التنبيه
على مبادئ التوجيه - قسم العبادات باب في الصلاة على
الدابة
ومن اضطر إلى الصلاة على الدابة لعدم القدرة على النزول إما لمرض أو لخوفه،
صلى الفريضة عليها. فإن قدر على التحول إلى القبلة تحوّل، وإلا سقطت في
حقه. فإن أمن الخائف في الوقت فهل يعيد؟ قولان: أحدهما: أنه يعيد في الوقت.
وهذا لظهور الأمن في الوقت. وحقه أن يؤخر إليه. والثاني: أنه لا يعيد
قياساً على الخائف من العدو. وإن قدر المريض على النزول إلى الأرض وكانت
صلاته بالأرض أكمل من صلاته على الدابة، فلا خلاف أنه يجب عليه النزول. فإن
لم يفعل بطلت صلاته. وإن تساوت حالاته وكانت صلاته على الدابة كصلاته على
الأرض لأنه لا يمكنه الإيماء، فهاهنا قولان: أحدهما: أنه ينزل لقوله عليه
السلام: "جُعِلَتْ لِيَ الأَرضُ (1) مَسجداً وَطَهُوراً" (2). والثاني: أنه
لا ينزل لتساوي حالته. والحديث محمول على بيان جواز الصلاة (3) بكل مكان من
غير اختصاص بمكان مخصوص. وقد حمل أبو محمد بن أبي زيد على المدونة أنه متى
تساوت حالته صلى على الدابة. وإنما تكلم في الكتاب على أنه مختلف الحالة،
وحمل عليها غيره من الأشياخ أنه ينزل وإن تساوت حالته حتى يباشر الأرض
ليظهر التواضع. وهذا الكلام في الفرض.
وأما النافلة فلا يصلي عندنا على الدابة اختياراً في الحضر والسفر الذي لا
تقصر فيه الصلاة، وقد ثبتت في رخص الشريعة. وهي على ثلاثة أقسام: قسم تقرر
الإجماع أنه لا يختص بالسفر كأكل الميتة للمضطر ومسح الجبيرة، عند من
أجازه. وقسم تقرر الإجماع على اختصاصه بالسفر كقصر الصلاة والفطر في رمضان.
وقسم اختلف في اختصاصه وعدم اختصاصه كالمسح على الخفين. وقد تقدم الخلاف
فيه. والتيمم تقدم الخلاف فيه
__________
(1) في (ر) الأرض كلها.
(2) أخرجه البخاري في الصلاة 438، والترمذي في الصلاة 317 واللفظ له.
(3) إلى هنا انتهت نسخة (ص).
(1/430)
أيضاً. وتبديل هيئة الصلاة للخوف، وقد
اختلف الناس فيه، وفي المذهب قولان.
والجمع في السفر لا اختلاف في تخصيصه من حيث الجملة، لكنه اختلف المذهب هل
(1) يختص بسفر القصر أو يعم كل سفر.
وأما الجمع للمريض فإنه مما يعم السفر والحضر. والجمع للمطر (2) اختلف
الناس فيه (3)، والمذهب جوازه. وإذا أجزناه عم الحضر والسفر.
وأما ما نحن بسبيله هو التنفل على الدابة؛ فيختص عندنا بالسفر كما تقدم إذ
لم يثبت في غير سفر وإنما ورد في السفر. فإذا ثبت جوازه فلا يتعدى به ما
ورد. ولهذا لا يؤمر المصلي على الدابة بالركوع والسجود، بل يجزيه الإيماء.
وإن أمكنه التربع في موضع القيام والتهيئ للإيماء والتورك في موضع الجلوس
فعل، وإلا سقط عنه ذلك. ويصلي حيث ما توجهت به دابته، ولا يلزمه التوجه
للقبلة للإحرام ولا في غيره إذا كان توجهه إلى غير القبلة. لكن يجعل المكان
الذي توجه إليه كالقبلة في حقه فلا يلتفت عنه. وقد حمل قوله تعالى:
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (4)، على التنفل على
الدابة. وله أن يضرب الدابة التي تحته أو غيرها إن احتاج إلى ذلك ويركض ما
تحته، لكن يلزم ترك الكلام، وهذا لأنه يفعل ما هو من مصلحة سفره بحسب ما
تدعو الضرورة إليه ويترك ما لا تدعو إليه الضرورة.
...
__________
(1) في (ق) والاختلاف في اختصاصه بالسفر لكنه اختلف هل، وفي (م) الجمع في
السفر ولا اختلاف فيه في تخصيصه لكنه اختلف هل، وفي (ر) ولا خلاف في
اختصاصه بالسفر في الجملة لكنه اختلف المذهب هل.
(2) في (ر): للمرض.
(3) في (م) وأما الجمع للمطر فإنه مما يعم السفر والحضر والجمع للمطر
واختلف الناس فيه، وفي (ر) وأما الجمع للمريض فإنه مما يعم السفر والحضر
والجمع للمرض اختلف الناس فيه، وفي (ت) وأما الجمع للمرض فإنه مما يعم
السفر والحضر والجمع للمطر واختلف الناس فيه.
(4) البقرة: 115.
(1/431)
فصل (هل تقاس
السفينة على الدابة)
وقد (1) ثبت جواز صلاة النافلة إلى غير القبلة على الدابة. وهل يجوز ذلك في
السفينة إذا دعت الضرورة إليه؟ فيه قولان: المشهور منعه، والشاذ جوازه.
ومبناه على الخلاف في القياس على الرخص هل يقاس عليها أم لا؟ فمن منع منه
جاء منه (2) ما في المشهور، ومن أجازه جاء منه الشاذ.
(جواز التنفل جلوساً)
ولا خلاف (3) في جواز ترك القيام في النافلة. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه
وسلم - أنه كان يصليها جالساً مع القدرة على القيام، وأخبر أن صلاة الجالس
على النصف من صلاة القائم (4). لكن اختلف أهل المذهب هل انحطاط الأجر مختص
بالقادر لأنه تارك (5) لحظه من القيام، أو يعم القادر والعاجز لعموم
الحديث؟ فهذا إذا افتتح الصلاة جالساً.
ولو افتتحها قائماً ثم شاء الجلوس؛ ففي المذهب قولان: أجازه في الكتاب (6)،
ومنعه أشهب.
وسبب الخلاف هل تمادي القيام كالعمل المتصل فيلزم تمامه على ما ابتدأ به
قياساً على صلاة النافلة والصوم والحج، أو كل جزء من القيام
__________
(1) في (ق) و (ت) وإذا.
(2) في (ق) و (ت) فيمن جاء منه.
(3) في (ت) ولا خلاف نعلمه.
(4) أخرج مسلم في صلاة المسافرين 735 واللفظ له، والنسائي في قيام الليل
1659 عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرو قَالَ: حُدِّثتُ أَنَ رَسُولَ الله -
صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "صَلاَةُ الرَّجُل قَاعِداً نِصْفُ الصَّلاَة"
قَالَ: فَأَتيتُهُ فَوَجَدتُهُ يُصَلي جَالِساً فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى
رَأْسِهِ فَقَاَل: "مَا لَكَ يَا عَبدَ الله بنَ عَمرو؟ " قُلْتُ:
حُدِّثْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ قلتَ: "صَلاَةُ الرّجُلِ قَاعِداً
عَلَى نِصْفِ الصلاةِ" وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِداً؟ قَالَ: "أَجَلْ
وَلَكِنَّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ".
(5) في (ق) هل الخطاب الآخر مختص بالقادر لأنه لا تارك.
(6) المدونة: 1/ 79.
(1/432)
عبادة قائمة بنفسها فلا يلزمه تمامه على ما
ابتدئ به إلا أن ينذره بلفظه؟ (1) ولا شك أن من افتتح الصلاة جالساً فله
القيام، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفعله (2).
(الخلاف في التنفل للمضطجع)
وهل يجوز التنفل مضطجعاً؟ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجوز على الإطلاق؛
لأنها صفة لم ترد. والثاني: جوازه على الإطلاق، قياساً على ترك فرض القيام،
وأيضاً فلما ورد في بعض الطرق من أن صلاة القائم على النصف من صلاة الجالس
(3)، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة الجالس (4). لكن بين الأصوليين خلاف
في زيادة العدل هل تقبل أم لا؟ والثالث: جوازه لمن لا يمكنه الجلوس دون
القادر، قياساً على صلاة الفرض.
وكذلك اختلف في جواز الإيماء في النافلة مع القدرة على الركوع والسجود؛
فقيل: يجوز قياساً على ترك القيام [في النافلة] (5)، وقيل: يُمنع إذ لم يرد
إلا في السفر على الدابة.
وفي الكتاب لا بأس بالاحتباء في النوافل للجالس بعقب تربعه (6).
__________
(1) في (ر) فلا يلزم إلا أن ينذر بلفظه.
(2) أخرج البخاري في الجمعة 1118، ومسلم في المسافرين 731 واللفظ له عَنْ
عَلْقَمَةَ ابْنِ وَقاصِ قالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: كَيفَ كَانَ يَصْنَعُ
رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ؟
قَالَت: كَانَ يَقرَأُ فِيهِمَا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ
فَرَكعَ.
(3) في (ق) و (ت) صلاة القائم نصفها صلاة الجالس.
(4) ورد الحديث بعدة ألفاظ منها ما أخرجه الترمذي في سننه من كتاب الصلاة
372 عن عمران بن حصين قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة
الرجل وهو قاعد فقال: "من صلى قائماً فهو أفضل ومن صلى قاعداً فله نصف أجر
القائم ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد" قال: وفي الباب عن عبد الله بن
عمرو وأنس والسائب وابن عمر قال أبو عيسى: حديث عمران بن حصين حديث حسن
صحيح.
(5) ساقط من (ر) و (ق).
(6) المدونة: 1/ 79.
(1/433)
ومن صلى فرضه جالساً وهو يقدر على القيام
أعاد أبداً. وقد روي بعقب تربعه بالباء، وقد روي تعقب تربعه بالتاء المعجمة
باثنتين (1). فالرواية الأولى تقتضي أنه يحتبي بعد التربع. والثانية: تقتضي
أنه يتنقل من التربع إلى الاحتباء ومن الاحتباء إلى التربع. على أن معنى
الروايتين متقاربة في التحقيق.
...
باب صلاة الإمام أرفع مما عليه أصحابه (2).
وروي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلي الإمام على شيء أرفع
(3) مما عليه أصحابه. وكأنه أشار بذلك إلى ما أحدثه بعده بنو أمية من
التكبر عن مساواة الناس، وكانوا يتخذون موضعاً مرتفعاً عن محل من يقتدون
(4) بهم تكبراً وعبثاً. ولا خلاف في المذهب أن القصد إلى ذلك محرم، وأنه
متى قصد ذلك (5) بطلت الصلاة. وكذلك قالوا: لو صلى المقتدون على موضع مرتفع
قصداً في التكبر عن المساواة فإن صلاة المقاصد إلى ذلك باطلة. فإن صلى
الإمام غير قاصد إلى التكبر؛ فإن كان الارتفاع يسيراً صحت الصلاة بلا خلاف.
وإن كان الارتفاع كثيراً فللمتأخرين قولان: صحة الصلاة أخذاً من قوله في
تعليل البطلان "لأن هؤلاء يعبثون". وقيل بالبطلان لعموم النهي في الحديث
المتقدم.
ولو ساوى الإمام قوماً في الارتفاع وصلى غيرهم على موضع (6)
__________
(1) في (ق) بعقب تربعه بالباء تعقب تربعه بالتاء المعجمة باثنتين.
(2) في (ص) من خلفه.
(3) في (ر) و (ت) أنشر.
(4) في (ق) و (ت) يقتدى.
(5) في (ق) قصد إلى التكبر عن المساواة بطلت صلاته.
(6) في (ر) موضع غير مرتفع.
(1/434)
مرتفع. فإن قصد المرتفعون التكبر بطلت
الصلاة، وإن لم يقصدوا ذلك ففي إعادة الصلاة في الوقت قولان. وهكذا قال ابن
حبيب في الإمام يصلي في السفينة يقوم قوم معه في مكان وقوم فوق السفينة أن
المرتفعين يعيدون في الوقت. ويحتمل أن يريد بالإعادة أنهم لا يرون فعل
الإمام.
وقد اختلف قوله في المدونة في الإمام يصلي في المسجد ويصلي قوم فوق المسجد
بصلاته فكرهه مرة وأجازه أخرى. وعلة الكراهية بالبعد عن الإمام وتفرقة
الصفوف وعدم التحقيق لمشاهدة أفعال الإمام. فعلى هذا يكون الجواز إذا قرب
أعلى (1) المسجد من أسفله، فيكون خلاف (2) في حال. وكذلك كره في [الكتاب]
(3) الصلاة على أبي قبيس (4) وقعيقعان (5) بصلاة الإمام في المسجد الحرام
(6).
واختلف الأشياخ في صلاة من فعل ذلك؛ فمنهم من قال: بالصحة، ومنهم من قال:
بالبطلان، وهو خلاف في حال. فإن أمكنهم مراعاة فعل الإمام صحت الصلاة، وإن
تعذر عليهم ذلك بطلت الصلاة، وهذا يعلم بالمشاهدة.
وكره في الكتاب الصلاة بين يدي الإمام في دور محجورة (7)، وأجازه إن كان في
دور دبر القبلة إذا كانت هناك كوى ينظرون منها إلى أفعال الإمام. وفي هذا
تفرقة الصفوف. وقد أجيزت إذا تقارب الموضعان (8) نحوه كالنهر والطريق
الصغير.
__________
(1) في (ق) فوق.
(2) في (ت) الخلاف.
(3) ساقط من (ق).
(4) قال في معجم ما استعجم 3/ 1040: "أبو قبيس الجبل المعلوم بمكة". وهو
جبل يطل على الحرم المكي من جهة الصفا والمروة.
(5) قال في معجم ما استعجم 3/ 1086: "قعيقعان على لفظ تصغير قعقعان جبل
بمكة".
(6) المدونة: 1/ 82.
(7) أي دور خاصة لا تفتح للعموم.
(8) في (ت) الصفوف الموضعات.
(1/435)
وأجازوا لمن في السفن أن يجتمعوا على
الإئتمام بإمام في إحداهما؛ فإن استصحبوا الدوام أتموا صلاتهم، وإن فرقهم
الريح كانوا كمن طرأ على إمامهم ما يمنعه الائتمام (1) فيستخلفون لأنفسهم.
وإن صلوا أفراداً صحت صلاتهم، وإن اجتمعوا بعد التفريق والإمام لم يكمل فلا
يرجعون إلى إمامته، ويجزيهم التمادي على ما هم عليه. [قالوا] (2) بخلاف
المأموم يظن أن إمامه أكمل فيقوم يقضي لنفسه، ثم تبين له أن الإمام لم يكمل
فإن هذا لا يعتد بما فعله قبل إكمال الإمام ويرجع إلى اتباعه إن بقي له من
الصلاة شيء. والفرق ظهور عذر من في السفن وتفريط الظان لإكمال الإمام.
...
فصل (حكم الصلاة بالمسمع)
وهل تجوز الصلاة بالمسمع؟ للمتأخرين ثلاثة أقوال: أحدها: صحة الصلاة لأنه
نائب عن الإمام، فعله كفعله. وعمدتهم اقتداء أبي بكر رضي الله عنه بالنبي -
صلى الله عليه وسلم - واقتداء الناس بأبي بكر وهو كالمسمع (3). وهذا يدل
على أن أبا بكر خرج عن الإمامة، ولأن العمل استمر في سائر الأمصار على تكرر
الإعصار على الصلاة بالمسمع. والثاني: بطلان الصلاة لأنه إنما شرع الإقتداء
بالإمام لا بعوض منه. والثالث: صحة الصلاة إن أذن الإمام للمسمع، فحينئذ
يكون كوكيله، وبطلانها إن لم يأذن له إذ لا تصح الوكالة من غير إذن.
وكذلك اختلفوا على هذا في صحة صلاة المسمع نفسه لنفسه.
...
__________
(1) في (ت) ما يمنع الإكمال.
(2) ساقط من (ت).
(3) انظر البخاري في الأذان 712.
(1/436)
باب في أحكام
الإمامة
(من الأحق بالإمامة)
ويفتقر الإمام إلى صفتين بعد حصول البراءة عن النقص الذي نذكره بعد.
والصفتان: العلم والورع؛ فبالعلم يحصل الأداء، وبالورع تحصل الشفاعة. وقد
قال - صلى الله عليه وسلم -: "أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون به"
(1). فإذا وجد من فيه هاتين الصفتين قدم، وإن شاركه غيره فيهما نظر إلى غير
ذلك من الفضائل الشرعية والخلقية والمكانية؛ فالشرعية كالشرف في النسب
والسن، والخلقية ككمال الصورة، ويلحق به حسن اللباس، والمكانية كمالك رقبة
الدار ومنافعها.
وإذا اجتمع الأقرأ والأعلم، فالأعلم هو المقدم عندنا على الأقرأ. وما ورد
عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "يَؤُمُّ القَوْمَ أَقرَؤُهُم" (2)،
محمول عند العلماء على أن الأقرأ في ذلك الزمان هو الأعلم إذ كانوا يتعلمون
مع التلاوة ما يتعلق بها من الأحكام والمعاني.
فإن اجتمع فقيه وصالح فالفقيه أولى، إذا لم يكن فيه مانع يمنع الإجزاء على
ما نذكره.
وإن اجتمع الأصلح والأفقه فلم أر في المذهب نصاً في هذه المسألة. وللشافعية
قولان: أحدهما: تقديم الأفقه مراعاة لقدرته على مراعاة إصلاح ما يعرض له
(3) في الصلاة من المفسدات الشواذ. والثاني: تقديم الأصلح إذا كان قِبَلَهُ
من الفقه (4) ما يمكن به أداء الصلاة وإصلاح ما يعرض له فيها
__________
(1) لم أقف عليه.
(2) أخرجه مسلم في المساجد 673 واللفظ له، والترمذي في الصلاة 235 كلاهما
عن أبي مسعود الأنصاري. وقال الترمذي: "حدِيثُ أَبِي مَسْعُود حَدِيث
حَسَنٌ صَحِيحٌ".
(3) في (ت): ما يعرضه.
(4) في (ر): التفقه.
(1/437)
من المفسدات المتكررة والتي (1) ليست شاذة
جداً. وكان هذا التفاتاً إلى مراعاة الطوارئ البعيدة، وفي المذهب في
مراعاتها قولان. وظاهر ما قدمناه أن من كان فقيهاً صالحاً شريفاً في نسبه
(2)، كبيراً في سنه، كامل الصورة، حسن اللباس، عارفاً بالقرآن، مالكاً
للموضع إن كان الموضع مملوكاً؛ هو أولى بالإمامة. فإن نقص من هذه وكان أكمل
من غيره قدم.
ومتى اجتمع من تساوت صفاتهم فتشادوا على المتقدم أقرع بينهم إذا كان
مطلوبهم حيازة فضل الإمامة لا طلب الرئاسة الدنيوية.
...
فصل (النقص المانع من الإجزاء في الإمامة)
وأما النقص المانع من الإمامة فهو على قسمين: نقص يمنع الإجزاء، ونقص يمنع
(3) الكمال.
فأما ما يمنع الإجزاء فهو نوعان: نوع يرجع إلى الخَلْقِ، ونوع يرجع إلى
الخُلُقِ.
فأما ما يرجع إلى الخَلق فهو صنفان: صنف يمنع إكمال الفرض، وصنف لفقد
الذكورية.
وما يمنع إكمال (4) [الفرض] (5) قسمان: قسم يمنع أحد الأركان كعلة تمنع
القيام أو الركوع أو السجود أو جميع ذلك، وقسم يمنع النطق بالقراءة على
حقيقتها.
__________
(1) في (ق) و (ت) أو اللتي.
(2) في (ق) نسبه.
(3) في (ت) قسم يمنع الإجزاء وقسم يمنع.
(4) في (ر) الكمال.
(5) ساقط من (ق).
(1/438)
وأما ما يرجع (1) إلى الخُلُق صنفان: صنف
يرجع إلى الاعتقاد، وصنف يرجع إلى الجوارح.
وقد يحصل من هذا خمسة أقسام:
أحدها: ما يمنع كمال أحد الأركان أو جميعها. فإن منع القيام فهل تصح
الإمامة أم لا؟ أما إن كان (2) المقتدون به قادرون على القيام فالمشهور من
المذهب أن الاقتداء به لا يصح. وهذا لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من
قوله: "لا يؤم أحد (3) بعدي جالساً" (4). والشاذ: صحة الاقتداء به. ويفعل
المقتدون به من القيام ما يقدرون عليه. وهذا لما روي من صلاته - صلى الله
عليه وسلم - في مرضه بالناس وهو جالس وهم قيام. لكن اختلف فيمن كان إماماً
هل أبو بكر أو النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدمت الإشارة إليه. وإن
كان المقتدون به عاجزين كعجزه فقولان: أحدهما: صحة الاقتداء به لتساوي
الحالات ولا مخالفة، والثاني: عدم الصحة لقوله: "لا يؤم أحد بعدي جالساً".
وإذا صححنا الإقتداء به فصح (5) بعض المقتدين فما يفعل؟ قولان: قيل يقوم
فيتم لنفسه فذا؛ لأنه افتتح الصلاة بوجه (6) جائز، ولا يصح إتمامه مقتدياً.
والثاني: أنهم يتمون معه الصلاة قائمين. وهذا تعويلًا على صحة الإقتداء به
أولاً، ومراعاة (7) لقول من يقول يجوز الاقتداء بالجالس وإن كان المقتدي به
قائماً. ويجري فيه قول ثالث: أنه يقطع الصلاة كالأمة تعتق في الصلاة وليس
عليها ما يستر عورة الحرة.
وإن فقد الإمام عضواً من الأعضاء التي يسجد عليها كقطع اليد
__________
(1) في (ت) و (ق) وما يرجع.
(2) في (ق) أو كان.
(3) في (ت) أحدكم.
(4) لم أقف عليه إلا عند ابن عبد البر 6/ 142، والشافعي في الأم 7/ 200
بلفظ قريب.
(5) في (ق) فصح فرض بعض.
(6) في (ر): بأمر.
(7) في (ق) لتساوي مراعاة.
(1/439)
فالمشهور من المذهب أن ذلك لا يمنع الإجزاء
لأنه يكمل الفروض. وظاهر رواية ابن وهب أنه يمنع الإجزاء لأنه قال: لا يصلى
وراءه، واحتج بالحديث: "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء" (1)، وذكر منها
اليدين. فإن كان لا يقدر على الإيماء واضطجع (2) فلا تصح إمامته بوجه.
والقسم الثاني: ما يمنع النطق بالقراءة على حقيقتها، وهذا إن كان للجهل بها
فلا تصح إمامته بوجه. ومن ائتم به بطلت صلاته لأن القراءة فرض، وهذا ممن لا
يمكنه الإتيان بذلك. وهل يجب عليه في نفسه أن يأتم بمن يحسن القراءة؟
قولان: قيل يجب عليه ذلك إن قدر عليه؛ لأن قراءة الإمام قراءة له فعليه
تحصيل الفرض في نفسه، أو تحصيل ما فيه النيابة عن هذا الفرض وهو الاقتداء.
وقيل لا يجب عليه؛ لأنه خوطب بما قدر عليه من الفرض.
وإن كان للكنة في لسانه فالمنصوص صحة الصلاة. وحكي عن إسماعيل القاضي أنه
قال: إذا لم تكن اللكنة في القراءة. وهذا إن صح فيكون في المسألة قولان:
صحة (3) الإقتداء لأن اللكنة لا تغير المعنى [عندهم] (4)، وعدم الصحة لأن
المطلوب النطق بالحروف، وهو عاجز عن ذلك.
وأما اللّحان في القراءة ففي صحة الصلاة وراءه أربعة أقوال: أحدها: أنها لا
تصح تنزيلاً للحسن منزلة التبديل، وكذلك قال أبو الحسن ابن القابسي وأبو
محمد ابن أبي زيد فيمن لا يميز الظاء من الضاد. والثاني: صحتها لأن البدل
حركات لا أصل الحروف. والثالث: التفرقة بين أن يكون لحنه في أم القرآن فلا
تصح الصلاة لأنها فرض، وبين أن يكون في غيرها فتصح الصلاة لأنه [سنة] (5).
وإن أخرجه اللحن إلى الكلام فهو كالذكر. والرابع:
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) في (ق) إلا على الإماء والاضطجاع.
(3) في (ر): صحته.
(4) ساقط من (ق) و (ت).
(5) ساقط من (ت) و (ر).
(1/440)
الإبطال إن كان اللحن يغير المعنى لأنه
حينئذ يصير كالكلام، والصحة إن كان لا يغير المعنى لأنه لم يخرج القرآن عن
المعنى.
والقسم الثالث: ما يفقد الذكورية. ولا تكون المرأة إماماً للرجال عندنا
لنقصها، ولأن صوتها عورة، وقياساً على الخلافة فإن الأمة مجتمعة على أنها
لا تكون خليفة، وقد قاس الصحابة الخلافة على الإمامة في الصلاة. وهل تصح
إمامتها للنساء (1)؟ قولان: المشهور عدم الصحة طرداً للحكم الكلي، وروى ابن
أيمن (2) عن مالك أنها تؤم النساء (3). وهذا لأنه عول على أن المنع من كون
صوتها عورة، وهو مفقود هاهنا.
وأما الخنثى فإن حكم له بحكم أحد الصنفين عول عليه؛ إما الذكورية وإما
الأنوثية. فإن كان حكم عليه بالذكورية فللمتأخرين في إمامته قولان: المشهور
صحتها قياساً على الميراث الذي بذلك الصفة يرث. والقول الثاني (4) بالمخ
للرجال؛ إذ يحتمل أن يكون أنثى.
وإن أشكل الأمر فلا يصح أن يؤم الرجال ولا النساء على المشهور ويؤمهن على
الشاذ.
والقسم الرابع: ما يرجع إلى الاعتقاد؛ فإن كان كفراً فلا شك أن إمامة
الكافر لا تصح، لكنه (5) إن أم مستتراً بكفره فهل يجعل ذلك علماً على
إسلامه؟ فإن تماد يُترك، وإن لم يتماد قتل بعد الاستتابة. أو لا يجعل علما
على إسلامه؟ في ذلك قولان.
__________
(1) في (ت) للنساء في الصلاة.
(2) هو: محمد بن عبد الملك بن أيمن القرطبي الحافظ أبو عبد الله، رحل إلى
العراق وسمع من محمد بن إسماعيل الصائغ ومحمد بن الجهم السمري وطبقتهما
وألف كتاباً على سنن أبي داود. كان بصيراً بمذهب مالك. توفي سنة ثلاثين
وثلاثمائة وله ثمان وتسعون سنة" الديباج المذهب ص: 320. وشجرة النور:88
(188).
(3) في (ت) صحة إمامتها للنساء، وفي (ق) صحة صلاتها بالنساء.
(4) في (ت) الشاذ.
(5) في (ر) لأنه.
(1/441)
وسبب الخلاف اختلافهم هل أنزلت الشريعة
الصلاة منزلة الشهادتين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أن
أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتى يَشْهَدُوا أن لاَ إِلهَ إِلاَّ الله وَأَن
مُحَمدًا رَسُولُ اللهِ وَيُقِيمُوا الصلاَةَ" الحديث (1)، فقد ساوى بين
الشهادتين والصلاة. لكن بين الأصوليين خلاف في الواو هل يقتضي الاشتراك (2)
في الحكم كما يقتضيه في الإعراب أم لا؟ وإذا حكمنا بإسلامه وتمادى عليه،
فهل يعيد من صلى خلفه؟ قولان: الإعادة لأنه يمكن أن يبتدئ الإيمان في ساعته
بعد أن يصلي عبثاً (3)، وترك الإعادة لأن الصلاة علم على الإيمان
كالشهادتين وقد أقر بأنه مسلم.
وإن كان بدعة، فقد اختلف الأصوليون في معتقد البدعة كالخوارج والمعتزلة؛
فللقاضي (4) في تكفيرهم قولان. وكذلك اختلف قول الفقهاء؛ فعن مالك في ذلك
روايتان، ومثلهما عن الشافعي. وقال أبو إسحاق التونسي وغيره من متأخري أهل
المذهب: سبب الخلاف هل يكفرون بما آل القول إليه أم لا؟ ومعنى ذلك: أن
المعتزلة والخوارج متفقون على نفي الصفات المعنوية في حق الباري؛ فينكرون
كون الباري سبحانه عالماً بعلم وقادراً بقدرة إلى غير ذلك من الصفات. إلا
أنهم لا ينكرون أنه عالم ولا قادر ولا حي ولا مريد. فمن رأى إنكارهم أن
يكون عالماً يؤدي إلى نفي العلم عنه جملة، [وقوَّلهم] (5) أما يؤدي إليه
مبدأ أقوالهم كَفَّرهم. ومن لم
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان 25، ومسلم في الإيمان 22 عن عبد الله بن عمر.
(2) في (ت) التشريك.
(3) في (ق) لا يمكن أن يبتدئ الإيمان إلا بعد أن يصلي عبثاً، وفي (ت) لأنه
ممن يمكن منه أن يبتدئ في الإيمان في ساعة الآن بعد أن يصلي والقول الثاني.
(4) هو: الإمام العلامة أوحد المتكلمين مقدم الأصوليين القاضي أبو بكر محمد
بن الطيب البصري ثم البغدادي ابن الباقلاني صاحب التصانيف، كان يضرب المثل
بفهمه وذكائه، ثقة إماماً بارعاً صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة
والخوارج والجهمية والكرامية وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري ذكره القاضي
عياض في طبقات المالكية فقال هو الملقب بسيف السنة ولسان الأمة المتكلم على
لسان أهل الحديث، توفي سنة 403 هـ سير أعلام النبلاء: 17/ 190.
(5) ساقط من (م).
(1/442)
يقوِّلهم] (1) ما يؤدي إليه مبدأ قولهم، لم
يحكم بتكفيرهم وحكم بتفسيقهم (2).
وقد سئل أبو المعالي (3) عن هذه المسألة فحكى خلاف الأئمة فيها، ثم قال:
وقد نبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وقوع هذا الخلاف بقوله في
الخوارج "يَمْرُقُونَ مِنْ الدَّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهمُ مِنْ
الرّمِيَّةِ" (4)، وقال في آخر الحديث: "وَتَتَمَارَى في الفُوقِ" (5).
وهذه إشارة إلى خلاف الناس في تكفيرهم والمناظرة فيه؛ فلا شك أن من حكم
بكفرهم حكم ببطلان الإقتداء بهم، ومن حكم بأنهم غير كفار فلا يحكم ببطلان
الصلاة وراءهم كالزنديق.
وفي المذهب في صلاة من اقتدى بهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعيد أبداً، وهذا
على القول بتكفيرهم. والثاني: أنه يعيد في الوقت، وهذا على القول بعدم
كفرهم، لكن يعيد في الوقت لنقصهم بالفسق. والثالث: أنه لا يعيد في وقت ولا
غيره، وهذا بناء على ما بني عليه في القول الثاني، لكن فسقهم لا يسري إلى
نقص في الصلاة.
__________
(1) ساقط من (ق).
(2) في (ق) فيما يؤديهم إليه مبدأ قولهم لم يحكم بتكفيرهم وحكم بفسقهم.
(3) هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف العلامة إمام الحرمين ضياء الدين
أبو المعالي الجويني رئيس الشافعية بنيسابور. جاور بمكة أربع سنين يدرس
ويفتي ويجمع طرق المذهب ثم رجع إلى نيسابور وأقعد للتدريس بنظامية نيسابور
واستقام أمور الطلبة وبقي على ذلك قريباً من ثلاثين سنة غير مزاحم ولا
مدافع مُسلّم له المحراب والمنبر والتدريس ومجلس الوعظ وظهرت تصانيفه ..
توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة طبقات الشافعية 2/ 255 - 256
(218).
(4) أخرجه البخاري في المناقب 3610، ومسلم في الزكاة 1064 عن أبي سعيد
الخدري.
(5) أخرجه البخاري في فضائل القرآن 5058، وأحمد في مسنده 3/ 60، ومالك في
النداء للصلاة 477 واللفظ له. ولفظ البخاري وأحمد "وَيَتَمَارَى في
الفُوقِ" عن أبي سعيد الخدري.
قال ابن منظور في لسان العرب 6/ 309 "الفُوق: موضع الوَتَرِ من السهم". قال
ابن عبد البر في التمهيد 6/ 309: "تتمارى في الفوق أي تشك، والتماري الشك.
وذلك يوجب أن لا يقطع على الخوارج ولا على غيرهم من أهل البدع بالخروج من
الإسلام وأن يشك في أمرهم وكل شيء يشك فيه فسبيله التوقف عنه دون القطع
عليه".
(1/443)
وفي الكتاب: في الإمام القدري أنه لا يصلى
خلفه. قال: ولا الجمعة إن استيقنت ذلك (1)، وإن كنت تتقيه وتخافه على نفسك
فصلها معه (2) وتعيدها ظهراً أربعاً. وعقب المسألة قول ابن القاسم: ورأيت
مالكاً إذا قيل له في إعادة الصلاة خلف أهل البدع يقف ولم يجب في ذلك (3).
وهذا كأنه مناقض للأول لأنه أجاب أولاً بإعادته ظهراً، ووقف بعد ذلك. وقد
قال الأشياخ: إنما أعاد الأولى لأنه دخل على الصلاة تقية (4) فهو كالمصلي
بنية الإعادة، فتجب عليه. والثاني: صلى ولا علم عنده من حال الإمام فدخل
على الإجزاء، فلهذا وقف مالك في إعادته لأنه أشكل عنده في تلك الحال الأمر
في كفرهم أو فسقهم (5).
والقسم الخامس: ما يرجع إلى الجوارح؛ وهو الفاسق بجوارحه، كشارب الخمر وما
في معنى ذلك من الكبائر. وفي صحة الصلاة خلف من هذه حاله قولان: أحدهما:
أنها لا تصح الصلاة؛ لأنه إذا ارتكب كبيرة أمكن أن يترك ما يؤتمن عليه من
فروض الصلاة كالطهارة والنية. والثاني: صحة إمامته؛ لأن فسقه غير متعلق
بأحكام الصلاة. وهو خلاف في حال، وإنما ينبغي أن يعتبر حاله؛ فإن كان من
أهل التهاون والاستجراء (6) بحيث يمكن (7) أن يترك بعض الفروض كما تقدم فلا
تصح إمامته، وإن كان ممن اضطهره هوى غالب (8) إلى ارتكاب كبيرة مع براءته
من التهاون والجرأة صحت إمامته، وهذا يعلم بقرينة الحال.
__________
(1) في (ق) إلا إن اتقيته في ذلك.
(2) في (ت) فصلي خلفه.
(3) المدونة: 1/ 84.
(4) في (ت) لأنها صلاة على تقية.
(5) في (ق) في كفرهم وإيمانهم، وفي (ت) بكفرهم أو بفسقهم.
(6) في (ر) والاستهزاء.
(7) في (ق) يخشى.
(8) تعذرت قراءة هذه العبارة من جميع النسخ. وما أثبته هو من منقولات صاحب
التاج والإكليل عن ابن بشير 2/ 92.
(1/444)
وإمامة السكران في حال سكره ينظر فيها هذا
النظر، وفيه زيادة إذ عرقه مختلف فيه هل هو نجس أم لا؟ وهذا إنما يصح في
النشو (1). وأما السكران على الحقيقة فهو فاقد للتمييز (2) فلا تصح صلاته
في نفسه ولا إمامته. ولا شك أننا نمنع صحة الصلاة وراء المجنون والصبي
والفاقد للتمييز.
وأما الصبي المميز الذي يؤمر بالصلاة؛ ففي جواز إمامته في النوافل قولان:
المشهور منعه إلا أن يكون بالغاً؛ لأنه لو قطع النافلة لم يأثم. والبالغ
يأثم بقطعها بعد الدخول فيها. وكأن هذا التفاتاً إلى ما بعد الدخول.
والإتمام فرض في حق الداخل، فصار المؤتم به كالمفترض وراء المتنفل. والشاذ
جواز إمامته نظراً إلى ما قبل الدخول، وهي نافلة في حقهما.
أما إمامة غير البالغ في الفرائض؛ وهو ممن يؤمر بالصلاة في الفريضة فلا
تجوز ابتداء. فإن وقعت ففي بطلان الصلاة قولان: المشهور بطلانها لسقوط
الفرض عن الصبي ووجوبه على البالغ. وقال أبو مصعب: تصح الصلاة. واحتج له
بما في البخاري عن عمرو بن سلمة (3) أنه كان يؤم قومه وهو دون البلوغ (4).
لكنه كان غائباً عن حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ويمكن أن يكون لم
يبلغه ذلك، وإنما يكون حجة لو بلغه فأقره. وقال أبو الوليد الباجي: ويحتمل
هذا القول أن يكون بناء على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، ويحتمل أن يكون
بناء على المشهور لكون (5) الصبي معتقداً للوجوب، فلم يكن اقتداء مفترض
بمتنفل.
...
__________
(1) في (ق) المنتبي و (ت) المنشر وفي (ر) المشار.
كذا عبارة غير مفهوم.
(2) في (ق) و (ت) و (ر) التميز.
(3) في (ت) مسلمة.
(4) يشير إلى حديث البخاري في المغازي 4302 عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ
والذي فيه: "فَإذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَليُؤَذِّن أَحَدُكُم
وَلْيَؤُمَّكُم أَكْثَرُكُم قُرآناً فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ
أَكْثَرَ قُرْآناً مِنِّي لِمَا كُنْتُ أتلَقَّى مِنَ الرُّكبَانِ
فَقَدَّمُونِي بَينَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ
سِنِينَ".
(5) في (ت) و (ق) لكن.
(1/445)
فصل (1) (النقص المانع من الكمال)
وأما النقص المانع من الكمال على المشهور من المذهب فهو (2) أربعة
أقسام: عدم الحرية، وقد اختلف في جواز كون العبد إماماً راتباً في غير
الجمعة؛ فالمشهور من المذهب كراهية ذلك التفاتاً إلى كونه (3) لا يصلح
للخلافة ولا تكمل في حقه الفروض، إذ (4) تسقط عنه الجمعة عندنا والحج.
والشاذ: جوازه، لتساوي حكمه وحكم الأحرار في فرضية الصلاة.
والقسم الثاني: ما يلحق من نقص الأعضاء (5) بالأنوثية كالخصي. وفي جواز
اتخاذه إماماً راتباً قولان: المشهور كراهيته، التفاتاً إلى عدم الكمال في
حقه. والشاذ جوازه، التفاتاً إلى حال الصلاة.
والقسم الثالث: ما يحط المنزلة، ويسرع إلى صاحبه الألسنة كولد الزنا. وقد
اختلف في جواز كونه إماماً راتباً؛ فالمشهور كراهيته، والشاذ جوازه، وهو
كالخلاف المتقدم. وينخرط في هذا السلك كراهية الإتمام بالمأبون (6) والأغلف
(7).
والقسم الرابع: اختلف في تحديده (8) هل يرجع إلى نقص الفروض أو إلى الجهل
بالسنن. وهو ما كرهه في المدونة (9) من اتخاذ الأعرابي إماماً
__________
(1) في (ت) و (ق) فصل وساقط من (ر).
(2) في (ق) و (ت) على.
(3) في (ق) قوله.
(4) في (ت) قد تسقط.
(5) هكذا في (ق) و (ت) وهو غير واضح في (ر).
(6) في (ت) المأفون؟.
قال في التاج والإكليل 2/ 104 المأبون هو: أرذل الفاسقين. وقال في حاشية
ابن عابدين 4/ 72: هو من يؤتى في دبره.
(7) الأغلف: هو الذي لم يختن.
(8) في (ت) تحذيره.
(9) في (ق) المذهب.
(1/446)
راتباً. وأبو الوليد الباجي يرى أن العلة
في الكراهية كالعلة في كراهة العبد، هو مداومته على ترك بعض الفروض
كالجمعة، وإكمال الصلاة (1) لكثرة أسفاره. وابن حبيب وغيره من أهل المذهب
يعللون لجهله بالسنن (2). ولو صح ما قالوه لمنعت إمامته؛ لأنه إذا جهل
أحكام الصلاة كان الإتمام به معرضاً للبطلان.
...
فصل (في العبد يكون إماماً راتباً في جمعة)
ولا يجوز اتخاذ العبد إمامًا راتبًا في جمعة بلا خلاف في المذهب، لأنه ليس
من أهلها. فإن حضرها فهل يجوز ابتداء الإتمام به؟ وهل تجزي الصلاة وراءه إن
وقعت أو لا تجزي؟ في المذهب ثلاثة أقوال: المشهور أنها لا تجزي. ووقع لأشهب
قولان: أحدهما: إجزاؤها إن وقعت، والثاني: جوازها ابتداء.
فأما عدم الصحة فلأنها ليست فرضاً عليه. والنية (3) وإن قارنت الافتتاح فلا
بدّ من تقدمها عليه. ولا يصح أن ينوي الوجوب بحقيقته، فيصير العبد مخيراً
بين أداء الجمعة بدلا عن الظهر الواجب في حقه وبين أداء الظهر. والحر تتعين
عليه الجمعة من غير تخيير فلا يصح أن يأتم ملتزم بمتخير، وهو من باب اقتداء
مفترض بالمتنفل. وأما الصحة إن وقعت فنظر إلى تعيين الوجوب بالدخول. وأما
الجواز ابتداء فبناء على أن سقوط الفرض في حق العبد لتعلق حق السيد، فإذا
حضر موضع الجمعة فلا حق للسيد في منعه من نفس الصلاة فتصير حينئذ واجبة
عليه.
__________
(1) في (ر) الفروض.
(2) النوادر والزيادات: 1/ 287.
(3) في (ت) عليه كالنية والنية وإن.
(1/447)
وقد اختلف المذهب هل الجمعة واجبة في الأصل
في حق العبد وإنما تسقط لحق السيد، أو هي ساقطة لكن العبد يأتي بها بدلاً
عن الظهر. وهذا على الخلاف بين الأصوليين في تناول الألفاظ الواردة للعبد.
...
فصل (في بيان موقف المأموم من الإمام)
ومقامات المقتدين بالإمام تختلف؛ فإن كنَّ نساء فخلفه (1) أو خلف الرجال إن
كان معه رجال، كانت امرأة (2) واحدة أو أكثر. وأما الرجال فإن انفرد الواحد
مع الإمام فمقامه (3) عن يمينه، فإن قام عن يساره أداره عن يمينه، وتكون
الإدارة من وراء الإمام، لان كانوا أكثر من واحد قاموا وراءه. ولا فرق بين
البالغ وغيره إذا كان ممن يؤمر بالصلاة ويثبت فيها (4).
...
فصل (متى تجب نية الإمامة؟)
ولا يلزم الإمام عندنا القصد إلى اعتقاد الإمامة إلا في ثلاثة مواضع وهي:
الجمعة؛ لأنها لا تجوز إلا بالجماعة، وصلاة الخوف لما يفعله الإمام من
الانتظار للطائفة الثانية، ومخالفة الهيئة على ما نبينه في حكم صلاة الخوف،
والموضع الثالث أن يكون مأموماً فيستخلف على الائتمام، فهذا يلزمه اعتقاد
ما عاد إليه لتبدل حالته. وأما المأموم فيلزمه اعتقاداً الإقتداء لأنه مكلف
بمراعاة فعل الإمام، بخلاف الفذ والإمام فإنهما لا يراعيان غير فعل
أنفسهما.
__________
(1) في (ق) و (ت) تختلف فالنساء خلفه.
(2) في (ق) و (ت) إن كانوا معه كانت مرأة.
(3) في (م) وأما الرجل الواحد فمقامه.
(4) في (ق) و (ت) لها.
(1/448)
|