البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
كتاب الحدود في القذف
من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب الشجرة
قال سحنون أخبرني ابن القاسم عن مالك في رجل
قال لرجل على وجه المشاتمة يريد عيبه ولا يطعن
عليه في نفسه يقول إن لم أكن أصح منك فأنت ابن
الزانية ، يقول أنا أصح منك في الأمور لست
أقارب ما تقارب من العيوب ، قال : عليه البينة
أنه أصح كما ذكر ، فإن جاء بالبينة على أمر
معروف أنه أصح منه نكل بإذاية أخيه المسلم
نكالاً شديداً في هذا الوجه وإن لم يأت ببينة
فعليه الحد .
قال محمد بن رشد : إنما أوجب مالك عليه الحد
إن لم يأت بالبينة أنه أصح منه ، لأن كلامه
خرج على وجه المشاتمة وهو يقتضي نفيه عن أبيه
بشرط كونه أصح منه في الأمور ، لأن معنى قوله
إن لم أكن أصح منك فأنت ابن الزانية إن كنت
أصح مني فأنت ابن الزانية ، ولعله قد قال له
فانا أصح منك فخرج قوله جواباً على ذلك ، فوجب
عليه الحد كما قال أن لم يثبت أنه أصح منه
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عمن قال لرجل إن لم أكن أفضل منك أو
خيراً منك أو نحو
(16/267)
هذا فأنت ابن
الزانية من أولى بطلب البينة في مثل هذا ؟
القاذف أو المقذوف ، قال : بل القاذف .
قال محمد بن رشد : المعنى في هذه المسألة
كالمعنى في التي قبلها سواء ، فلا زيادة على
ما قلناه فيها ، والله الموفق .
مسألة
قال مالك أيما أمه قذفت برجل وقد اعتقت في
وصية قبل أن يمضيها السلطان أن تخرج وإن كان
في المال سعة فلا حد لها حتى تخرج ، وقال ابن
القاسم : ثم قال لي ذلك مالك غير مرة إن كان
له مال مأمون من دور وأرضين فهي حرة ترث وتورث
، قال سحنون بعد وفاة سيدها ولم يكن في كتاب
عيسى بعد الوفاة ، قال ابن القاسم : وعلى من
قذفها الحد إذا كان له مال مأمون كما وصفنا ،
وقال مالك في العبد يعتقه سيده عنده موته
فيقذفه رجل قبل أن يقام عليه في ثلثه ولسيده
مال مأمون من دور وأرضين ، قال : لا أرى فيه
حداً حتى يقام ويتم حرمته وتجوز شهادته ويوارث
أوراثه إن مات منهم ميت ، ويرثونه إن مات ،
قال ابن القاسم قال مالك إن كان له مال دوراً
مأمونة وأرضين رأيت أن يعتق ويرثها ويورث
ويضرب له الحد .
قال محمد بن رشد : حكم الموصي بعتقه بعد موت
سيده كحكم المبتل في المرض في حياة سيده قبل
أن يموت اختلف قول مالك في ذلك اختلافاً
واحداً إذا كان له أموال مأمونة ، فمرة قال
إنه يكون الموصي بعتقه بموت سيده حراً يرث
ويورث ، ويجب له الحد وعليه ، ويكون المبتل في
(16/268)
المرض بنفس
تبتيله إياه حراً يرث ويورث ويجب الحدود له
وعليه ، ومرة قال لا يكون الموصى له بالحرية
حراً بموت سيده وإن كانت له أموال مأمونة حتى
يقوم ويعتق ، ولا يكون المبتل في المرض حراً
بتبتيله إياه حتى يصح أو يموت فيعتق في ثلثه ،
والقولان في المدونة ، وقول سحنون بعد وفاة
سيدها يريد أن الموصى بعتقها لا يحد من قذفها
إذا كانت لسيدها أموال مأمونة إلا إذا كان ذلك
بعد وفاة سيدها ، وذلك على ما قال لا إشكال
فيه وبالله التوفيق .
ومن كتاب سن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال مالك في الذي يشتمه خاله أو عمه أو جده لا
أرى عليهم في ذلك شيئاً إن كان على وجه الأدب
له وكأني رأيت مالكاً لا يرى الأخ مثله إذا
شتمهم ، وسئل ابن القاسم عن العم والجد والخال
إذا كان من شتم أحدهم ما يفتري عليه ، قال :
يحدون إذا طلب ذلك .
قال محمد بن رشد : ق ول ابن القاسم تفسير لقول
مالك ، لأنه إنما يتجافى لهم عن الشتم فيما
دون ما يجب فيه الحد إذا كان ذلك منهم على وجه
الأدب ، ولم ير الأخ في ذلك مثل الجد والعم
والخال ، يريد إذا كان يقرب منه في السن
والحال ، وأما إذا كان له عليه من الفضل في
السن والسداد والعقل والفضل ما يشبه أن يكون
شتمه إياه أدبا منه له فيتجافى عنه في ذلك
كالجد والعم والخال ، وأما القذف فيحدون له
إذا قذفوه كما قال ابن القاسم ، وإنما اختلف
في الأدب إذا قذف ابنه فاستثقل مالك في
المدونة أن يحده وقال ليس ذلك من البر ، وقال
ابن القاسم يحد له وعفوه عنه جائز عند الإمام
، قال في كتاب ابن المواز ولا تقبل شهادته إن
حده لأن الله تعالى يقول : ( ولا تقل لهما اف
) وهذا يضرب ، وهو معنى قول مالك في المدونة
ليس ذلك من البر ، وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن
الأب لا يحد له أصلاً وبالله التوفيق .
(16/269)
ومن كتاب أوله
شك في طوافه
وسئل مالك عن رجل قال لرجل يا مجلود ، قال إن
كنت مجلوداً فأنت فاسق فأتى عليه بالبينة أنه
مجلود ، أترى عليه شيئاً ؟ قال بئس ما قال حين
قال فاسق ما أخف ما عليه ، كأنه رأى أدباً
يسيراً لقوله يا فاسق .
قال محمد بن رشد : قوله فأتى عليه بالبينة أنه
مجلود يدل على أنه لو لم يأت عليه بالبينة في
ذلك لحد ، ولما كان قوله إن كنت مجلوداً فأنت
فاسق إقراراً منه بأنه مجلود لأنه إنما قاله
على سبيل الجواب والرد لقوله وإنما يسقط عنه
الحد بإقامة البينة عليه أنه مجلود في حد ،
ولو أقام البينة عليه أنه مجلود في غير حد
لوجب أن يحلف ما أراد إلا ذلك ويسقط عنه الحد
، ورأى في قوله يا فاسق أدباً يسيراً لقوله
ذلك في المشاتمة ، ولو قال ذلك له ابتداء لوجب
أن يكون الأدب في ذلك شديداً ، وعلى قدر حال
المقول له ذلك وحال القائل ، فليس قول الساقط
من الناس ذلك للرجل العالم الفاضل كقوله لغير
الفاضل ، ولو قال الفاضل للساقط لوجب أن
يتجافى له عن ذلك ، لقول النبي عليه السلام :
أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم على اختلاف بين
أهل العلم في ذلك ، إذ قيل إن معنى الحديث
فيما لا يتعلق به حق لآدمي ولم يبلغ أن يكون
حداً وبالله التوفيق .
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة
وسئل عن الرجل يفتري عليه فيريد صاحبه المفتري
عليه أن يستحلفه وليست له بينة إلا بادعائه
قال : لا أرى أن يستحلف له ، من يعلم ما قال ؟
قيل له : فإن أتى بشاهد ؟ قال : أرى أن يحلف
(16/270)
له ، قيل له :
فإن أبى أن يحلف قال وهل يستطيع إلا أن يحلف
إلا أن أصحابه اخبروني أنه قال يسجن أبداً حتى
يحلف ولم يختلفوا فيه جميعاً أنه قال يسجن حتى
يحلف ، وهو قولي .
قال محمد بن رشد : قد اختلف إذا لم يكن للمدعي
بينة على دعواه على ثلاثة أقوال أحدهما قوله
في هذه الرواية أنه لا يمين على المدعي عليه ،
والقاني قوله في رسم العقول والجبائر من كتاب
الجنايات أن عليه اليمين ، والثالث قول ابن
القاسم في أول سماع اصبغ من كتاب الجنايات أنه
لا يمين عليه إلا أن يكون مشهوراً بذلكن فإن
حلف على رواية أشهب أو على رواية اصبغ إن كان
ذلك مشهوراً بذلك برئ وإن نكل عن اليمين سجن
حتى يحلف ما لم يطل ذلك ، فإن طال خلي سبيله
ولم يؤدب ، وقال أصبغ إنه يؤدب إذا كان
معروفاً بالأذى وإن كان مبراً في ذلك أي
مشهوراً به مبرزاً فيه خلد في السجن ، وكذلك
اختلف أيضاً إذا كان له شاهد واحد على دعواه
على ثلاثة أقوال ، أحدها أن المدعي عليه يحلف
وهو قوله في هذه الرواية فإن نكل عن اليمين
سجن حتى يحلف ما لم يطل ، فإن طال فعلى ما
تقدم من قول اصبغ وروايته عن ابن القاسم إذا
أوجبت عليه اليمين بالدعوى فنكل عنها والثاني
أنه إن كان معروفاً بالشتم والسفه عزز ولم
يستحلف ، وإن لم يكن معروفاً بذلك استحلف ،
وهو قول مالك في رسم القضاء لأشهب من سماع
أشهب من كتاب الشهادات ، إلا أنه ضعف اليمين ،
والثالث أنه يحلف مع شاهده ويحد له ، روي ذلك
عن مطرف وهو شذوذ في المذهب أن يحد في الفرية
باليمين مع الشاهد ، ويتخرج في المسألة قول
رابع أنه لا يحلف مع شاهده في الفرية ويحلف
معه فيما دون الفرية من الشتم الذي يجب فيه
الأدب ، وكذلك اختلف أيضاً في القصاص من
الجراح باليمين مع الشاهد على ثلاثة أقوال وقد
مضى هذا كله في الرسم المذكور في سماع أشهب من
كتاب الشهادات عليه وبالله التوفيق .
(16/271)
ومن كتاب حلف
ليرفعن أمراً
وسئل مالك عن رجلين من بني سلمة وقعت بينهما
مشاتمة فقال أحدهما لصاحبه أبي خير من أبيك
وأمي خير من أمك وما أمشي مقنعاً رأسي ، فقال
له الآخر هلم أباك الذي تزعم أنه ابوك فهذا من
يعرف أبي ويعرف أباك ويعرف أمي ويعرف أمك ،
قال قال مالك هذا أنكر ما تكلم به حين قال
الذي تزعم أنه أبوك ، ثم قال ما أرى في مثل
هذا كله حداً والعفو في مثل هذا أمثل ، والصفح
أفضل ، فأما الحد فلا أراه ولا أرى في مثل هذا
حداً .
قال محمد بن رشد : إنما قال إن أنكر ما تكلم
به قوله الذي تزعم ، لأن زعم إنما تستعمل في
الأشياء المكروهة وفيما يتهم فيه القائل
بالكذب ، بخلاف قال وذكر ، ولما كان لفظ يزعم
لا يقتضي تحقيق الكذب عليه فيما زعمه لم ير في
ذلك حداً ، ورأى التجافي عن العقوبة في مثل
ذلك أمثل وأولى من العقوبة فيه ، لأنه قول خرج
منه على سبيل الجواب لتعريضه بالريب في قوله
وما امشى مقنعاً رأسي أي إنك أنت تفعل ذلك ،
وعبر عن التجافي عن عقوبته بالعفو والصفح
تجاوزاً واستعمارة ، إذ ليس تجافي الحاكم عن
عقوبة من تلزمه العقوبة عفواً له عن العقوبة
ولا صفحاً عنها ، إذ ليس ذلك إليه ، وإنما
العفو والصفح للمقول له ذلك القول المؤذى به
والله الموفق .
مسألة
وسئل مالك عن تفسير حديث علي بن أبي طالب إن
لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته أي البكر
والثيب جميعاً إذا أتي بأربعة
(16/272)
شهداء خلي
سبيله ، قال : لا أدري ما هذا لم أسمع فيه
شيئاً إنما أريد بهذا الحديث موضع الشهادة
الذي يدعي هذا الأمر للبراءة له ، قال ابن
القاسم أرى إذا قام أربعة شهداء في البكر
والثيب يشهدون أنهم رأوه يزني بها ترك ، وهذا
تفسير الحديث .
قال محمد بن رشد : قوله في الحديث فليعط برمته
معناه فليسلم بذاته للقود منه بمن قتل منهما ،
فنص رضي الله عنه على أنه يقتل إن لم يأت
بأربعة شهداء ، وسكت عن الحكم في ذلك إن أتي
بهم ، فاقتضى دليل قوله بحمله على عمومه ألا
يقتل إن أتى بأربعة شهداء على معاينة الزنا
كان المقتول منهما بكراً أو ثيباً ، وقد اختلف
في القول بدليل الخطاب ولذلك توقف مالك في ذلك
فقال لا ادري ما هذا لم أسمع فيه شيئاً ثم قال
بعد ذلك إنما أريد بهذا الحديث موضع الشهادة
الذي يدعي هذا الأمر للبراءة له ، فرأي بدليل
الخطاب ألا يقتل إذا أتي بأربعة شهداء ظاهره
في البكر والثيب مثل قول ابن القاسم ، وقد
اختلف في ذلك إذا كان المقتول منهما بكراً على
أربعة أقوال ، أحدها أنه لا يقتل ويكون دمه
هدراً ، وهو قول المغيرة وعبد الرحمان ، وظاهر
قول ابن القاسم وروايته عن مالك في هذه
الرواية ، وقال ابن عبد الحكم إذا علم التشكي
منه به قبل ذلك ، والثاني أنه لا يقتل به
وتكون الدية فيه على عاقلته ، وهو قول ابن
القاسم في كتاب ابن المواز وفي المدنية وفي
تفسير ابن مزين من رواية أصبغ عنه ، والثالث
أنه لا يقتل وتكون الدية عليه في ماله ، وهو
قول أصبغ من روايته في تفسير ابن مزين ،
والرابع أنه يقتل به وهو قول ابن الماجشون ،
فوجه القول الأول أن من أصابه مثل هذا يدركه
من الغضب ما يفقد معه عقله فيكون حكمه في ذلك
حكم المجنون الذي لا يعقل ، وقد قيل فيه إن
جنايته في المال والدم هدر ، ويؤيد هذا ما روي
حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لأبي بكر : أرأيت لو وجدت مع أم رومان رجلاً
ما كنت صانعاً به ؟ قال : كنت صانعاً به شراً
، قال فأنت يا عمر ؟ قال : كنت قاتله ، قال
فأنت يا سهيل بن بيضاء ؟ قال : كنت أقول أو
قائلاً لعن الله الأبعد
(16/273)
والبعد ولعن
أول الثلاثة أخبر بهذا ، فقال عليه السلام
تأولت القرآن يا ابن بيضاء ( والذين يرمون
أزواجهم ) الآية وموضع
الدليل من الحديث أن النبي عليه السلام لم
ينكر على عمر بن الخطاب قوله كنت قاتله فدل
على أنه رآه معذوراً فيما أخبر به من أنه كان
يقتله ، ومن طريق القياس أن هذا قتل عمد لا
قصاص فيه ولم يجب فيه دية ، ووجه القول الثاني
أنه لما عذر بما أدركه من الغضب وحكم له في
ذلك بحكم المجنون كانت الدية على عاقلته إذ قد
قيل ذلك في المجنون ، ووجه قول اصبغ أن الدية
في ماله هو أن الشبهة في درء القود عنه لما
كان يكن بينة أشبه شبه العمد عند من يقول به ،
وهذا هو أظهر الأقوال ، إذ قد قيل إنه يقتل به
، وممن قال ذلك ابن الماجشون ، ووجهه أنه قاتل
لمن لم يجب عليه بما صنع قتل فوجب أن يقاد منه
، والدليل على ذلك من الحديث ما رواه أبو
هريرة من حديث مالك في موطأة أن سعد بن عبادة
قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت إن
وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة
شهداء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
نعم ، لأن
(16/274)
معنى قوله نعم
النهي له عن قتله لما تقدم من قوله على ما روي
عنه أنه كان يقول لو وجدته لضربته بالسيف غير
مصفح إلا أنه يجب عليه أن يخليه معها حتى يخرج
فيأتي بالبينة ، بل يجب عليه أن يضربه ويخرجه
عن منزله ولا يقتله وإن رآه يزني بها وهو محصن
إذ لا يصدق في ذلك ، وقال ابن الماجشون : إنه
إن قتله وأتي بأربعة شهداء على معاينة الفعل
وهو محصن عاقبه الإمام لقتل من وجب عليه القتل
دون الإمام ، ومن قول ابن الماجشون إنه إن
قاتله فقطع يده أو رجله فهو هدر إلا أن يقتله
به إن لم يأت بأربعة شهداء أو أتي بهم وهو بكر
غير محصن وبالله التوفيق .
ومن كتاب سلف في المتاع والحيوان
وسئل عن رجل كان بينه وبين قريب له شر وجدته
أخت أبيه فقال له إن نسبك مني بعيد هل ترى في
هذا شيئاً ؟ قال مالك : ما أرى في هذا شيئاً .
قال محمد بن رشد : وهذا بين على ما قاله لأنه
حفيد عمته فإن كان زوجها من قوم آخرين فلا نسب
بينه وبينهم أصلاً وإن كان من قومه فنسبه منه
بعيد كما قال .
مسألة
وقال مالك في رجل يقول له إنك فعلت كذا وكذا
فيقول : الذي يقول إني فعلت كذا وكذا فهو ابن
الزانية ، فيقول الرجل أنا
(16/275)
قلته قال إن
قامت له بينة أنه قاله أخذ منه الحد وإلا فلا
حد عليه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله لأنه
لما قال له إنك فعلت كذا وكذا كان الظاهر من
قوله أنه يقول ذلك فصار بقوله الذي يقول إني
فعلت كذا وكذا بمنزلة أن لو قال له إن كنت قلت
كذا وكذا فأنت ابن الزانية ، فوجب أن يحد إن
أثبت أنه قاله ، معناه إن قامت أمه بحدها
لأنها هي المقذوفة وليس له أن يقوم بحدها إذا
كانت حية إلا أن توكله على ذلك .
ومن كتاب مساجد القبائل
وسئل عن الرجل يشج الرجل منقلة ما لا قود فيها
أيعاقب مع الغرم ؟ فقال : نعم ، فقيل له كيف
ترى عقوبته أيجرد أهلها أم يجلدون بثيابهم ،
قال بل يجردون ، قيل لملك فالنساء ؟ قالك
يقعدون ، وقد أخذت امرأة جعلت تحت ثيابها قطيف
فنزعت عنها ، قيل يابا عبد الله نزعت ؟ قال :
نعم ، وأرى أن تنزع إذا كان مثل ذلك ، قيل له
: أفيجلد الرجل قياماً أم قعوداً ؟ قال : ما
أدركت احداً يضرب إلا قاعداً ، وأنكر المد في
الحبال ، قال مالكاً : وقد كان يتخذ للنساء
قفاف يدخلن فيها فأعجبني ذلك وأرى أن يفعل ذلك
.
قال محمد بن رشد : قوله إنه يعاقب في الجرح
الذي يقتص منه مع الغرم صحيح لا اختلاف فيه ،
وإنما يختلف هل يعاقب مع القصاص فيما يقتص منه
فيه حسبما مضى القول فيه في رسم سلعة سماها من
سماع ابن القاسم من كتاب الجنايات ، وما ذكره
من أن الرجل يضرب قاعداً ويجرد ولا يمد ومن أن
المرأة لا تجرد إلا أنه ينزع عنها ما يقيها
الضرب ومن استحسانه لضرب النساء في قفاف يدخلن
فيها وهو نص ما في المدونة في ذلك كله ولا
(16/276)
إشكال ولا
اختلاف في شيء منه وبالله التوفيق .
مسألة
وحدثني مالك عن يحيى بن سعيد أن امرأة خرجت
إلى بعض الحرار فلما نزلت مزقرة عرض رجل من
أصحاب الحمر فنزل إليها ثم أرادها عن نفسه
وكشف ثيابها عنها فامتنعت منه فرمته بحجر
فشجته ثم فذهب فأتت مروان بن الحكم ، وكانت
فيه شدة في الحدود ، فذكرت ذلك له ، فسألها عن
اسمه فلم تعرفه ، فقال لها أتعرفينه إذا رأيته
؟ قالت : نعم ، فأدخلت بيتاً ثم قال ايتوني
بالمكاربين الذي يكرون الحمر ، وقال لا يبقى
أحد أكريتموه إلا جئتموني به ، فأتوه بهم ،
فجعل يدخل عليها رجلاً رجلاً فتقول ليس هو هذا
حتى دخل به عليها مشجوجاً ، فقالت هوذا ، فأمر
به مروان فحبس فأتاه أبوه فكلمه ، فقال مروان
:
جانيك يجني عليك وقد ... يعدي الصحاح مبارك
الجرب
فلرب مأخوذ بذنب عشيرة ... ونجا المقارف صاحب
الذنب
فقال أبوه : ليس كذلك قال الله ، إنما قال
الله : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ( فقال مروان
لاها الله ، إذاً لا يخرج منه حتى ينقدها ألف
درهم لما كشف منها ، قال أبوه هي علي ، فأمر
به مروان فأخرج .
قلت لملك أترى هذا من القضاء الذي يؤخذ به ؟
فقال ليس
(16/277)
هذا عندي من
القضاء ، ولكنه على غلظة من مروان في الحدود ،
ولقد كان مروان يؤتي بالرجل قد قبل المرأة
فينزع ثنيته ، فلم ير مالك مع التهمة البينة
أن يؤخذ بها ولكن يطال سجن المتهم رجاء أن
توجد عليه بينة .
قال محمد بن رشد : تضمينه هذه الحكاية عن
مروان بن الحكم من أنه قضي للمرأة بدعواها على
الكرى الذي ادعت أنه أرادها عن نفسها وكشف
عنها ثيابها بالف درهم بما ادعت عليه من كشفه
إياها مع الشبهة التي ألحقت التهمة به وحققت
المظنة عليه لا يأخذ به مالك ولا يرى القضاء
به ، إذ لا يرى العقوبات في الأموال ، لأن
العقوبات في الأموال أمر قد كان في أول
الإسلام من ذلك ما روي عن النبي عليه السلام
في مانع الزكاة إنا آخذوها منه وشطر ماله عزمة
من عزمات ربنا وما روي عنه في حريشة الجبل أن
فيها غرامة مثيلها وجلدات نكال ، وما روي عنه
من أن سلب من أخذ وهو يصيد في الحرام لمن أخذه
، كان ذلك كله في أول الإسلام وحكم به عمر بن
الخطاب ثم انعقد الإجماع بان ذلك لا يجب ،
وعادت العقوبات على الجرائم في الأبدان ، وقد
أنكر ذلك على مروان بن عبد الحكم ، فقال على
سبيل إنكار ذلك عليه إنه قد كان يوتي بالرجل
يقبل المرأة فينزع ثنيته ، وهذه نهاية في
الإنكار ، والعقوبات على الجرائم عند مالك على
قدر اجتهاد الوالي وعظم جرح الجاني وأن يجاوز
الحد ، وقد أمر مالك صاحب الشرط في الذي وجد
مع صبي في سطح وقد جرده وضمه إلى صدره وغلق
على نفسه معه فلم يشكوا في المكروه بعينه أن
يضربه ضرباً مبرحاً ويسجنه سجناً طويلاً حتى
تظهر توبته وتتبين فسجنه صاحب الشرط أياماً
قبل أن يضربه فكان أبوه يختلف إلى مالك ويتردد
عليه ويقول اتق الله فما خلقت النار باطلاً ،
فيقول مالك : أجل وأن الذي ألفي عليه ابنك لمن
الباطل ، ثم ضربه صاحب الشرط أربعمائة سوطاً
فانتفخ فمات ، فما أكبر ذلك مالك ولا بالي به
، فقيل له يا أبا عبد الله إن مثل هذا من
الأدب والعقوبة لكثير ، فقال هذا بما أجرم ،
وما رأيت أنه أمسه من
(16/278)
العقوبة إلا
اجترم ، وقال مطرف بن عبد الله في المبسوطة :
الأدب إلى الحاكم موكل إلى نظره يؤدب في ذلك
باجتهاده ، وإن أتى الأدب على النفس وإخراج
الروح ، وله في
الواضحة أن أقصى ما يبلغ في الأدب في المعروف
بالجرم ثلاثمائة فما دون ذلك ، وروي عن أصبغ
أن أقصى الأدب في جرم الفاسد البين الفساد
مائتان ، وروي عنه أن ذلك إلى اجتهاد الإمام
وإن اتي على النفس ، وقد روي عن النبي عليه
السلام من وراية ابن عباس أنه قال : من بلغ
حداً في غير حد فهو من المعتدين ، وذهب إلى
هذا محمد بن سلمة فقال قد انتهي غضب الله في
الزانية والزاني إلى مائة جلدة فقال : ( ولا
تأخذكم بهما رأفة ) فلم يجعل عليهما أكثر من
ذلك ، فلا يتجاوز في العقوبة ثمانون سوطاً ،
وقد روي عبد الله بن مسلمة بن قعنب عن مالك
أنه لا يتجاوز فيها خمسة وسبعين ، وانه كان
يقول : الأدب عندي دون الحد ، والمشهور عنه
المعلوم من مذهبه أن ذلك إلى اجتهاد الإمام ،
وهو مذهب ابن القاسم ، وقال أبو حنيفة : لا
يبلغ بالضرب أكثر من ثلاثة أسواط في الأدب ،
ولا يزاد على الثلاثة إلا في حد ، وروي ذلك عن
الليث بن سعد ، وقال أبو يوسف : لا يبلغ في
الأدب ثمانين ، وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة
لا يبلغ فيه مائة ، ومن أهل العلم من رأى أنه
لا يضرب في الأدب أكثر من عشرة أسواط على ما
روى أبو بردة عن النبي عليه السلام أن الأدب
لا يكون فوق عشرة أسواط ، وروي مثله عن أشهب
قال لا يزيد السلطان في الأدب على عشرة أسواط
ولا المكتب على ثلاثة فإن زاد على ثلاثة اقتص
منه وبالله التوفيق .
ومن كتاب البز
وسئل ابن القاسم عن العسل يخلط باللبن فقال :
لا بأس به .
(16/279)
قال محمد بن
رشد : هذا كما قال ، وهو مما لا اختلاف فيه ،
لأن النهي إنما جاء في الخليطين من الأشربة
التي يصنعها الناس من الأطعمة كالتمر والزبيب
والعسل والبر وما أشبه ذلك ، وأما اللبن فليس
بشراب من صنع آدمي ، فلا كراهة في خلطه بالعسل
ولا شراب من الأشربة ، والأصل في هذا أنه إذا
كان الشيئان يصلح أن ينبذ كل واحد منهما فلا
يجوز أن يجمعا في الانتباذ ولا أن يخلط
شرابهما إذا انتبذ كل واحد منهما على حده ،
وإذا كان الشيئان لا يصلح أن يبنذ أحدهما أو
كلاهما فلا بأس بخلط شرابيهما ، وإنما نهى عن
خلط الشرابين إذا اختلف أصولهما ومن جمع
الشيئين المختلفين في الانباذ من باب حماية
الذرايع ، لأن الشدة والإسكار يسرع إليهما
بذلك ، فمن خلطهما وشربهما في الفور لم يكن
عليه في ذلك حرج ، وقيل إن النهي في ذلك عبادة
لا لعلة ، فعلى هذا القول لا يجوز ذلك وإن
شربهما بالفور ، وأما شراب الورد وشراب
السكنجبين وما أشبه ذلك من الأشربة السكرية أو
العسلية فالجمع بينهما جائز باتفاق ، لأن
أصلهما جميعاً واحد ولا يجوز خلط شراب سكري
وعسلي لاختلاف أصيلها وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن رجلين شهدا على رجل أنه شرب
خمراً فحلف بطلاق امرأته ما شرب خمراً أترى أن
يطلق عليه امرأته ؟ قال أرى أن يضرب الحد ،
ولم نر عليه طلاقاً ، وقد قال إن هذه وجوه
يكون لها تفسير ، من الناس من يقول إنما الخمر
من العنب ، قيل له أفتقول ذلك ؟ قال وكل خمر
فهو خمر إذا أسكر ، قيل له : أفتوجب عليه
الطلاق ؟ قال : لا ولكن أوجب عليه الحد .
قال محمد بن رشد : إنما نواه لأن كل ما أسكر
فهو خمر عنده ، خلاف ما يذهب إليه أهل العراق
في أن الخمر إنما يقع على ما اسكر من
(16/280)
العنب ، وبعضهم
يقول إنه يقع على ما أسكر من العنب والتمر
والزبيب النفيع ، فلما شهدا عليه أنه شرب
خمراً ولم يقولا ممن هي الخمر التي شرب كانا
بمنزلة أن لو شهدا عليه أنه شرب سكراً ، فنواه
في أنه لم يشرب الخمر التي هي الخمر عند أهل
العراق ولو شهداء عليه أنه شرب خمر العنب فحلف
أنه لم يشرب خمراً لطلقت عليه زوجته باتفاق ،
وقد قيل إنه لا ينوي مع قيام البينة وإنما
ينوي إذا جاء مستفتياً ، وقيل إنه لا ينوي وإن
جاء مستفتياً ، وإلى هذا ذهب ابن المواز ، وقد
مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم سلف من سماع
عيسى من كتاب النذور .
ومن كتاب أوله سلعة سماها
وسئل عن العصير يجعل فيه الشعير وغير ذلك مما
يخلل به إلتماس أن يكون خلا فيخلل أترى به
بأساً ؟ قال لا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأن
النهي إنما هو في خلط الشرابين للشرب إذا
اختلفت أصولهما ، وفي انتباذ الشيئين
المختلفين للشرب ، وكذلك خلط ما ينبذ مع
الشراب الذي قد نبذ من شيء آخر ليشرب ، وأما
الخل فليس من ذلك في شيء ، لأنه ليس بشراب
وإنما هو إدام فجائز أن يخلط الخلان وإن اختلف
أصولهما وأن يخلط الشيئان للخل وأن يخلط مع
العصير الذي يراد للخل ما شاء من الأشربة
والأطعمة ، هذا هو المشهور من قول مالك ، وفي
ذلك اختلاف حسبما يأتي ذكره في رسم الحدود من
سماع أشهب وفي رسم الأشربة والحدود منه أيضاً
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الرجل يقذف الرجل الغريب فيقول له يا
ابن زانية
(16/281)
وهو غريب لا
تعرف أمه عليه فيقول السلطان هذا غريب لا تعرف
أمه فيستشير في ذلك في أن يقيم عليه الحدام لا
؟ قال مالك أرى أن يضرب الحد إذا كان رجلاً
مسلماً ، وقد يقدم الرجل البلد فيقيم فيها
سنتين من أهل خراسان وغير ذلك فيقذفه الرجل
فيقال له أقم البينة أن أمك حرة أو مسلمة ،
قال ما أرى ذلك عليه ، ولكن أرى أن يضرب من
قذفه ، والظالم هو الذي يحمل عليه فأرى أن يحد
قاذفه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأن
أم الحر المسلم محمولة على الحرية والإسلام
حتى يعلم خلاف ذلك ، كما أنه محمول على الحرية
حتى يعلم أنه عبد لو قذفه رجل لوجب على قاذفه
الحد إلا أن يثبت أنه عبد ، وإنما يحد إذا قال
له يا ابن الزانية إذا كانت أمه قد ماتت أو
حاضرة فوكلته ، وأما إن كانت غائبة قريبة
الغيبة فلا يحد لها إلا بعد الإعذار إليها .
ومن كتاب باع غلاماً
وسئل مالك عن رجل قال لرجل يا ابن أمي . فقال
له الرجل ابن أمك الشيطان ، فقال : ليس في هذا
فرية ، وهذا من كلام أهل السفه ، قيل له أفترى
فيه أدباً ؟ قال إنه لخفيف وهو إذا .
قال محمد بن رشد : هذا بين أنه خفيف على ما
قاله ، لأن ذلك من قوله القائل محال فلا يلحق
المقول له بذلك نقص ولا عيب وبالله التوفيق .
(16/282)
مسألة
وسئل مالك عن رجل من الموالي قال لرجل عربي ،
أنا خير منك أصلاً وفصلاً وأقرب برسول الله
صلى الله عليه وسلم منك ، قال مالك : ما أرى
من أمر بين ، قيل له افترى عليه حداً حين قال
أنا أقرب برسول الله صلى الله عليه وسلم منك ؟
قال : ما أرى من أمر بين والعفو في ذلك أفضل .
قال محمد بن رشد : الأصل النسب ، والفصل الحسب
، فقوله أنا خير منك أصلاً وفصلاً بمنزلة قوله
أنا خير منك نسباً وحسباً أو أنا أكرم نسباً
وحسباً ، والحسب قد يراد به النسب ، وقد يراد
به الدين ، بدليل قول عمر بن الخطاب رضي الله
عنه : كرم المؤمن تقواه ودينه حسبه الحديث ،
فإذا أفرد الرجل الحسب عن النسب فقال لصاحبه
في سبه إياه أنا خير منك أو أفضل منك أو أكرم
منك حسباً حمل قوله على النسب ، وإذا جمعه معه
فقال له أنا خير منك وأفضل منك وأكرم منك
حسباً حمل قوله على النسب ، وإذا جمعه معه
فقال له أنا خير منك وأفضل منك وأكرم منك
حسباً ونسباً حمل الحسب على الدين ، فيتحصل في
قول الرجل للرجل أنا خير أو أفضل منك أو أكرم
منك حسباً ونسباً أو أصلاً ثلاثة أقوال ،
أحدها قول مالك في هذه الرواية وغيرها أنه لا
حد عليه ، لأن ذلك لا يرجع عنده إلا إلى تفضيل
العجم على العرب ، إن كان القائل من العجم
والمقول له من العرب لا إلى نفي المقول له عن
نسبه لأن قول المولى للعربي أنا خير منك
بمنزلة قوله العجم خيرمن العرب ، هذا الذي ذهب
إليه مالك ، والثاني أنه إن قال له أنا أكرم
منك أو أفضل منك أو خير منك نسباً فعليه الحد
إن كان قاله عربي لقرشي أو مولى لعربي أو
لقرشي ، وإن لم يقل نسباً وقال حسبا فعليه
الأدب ولا حد عليه ، وهو مذهب ابن أبي حازم
والثالث أنه إن قال له أنا أكرم منك أو أفضل
منك أو خير منك نسباً فعليه الحد وإن لم يقل
نسباً وقال حسباً فعليه الحد إلا أن يقول إنما
أردت الدين فيحلف على ذلك ويسقط عنه الحد إذا
كان يشبه أن يكون كذلك ، وإن كان لا يشبه أن
(16/283)
يكون كذلك
لظهور سفه لم يصدق في ذلك ، ووجب عليه الحد ،
وهو مذهب مطرف وابن الماجشون وأصبغ فيما حكى
ابن حبيب عنهم من أنه إذا قال عربي لعربي مثله
أو فوقه أو لقرشي أنا خير منك فلا حد عليه ،
وكذلك إذا قاله مولى لمولي وإذا قاله مولى
لعربي حد للنفي ، كأنه قال لست من العرب
حيث فضل عليه المولى ، إلا أن يقول إنما أردت
إني خير منك عند الله ، فيحلف بالله ما أراد
إلا ذلك ثم لا حد عليه إن كان قائل ذلك مثله
يشبه أن يكون كذلك ، وإن كان سفيهاً مثله لا
يشبه أن يكون كما قال لم يقبل قوله وحمل عليه
أنه أراد تنحيته عن نسبه ، قالا ولو قال ابنا
عم من العرب أو من قريش أحدهما لصاحبه كان فيه
الحد ، لأنه لا مذهب له ههنا إلا النفي إلا أن
يقول أردت إني خير منه ديناً ومثله يشبه أن
يكون كذلك فيحلف وينجو من الحد فقول مطرف وابن
الماجشون وأصبغ مثل قول ابن أبي حازم في قوله
أنا أكرم منك نسباً وخلاف له في قوله أنا أكرم
منك حسباًن وقوله في الرواية والعفو في ذلك
أفضل معناه ودراته الحد في ذلك أولى وأحسن إذ
ليس العفو على الحد إلى الإمام ، وإنما ذلك
لصاحب المقذوف ، ولو قال لرجل لصاحبه في
مشاتمة : ما لك أصل ولا فصل لم يجب عليه الحد
على مذهب مالك خلاف قول اصبغ وخلاف ما حكي ابن
حبيب عن ابن الماجشون من أنه إن قاله لعربي حد
إلا أن يعذر بجهالة فيحلف ما أراد قطع نسبه
ويؤدب وإن نكل عن اليمين حد وإن قاله لمولى
فلا حد عليه .
ومن كتاب صلى نهاراً
وسئل عن رجل من العرب ورجل من قريش كانا في
دعوة في قسمهم وهم حلفاء ، فذهب العربي يتقدم
القريشي وكلاهما قد صحب أبوه رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فقال القرشي للعربي لا
تتقدمني أنا خير منك وأقرب برسول الله صلى
الله عليه وسلم منك ،
(16/284)
فقال له العربي
: بل أنا خير منك وأقرب برسول الله صلى الله
عليه وسلم منك ، فسئل مالك عنه هل ترى في مثل
هذا حداً ؟ فقال ما أرى من حد يثبت ، والعفو
في مثل هذا أفضل .
قال محمد بن رشد : درء الحد في هذه المسألة
بين على ما قاله ، إذ لم يزد على قوله أنا خير
منك ، فلا أعرف في ذلك نص خلاف ولو قال أنا
خير منك نسباً لوجب عليه الحد عند ابن أبي
حازم ، وقد مضى في المسألة التي قبل هذه من
الكلام ما فيه بيان هذه ، وبالله تعالى
التوفيق .
ومن كتاب طلق
قال وحدثني أن مروان بن الحكم جلد الحد رجلاً
قال لرجل إن أمك لتحب الظلم فجلده الحد ، قال
ابن القاسم ، قال مالك ليس عليه العمل .
قال محمد بن رشد : إنما لم ير مالك عليه العمل
إذ ليس عنده بتعريض بين ، لاحتمال أن يريد
أنها يريد إنها تحب الظلم ليلاً تبدو قبح
صوتها أو سماحة هيئتها أو ما أشبه ذلك من
المعاني التي لا يراد بها الزنا وبالله
التوفيق .
ومن كتاب اغتسل على غير نية
وسئل مالك عن الرائحة توجد بالرجل ، قال : إن
شهد عليه ذوا عدل أنه شرب مسكراً حد ، وإن لم
يستيقن وكان من أهل السفه نكل ، وإن كان رضاً
في حالة لم أر عليه نكالاً ولا حداً .
قال محمد بن رشد : قوله إن شهد عليه ذوا عدل
أنه شرب مسكراً
(16/285)
حد معناه إذا
كانت الشهادة عليه بذلك دون أن يأمر السلطان
باستكناهه لأن الواحد يجزي في الإستكناه إذا
أمر الإمام بذلك ، ولا اختلاف في مذهب مالك
وجل أهل العلم في أن المسكر من جميع الأشربة
خمر يجب الحد على من شربها سكر أو لم يسكر
لقول النبي عليه السلام ما اسكر كثيره فقليله
حرام ، وإنما يخالف في ذلك أهل العراق فيرون
شرب ما دون السكر من الأنبذة المسكرة حالاً ،
ولا يحرمون اليسير والكثير إلا من خمر العنب
أو العنب والتمر على قول بعضهم ، وهو من
المذاهب المرغوب عنها البينة خطاوها .
ومن كتاب سعد
قال مالك في الرجل يقول للرجل يا ابن البربرية
وأمه عربية إنه يضرب الحد لأنه نفي أمه من
أبيها ، فإن قال ليست أمك فلانة فلا أرى عليه
حداً .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأن
من قال لعربي يا بربري وهو يعرف أنه عربي
فعليه الحد ، لأنه قد نفاه عن نسبه ، فقوله
إنه يضرب الحد إذا قال له يا ابن البربرية
وأمه عربية معناه إذا كان يعرف أن أمه عربية ،
وإنما وجب الحد في قول الرجل للرجل ليس أبوك
فلاناً ولم يجب في قوله ليست أمك فلانة لأن
نسب الرجل يثبت من أبيه بالحكم وغلبة الظن دون
المشاهدة واليقين ، ويثبت من أمه بالمشاهدة
واليقين ، فإذا قال له لست لأمك لم يغره بذلك
ولا كانت عليه فيه غضاضة لأنه يعلم كذبه فيما
قاله ، وإذا قال له لست لأبيك فقد غره بذلك إذ
لا يعلم كذبه قطعاً فيما رماه به ، وقذف أمه
(16/286)
بالزنا ، فيجب
عليه حدان ، حد له لقطع نسبه من أبيه ، وحد
لأمه لتزنيته إياها ، ويختلف هل يجب عليه حد
لأبيه أم لا ، فلا يجب عليه على مذهب أشهب
ويجب عليه على مذهب ابن القاسم في المدونة في
إيجاب الحد على ما قال لعبده لست لأبيك وأبوه
مسلم وأمه كافرة ، قال لأنه حمل أباه على غير
أمه ، وهو بعيد ، وقول أشهب أصح وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن منبوذ افتري عليه فقيل له يا ابن
الزانية فقال أرى أن يعزر بإذايته إياه ولا حد
على من افترى عليه .
قال محمد بن رشد : إنما لم ير الحد على من قال
لمنبوذ يا ابن الزانية من أجل أن أمه لا تعرف
، ولا حد على من قذف مجهولاً لا يعرف ، وكذلك
لو قال له يا ابن الزاني لم يحد ، إذ لا يعرف
أبوه ، وكذلك قال ابن حبيب في الواضحة لا حد
على من قذف منبوذاً بأمه أو بابيه ، وهو معنى
قوله في هذه الرواية ولا حد على من افترى عليه
، وأما لو قال له يا ولد زنا لوجب عليه الحد
لاحتمال أن يكون لرشده وأن كان قد نبذ ، وأما
اللقيط والمجهول فيحد من قذفه بأبيه أو بأمه
قاله ابن حبيب في الواضحة وبالله التوفيق .
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
وسئل عن الذي ينتهر بالمرأة في الشعر فيوقف
على ذلك ، فيقول : قول قلته ليس له عندي أصل
أيحد ؟ قال : ما رأيت أحداً حد في مثل هذا ،
ولم يزل الشعراء يقولون ، فما رأيت احداً حد
في مثل هذا إلا أن يكون الشيء البين جداً .
قال محمد بن رشد : رأيت لأبي بكر بن محمد أنه
قال : المعروف
(16/287)
من قول أصحابنا
أنه يعتبر شعره ، فإن كان فيه تعريض القذف حد
، فكأنه تأول عن مالك أنه لا يحد الشاعر إذا
عرض في شعره بقذف المرأة وليس ذلك بتأويل صحيح
، لأنه قد نص على أنه يحد إذا كان الشيء البين
جداً وإنما شرط ألا يحد حتى يكون الشيء البين
جداً ، لأن للشعراء في اشعارهم استعارات لطيفة
ومجازات بعيدة ، فلا يتأول عليهم في شيء منها
القصد إلى الحقيقة إلا أن يكون ذلك امراً
بيناً ، فليس قوله بخلاف لأصله في إيجاب الحد
في التعريض بالقذف ، لأنه لا يرى ذلك إلا في
التعريض البين الذي يرى في أنه أراد بذلك
القذف ، لا في الكلام المحتمل ، ألا ترى أنه
لم ير العمل على فعل مروان في جلده الحد لقاتل
إن أمك لتحب الظلم لاحتمال الكلام غير القذف
حسبما مضى من قولنا في رسم طلق ، فكذلك إذا
كان كلام الشاعر في شعره محتملاً أن يكون أراد
به القذف وألا يكون أراد به القذف لم يحد .
مسألة
وسئل عن رجل قتل أخوه فجاء أخو القاتل وهو
عربي يكلمه في ذلك وهو مغضب فقال له : تنح عني
أيها العبد وهو ابن لسوداء أو سندية ، ثم قال
لم أرد نفيه ، وإنما أردت سواده ولونه اترى
عليه حداً ؟ فقال إني لأرجو ألا يكون ذلك عليه
إن شاء الله ، قيل له أترى عليه اليمين ما أرد
نفيه ؟ فقال ذلك أدنى ما عليه إن لم يكن عليه
غير ذلك هو أدنى ما عليه .
قال محمد بن رشد : هذا خلاف قوله في المدونة
إنه من قال لعربي يا مولى أو يا عبد أنه يحد ،
بخلاف إذا قال لمولى يا عبد ، وإنما فرق في
المدونة بين أن يقول ذلك للعربي أو للمولى ،
لأن العبيد و الموالي من العجم ، فإذا قال
للعربي يا مولى أو يا عبد فقد قطع نسبه ، لأن
ذلك بمنزلة أن يقول له يا عجمي ، فما في
المدونة اظهر من هذه الرواية ، ويحتمل أن يفرق
(16/288)
بين المسألتين
بما ذكره في المسألة من سواد المقول له تنح
عني أيها العبد هو ابن سوداء أو سندية ،
لاحتمال أن يكون القائل أراد يقول ذلك له أنه
ابن أمه سوداء من عربي بنكاح ، فلم ينفه بذلك
عن نسبه من العرب ، واستظهر عليه في ذلك
باليمين وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجل نازع رجلاً قد كانت أمه أمة
فأعتقت وهو لا يعلم فنازعه بعد عتقها فقال له
: أخزاك الله وأخزى زانية ولدتك ولم يكن علم
بعتق أمه ، فقال ما أراه إلا وقد فرغ ووجب
عليه الحد ، قيل له : إنها كلمته فقيل لها لم
يعلم انك عتقت حين ذهبت لتطلب ذلك منه فقالت
اشهدوا أنه إن حلف في المسجد أنه لم يعلم فقد
عفوت عنه ، فلما ذهب ليحلف رجعت عن ذلك فأرادت
اتباعه بالحد ، قال أرى ذلك لها ، وأرى أن يحد
، قيل له إنها قد أشهدت إنها قد عفت إن حلف
أنه لم يعلم إنها حرة ثم أفسدت فقال إني لا
أرى عفوها في مثل هذا جائزاً ، قيل له أرأيت
إن تمت على العفو ؟ فقال : لا أرى لها في ذلك
عفواً وأرى أن يحد ولا يجاز عفوها لأن في ذلك
إٍسقاط شهادته ليس حدها بالحد فليس قبول
شهادته وردها بيده هذه المرأة فلا أرى عفوها
جائزاً وأرى أن يحد إلا أن تكون امرأة تريد
ستراً أو يخاف إن كتبت أن يثبت ذلك عليها ،
فأرى عفوها في مثل هذا جائزاً وإلا فإن عليه
الحد ، لأن في ذلك شهادته ، فلا أرى أن تقبل
شهادته ، ولو جاز العفو في مثل هذا لعمد الرجل
الموسر الكثير المال فافترى على الرجل المعسر
فأعطاه مائة دينار أو مائتي درهم وأبرأه من
ذلك الحد ، فلا أرى ذلك جائزاً عليه وأرى عليه
الحد وفي رواية ابن القاسم عن مالك العفو جائز
.
(16/289)
قال محمد بن
رشد : قوله في الذي قذف المرأة بالزنا وهو
يظنها أمة وقد كانت اعتقت وهو لا يعلم بعتقها
إن عليه الحد لها ، ولا يعذر بجهله بعتقها
صحيح لا اختلاف فيه أعلمهن لأن الحقوق الواجبة
لها بالعتق من الحد والقصاص والميراث وسائر
أحكام الحرية لا تسقط بالجهل بها ، لو قتلها
أحد لقتل بها وإن لم يعلم بحريتها ، وكذلك لو
شهد بشهادة فردها القاضي إذ لم يعلم بحريته ثم
علم بها لأجازها ، وإنما اختلف إذا شهد بها
عند غيره بعد أن ردها الأول بجهله بحريته فقيل
إنها تقبل منه ، وقيل إنها لا تقبل منه لأنها
قد ردت ، والأصح أن تقبل منه لأن الغيب قد كشف
أن ردها أولاً لم يكن صحيحاً ،
وظاهر رواية أشهب هذه أن عفو المقذوف عن
القاذف لا يجوز وإن كان عفوه قبل أن يبلغ
الإمام ، خلاف رواية ابن القاسم عنه ، فهي تدل
على أن القذف يتعلق به حق الله تعالى ، وهو
مذهب أبي حنيفة ، ويأتي على قياسها أن الإمام
يقيم حد القذف على القاذف بقيام من قام به من
الناس ، وهو ظاهر قوله في المدونة في الذي
يقذف الرجل عند الإمام وهو غائب أنه يقيم عليه
الحد إذا كان معه شهود لأن ظاهر قوله أنه يقيم
الحد عليه وإن كان المقذوف غائباً مثل ما حكي
ابن حبيب في الواضحة عن ابن القاسم وغيره ،
خلاف ما تأول محمد ابن المواز من أن معنى ذلك
إذا جاء المقذوف وقام بحقه ، وقد قيل إنه لا
يتعلق بالقذف حق لله تعالى قللمقذوف على هذا
القول أن يعفو عن القاذف وإن انتهى الأمر إلى
الإمام أراد ستراً أو لم يرده ، وهو أحد قولي
مالك في المدونة ، وقد قيل إنه لا يتعلق به حق
لله تعالى حتى ينتهي إلى الإمام إلا أن يريد
ستراً ، وهو أحد قولي مالك في المدونة ومذهب
الشافعي ، فهي ثلاثة أقوال في المسألة ، ولا
اختلاف في أن القذف حق للمقذوف ، وإنما اختلف
هل يتعلق فيه حق لله تعالى أم لا على الثلاثة
الأقوال التي ذكرناها ، وقد قال عبد الوهاب في
المعونة : اختلف عن مالك في حد القذف هل هو من
حقوق الله تعالى ، أو من حقوق الآدميين ،
وفائدة ذلك أنه إن كان من حقوق الله فلا
(16/290)
يجوز العفو عنه
بعد بلوغه إلى الإمام ، وإن كان من حقوق
الآدميين جاز العفو عنه ، والصحيح أنه من حقوق
الآدميين بدليل أنه يورث عن المقذوف وحقوق
الله تعالى لا تورث ولأنه لا يستحق إلا
بمطالبة الآدمي ، والله أعلم ، هذا نص قوله في
المعونة ، وفيه نظر فالصحيح ما ذكرناه .
ومن كتاب الحدود والأشربة
وسألته عن المدمن على الخمر الذي قد خلع أيجلد
الحد كلما أخذ ؟ قال : نعم رأيي أرى أن لو
الزم السجن إذا كان مدمناً خليعاً وقد سجن
عامر بن عبد الله بن الزبير ابناً له حتى جمع
كتاب الله فيه ، فأتى فقيل له : قد جمع كتاب
الله فخله ، فقال ما من موضع خير له من موضع
جمع فيه كتاب الله فأبي أن يخليه فأرى ذلك
عليه .
قال محمد بن رشد : قوله في المدمن على الخمر
إنه يجلد الحد كلما أخذ ، هو أمر متفق عليه في
المذهب ، وعليه جماعة فقهاء الأمصار ، وما روي
عن النبي عليه السلام من رواية معونة بن أبي
سفيان وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة
وجرير من عبد الله البجلي أنه يقتل في الرابعة
وقول عبد الله بن عمرو بن العاص إيتوني برجل
أقيم عليه الحد ثلاث مرات فإن لم أقتله فأنا
كذاب وما روي عن أبي سليمان مولى أم سلمة أن
أبا الرمدا البلوي اخبره أن رجلاً منهم شرب
الخمر فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم
فضربه ، ثم شرب الثانية ، فأتوا به فضربه ،
فما أدري قال في الثالثة أو في الرابعة فأمر
به فجعل على العجل ثم ضربت عتقه تعلق به من شذ
من أهل العلم ، والذي عليه جماعة العلماء أن
ذلك منسوخ ، بدليل ما روي عن جابر بن عبد الله
أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
من شرب الخمر فاجلدوه ، ثم إن عاد فاجلدوه ،
فأمر في الرابعة بالجلد أيضاً ولم يأمر
(16/291)
بالقتل ، وقد
روي عن محمد المنكدر أنه حدث أنه بلغه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال في شارب الخمر :
إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب
فاجلدوه ثم إن شرب فاقتلوه ، فأتي ثلاث مرات
برجل قد شرب الخمر فجلدوه ثم أتي به في
الرابعة فجلدوه ، ووضع القتل عن الناس ، وقد
دل على نسخه أيضاً قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم : لا يحل دم أمريء مسلم إلا بإحدى
ثلاث أن يكفر بعد إيمان ، أو يزني بعد إحصان
أو يقتل نفساً بغير نفس أو كما قال صلى الله
عليه وسلم ، فقد روي هذا الحديث عن النبي عليه
السلام بألفاظ مختلفة ومعان متفقة ، واستحسان
مالك للخليع المدمن على شرب الخمر أن يلتزم
السجن كما فعل عامر بن عبد الله بابنه الماجن
نظر صحيح لأنه إذا كان لا يكف عن شرب الخمر
ولا يقلع عنه بالحد كلما أخذ فإلزامه السجن
أحوط لدينه وأبقى على جسمه وبالله التوفيق .
ومن كتاب الحدود
وسئل عن الذي يخلط الزبيب والتمر للخل ، فقال
: ما سمعت أنه يكره إلا في الشراب الذي يشرب .
قال محمد بن رشد : قد كره ذلك مالك في مختصر
ابن عبد الحكم ، والأظهر ألا كراهية في ذلك
على ما قاله في هذه الرواية لأن النهي عن
الخليطين وعن انتباذ الشيئين معاً إنما جاء في
الشراب الذي يشرب ، والنهي في ذلك إنما هو من
أجل أن الشدة والاسكار تسرع إليهما إذا جمعاً
معاص حسبما مضى القول فيه في رسم البز ، من
سماع ابن القاسم ، وهذه العلة معدومة في الخل
فوجب ألا يكون في ذلك كراهية ، وقد قيل إن
النهي في ذلك إنما هو عبادة لا لعلة وهو قول
مالك في موطئه ، لأنه قال فيه : وهو الأمر
(16/292)
الذي لم يزل
عليه أهل العلم ببلدنا أنه يكره ذلك لنهي رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فعلى هذا يكره ذلك
في الخل وغيره ، لأن النهي إذا كان عبادة لا
لعلة وجب أن يحمل على عمومه في الخل وغيره مما
يشرب أو يتداوى به أو يمتشط به على ما قاله في
رسم الأشربة والحدود بعد هذا في النضوح تعمله
المرأة من التمر والزبيب لتمتشط به حسبما يأتي
فيه إن شاء الله .
مسألة
وسئل عن النبيذ يجعل فيه الدردي دردي النبيذ
ليشتد ، فقال لا بأس به إلا أن يكون مسكراً ،
قيل له : إنما هو تفل نبيذ ، فقال ذلك النبيذ
كان مسكراً ، فإذا كان ذلك النبيذ مسكراً فهذا
حرام ، فروجع فيه وقيل له إن نأساً ، فقال هذا
حرام .
قال محمد بن رشد : لا اختلاف في المذهب في أن
دردي النبيذ المسكر لا يحل أن يجعل في نبيذ
ليشتد به ، لأن النبيذ المسكر بمنزلة الخمر في
تحريم قليلة وكثيره ، فدرديه بمنزلته ، وإنما
يجوز ذلك على مذهب أهل ا لعراق والذين يرون ما
دون السكر من النبيذ المسكر حلالاً ، وأما
دردي النبيذ الذي لا يسكر فجائز أن يجعل في
نبيذ غيره ليشتد به إذا كان أصلهما واحداً ،
وأما إن كان النبيذ من تمر فلا يجوز أن يجعل
فيه دردي نبيذ زبيب أو ما أشبه ذلك للنهي الذي
جاء في الخليطين وبالله التوفيق .
(16/293)
من كتاب العقول
وسئل مالك أتقام الحدود في الحرام ؟ قال : نعم
وتقتل النفس بالنفس في الحرم .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة متكررة
في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الديات ،
ومضى مثله في سماع أبي زيد أنه يقتص منه في
القتل في الحرم ولا اختلاف في هذا بين أحد من
فقهاء الأمصار أحفظه ، وإنما يؤثر فيه خلاف عن
جماعة من السلف لقوله تعالى : ( ومن دخله كان
آمنا ) وقد مضى الكلام على هذا في الموضعين من
كتاب الديات .
ومن كتاب الأشربة والحدود
وقال في الكثير المال إذا افترى على الرجل
فأعطاه مائة دينار أو مائتي فأعفاه من الحد :
ما أرى ذلك جائزاً وأرى عليه الحد .
قال محمد بن رشد : قد تقدم هذا من قوله في أول
رسم من السماع ومضى الكلام عليه مستوفى فلا
معنى لإعادته .
مسألة
وسئل عن المرأة تعمل من التمر والزبيب نضوحاً
تمتشط به ، قال أرجو ألا يكون به بأس ، قيل له
: ربما اشتكي الرجل فيشتريه من أجل شكواه فقال
لا خير فيه إذا ارادوا أن يتداووا بما أحل
الله يريد
(16/294)
أن يقارب الله
ولا أرى بأساً أن تمشط به المرأة ، وسئل عن
المرأة تجعل في رأسها من نبيذ التمر والزبيب
جميعاً ، فقال : سمعت أنهما لا يخلطان ، فلا
أرى أن تجعل في رأسها منه شيئاً ، لقد قام
عليها رأسها بالغلاء .
قال محمد بن رشد : في كتاب الأشربة من مختصر
ابن عبد الحكم أن النضوج من الخليطين لرأس
المرأة مكروه ، وفيه أيضاً إجازته على ترخيص ،
والقولان قائمان من هذه الرواية إذا اعتبر
الكلام فيها ، لأنه قال في أولها لا بأس بذلك
، وقال في آخرها : فلا أرى أن تجعل في رأسها
منه شيئاً ، فمن جعل النهي عبادة لغير علة
وحمل الحديث على عمومه لم يجز ذلك ، ومن لم
يحمله على عمومه وقال إن المراد بذلك الشراب
الذي يشرب ، وعلل النهي بإسراع الشدة والإسكار
إلى الشراب بخلطهما أو بخلط أصولهما في
الانتباذ أجاز ذلك ، وقد مضى بيان هذا وذكره
في رسم كتاب الحدود قبل هذا في رسم مسألة
الزبيب والتمر يخلطان للخل ، ولم يتكلم في
الرواية على كراهة امتشاط المرأة بالطعام من
أجل حرمته وما في ذلك من السرف والتشبه بفعل
الأعاجم لأنه سكت عن ذلك للعلم به ، إذ لا
اختلاف في كراهته ، وقد نص على ذلك في رسم
البز من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء وفي
رسم النذور والجنائز من سماع أِشهب منه ،
ويحتمل أن يكون ما يظهر من التعارض والاختلاف
في هذه الرواية يرجع إلى هذا المعنى فيكون
الوجه فيها أنه أجاز ذلك في أول الرواية ولم
يره داخلاً في النهي عن الخليطين ، وكرهه في
آخرها وإن لم يكن داخلاً في النهي عن الخليطين
من ناحية حرمه الطعام والشراب وبالله التوفيق
.
(16/295)
مسألة
وقال مالك : بلغني أن عمر بن الخطاب رأى رجلاً
قاء خمراً فقال لأبي هريرة اشهد أنه قاءها ،
فقال : ما هذا التعمق ؟
قال محمد بن رشد : زاد في رسم الحدود من سماع
اصبغ بعد هذا تجوز الشهادة بذلك فلا وربك ما
قاءها حتى شربها ، وهذا الحديث فيه وجهان من
الفقه ، أحدهما أن الحاكم لا يقضي بعلمه ، وقد
مضى الكلام على هذا مستوفى في موضعه ، وهو رسم
الجواب من سماع عيسى من كتاب الأقضية ، والوجه
الثاني أنه يجوز للشاهد أن يشهد بما علم من
جهة النظر والاستدلال ، كما يجوز له أن يشهد
بما علمه ضرورة بالعين ، لقول عمر بن الخطاب
لأبي هريرة : إشهد أنه شربها وهو لم يعاين
شربه إياها وإنما عاين أنه قاءها ولكن يعلم
بالنظر والاستدلال أنه لم يقيها حتى شربها وقد
أشعبنا الكلام على هذا في الشهادات من كتاب
المقدمات وإنما توقف أبو هريرة عن الشهادة أنه
شربها لاحتمال أن يكون لم يشربها باختياره ،
وإنما أكره عليها فصبت في حلقه ولم ير عمر
الشهادة تبطل بهذا الاحتمال ، لأن أمره يحمل
على أنه شربها باختياره إذ لم يدع أنه أكره
على شربها وإنما أنكر أن يكون شربها ، ولهذا
قال له : ما هذا التعمق ؟ .
مسألة
وسئل عن الزكوة للخمر تغسل فيجعل فيها الخل ،
فقال أما الزكوة فلا أرى ذلك لأنها قد تشربتن
، فلا أرى ذلك ولو غسلت ، ولو كان بعض هذه
الجرار فغسلها لم أر به بأساً وأخاف ألا يخرج
ريحها من الزكوة ليشقها ولا يجعله فيها .
(16/296)
قال محمد بن
رشد : الفرق بين الجرار والزقاق على ما قاله ،
فلا إشكال فيه ولا موضع للقول وبالله التوفيق
.
مسألة
وسئل مالك أيحرق بيت الرجل الذي يوجد فيه
الخمر يبيعها ؟ فقال : لا .
قال محمد بن رشد : إنما وقع السؤال عن هذا لما
جاء من أن عمر ابن الخطاب احرق بيت رجل من
ثقيف يقال له رويشد الثقفي كان يبيع الخمر
ووجد في بيته خمراً فقال له أنت فويسق ولست
رويشداً ، فقوله في الرواية إنه لا يحرق بيته
هو المع لوم من مذهبه لأنه لا يرى العقوبة في
الأموال ، إنما يراها في الأبدان وقد قال في
سماع أشهب من كتاب السلطان وأرى أن يضرب من
إنتهب ومن أنهب ، وقد حكى ابن لبابة عن يحيى
بن يحبي بن يحيى أنه قال أرى أن يحرق بيت
الخمار ، واحتج بحديث عمر بن الخطاب في حرقه
بيت رويشد الثقفي لبيعه الخمر فيه ، وقد حكى
يحيى بن يحيى عن بعض أصحابه أن مالكاً كان
يستحب حرق بيت المسلم الذي يبيع الخمر ، قيل
له : فالنصراني يبيع الخمر من المسلمين ، قال
إذا تقدم إليه فلم ينته فأرى أن يحرق عليه
بالنار ، واحتج بفعل عمر بن الخطاب وهي رواية
شهادة في المذهب لأن العقوبات في الأموال أمر
كان في أول الإسلام ، من ذلك ما روي عن النبي
عليه السلام في مانع الزكاة إنا آخذوها وشطر
ماله عزمة من عزمات ربنا وما روي عنه في حريسة
الجبل أن فيها غرم مثيلها وجلدات نكال ، وما
روي عنه من أنه من أخذ من يصيد في حرم المدينة
شيئاً فلمن أخذه سلبه ، ومن ثمل هذا كثير ثم
نسخ ذلك كله بالإجماع على أن ذلك لا يجب ،
وعادت العقوبات في الأبدان وبالله التوفيق .
(16/297)
مسألة
وسئل مالك عن المجلود في الخمر والقرية أترى
أن يحلقوا ؟ قال : لا ، وانا أكرهه قيل له :
ربما كان الرجل الماجن الخبيث يراد أن يكسر
بذلك ويزجر ؟ قال : ينبغي أن يتبع الذين مضوا
بقول الله تعالى : ( والذين اتبعوهم بإحسان )
ولم أسمع أحداً منهم رأى أن يحلقوا ، وإنما
هذه عقوبات وعذاب أحدثها الحجاج ، ومثله ، قيل
له : أترى أن يطاف بهم وبشراب الخمر ؟ قال إذا
كان فاسقاً مدمناً لأرى أن يطاف بهم وتعلن
أمورهم ويفضحون .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة بينة لا إشكال في
صحة مذهب مالك فيها ، لأن الذي أنكره من حلق
الشعر في العقوبة على من بلغه عنه أنه الحجاج
وشبهه قد أنكره ابن عباس على من بلغه عنه ذلك
من أهل وقته ، فروي عنه أنه كان يقول : إن
الله جعل حلق الشعر نسكاً وتجعلونه أنتم عقوبة
، وإنما كان يقول ذلك والله تعالى أعلم لما
وقع في مصنف عبد الرزاق عن ابن عمر قال : شرب
اخي عبد الرحمان بن عمر وأبو سروعة عقبة بن
الحرث وهما بمصر في خلافة عمر فسكوا فلما صحا
انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر فقالا
: طهرنا ، فإنا قد سكرنا من شراب شربناه ، قال
عبد الله فذكر لي اخي أنه سكر ، فقلت أدخل
الدار أطهرك ، قال : ولم أعلم أنهما أتيا
عمرواً فأخبروني أنه قد اخبر الأمير ، فقال لا
تحلق اليوم على رؤوس الناس أدخل الدار أحلقك ،
فدخل الدار قال عبد الله : فحلقت لاخي
(16/298)
بيدي ، ثم
جلدهما عمرو فسمع بذلك عمر فكتب إلى عمر وأن
أبعث إلي بعبد الرحمان على قتبه ففعل ذلك عمرو
وذكر باقي الحديث ، وقد روي عن النبي عليه
السلام أنه قال : من مثل بالشعر فليس له خلاق
عند الله يوم القيامة ، فقيل إن مثله الشعر
حلقه في الخدود ، ويروي عن طاوس أنه قال جعله
الله طهرة فجعله الناس نكالاً وقيل إن مثلة
الشعر نتفه أو تغييره بالسواد وبالله التوفيق
.
مسألة
وسألته عن الذي يقول للرجل يا ابن الأسود
وأبوه ابيض ، قال : هذا شديد ، فأما الذي يقول
لابن النبطي يا ابن النبطي - ولابن الأسود يا
ابن النوبي فإن هذا أيسر ، والأسود والنوبي
غريب ، وإنما الشديد أن يقول يا ابن الأسود
وهو ابن ابيض ، قلت : أرأيت إن قال له يا ابن
الأبيض وهو ابن الأسود فقال ما أقول في هذا
شيئاً ، ولكن إنما قلت ذلك في الذي يقول لابن
الأبيض يا ابن الأسود .
قال محمد بن رشد : قال في الذي يقول للرجل وهو
ابن ابيض يا ابن الأسود أنه شديد ، ولم ينص
على إيجاب الحد فيه ، وفي ذلك اختلاف قبل إن
عليه الحد ، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة
وغيرها ، لأنه حمل قوله على أنه نسبه إلى غير
أبيه فرآه قذفاً بيناً ، وقيل لا حد عليه ،
وهو مذهب أشهب لأنه حمل قوله على أنه وصف أباه
بغير صفته كما لو قال له يا ابن فلان الأسود
وسمى أباه باسمه وهو ابيض ، وكذلك لو قال يا
ابن الأقطع أو يا ابن الأعرج أو يا ابن
اليهودي أو يا ابن النصراني يجري على هذا
الاختلاف كان المقول له عربياً أو أعجمياً أو
مولى الحكم في ذلك كله سواء ، وأما إن قال له
يا ابن الحجام أو يا ابن الخياط أو ما أِبه
ذلك من الصنائع والأعمال ففي ذلك أقوال أحدها
أنه يحد كان من الموالي أو من العرب وهو مذهب
ابن وهب ،
(16/299)
والثاني أنه لا
يحد كان من الموالي أيضاً أو من العرب ، وهو
مذهب أشهب على أصله في أنه وصف أباه بغير صفته
، والثالث أنه يحد إن كان من العرب ولا يحد إن
كان من الموالي لأنها أعمال الموالي ويحلف ما
أرد بذلك قطع نسبه ، وهو مذهب ابن القاسم
وروايته عن مالك في المدونة ، وقال في الذي
يقول لابن النبطي يا ابن القبطي إنه أيسر ولم
ينص على سقوط الحد في ذلك ، وقد نص على ذلك في
المدونة وغيرها لأن الأجناس كلها ما عدا العرب
من البربر والفرس والنبط والقبط وما أشبههم لا
يحفظون أنسابهم كما تحفظ العرب أنسابها فلا حد
على من نسب احداً منهم إلى غير جنسه من البيض
كلهم باتفاق ، وكذلك لا حد فيمن نسب احداً من
جنس من أجنناس السود إلى غيره من أجناس السود
إلى غيره كالحبش والنوبة وما أشبههم باتفاق ،
واختلف إن نسب أحداً من جنس من اجناس البيض
إلى جنس من أجناس السود أو نسب أحداً من جنس
من أجناس السود إلى جنس من أجناس البيض على
ثلاثة أقوال ، أحدهما أنه لا حد في شيء من ذلك
كله ، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة ،
والثاني أن عليه
الحد في ذلك كله إلا أن يكون المقول له اسود
أو ابن اسود وإن كان من جنس البيض فيقول له يا
ابن النوبي ويا ابن الحبشي وهو مذهب ابن
الماجشون في الواضحة ، والثالث أنه إن قال
لبربري أو فارسي أو قبطي أو نبطي يا حبشي أو
يا نوبي فعليه الحد إلا أن يكون أسود أو في
آبائه أسود ، وإن قال لحبشي أو نوبي يا بربري
أو فارسي أو يا قبطي أو يا نبطي فلا حد عليه ،
وهذا يأتي على أحد قولي مالك في المدونة في
وجوب الحد على الذي يقول لبربري أو لرومي يا
حبشي إن عليه الحد ، ويقوم من تفرقته في هذه
الرواية بين أن يقول لابن الأسود يا ابن
الأبيض وبين أن يقول لابن الأبيض يا ابن
الأسود .
ووجه هذه التفرقة أنه قد يقال للأسود ابيض على
سبيل التفاؤل كما سمى اللديغ سليماً ويسمى
الأعمى أبو بصير وقال في الرواية في الذي يقول
لابن الأسود يا ابن النوبي إنه أيسر يريد أنه
لا حد في ذلك ، وسواء على مذهبه
(16/300)
كان المقول له
ذلك من العرب أو من جنس من أجناس العجم ، وأما
العرب فإنها تحفظ أنسابها ، فمن نسب أحداً من
العرب إلى غير العرب أو نسب أحداً منهم إلى
غير قبيلته فعليه الحد قولاً واحداً ، وقريش
من العرب والعرب ليسوا من قريش ، فمن قال
لقريشي يا عربي لم يحد ، ومن قال لعربي يا
قريشي حد ، وكذلك كل قبيلتين من العرب يجمعهما
أب واحد يحد من نسب أحداً من القبيلة الأعلى
إلى القبيلة الأدنى ، ولا يحد من نسب أحداً من
القبيلة الأدنى إلى القبيلة الأعلى فهذا تحصيل
القول في هذه المسألة وتلخيصه .
مسألة
وسئل مالك أيكره للسلطان أن يأخذ الناس
بالتهمة فيخلو ببعضهم فيقول لك الأمان وأخبرني
، فيخبروه ؟ فقال أني والله إني لأكره ذلك أن
يقوله لهم ويغرمهم وهو وجه الخديعة .
قال محمد بن رشد : وجه الكراهية في ذلك بين ،
لأنه إذا قال له لك الأمان وأخبرني فقد حصل
مكرهاً على الإخبار فلعله بخير بالباطل لينجو
من عقابه ، فإن فعل ذلك الإمام كان فيما أخبره
به وأقر به على نفسه كمن أقر تحت الوعيد
والتهديد لم يلزمه إقراره ، إلا أن يقر لا حد
بشيء يعينه ، وقد اختلف هل يقطع إذا أقر وعين
السرقة تحت الوعيد والتهديد حسبما مضى القول
فيه في رسم السرقة من سماع أشهب من كتاب
السرقة ، وستأتي المسألة أيضاً في رسم إن خرجت
من سماع عيسى من هذا الكتاب .
مسألة
وسئل عن الرجل يقال له يا كلب ، قال ذلك يختلف
، إن قال ذلك لذي الفضل والهيئة والشرف في
الإسلام أو الرجل الدين لأنه ينبغي أن يوقر ذو
الفضل في الإسلام وذلك يختلف عندي في عقوبته
إذا قاله للدين ، قيل له : أفتروا إذا قال لذي
الهيئة أن يختلف منه
(16/301)
ومن غيره فقال
لا أدري ما هذا إذا كان ذا هيئة خلوه ، وإن
كان غير ذي هيئة جلدوه وما أدري هذا ؟ وما أحب
أن أحد الناس في مثل هذا .
قال محمد بن رشد : في بعض الكتب افترى إذا
قاله لذي الهيئة أن يختلف منه ومن غيره كما في
داخل الكتاب ، وفي بعضها افترى إذا قاله ذو
الهيئة أن يختلف منه ومن غيره ، وهو الصحيح في
المعنى الذي يدل عليه قوله لا أدري ما هذا إذا
كان ذا هيئة خلوه وإذا كان غير ذي هيئة جلدوه
، وإنما توقف مالك والله أعلم عن الفرق بين ذي
الهيئة وغيره فقال لا أدري ما هذا مع ما جاء
عن النبي عليه السلام نم قوله : أقيلوا ذوي
الهيئات عثراتهم لوجهين ، أحدهما أن المراد في
الحديث لذوي الهيئات أهل المروءة والصلاح على
ما روي النبي عليه السلام من قوله : تجافوا عن
عقوبة ذوي المروة والصلاح فخشي أن يحمل ذلك
على عمومه في أهل الصلاح وغيرهم ، والثاني أن
التجافي عن ذوي المروءة والصلاح إنما يكون إلى
الإمام فيما لا يتعلق به حق لمخلوق ولم يبلغ
أن يكون حداً لأنه إذا بلغ أن يكون حداً فقد
خرج به فاعله عن أن يكون من أهل الصلاح إلى أن
يكون من أهل الفسق ، ومن أهل العلم من رأي أن
التجافي فيها كان من ولات ذوي الهيئات إلى
الإمام في حقوق الله تعالى وحقوق الناس ولم ير
ذلك مالك ، ولذلك قال : لا أدري ما هذا إذا
كان ذا هيئة خلوه وإذا كان غير ذي هيئة جلدوه
، لأن التجافي عن السب إنما هو إلى المسبوب لا
إلى الإمام ، فقول الرجل للرجل يا كلب يفترق
فيه ذو الهيئة من غيره في القائل والمقول له ،
فأما إذا كان جميعاً من ذوي الهيئة عوقب
القائل عقوبة خفيفة بها ، ولا يبلغ به السجن ،
وإذا كانا
(16/302)
جميعاً من غير
ذي الهيئة عوقب القائل أشد من عقوبة الأول
يبلغ به فيها السجن ، وإذا كان القائل من ذوي
الهيئة والمقول له من غير ذوي الهيئة عوقب
بالتوبيخ ولا يبلغ به الإهانة ولا السجن ،
وإذا كان القائل من غير ذوي الهيئة والمقول له
من ذوي الهيئة عوقب بالضرب ، فهذا وجه الحكم
في هذه المسألة وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الرجل يقول للرجل لا اب لك ، قال لا
شيء عليه إلا أن يكون أراد نفياً ، وإن هذا
لمما يتكلم الناس به على الرضى ليستكثر الناس
الكلام ، فأما إن قال ذلك في غضب ومشاتمة فذلك
شديد .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأنه
كلام ظاهره السب والمراد به المدح ، وذلك مثل
قولهم للذي يأتي بالشيء الغريب الحسن فعل فلان
كذا وكذا قاتله الله ، ومثله قوله عليه السلام
: ما له ضرب الله عنقه أليس هذا خيراً له لا
يريد بذلك الدعاء عليه ومثله قوله : تربت
يمينك وما أشبه ذلك .
مسألة
وسئل مالك أترى للمرء أن يجتنب شرب النبيذ وإن
كان حلواً ؟ فقال : لا أرى أن يشرب الرجل
النبيذ لا في البيت ولا خارجاً وإن كان حلواً
فإني لاحب تركه وإني لانهي أهل المدينة لا
يتخذونه ولا ينتبذونه مخاقة أن يعرض نفسه لسوء
الظن .
قال محمد بن رشد : كذا وقع في بعض الروايات
الا ليتخذونه ولا ينتبذونه ومعناه أن يتخذونه
وينتبذونه لأن اللام زائدة ، ومثل هذا في
(16/303)
الكلام كثير
وفي القرآن قال تعالى : ( لا اقسم بهذا البلد
) معناه اقسم وقال لئلا يكون معناه ليكون وقد
بين في الرواية وجه الكراهة في ذلك بما لا
مزيد عليه .
ومن كتاب الأقضية من سماع أشهب
وسئل عن رجل قال لرجل كذبت وأثمت ، قال : إن
لم يكن كذوباً ولا إثماً وكان من مراة الناس
فأرى أن يقرر بالسوط ، هذا أشد من الشحيح ،
الكذب خبيث ، وذلك يختلف أن يختصم رجلان فيقول
أحدهما لصاحبه في شيء يقول في خصومتهما كذبت
وأثمت ، فهذا مخالف للذي يأتي الرجل ليس بينه
وبينه عمل فيكذبه ، وسئل عمن قال لرجل إنك
لشحيح بخيل ، قال : أرى أن ينهي عنه ولا أرى
عليه ضرباً .
قال محمد بن رشد : قوله أرى أن يقرر بالسوط
إذا قال له كذبت وأثمت معناه إذا قال ذلك له
في مشاتمة فهو بمنزلة قوله له يا كذاب ، وأما
إن نازعه في شيء فقال له أنت في هذا كاذب آثم
فلا يجب عليه في ذلك أدب إلا أنه ينهي عن ذلك
ويزجر عنه إن كان لا يتعلق به حق فيما نازعه
فيه ، ويجري قول الرجل للرجل يا كذاب على
التفصيل الذي ذكرناه في الرسم الذي قبل هذا في
قوله له يا كلب ، وبالله التوفيق .
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
قال عيسى : قال ابن القاسم : من قال لعبده أو
لرجل أجنبي
(16/304)
اذهب فقل لفلان
إن فلاناً يقول لك يا ابن الفاعلة فذهب فقال
له ، فقال : إن قامت لأحدهما البينة أنه أمره
بذلك كان الحد على الآمر وليس على المأمور شيء
عبداً كان أو حراً ، وإن لم يقيما البينة على
أنه أمر واحداً منهما ضرب الذي قال له ذلك
الحد .
قال محمد بن رشد : أما إذا أنكر الأمر ولم تقم
عليه بينة فلا اختلاف في أنه يحد المأمور ،
وأما إذا اقر الأمر أو قامت عليه بذلك بينة
فاختلف في حد المأمور ، قال ابن القاسم في هذه
الرواية إنه لا يحد ، وقال مطرف وابن الماجشون
إنه يحد ، لأنه قد قاله له ، وذلك أشد من
التعريض ، وكذلك إن جاءه من عنده في ذلك بكتاب
وهو يعرف ما فيه ، ومثله في كتاب ابن المواز ،
قال ومن حمل إلى رجل كتاباً ، رجل وفيه يا ابن
الفاعلة فدفعه إليه فإن كان يعرف ما فيه حد ،
وهو أشد من التعريض ، وأما من قال لرجل إن
فلاناً يزعم انك زان إن قاله له في مشاتمته
ومخاصمته حد وإن أتي بالبينة على قول فلان وإن
قاله مخبراً فلا حد عليه إن اتي بالبينة على
قول فلان ، قال ابن الماجشون ، ولا اختلاف في
هذا وبالله التوفيق .
مسألة
وإذا قال لعبده أو لرجل حر إذهب فاقذف فلاناً
فذهب فقذفه فقامت البينة على أنه أمره بالقذف
؟ قال : أما في العبد فيضرب العبد وسيده ،
وأما في الحر فإنه يجلد الذي قذفه وليس على
الأمر شيء .
قال محمد بن رشد : قال ابن الماجشون في
الواضحة وسواء في عبده قال له اقذف فلاناً أو
قال له قل يا ابن الفاعلة ، لأن عبده كنفسه
لما يلزمه من خوف سيده ، وأما في الأجنبي
فتفترق ذلك فيه ، إن قال له اقذفه حد المأمور
ولم يكن على الآمر حد ، وإن قال له قل يا ابن
الفاعلة أو يا زان أو يا ولد زناً حداً جميعاً
، وقوله بين يحمل على التفسير لقول ابن القاسم
، ويدخل
(16/305)
في العبد
اختلاف بالمعنى من قول ابن وهب في تفرقته بين
العبد الفصيح والأعجمي إذا قال اقتل فلاناً
فقتله ، فيأتي على قياس قوله إنه إن كان
فصيحاً حد هو حد القذف دون سيده ، وإن كان
أعجمياً حد السيد ولم يحد هو ، ووجه قوله أنه
لم يعذره إذا كان فصيحاً في طاعة سيده فيما
أمره به من قتل أو قذف إذ لا يجب عليه طاعته
في ذلك ، وعذره إذا كان أعجمياً بالجهل وبالله
التوفيق .
مسألة
ولو أن رجلاً حراً أمر رجلاً حراً أن يقتل
رجلاً فقتله قال : يقتل القاتل ويضرب الآمر
مائة سوط ويسجن سنة ، ولو أنه أمر عبده أن
يقتتل رجلاً فقتله قتلاً جميعاً العبد والسيد
قيل : فإن كان العبد ليس فصحياً عارفاً ؟ قال
: يقتلان جميعاً ، وإن كان اعجمياً وقال ليس
من أمر عبده بقتل رجل كمن أمر رجلاً حراً بقتل
رجل في سماع أصبغ ابن الفرج عن ابن القاسم ،
مثله قال اصبغ ولم ار ابن القاسم يفرق بين
العبد الفصيح والأعجمي ، قال يحيى : وسألته عن
الرجل يأمر عبده أو ابنه ، أو المعلم يأمر
صبيانه أو الصانع يأمر متعلمه ، أو الإمام
يأمر رجلاً بقتل رجل والعامل ظالم له ماذا يجب
على الآمر والمأمور ؟ قال ابن القاسم : أما
السيد في عبده والإمام يأمر بعض أعوانه يقتلان
رجلاً بغير حق فإنه يقتل الآمر والمأمور ،
وأما الأب يأمر ابنه أو المعلم للصبيان يأمر
بعضهم ، أو الصانع يأمر متعلميه فإن كان
المأمور قد بلغ الحكم وإن كان في حجر أبيه أو
يحضر الكتاب والعمل عند معلمه فإنه يقتل ولا
قتل على الآمر ولكنه يبالغ في عقوبته ولا عقل
على عاقلته ، وروي سحنون عن ابن القاسم إذا
كان الغلام قد بلغ الحكم فإنه يقتلان جميعاً
الآمر والمأمور ، قال يحيى
(16/306)
قال ابن القاسم
: وإن كان الابن صغيراً في حجر أبيه أو صبيان
المعلم كذلك لم يبلغوا الحلم ومتعلم الصانع
صغيراً أيضاً لم يبلغ الحكم ولم تجر الحدود
عليهم فمن قتل منهم بأمر من يليه ويلزمه أن
يطيعه فإن الآمر يقتل ويكون على عاقلة الصبي
المأمور نصف عقل المقتول وإن كثر الصبيان
المأمورون بالقتل قتل الآمر وقسم العقل على
عواقل الصبيان وإن لم يصر على كل صبي في نصيبه
من العقل الأقل من ثلث الدية فإن العاقلة
تحمله ، ومن سماع أصبغ من ابن القاسم قال اصبغ
لا أرى أن يقتل أبو الصبي إذا كان الصبي قد
بلغ مبلغ العقل مثله يعرف ويتناهى عن ما ينهي
عنه بمعرفة مثل اليفاع والمراهق وما أشبه فهو
كالخطأ وهو كغير ولده
لو أمره بذلك ، وهو على عاقلته ، ولا قتل على
واحد منهم وذلك إذا كان أمره بالقتل بإرسال
وأمر يغيب عليه دونه ، فأما أن يحضره ويأمره
بالقتل وهو مشدد ذلك له إما بإمساك وإما
بإشلاء فهو قاتل حينئذ بأمر بين أباً كان أو
غيره كما لو اجتمع اثنان أجنبيان على قتل رجل
وقد صمدا لذلك صمداً أو أخذ يباشر الضرب أو
الجرح بيده يحد لحديده أو غيره والآخر يقول
اقتل اقتل قتلاً جميعاً ، وقد نزلت هذه
بأصحابنا عندنا ومشايخنا الفقهاء متوافرون
فرأوا أن يقتل بقوله اقتل إذا كان على هذه
الصفة .
قال محمد بن رشد : هذه المسألة تشتمل على ست
مسائل إحداها أن يأمر الرجل رجلاً حراً أو
عبداً لغيره بقتل رجل فيقتله ، والثانية أن
يأمر الرجل عبده بقتل رجل فيقتله ، والثالثة
أن يأمر الإمام بعض أعوانه بقتل رجل ظلماً
فيقتله ، الرابعة أن يأمر الرجل ابنه الذي في
حجره ومن بلغ الحلم بقتل رجل فيقتله أو الصانع
لمتعلميه والمؤدب لمن يؤدبه والخامسة أن يكون
مراهقاً لم يبلغ الحلم مثله يتناهى عما ينهي
عنه والسادسة أن يكون ذلك في السن ف
(16/307)
ي حد الإثغار
أو فوقه ، فأما إذا أمر الرجل رجلاً آخر أو
عبداً لغيره بقتل رجل فقتله فلا اختلاف في أنه
يقتل القاتل ويضرب الآمر مائة ويسجن سنة ،
وأما إذا أمر الرجل عبده بقتل رجل فقتله
فإنهما يقتلان جميعاً عند ابن القاسم ، ثم
يختلف في ذلك قوله كان العبد فصيحاً أو
أعجمياً ، وحكى ابن حبيب عن اصبغ أن ابن وهب
كان يقول من أمر عبده الأعجمي بقتل رجل فقتله
فعلى السيد وحده القتل وعلى العبد جلد مائة
وحبس سنة ، وأما عبده الفصيح فالقتل على العبد
وحده ويجلد السيد مائة ويسجن سنة قال اصبغ وهو
استحسان ، وقولنا أن يقتلا جميعاً السيد
والعبد كان أعجمياً أو فصيحاً ، وأما إذا أمر
الأمام بعض أعوانه بقتل رجل ظلماً فقتله فلا
اختلاف في أنهما يقتلان جميعانً ، وأما إن أمر
الأبُ ابنه الذي في حجره وقد بلغ الحُلُم أو
أمر الصانعُ بعض متعلميه ممن قد بلغ الحلم أو
المؤدب بعض من يعلمه ممن قد بلغ الحلم بقتل
رجل فقتله فاختلف في ذلك قولُ ابن القاسم ،
وروى سحنون عنه أنهما يقتلان جميعاُ ، وأما أن
كان مراقهاً لم يبلغ الحلم مثله يتناهى عما
ينهى عنه فإن الآمر يقتل ويكون على عاقلة
الصبي القاتل نصفُ عقل المقتول عند ابن القاسم
، فإن كثُر الصبيان المأمورون كانت الدية على
عواقلهم وإن لم يصر على عاقله كل واحد منهم
إلا أقل من ثلث الدية ، وقد كان ابن القاسم
يقول إن على عاقلة الصبي الدية كلها .
قال أبو محمد : ولا يعجبني ، قال أبو محمد
يريد ولا يؤدب ، وقال أصبغ من رأيه في هذه
الرواية لا قتل على واحد منهما ، وهو من الخطأ
كما لو أمر غيره ولده بذلك ، قال في كتاب ابن
المواز ويضرب الآمر مائة سوط ويسجن سنة ،
ويضرب الغلام ضرباً صالحاً بقدر احتماله إلا
أن يكون الأب أو المعلم أو المؤدب مباشراً
لذلك ومسدداً له ومغرياً به حينئذ يجب القتل
عليه ، وأما إن كان دون ذلك في السن فلا
اختلاف في أن الآمر يقتل ، ويكون على عاقلة
الصبي الصغير نصف العقل وبالله التوفيق .
(16/308)
مسألة
قال عيسى قال لي ابن القاسم : كل من وطئ امرأة
بملك اليمين ممن تحرم عليه بالرضاعة من أم أو
ابنة أو أخت أو ما كان ممن يشبههن فلا حد عليه
وإن علم أنهن محرمات عليه ، لأنهن لا يعتقن
عليه إذا ملكهن وهذا ماله يبيع ويحترم ويتصدق
ويصنع فيهن ما شاء غير الوطء إلا أن يكون
حملهن منه فإنه يلحق فيه الولد ويعتقن عليه
ويعجل عتقهن ، وذلك أحب ما فيه إلى ، لأنه ليس
له فيهن متعة ولا منفعة ، وكل من وطئ امرأة
بملك اليمين ممن تحرم عليه بالنسب ولا تعتق
عليه إذا ملكها من عمة أو خالة أو بنت أخت أو
ما أشبه ذلك فلا حد عليه أيضا وإن علم أنهن
محرمات عليه ، لأنهن لا يعتقن عليه بالملك ،
ولأنه يجوز له بيعهن واشتراؤهن واختدامهن ،
وسبيلهن سبيل الأول المحرات بالرضاع في البيع
وغير ذلك إلا أن يحملن فيلحق به الولد ويعجل
لهن العتق كالأول ، وكل من وطئ شيئاً من هؤلاء
النسوة والمحرمات عليه من النسب أو الرضاعة
فإنه إذا أتي شيئاً منهن عامداً عالماً
بالتحريم فعليه العقوبة المملكة ويبعن عليه
إذا لم يحملن ، وكل من وطئ امرأة بالملك ممن
تحرم عليه بالنسب وتعتق عليه بالملك إذا ملكها
مثل البنت والأم والأخت والجدة وما أشبههن
عامداً عالماً فإني أرى أن يقام عليه الحد ولا
يلحق به الولد ، قال ابن القاسم إلا ان يعذر
بالجهالة ، فإن عذر بالجهالة فإنه يدرأ عنه
الحد ويلحق به الولد ويعتق عليه .
فإن قال قائل إن العمة وبنت الأخت ممن لا يعذر
أحد فيهن
(16/309)
بالجهالة وقد
أسقطت عنه الحد بالملك فإنه كما قال ، ولكن
العمة والخالة وبنت الأخ ممن لا يعتقن عليه ،
وهن لما يملكهن فلذلك أسقطت عنه الحد بالملك ،
ولا يجتمع حد وملك ، ولو حددته فيهن في النسب
لحددته فيما يملك من أخته وأمه في الرضاعة ،
فهذا وجه ما سمعت في ذلك والله أعلم ، قال ابن
القاسم إلا أن يعذر أحد فيمن يعتق عليه بجهالة
فأرى أن يدرأ عنه الحد ويلحق به الولد ويعتق
عليه .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة بينة على
معنى ما في المدونة وغيرها لا اختلاف في شيء
منها إلا في قوله إذا وطئ امة من ذوات محارمه
بنسب أو رضاع فحملت منه أنه يعجل عتقها عليه ،
فمن الناس من يقول إنه يستخدمها بالمعروف ولا
تعتق عليه ، وقع ذلك في رسم الفصاحة من سماع
عيسى من كتاب الاستبراء من أمهات الأولاد .
واختلف في المذهب في الأمة بين الشريكين يطؤها
أحدهما فتحمل ولا مال له فيتمسك شريكه بنصيبه
أو يباع على الواطئ نصيبه منها أم لا ؟ فقال
ابن القاسم في المدونة إنه يعتق عليه نصيبه
منها إذ ليسله استخدامها ولا يعذر على وطئها ،
وقال غيره فيها إنه لا يعتق عليه نصيبه لا أن
يعتق الشريك نصيبه إذ قد تشتريه فيحل له وطئها
، وعلى قول بعض الناس لا يعتق عليه نصيبه بحال
، فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن شهيدين شهدا على ثلاثة نفر أنهم غصبوا
امرأة فذهبوا بها إلى الصحراء فادعت المرأة
إنهم وطئوها كلهم ، ثم أبرأت
(16/310)
بعضهم قال :
تحلف المرأة وتأخذ صداقاً صداقاً من كل من
ادعت عليه أنه وطئها ، ويكون القول قولها ولا
حد عليهم إلا أن يقروا أولاً عليها إذا علم
أنها غصبت .
ولو أن امرأة جاءت تدمي فادعت أن رجلاً من أهل
الفسق اغتصبها لم تأخذ من صداقها شيئاً ولو
كان اشر من عبد الله الأزرق في زمانه إلا أن
يشهد على أخذه إياها ، كأنه يقول فتحلف وتأخذ
الصداق ، قال : وإلا فحسبها أن تدفع الحد عن
نفسها بذلك إن جاءت تدمي ، قال ابن القاسم قال
مالك : وينظر الإمام في ذلك فإن رآه أهلاً
للعقوبة عاقبة ، قال أصبغ : سألت ابن القاسم
فقلت له المغتصبة التي يجب لها الصداق على من
اغتصبها هل يجب ذلك لها بشهادة رجين ؟ قال لي
لا يجب ذلك عليه إلا بما يجب به الحدود ، وذلك
أربعة شهداء ، وإلا كانوا قذفة يجلدون الحد ،
قال سحنون ، قال ابن القاسم : لو شهد رجلان
أنهما رأيا رجلاً اغتصب امرأة فأدخلها منزلاً
وغاب عليها وشهدا على ذلك فادعت المرأة أنه
أصابها وأنكر ذلك الرجل حلفت المرأة مع
شهادتهما واستوجبت الصداق صداق مثلها ولم يكن
عليه في ذلك حد .
قال محمد بن رشد : أما إذا ثبت اغتصابه لها
ومغيبه عليها فلا اختلاف في أن القول قولها في
أنه وطئها وتستوجب بذلك صداق مثلها ، وكذلك إن
كانوا جماعة فادعت ذلك على كل واحد منهم تأخذ
من كل من ادعت عليه منهم أنه وطئها صداق مثلها
، قيل بيمين وهو قول ابن القاسم في هذه
الرواية ، وقيل بغير يمين وهو قول ابن القاسم
في كتاب ابن المواز وقول مالك في سماع أشهب من
كتاب الغصب ، ويثبت اغتصابه لها ومغيبه عليها
بشهادة شاهدين على ما قاله في رواية سحنون هذه
عنه ، وقوله في رواية اصبغ هذه عنه أن
المغتصبة التي يجب لها الصداق على من اغتصبها
لا يجب ذلك
(16/311)
لها إلا بما
تجب به الحدود وذلك أربعة شهداء معناه على
معاينة الوطء وذلك بين من قوله : وإلا كانوا
قذفة يجلدون الحد ، فالصداق يجب لها يدعواها
مع ثبوت مغيبه عليها ولا يجب عليه الحد بذلك ،
وإنما يجب الحد بأربعة شهداء على معاينة الوطء
، وإذا وجب الحد بذلك وجب به الصداق أيضاً ،
وأما إذا ادعت عليه أنه اغتصبها وغاب عليها
ولم يعلم ذلك إلا بقولها فيفترق الأمر في ذلك
بين أن تأتي متشبتة به وهي تدمي إن كانت بكراً
، أو لا تأتي متشبتة به وبين أن تدعي ذلك على
من لا يليق به ذلك أو على من يليق به ، و قد
مضى القول على ذلك مستوفى في أول سماع أشهب من
كتاب الغصب فأغني ذلك عن إعادته .
مسألة
وقال ابن القاسم في عبد قذف حراً فأتي الحر
إلى سيد العبد فقال ألا ترى ما فعل لي عبدك
قذفني أفبأمرك هذا ؟ قال نعم عن أمري قال ابن
القاسم : أما في قول مالك فإنه يضرب السيد
الحد قال ابن القاسم : وهو رأيي ويضرب العبد
أيضاً الحد .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما تقدم في هذا
الرسم ، وقد مضى أنه يدخل في ذلك اختلاف
بالمعنى من قول ابن وهب في تفرقته بين أن يكون
العبد فصيحاً أو أعجمياً .
من كتاب العرية
قلت فالسلطان الذي يقيم الحد يسمح رجلاً يفتري
على رجل أو يراه على حد من حدود الله ؟ قال :
يرفعه إلى من فوقه ويكون شاهداً ، قلت أفيجوز
العفو فيه إذا اطلع عليه هذا السلطان قبل أن
(16/312)
يرفعه إلى من
فوقه ؟ قال : نعم العفو فيه جائز ، لأن ذلك
السلطان شاهد وهو كغيره من الشهداء .
قال محمد بن رشد : قوله إن السلطان إذا سمع
الرجل يفتري على رجل أو رآه على حد من الحدود
إنه يرفعه إلى من فوقه ويكون شاهداً ، هو مثل
ما في المدونة وغيرها ، ولا اختلاف في ذلك ،
إذ لا يقضي القاضي بعلمه لا في الأموال ولا في
الحدود ، وفرق أهل العراق بين الأموال والحدود
، فقالوا ينفذ الإقرار في ولايته ولا ينفذ
الحدود والإقرار ينقسم على ثلاثة أقسام ، فما
كان منه قبل ولايته لا يقضي به عند الجميع ،
وما كان منه في ولايته في غير مجلس الحكم يقضي
به عند أهل العراق ، وما كان منه في مجلس
الحكم بين المتخاصمين يقضي به عند مطرف وابن
الماجشون وأصبغ وسحنون وهو دليل قول النبي
عليه السلام إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ،
فلعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض فأقضي
له بما أسمع منه ، خلاف مذهب مالك وابن القاسم
، وقوله في الرواية إن العفو يجوز في القذف
إذا سمعه الإمام لأنه شاهد ، هو مذهب ابن
القاسم وروايته عن مالك ، وقد مضى الاختلاف في
ذلك في أول سماع أشهب فلا معنى لإعادته .
مسألة
وسئل عن رجل افترى على قوم فلم يقم به حتى أخذ
في شرب خمر فجلد الحد ، قال : إذا جلد الحد في
الخمر فقد سقطت عنه كل فرية كانت قبله .
قال محمد بن رشد : هذا مذهبه في المدونة
وروايته عن مالك ، لأنه قال فيها : إنه إذا
قذف وسكر أو شرب الخمر ولم يسكر جلد حداً
واحداً ، فرأى أن حد الشرب والفرية يتداخلان
فينوب أحدهما على الآخر لأنهما من جنس واحد ،
بدليل أن حد الشرب إنما أخذ من حد الفرية علي
بين أبي طالب لبعض الصحابة إذ استشار عمر بن
الخطاب في الخمر يشربها الرجل ، فقاله له علي
بن أبي
(16/313)
طالب : نرى ان
تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذي
وإذا هذي افترى أو كما قال ، وجلد عمر بن
الخطاب في الخمر ثمانين وكذلك إذا قذف الرجل
جماعة مفترقين أو مجتمعين فحد لهم أو لأحدهم
فذلك لكل قذف تقدم قام طالبوه أو لم يقوموا في
مذهب مالك وجميع أصحابه إلا المغيرة - فإنه
قال إن قاموا جميعاً فحد فذلك حد لهم أجمعين ،
وإن قاموا مفترقين حد لكل واحد منهم ، وقول
المغيرة هو القياس ، لأنهم قد قالوا إن القتل
يأتي على جميع الحدود إلا الفرية فإنه يجلد
فيها ثم يقتل ، لما في ذلك من حق المقذوف لأنه
تعرض له بذلك فيقال له إنك كذلك إذ لم تحده ،
فإذا لم يسقط حد المقذوف بالقتل فأحرى ألا
يسقط بحده في الشرب أو بحده لغيره ، والحجة
لمالك في أنه ليس على قاذف الجماعة إلا حد
واحد أن قاذف المحصنة قاذف للذي زناها وقد قال
تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ) الآية ،
فلم يوجب على قاذف المحصنة إلا حداً واحداً ،
وقد جلد عمر أبا بكرة وأصحابه حداً واحداً ولم
يحدهم للمرأة ، وسواء على مذهب مالك وأصحابه
قذف الجماعة في كلمة واحدة أو مفترقين ، وهو
مذهب أبي حنيفة ، وقال الشافعي يحد لكل واحد
منهم قذفهم في كلمة واحدة أو مفترقين ، وفرق
ابن أبي ليلى بين أن يقذفهم في كلمة واحدة أو
في مجالس شتى ، وقال ابن المواز : ومن قال
لجماعة أحدكم زان أو يا ابن زانية فلا يحد إذ
لا يعرف من أراد ، وإن قام به جماعتهم فقد قيل
لأحد عليه ولو قام به أحدهم فادعى أنه أراده
لم يقبل منه إلا بالبيان أنه
أراده ، ولو عرف من أراد لم يكن للإمام أن
يحده له إلا بقيامه عليه ، قال : ومن قذف من
لا يعرف فلا حد عليهن وقول ابن المواز في الذي
قال لجماعة أحدكم زان إلى آخر قوله بين
(16/314)
كله إلا ما
حكاه من أنه قد قيل إنه لا يحد وإن قام به
جماعتهم ، فهو بعيد ، لأنه يعلم أنه قد قاله
لأحدكم ، فلا حجة له إذا قام عليه جميعهم ،
ووجه على ما فيه من البعد أنه لما كان المقذوف
لا يعرف من هو منهم لم يحد إنما هو لاسقاط
المعرة عن المقذوف لم تلحق بواحد منهم بعينه
فيحد له ولا لجميعهم إذ لم يقذف إلا واحداً
منهم ، وأما إذا قام به أحدهم فمن حجته أن
يقول لم أرد إلا سواك ممن لم يقم ، وبالله
التوفيق .
ومن كتاب يوصي لمكاتبه
وسألت ابن القاسم عن رجل قال لرجل يا زوج
الزانية وتحته امرأتان فعفت واحدة وقامت
الأخرى تطلب حدها ، قال : أرى أن يحلف بالله
الذي لا إله الله هو ما أردت بالقذف إلا التي
عفت ويبرأ فإن نكل قال يحد إن نكل .
وكذلك لو كانت له امرأة واحدة وقد ماتت له
امرأة فقالت فقامت امرأته الحية بحدها لكان
القول قوله مع يمينه أنه إنما أراد التي قد
ماتت .
قال ابن المواز : من قال يا فران فعليه الحد
إن قامت به امرأته لأن القران عند الناس زوج
الفاعلة ، قال أبو بكر بن محمد وقاله ابن
القاسم ، ولم ير يحيى بن عمر فيه حداً ، وقال
يعزر عشرين سوطاً .
(16/315)
وقال يحي ابن
عمر فيمن قال لامرأة يا قحبا إنه يحد ، ومن
رمى امرأته بامرأة ثانية أدب أدباً موجعاًن
ولعل يحيى بن عمر لم يتحقق أن القرآن عند
الناس زوج الفاعلة كما تحقق عندهم أن القحبا
الزانية وإلا فذلك اضطراب من قوله وبالله
التوفيق .
مسألة
قال وسألته عن الرجل يقذف الرجل المسلم وأبواه
نصرانيان فقال : إن كان رجل له هيئة فأرى أن
يضرب عشرين سوطاً أو أكثر ، وإن كان لا هيئة
فأدنى من ذلك .
قال محمد بن رشد : معناه إذا قال له يا ابن
الزاني ويا ابن الزانية ، وأما إن قال له يا
ولد الزنا أو لست لأبيك أو يا زان فالحد عليه
واجب وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوصى
قال ابن القاسم يقيم الرجل الحدود على عبيده
وإمائة في الزنا ولا يقيمها عليهم حتى يشهد
أربعة شهداء سواه ، ولا يقيم على أمته إذا كان
لها زوج كان زوجها عبداً أو حراً إلا أن يكون
زوجها عبده فإنه يقيم عليها الحد إذا كان
زوجها عبده ، قال ابن القاسم : لأنه يقيم عليه
وعليها ، ولا يقيم على زوجها إذا لم يكن عبده
ولا على أمته إلا السلطان .
قال محمد بن رشد : هذا صحيح بين على معنى ما
في ما في المدونة وغيرها ، والأصل في ذلك قول
النبي عليه السلام لما سئل عن الأمة إذا زنت
ولم تحصن إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت
فاجلدوها ، ثم إن زنت
(16/316)
فاجلدوها ، ثم
إن زنت فبيعوها ولو بضفير ، فالرجل يقيم حد
الزنا والقذف والشرب على عبيده وأمائه ، كانوا
متزوجين أو غير متزوجين إلا أن يكون للأمة زوج
حراً أو عبداً لغيره فلا يقيم عليها حد الزنا
إلا السلطان لما يتعلق بذلك من حق الزوج ، ولا
يقيم عليه الحد في السرقة ولا في القتل ، وهذا
كله ما لا اختلاف فيه .
ومن كتاب القطعان
وسألته عن الرجل يطلق امرأته التي قد دخل بها
واحدة فتحيض ثلاث حيض فتبين منه ثم يدخل عليها
فيطؤها فيدعي أنه جاهل أو أنه كان رأي أن ذلك
يجوز له ، وتدعي ذلك المرأة أو لا تدعي جهالة
وليس هو من أهلها والمرأة ليست بجاهلة أو هو
جاهل والمرأة ليست بجهالة فقال ابن القاسم :
من كان منهما ممن يعذر بالجهالة لم يكن عليه
الحد ومن اقر منهم أنه عالم وأقر بمعرفة ذلك
وأن ذلك عليه حرام أقيم عليه الحد ، قال وإن
كان ممن لا يعذر بجهالة والمرأة ممن تعذر
بالجهالة فإنه يقام عليه الحد ويؤخذ لها من
ماله الصداق ، وإن كان هو والمرأة عالمين أقيم
عليهما الحد ولم يكن لها صداق .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة بينة على
معنى ما في المدونة ، لأنه قال فيها في الذي
يطلق امرأته تطليقة قبل البناء بها فيطؤها بعد
التطليقة ويقول ظننت أن الواحدة لا تبينها مني
وأنه لا يبرئها مني إلا الثلاث أو يطلقها
ثلاثاً فيطؤها في العدة ويقول ظننت أنها تحل
لي أنه يعذر بالجهالة فلا يحد ولا يكون عليه
إلا صداق واحد فكذلك هذا إذا قال ظننت أنها لا
تبين مني بالثلاث حيض فيصدق في ذلك فلا يحد
ولا يكون عليه صداق ويلحقه
(16/317)
الولد ، وكذلك
هي لا تحد إن غذرت بالجهالة ، ومن لم يعذر
منهما بالجهالة لزمه الحد فإن لم يعذر واحد
منهما بالجهالة حداً جميعاً ولم يلحق به الولد
ولا كان لها صداق ، وإن عذرا جميعاً بالجهالة
لم يحدا ولحقه الولد ولم يكن لها صداق ، وإن
عذر هو ولم تعذر هي لحقه الولد ولم يلزمه صداق
وحدت هي ، وإن عذرت هي ولم يعذر هو حد ولم
يلحقه الولد ولم تحد هي وكان لها صداق مثلها .
مسألة
وقال ابن القاسم لا خير في أن يصب العسل على
النبيذ وإن حل شربه وكرهه ، قال أصبغ وذلك إذا
كان نبيذاً من غير عسل ، وأما إن كان نبيذ عسل
فلا بأس أن يجعل فيه العسل .
قال محمد بن رشد : قول أصبغ صحيح مبين لابن
القاسم لأنه إنما كره أن يصب العسل على النبيذ
الحلال الذي لا يسكر من ناحية ما نهي عنه من
خلط الشرابين وانتباذ الشيئين معاً ، فإذا كان
النبيذ من العسل جاز أن يخلط بالعسل لأنه منه
، وكذلك يبين قول اصبغ هذا ما وقع في المدونة
من أنه لا يصلح للرجل أن يخلط عسلاً بنبيذ
فيشربه أن معنى ذلك إذا كان النبيذ من غير عسل
، وقد وقع في بعض الروايات بنبيذه بإثبات
الهاء فيتأول ذلك على أن الهاء عائدة على
الرجل لا على النبيذ فتصح المسألة .
ومن كتاب استأذن سيده
وسئل عن رجل كان في مجلس فرمي بحجر فقال من
رماني فهو ابن الزانية ، فقال رجل من المجلس
أنا رميتك ، قال قال مالك لا يحد له إلا أن
يقيم البينة أنه رماه لأنه مدع الحد ، قال إن
(16/318)
القاسم وإن كان
أصابه بجرح لزمه الغرم بإقراره ولا يلزم الآخر
الحد .
قال محمد بن رشد : المعنى في قوله من رماني
فهو ابن الزانية الذي رماني فهو ابن الزانية
فيحمل عليه أنه علم الذي رماه فقذفه وأبهمه
لقوله من رماني فهو ابن الزانية لينجو بذلك من
الحد فالذي يدعي أنه رماه يقول إني قصدت
بالقذف لأني إنما رميتك فلا يحد له إلا أن
يقيم البينة أنه رماه ، ولو قاموا به جميعاً
كل واحد منهم يدعي أنه هو رماه لجرى ذلك على
الاختلاف في الذي يقول للجماعة أحدكم زان
فتقوم كلها عليه ، وقد مضى القول على ذلك في
رسم العرية ، ولو قال قائل إن رمى من رماني
فهو ابن الزانية فرماه رجل لم يحد بخلاف من
قال من دخل المسجد فهو ابن الزانية فقد سئل
ابن القاسم عن هذا فقال سمعت من مالك فيما
يشبهه أنه يضرب ثمانين ، وهو رأيي ، والفرق
بينهما أن المسجد لا بد للناس من دخوله ،
والأظهر عندي ألا حد في ذلك أيضاً إذ لم يتعين
المقذوف ، والحد إنما هو لإسقاط المعرة بالقذف
عن المقذوف وبالله التوفيق .
ومن كتاب . . . . . . .
قال ابن القاسم في الشهادة في الزنا إنها لا
تجوز حتى يشهد أربعة في موضع واحد في يوم واحد
في ساعة واحدة .
قال محمد بن رشد : معنى قوله في موضع واحد في
ساعة واحدة أن يكون الزاني الذي شهد عليه
الأربعة زنا واحد وليس من شرط صحة
(16/319)
الشهادة على
الزنا تسميته المواضع ولا ذكر اليوم والساعة ،
وإنما من شرط صحتها عنده ألا يختلف الشهود
بذلك ، فإنما معنى قوله إن الشهادة لا تجوز
حتى يشهد أربعة في موضع واحد في يوم واحد في
ساعة واحدة إنها لا تجوز إذا اختلفوا في ذلك ،
خلاف مذهب ابن الماجشون في إجازتها وإن
اختلفوا في ذلك ، وأما قوله في موقف واحد
فالمعنى في ذلك أن تكون تأديتهم للشهادة عند
الإمام في ذلك معاً فإن تفرقوا في تأدية
الشهادة بطلت على قوله هذا ، وهو قوله وروايته
عن مالك في أول رسم من سماع عيسى من كتاب
الشهادات ، وقد قيل أن الشهادة جائزة وإن تفرق
الشهود في تأدية الشهادة ، وهو مذهب أبن
الماجشون ، وعليه يأتي ما وقع لابن القاسم في
أول رسم المكاتب من سماع عيسى من كتاب
الشهادات ، وأما قوله على صفة واحدة فهي الصفة
التي لا تتم الشهادة إلا بها ، وهي معاينة
الفرج كالمرود في المكحلة ، وقد مضت هذه
المسألة والكلام عليها بأوعب من هذا في رسم
أوصى من سماع عيسى من كتاب الشهادات .
مسألة
وقال في الرجل يقول للرجل يا سارق ، قال :
يضربه خمسة عشر سوطاً أو نحوها .
قال محمد بن رشد : تحديده للخمسة عشر سوطاً أو
نحوها هذا ليس له أصل يرجع إليه من الكتاب
والسنة إنما هو الاجتهاد ويختلف باختلاف حال
القائل والمقول له حسبما مضى القول فيه في رسم
الأشربة والحدود من سماع أشهب وبالله التوفيق
.
مسألة
وسئل عن رجل قال لامرأته يا زانية ، قالت زنيت
بك ، قال ابن القاسم هي لم تقذفه فليس عليها
حد ، ويجلد هو الحد إلا أن
(16/320)
يلاعن ، قال
عيسى : لا يعجبني هذا ، ولا حد عليه ولا لعان
.
قال محمد بن رشد : لم ير ابن القاسم مجاوبتها
له بقولها زنيت بك إقراراً منها على نفسها
بالزنا ولا قاذفة لاحتمال أن تريد بقولها زنيت
بك إصابته إياها بالنكاح ، وذلك بين من قوله
في سماع يحيى بعد هذا ، فلما لم يرها بهذا
القول مقرة على نفسها بالزنا ولا مصدقة فيما
زناها به منه ، قال إنه يجلد الحد إلا أن
يلاعن ، وذلك على القول بان اللعان يجب بالقذف
وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة ، وقول
عيسى إنه لا حد عليه ولا لعان المعنى فيه أنه
رأي قولها إقراراً منها على نفسها بالزنا
وتصديقاً له فيما رماها به منه ، فأسقط عنه
حكم القذف بذلك يريد ويجب عليها بذلك حد الزنا
إلا أن ينزع عنه ، وحد القذف لزوجها إلا أن
يعفو عنها كما لو قال لأجنبية يا زانية فقالت
زنيت بك حسبما قاله ابن القاسم في سماع يحيى
فلم يفرق عيسى في ذلك بين الزوجة والأجنبية
كما فعل ابن القاسم ، ولأصبغ في الزوجة قول
ثالث في سماع يحيى وهو إنها تكون في مراجعتها
لزوجها بهذا القول قاذفة له غير مقرة على
نفسها بالزنا فيحد كل واحد منهما لصاحبه إلا
أن يلاعن هو على القول بان اللعان يكون في
القذف ، ولأشهب في الأجنبية قول ثاني في كتاب
ابن المواز وهو أنها تكون بمراجعتها له بهذا
القول مقرة على نفسها بالزنا وقاذفة له إلا أن
تنزع عن ذلك فتقول إنما قلت ذلك على المجاوبة
فيحد الرجل ولا تحد هي في قذف ولا زنا وقول
ابن القاسم اظهر أنه يقبل رجوعها في إقرارها
على نفسها بالزنا ولا تقبل في قذفها لزوجها ،
وقد حكى أبو إسحاق عن أشهب في الأجنبية أن
قولها له بك زنيت ليس بإقرار منها على نفسها
بالزنا ولا قذف منها للرجل ، كأنها قالت إن
كان الأمر كما تقول فبك زنيت ، وهو يقول ما
زنيت بها فكأنها أنكرت أن يكون هناك زنا منها
ومنه بحال ، وإذا قال أشهب هذا في الأجنبية
فأحرى أن يقوله في الزوجة ، وإذا قال أصبغ في
الزوجة إنه يحد كل واحد منهما لصاحبه فأحرى أن
يقوله في
الأجنبية ، وابن القاسم هو الذي يفرق بين
الزوجة والأجنبية على ما تقدم بيانه وبالله
التوفيق .
(16/321)
مسألة
قال ابن القاسم في رجل شهد عليه أربعة بالزنا
شهد اثنان بالطواعية أنها طاوعته ، وشهد
الاثنان بالاغتصاب أنه اغتصبها قال يضرب
الشهود ولا يحد الرجل ، لأن الشهادة قد اختلفت
عليه ، إلا أن يقر الرجل فإن أقر حد ، وإن
أنكر جلدوا هم جميعاً الشهود ، وإن انكرت
المرأة ضربوا الحد ، وإن أقر الرجل أقيم عليه
الحد بإقراره لأنهم قذفوها فصدقهم واحد ولم
يصدقهم الآخر .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة إلا أن في
سياقتها اشكالاً يرجع في التحصيل إلى أن
الشهادة ساقطة فيحد الشهود ولا يجب بشهادتهم
شيء على الرجل ولا على المرأة إن أنكر ، فإن
اقر حد وسقط الحد عن الشهود ، وإن أقر أحدهما
وانكر الآخر حد المقر والشهود من أجل إنكار
المنكر منهما وسقط الحد من المنكر وبالله
التوفيق .
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار
وسئل ابن القاسم عن الرجل يقر بعد ضرب عشرة
أسواط أو بعد حبس سنة ، قال : لا يلزمه إقراره
عدلاً كان الوالي أو غير عدل ، وربما أخطأ
الوالي العدل ، وقد قال رجل لعمر بن عبد
العزيز إن ضربتني سوطاً واحداً أقررت على نفسي
، فقال ما له قبحه الله ، فإذا اقر على خوف لم
يلزمه إقراره إلا أن يعين يعني يرى بعض ما أقر
.
قال محمد بن رشد : قوله إلا أن يرى بعض ما أقر
به يدل على أن السارق يقطع إذا أقر بالسرقة
بعد الوعيد والتهديد وعينها ، وقد قيل إنه لا
يقطع
(16/322)
وإن عينها إذا
كان إقراره بها وتعينه لها بعد الوعيد
والتهديد ، ولا خلاف في أنه يقطع بغير تعيين
إذا أقر قبل أن يؤخذ ، ولا في أنه لا يقطع دون
تعيين إذا اقر بعد أن أخذ ، وقد مضى القول في
هذه المسألة مستوفى في رسم السرقة من سماع
أشهب من كتاب السرقة وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن المرأة تؤخذ مع المرأة تساحقها فتقر
أو يشهد عليهما كم يضربان على ذلك وما
عقوبتهما ؟ قال ابن القاسم : ليس في ذلك إلا
اجتهاد الإمام على ما يرى من شنعة ذلك وخبثه .
قال محمد بن رشد : هذا الفعل من الفواحش التي
دل القرآن على تحريمها ، يقول تعالى : (
والذين هم لفروجهم حافظون ) إلى قوله (
العادون ) وأجمعت الأمة على تحريمه ، فمن تعدى
أمر الله في ذلك وخالف سلف الأمة فيه كان
حقيقاً بالضرب الوجيع ، وليس في ذلك حد يرجع
إليه في الكتاب والسنة ، وإنما هو الاجتهاد
كما قال ، وقد روي عن ابن شهاب أنه قال : سمعت
رجالاً من أهل العلم يقولون : إنهما يحدان
مائة مائة ، وقال أصبغ يجلدان خمسين خمسين
وعليهما الغسل إن أنزلنا وقاله ابن وهب وبالله
التوفيق .
مسألة
وقال : إذا شهد رجلان أنهما رأيا رجلاً وامرأة
تحت لحاف أو شهد أنهما رأيا رجليها على عنقه
أو شيئاً هو أدنى من أن يرياه مثل المرود في
المكحلة عوقب الرجل والمرأة ولم يكن على
الشهيدين شيء ، لأنهما لم يقذفا ، ولو قالا
رأيناه يزني بها مثل المرود
(16/323)
في المكحلة ضرب
كل واحد منهما ثمانين جلدة .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأن
شهادتهما لا تسقط إلا بما يوجب الحد عليهما من
الشهادة التامة بالزنا وإذا لم تسقط شهادتهما
وجب بها الأدب عليهما .
ومن كتاب جاع فباع امرأته
وسألت ابن القاسم عن رجل جاع فباع امرأته من
رجل وأقرت له بذلك فوطئها مشتريها ثم عثر على
ذلك ، قال : وجدت في مسائل بعض أصحابنا عن
مالك وهو رأيي أنهما يعذران بالجوع وتكون
تطليقة نم زوجها بائنة حين أوطأها غيره ،
ويرجع عليه المشتري بالثمن ، قلت : فلو لم يكن
بهما الجوع ؟ قال فحرى إذا أن تحد وينكل زوجها
ولكن قد جاء الحديث ( إدراوا الحدود بالشبهات
) ودرأ الحد أحب إلى ، وقد قال مالك في الرجل
يسرق من جوع يصيبه : إنه لا قطع عليه .
قال محمد بن رشد : قوله إنهما يعذران بالجوع
بين ، لأن الحدود تدرأ بالشبهات أقوى من الجوع
الذي قد أباح الله به أكل الميتة والدم ولحم
الخنزير ، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه أنه قال لا قطع في سنة ، وحكى ابن حبيب عن
أبي هريرة أنه قال : لا قطع في سنة مجاعة ،
وذلك للمضطر .
(16/324)
وأما قوله في
بيعه إياها إنه يكون طلقة بائنة فهو ظاهر قول
مالك في رسم يشتري الدور من سماع يحيى من كتاب
العتق ومثله في كتاب الاستبراء من الأسدية على
ما وقع في سماع عبد الملك من كتاب طلاق السنة
، وهو قول ابن نافع فيه ، وقد قيل إنها تبين
منه بالبتة ، وهو قول مالك فيما روي عنه محمد
بن عبد الحكم ، وقد قيل إنه لا يقع عليه بذلك
طلاق ويؤدب على فعله ، وترد إليه امرأته ، وهو
قول محمد بن عبد الحكم وقول ابنوهب في سماع
عبد الملك من كتاب طلاق السنة ومثله في أول
رسم من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة في
الذي يزوج امرأته ، إذ لا فرق في المعنى بين
أن يزوجها أو يبيعها ، وقد مضى الكلام على ذلك
مستوفى ، وأما قوله إذا لم يكن بهما فحري أن
تحد وتنكل زوجها ولكن قد جاء الحديث إدرأوا
الحديث بالشبهات ، ودرأ الحد أحب إلى ، فوجه
الشبهة في ذلك هو أنها وإن طاعت له ببيعه
إياها دون جوع ولا ضرورة فالمشتري يملكها
بشرائه إياها ملك الأمة ، فتكون في وطئه إياها
كالمكرهة وإن كانت طائعة إذ لو امتنعت لقدر
على إكراها وهذا نحو ما في رسم حلف ليرفعن
أمراً إلى السلطان من سماع ابن القاسم من كتاب
الحج أن المحرم إذا وطئ جاريته وهي محرمة
فعليه أن يحجها ويهدي عنها أكرهها أو لم
يكرهها ، لأن الأمة ليست في الاستكراه مثل
الحرة ، ومثله ما في رسم نقدها من سماع عيسى
من كتاب النكاح في الذي تزوج امرأة فأدخلت
عليه جارية امرأته فوطئها وهو لا يعلم أنه لا
حد عليه ، ولا على الجارية خلاف قول ابن
الماجشون في الذي زوج ابنته رجلاً فحبسها
وأرسل إليه بأمته فوطئها إنها
تحد إلا أن تدعي أنها ظنت إنها زوجت منه ،
فيأتي على قول ابن الماجشون أنها تحد إلا أن
تدعي أنها ظنت أنها زوجت منه ، فيأتي على قول
ابن الماجشون أنها تحد إذا طاعت لزوجها ببيعها
فوطئها المشتري إلا أن تدعي أن المشتري اكرهها
على الوطء ، وهو قول ابن وهب في سماع عبد
الملك من كتاب طلاق السنة أنها ترجم إن طاوعته
على البيع وأقرت أن مشتريها قد أصابها طائعة ،
وإن زعمت أنه استكرهها برئت من الحد .
(16/325)
ومن كتاب العتق
وسألته عن نفر أربعة شهدوا على رجل بالزنا وهم
عدول وأحدهم ولد زنا أو ابن ملاعنة ، قال :
أما ولد الزنا فلا تجوز له الشهادة في مثل هذا
، وأما ابن الملاعنة فتجوز شهادته في القذف
وغيره ويضربون جميعاً الحد .
قال محمد بن رشد : قوله إن شهادة ولد الزنا لا
تجوز في الزنا هو مثل ماله في سماع أبي زيد من
كتاب الشهادات ، وهو مذهب سحنون ، لأنه قال في
آخر نوازله منه إنه لا تجوز شهادة أحد فيما حد
فيه من الحدود ، وهو أصل قد اختلف فيه قول
مالك وقول ابن القاسم وقول أصبغ حسبما بيناه
في النوازل المذكورة ، وقال في هذه الرواية
أنه إذا كان أحد الشهود الأربعة الذين شهدوا
على الزنا ولد زنا لم تجز شهادته ولم يقل ما
يكون الحكم فيهم ؟ وقد اختلف في ذلك ، فقيل
إنهم يحدون كما لو كان أحدهم عبداً ، وهو قول
أصبغ ومذهب ابن القاسم في المدونة ، لأنه قال
فيها إذا شهد على المرأة أربعة شهود بالزنا
أحدهم زوجها جلد الثلاثة ولا عن الزوج ، ولا
فرق بين المسألتين ، وقيل إنهم لا يحدون بخلاف
إذا كان أحدهم عبداً وهو قول ابن أبي حازم في
المبسوطة واستحسان ابن القاسم فيها ، وأما إن
لم يعثر على أنه ولد زنا أو على أنه زوجها حتى
يقيم الحد فيدرا الحد عن الثلاثة ويحد ولد
الزنا والزوج إلا أن يلاعن ، وقد مضى بقية
القول في هذه المسألة في النوازل المذكورة
وبالله التوفيق .
مسألة
وسألته عن رجل زنا عبده فضربه خمسين ضربة بغير
سوط هل يجزيه ذلك من الحد ؟ قال قال مالك : لا
يضرب الحد إلا بالسياط .
(16/326)
قال محمد بن
رشد : سأله في هذه الرواية هل يجزيه ذلك من
الحد فلم يجبه على ذلك ، وحكى له ما قال مالك
من أن الحدود لا تضرب إلا بالسياط ، وقال في
سماع أبي زيد بعد هذا إنه إن ضربه في الزنا
بالدرة في ظهره أجزاه ، قال وما هو بالبين ،
فيحمل قوله في سماع أبي زيد على التفسير لقوله
في هذه الرواية ، لأنه وإن كان الواجب أن تضرب
الحدود بالسياط كما قاله مالك فلا يجب أن يعاد
عليه الضرب بالسياط إذا ضرب بالدرة إذ قد يكون
من الدرر ما هو أوجع من كثير من السياط فلا
يجمع عليه حدين ، إلا أن تكون الدرة التي ضرب
بها لطيفة لا تؤلم ولا توجع فلا بد من إعادة
الحد بالسوط وبالله التوفيق .
مسألة
وسأله عن رجل من الموالى قال لرجل من العرب
لست لي بكفء هل يكون عليه الحد ؟ قال مالكاً
يقول في رجل قال لرجل من العرب وهو من الموالي
أنا خير منك وأقرب نسباً برسول الله صلى الله
عليه وسلم ، قال : ليس في مثل هذا حد ، قال
ابن القاسم وذلك أن يقوم الرجل الرومي أنا خير
من عربي وأكرم حسباً فلا يكون في ذلك حد ،
إنما الحد في قذف أو نفي أو تعريض يرى أنه
أراد به حداً ، وسألته عن رجل قال لرجل في
منازعة إنك لعظيم في نفسك ، فقال الآخر وما
يمنعني وأنا معروف الحسب والنسب فقال له الذي
نازعه إنك لتعرض بي فاستعدى عليه ، فهل يكون
عليه في هذا القول حد ؟ قال : قال مالك في رجل
نازع رجلاً فقال أحدهما لصاحبه أنا خير منك
وأبي خير من أبيك وأمي خير من أمك ، فقال له
الآخر : هلم أباك الذي تزعم أنه أبوك ، قال
مالك ،
(16/327)
لقد قال قولا
عظيماً ، وما أرى في مثل هذا حداً ، قال ابن
القاسم : وهذا عندي أشد من مسألتك ، ولكن يحلف
بالله ما أراد نفياً ولا حد عليه .
قال محمد بن رشد : إنما لم ير على المولى حدا
في قوله للعربي أنا أقرب نسباً برسول الله صلى
الله عليه وسلم منك لأنه رآه كاذباً في قوله
إذا جعل الموالي أقرب من النبي عليه السلام في
النسب من العرب لا نافياً له عن أبيه ، وابن
أبي حازم يقول في المولى يقول للعربي أنا أكرم
منك نسباً إن عليه الحد ، ففي هذا عنده أحرى
أن يحد ، وقد مضى بيان هذا في رسم باع غلاماً
من سماع ابن القاسم ، وإنما لم ير عليه الحد
أيضاً في قوله وما يمنعني وأنا معروف الحسب
والنسب إذ ليس بتعريض له في نفي حسبه ونسبه
لأن كلامه إنما خرج على نفي النقيصة عن نفسه
التي ألحقها به في قوله إنك لعظيم في نفسك لا
على إلحاق النقيصة به في نفسه عن حسبه ونسبه ،
واستظهر عليه مع ذلك باليمين ، وأما المسألة
التي احتج بها من قول مالك في الذي نازع رجلاً
فقال له أنا خير منك وأبي خير من أبيك إلى آخر
المسألة ، فقد مضى الكلام عليها في رسم ليرفعن
أمراً إلى السلطان من سماع ابن القاسم وبالله
التوفيق .
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
قال يحيى وسألته عن الرجل يقول للمرأة يا
زانية فتقول بك زنيت ، فقال : أراها قد أقرت
بالذي رماها به ، وهي له مع إقرارها على نفسها
قاذفة ، فإن أقامت على الإقرار رجمت إن كانت
محصنة
(16/328)
بعد أن تجلد
ثمانين جلدة للفرية التي افترت على الرجل حين
قالت بك زنيت وإن كانت بكراً جلدت ثمانين
للفرية ومائة للإقرار على نفسها بالزنا ، وإن
لم تقم على الإقرار جلدت حد الفرية ووضع عنها
الحد الذي كانت أقرب به على نفسها ، قيل له :
فإن كان إنما قال ذلك لامرأته فقالت بك زنيت ،
فقال : لا أرى عليها شيئاً لأنه يجوز لها أن
تقول إنما أردت إصابته إياي بالنكاح ، فذلك
يدرأ عنها حد القذف ولا تعد بهذا القول مقرة
بالزنا مثل الأجنبية ، قال أصبغ ليس قولها
تصديقاً إنما هو جواب أي إن كنت زنيت فبك إلا
إني أرى عليه لها حد الفرية ، وله عليها حد
الفرية ، لأن كل واحد منهما قاذف .
قال محمد بن رشد : قد تقدم القول على هذه
المسألة في رسم سلف ديناراً من سماع عيسى
مستوفى فلا معنى لإعادته .
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب
قال وسألت أشهب عن الصبية تمكن من نفسها رجلاً
فيطأها قال إن كان مثلها يخدع فالصداق على
الواطئ ، وإن كان مثلها لا يخدع وإن كانت لم
تحض فلا صداق عليه ، قلت وكذلك الأمة البالغة
العذراء إذا أمكنت من نفسها فافتضت ؟ قال لا
أرى على الذي افتضها غرماً ، وعليه الحد ، قال
سحنون : وكذلك قال غيره في الأمة البالغة .
قال محمد بن رشد : قوله في الصبية إذا كان
مثلها يخدع إن الصداق على واطئها بين على ما
قاله ، لأنها في حكم المغتصبة ولا اختلاف
(16/329)
في ذلك أحفظه ،
وأما قوله في الأمة البالغة العذراء إذا أمكنت
من نفسها فافتضت إنه لا غرم على الذي افتضها
ففيها ثلاثة أقوال ، أحدها أنه لا غرم على
الذي زنا بها طائعة بكراً كانت أو ثيباً وهو
قوله في هذه الرواية لأنه إذا لم ير عليه
غرماً إذا كانت بكراً فأحرى أن لا يكون عليه
غرم إذا كانت ثيباً ، والثاني أن عليه ما
نقصها بكراً كانت أو ثيباً ، وهو ظاهر ما في
كتاب المكاتب من المدونة ودليل ما في كتاب
الرهون منها ، والثالث الفرق بين أن تكون
بكراً أو ثيباً ، وهو قوله في كتاب الرهون
منها ، المدونة في بعض الروايات وأما إذا
اغتصبها فلا اختلاف في أن عليه ما نقصها بكراً
كانت أو ثيباً كانت صغيرة مثلها يخدع فهي في
حكم المغتصبة على ما قاله في الحرة فهذا تحصيل
القول في هذه المسألة وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم في الخليطين من النبيذ إذا
تخللا فلا بأس به ، .
قال محمد بن رشد : هذا على قياس ما قاله مالك
في رسم الحدود من سماع أشهب من أنه لا بأس أن
يخلط الزبيب والتمر للخل وأن ذلك إنما يكره في
الشراب الذي يشرب ، وقد مضى هناك الاختلاف في
ذلك وتوجهه ، فعلى القول بأنه يكره خلط التمر
والزبيب للخل يكره الخليطان من النبيذ وإن
تخللا .
مسألة
قال سحنون وسئل ابن القاسم عن النصراني يغتصب
الحرة المسلمة فيطؤها فيجب عليه بذلك القتل
أيجزي في ذلك شهادة رجلين ؟ فقال ابن القاسم :
لا يقتل حتى يشهد عليه بذلك الفعل
(16/330)
أربعة شهود
أنهم رأوه كالمرود في المكحلة مثل الزنا سواء
، لأنه لا يستوجب القتل إلا بالوطء ، ولا يثبت
إلا بأربعة شهداء ، قال سحنون وقد كان ابن
القاسم يقول يجزي في ذلك شهادة رجلين ، ثم رجع
إلى هذا .
قال محمد بن رشد : وجه ما كان ابن القاسم
يقوله في أنه يجزي في ذلك شهادة رجلين هو أنه
كان يرى اغتصابه إياها وغيبته عليها نقضاً
لعهده يوجب عليه القتل لما جاء من أن امرأة
مرت تسير على بغل فنخس بها علج فوقعت من البغل
فبدأ بعض عورتها فكتب بذلك أبو عبيدة إلى عمر
بن الخطاب ، فكتب إليه عمر أن اصلب العلج في
ذلك المكان ، فإنا لم نعاهدهم على هذا ، إنما
عاهدناهم على أن يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون ، ووجه القول الذي رجع إليه أنه لا
يراه ناقضاً لعهده بغصبه إياها حتى يطأها على
ما روي من أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال
: إذا اغتصب النصراني المسلمة نفسها فليقتل
فإن ذلك ليس مما صولح عليه ، فإنما يقتل إذا
اغتصبها فوطئها لنقض العهد لا على حد الزنا ،
ولا يلحق به الولد وهو على دينه ، فإن اسلم
هدر عنه القتل ، وإن روي ذلك خوف من القتل إذا
ثبت صحة إسلامه ، وعليه صداق مثلها أسلم أو لم
يسلم ، لأنه حق للمرأة ، قال ذلك ابن حبيب
وحكاه عن أصبغ ، فلا اختلاف إذا اغتصبها نفسها
فوطئها أن ذلك نقض لعهده ، واختلف إذا زنى بها
وهي طائعة فقال ربيعة هو نقض لعهده ، وقال في
سماع عبد الملك بعد هذا إنه ضرب ضرباً يموت
منه ، وقال أشهب يضرب الضرب الموجع لما لم يوف
لهم بالعهد ، ولو في لهم بالعهد كان هذا منهم
نقضاً للعهد ، وقال محمد بن عبد الحكم لا يكون
نقضاً للعهد وإن وفي لهم بالعهد إذا كان على
الطوع ، وأما جرح النصراني للمسلم وقذفه إياه
فلم يروه نقضاً لعهده وبالله التوفيق .
(16/331)
مسألة
وقال أشهب في الرجل يقدم فيحد مع امرأته ولداً
فيقول لها ليس هذا الولد ابني ولا ابنك ، قال
: يحلف بالله ما أراد قذفاً ولا شيء عليه ،
وأما إن كان حاضراً مقراً بالولد ثم قال بعد
ليس هذا الولد مني ولا من امرأتي جلد الحد .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله إنه
إذا أنكر الولد الذي وجد معها حين قدم من
مغيبه ثم رجع إلى صديقها والإقرار بالولد أن
القول قوله مع يمينه أنه ما أراد بذلك قذفاً
إذ لم يتقدم له به إقرار قبل أن ينكره ، وأما
إذا كان حاضراً مقراً بالولد فأنكره فإنه يجلد
الحد ويلزمه ، وهذا ما لا اختلاف فيه .
مسألة
وقال مالك في رجل قال لرجل يا ابن الجافي أرى
عليه العقوبة وإن قال له يابن الجافي والجافية
عوقب وزيد في العقوبة لما سب أمه ، وذلك أنه
يقول أردت الجفا في الدين .
قال محمد بن رشد : هذا بين لا إشكال فيه ،
لأنه من السب الذي فيه العقوبة على حال القائل
والمقول له ، وقد تقدم هذا المعنى في رسم
الأشربة من سماع أشهب وفي غيره من المواضع
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن النصراني يغتصب الأمة المسلمة ، قال :
إذا شهد على ذلك أربعة شهداء كان عليه القتل .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، وهو قول
الليث وابن عبد
(16/332)
الحكم لأن لها
حرمة الإسلام وإن كانت أمة ويكون في ماله ما
نقص من ثمنها بكراً كانت أو ثيباً ، روي ذلك
ابن وهب عن مالك في سماعه وبالله التوفيق .
من سماع عبد الملك بن الحسن من أشهب
قال عبد الملك : سألت ابن وهب عن رجل من العرب
نازع رجلاً من الموالي فقال العربي للمولى
إنما اعتق أبوك أمس في زمان كذا وكذا ، فقال
له المولى مجيباً أنا أقدم منك ومن أبيك ، فهل
يجب عليه في مثل هذا القول حد أم لا يكون إلا
النكال ، قال ليس عليه حد وإنما هو عندي
بمنزلة أن لو قال له أنا أخير منك ، فليس في
هذا حد وكذلك قال مالك في هذا فيما أعلم ،
وارى عليه النكال والحبس ، وقال إن كان إنما
أراد بقوله إني أقدم منك في الإسلام هذا وما
يشبه فلا حد عليه .
قال محمد بن رشد : قوله إنه لا حد عليه في
قوله له أنا أقدم منك في العتق ومن أبيك بين
لا إشكال فيه ولا اختلاف ، لأنه إنما نفي عن
نفسه أن يكون أبوه معتقاً فكذبه في ذلك عليها
وأما قوله إن كان إنما أراد بقوله إني مثلك أي
إن اباك اعتق أمس وأني مثلت فعليه الحد فمعناه
أنه إن قال أردت أن أباك إنما هو الذي اعتق
أمس كان عليه الحد ، وأما إن قال أردت أن أباك
الذي هو أبوك اعتق أمس فلا حد عليه وهو مصدق
فيما يذكره من ذلك مع يمينه لأن إرادته لا
تعلم إلا من قبله ، وأما إذا قال له نصاً في
منازعة أو مشاتمة إن أباك أعتق أمس وهو عربي
فيحد على مذهب ابن القاسم ، لأنه بمنزلة أن لو
قال له إن أباك كان معتقاً أو أنه كان
نصرانياً أو يهودياً أو أسود أو اقطع أو يا
ابن المعتق أو يا ابن النصراني أو اليهودي أو
الأسود أو الاقطع ولا يحد على مذهب أشهب لأنه
عنده واصف لأبيه بغير صفته كما لو سمى أباه
باسمه فقال له يابن فلان
(16/333)
الأسود أو
الاقطع أو اليهودي أو النصراني وبالله التوفيق
.
مسألة
وسئل عن البنس يجعل فيه العسل هل تراه من
الخليطين الذي كرهه أهل العلم ؟ قال لا بأس به
، والنبس بمنزلة الماء .
قال محمد بن رشد : البنس والله أعلم هو شراب
الفقع الذي كان يعمل في الأعراس ، وهو شراب
يصنع من العسل ويجعل فيه خمير القمح وأفوه
الطيب على ما قد ذكرناه في سماع أبي زيد من
كتاب بيع الخيار ، فسأله هل هو من الخليطين من
أجل ما يضاف إلى العسل من خمير القمح فخففه
ولم ير به بأساً ليسارة ما فيه من العجين ،
فقال إنما هو بمنزلة الماء الصرف ، فجائز أن
يضاف إليه العسل ، وقوله في هذه الرواية هو
على أحد قولي مالك في المدونة لأنه سأله فيها
عن النبيذ يجعل فيه العجين أو الدقيق والسويق
ليشتد به قليلاً أو ليتعجل فقال إنه سأل
مالكاً عنه فأرخص فيه ولم ير به بأساً ، ثم
سأله عنه فنهي عنه وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل وأنا أسمع عن اللبن يضرب بالعسل ، قال :
لا بأس به .
قال محمد بن رشد : قد مضى هذا والقول فيه في
رسم البز من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته
.
مسألة
وسئل وأنا أسمع عن نصراني زنى بمسلمة فقال :
إن كان طاوعته بذلك ضربت الحد وضرب النصراني
ضرباً يموت منه ، وإن كان اغتصبها نفسها صلب .
(16/334)
قال محمد بن
رشد : مضى الكلام على هذه المسألة في سماع
سحنون مستوفى فلا معنى لإعادته .
من سماع أصبغ وسؤاله ابن القاسم من كتاب
البيوع
قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول في أربعة نفر
شهدوا على رجل بالزنا فتعلقوا به وأتوا
السلطان فشهدوا عليه ، قال لا أرى أن تجوز
شهادتهم واراهم قذفة .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة في رسم
أوصى من سماع عيسى من كتاب الشهادات ، وقلنا
فيها هناك إنه لم تجز شهادتهم عليه لأن ما
فعلوه من أخذه وتعلقهم به ورفعهم إياه إلى
السلطان لا يلزمهم ولا يجب عليهم ، بل هو
مكروه لهم ، لأن الإنسان مأمور بالستر على
نفسه وعلى غيره ، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : من أصاب من هذه القاذورة شيئاً فليستتر
بستر الله فإنه من بدلنا صفحته نقم عليه كتاب
الله ، وقال لهزال يا هزال لو سترته بردائك
لكان خيراً لك ، فلما فعلوا ذلك صاروا طالبين
له ومدعين الزنا عليه وقذفة له ، فوجب عليهم
الحد إلا أن يأتوا بأربعة شهداء سواهم على
معاينة الفعل كالمرود في المكحلة ولو كانوا
أصحاب شرط موكلين بتغيير المنكر . . أحدهم
فأخذوه أو أخذه فجاءوا به وشهدوا عليه لقبلت
شهادتهم لأنهم فعلوا في أخذه ورفعه ما يلزمهم
، وفي الواضحة
(16/335)
لمطرف وابن
الماجشون وأصبغ أنه إذا شهد أربعة بالزنا على
رجل جازت شهادتهم وأن كانوا هم القائمين بذلك
مجتمعين جاءوا أو مفترقين إذا كان افتراقهم
قريباً بعضه من بعض ، ووجه ذلك أنه لما كان ما
فعلوه من قيامهم عليه مباحاً لهم وإن كان
الستر أفضل لم يكونوا خصماء إذ لم يقوموا
لأنفسهم وإنما قاموا لله فوجب أن تجوز شهادتهم
، ولو كانت الشهادة فيما يستلزم فيه التحريم
من حقوق الله كالطلاق والعتق لجازت شهادتهما
في ذلك وإن كانا هما القائمين بذلك ، لأن
القيام بذلك متعين عليهما ، وقد قال بعض
المتأخرين إن ذلك لا يجوز على مذهب ابن القاسم
، وقوله في هذه المسألة خلاف لمطرف وابن
الماجشون واصبغ ووجه ذلك بان كل من قام في حق
يريد إتماته فهو يتهم أن يزيد في شهادته ليتم
ما قام فيه وهو عندي بعيد وبالله التوفيق .
مسألة
ومن كتاب الحدود
قال أصبغ : وسألته عن الاستنكاه أيعمل به ؟
قال : نعم ، وذلك رأس الفقه ، قال أصبغ وهو
رأيي فيمن استنكر سكره واستكاره اختلاطه ، وقد
حضرت العمري القاضي أمر بالاستنكاه في مجلسه
بمحضر جماعة من الناس فيهم أهل العلم والفقه
وفيهم ابن وهب فختله المستنكنة بالكلام
والسؤال والمراجعة والمفاوهة ثم أدخل شق أنفه
وشمه في شدقه ثم قطع عليه أنها خمر ، قال أصبغ
والأحب إلى أن يكون اثنان كالشهادة ، فإن لم
يكن إلا واحد
(16/336)
امضي عليه الحد
إذا كان الإمام هو الذي يأمر بالاستنكاه حين
استرابه ووكله به ، فإن كان إنما هو شاهد يؤدي
علمه بالاستنكاه منه من قبل نفسه فلا يجوز إلا
اثنان لأنهما شهادة مؤداه كالشهادة على الشرب
بعينه ( ) الاستنكاه والشهادة به وجوازه أن
أبا هريرة قد شهد أنه قاءها ولم يشهد أنه
شربها ثم قال له عمر تجويزاً لذلك : فلا وربك
ما قاءها حتى شربها ، قال أصبغ سألت ابن
القاسم فقلت له : أرأيت الموكل بالمسلحة يمر
بالرجل أو يمر به الرجل يتهمه بالشراب أيأمر
به فيستنكه ؟ قال إن رأي تخليطاً واختلاطاً
فنعم ، قال اصبغ شبه السكران الذي يخلط في
مشيه وكلامه وتكفيه بنفسه وميلانه وعبثه وشتمه
، فإن كان كذلك أمر به ولا يسعه تركه ، لأنه
سلطانه كحد انتهي إلى السلطان فلا يتركه وإن
كان على غير ذك من الصفة ولم يكن كنحو ذلك
تركه ، ولم يتحسس عليه ، وإن رأى مخرجه مخرج
سوء تهمة نظر في مخرجه إن خرج من مخرج سوء
فعاقبه على نحوه ولم يبلغ كشفه في الشرب ولا
تفتيشه إذا لم يكن كنحو ما وصفنا وكان صاحياً
متشكلاً .
قال محمد بن رشد : العمري القاضي الذي حكى عنه
ما حكاه من الحكم بالاستنكاه هو عبد الرحمان
بن عبد الله بن المجير بن عبد الرحمان بن عمر
بن الخطاب ، ولاه هارون الرشيد قضاء مصر سنة
خمس وثمانين ومائة ، ثم شكي به إليه فقال
انظروا كم ولي القضاء من ولد عمر ؟ فلم يوجد
أحد ، فقال والله لاعزلته ، فبقي قاضياً إلى
أن عزله الأمين سنة أربع وتسعين ، والمسألة
كلها صحيحة بينه من قول ابن القاسم وأصبغ لا
اختلاف فيها ولا إشكال في شيء من معانيها
وبالله التوفيق .
(16/337)
مسألة
قال ، وسألت ابن القاسم عن المسلم يقول
للنصراني يا ابن الفاعلة ، فيقول اخزي الله كل
ابن فاعلة ، فقال إن النصراني يحلف بالله ما
أراد قذفا ، فإن لم يحلف سجن حتى يحلف ، قال
اصبغ بل أرى أن يجلد الحد وأرى هذا جواباً في
مشاتمة فهو رد عليه وتعريض له ، كالذي يقول
للمرأة يا زانية فتقول زنيت بك فيكون جواباً
ورداً لمثل ما قال ، فيضرب له الحد ،
فالنصراني مثله غير أن المسلمين يحدان البادي
والراد عليه ، والنصراني والمسلم كذلك يجب
عليهما جميعاً ويكونان قاذفين جميعاً ومشاتمين
له ، غير أن النصراني لا حد له فيعاقب له
قاذفه المسلم فيكون ذلك هو حده ، وقد حرمته من
الحد وهو يحد للمسلم الحد بعينه كاملاً ثمانين
سوطاً .
قال محمد بن رشد : لا اختلاف في المذهب في أن
الحد يجب بالتعريض البين كما يجب بالتصريح به
، فرأى اصبغ قوله هذا في مجاوبته إياه من
التعريض البين ، ولم ير ذلك ابن القاسم ،
وقوله اظهر لإحتمال أن يكون أراد بما قاله نفي
ما رماه به عن نفسه من أن يكون ابن زانية لا
قذفة ، فرأى أن يحلف بهذا الاحتمال وقال إنه
إن لم يحلف سحن حتى يحلف ، ولم يقل ما يكون
الحكم فيه إن طال الأمر ولم يحلف وذلك يتخرج
على قولين ، أحدهما أنه يطلق ولا يكون عليه
شيء ، والثاني أنه يحد إذا طال حبسه وأبى أن
يحلف ، والأصل في هذا اختلافهم في الكلام
المحتمل أن يراد به القذف كقول الرجل للرجل يا
خبيث أو يا ابن الخبيثة ، فقال ابن القاسم إنه
ينكل إن طال حبسه فلم يحلف ، وقال أشهب إنه
يحد إن طال حبسه ولم يحلف ، فعلى أصل ابن
القاسم في هذه انه ينكل ولا يحد إذا طال حبسه
فخلي سبيله في هذه المسألة إذ لا موضع فيها
للنكال ، وكذلك إذا حلف ابتداء لا ينكل ولو
قال الشهود الذي شهدوا عليه بذلك تبين لنا من
قصده أنه أراد بذلك
(16/338)
القذف أو أنه
لم يرد بذلك القذف لأعمل قولهم في ذلك وارتفع
الخلاف في المسألة لأن هذا مما قد يظهر بصورة
الحال حتى يقع العلم به للشاهد وبالله التوفيق
.
مسألة
وقال في الذي يقوم عليه بشاهد وأحد بالقذف فلا
يحلف ويسجن حتى يحلف : إنه إذا طال حبسه جدا
ولم يحلف فأرى أن يخلي سبيله ، قلت : فيؤدب
إذا طال ولم يحلف فخلي أيؤدب له بهذا الشاهد
الواحد ؟ فقال : أما الأدب في هذا فلست أعرفه
، قال أصبغ : وأنا أرى أن يؤدب له إذا كان
معروفاً بالأذى والفحش والمشارة للناس ، وإلا
فأدبه حبسه الذي حبس ، ولا يؤدب المتساهل
للأدب في هذا إلا بعد الإياس من حلفه أو ثباته
عليه أو غير ثباته عليه وعند تخليته .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة في رسم
الشجرة من سماع ابن القاسم والكلام عليها هناك
فلا معنى لإعادته ، وقوله إنه لا يؤدب في
المتساهل للأدب في هذا إلا بعد الإياس من حلفه
أو ثباته عليه معناه بعد الإياس من حلفه
وثباته عليه فأوها هنا بمعنى الواو ، لأنه
إنما أراد أنه لا يؤدب إلا بعد الاياس من حلفه
ومن ثبات ذلك عليه ، وهو معنى قوله أو ثبات
ذلك عليه وبالله التوفيق .
مسألة
قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول وسئل عن رجل
يقول للرجل يا ولد الخبث ، قال : يضرب الحد
ولا يعلم الخبث إلا الزنا ، وقاله اصبغ ، وذلك
إنما مخرجه على القذف ، وإنما ولد
(16/339)
الخبيث ولد
الزنا ليس الخبث بالحديث الذي يذكر إذا كثر
الخبث أنه من أشراط الساعة ، والخبث في ذلك
أولاد الزنا ، فإذا قال يا ولد الخبث كان
قاذفاً له بأنه ولد الزنا وإنما حرف الناس
بذلك الكلام فقالوا يا ولد الخبث وجرت مجرى
الخبث في القذف في المشاتمة على اللسان ،
ومعنى ذلك بينهما الحد ، ورواها عيسى بن دينار
في كتاب العتق ، قال أصبغ سمعت ابن القاسم
يقول فيمن قال لرجل يا خبيث الفرج أو قال أنا
أعف منك فرجاً : إن ذلك كله يضرب فيه الحد
تاماً ، وقاله أصبغ إذا كان في مشاتمة أو غضب
ورواها عيسى أيضاً في كتاب لم يدرك من صلاة
الإمام إلا الجلوس .
قال محمد بن رشد : قوله في الذي يقول للرجل يا
ولد الخبث إنه يضرب ثمانين ، مثله في كتاب ابن
المواز وغيره ولا اعرف فيه نص خلاف ، وهو بين
في المعنى ، لأن الخبيث اسم الفعل من خبث يخبث
فنسبة الرجل إليه [نفي له عن] أبيه ، إذ ليس
هو بصفة فيقال إنه إنما وصف أباه بذلك ،
ومخرجه عند الناس أيضاً مخرج القذف على ما
قاله أصبغ ، فإيجاب الحد فيه ظاهر .
وقوله ليس الخبث بالحديث الذي ذكر إذا كثر
الخبث إنه من أشراط الساعة ، والخبث في ذلك
أولاد الزنا ، معناه ليس الخبث في قوله الرجل
للرجل يا ولد الخبث من الخبث المذكور في
الحديث وإن كان المراد به أيضاً أولاد الزنا
لأنه الخبث بفتح الخاء لا الخبث بضمها وقد قيل
تفسير الحديث : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال :
نعم إذا كثر الخبث إنهم شرار الناس ،
(16/340)
ولو قال له يا
خبيث أو يا ولد الخبيثة لم يجب عليه في ذلك حد
، قال في المدونة : ويحلف ما أراد بذلك قذفا ،
فإن أبى أن يحلف ما أراد بذلك قذفاً حبس حتى
يحلف فإن طال حبسه نكل ، وقال أشهب إنه يحد
إذا أبى أن يحلف ولابن القاسم في المدونة مثل
قول أشهب في نظير هذه المسألة إنه يحد إذا أبى
أن يحلف وهو اظهر وإنما لم يحد في ذلك لأن
الخبث قد يكون في الأخلاق والأفعال فيحلف أنه
ما أراد إلا ذلك ، وأما إذا قال له يا خبيث
الفرج فلا إشكال في أنه يحد إذ قد يبين أنه
أراد بالخبث الزنا وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجل قذف رجلاً فأتي بشاهدين شهدا
أنهما حضراه يضرب الحد في الزنا ، قال : لا
ينفعه ، ويضرب الحد والشاهدان جميعاً ، قال :
ولو جاء بأربعة شهداء أنه حد في الزنا سقط عنه
الحد .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم في هذه
المسألة يأتي على قياس قول سحنون في آخر
نوازله من كتاب الشهادات في أنه لا يثبت كتاب
القاضي إلى القاضي في الزنا إلا بأربعة شهداء
على رواية مطرف عن مالك في أن الشهادة على
الشهادة في الزنا لا تجوز فيها إلا أربعة على
كل واحد من الأربعة اجتمعوا في الشهادة على
جميعهم أو افترقوا مثل أن يشهد ثلاثة على
الرؤية ويغيب واحد فلا تثبت شهادته إلا بأربعة
وابن القاسم يجوز أن يشهد على شهادته اثنان ،
وهو مذهب ابن الماجشون ، فيأتي على قياس
قولهما أنه يجوز أن يشهد على كتاب القاضي في
الزنا شاهدان ، وأنه إذا جاء القاذف بشاهدين
يشهدان أن المقذوف قد حد في الزنا سقط عنه حد
القذف ، وهو الذي يوجبه القياس والنظر ، لأن
الشهادة قد تمت على الزنا بأربعة شهداء ، فلا
يحتاج إلا إلى إثبات قول القاضي على كتابه أو
على ضربه أنه إنما يضربه في الزنا ، فينبغي أن
يثبت ذلك من قوله في الزنا بما يثبت في غير
الزنا ، إذ لا
(16/341)
فرق بين
الموضعين فيما يلزم الشاهد في تحمل الشهادة
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن رجل قال لرجل من الموالي يا ساقط
، قال يضرب الحد ، قيل لابن القاسم فإن لجأ
إلى أمر يريده ؟ أما أنا فأرى أن يحلف ما أراد
نفيه .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم في هذه
المسألة أظهر من قول مالك لاحتمال أن يريد يا
ساقط المرتبة في النسب ، إذ لست من العرب ،
وحمله مالك من أنه أراد يا ساقط النسب كأنه
قال له لست من الموال ، ولو قال لرجل من العرب
يا ساقط لحد على قولهما جميعاً والله أعلم .
مسألة
وسمعت ابن القاسم وسئل عمن شهد عليه شاهد بشرب
الخمر وشهد عليه آخر بشرب النبيذ المكسر ،
فقال يضرب الحد ثمانين ، لأن شهادتهما قد
اجتمعت على المسكر .
قال محمد بن رشد : لفق ابن القاسم الشهادة في
هذا وإن كان كل وأحد من الشاهدين إنما شهد على
غير الشرب الذي شهد عليه صاحبه إذ لو شهدا
عليه بهذه الشهادة في موضع واحد لبطلت الشهادة
وسقط عنه الحد على ما قاله بعد هذا في سماع
أبي زيد ، وهو مثل قوله في سماع أبي زيد بعد
هذا ومثل روايته عن مالك في رسم القطعان من
سماع عيسى من كتاب الشهادات في أنه إذا شهد
رجلان على رجل بطلاق أو فرية أو شرب الخمر في
أيام مختلفة فقال هذا اشهد أنه طلق امرأته أو
رأيته يشرب الخمر أو قذف فلاناً في شوال وشهد
آخر على مثل ذلك إلا أنه قال في رمضان فإنه
يضرب في الفرية والخمر وتطلق عليه امرأته
وكذلك رأى ابن القاسم ، وإذا لفق ابن القاسم
(16/342)
الشهادة في
الشرب وإن كان فعلاً ، ومن مذهبه أن الأفعال
لا تلفق من أجل أن الشهادة في هذا على الفعل
مسندة إلى القول وهو المعبر فيها لأنه إنما
يحد في الشرب حد القذف من أجل أنه إذا شرب سكر
وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى كما قال علي بن
أبي طالب رضي الله عنه ، هذا وجه قول ابن
القاسم هذا وروايته عن مالك ، والقياس ألا
تلفق الشهادة في الشرب لأنه فعل كما لا تلفق
في سائر الأفعال ، وهو قول محمد بن مسلمة وابن
نافع وقد مضى بيان هذا كله في رسم أوصي ورسم
العرية ورسم القطعان من سماع عيسى من كتاب
الشهادات وبالله التوفيق .
من سماع أبي زيد من ابن القاسم
قال أبو زيد سئل ابن القاسم عن رجلين شهدا على
رجل بالزنا فقالا معنا شاهدان آخران فلان
وفلان ، وهما في البلد هل يمكنهما أن يأتيا
بهما أم يحدا إذ لم يأتوا جميعاً ، قال : أرى
أن يحدا وذلك لأن قولهما إنا رأينا فلاناً
يزني ومعنا فلان وفلان ، إنما يقولان سلوا
فلاناً وفلاناً عن تصديق ما قلنا ، فليس هذا
بوجه الشهادة إلا أن يأتوا جميعاً ،
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة متكررة
في أول رسم من سماع عيسى من كتاب الشهادات ،
وزاد فيها قد بلغني ذلك عن مالك ، وعلل ابن
القاسم تضعيف الشهادة وإيجاب الحد على
الشاهدين في هذه المسألة بعلتين ، إحداهما
تفرق الشهود في الشهادة فقال ليس وجه الشهادة
إلا أن يأتوا جميعاً ، والثانية قول الشاهدين
الذين شهدوا : معنا فلان وفلان لأنهما حصلا
قولهما هذا في معنى من قام على رجل في الزنا
وشهد عليه في ذلك فلا يجزيه أن يأتي بثلاثة
شهود سواه ويحد إلا أن يأتي بأربعة شهداء ،
فكذلك
(16/343)
هذان يحدان إن
لم يأتيا على تصديق شهادتهما عليه إلا بشاهدين
، وقوله فإن قالا نعم ثبتت شهادتهما وإن قالا
لا كانا قاذفين هو من قول أبن القاسم على سبيل
الإنكار بعد تمام ما حكي من معنى قولهما ،
كأنه قال تثبت شهادتهما إذا قالا نعم وإلا
كانا قاذفين ، هذا ما لا يصلح بل قاذفين على
كل حال ، وقد قيل إن الشهادة على الزنا جائزة
وإن تفرق الشهود لم يأتوا معاً ، وعلى هذا
القول يأتي ما وقع لابن القاسم في أول رسم
المكاتب من سماع يحيى من كتاب الشهادات وهو
قول ابن الماجشون ، واختلف أيضاً إن كان
الشهود في الزنا هم القائمون على المشهود عليه
به ، فقال ابن القاسم في رسم أوصى من سماع
عيسى من كتاب الشهادات إن شهادتهم لا تجوز ،
وحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ أن
شهادتهم جائزة وإن كانوا هم القائمين بذلك
مجتمعين جاءوا أو مفترقين إذا كان افتراقهم
قريباً بعضهم من بعض وبالله التوفيق .
مسألة
وقال من قال لرجل من مشاتمة ما أعرف أباك وهو
يعرفه ، قال : يضرب الحد ثمانين .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأنه
قد نفي أن يكون أبوه هو الذي يعرفه ، فقد قطع
نسبه منه ونفاه عنه .
مسألة
وقال في امرأة قالت لابنها لست ابن أبيك ، قال
: عليها الحد .
قال محمد بن رشد : وهذا بين أيضا كالمسألة
التي قبلها بل هي أبين منها في وجوب الحد إذا
قالت ذلك له في مشاتمة ، لأنها إذا قالت ذلك
له
(16/344)
في غير مشاتمة
أشبه قول الرجل في ولده ما أنت لي بابن يريد
في عصيانه إياه وما أشبه ذلك ، وبالله التوفيق
.
مسألة
ومن قال لجماعة من المسلمين والله ما ترون إلا
أني ولد زنا وأنتم أولاد حلال معرضاً باشتباه
هذا قال ينظر فإن كانت بينهم عداوة حلف ما
أراد حداً وإن لم تكن عداوة كانت بينهم حلف
أيضاً ولم يحد إذا قال ما أردت بذلك فاحشة .
قال محمد بن رشد : قوله ينظر فإن كانت بينهما
عداوة يقتضي الفرق بين أن تكون بينهما عداوة
أو لا تكون وهو قد ساوى بين ذلك بقوله إنه
يحلف في الموضعين ، فآخر كلامه يقضي على أوله
، وإنما لم ير عليه الحد إذ ليس بتعريض بين
لاحتمال أن يريد والله ما ترون إلا أني لست
ولد حلال كما انتم ، وفي قوله حلف ولم يحد ما
يدل على أنه إن نكل عن اليمين حد وفي هذا
الأصل اختلاف ، فالمشهور من قول ابن القاسم
فيه أنه ينكل إذا أبى أن يحلف بعد أن يسجن ،
وله في بعض المسائل أنه يحد إذا لم يحلف ، وهو
مذهب أشهب ، وقد مضى هذا المعنى في رسم الحدود
من سماع أصبغ قبل هذا وبالله التوفيق .
مسألة
وقال من قال لامرأته قد سرحتك من زنا ، قال :
يحد ولا طلاق عليه .
قال محمد بن رشد : قوله يحد ولا طلاق عليه
يريد إلا أن يلاعن على ما قاله في رسم سلف من
سماع عيسى ، وهذا على أحد قوليه في المدونة في
إيجاب اللعان بالقذف ، وفي قوله إنه لا طلاق
عليه نظر وكان القياس أن
(16/345)
يحد وتطلق عليه
امرأته لأن الظاهر من قوله قد سرحتك من زنا أي
قد سرحتك من أجل انك زانية ، ومن قال لامرأته
قد سرحتك فهي ثلاث في التي قد دخل بهاالا أن
ينوي واحدة ، وفي التي لم يدخل بها واحدة إلا
أن ينوي ثلاثاً ، وقد قيل إنها في التي لم
يدخل بها ثلاث أيضاً إلا أن ينوي واحدة كالتي
قد دخل بها ، وقد مضى هذا في رسم باع غلاماً
من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك
، وإنما قال إنه لا طلاق عليه لاحتمال أن يريد
بقوله قد سرحتك من زنا أي قد سرحت لك بأنك
زانية ، وإذا قلنا إن هذا معنى ما ذهب إليه
فيجب على أصولهم أن يحلف ما أراد إلا ذلك ،
وحينئذ يسقط عنه الطلاق فيجب أن يتأول قوله
على ذلك والله الموفق .
مسألة
وقال في رجل قال لرجل يا ساقط ، قال يحلف
بالله ما أراد قذفاً فإن حلف لم يكن عليه شيء
إلا الأدب إلا أن يقول يا ساقط يتتبع الولائم
وما أشبهه .
قال محمد بن رشد : قد مضى في آخر رسم الحدود
من سماع أصبغ من قول مالك إنه يحد في قوله يا
ساقط إذا قاله لرجل من الموالي ، فأحرى أن يحد
إذا قاله لرجل من العرب ، وقال ابن القاسم في
هذه الرواية إنه يحلف ولم يفرق بين أن يكون من
الموالي أو من العرب ، وظاهره أنه لا فرق بين
أن يكون من الموالي أو من العرب ، والأظهر أن
يفرق بينهما على ما حملنا عليه قوله في رسم
الحدود المذكورة ، وقوله إلا أن يقول يا ساقط
تتبع الولائم وما أشبهه يريد فلا يجب عليه
يمين لأنه يجب عليه الحد وبالله التوفيق .
مسألة
وقال في رجلين شهدا على رجل شهد أحدهما أنه
شرب خمراً
(16/346)
في رمضان وشهد
الآخر أنه شرب المسكر في شعبان ، قال : يضرب
الحد ، قيل له أرأيت إن شهدا بهذه الشهادة في
موضع واحد ؟ قال : لا يحد .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى الكلام
عليها في آخر رسم الحدود من سماع أصبغ فلا
معنى لإعادته .
مسألة
وقال في من قال لرجل يا محدود في الزنا : فإن
لم يأت بأربعة شهداء على أن الإمام جلده في
زنا جلد الحد .
قال محمد بن رشد : قد مضى الكلام على هذه
المسألة في آخر رسم من سماع أصبغ فلا معنى
لإعادته .
مسألة
وسئل عن رجلين تقاذفا فأرادا أن يتعافيا قبل
أن يبلغا السلطان ، قال : ذلك لهما ، وإن لم
يتعافيا إلا بعد أن يبلغا السلطان فليس ذلك
لهما ، فهو بمنزلة السرقة .
قال محمد بن رشد : هذا مثل أحد قولي مالك في
المدونة أن للمقذوف أن يعفو عمن قذفه ما لم
ينته الأمر إلى السلطان فإذا انتهي إليه لم
يجز عفوه عنه إلا أن يريد ستراً ، وقد مضى في
أول رسم من سماع أشهب الكلام على هذا المعنى
مستوفى وانه يتحصل فيه ثلاثة أقوال ، أحدها
أنه لا يتعلق بالقذف ، حق الله تعالى ،
فللمقذوف أن يعفو عمن قذفه وإن بلغ إلى
السلطان أراد ستراً أو لم يرده ، والثاني أنه
يتعلق به حق الله تعالى فلا يجوز للمقذوف أن
يعفو عمن قذفه بلغ السلطان أو لم يبلغ ،
والثالث قوله في هذه الرواية إنه لا يتعلق به
حق الله تعالى حتى يبلغ إلى السلطان فله أن
يعفو إن لم
(16/347)
يبلغ إلى
السلطان فإذا بلغ لم يجز له العفو عنه إلا أن
يريد ستراً وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن أربعة نفر شهدوا على رجل أنه زنى
بامرأة فأخذ الرجل وهربت المرأة ، قال شاهدان
رأيناه يزني بفلانة التي هربت ، وقال الآخران
رأيناه يزني بامرأة وشهادتهم معتدلة في موضع
واحد على أمر واحد إلا أنهما لا يدريان أهي
فلانة أو غيرها ؟ ولا يعرفان المرأة ، قال :
يحد الشهود جميعاً لأنهم قذفة للمرأة .
قال محمد بن رشد : قوله يحد الشهود جميعاً
لأنهم قذفة للمرأة معناه يحد الشهود جميعاً
للرجل لأن شهادتهم عليه بالزنا تسقط بقذفهم
للمرأة التي شهدوا أنها زنى بها إذ لم يعينها
منهم إلا اثنان ، ولو عينوها جميعاً أو لم
يعينها واحد منهم لجازت شهادتهم في الزنا وحد
حد الزنا ، وحدت المرأة أيضاً إن عينوها
جميعاً ، وإسقاط شهادتهم في الزنا بقذفهم
المرأة خلاف المشهور في المذهب من أن شهادة
القاذف لا تسقط إلا بعد إقامة الحد عليه ،
والذي يأتي في هذه المسألة على المشهور في
المذهب من أن شهادة القاذف لا تسقط إلا بعد
إقامة الحد عليه أن تجوز شهادتهم على الرجل في
الزنا فيحد بها حد الزنا ، وإن كان الاثنان
منهم قاذفين للمرأة التي شهدا أنه زني بها
وعرفاها فهربت ، وإن أتت فقامت بحدها عليهما
حداً لها ، وقد مضت شهادتهما قبل في الزنا على
الرجل ، وما ذهب إليه ابن القاسم في هذه
المسألة من أن القاذف تسقط شهادته بالقذف قبل
إقامة الحد عليه مثله لأصبغ في نوازله من كتاب
الشهادات ، ولابن الماجشون وسحنون وهو مذهب
الشافعي قال : هو قبل الحد شرمنه بعد الحد ،
لأن الحدود كفارات لأهلها فكيف تقبل شهادته في
شر حاليه ، وخالفه مالك وأكثر أصحابه وأبو
حنيفة وأصحابه ، وقد حمل
(16/348)
بعض أهل النظر
قوله يحد الشهود لأنهم قذفه للمرأة على ظاهرة
، واعترض المسألة فقال أنظر قوله يحد الشهود
فإنهم قذفة فإن من أصله ألا يحد في القذف
للغائب وهم إذا لم يحدوا كيف يستخرجوا ؟ فتدبر
ذلك ، والمعنى في المسألة إنما هو ما قد ذكرته
، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجل يؤخذ مع المرأة في بيت واحد وهما
متهمان ، قال : يضربان ضرباً جيداً وجيعاً ،
قيل له : بثيابهما ؟ قال : لا بل على حال تضرب
الحدود .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ،
وكذلك قال مالك في الذي يوجد مع قوم يشربون
الخمر وهو لا يشرب إنه يؤدب وإن قال إني صائم
ولا يلتفت إلى قوله .
مسألة
قيل له المرأة في ضرب الحد يكون عليها ثوبان ؟
قال : لا أرى بأساً بثوبين وينزع عنها ما سوى
ذلك .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة
وغيرها أنه ينزع عنها ما يقيها الضرب ويترك
عليها ما سوى ذلك ، وقد مضى في مساجد القبائل
من سماع ابن القاسم زيادات في هذا المعنى
وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم إذا شهد أربعة نفر بالزنا على
رجل ثم نزع واحد بعدما تمت الشهادة وانفذت :
إنه لا يضرب الحد إلا الذي نزع ، قيل له فإن
نزع أيضاً آخر بعد ذلك من الأربعة وذلك بعدما
أقيم عليه الحد ؟ قال يضرب الخامس الذي نزع
أولاً والرابع الذي
(16/349)
نزع آخراً ،
ولا شيء على الثلاثة الذين ثبتوا على الشهادة
، وكذلك لو رجم ثم نزع الخامس لم يكن عليه شيء
، فإن نزع أحد من الأربعة ضرب الخامس الذي نزع
والرابع الذي نزع وكان عليهما ربع الدية .
قال محمد بن رشد : أما إذا رجع الخامس من
الشهود في الزنا فسواء كان رجوعه قبل إنفاد
الشهادة بإقامة الحد أو بعد ذلك لا شيء عليه
كما قاله ابن القاسم في هذه الرواية ، وقد روي
عنه أن عليه الحد ، ذكر أن المواز اختلاف قوله
في ذلك وأن قول أشهب اختلف في ذلك أيضاً ،
واختار هو قوله ها هنا أنه لا حد عليه ، ولا
اختلاف في أنه لا شيء عليه من الدية إن كان
رجوعه بعد إقامة الحد عليه بالرجم ، وأما إن
رجع بعد ذلك أحد الأربعة فإن كان ذلك قبل
إقامة الحد عليه حد وأكلهم بدليل قوله في هذه
الرواية إنه لا يضرب إذ نزع أحدهم بعد ما تمت
الشهادة وأنفذت إلا الذي نزع وحده ، وقد قيل
إنه لا يضرب إذا نزع أحدهم إلا الذي نزع وحده
كان نزوعه ورجوعه قبل إقامة الحد أو بعده وهو
ظاهر قوله في المسألة التي بعد هذه ، قيل له :
فإن نزع أحد من الشهود الأربعة ؟ قال : يضرب
الذي نزع ، وهو الذي يوجبه النظر ، لأنه يتهم
أن ينزع عن الشهادات ليوجب الحد على ما شهد
معه ، وإنما يحد الشهود كلهم إذا شهد الثلاثة
منهم ولم يأت الرابع بالشهادة على وجهها وإن
كانت ذلك بعد إقامة الحد عليه حد وهو الخامس
الذي رجع قبله إن كان لم يحد ، ولا حد على
الثلاثة الذي ثبتوا على الشهادة ، ولا اختلاف
في هذا ، واختلف فيما يكون عليه وعلى الخامس
من الدية إن كان رجوعه بعد أن رجم فقال في هذه
الرواية إنه يكون عليهما ربع الدية ، وهو قول
مطرف وابن الماجشون وأصبغ ، وقيل يكون عليهما
خمسا الدية ، وهو قول ابن وهب وأشهب ، ولا
اختلاف في أن الدية تكون عليهم أخماساً إن
رجعوا كلهم وبالله التوفيق .
(16/350)
مسألة
قال ابن القاسم ولو أن رجلاً قذف رجلاً بالزنا
فلما أرادوا أن يقيموا عليه حد الفرية قال أنا
آتي بالمخرج مما قلت ، فأتى بأربعة شهداء
فشهدوا عليه ، قال يضرب المقذوف ولا شيء على
القاذف لأنه قد أتى بالمخرج مما قال ، قيل له
: فإن نزع أحد من الشهود الأربعة ؟ قال : يضرب
المقذوف ولا شيء على القاذف لأنه قد برئ أولاً
وتمت الشهادة ، فليس نزوع أحد الشهود بالذي
يوجب عليه الحد وقد برئ منه أولاً وكذا لو نزع
الأربعة ضربوا كلهم الحد ولا شيء على القاذف .
قال محمد بن رشد : قوله إذا أتى بأربعة شهداء
فشهدوا يضرب المقذوف الذي نزع يريد يحد حد
الزنا : الجلد إن كان بكراً أو الرجم إن كان
ثيباً ، وقوله ولا شيء على القاذف لأنه قد أتى
بالمخرج مما قال وهو كما قال بدليل قوله تعالى
: { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة
شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} لأن فيه دليلاً
هو كالنص لإجماع العلماء عليه أنه إن أتى
بأربعة شهداء سقط عنه الحد ، وأما قوله إنه إن
نزع أحد الشهود الأربعة يضرب الذي نزع ولا شيء
على القاذف فمعناه يضرب الذي نزع وحده ولا شيء
على القاذف وذلك إذا رجع واحد منهم بعد أن
شهدوا كلهم وتمت الشهادة ، وكذلك إن رجعوا
كلهم بعد أن شهدوا وتمت الشهادة ، وأما إن رجع
واحد منهم قبل أن تتم الشهادة مثل أن يشهد
ثلاثة فيرجع الواحد منهم ثم يأتي الرابع فيشهد
فإنهم يحدون كلهم إذ لم تتم الشهادة ويحد
القاذف إلا أن يأتي
(16/351)
بأربعة شهداء
سواهم لأن الشهادة إذا تمت فقد سقط بتمامها
الحد عن القاذف ووجب الحد على المشهود عليه ،
فإن رجع واحد منهم بعد ذلك أو رجعوا كلهم لم
يصح أن يرجع برجوع من رجع منهم عن الشهادة
الحد على القاذف الذي قد سقط عنه ، ولا أن يحد
المشهود عليه وقد رجع بعض الشهود عليه عن
الشهادة ، فهذا وجه القول في هذه المسألة
وبالله التوفيق .
مسألة
وقال في رجل ضرب عبده الحد في الزنا بالدرة
قال إن كان ضربه بها الظهر أجزأه ، وما هو
بالبين .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول على هذه
المسألة في رسم العتق من سماع عيسى فلا معنى
لإعادته .
مسألة
وسئل عن البكر زيني فيوجد بمكة وهو محرم حاج
أترى إذا أقيم عليه الحد أن ينفى وهو محرم ولا
يترك يحج ؟ قال : نعم ينفى ولا ينتظر به أن
يفرغ من الحج .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأن
التغريب على البكر الزاني من تمام الحد الذي
أوجبه الله على لسان رسوله ، فتعجيله واجب لا
يصح أن يؤخر من أجل إحرامه بالحج ولعله إنما
أحرم به فراراً من السجن ، وقد كان مالك إذا
سئل في شيء من الحدود أسرع الجواب وأظهر
السرور وقال بلغني أنه يقال لحد يقام بأرض خير
من مطر أربعين صباحاً ، وإذا سجن في ذلك بما
أوجبه الله تعالى عليه على لسان رسوله كان
حكمه كحكم المحصر بمرض لا يحل من شيء من
إحرامه حتى يطوف بالبيت ، فإن بقي على إحرامه
إلى حج قابل فحج به لم يكن عليه هدي ، وإن حل
بعمرة قبل أن يحج كان عليه قضاء الحج وهدي عن
تحلله من إحرامه بالعمرة
(16/352)
ينحره في حج
القضاء لقوله تعالى : {فإذا أمنتم فمن تمتع}
الآية فهذا الهدي على مذهب مالك هو الهدي
الأول ، وعند عروة بن الزبير وجماعة من
العلماء أن الهدي الأول غير الثاني ، وأن
الأول يجب له به لبس الثياب وإلقاء الثفت وهو
بموضعه إذا وصل الهدي إلى مكة بميعاد يضربه ،
والثاني لفوات الحج وتحلله بالعمرة وبالله
التوفيق .
مسألة
وقال في رجلين كانت بينهما منازعة فقال أحدهما
لصاحبه إنما أكرمك لكرامة ابنك ، وكثير من
جيرتك يكرمونك لولدك قال فمن أكرمني لابني فهو
ابن الفاعلة ، قال : ينظر فإن كان ذلك أمراً
معروفاً لا شك فيه إنما يكرم لولده ضرب الحد
وإلا فلا شيء عليه ، ونزلت .
قال محمد بن رشد : المعنى عندي في هذه المسألة
أن الذي قال إنما أكرمك لكرامة ابنك ادعى لما
قال فمن أكرمني لابني فهو ابن الفاعلة فهو
إنما أكرمه لابنه فقال إن كان ذلك أمراً
معروفاً لا شك فيه أنه إنما يكرم لولده ضرب
الحد أي صدق فيما ادعاه من أنه إنما أكرمه
لابنه فوجب عليه الحد دون يمين على ظاهر هذه
الرواية لأنها يمين تهمة وقد سقطت التهمة عنه
في ذلك يكون إكرام الناس له بسبب ابنه أمراً
معروفاً لا شك فيهن وهذا من معنى ما تقدم في
رسم استأذن من سماع عيسى وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجل قال لرجل يا مرائي ما ترى عليه ؟
قال على
(16/353)
قدر ما يرى
الإمام ، أرأيت لو قال رجل لليث بن سعد يا
مرائي وقال لي مثل ذلك أكنت ترى أن يضرب الذي
قال لي مثل ربع ما يضرب الذي قال لليث ؟ ومن
الناس ناس لو قيل لهم ذلك لرأيتهم لذلك أهلاً
.
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأن
الإذاية بالشتم فيما دون الحد العقوبة فيه على
قدر حال القائل والمقول له ، وضرب ابن القاسم
المثل في هذا بنفسه مع الليث بن سعد تواضعاً
منه وإقراراً بموضع الليث بن سعد من الجلالة
والفضل ، وله من الجلالة والفضل والورع ما
يستوجب به قائل ذلك أشد ما يستوجب من قال لأحد
من الناس ذلك القول وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم في رجل قالت له امرأته زنيت
بجاريتي أو بجارية فلان ثم نزعت وقالت حملتني
على ذلك الغيرة ، قال : لا حد عليها ، وقد قال
مالك في امرأة قالت لزوجها رأيتك تلوط بصبي ،
قال فلم ير عليها الحد .
قال محمد بن رشد : المسألة التي لم ير مالك
فيها الحد على المرأة بقولها لزوجها رأيتك
تلوط بصبي هي نازلة نزلت في زمنه وقعت في
الثمانية بكمالها من رواية مطرف قال : ولقد
كانت عندنا بالمدينة امرأة لها زوج فكان يدخل
عليها كل يوم ومعه صبي فيرقى به في سطح ويكون
معه ويقعد ثم يخرج فيذهب ، فكانت امرأته تقول
له ما شأن هذا الصبي يرقى معك إلى السطح كل
يوم وكأنها اتهمته ؟ فاعتذر لها وقال : هو ابن
صديق لي ، وإنما
(16/354)
أقعد معه أتحدث
ومثل ذلك من العذر ، وإن زوجها جاء به يوماً
فصعد به إلى السطح فذهبت ما يصنع ؟ فوجدته على
الصبي فذهبت به إلى الأمير فرفعت ذلك إليه
وأعلمته بالقصة ، فاستشار الأمير فيها فقهاء
المدينة المغيرة وغيرهم ، فكلهم قال أرى أنها
قد رمته بحد فنرى عليها الحد ولا نرى عليه
شيئاً إذ لم يكن إلا قولها واستشار فيها
مالكاً وبعث إليه بالمرأة فأخبرته بالخبر ،
فأشار عليه مالك أن يخلي سبيلها وأن يضرب
زوجها خمسة وسبعين سوطاً ، قال فخلاها وضربه
خمسة وسبعين سوطاً ، وقال أصبغ مثل قول مالك ،
وقال هو الحق والصواب إ ، شاء الله ، وإنما
أسقط الحد عنها المغيرة وقد جاء عن النبي عليه
السلام إن الغيرة ألا تدري أين أعلى الوادي من
أسفله ، قال أصبغ الغيرة شبه الجنون ، ولا أظن
ضربه مالكاً إلا بأمر قد أقر به على نفسه قال
أصبغ فالغيرة شبهتها التي سقط عنها بها الحد ،
ولو كانت غير زوجة كان عليها الحد ، وبهذا
المعنى أسقط ابن القاسم الحد عن التي قالت
لزوجها زنيت بجاريتها أو بجارية فلان ثم نزعت
والله الموفق .
مسألة
قال في رجل قال رأيت امرأتي في لحاف واحد مع
رجل إنه يؤدب وكذلك الرجل يقول لامرأته رأيت
على بطنها رجلاً إنه يؤدب أدباً شديداً ولا
يبلغ به الحد .
قال محمد بن رشد : أما إذا قال رأيت امرأتي في
لحاف واحد مع رجل أو رأيت امرأة أجنبية مع
فلان في بيت فبين أنه لا حد عليه ، وأما إذا
قال رأيت رجلاً على بطن امرأتي أو على بطن
فلانة لأجنبية فإنه يشبه أن يكون ذلك من
التعريض الذي يجب فيه الحد ، فقد قال في
المدونة في الذي قال
(16/355)
جامعت فلانة
بين فخديها أو في أعكانها إنه من التعريض الذي
يجب فيه الحد فالذي يجيء على أصله في المدونة
إذا قال رأيت فلاناً على بطن امرأتي أو على
بطن فلانة لأجنبية ألا يؤدب إلا بعد أن يحلف
أنه ما أراد بذلك تزنيتها وإن نكل عن اليمين
أدب أدباً شديداً لا يبلغ به الحد وعلى أصل
أشهب يحد إذا نكل عن اليمين ، وقد مضى هذا
المعنى في رسم الحدود من سماع أصبغ .
مسألة
وقال في رجل قال لرجل ألا تستحي وأنت في عيال
زوج أمك ؟ فقال أنا أقذفك بالزنا إن كنت في
عيال زوج أمي ، قال ابن القاسم إن وجد بينة
أنه في عيال زوج أمه ضرب الحد ، وإن لم تكن له
بينة أدب .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، لأن من قال
إن كان كذا وكذا لشيء يعلم أن ذلك الشيء كذلك
ففلان زان أو ولد زنا فعليه الحد فكذلك هذا
أثبت المقول له أن القائل في عيال زوج أمه حد
له حد القذف لأنه قد حصل قاذفاً له بوجود
الشرط الذي قذفه به وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم : لا يضرب السكران الحد حتى
يفيق ، قيل له فإن خشي الإمام أن تأتيه شفاعة
فيبطل حداً من حدود الله أترى أن يضربه وهو
سكران ؟ قال : لا .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال وهو لا اختلاف
فيه ، لأن السكران إذا لم يكن معه عقله لا يجد
ألم الضرب ، ولم يقل إن فعل هل يجزيه من الحد
أم لا ؟ والذي أقول به إن كان مستغرقاً في
السكر قد بلغ منه
(16/356)
إلى حد لا يعرف
فيه الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة فلا
يجزيه ، ويحد إذا أفاق ، وإن كان ممن يخطئ
ويصيب ويميز بعض الميز فلا يعاد عليه الضرب
إذا أفاق وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن عجين عجن بدردي ، وذلك أنه لم توجد
خميرة تجعل فيه أترى أن يؤكل ؟ قال : يطرح ولا
يؤكل ، والدردي الخاتر الذي يكون في قاع القلة
من النبيذ .
قال محمد بن رشد : يريد دردي النبيد الذي يسكر
، لأن حكم دردي النبيذ الذي يسكر حكم النبيذ
المسكر ، كما أن حكم دردي الخمر حكم الخمر ،
فكما لا يجوز أن يعجز العجين بالخمر ولا
يدردية ويطرح أن عجز بذلك ، فكذلك يطرح على
مذهبه إذا عجن بدردي النبيذ المسكر أو بالنبيذ
المسكر ، ,إنما يخالف في هذا أهل العراق الذين
يقولون إن ما دون المسكر من الأنبذة المسكرة
حلال ويرد قولهم السنة الثابتة عن النبي عليه
السلام المنقولة نقل التواتر ما أسكر كثيره
فقليله حرام ولو لم ترد في ذلك سنة لوجب تحريم
قليل الأنبذة المسكرة وكثيرها بالقياس على
الخمر لوجود علة التحريم فيها وهي الإسكار
الذي يوجب العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله
والصلاة ، وقد نص الله تعالى على هذه العلة في
قوله : {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم
العداوة والبغضاء} الآية وبالله التوفيق .
تم كتاب الحدود والقذف بحمد الله .
(16/357)
|