشهادة عليه بذلك ، وهو قول أشهب فيمن تنبأ من أهل الذمة وزعم أن رسول إلينا ، وأن بعد نبينا نبي أنه إن كان معلناً استتيب إلى الإسلام ، فإن تاب وإلا قتل سأل ابن عبد الحكم عن ذلك أشهب لسحنون إذ كتب إليه أن يسأله له عن ذلك وبالله التوفيق .
مسألة
قال : ومن سب أحداً من الأنبياء والرسل أو جحد ما أنزل عليه أو جحد منهم حداً أو جحد ما جاء به فهو بمنزلة من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يصنع فيه ما يصنع فيه هو ، لأن الله تعالى يقول : {آمن الرسول} إلى قوله : {لا نفرق بين أحد من رسله} ، وقال : {قولوا آمنا بالله} الآية ثم قال تعالى على إثرها : {فإن آمنوا} الآية وقال في النساء : {إن الذين يكفرون بالله ورسله} الآية ، ففي هذا كله بيان .

(16/415)


قال محمد بن رشد : أما من حجد ما نزل على نبي من الأنبياء مثل أن يقول إن الله لم ينزل التوراة على موسى بن عمران أو الإنجيل على عيسى بن مريم أو جحد نبوة أحد منهم فقال إنه لم يكن بنبي فإنه كفر صريح إن أعلنه أستتيب فإن تاب وإلا قتل ، وإن أسره حتى ظهر عليه قتل ولم يستتب لأنه حكمه ، وحكم من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من الأنبياء يقتل بلا استتابة .
فقوله في الرواية ومن سب أحداً من الأنبياء والرسل أو جحد ما أنزل إليه أو جحد منهم أو جحد ما جاء به فهو بمنزلة من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما يصنع فيه سواء معناه في الذي جحد النبي أو ما أنزل إليه مستسراً بذلك فعثر عليه ، وأما إن كان معلناً بذلك غير مستسر به فالحكم فيه أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل بسب النبي عليه السلام أو أحد من الأنبياء وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن اللص يولي مدبراً أيتبع ؟ فقال : إن كان قتل فنعم يتبع ويقتل ، وإن لم يكن قتل فلا يعجبني أن يتبع ولا يقتل ، قال والأسير من اللصوص يستتاب وإلا قتل وإن يبلغ به الإمام ، وهو رأي مالك إذا كان قد استوجب القتل قتل ، قلت لابن القاسم : قد يستوجب القتل وإن لم يقتل ؟ قال ذلك أشكل ولا يقتله إلا الإمام إذا اجتهد الرأي ، قلت له أرأيت إن كان بعضهم قتل ؟ فقال : إذا قتل واحد منهم فقد استوجبوا القتل جميعاً ، لو خرج مائة ألف فقتل واحد منهم قتلوا كلهم ، وسئل سحنون عن اللصوص إذا ولوا أيتبعوا ؟ فقال : نعم يتبعون لو بلغوا برك الغماد ، قيل لسحنون فلو أن لصاً أو محارباً عرض لي فجرحته أو ضربته بشيء فأسقطته

(16/416)


أترى أن أجهز عليه ؟ فقال : نعم فأعلمته بقول ابن القاسم أنه يجهز عليه فلم يره شيئاً ، وقال قد حل حين عرض ونصب الحرب وقطع الطريق وأخاف السبيل .
قال محمد بن رشد : جهاد المحاربين عند مالك وجميع أصحابه جهاد قال أشهب عنه : من أفضل الجهاد وأعظمه أجراً ، وقال مالك في أعراب قطعوا الطريق : إن جهادهم أحب إلي من جهاد الروم ، وقد قال النبي عليه السلام : ومن قتل دون ماله فهو شهيد . فمن قتل دون ماله ومال المسلمين فهو أعظم لأجره ، واستحب أن يدعو إلى التقوى والكف فإن أبوا قوتلوا ، وإن عاجلوا قوتلوا وأن يعطوا الشيء اليسير إذا طلبوا مثل الثوب والطعام وما خف ولا يقاتلوا ولم ير سحنون أن يعطوا شيئاً وإن قل ولا أن يدعوا وقال : هذا أوهن يدخل عليهم وليظهر لهم الصبر والجلد والقتال بالسيف فهو أكثر لهم وأقطع لطمعهم ، ذهب في ذلك كله مذهب ابن الماجشون ، وقول مالك أحسن والله أعلم .
واختلف إذا امتنع فأمنه الإمام على أن ينزل ، فقيل : له الأمان له وقيل لا أمان له ويقام عليه حد الحرابة ، إنما يؤمن المشرك على أن يؤدي الجزية ويكون على الذمة ، وتأمين المحارب إنما هو على أن يعطل حدود الله تعالى في إقامة الحد عليه ، وكره ابن القاسم في هذه الراية أن يتبع اللص إذا ولى مدبراً فيقتل إلا أن يكون قد قتل وأن يجهز عليه إذا جرح ولم يكن قتل ، وأجاز ذلك كله سحنون ، بل استحسنه ، ومعنى ذلك إذا ولى هارباً وأمن رجوعه ، وأما إن لم يؤمن رجوعه فلا اختلاف في أن يتبع ويقتل ، وما ذهب إليه سحنون هو القياس ، وقول ابن القاسم استحسان .
ولا اختلاف في أنه إذا قتل واحد منهم فقد استوجبوا القتل كلهم .
ولا في أن كل واحد منهم ضامن لجميع ما أخذوا من المال يتبع من وجد

(16/417)


منهم بذلك في ذمته إن لم يكن له مال إن كان لم يقم عليه حد الحرابة ، وإن كان أقيم عليه حد الحرابة ولم يوجد عنده المال بعينه فلا يتبع به إذا وفره متصلاً ، حكمه في ذلك حكم السارق سواء .
والآية في قوله تعالى : {إنما جزاء الذين يحاربون} الآ]ة عند مالك رحمه الله على التخيير لا على الترتيب ، والإمام مخير عنده في المحارب إذا أخاف السبل ولم يأخذ مالاً ولم يقتل بين أن يقتله وأن يصلبه أو يقطعه بخلاف أو يجلده أو ينفيه ، وليس معنى تخييره في ذلك أن يعمل فيه بالهوى ، وإنما معناه أن يتخير من العقوبات التي جعلها الله جزاءه ما يرى أنه أقرب إلى الله وأولى بالصواب فكم من محارب لم يقتل هو أضر على المسلمين ممن قتل في تدبيره وتأليبه على قطع طرق المسلمين ، فإ ، كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الإجتهاد فيه قتله وصلبه ، لأن القطع لا يدفع ضرره عن المسلمين ، وإ ، كان ممن لا رأي له ولا تدبير وإنما يخوف ويقطع السبيل بذاته وقوة جسمه قطعه من خلاف ولم يقتله ، لأن ذلك يقطع ضرره عن المسلمين ، وإن لم يكن على هذه الصفة وأخذ بحضرة خروجه أخذ فيه بأيسر ذلك وهو الضرب والسجن .
وإن قتلا فلا بد من قتله ، ويخير بالاجتهاد بين صلبه أو قتله وإن لم يقتل وأخذ المال ، فلا تخيير للإمام في نفيه وإنما يخير الإمام بالإجتهاد بين قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف ، ومعنى ما وقع في المدونة من أن من نصب نصباً شديداً وعلا أمره وطال زمانه قتله الإمام ولم يكن له في ذلك خيار ، معناه أن هذا هو الذي ينبغي للإمام أن يختاره ويأخذ به في مثل هذا ، فلا يكون قوله على هذا التأويل خلافاً لمذهبه في أن الآية عنده على التخيير .
ويروي برك الغماد بكسر الغين وبرك الغماد بضمها ، وكذلك وقع في الدلائل في حديث أبي بكر أنه خرج مهاجراً قبل أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد وذكر الحديث وبالله التوفيق .

(16/418)


مسألة
ولابن لبابة قال : حدثني عبد الأعلى عن أصبغ في الرجل يكون له على الرجل دين فيلزمه حتى يغضب فيقول له الغريم صل على محمد ، فيقول صاحب الدين وهو مغضب : لا صلى الله على من صلى عليه هل ترى على هذا القتل وتراه كمن شتم النبي وشتم الملائكة الذين يصلون عليه ؟ فقال : لا ، إذا كان على ما وصفت على وجه الغضب لأنه لم يكن مضمراً على الشتم ، وإنما لفظ بهذا على وجه الغضب ، ولا يكون عليه القتل .
قال محمد بن رشد : سقطت هذه المسألة من بعض الروايات ووقعت في بعض الروايات من قول سحنون ، قيل له : أرأيت ، وكذلك ذكرها ابن أبي زيد في النوادر على أنها من كلام سحنون وأنها من أصل المستحرجة ووصل بها قال يحيى وأبو إسحاق البرني : لا يقتل لأنه شتم الناس ، وذهب الحارث وغيره في مثل هذا إلى القتل ، وقله لا صلى الله على من صلى عليه يحتمل أن يريد به لا صلى الله على من يصلي عليه ، فمن حمله على ذلك بدليل قوله صلي عليه لأن قوله لا صلى الله على من صلى عليه خرج جواباً عليه لم يرد عليه القتل لأنه إنما شتم الناس كما قال أصبغ وأبو إسحاق البرني فيما حكى عنهما ابن أبي زيد ، ويحتمل أن يؤيد بقوله لا صلى الله على من صلى عليه ولا صلى الله على من قد صلى عليه وعلى ذلك حمله الحارث وغيره فلذلك رأوا عليه القتل ولم يعذره واحد منهم بالغضب كما عذره به أصبغ في الرواية فلم ير عليه القتل ويأتي على مذهبه أن عليه الأدب ، وكذلك يجب الأدب عليه أيضاً على مذهب من يرى أنه إنما شتم الناس لأن في شتم من يصلي على النبي من الناس سبب من الإخلال بحقه وبالله التوفيق .

(16/419)


مسألة
وكل من شتم نبياً قتل ، قلت فإن تاب عن الشتم وقال أتوب إلى الله وأكون كمن أسلم الساعة ولا أعود ؟ قال : لا توبة إلا لمن كان نصرانياً ، قلت فإن شتم نبياً غير النبي عليه السلام شتم نبياً غيره موسى أو هارون أو عيسى أو أحداً من الأنبياء ؟ قال : عليه القتل ، قلت : فإن شتم ملكاً من الملائكة ؟ قال : عليه القتل .
قلت : فإن شتم أحداً من أصحاب النبي عليه السلام أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علياً أو معاوية أو عمرو بن العاص ؟ فقال : أما إذا شتمهم وقال إنهم كانوا على كفر وضلال قتل ، وإن شتمهم بغير هذا كما يشتم الناس رأيت أن ينكل نكالاً شديداً .
قال محمد بن رشد : هذا كله بين لا إشكال فيه ، وقد مضى نحوه في هذا الرسم وفي رسم شهد من سماع عيسى وبالله التوفيق .
مسألة
قلت : فإن قال إن جبريل أخطأ في الوحي وإنما كان النبي علي بن أبي طالب إلا أن جبريل أخطأ بالوحي هل يستتاب أم يقتل ولا يستتاب ؟ قال : يستتاب فإن تاب وإلا قتل .
قال محمد بن رشد : هذا من البدع التي هي كفر صريح فلا يختلف في أن من قال ذلك كافر فلا يستتاب إلا إذا كان معلناً بذلك ، وأما إذا كان مستسراً به فهو بنزلة الزنديق يقتل بلا إستتابة بخلاف أهل البدع مثل القدرية والمعتزلة وشبههم الذين يستتابون أسروا بدعتهم أو أعلنوا بها ، فإن تابوا لم يكن عليهم شيء ، وإن لم يتوبوا قتلوا على مذهب من يكفرهم بما لقولهم ، وضربوا أبداً على مذهب من مر أنهم لا يكفرون بما لقولهم حتى يتوبوا حسبما مضى فوق هذا في هذا الرسم وبالله التوفيق .

(16/420)


مسألة
قلت : فلو أن رجلاً تنبأ وزعم أنه نبي يوحى إليه هل يستتاب ؟ قال : نعم ، يستتاب فإن تاب من ذلك وإلا قتل .
قال محمد بن رشد : لم يقل ههنا إنه يستتاب على ذلك إن استسر به ودعا إليه في السر كما قال قبل هذا ، والصواب أن يحمل قوله ههنا على أنه أعلن بذلك ، ولذلك رأى أن يستتاب ، بخلاف إذا دعا إلى ذلك بالسر حسبما ذكرناه فوق هذا من أنه هو القياس .
مسألة
قيل لسحنون : أرأيت الرجل يقول عند العجب بالشيء صلى الله على محمد النبي وسلم هل يكره ذلك ؟ قال : نعم مكروه ولا يجوز أن يصلي على النبي إلا في موضع الإحتساب ورجاء تواب الله عز وجل .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب العتق
قال : وقال مالك في المرتد عن الإسلام يقتل مسلماً أو نصرانياً أو عبداً خطأ أو عمداً أو يجرح بعضهم أو يسرق قال : لا يستتاب فإن لم يرجع للإٍسلام قتل . فكان القتل يأتي على جميع ما كان منه إلا الفرية ، وإن راجع الإسلام أقيم عليه ما يقام عن المسلمين فيما وصفت كله ، إن كان خطأ حملته العاقلة عنه إن كان مما

(16/421)


تحمل ، وإن كان عمداً أقيم ذلك عليه واقتص منه إن كان الذي أصاب به مسلماً ، وإن كان نصرانياً حكم بينهما بما يحكم به بين المسلم والنصراني في جميع الأشياء ، وكذلك إن قذف أو سرق [وكل ما كان منه في الإرتداد فهو بمنزلة ما كان منه] قبل الإرتداد إذا راجع الإسلام .
وإن قذفه رجل في ارتداده فلا حد على القاذف رجع المرتد إلى الإسلام أو قتل على ارتداده إن كان إنما قذفه في ارتداده ، وإن كان إنما قذفه قبل ارتداده فإن رجع إلى الإسلام أخذ له بحده وإن قتل على ارتداده فلا حد له .
وإن كان حج قبل ارتداده كان عليه أن يحج حج الإسلام ثانية .
وإن كانت له امرأة حين ارتد لم يرجع إليها إلا بنكاح جديد بعد إسلامه فيكون ارتداده تطلقه بائنة .
قال محمد بن رشد : قوله فإن لم يراجع الإسلام قتل فكان القتل يأتي على جميع ما كان منه يريد ويؤخذ من ماله قيمة العبد الذي قتل لأنه إنما سقط عنه بقتله على الإرتداد ما كان في بدنه من القصاص في الجرح والقطع في السرقة ، ولا يكون ذلك في ماله على قياس قول سحنون الذي يرى أنه محجور عليه في ماله بنفس الإرتداد ، وإلى هذا ذهب الفضل ، وأما جناياته الخطأ التي تحملها العاقلة فاستحسن أصبغ أن يعقلها عنه المسلمون لأنهم يرثون ماله .
وأما قوله إنه إن راجع الإسلام أقيم عليه ما يقام على المسلمين فيما

(16/422)


وصفت كله إلى آخر قوله فهو مثل ما تقدم في رسم لم يدرك من سماع عيسى على قياس القول بأن ما جنى المرتد في حال ارتداده ثم أسلم ينظر فيه إلى حاله يوم الحكم في القود والدية ، وقد روى عن ابن القاسم أنه إنما ينظر إلى حاله في ذلك يوم الفعل لا يوم الحكم فيقتل بمن قتل مسلماً كان أو نصرانياً لأنه كان كافراً يوم الفعل ،و الكافر يقتل بالكافر والمسلم ، وعلى هذا يأتي ما قاله في رسم الصلاة من سماع يحيى بعدها : إنه إن قتل خطأ ودي عنه من بيت مال المسلمين لأنهم هم كانوا ورثته يوم الجناية ، ولا عاقلة له يومئذ ، وقد روى عن سحنون مثل هذا القول وروى عنه أيضاً أن دية ما قتل خطأ تكون فيم إله إذ لا عاقلة له يومئذ وهو على خلاف أصله في أنه محجور عليه في ماله بنفس ارتداه .
يتحصل في دية من قتل المرتد خطأ إذا أسلم ثلاثة أقوال : أحدها أن ذلك على عاقلته ، والثاني أن ذلك على جماعة المسلمين ، والثالث أن ذلك في ماله ، وفي المسألة قول رابع روي عن أشهب أن ديته على أهل الدين الذي ارتد إليه .
قال أشهب ولو جنى معاهد على أحد خطأ كانت الدية في ماله ، بخلاف الأول ، وقع ذلك من قوله في النوادر .
وأما ما جنى خطأ قبل أن يرتد فإن راجع الإسلام كانت جنايته على العاقلة قولاً واحداً ، وأما إن قتل على درته فيتخرج ذلك على قولين أحدهما أن ذلك على العاقلة لأنه يوم جنى كانت له عاقلة والثاني أنها على جماعة المسلمين لأنهم هم ورثته .
وقوله إن قذفه أحد قبل ارتداده أخذ له بحده إن راجع الإسلام بخلاف إذا قذفه أحد وهو مرتد ، هو خلاف ما في المدونة من أنه إذا قذفه وهو مسلم ثم ارتد فهو بمنزلة إذا قذفه وهو مرتد لا يحد إن راجع الإسلام وعلى هذا

(16/423)


الاختلاف يأتي ما قاله سحنون في كتاب ابنه : لو أن رجلاً مسلماً جنى على مسلم ثم ارتد المجني عليه عن الإسلام ثم رجع إلى الإسلام فإن فيه تنازعاً بين أصحابنا ، ففي قول أشهب إن لورثته أن قسموا ويقتلوا الجاني ، وفي قول غيره إن أحبوا أن يقتصوا من الجرح فذلك لهم ، إن أحبوا أن يقسموا ويقتلوا فليس ذلك لهم ، لأن القصاص قد امتنع بارتداده ، وأن أحبوا أن يقسموا ويأخذوا الدية فذلك لهم ، فما حكى سحنون عن أشهب يأتي على قياس قول ابن القاسم في هذه الرواية ، وما حكى عن غيره ينحو إلى ما في المدونة ، لأنه جعل ارتداد المجني عليه شبهة يسقط بها القصاص بالقسامة عن الجاني كما يسقط الحد في القذف عن القاذف ، وكان القياس على ما في المدونة ألا يكون لهم أرش الجرح كما لو جرحه وهو مرتد .
وأما قوله : وإن كان حج قبل ارتداده كان عليه أن يحج حج الإسلام ثانية ، فهو مثل قوله في النكاح الثالث من المدونة لأن الأعمال تحبط بنفس الكفر وإن راجع الإسلام على ظاهر قول الله عز وجل : {لئن أشركت ليحبطن عملك} وقد قيل إن الأعمال لا تحبط بالكفر إلا مع شرط الموافاة بدليل قوله عز وجل : {ومن يرتد منكم} الآية ، وهو قول ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية من كتاب الوضوء ، لأنه استحب لمن توضأ ثم ارتد فراجع الإسلام أن يعيد الوضوء ولم يوجب ذلك ، وقد زدنا هذه المسألة هناك بياناً ، ولهذا الاختلاف أشار في المدونة بقوله : وهذا أحسن ما سمعت [فأسمعت] ، وقال فيها على قياس قوله إن الحج لا يجزيه أنه لا يلزمه قضاء ما ضيع من الفرائض ، وبدليل قوله عز وجل : {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وأوجب أصبغ عليه قضاء ما صنع من

(16/424)


الفرائض ، وخالفه في ذلك ابن حبيب وقال فيه وفي الحج كقول ابن القاسم؛ إنه لا يجزء الحج ولا يجب عليه قضاء ما ترك وضيع من الفرائض .
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال ، أحدها أنه لا يجزيه ما ضيع من الفرائض ولايلزمه قضاء ما ترك منها وهو قوله في المدونة واختيار ابن حبيب والثاني أنه يجزيه ما ضيع ويلزمه قضاءم ا ترك وضيع وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في سماع موسى من كتاب الوضوء ، والثالث تفرقة أصبغ بين الوجهين فلا يجزيه الحج ويلزمه قضاء ما ضيع ، ووجه هذه التفرقة الاحتياط والإحتسان مراعاة للخلاف .
ومذهب ابن القاسم في ذلك أن الردة تسقط الأيمان بالطلاق وبالعتق وبالظهار والإحسان لو تزوج رجل امرأة ودخل بها ثم ارتدوا أو ارتدت ثم راجعاً الإسلام قريباً بعد الإسلام لم يرجما ، فكذلك على مذهبه لو طلقت امرأة ثلاثاً فتزوجها زوج ودخل بها ثم ارتدت ثم أسلمت لم تحل لزوجها الذي طلقها ثلاثاً حتى تتزوج بعد الردة؛ ولا يسقط الطلاق ولا العتق إا وقعا بيمين أو بغير يمين ، لو طلق رجل امرأة ثلاثاً بيمين أو بغير يمين ثم ارتد ثم تاب لم تحل له إلا بعد زوج ، وقال إسماعيل القاضي إنها تحل له قبل زوج وهو مذهب أبي حنيفة أن الردة تسقط حد الزنا وشرب الخمر ، ولا تسقط حد السرقة ولا حد القذف .
وقال أصبغ واختاره ابن حبيب إنها لا تسقط شيئاً من الحدود كما لا تسقط الطلاق ولا العتق ولا اليمين لأنه يتهم على أن يرتد في الظاهر ليسقط ذلك عنه .
واختلف على مذهب ابن القاسم في الظهار ، فقيل إنه يسقط عنه بالارتداد ، حنث فيه بالوطء أو لم يحنث على ظاهر ما في المدونة ، وقيل إنه إن حنث سقطت عنه الكفارة بالارتداد وإن لم يحنث فيه لزمه ولم يسقط عنه .
ولا اختلاف في أنه لا يسقط بارتداده تحصين من حصنه من السناء ولا

(16/425)


تحليل من حلله منهن مثل أن يتزوج امرأة ثم يرتد وتزني هي أو يتزوج امرأة مطلقة ثلاثاً فيحلها لزوجها ثم يرتد أن تحليله إياها لزوجها لا يسقط .
وأما قوله وإن كانت له امرأة حين ارتد لم يرجع إليها إلا بنكاح جديد بعد إسلامه يكون ارتداده تطليقة بائنة فمثله في المدونة وقد روي عن مالك أن ارتداده طلقة رجعية يكون أحق بها إن أسلم في عدتها ، وقع ذلك في بعض الروايات من كتاب أمهات الأولاد من المدونة ، وقد روى ذلك عن سحنون في ارتداد الزوجة وفي الثمانية لابن الماجشون أنه فسخ بغير طلاق .
فيتحصل في ارتداده أحد الزوجين ثلاثة أقوال ، وسنذكر هذا في رسم الأقضية من سماع يحيى بعد هذا وأصبغ يفرق بين أن تكون زوجته مسلمة أو ذمية فيقول إنه إن كانت زوجته نصرانية فارتد إلى النصرانية إنه يكون أحق بها إن أسلم ، وكذلك إن كانت يهودية فارتد إلى اليهودية تكون زوجته إذا أسلم وبالله التوفيق .
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الصلاة
قال يحيى قال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول في النصراني يصحب القوم فيصلي بهم أياماً ثم يتبين لهم أمره : إنهم يعيدون كل صلاة صلاها بهم في الوقت وفي غيره ، قيل لمالك أفيقتل بما أظهر من الإسلام عليه ومن إخفاء الكفر ؟ قال : لا أرى ذلك عليه وسئل سحنون عن نصراني صلى بقوم من المسلمين وهم لا يعلمون ثم تبين أنه نصراني ، فقال إن كان النصراني إنما كان في موضع يخاف فيه فدارى بذلك على نفسه وعلى ماله فلا سبيل إليه ويعيد القوم صلاتهم وإن كان في موضع يكون فيه آمناً فإنه يعرض عليه

(16/426)


الإسلام ، فإن أسلم لم يكن على القوم إعادة وصلاتهم تامة ، وإن لم يسلم ضربت عنقه وأعاد القوم صلاتهم .
قال محمد بن رشد : قول مالك في هذه الرواية إنه لا يقتل بما أظهر من صلواته ظاهره وإن كان في موضع هو فيه آمن على نفسه ، ووجه ذلك أنه رأى صلاته بهم مجوناً وعبثاً فيجب عليه بذلك الأدب المؤلم ولا يقتل ، وفي الواضحة لمطرف وابن الماجشون مثل قول ابن القاسم في الإعادة أبداً وقالا : إن ذلك منه إسلام ، ولا حجة له إن قال مل أرد به الإسلام وسواء على قولهما كان في موضع هو فيه آمن على نفسه ، أو في موضع يخاف فيه على نفسه ، فدارى بذلك عليها مثل قول أشهب في رسم الأقضية بعد هذا من هذا السماع وتفرقة من قول ابن القاسم في أول رسم من سماع عيسى وبين قوله وقول ابن وهب وفرق سحنون بين أن يكون في موضع هو فيه آمن على نسه أو في موضع يخاف فيه على نفسه في هل يعد ذلك منه إسلاماً يقتل على الخروج منه أن لم يعد إليه هو أظهر الأقوال في هذه المسألة على ما تقدم في رسم الأقضية من هذا السماع بعد هذا وأما تفرقة سحنون في إيجاب إعادة الصلاة على القوم إذا كان في موضع هو فيه آمن على نفسه بين أن يجيب إلى الإسلام أو لا يجيب فهو استحسان ، ووجهها أنه إذا لم يجب إلى الإسلام اتهمه فيما أظهر من إسلامه بصلواته ، وإذا أجاب إليه لم يتهمه عليه ، والقياس إذا عدت صلاته بهم إسلاماً يستتاب عليه أن رجع عنه ألا يجب على القوم إعادة صلاتهم أجاب إلى الإسلام أو لم يجب .
مسألة
قال يحيى : قال ابن القاسم في المرتد إذا كان ارتداده في دار الإسلام ثم قتل رجلاً : أقيد منه ، والعفو للأولياء في ذلك مثله لهم في غيره ، وإن ارتد ولحق بدار الشرك فعدى على رجل من

(16/427)


المسلمين فقتله وكان فيمن يخرج على المسلمين من العدو وفر ثم ظفر به المسلمون فعلى الإمام أن يقتله ولا يستبقيه ولا يجعل أمره إلى الأولياء الذين قتل من المسلمين ، لأن أمره كأمر المحارب الخارج على المسلمين بالسلاح ، وهو يقتل ولا يستتاب كاستتابة المرتد في دار الإسلام ، ولا يجوز لأولياء المقتول العفو عنه ما لم يسلم ، قال وإن قتل خطأ ودي عنه من بيت مال المسلمين ، وإن قتل هو خطأ فعقله لجميع المسلمين ، وإن قتل عمداً تعديا عليه في عداوة أو نائرة كان على قاتله العقل في خاصة ماله ، ويكون ذلك العقل لجميع المسلمين .
قال محمد بن رشد : قوله إن المرتد إذا كان ارتداده في دار الإسلام ثم قتل رجلاً إنه يقاد منه والعفو فيه للأولياء مثله لهم في غيره صحيح لا اختلاف في أن الارتداد لا يسقط عليه شيئاً من حقوق الناس في الدماء ولا في الأموال ، وقد مضى في رسم العتق من سماع عيسى قبل هذا تحصيل القول فيما يسقط عنه الارتداد مما لا يسقط عنه ، فلا وجه لإعادته .
وقوله إنه إذا ارتد بدار الشرك فكان ممن يخرج على المسلمين ثم ظفر به المسلمون إنه يقتل ولا يستتاب كإستتابة المرتد في دار الإسلام ولا يجوز لأولياء المقتول العفو عنه ما لم يسلم فإن أسلم لم يقتل وهدر عنه كل ما أصابه من الدماء والأموال في حال ارتداده على ما روى عيسى عن ابن القاسم في رسم أسلم وله بنون صغار من كتاب الجهاد ، وقد مضى الكلام عليه هنالك .
وقوله وإن قتل خطأ ودى عنه من بيت مال المسلمين قد مضى الكلام عليه وتحصيل القول فيه في رسم العتق من سماع عيسى قبل هذا وفي رسم لم يدرك منه فلا وجه لإعادته .

(16/428)


وقوله وإن قتل عمداً تعدياً عليه في عداوة أو نائرة فالعقل للمسلمين فهذا أمر لا اختلاف فيه ، أن المسلمين يرثونه فهم يأخذون ديته على مذهب من يوجب فهي دية وبالله التوفيق .
مسألة
قال سحنون في المرتد يقتل عمداً إنه لا دية له ولا قصاص على قاتله إلا الأدب من السلطان بما افتات عليه ، وقد كان عبد العزيز بن أبي سلمة يقول : يقتل المرتد ولا يستتاب ، ويذكر أن أبا موسى الاشعري وقف على معاذ بن جبل وأمامه مسلم تهود فقال له معاذ أنزل يا أبا موسى ، فقال : ولا والله لا نزلت حتى يقتل هذا ، فلو رأى عليه إستتابة ما قاله ، ولو رأيت له الاستتابة لرأيت ذلك في المحارب والزاني المحص ودنبهما أيسر خطباً من المرتد .
قال محمد بن رشد : قد مضى في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب تحصيل القول في استتابة المرتد فلا معنى لإعادته ومضى في نوازل سحنون من كتاب الديات القول فيما يجب على قاتل المرتد عمداً لتكرر المسألة هناك وأن في ذلك ثلاثة أقوال ، أحدها أنه لا دية له وهو قول سحنون, وروي مثله عن أشهب أيضاً والثاني أن ديته دية مجوسي وهو قول البرني وحكاه عن أشهب وابن القاسم وحكى سحنون عن أشهب أن عقله عقل الدين الذي ارتد إليه ، وقد روى عن ابن القاسم مثل ذلك وذكرنا هناك وجه الاختلاف في ذلك فلا وجه لإعادته .
مسألة
قال ابن القاسم إذا جرح المرتد في ارتداده عمداً أو خطأ فإن عقل جراحاته للمسلمين إن قتل ، وله إن تاب ، وعمد من جرحه كالخطأ لا يقتص ممن جرحه ، قلت فإن كان جارحه عمداً نصرانياً ؟

(16/429)


قال لا قود لأنه ليس على دين يقر عليه ، فعمد من أصابه بجرح خطأ يعقل ولا يقاد ، أصابه بالجرح مسلم أو غير مسلم .
قال محمد بن رشد : قوله في المرتد إذا جرح في ارتداده عمداً أو خطأ إن عقل جراحاته للمسلمين إن قتل يريد من حساب دية مجوس الدين الذي ارتد إليه على ما تقدم في المسألة التي قبل هذه من الاختلاف في ذلك ومن لا يرى في المرتد الذي قتل دية وهو قول سحنون وأحد قولي أشهب فلا دية على جارحه في جرحه إذا قتل وأما إن تاب فجراحاته على حساب الدين الذي ارتد إليه قاله سحنون ولا أعرف في هذا نص خلاف .
مسألة
قلت له : أرأيت ولاء من أعتق من عبيده المسلمين أيثبت له إذا تاب ولزمه إمضاء عتقهم ؟ قال : الولاء للمسلمين ، لأنه اعتقهم حين لم يكن يثبت له ولاء من أعتق من المسلمين ، وكذلك من كاتب من المسلمين إذا أدى ما كوتب به ، فولاءه للمسلمين إذا أدى ما كوتب به فهو للمسلمين ، وإن عجز رق له ، والكتابة تمضي عليه إذا تاب وترد إن قتل ، قيل له فالتدبير ؟ قال : إذا تاب مضى ، وإن قتل رد ولم يجز تدبيره .
قال محمد بن رشد : لا اختلاف فيما دبر المرتد قبل ارتداده أو أولد من إمائه أو أعتق إلى أجل من رقيقه أو كاتب في أن ذلك يمضي على المرتد وإن قتل أو مات في ردته ، فتمضي الكتابة على كتابته ، ويعتق المعتق إلى أجل إلى أجله ، ويعتق المدبر من ثلثه وأم الولد من رأس ماله ، ويكون ولاؤهم له إن تاب ولعصبته من المسلمين إن قتل أو مات على ردته ، وقال أشهب إن مات أو قتل على ردته فولاءه لجماعة المسلمين دون مسلمي ولده قال محمد بن المواز : وقول ابن القاسم أحب إلينا ، لأنه عقد كان منه في

(16/430)


إسلامه وأما وصاياه التي له الرجوع عنها فلا تجوز ولا تنفذ إن قتل أو مات في ردته فإن رجع إلى الإسلام جازت وصاياه .
واختلف في أمهات الأولاد فقال ابن القاسم يرجع إلى وطئهن وقال أشهب قد عتقن بارتداده ، ولا يرجعن إليه ، واختلف فيما فعل من ذلك كله بعد الردة قبل أن يحجر عليه في ماله بنفس ارتداده ، فقيل إن ذلك لا يجوز إن قتل أو مات على ردته ويبطل تدبيره وعتقه المؤجل وكتابته ويسترق ما استولد من الإماء وهو قول أشهب ومذهب سحنون ومذهب ابن القاسم في هذه الرواية ، لأنه قال : إن ذلك يرد كله إن قتل ، ويمضي إذا تاب وراجع الإسلام ،فيعتق المدبر من ثلثه ، ويمضي العتق المؤجل إلى أجله ، وتمضي الكتابة على سنتها ويكون ولاؤهم للمسلمين ، وأما أمهات أولاده فيرجع إلى وطئن على مذهب ابن القاسم خلاف قول أشهب على ما تقدم ، وأما إن فعل ذلك بعد الحجر فلا يجوز باتفاق إن قتل واختلف إن تاب وراجع الإسلام ، فقيل إن ذلك لا يجوز أيضاً ، وقيل إنه يجوز ، وهو اختيار محمد بن المواز .
مسألة
قيل له : أرأيت إن وقعت له شفعة وهو مرتد أيأخذها ؟ قال : ليس ذلك له ، قال العتبي إن رجع أخذ شفعته .
قال محمد بن رشد : لا اختلاف فيما قاله العتبي من أنه أحق بشفعته إذا تاب ولا في أنه ليس له أن يأخذ بعد أن يحجر عليه ، وإنما الكلام هل له أن يأخذ شفعته قبل أن يحجر عليه فظاهر هذه الرواية أن ذلك ليس له ، فإن أخذها كان للسلطان أن يرد فعله في ذلك ، وهو قول سحنون على أصله في أنه محجور عليه في ماله بنفس ارتداده ، وحكى عنه ابن أي زيد في النوادر على أنه من العتبية في المرتد يحبس فتجب له الشفعة قال هو محجور عليه ، فإن تاب فله الشفعة وإن قتل فهي للسلطان يأخذها إن شاء لبيت المال أو يترك .

(16/431)


والمشهور من مذهب ابن القاسم أن أفعال المرتد في ماله ماضية ما لم يحجر عليه برفع أمره إلى السلطان وسجنه خلاف ظاهر قوله في هذه الرواية ، وقد مضى هذا المعنى في المسألة التي قبل هذه وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى وبالله التوفيق .
مسألة
قال سحنون إذا أقيم على المحارب الحد فحكمه حكم السارق فيما وجب عليه من الأموال إن كان له وفر وهو متصل يؤخذ منه جميع الأموال دية النصراني وقيمة العبيد واستكراه النساء وجميع ما استهلك من الأموال وإن لم يكن له وفر متصل لم يتبع بشيء إذا لم تقم عليه الحدودات فحكمه حكم رجل فعل هذه الأشياء ، وليس بمحارب يلزمه ذلك في ذمته وماله والقصاص لمن له القصاص .
قال محمد بن رشد : وقعت هذه المسألة في خارج كتاب ابن لبابة من الأصل ، وهي صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف في المذهب .
ومن كتاب الأقضية
قالي حيى وسأله ابن وهب عن راهب قيل له : أنت رجل فصيح عربي قد عرفت فضل الإسلام وأهله على غيره من الأديان ، فما يمنعك من الإسلام ؟ فقال : قد كنت مسلماً زماناً فعرفت الإسلام ولم أر ديناً أفضل من النصرانية فرجعت إليها للذي عرفت من فضلها ، فبلغ ذلك السلطان فأرسل إليه فسأله عن قوله ، فقال : قد قلت ذلك ولم أكن مسلماً قط ، وإنما كان ذلك قولاً قلته ، فحسبه السلطان والتمس عليه البينة في إسلامه فلم يجد بينة تشهد على

(16/432)


إسلامه إلا القول الذي أقر به ، فماذا يجب عليه ؟ قال : لا أرى عليه قتلاً ولا عقوبة ولا يستتاب كمن يعد مرتداً إلا من شهد عليه أنه رؤي يصلي ولو ركعة واحدة من الصلاة .
قلت : فإن تشهد وأقر بالنبي وعرف الفرائض من أداء الزكاة والحج وصيام رمضان فريضة ، وتشهد به بعد العلم به وهو ممن لا يعذر بالجهالة ؟ فلم يجب بشيء .
وسألت عن ذلك ابن القاسم ، فقال : سمعت مالكاً يقول لا يقتل على الارتداد إلا من ثبت عليه أنه كان على الإسلام يعرف ذلك منه طائعا ًيصلي مقراً بالإسلام من غير أن يدخل الإسلام هرباً من ضيق عذاب عذب به في جزية أو ما أشبه ذلك ، أو يكون حمل من جزيته ما لا طاقة له به فألجأه ذلك إلى الإسلام . فمن ألجئ إلى ذلك منهم لما بلغ به من عذابه في خراجه أو طول سجن فإنه يقال إن أسلم إذا عرف ذلك من عذره . قال أصبغ : قال ابن وهب مثله وسألت عنها أشهب وقلت له : النصراني يسلم في أيام شدة وضيق من الخراج ثم يرجع إلى الإسلام ويرجع ويزعم أن إسلامه إنما كان من ضيق ضيق به عليه ولا يعلم ذلك إلا بقوله ، فقال لي : بل لو علم ذلك كما قال وشهد له بذلك غيره لرأيت أن يقتل إن لم يرجع إلى الإسلام ، ولم ير ابن وهب عليه القتل إذا كان عن ضيق أو عذاب أو خوف وأشارا به جميعاً على إسحاق بن سليمان الهاشمي ، ونزلت به عندنا في مصر .
قال الإمام القاضي : أما الراهب الذي قال كنت مسلماً زماناً ، ثم قال لما وقف على ذلك ما كنت مسلماً قط وإنما كان ذلك قولاً قلته ، فقول ابن

(16/433)


وهب فيه إنه لا قتل عليه ولا عقوبة بين صحيح ، لأنه شاهد على نفسه بالإسلام فلا يصح أني قتل بشهادته على نفسه إذ قد رجع عنها وقال إنه كذب على نفسه فيها كما لو شهد عليه شاهدان بالإسلام ثم رجعا عن شهادتهما وقالا كذبنا فيما شهدنا به عليه من ذلك ، ولما سأله عمن رضي بالإسلام بعد وقوه على فرائضه وأقر بالنبي وتشهد ثم رجع عن الإسلام لم يجبه بشيء ، ومن مذهبه أنه لا يقتل على الكفر من أنكر الإسلام من أهل الذمة إذا لم يشهد عليه إلا بالتشهد بالإسلام ، وذلك بين من قوله ، ولا يستتاب كمن يعد مرتداً إلا من شهد عليه أنه رؤي يصلي ولو ركعة واحدة من الصلاة ، مثل ما حكى ابن القاسم أنه سمع مالكاً يقول : لا يقتل على الارتداد إلا من ثبت عليه أنه كان على الإسلام يعرف ذلك منه طائعاً يصلي؛ وأصبغ يقول : إنه من أسلم طائعاً ثم ارتد بعد طول مكث أو بقرب صلى وصام ولم يفعل ثم رجع فيم وقفه فيسلك به مسلك من ولد على الفطرة .
والاستتابة ثلاثة أيام يخوف فيها القتل ويذكر الإسلام ويعرض عليه ، ولا اختلاف فيمن اعتقد الإسلام بقلبه أنه مسلم مؤمن ، لأن الإيمان من أفعال القلوب ، ولا في أنه يحكم له بحكم الإسلام بإظهار الشهادة فيورث به ويصلي عليه ويدفن في مقابر المسلمين وإن مات من ساعته قبل أن يصلي أو يصوم . نعم وإن مرت به أوقات صلوات قبل أن يموت فلم يصل لأن ذلك يحمل منه على التضييع والتفريط الذي لا يخرج من الإسلام والإيمان في قول كافة العلماء ، فقول أصبغ إنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل هو القياس .
ووجه ما ذهب إليه ابن وهب ومالك فيما حكى ابن القاسم من أنه لا يستتاب ولا يقتل حتى يصلي إتباع ظاهر قول النبي عليه السلام : " من غير دينه فاضربوا عنقه " لأنه لا يستحق أحد التسمية بأنه على دين الإسلام

(16/434)


إلا بالتمادي على فعل شرائعه من الصلاة والزكاة والصيام والحج ، لقول النبي عليه السلام : " بنى الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة وصيام رمضان ، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً " ولأنا لسنا على يقين من صحة الشهادة عليه بالإسلام إذا كان منكراً لاحتمال أن الشهود قد شبه عليهم فيما شهدوا به عليه ، لأن الاختلاف إنما هو إذا كان منكراً لما شهد به عليه من الإسلام ، ولو أقر بما شهدوا به عليه من الإسلام لوجب أن يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، وإن كان لم يصل باتفاق ، والله أعلم .
وقول ابن القاسم وابن وهب إنه يعذر في أنه إنما أسلم لما ذكره من أنه حمل من جزيته ما لا يتحمله وما أشبه ذلك إذا عرف ذلك من عذره يدل على أنه لا يصدق في ذلك إذا لم يعرف عذره . وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم في النصراني يسلم ويصلي ويقول : أسلمت مخافة الجزية أو أن أظلم ، قال يقبل ذلك منه وليس كالمرتد ، ذكر هذه الرواية ابن أبي زيد في النوادر ومعنى ذلك إذا أشبه ما ادعاه .
وتحصيل هذه أنها مسألة فيها قولان :
أحدهما أنه لا يعذر ، وهو قول أشهب ، وحكى ابن حبيب مثله عن مطرف وابن الماجشون .
والثاني أنه يعذر ، واختلف على القول بأنه يعذر هل يصدق في العذر إذا ادعاه على قولين : أحدهما أنه لا يصدق ، وهو قول ابن القاسم وابن وهب في هذه الرواية؛ والثاني أنه يصدق هو قول ابن القاسم في رواية أبي زيد عنه . ومعنى ذلك إذا أشبه ما ادعاه . وقد مضى في أول السماع من معنى هذه المسألة ، وفي أول سماع عيسى أيضاً ، فقف على ذلك كله وتدبره ، وبالله التوفيق .

(16/435)


مسألة
قال ابن القاسم في المرتدة لا تحل لزوجها إذا تابت إلا بنكاح جديد ، ولا يحل له وطؤها في ارتدادها .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في كتاب النكاح الثالث من المدونة أن ارتداد أحد الزوجين يقطع العصمة فيما بينهما . قال فيها وتكون تطليقة بائنة ، وهو معنى قوله في هذه الرواية ، وابن الماجشون يرى أن ارتداد أحد الزوجين فسخ بغير طلاق ، وقد روي عن سحنون أنها إن رجعت إلى الإسلام كان زوجها أملك بها ، ومعناه ما كان في عدتها ، لأن الوجه في ذلك أنه رأى ارتدادها في ذلك طلقة رجيعة وهو عن مالك في كتاب أمهات الأولاد من المدونة أن ارتداد الزوج طلقة رجيعة يكون أحق بها إن أسلم في عدتها .
فيتحصل في ارتداد أحد الزوجين ثلاث أقوال أحدها أنها طلقة بائنة ، والثاني أنها طلقة رجعية ، والثالث أنه فسخ بغير طلاق ، وقد مضى هذا في رسم العتق من سماع عيسى وروي عن علي بن زياد عن مالك أنه إن علم أنها أرادت بارتدادها الضرر بزوجها ، لم يكن ذلك طلاقاً وأمسك امرأته كما كانت وبالله التوفيق .
مسألة
قال ولا تحل ذبيحة المرتد ولا يقام عليه حد الزنا ولا شرب المسكر فعل ذلك في ارتداده أو قبل ذلك ، ولكن يقام عليه حد الفرية والقطع في السرقة جنى هذين الذنبين في الارتداد أو قبله ، قال : وإنما ينظر في هذا كله إذا تاب ، قلت له فإن أصر على الكفر ؟ قال يعفى عنه من القطع ولا يوضع حد القذف .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة من أن المرتد إذا تاب

(16/436)


لا يؤخذ من الحدود بما يؤخذ به الكافر حال كفره وهو السرقة والقذف لأن النصراني إذا سرق قطع ، وإذا قذف مسلماً حد القذف على ما ذهب إليه ابن حبيب وحكاه عن أصبغ من أنه يؤخذ بالحدود كلها حد الزنا وحد الشرب وغيرهما من الحدود وأنه يتهم على أن يظهر الإرتداد ليسقط عن نفسه ما وجب عليه من الحدود ، وأما إذا قتل على ردته فالقتل يأتي على جمع الحدود الواجبة عليه حاشى حد القذف وبالله التوفيق .
مسألة
قال عن وكتب إلى مالك من المغرب يسأل عن قوم يصلون ركعتين ويجحدون السنة ويقولون ما نجد إلا ركعتين ، قال مالك : أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا .
قال محمد بن رشد : قول معن وكتب إلى مالك من المغرب ويجحدون السنة أي الطريقة ، لأن صلاة الظهر والعصر والعشاء الأخيرة أربع ركعات لا يقال فيها إنها سنة بل هي فريضة أحكمتها السنة وانعقد عليها الإجماع ، فمن جحد ذلك كان كافراً كما قال ، يستتاب إن تاب وإلا قتل لأنه بمنزلة أن لو جحد فرض صلاة من الصلوات ويحتمل أن يريد بقوله في السؤال ويجحدون السنة في تقصير المسافر الصلاة ويزعمون أنها في الأصل مقصرة ، والأول أبين ، وهو الذي حفظته في ذلك عن الشيخ ابن جعفر ، وبالله التوفيق .
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم
قال محمد بن خالد قال ابن القاسم لا يجبر الصبي المسبي على الإسلام إذا كان قد عقل دينه وأراه قد ذكره عن مالك .

(16/437)


قال محمد بن رشد : قوله إنه لا يجبر على الإسلام إذا كان قد عقل دينه يدل على أنه يجبر عليه إذا كان لم يعقل دينه ، وفي ذلك اختلاف كثير تحصل فيه ستة أقوال : أحدها أنه يجبر عليه جملة من غير تفصيل ، والثاني أنه لا يجبر عليه جملة أيضاً من غير تفصيل والثالث أنه يجبر عليه إذا لم يسب معه أحد أبويه[إذا لم يكن معه في ملك واحد] فإن سيء معه أحدهما لم يجبر عليه ، الرابع أنه يجبر عليه وإن سبي معه أحد أبويه إذا لم يكن معه في ملك واحد والخامس أنه يجبر عليه إن لم يسب معه أبوه ولا يلتفت في ذلك إلى أمه فإن سبي معه أبوه لم يجبر عليه ، والسادس أنه يجبر عليه وإن سبي معه أبوه إذا لم يكن معه في ملك واحد وفرق بينهما السهمان ، واختلف على القول بأمه يجبر في الموضع الذي يجبر فيه إن مات صغيراً قبل أن يعقل هل يحكم له بحكم الإسلام في غسله والصلاة عليه ودفنه فيم قابر المسلمين على خمسة أقوال قد مضى تحصيلها في رسم الشجرة تطعم في سنة من سماع ابن القاسم من كتاب الجنائز .
وأما إذا سبي وقد عقل دينه فلا أذكر نص خلاف فيما ذكروه من أنه لا يجبر عليه ، وقد يدخل في ذلك الإختلاف بالمعنى على بعد وهو أن لا يعتبر بكونه ممن يعقل دينه على قياس القول بأنه لو أسلم في هذه الحال لم يعتبر بإسلامه فيكون لسيده أن يجبره على الإسلام ، والأظهر ما قاله في الرواية من أنه لا يجبر على الإسلام ، ولقوله عز وجل {لا إكراه في الدين} وبالله التوفيق .
مسألة
وسل عن رجل تزوج نصرانية فولدت له أولاداً فلما بلغوا قالوا لا نسلم ، فماذا ترى عليهم ؟ قال : يجبرون على الإسلام على ما أحبوا أو كرهوا ولا يبلغ بهم القتل .

(16/438)


قال محمد بن رشد : المعنى في هذه المسألة أن أمهم حملتهم على النصرانية حتى بلغوا ، ولذلك لم ير أن يبلغ بهم القتل إذا أبوا الإسلام لقول النبي عليه السلام : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه إذ لا اختلاف في أنه لو لم تنصرهم أمهم لكانوا مسلمين بإسلام أبيهم يقتلون عليه بعد البلوغ إن أبوه إذ لا اختلاف في أن الولد تبع لأبيه في الدين وبالله التوفيق .
من سماع عبد الملك بن الحسن
قال عبد الملك بن الحسن سألت أشهب عن المحارب إذا أتى تائباً وقد كان زنى أو سرق هل يوضع ذلك عنه ؟ فقال : لا يوضع عنه .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم القراض من سماع أشهب فلا معنى لإعادته .
مسألة
وسألت ابن القاسم عن ولد المرتد الصغار إذا أبوا الإسلام إذا كبروا هل يقتلون وكيف بمن ولد له وهو في ارتداده هل سبيلهم واحد ؟ قال : أما ما ولد له وهو في الإسلام فإنه يستتاب ويكره على الإسلام على ما أحب أو كره ويضيق عليه ولا يبلغ به القتل إذا كان أبوه قد أدخله في نصرانيته قبل أن يموت وأما ما ولد له في ارتداده فإنهم إن أدركوا قبل أن يحتلموا أو يحضن إن كن نساء فإني أرى أن يردوا إلى الإسلام ويجبروا على ذلك وإن لم يدرك ذلك منهم حتى يكبروا أو يصيروا رجالاً ونساء ورأيت أن يقروا على دينهم لأنهم إنما ولدوا على

(16/439)


ذلك وليس ارتداد أبيهم قبل أن يولدوا إرتدادهم ، لأنهم على النصرانية ولدوا ، فأحسن ذلك أن يجبروا إذا كانوا صغاراً إن أطاعوا وإن كبروا تركوا على دينهم ، وقال ابن كنانة في ولد المرتد إذا قتل إنه يعقل عنه المسلمون ويصلون عليه إذا مات ، فإن تنصر وعلم بأمره استتيب فإن تاب وإلا قتل ، وإن غفل عنه حتى يشيخ ويتزوج لم يستتب ولم يقتل .
قال محمد بن رشد : إنما قال ابن القاسم في ولد المرتد الصغار الذين ولدوا له قبل ارتداده إنهم يستتابون إذا بلغوا ويكرهون على الإسلام ولا يبلغ بهم القتل إذا كان أبوهم قد أدخلهم في نصرانيته لقول النبي عليه السلام : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه فرأى لهذا الحديث إدخال أبيهم إياهم في نصرانية شبهة لهم تمنع من قتلهم إن أبوا الإسلام لقوله تعالى {لا إكراه في الدين} لأنهم على دين قد أدخلهم أبوهم فيه ، فوجب أن لا يقتلوا على التمسك به ، وقول ابن القاسم في هذه المسألة يصحح تأويلنا في مسألة سماع محمد بن خالد المتقدمة ، وأما ولده الذين ولدوا له بعد ارتداده فاستحسن ابن القاسم أن يردوا إلى الإسلام إن أدركوا قبل البلوغ ، وأرى أن يتركوا على حالهم إن لم يدركوا حتى يبلغوا من أجل إنهم على الكفر ولدوا ، فليسوا بمنزلة أبيهم في الإرتداد إذ لم يكفروا بعد إسلام منهم خلاف ما قاله ابن كنانة من أنهم يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا ما لم يشيخوا على الكفر ويتزوجوا عليه .
ووجه ما ذهب إليه ابن كنانة من أنهم يستتابون فإن تابوا ,إلا قتلوا وإن

(16/440)


كانوا لم يرتدوا من الإسلام إلى الكفر لولادتهم على الكفر هو أنه لما كان الحكم أن يكون الولد تبعاً لأبيه في الدين وكان الأب على دين لا يقر عليه وجب أن يكون بمنزلته في ألا يقر عليه وأن يقتل إن أبي الإسلام إلا أن شيخ ويتزوج فيترك مراعاة للاختلاف في ذلك ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل ابن وهب عن المسلم تكون أمه نصرانية فتسأله السير معها إلى الكنيسة فهل ترى له سعة في المسير معها ؟ قال : لا أرى بأساً أن يسير بها حتى يبلغها ولا يدخلها الكنيسة ، قيل له فله أن يعطيها نفقة لعيدها ؟ قال : نعم يعطيها نفقة لطعامها وشرابها ولا يعطيها نفقة لما تعطي لكنيسها .
قال محمد بن رشد : هذه المسألة قد تقدمت متكررة في هذا السماع من كتاب التجارة إلى أرض الحرب ، وقلنا فيها هناك إن رأي المسير معها إلى الكنيسة أخف من أن يعطيها ما تعطي فيها ، لأن مسيره معها إلى الكنيسة لا منفعة فيه للكنيسة ، وإنما هو عون لأمه على الوصول إليها وإعطاؤها ما تعطي فيها منفعة لها وسبب لعمارتها بمثابة أن لو أعطي ذلك هو فيها وفي المبسوطة لمالك أنه لا يسوغ أن يسير معها إلى الكنيسة ، والإختلاف في هذا على الاختلاف في الكفار هل هم مخاطبون بالشرائع أم لا ؟ وقد مضى بيان هذا في رسم يسلفون في المتاع والحيوان المضمون من سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور .

(16/441)


من [سماع] أصبغ بن الفرج من ابن القاسم [من كتاب الحدود]
قال أصبغ : سئل ابن القاسم عمن قال في مرضه لم أكن مسلماً قط وإنما كنت أرى فيها أنه لا يورث إذا مات ، لأنه بلغني أن مالكاً سئل عن رجل كفر عند موته ، قال : لا أرى أن يورث .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة أن المرتد في مرضه لا يورث منه ورثته وزاد فيها قال : لا يتهم ها هنا أحد أن يرتد عن الإسلام في مرضه ليلاً يرثه ورثته ، قال وميراثه للمسلمين وهو بين على ما قاله إذا استتيب فلم يتب فقتل على ردته ، لأن القتل يرفع عن التهمة ،و أما إذا لم يقتل ومات من مرضه ذلك فينبغي أن يورث منه ورثته إذا اتهم على أنه إنما ارتد على أن لا يرثه ورثته على ما روي عن ابن وهب أنه قال سمعت مالكاً يقول الذي يرتد عند الموت لا يرثه ورثته من المسلمين إلا أن يتهم أنه أراد أن يمنعهم ميراثهم منه فعلى هذا لا تكون رواية ابن وهب مخالفة لما في المدونة من أن المرتد في مرضه لا يتهم بقطع ميراث ورثته ، لأنه إنما تكلم فيها على أنه قتل على ردته .
مسألة
قال : وبلغني عن مالك ممن أثق به وكتب إليه يستفتيه فيمن قتله أمير المؤمنين من أولئك الزنادقة فرأي مالك أن يورث منهم ورثتهم المسلمون ، ورآهم مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان رسول الله يعلم أنهم

(16/442)


كفار فورثهم ورثتهم من المسلمين ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي وأخبرني ابن أبي زنبر أن رجلاً جاء إلى مالك فقال : إن أبي كان يعبد الشمس أفترى لي أن أرثه ؟ قال : نعم أرى ذلك ، يعني أنه كان يعبد الشمس سراً ويظهر الإسلام .
قال محمد بن رشد : ما حكى ابن القاسم في هذه الرواية من أنه بلغه عن مالك أن الزنادقة المقتولين على الزندقة يرثهم ورثتهم من المسلمين ، وأنه رآهم مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مثل ما تقدم في رسم يدير ماله من سماع عيسى خلاف رواية ابن نافع عن مالك ، وقد مضى هناك الكلام على ذلك فأغني عن إعادته هنا مرة أخرى .
مسألة
قلت أرأيت الساحر من أهل الذمة إذا عثر عليه ؟ قال : إن أسلم لم يقتل وإن لم يسلم قتل [ وهو بمنزلة من شتم النبي من النصارى إن أسلم لم يقتل وإن لم يسلم قتل] .
قال محمد بن رشد : السحر كفر فهو بمنزلة الزندقة ، قال ابن المواز من قول مالك وأصحابه أن الساحر كافر بالله فإذا سحر هو بنفسه فإنه يقتل ولا يستتاب ، والسحر كفر قال تعالى : {إنما نحن فتنة فلا تكفر} وقال مالك هو كالزنديق إذا عمل السحر هو بنفسه قال تعالى : {لقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق} وقد أمرت حفصة بجارية لها سحرتها أن تقتل فقتلت ، قال ابن عبد الحكم وأصبغ هو كالزنديق ميراثه هو

(16/443)


كالزنديق ميراثه لورثته من المسلمين ، وإن كان للسحر والزندقة مظهراً استتيب فإن لم يتب قتل وكان ماله في بيت المال ولا يصلي عليه بحال وأما الذي يسر ذلك إذا قتل فيرثه ورثته ولا يأمرهم بالصلاة عليه فإن فعلوا فهم أعلم .
ويقتل الساحر إذا كان من أهل الذمة إلا أن يكونوا أدخلوا بسحرهم ضرراً على المسلمين فيكون نقضاً للعهد فإن تاب فلا توبة له إلا بإسلام ، وقال مالك : وإن سحر بذلك أهل ملته فيؤدب إلا أن يقتل أحداً فيقتل به ، فقوله في هذه الرواية في الساحر من أهل الذمة إنه يقتل إلا أن يسلم خلاف ما تقدم من قوله في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى في النصراني لا يؤاخذ على الزندقة إنه يترك وزندقته .
ويتحصل في النصراني يتزندق أو يعثر على أنه ساحر ثلاثة أقوال أحدها أنه يترك وما هو عليه من الزندقة والسحر إلا أن يدخل بسحره ضرراً على المسلمين فيكون ذلك نقضاً للعهد ، والثاني أنه يقتل إلا أن يسلم وهو قوله في هذه الرواية ، والثالث أنه يقتل وإن أسلم لأن الزنديق لا تقبل منه توبة ، روي ذلك عن ابن الماجشون وقد ذكرنا ذلك في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى .
وأما الساحر من المسلمين فيقتل سحر مسلماً أو ذمياً ، روى ذلك ابن وهب عن مالك وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل أصبغ عن الزنديق إذا أقر بالزندقة ثم قال : أنا تابت ؟ قال : إن كان إقراره بعدما ظفر به أو ظهر عليه فلا توبة له وليقتل قتلا ( ) إلى النار ولا يناظر بشيء وإن كان من قبل نفسه جاء تائباً فعسى .

(16/444)


قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه والحمد لله .
مسألة
قلت : فرجل أيقن برجل أنه زنديق فاغتاله فقتله ؟ قال : إن صح له ذلك بالثبت برئ من السلطان وعقوبته ، ولم يكن للسلطان عليه مجاز إلا النهي والتعزير في العجلة قبل أن يثبت للسلطان ، فإما قتل أو غير ذلك من العقوبة ، فليس عليه إذا صح ذلك على المقتول صحة بينة ، وهو محسن فيما بينه وبين الله إذا كان على يقين لا لبس فيه من أمره وكفره وزندقته ، ولعل الولاة تضيع مثل هذا ولا تصححه ، وقد بلغني عن ابن عمر أنه ذكر له أن راهباً يتناول النبي عليه السام فقال هلا قتلتموه ، وأخبرنا سفيان بن عيينة وبلغني عنه في يهودي ناول شيئاً من حرمة الله تعالى غير الذي هو فيه من ذمته وتحاج فيه آونة فخرج عيينة بالسيف فطلبه حتى هرب منه ، ذكره ابن وهب عن أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر .
قال محمد بن رشد : هذا بين لا إشكال فيه ولا وجه للقول وبالله التوفيق .
تم كتاب المحاربين والمرتدين بحمد الله تعالى .
انتهى الجزء السادس عشر من البيان والتحصيل لأبي الوليد ابن رشد .

(16/445)