التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات

باب في المواضع التي تكره فيها الصلاة
وفي الترمذي وكتاب ابن سحنون عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الصلاة في سبع مواضع: المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله الحرام" (4). والأحكام في هذه تختلف.

(حكم الصلاة في المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق)
فأما المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق النهي عن الصلاة فيها؛ لأن
__________
(1) أخرجه الترمذي في الصلاة 422 عن قيس بن عمرو، ومالك في النداء للصلاة 287 عن أبي سلمة بن عبد الرحمان.
(2) في (ق) للفجر.
(3) أخرجه الحاكم في مستدركه 1/ 373، والدارقطني في سننه 1/ 420، والبيهقي في سننه 3/ 111 كلهم عن أبي هريرة مرفوعاً إلا البيهقي فقد أخرجه موقوفاً على علي بن أبي طالب.
(4) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه الترمذي في الصلاة 346، وابن ماجه في المساجد 446 و 447. ولفظ الترمذي "عَنِ ابنِ عُمَرَ أّنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُصَلَّى في سَبْعَةِ مَوَاطِنَ فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجزَرَةِ وَالْمَقْبَرَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَفِي الْحَمَّام وَفِي مَعَاطِنِ الإِبِلِ وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللهِ" وقال: وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ القَوَيَّ.

(1/458)


الغالب نجاستها. ومن صلى فيها؛ فإن تيقن بوجود النجاسة جرى على ما قدمناه من الخلاف فيمن صلى بنجاسة أو عليها، فإن لم يتيقن بوجود النجاسة فهل يكون كالمتيقن نظراً إلى الغالب؟ هذا مذهب عبد الملك بن حبيب (1). أو يرجع إلى الأصل، والأصل عدم النجاسة. ولا يعيد إلا في الوقت عامداً كان أو غيره. هذا هو المشهور. وهو على ما قدمناه من النظر إلى الأصل أو إلى الغالب.

(حكم الصلاة في المقبرة)
وأما المقبرة؛ فإن كانت غير منبوشة وأمن في موضع الصلاة من شيء من أجزاء المقبورين (2)؛ ففي المذهب قولان: الجواز، وهو المشهور. والكراهية، وهو الشاذ. وكأن الكراهية التفاتاً إلى عموم النهي، ولأن أصل عبادة الأصنام اتخاذ قبور الصالحين مساجد. والجواز للأمن من ذلك على هذه الأمة، وحمل الحديث على توقي النجاسة.
فإن كان في موضع الصلاة شيء من أجزاء المقبورين، فيجري حكم الصلاة فيها على الخلاف في الآدمي هل ينجس بالموت أم لا؟ فإن قلنا بنجاسته كان المصلي فيها مصلياً على نجاسة، وإن قلنا بطهارته لم يكن كذلك. ولكنه تكره الصلاة هناك كراهية لوطء أعضاء الميت. هذا في مقابر المسلمين.
وأما مقابر الكفار فكره عند عبد الملك بن حبيب الصلاة فيها (3). وعلل بأنه حفرة من حفر النار. ولكن من صلى فيها وأمن من النجاسة فلا تفسد صلاته وإن لم يأمن كان جارياً على ما قدمناه في المصلي على نجاسة.
__________
(1) النوادر والزيادات: 1/ 220.
(2) في (ت) القبور.
(3) قال ابن أبي زيد القيرواني في النوادر والزيادات 1/ 220: (قال ابن حبيب في من صلى في مقبرة المشركين وهي عامرة أعاد أبداً في العمد والجهل، وإن كانت دارسة لم يعد وقد أخطأ).

(1/459)


(حكم الصلاة في الحمام)
وأما الحمام فتكره الصلاة فيه ابتداء؛ لأنه محل الأوساخ. وفي المذهب خلاف في [البخار] (1) المتصعد إلى أعلاه هل يكون ما يقطر منه نجس أم لا؟ وهو على الخلاف في رماد الميتة وما في معناه. وقد قدمنا سبب الخلاف في ذلك. فإن التجأ إلى الصلاة فيه، وسلم موضعه من النجاسة، صحت الصلاة.
وأما معاطن الإبل؛ فقد وقع في الحديث النهي عن الصلاة فيها ونهى عنها أهل المذهب. ولكن اختلفوا في علة النهي على أربعة طرق: أحدها: أن الناس يستترون بها عند البراز؛ فعلى هذا إن أمن من نجاسة الموضع جازت الصلاة، وإن تيقنت النجاسة لم تجز. وإن لم يتيقن فكان الغالب وجودها جرى على ما قدمنا من الخلاف التفاتاً إلى الأصل والغالب.
والطريقة الثانية أن العلة كونها خلقت من جان، وهذا لا يؤدي إلى منع الصلاة بل إلى كراهيتها (2) إن صحت.
والثالثة: لزفور (3) رائحتها. والمستحب في الصلاة النظافة والبعد عن الأقذار، وهذا أيضاً لا يؤدي إلى المنع.
والرابعة: شدة نفورتها (4) فلا يأمن أن يثبت على جسمه (5)، وإن لم يثبت فسدت الصلاة. وهذا قد يؤدي إلى المنع.
وقد اختلف المذهب هل يعيد من صلى في معاطنها عامداً وإن ذهب
__________
(1) ساقط من (ق) وفي (ر) و (ت) الدخان.
(2) في (ق) بل ولا إلى كراهيتها.
(3) في (ق) ادبور.
لم أقف على معنى للزفورة يتناسب مع السياق، ولعل المقصود؛ نتن رائحتها.
(4) في (ت) نفوزها وفي (ق) نقورها.
(5) في (ق) حبسه.

(1/460)


الوقت، ومثله الجاهل، وهذا رأي ابن حبيب. ولا يعيد إلا في الوقت استحباباً. وهذا الخلاف يجري على التعليل الأول بالالتفات إلى النجاسة. وجمع القاضي أبو محمد في بعض كتبه هذا التعليل فقال: لا يصلي في معاطنها، وذكر العلل الأربعة فساقها مساقاً واحداً.
...

فصل (في الصلاة فوق الكعبة وفي جوفها)
وأما الصلاة فوق الكعبة فالنهي عنها لمعنى آخر، وهو أن المذهب اختلف هل المقصود سمت (1) الكعبة أو عينها؟ وقد اختلف المذهب في الصلاة على ظهر الكعبة هل هي منهي عنها على الإطلاق؟ أو يشترط ألا يجعل عليها [بين يديه] (2) قائماً يقصده المصلي، والأول: رأي الجماعة، والثاني: تأويل القاضي أبي محمد على المذهب، فكأنه يرى أنه متى أقيم عليها قائم يستقبله المصلي صار كالمصلي إلى فنائها (3) فتكون الصلاة هناك إلى الفناء (4) لا إلى السمت، فهذا وإن صح له حكم الاتصال فإنه يكون المصلي إليه قد ترك بعض سمت القبلة (5) وراء ظهره فأشبه المصلي في الكعبة. وفي المذهب خلاف في المصلي في الكعبة هل تبطل صلاته فيعيد وإن ذهب الوقت أو تصح صلاته فلا يعيد؟ أو يعيد في الوقت دون غيره؟ وقد رواه بلال عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه صلى النافلة في الكعبة (6).
__________
(1) سمت الكعبة: جهتها.
(2) ساقط من (ق).
(3) في (ق) و (ت) كالمصلي بفنائها.
(4) في (ق) القائم.
(5) في (ق) الكعبة.
(6) أخرج البخاري في الصلاة 397 عن ابن عمر قال: سَأَلْتُ بِلَالاً فَقُلْتُ: أَصَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الكَعْبَةِ قَالَ: نَعَمْ رَكعَتَينِ بَيْنَ السَّارَيتَيْنِ اللَّتين عَلَى يَسَارِهِ إِذا دَخَلتَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى في وَجْهِ الكَعْبَةِ رَكْعَتَينِ".

(1/461)


وروى ابن عباس أنه لم يصل (1)، وهي دخلة واحدة. لكن بناء الحديثين على أن بلالاً حكى ما رأى وشهد، وقد دخل معه - صلى الله عليه وسلم -. وحكى ابن عباس ما ظنه, لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يطل الجلوس، ولقرب خروجه ظنه لم يصل. وقيل: وفيه معنى قول بلال صلى يعني صلاة لغوية وهي الدعاء؛ فمن عول على رواية بلال تأول ما حكاه ابن عباس، ورأى أن الفريضة كالنافلة في وجوب الاستقبال في الحضر مع الاختيار لم (2) يؤمر بالإعادة. وتأول أبو الحسن اللخمي على [رواية] (3) أشهب جواز الصلاة ابتداء (4) وهو مقتضى [هذا] (5) الذي ذكرناه، ومن عول على رواية ابن عباس وتأول ما حكاه بلال قال بمنع الصلاة وأوجب الإعادة بعد الوقت لوجود (6) الاقتصار عن استقبال القبلة. ومن صلى في جوفها لم يستقبل حقيقة.
ومن ترجح الأمر عنده أمر بالإعادة في الوقت. ويحتمل أن يبني على المنع لكن إذا صلى أوقع ما اختلف الناس فيه، ولا (7) تجب الإعادة إلا في الوقت، أو يبني على الصحة ولكن يؤمر بالإعادة ليخرج من الخلاف احتياطاً. هذا الالتفات إلى الآثار.
وأما الاعتبار فقد سلك أهل المذهب في تعليل المنع طريقين: أحدهما: أن المصلي في الكعبة مستدبر لبعضها، وقد أمر باستقبال جميعها، وهذا تعليل متقدمي أهل المذهب. والثاني: أن المصلي في الكعبة يستحيل في حقه التكليف؛ لأنه حيثما أدار وجهه كان إلى جدار الكعبة، وإنما يصح
__________
(1) أخرج البخاري في الصلاة 398 عنِ ابْنَ عَبَّاس قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْبَيْتَ دَعَا فِي نَواحِيهِ كُلَّهَا وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرّجَ مِنْهُ فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكعَتَينِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ.
(2) في (ر) ولم.
(3) ساقط من (ر) و (ت).
(4) التبصرة ص: 79.
(5) ساقط من (ر).
(6) في (ق) لوجوب.
(7) في (ق) فلا.

(1/462)


التكليف متى كان المكلف قادراً على الامتثال وتركه، وهاهنا (1) لا يقدر على الترك. وهذا مذهب عبد المنعم ابن خلدون (2).
وهذا الذي قاله لا يشترط على أصلنا في التكليف، وأيضاً فإن المصلي في الكعبة قادر على الخروج منها جملة إلا أن يمنع الخروج. فيتصور ما قاله ابن خلدون. وحكم الحِجر حكم البيت وهو ما في فناء الكعبة. أصله منها (3)، عجزت الجاهلية عن إدخاله فيها لما بنتها بعد أن هدمها السيل. وقد أعاده عبد الله بن الزبير (4) إلى ما كان عليه قديماً من اشتمال الكعبة عليه لما سمعه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: "لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم عليه السلام" (5). فلما استولى عليه الحجاج (6) هدم ما بناه وأخرج الحجر فأعاده على ما بنته الجاهلية.
__________
(1) في (ق) و (ر) هاهنا، وفي (م) وترك هاهنا.
(2) هو: أبو الطيب بن خلدون عبد المنعم بن إبراهيم الكندي المعروف بابن بنت خلدون أخذ عن أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران الفاسي وبه تفقه اللخمي وأبو إسحاق بن منظور القفصي وغيرهم، له على المدونة تعليق مفيد توفي 432 هـ" شجرة 107 (280).
(3) في (ق) و (ت) بناء أصلها.
(4) هو: عبد الله بن الزبير ابن العوام بن خويلد بن أسد القرشي مسنده نحو من ثلاثة وثلاثين حديثاً كان عبد الله أول مولود للمهاجرين بالمدينة ولد سنة اثنتين وقيل سنة إحدى عداده في صغار الصحابة إن كان كبيراً في العلم والشرف والجهاد والعبادة وقد روى أيضاً عن أبيه وجده لأمه الصديق وأمه أسماء وخالته عائشة ... قتل بمكة على يد الحجاج سنة 73 هـ. سير أعلام النبلاء 3/ 363.
(5) لم أقف عليه بهذا اللفظ وهو عند البخاري في الحج 1583 عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنها زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهِا: أَلَم تَرَىْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الكَعبَةَ اقتصَرُوا عن قوَاعِدِ إِبرَاهيمَ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلاَ تَرُدُّها عَلَى قَوَاعِدِ إِبراهِيمَ قالَ: "لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بالكُفْرِ لَفَعَلتُ" وقال العجلوني في كشف الخفاء 2/ 215 بعدما ساق حديث: "لولا قومك حديثو عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم": "هكذا اشتهر هذا اللفظ على ألسنة الفقهاء والمعربين".
(6) هو الحجاج بن يوسف الثقفي، قال الذهبي: "أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلاً وكان ظلوماً جباراً ناصبياً خبيثاً سافكاً للدماء وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن ... حاصر ابن الزبير بالكعبة ورماها =

(1/463)


ولا يصلى فيه ولا في الكعبة السنن، فإن صلى فيها أو صلى فيه ركعتي الطواف فهل يكتفي بهما أو يعيدهما؟ في المذهب قولان. وهو على ما قدمناه في المصلي في الكعبة هل يعيد أبداً أم لا؟
...

فصل (حكم من صلى إلى غير قبلة)
وقد تقدم أن من فروض الصلاة استقبال القبلة، وذكرنا حكم المريض العاجز. ولا خلاف بين الأمة في وجوب استقبال القبلة مع القدرة والإمكان. فإن صلى مصل إلى غير القبلة فهل يعيد؟ لا يخلو أن يكون اجتهد فأخطأ، أو تعمد، أو نسي، أو جهل؛ فإن اجتهد فأخطأ فلا يخلو أن يعيد (1) بعد المعرفة بخطئه (2) إلى يقين أم لا يأمن الخطأ في الإعادة كما لو لم يأمنه في الأولى (3)؟ فإن رجع إلى [اليقين في الاستقبال فإنه يعيد في الوقت (5)، وهل يعيد] (4) بعد الوقت؟ قولان. فظاهر الكتاب أنه يعيد في الوقت (5)، ولأصبغ وغيره أنه يعيد وإن خرج الوقت، وهو على الخلاف في حصول العذر بالاجتهاد. وإن انتقل إلى الاجتهاد مع القدرة على طلب اليقين أعاد أبداً بلا خلاف.
__________
= بالمنجنيق وأذل أهل الحرمين تولى على العراق والمشرق كله عشرين سنة ... نسبه ولا نحبه بل نبغضه في الله فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه وأمره إلى الله وله توحيد في الجملة ... " سير أعلام النبلاء ج: 4 ص: 343.
(1) في (ر): يعود.
(2) في (ق) بخطابه.
(3) في (ق) الأداء.
(4) خرم في (ت) وفي (ر) و (ق) و (م) "يقين ويتصور فيمن كان في جبال مكة وشعابها أو بالقرب منها بحيث يرجع إلى يقين استقبال القبلة فإن كان ممن يباح له الاجتهاد وأخطأ في اجتهاده ففي إعادته". وما أثبته من (ل).
(5) المدونة:1/ 93.

(1/464)


قالوا: وهكذا يجري الحكم في مدينته - صلى الله عليه وسلم - إذ كون قبلتها صحيحة مقطوعاً بها؛ لأن جبريل عليه السلام أقامها (1) وألحق بهذا المتأخرون من أهل المذهب بيت المقدس. ولو اجتهد فتبين له أنه استدبر القبلة؛ فإنه يعود هاهنا إلى يقين كون القبلة في غير الجهة التي استقبلها.

(كيفية الاجتهاد في معرفة القبلة)
وكيف الطريق إلى الاجتهاد؟ أما العارف بأحكام الطوالع والمغارب وعروض البلاد ونسبتها إلى الكعبة فيحال إلى معرفته في حق هذا. والطريق إلى المعرفة في هذا أدق ويطول. ولكن يتوصل منها إلى اليقين، أو ما يقاربه. وأما غير هذا فقد قرب إليه بأن ينظر إلى نهاية الشمس في منتهى أرتفاعها في وسط النهار، فيقوم قائماً فينظر إلى ظله فيعلم أنه أخذ من القبلة إلى الدبور. وهذا لا يتحصل منه ما يقارب اليقين لاختلاف الظلال في البلاد وبالشتاء والصيف. وأوضح من هذا أن ينظر إلى القطب (2) الشمالي وهو: نجم خفي يدور عليه بنات نعش (3) وهو: وسط السمكة (4) فيجعلها على كتفه الأيسر ثم يستقبل الجنوب فيكون وجهه إلى القبلة. فهذا صحيح في قطر الشام والمغرب (5). فإن فقد هذا بوجود السحاب استدل بالجبال والرياح، فإن عميت عليه طرق الأدلة فهاهنا قولان: أحدهما: أنه يصلي أربع صلوات إلى الجهات الأربع لأنه لا يأمن الخطأ في أحدهما: والثاني: أنه يختار جهته فيصلي إليها. وهذا لأن الواجب في ذمته صلاة واحدة، وهو
__________
(1) في (ت) إتمامها.
(2) في (ر): القبض.
(3) جاء في لسان العرب 6/ 355: بنات نعش: سبعة كواكب أربعة منها نعش لأنها مربعة وثلاثة بنات نعش؛ نيل شبهت بحملة النعش في تربيعه.
(4) هي: كواكب كثيرة صغار على صورة السمكة يقال لها: بطن الحوت وفي سرتها كوكب نير ينزله القمر. انظر لسان العرب: 6/ 355.
(5) قلت: لا يمكن أن يتفق الشام في اتجاه القبلة مع المغرب لأن أهل الشام يصلون إلى الجنوب وأهل المغرب إلى المشرق.

(1/465)


معذور لخفاء الأدلة (1). وقد حمل على هذه الصورة قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (2).
...

فصل (حكم من أعاد الصلاة ولم يتيقن بالجهة)
وإن كان لا يأمن الخطأ في الإعادة بأن يكون اجتهد في غير مكة والمدينة فأخطأ بأن شرَّق أو غرَّب، فالمنصوص من المذهب أنه لا يعيد إلا في الوقت؛ لأنه يرجع من اجتهاد إلى اجتهاد. وهذا أوضح في حق غير العارف. فأما العارف فكما قلناه. ويتصور في رجوعه إلى اليقين، لكن أحكام الشريعة لا تبنى على الالتفات إلى معرفة مثل هذا، وإنما تبنى على ما يذكره الجمهور. وفي المذهب (3) قولان في الالتفات إلى نوادر بعض الصور. وأشار بعض البغداديين إلى أن من أدرك العلم برؤية الأهلة بحسابه أنه (4) يصوم على حسابه. وهذا من ذلك القبيل.
ومن استقبل غير القبلة ناسياً؛ فظاهر المذهب أنه يعيد وإن خرج الوقت، ولا شك في ذلك في العامد، وهكذا حكم الجاهل. وحكى أبو الحسن اللخمي قولين في الناسي (5)، فكذلك [في] (6) الجاهل هل يعيد كل واحد منهما في الوقت وبعده؟ ولا يوجد (7) خلاف في ذلك، وإن ما يقع في هذا الباب محمول على المجتهد، وهكذا حمله أبو الحسن اللخمي (8).
__________
(1) في (ق) لخفاء الأدلة عليه.
(2) البقرة: 115.
(3) في (ت) المدونة.
(4) في (ت) له أن.
(5) التبصرة ص: 78.
(6) ساقط من (ر).
(7) في (ق) ولا يوجد نص خلاف.
(8) في (ق) و (ت) أبو الحسن القابسي.

(1/466)


باب فى حكم وقت الضرورة وما يتعلق به من النظر في صلاة أهل (1) الأعذار
وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ (2)، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ" (3)، ولا خلاف في تناول (4) الحديث لأصحاب الضرورة. وهل يتناول أهل الاختيار؟ في ذلك قولان يأتي بيانهما. واختلف أيضاً في الركعة المشار إليها هل هي كمال الركعة بسجدتيها، وهو المشهور؟ أو مجرد الركوع، وهو مذهب أشهب؟ وهذا على الخلاف في الألفاظ الواردة هل تحمل على العرف الشرعي أو على مقتضاها لغة؟ فمن حملها (5) على العرف الشرعي حصل (6) منه المشهور، ومن حملها على مقتضى اللغة حصل منه القول الشاذ. ويلتفت (7) هذا إلى الخلاف في حمل الألفاظ على الأقل أو على الأكثر. وقد قال المحققون في الانتصار (8) للمشهور إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل مُدْرَكَ الصلاة قبل الطلوع أو قبل الغروب بالركعة لأن الركعة صلاة كاملة؛ فيها تكبير وقيام وقراءة وركوع وسجود، وهذه (9) جملة أحكام الصلاة. ثم الركعات بعدها تكرير لهذه الأفعال من غير زيادة، وإنما تكررت لحصول تأثيرها في النفس وهي في
__________
(1) في (ق) و (ت) أصحاب.
(2) في (ر) "صلاة الصبح" بزيادة صلاة. ولم أقف على هذه الزيادة في أي من كتب الحديث التي وقفت عليها.
(3) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة 579، ومسلم في المساجد 608 واللفظ له.
(4) في (ت) و (ق) تأويل.
(5) في (ت) مقتضى اللغة ممن حملها.
(6) في (ر) و (ت) جاء.
(7) في (ق) ويلتف.
(8) في (ق) الاختصار.
(9) في (ر) وهذا.

(1/467)


معنى الأول قطعاً، فالمدرك للركعة حصلت له جملة الصلاة في الوقت، وتحصيل المقصود من التأثير بالتكرير بعد الوقت، ولا يكون ذلك مفيتاً للصلاة.
...

[فصل] (1) (أصحاب الأعذار الخمسة)
وأصحاب الأعذار [هم] (2) خمسة: الحائض تطهر، والصبي يحتلم، والكافر يسلم، وفاقد عقله يفيق، والناسي يذكر. وهؤلاء إذا بقي لهم من الوقت الضروري الذي حددناه في أول الكتاب مقدار جملة الصلاة أو ركعة منها على ما حددناه من الاختلاف وجب عليهم القضاء (3). وهل يقدر لهم للإدراك بعد كمال تحصيل شروط الصلاة؟ أما الحائض فيقدر لها ذلك بلا خلاف، وأما ما عدا ذلك (4) ففي تقدير ذلك قولان. وقد اختلف المتأخرون هل يجري الخلاف في الحائض ويكون سببه في الجميع هل الطهارة شرط في الوجوب فلا يلزم هؤلاء الصلاة إلا لبقاء ركعة بعد كمال الطهارة، أو شرط في الأداء فيراعى زوال الأعذار دون أن تحصل الطهارة؟ أو لا يجري الخلاف فيها فيكون الفرق بين الحائض وبين من ذكر معها أن الكافر قادر على أن يشهد بالشهادة في أول النهار فلا يرخص له من جهة أنه متعذر. وهذا يجري على الخلاف فيه هل هو مخاطب بفروع الشريعة فلا يراعى إلا زوال عذره، أو هو غير مخاطب فيراعى كمال طهارته؟
والصبي كان ممن خوطب بالصلاة قبل البلوغ مخاطبة مثله إذ يؤدب
على تركها. فمن التفت إلى هذا لم يراع إلا زوال عذره ووجود الاحتلام.
__________
(1) ساقط من (ر) و (ق) و (ت).
(2) ساقط من (ق) و (ر) و (ت).
(3) في (ق) القضاء بلا خلاف.
(4) في (ت) وأما ما عداها.

(1/468)


ففي المذهب قولان في الصبي يبلغ بعد أن أدى الصلاة في أول الوقت ويكون بلوغه في الوقت. هل تجب عليه الإعادة أم لا؟ وإسقاط الإعادة يقتضي أنه مخاطب بالصلاة في أول الوقت؛ فمن التفت إلى هذا قال بمراعاة زوال العذر كما قدمنا، ومن التفت إلى حقيقة الوجوب وأنه لا يحصل إلا بعد البلوغ راعى تحصيل الغسل.
وللفاقد للعقل قد قال بعض المخالفين يجب عليه القضاء، فمن التفت إلى هذا الخلاف لم يراع إلا زوال عذره.
ولا خلاف في الحائض أنها غير مخاطبة بالصلاة في حال الحيض ولا تقضيها، فلهذا اتفق على مراعاة تحصيل الغسل. وإذا راعينا (1) ذلك فيراعى فيه القدر المأمور به دون مراعاة حال المتطهر في وسوسته وتطويله. ولا خلاف في الناسي يذكر، أنه لا يراعي إلا زوال عذره دون تحصيل الشروط. وظاهر حكم الصلاة الواحدة كالصبح أنه يراعى بقاء ركعة لطلوع الشمس. فإن كان في الذمة صلاتان كالظهر والعصر، أو المغرب والعشاء؛ فأما الظهر والعصر فاشترط أن يدرك جميع صلاة (2) الأول، وركعة من الآخر. وذلك مقدار خمس ركعات للحاضر وثلاث ركعات للمسافر.
وأما المغرب والعشاء؛ فإن أدرك جميع الأولى وركعة من الآخرة كان مدركا للصلاتين. وهذا كأربع ركعات في حق المسافر (3).
وأما الحاضر يدرك أربع ركعات والمسافر يدرك ثلاثاً ففي سقوط الأول من الذمة قولان.
وسبب الخلاف هل يجعل الوقت الذي زال فيه العذر لأول الصلاتين أو لآخرتيهما؛ فإن جعلنا الوقت للآخرة سقط المغرب في حق الحاضر يدرك أربع ركعات ووجبت الصلاتان في حق المسافر يدرك ثلاثاً، وإن
__________
(1) في (ق) راعينا تحصيل.
(2) في (ر): الصلاة.
(3) في (ت) وهذا كما لو أدرك المسافر منها أربع ركعات.

(1/469)


جعلنا (1) الوقت لأول الصلاتين وجبت الصلاتان في حق الحاضر يدرك أربع ركعات وسقطت الأولى في حق المسافر يدرك ثلاثاً. فهو على الخلاف في الاشتراك لأصحاب الضرورات هل يقدر من أول وقتي الصلاتين أو بعد مضي زمان مقدار الأول.
وعلى هذا الخلاف لو صلت العصر أولاً ثم حاضت وقد بقي مقدار أربع ركعات هل يسقط الظهر لأن هذا الوقت مستحق لها، أو تكون مقررة (2) في ذمتها لأن هذا الوقت مختص بالعصر ووقوعها أولاً قبل الظهر كأنها وقعت في غير محلها؟
...

فصل (متى يجب على الحائض قضاء الصلاة)
وقد قدمنا ما في المذهب من مراعاة تحصيل الشروط لأصحاب الأعذار. فلو حصل للحائض تطهير أو لغيرها التطهر ثم أحدثت، وكانت إذا أعادت الطهر فات وقت الصلاة، فالقضاء واجب عليها باتفاق. لأنها بعد التطهر مطلوبة بالصلاة. فإحداثها كإحداث من هو مطلوب بالصلاة، وقد تعينت عليها فيجب عليها العودة للتطهر (3) وقضاء الصلاة. ولو تطهرت بماء نجس ثم علمت به بعد أن أكملت طهرها وكانت لو أخذت في الظهر لانقضى الوقت، فهاهنا قولان: أحدهما: وجوب القضاء في ذمتها. والثاني: نفيه وهذا على الخلاف في المخطىء مجتهداً هل يعذر بخطئه؟ وذلك إنما يتصور إذا لم يكن الماء متغير أحد الأوصاف أو كان متغيراً بنجاسة فظن أنه متغير لقراره (4). ولو علمت بتغيره لم يكن إشكال في
__________
(1) في (ر) جعل.
(2) في (ق) و (ر) مقدرة.
(3) في (ق) التطهر.
(4) في (ق) أنه تغير بقراره وفي (ت) متغير من قراره.

(1/470)


وجوب القضاء عليها. ويجري على قول من حكم بطهارة الماء حلته النجاسة ولم تغير أحد أوصافه أن تصلي هذه (1) من غير إعادة. وعلى قول من جعله مشكوكا فيه أن تصلي به ثم تتطهر (2) بغيره وتصلي إن وجدت. وإن لم تجد فيجري على الخلاف هل تصلي به وبالتيمم صلاة واحدة، أو بكل واحد منهما صلاة على ما قدمنا؟ ويظهر هاهنا أنها إذا ذكرت ذلك بعد التطهر به أنها تتيمم وتصلي (3) صلاة واحدة لحصوله في الأعضاء.
...

[فصل] (4) (تعويل أصحاب الأعذار على التقدير)
وأصحاب الأعذار يعولون على (5) التقدير بغلبة الظن؛ فإن ثبت في ظنونهم أن الوقت بقي منه ما يدركون (6) به الصلاتين جميعاً كما قدمناه عولوا على ما ثبت في ظنونهم، فإن قدرت الحائض مثلاً أن الوقت بقي منه مقدار خمس ركعات فعولت على صلاة الظهر والعصر، فلما صلت ركعة (7) غربت الشمس، أنها تنصرف من صلاة الظهر وتصلي العصر.
وهل الأولى انصرافها من شفع أو تقطع بعد وتر إن شاءت؟ في المذهب قولان. وهاهنا التمادي إلى الشفع مأمورة (8) به لحق الابتداء، والقطع مأمورة (9) به لحق الصلاة الواجبة حقيقة. وفي العصر فيمن تقابل
__________
(1) في (ت) أن تصلي عند من غير.
(2) في (ر) وتتطهر.
(3) في (ق) تصلي به.
(4) هذا الفصل والفصلان المواليان له ساقطون من (ر).
(5) في (ق) يقولون إن التقدير.
(6) في (ت) يدرك.
(7) في (ق) ركعتين من الظهر.
(8) في (ت) مأمور.
(9) في (ت) مأمور.

(1/471)


عنده الأمران خُيِّرَ، ومن ترجح عنده حكم الابتداء (1) وكان الانصراف على وتر عنده ممنوعاً أمر بالتمادي.
ولو قدرت بالعكس فظنت أن الباقي من الوقت يسع الصلاة الثانية دون الأولى فبدأت بالثانية ثم ظهر لها اتساع الوقت للصلاتين فلا يخلو أن يظهر لها ذلك في الصلاة أو بعد كمالها؟ فإن ظهر في الصلاة انصرفت عنها وأتت بالأولى ثم بالثانية.
وهل تنصرف على شفع؟ يجري على الخلاف الذي قدمناه. وإن ظهر (2) ذلك بعد كمال العصر، أعادت الظهر. وهل تعيد العصر؟ قولان. وهذا على (3) ما قدمناه في الوقت. وهل يقال إن أوله مستحق للأولى لا تشاركها الثانية فيه فيجب عليها هاهنا قضاء الصلاتين جميعاً، لأن الزمان الذي طهرت فيه مقدر بالزوال في حق المختار. فإذا أدت فيه صلاة العصر فكأنها أوقعتها في وقت الظهر المختص بها، فلا تجزيها.
ويقال: إن الوقت يقع فيه الاشتراك من بدايته إلى نهايته، فصارت موقعة للصلاة في وقتها حقيقة فتجزيها وتعيد الظهر. فتكون كأنها صلت صلاة العصر وأكملته، ثم ذكرت ظهراً من يوم ثان ولم يبق من الوقت إلا مقدار ما يسع الصلاة المنسية، فإنها لا تعيد العصر. وأما لو صلت العصر ناسية الظهر ولا حيض بها أو غيرها من سائر الناس ثم ذكرت الظهر، ولم يبق من الوقت إلا ما يسع الظهر خاصة فهل تعيد العصر؟ قولان وهما على ما قدمناه أيضاً.
...

فصل (هل يُبْتَدَأ بالحاضرة أو المنسية عند ضيق الوقت)
ولو بقي من الوقت مقدار صلاة واحدة ثم ذكر أصحاب الأعذار صلاة منسية. فهل يبتدؤون بالحاضرة أو بالمنسية؟ قولان توجيههما محال على
__________
(1) في (ق) الابتداء أو القطع.
(2) في (ق) وإن ذكرت ذلك.
(3) في (م) حاصل.

(1/472)


حكم قضاء الفوائت. وإذا قلنا بالابتداء بالحاضرة -وهو الشاذ- فلا شك أن هؤلاء يصلون الحاضرة ثم المنسية بعد الوقت. فإذا قلنا بالابتداء بالمنسية فضاق الوقت على قضائها فهل عليهم قضاء الحاضرة بعد الوقت؟ [قولان: أحدهما: وجوب القضاء لتوجبه الصلاة في] (1) الوقت، وإنما بدئ بالمنسية لحق الرتبة (2) في الصلاة المنسية. والثماني: سقوط القضاء؛ لأن الوقت [مستحق للمنسية ولم يبق للحاضرة بعده شيء. وكان الأعذار إنما ارتفعت بعد خروج الوقت (3).
...

فصل (حكم المسافر يقدم والحاضر يسافر)
وقد ألحق أهل المذهب بأصحاب الأعذار المسافرَ يقدُم وقد [بقي من النهار مقدار خمس ركعات فيؤدي الصلاتين حضريتين (4). والحاضر يسافر وقد بقي من النهار مقدار ثلاث ركعات فيؤديها سفريتين؛ فهذا يقتضي تنزيل قوله - صلى الله عليه وسلم -:"من أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة" الحديث (5) كما تقدم على عمومه في أصحاب الأعذار. والاختيار يقتضي هذا من قولهم أن مؤخر الصلاة إلى أن يبقى من الوقت مقدار ركعة مؤد غير قاض. وحكى أبو الحسن اللخمي الاتفاق على تأثيم من فعل ذلك عمداً. وما قاله أهل المذهب في حكم الحاضر والمسافر يقتضي خلاف
__________
(1) غير واضح في (ت).
(2) في (ق) الترتيب.
(3) غير واضح في (ت).
(4) غير واضح في (ت).
(5) لم أقف عليه بهذا اللفظ. وقد أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة 579، ومسلم في المساجد 608 بلفظ قريب ولفظ مسلم: "مَن أَدّرَكَ رَكعَة مِنَ الصُّبح قبلَ أَن تَطلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةَ مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ".

(1/473)


قوله. وما قاله أيضاً يشبه قول أبي إسحاق التونسي أن من أخر صلاة العصر إلى الاصفرار يكون آثماً مع كونه مؤدياً. ولا يتفق الأداء والتأثيم؛ لأن معنى الأداء موافقة الأمر، والتأثيم إنما يحصل لمخالفته. فكان بعض الأشياخ (1) يقول: لو قيل إن مؤخر الصلاة عن الأوقات التي حددها جبريل عليه السلام في صلاته بالنبي عليه السلام يكون آثما لكان صواباً.
وما ورد من الجمع بعرفة والمزدلفة، والجمع في السفر والمرض والمطر، فذلك يقتضي اختصاص هذه الأوقات بهذه الضرورات ولا يلحق بها غيرها. وإلى هذا يميل أبو الحسن اللخمي (2). وهو مذهب الإصطخري (3) من أصحاب الشافعي. ولكن الجمهور على خلافه، معولين على قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من العصر الحديث"] (4).
...

فصل (هل يحصل انعكاس الأمر بطرء الأعذار)
وقد قدمنا حكم ارتفاع الأعذار. وهل يحصل (5) انعكاس الأمر بطرء (6) الأعذار؟ أما الحائض فظاهر انعكاس الأمر فيها بأن تكون طاهراً (7) فتحيض أو حائضاً فتطهر. وكذلك العاقل يجن، والمجنون يفيق، والحاضر
__________
(1) في (ق) وكان بعض أشياخي.
(2) في (ق) سبيل أبي الحسن اللخمي رضي الله عنه.
(3) هو: الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى أبو سعيد الإصطخري شيخ الشافعية ببغداد ومحتسبها, له مصنفات مفيدة منها أدب القضاء توفي في ربيع الآخر وقيل في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. انظر طبقات الشافعية 2/ 109 وسير أعلام النبلاء 15/ 250.
(4) آخر السقط من (ر).
(5) في (ق) يصح.
(6) في (ق) بطرق.
(7) في (ر) طاهرة.

(1/474)


يسافر، والمسافر يحضر، والذاكر ينسى. ويتصور في هذا الطردُ والعكسُ دون غيره، ولا يصح بعد الوقت. ولا يصح ذلك في الصبي يحتلم ولا ينعكس الأمر في حقه، ولا الكافر يسلم.
وأما الناسي يذكر فيتصور انعكاس الأمر في حقه. لكن إن نسي بعد ذكره فلا يسقط عنه قضاء الصلاة، بخلاف الطاهر تحيض، والعاقل يفقد عقله. وما قالوا أيضاً في الطاهر والعاقل يقتضي كونهما مؤديين وإن أخرا الصلاة حتى لو لم يبق إلا [مقدار] (1) ركعة واحدة. لذلك ما وجبت الصلاة في ذمتيهما متى ظهرت أعذارهما ولو لم يبق إلا مقدار ركعة في حق الصلاة الواحدة أو صلاة كاملة، وركعة في حق الصلاتين جميعاً. ثم يجري الخلاف في هذين وفي المسافر يقدم والحاضر يسافر إذا بقي لطلوع الفجر أربع ركعات، أو ثلاث ركعات على ما قدمنا من الخلاف في جعل (2) الوقت لآخر الصلاتين أو لأولهما.
ولو أخرت الطاهر مثلاً العصر حتى لم يبق إلا مقدار ركعة واحدة فقامت تصليها، فلما أكملتها وغربت الشمس حاضت قبل إكمال الصلاة، فهل يجب عليها قضاء هذه الصلاة لأنها حاضت بعد (3) وقتها أو لا يجب عليها قضاؤها؟ في ذلك قولان.
ومثار هذا الخلاف في مدرك ركعة من الوقت هل يكون مؤدياً لجميع الصلاة؟ وهو مقتضى سقوط القضاء عنها، أو مؤدياً للركعة وقاضياً للثلاث (4) الواقعة بعد الوقت، وهو مقتضى وجوب القضاء عليها.

...
__________
(1) ساقط من (ر) و (ت).
(2) في (ق) في من جعل.
(3) في (ق) قبل.
(4) في (ق) لثلاثة و (ر) لثلاث.

(1/475)