التهذيب
في اختصار المدونة (كتاب الجعل
والإجارة) (1)
2871 - ومن باع من رجل سلعة بثمن على أن يتجر له بثمنها سنة، كان كمن آجره
على أن يتجر له بهذه المائة [دينار] سنة، أو يرعى له غنماً بعينها سنة، فإن
شرط في العقد خلف ما هلك منها أو تلف، جاز، وإلا لم يجز.
وإن شرط ذلك فهلك من ذلك شيء فأبى ربُّه خَلَفَه قيل له: أوفِ الإجارة
واذهب بسلام، وتكون له أجرته تامة.
ولو آجره على رعاية مائة شاة غير معينة جاز، وإن لم يشترط خلف ما مات منها،
وله خلف ما مات منها بالقضاء، وإن كانت معينة فلا بد من الشرط، وليس له أن
يزيده فيها.
2872 - ولا بأس باجتماع بيع مع إجارة. ولا يجوز اجتماع بيع وجُعل في صفقة،
ولا إجارة وجُعل معاً.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/392) ، والمدونة الكبرى (11/402) .
(3/341)
ومن باع من رجل نصف ثوب، أو نصف دابة، أو
غيرها، على أن يبيع له النصف الآخر بالبلد، جاز إن ضربا لبيع ذلك أجلاً، ما
خلا الطعام فإنه لا يجوز. فإن باع ذلك في نصف الأجل فله نصف الإجارة، فإن
تم الأجل ولم يقدر على بيع ذلك فله الأجر كاملاً.
وإن باع منه نصف هذه السلع على أن يبيع له النصف الباقي ببلد آخر لم يجز،
وإن كان بالبلد ولم يضربا أجلاً لم يجز أيضاً، لأنه في السلع اليسيرة
كالدابة أو الثوب أو الثوبين يدخله جعل وبيع.
والسلع الكثيرة لا يجوز فيها الجُعل، فصارت إجارة غير مؤجلة، فأفسدتها مع
ما عُقد معها من بيع.
2873 - وروي عن مالك - رضي الله عنه - أنه إذا باعه نصف ثوب على أن يبيع له
النصف الآخر فلا خير فيه. قيل لمالك: فإن ضرب للبيع أجلاً؟ قال: فذلك أحرم
له.
* * *
(3/342)
[في الإجارة والجُعل على بيع السلع، وما
يجوز من ذلك وما لا يجوز]
2874 - والإجارة تلزم بالعقد، ولا تجوز إلا بالأجل، وليس لأحدهما الترك حتى
يحل الأجل، والجُعل بخلاف ذلك، يدعه العامل متى شاء، ولا يكون مؤجلاً، ألا
ترى أن من قال لرجل: بع لي هذا الثوب ولك درهم، أنه جائز، وقّت له في الثوب
ثمناً أم لا، وهو جعل، فإن قال: اليوم، لم يصلح، إلا أن يشترط أن يترك متى
شاء، لأنه إن مضى اليوم ولم يبع ذهب عمله باطلاً، وإن باع في نصفه أخذ
الجعل كاملاً، وسقط عنه بقية عمل اليوم، فهذا أخطر.
2872 - والجعل لا يكون مؤجلاً إلا أن يكون متى شاء أن يردّه ردّه.
وقد قال [مالك] في مثل هذا: إنه جائز، وهو جل قوله [الذي يعتمد عليه] .
2876 - ولا يجوز الجُعل على بيع كثير السلع والدواب والرقيق، كالعشرة
الأثواب ونحوها، ولا على ما فيه مشقة سفر من قليلها.
ويجوز الجعل في بيع قليل السلع في البلد، سمّوا لها ثمناً أم لا، مثل
الدابة أو العبد أو الثوب والثوبين، إذ لا يقطعه ذلك عن شغله، فإن باع أخذ
ولا شيء له إن لم يبع.
(3/343)
وكل ما جاز فيه الجعل جازت فيه الإجارة،
وليس كل ما جازت فيه الإجارة يجوز فيه الجعل.
2877 - وتجوز الإجارة على بيع قليل السلع وكثيرها والأعكام من البز، وكثير
الطعام إن ضرب للبيع أجلاً، وإلا لم تجز الإجارة، فإن باع لتمام الأجل فله
أجره كاملاً، وإن باع في ثلثه أو نصفه فله حصة ذلك من الأجر، إلا أنه إن
ضرب الأجل للبيع وسمّى الأجر فلا يجوز النقد في هذا، لأنه إن باع في نصف
الأجل رد نصف ما قبض، فيدخله بيع وسلف.
وإن لم ينقده شيء ومضى من الأجل يوم أو يومان، فللأجير قبض حصة ذلك من
الأجر.
ومن أجرته على بيع سلع كثيرة شهراً على أنه متى شاء ترك جاز ذلك، لأنها
إجارة على خيار، ولا يجوز فيه النقد.
وإن أجرته شهراً على أن يبيع لك ثوباً وله دراهم، جاز ذلك إن كان إذا باع
قبل ذلك أخذ بحساب الشهر.
2878 -[وإذا دفعت إلى حائك غزلاً ينسج لك منه ثوباً بعشرة دراهم على أن
يسلفك فيه
(3/344)
رطلاً من غزل لم يجز، لأنه سلف وإجارة. (1)
ولا بأس أن تؤجره على طحين إردب بدرهم وبقفيز من دقيقه، لأن ما جاز بيعه
جازت الإجارة به] .
ولو أجرته يطحنه لك بدرهم وبقسط زيت زيتون قبل أن يعصر، جاز ذلك.
2879 - ولو بعت منه دقيق هذه الحنطة، كل قفيز بدرهم قبل أن يطحنها جاز، لأن
الدقيق لا يختلف، فإن تلفت هذه الحنطة كان ضمانها من البائع، وإن كان الزيت
والدقيق يختلف خروجه إذا عصر أو طُحن، لم يجز ذلك فيه حتى يُطحن أو يعصر.
وقد خفف مالك أن يبتاع الرجل حنطة على أن على البائع طحينها، إذ لا يكاد
الدقيق يختلف، ولو كان خروجه مختلفاً ما جاز.
ولا يجوز بيع لحم شاة حية أو مذبوحة، أو لحم بعير كسير قبل الذبح والسلخ،
كل رطل بكذا من حاضر ولا مسافر. ولا تجوز الإجارة على سلخها بشيء من لحمها.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/396) .
(3/345)
2880 - وإن أجرت رجلاً يخيط لك ثوباً، وإن
خاطه اليوم فبدرهم، وإن خاطه غداً فبنصف درهم، أو قلت له: إن خطته خياطة
رومية فبدرهم، وإن خطته خياطة عربية فبكذا، لم يجز، وهو من وجه بيعتين في
بيعة، فإن خاطه فله أجر مثله زاد على التسمية أو نقص.
قال غيره في المسألة الأولى: إلا أن يزيد على الدرهم أو ينقص من نصف درهم
فلا يزاد ولا ينقص.
ولا يجوز أن يؤاجره على دبغ جلود أو عملها، أو نسج ثوب، على أن له نصف ذلك،
إذ لا يدري كيف يخرج ذلك، ولأن ما لا يجوز بيعه لا يجوز أن يُستأجر به.
ولو قلت له: انسج لي هذا الغزل بغزل آخر عجلته له، جاز.
وإذا دفعت إليه دابة أو إبلاً أو داراً أو سفينة أو حماماً على أن يكري ذلك
وله نصف الكراء، لم يجز.
(3/346)
فإن نزل كان لك جميع الكراء، وله أجر مثله،
كما لو قلت له: بع سلعتي فما بعتها به فبيني وبينك، أو قلت له: فما زاد على
مائة فبيننا، فذلك لا يجوز، والثمن لك، وله أجر مثله.
2881 - ولو أعطيته الدابة أو السفينة أو الإبل ليعمل عليها، على أن ما أصاب
بينكما لم يجز ذلك، فإن عمل عليها فالكسب ههنا للعامل، وعليه كراء المثل في
ذلك ما بلغ، وكأنه اكترى ذلك كراء فاسداً، والأول أجر نفسه منك إجارة
فاسدة، فافترقا.
2882 - ولا يجوز أن يحمل لك طعاماً إلى بلد كذا بنصفه، إلا أن تنقده نصفه
مكانك، لأنه شيء بعينه بيع على أن يتأخر قبضه إلى أجل.
وإن أجرت رجلاً على حمل طعام بينكما إلى بلد يبيعه به، على أن له عليك كراء
حصتك، وسميتما ذلك، فإن شرطت أن لا يميز حصته منه قبل البلد لم يجز، فإن
نزل ذلك وباع الطعام كان له أجر مثله في حصتك.
وإن كان على أنه متى شاء ميزها قبل أن يصل أو يخرج، جاز إن ضرب للبيع
أجلاً.
(3/347)
وكذلك إن أجرته على طحينه، فإن كان إذا شاء
أفرد طحين حصته جاز، وإن كان على ألا يطحنه إلا مجتمعاً لم يجز، فإن طحنه
كان له أجر مثله في حصتك.
2883 - وكذلك إن أجرته على رعاية غنم بينكما جاز ولزمته الإجارة، إذا كان
له أن يقاسمك حصته، أو يبيعها متى شاء، وشرطت خلف ما هلك من حصتك. قال
غيره: إذا اعتدلت في القسم. (1)
ولا يجوز أن تؤاجره على نسج غزل بينكما بدراهم مسماة، إذ لا يقدر على [بيع]
حصته منه حتى ينسجه.
2884 -[ولا بأس أن تؤاجره على بناء دارك هذه والجص والآجر من عنده، [وهذه
إجارة وشراء جص وآجر في صفقة واحدة] ، ولما تعارف الناس ما يدخلها وأمد
فراغها كان عرفهم كذكر الصفقة والأجل، لأن وجه ذلك أمر قد عرف.
_________
(1) انظر: كفاية الطالب (2/248) ، وحاشية الدسوقي (4/15) ، والتاج والإكليل
(5/426) ، والفواكه الدواني (2/115) ، والشرح الكبير (4/15) ، ومواهب
الجليل (5/414) ، والقوانين لابن جزي (ص220) ، وحاشية العدوي (2/256) .
(3/348)
وقال غيره: إذا كان على وجه القبالة ولم
يشترط عمل يده، فلا بأس به إذا قدم نقده] .
2885 - ولا بأس أن تؤاجر حافتي نهرك ممن يبني عليه بيتاً، أو ينصب عليه
رحاً، ويجوز أن تستأجر طريقاً في دار رجل، أو مسيل مصب مرحاض. وأما إجارة
مسيل ماء ميازيب من دار رجل فلا يعجبني، لأن المطر يقل ويكثر، ويكون ولا
يكون.
ولا يجوز أن تكري بيت الرحا من رجل، والرحا من آخر، ودابة الرحا من رجل
ثالث في صفقة واحدة، كل شهر بكذا وكذا، إذ لا يعلم ما لكل واحد من
(3/349)
الثمن إلا بعد القيمة، وكذلك في الاستحقاق،
وأجازه غيره.
2886 - ولا بأس بإجارة رحا الماء بالطعام وغيره.
فإن انقطع عنها الماء فهو عذر تفسخ به الإجارة. وإن رجع الماء في بقية
المدة لزمه باقيها، وإن اختلفا في انقطاع ماء الرحا فقال ربها: انقطع عشرة
أيام، وقال المكتري: بل شهراً، فإن تصادقا في أول السنة وآخرها صُدّق رب
الرحا.
وكذلك اختلافهما في انهدام الدار في بعض المدة، أو قال المكتري بعد السنة:
كان انهدام الدار وانقطاع الماء في السنة كلها، فالمكتري في ذلك كله مُدّع.
وإن قال رب الرحا أو الدار: قد انقضت السنة، وقال المكتري: ما مضى منها إلا
شهران وقد انهدمت الدار الآن وانقطع ماء الرحا، صُدّق المكتري.
ومن استأجر رحا ماءٍ شهراً على أنه إن انقطع الماء قبل الشهر لزمته
الإجارة، لم يجز ذلك.
(3/350)
2887 - ومن استأجر فسطاطاً، أو بساطاً، أو
غرائر، أو آنية إلى مكة ذاهباً وجائياً جاز، فإن ادعى حين رجع ضياع هذه
الأشياء في البداءة، صُدّق في الضياع، ولزمه الكراء كله، إلا أن يأتي ببينة
على وقت الضياع، وإن كان معه قوم في سفر فشهدوا أنه أعلمهم بضياع ذلك وطلبه
بمحضرهم حُلّف، وسقط عنه من يومئذ حصة باقي المدة.
وقال غيره: هو مصدق [في الضياع] ولا يلزمه من الإجارة إلا ما قال: إنه
انتفع به.
وقال أشهب عن مالك في رجل اكترى جفنة وادعى الضياع أنه يضمن، إلا أن يقيم
بينة على الضياع.
(3/351)
2888 - ومن استأجر فسطاطاً أو ثوباً شهراً
فحبسه فلم يلبسه سائر المدة، لزمه جميع الأجر، ولو حبسه بعد المدة أياماً
لزمه أجر حبسه بغير لباس [ليس كأجر اللابس] . وقاله ابن نافع.
وقال غيره: بل بحساب ما استأجره، إن كان ربه حاضراً.
2889 - وتجوز إجارة متاع البيت مثل الآنية والقدور والصحاف ومتاع الجسد.
2900 - ومن استأجر ثوباً يلبسه فادعى أنه ضاع أو سُرق منه أو غصب فهو مصدق،
لأن المستأجر لا يضمن، إلا أن يتعدى أو يفرّط.
وإن استأجره يومين فلبسه يوماً، ثم ضاع في اليوم الثاني، فأصابه بعد ذلك
فرده، لم يلزمه أجر مدة الضياع، كالدابة تكترى أياماً فتضيع في بعضها،
فإنما
(3/352)
عليه حصة الأيام التي لم تضع فيها، وإن
استأجرت ثوباً تلبسه يوماً إلى الليل فلا تعطه غيرك ليلبسه، لاختلاف اللبس
والأمانة، وإن هلك بيدك لم تضمنه، وإن دفعته إلى غيرك كنت ضامناً إن تلف.
2901 - قال: وكره مالك - رحمه الله - لمكتري الدابة لركوبها كِراها من
غيره، كان مثله أو أخف منه، فإن أكراها لم أفسخه، وإن تلفت لم يضمن إن كان
أكراها في ما اكتراها فيه من مثله في حاله وأمانته وخفته. ولو بدا له عن
السفر أو مات، أكريت من مثله. (1)
وكذلك الثياب في الحياة والممات، وليس ككراء الحمولة والسفينة والدار، هذا
له أن يكري ذلك من مثله في مثل ما اكتراها له.
وإن اكتريت فسطاطاً إلى مكة فأكريته من مثلك في حالك وأمانتك، ويكون صنيعه
في الخباء كصنيعك، وحاجته إليه كحاجتك، فذلك جائز.
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/407، 416) ، ومواهب الجليل (5/416، 417) .
(3/353)
2902 - ولا بأس بإجارة حلي الذهب بذهب أو
فضة، وأجازه مالك - رحمه الله - ثم استثقله، وقال: ليس بحرام بيّن، وما هو
من أخلاق الناس، وأجازه ابن القاسم.
ويجوز إجارة المكيال والميزان والدلو والفأس وشبه ذلك.
2903 - وتجوز إجارة المصحف لجواز بيعه، وأجاز بيعه كثير من التابعين. قال
ابن عباس - رضي الله عنهما -: ما لم يجعله متجراً. وأما ما عملته بيدك
فجائز. قال ابن القاسم: وتجوز الإجارة على كتابته.
(3/354)
ولا بأس بالإجارة على تعليم القرآن، كل
سنة، أو كل شهر بكذا، أو على الحِذاق للقرآن بكذا، أو على أن يعلمه القرآن
كله أو سدسه بكذا. (1)
وتجوز الإجارة على تعليم الكتابة فقط، أو على الكتابة مع القرآن مشاهرة.
قال ابن وهب عن مالك: ولا بأس أن يشترط مع أجرته شيئاً معلوماً كل فطرٍ أو
أضحى.
2904 - وأكره الإجارة على تعليم الفقه والفرائض، كما أكره بيع كتبها.
وأكره الإجارة على تعليم الشعر والنحو، أو على كتابة ذلك أو إجارة كتب فيها
ذلك أو بيعها.
وكره مالك بيع كتب الفقه فكيف بهذه. وما كره بيعه فلا تجوز إجارته.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/418) ، والتاج والإكليل (5/423) ، ومواهب
الجليل (5/419، 423) .
(3/355)
2905 - وكره مالك قراءة القرآن بالألحان
فكيف بالغناء.
وكره مالك بيع الأمة بشرط أنها مغنية. قال ابن القاسم: فإن وقع فسخ البيع.
2906 - وكره مالك الإجارة على الحج، وعلى الإمامة في الفرض والنافلة وفي
قيام
(3/356)
رمضان. [وهو عندي في المكتوبة أشد كراهية]
.
2910 - ومن استأجر رجلاً على أن يؤذن لهم ويقيم ويصلي بهم جاز، وكأن الأجر
إنما وقع على الأذان والإقامة والقيام بالمسجد لا على الصلاة.
2911 - ومن أجرته على تعليم عبدك القرآن والكتابة سنة وله نصفه، لم يجز، إذ
لا يقدر على قبض ماله فيه قبل السنة، وقد يموت العبد فيها فيذهب عمله
باطلاً.
وإن دفعت عبدك إلى خياط، أو قصار، أو غيره ليعلموه ذلك العمل بعمل الغلام
سنة جاز ذلك، وقال غيره: بأجر معلوم أجوز.
2912 - ولا تعجبني إجارة الدف والمعازف في العرس، وكره ذلك مالك وضعّفه،
(3/357)
ولا بأس بالإجارة على قتل قصاص، أو على ضرب
عبدك وولدك للأدب، كما تجوز إجارة الطبيب، وهو يقطع ويبطّ، وأما لغير ما
ينبغي من الأدب فلا يعجبني.
وإن آجره على قتل رجل ظلماً فقتله، [قُتل به] ولا أجر له.
2913 - وكل مستأجر على ما لا يجوز من ذلك، فعلى الأجير القصاص، وعلى الذي
آجره الأدب.
والأطباء إذا استؤجروا على العلاج فإنما هو على البرء، فإن برئ فله حقه،
وإلا فلا شيء له، إلا أن يشترطا شرطاً حلالاً فينفذ بينهما، كالشرط أن
يكحله شهراً، أو كل يوم بدرهم، فيجوز إن لم ينقده، [وهذه إجارة] ، فإن برئ
قبل الأجل أخذ بحسابه، إلا أن يؤجره وهو صحيح العينين بكحله شهراً بدرهم،
فيجوز فيه النقد، إذ لا يتقي فيه رد ما بقي بعد البرء، ويلزمهما تمامه.
(3/358)
2914 - وكره مالك إجارة قسّام الدور أو
قسام القاضي وحسّابهم، وقال: قد كان خارجة ومجاهد [يقسمان مع القضاة
ويحسبان] ولا يأخذان لذلك جُعلاً، ولا يصلح [لأحد] أن يبني مسجداً ليكريه
ممن يصلي فيه، أو يكري بيته ممن يصلي فيه. وأجاز ذلك غيره في البيت.
(3/359)
2915 - وكره مالك السكنى بالأهل فوق ظهر
المسجد.
2916 - ولا بأس أن يكري أرضه على أن تُتخذ مسجداً عشر سنين، فإذا انقضت كان
النقض للذي بناه ورجعت الأرض إلى ربها.
2916 - ولا يجوز لمسلم أن يكري داره، أو يبيعها ممن يتخذها كنيسة، أو بيت
نار في مدينة أو قرية لأهل الذمة.
(3/360)
ولا يكري لهم دابة ليركبوها لأعيادهم، أو
يبيع منهم شاة يعلم [أنهم] يذبحونها لذلك.
2917 - قال مالك - رحمه الله -: وليس لأهل الذمة أن يحدثوا في بلد الإسلام
كنائس إلا أن يكون لهم أمر أعطوه. (1)
قال ابن القاسم: ولهم أن يحدثوها في بلدة صولحوا عليها، وليس ذلك لهم في
[بلد] العنوة، لأنها فيء ليست لهم، ولا تورث عنهم، ولو أسلموا لم يكن لهم
فيها شيء.
قال: وما اختطه المسلمون عند فتحهم وسكنوه، كالفسطاط والبصرة والكوفة
وإفريقية وشبهها من مدائن الشام، فليس لهم إحداث ذلك فيها، إلا أن يكون لهم
عهد فيوفى به، لأن تلك المدائن صارت لأهل الإسلام دون أهل الصلح، يبيعونها
ويتوارثونها.
وقال غيره: كل بلدة افتتحت عنوة وأُقروا فيها وأوقفت الأرض لنوائب
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/424) .
(3/361)
المسلمين وأعطياتهم فلا يمنعوا من كنائسهم
التي فيها، ولا من أن يحدثوا فيها كنائس، لأنهم أقروا [فيها] على ما يجوز
لأهل الذمة، ولا خراج عليهم في قراهم التي أقروا فيها، وإنما الخراج على
الأرض.
2918 - ولا يجوز لمسلم أن يؤجر نفسه، أو عبده، أو دابته في حمل الخمر، أو
داره، أو حانوته، أو شيئاً مما يملكه في أمر الخمر، [فإن نزل ذلك تصدق به]
. ولا يعطى من الإجارة شيئاً لا ما سموا ولا أجر مثله، كمسلم باع خمراً فلا
يعطى من ثمنها شيئاً، ويفعل فيه، إن كان قبض الإجارة أو لم يقبض، مثل ما
وصفنا في ثمن الخمر.
2919 - وإن آجر نفسه من ذمي يرعى له الخنازير أُدّب، إلا أن يعذر بجهل،
وتؤخذ الإجارة من الذمي ولا تترك له، مثل قول مالك في الخمر، ويتصدق بها
على المساكين، ولا يحل للمسلم أخذها أدباً له.
(3/362)
2920 - ولو باع منه الذمي خمراً وهو يعلم
أنه مسلم أُدّب الذمي على ذلك، ويتصدق بالثمن على المساكين أدباً للذمي،
وتكسر الخمر في يد المسلم، وأكره لمسلم أن يؤجر نفسه من ذمي لحرث، أو بناء،
أو حراسة، أو غير ذلك، أو يأخذ منه قراضاً.
2921 - ولا بأس بالإجارة على طرح الميتة والدم والعذرة، ولا يؤجر على طرح
الميتة بجلدها، إذ لا يجوز بيعه وإن دبغ، ولا يصلى عليه ولا يلبس.
وأما الاستسقاء في جلود الميتة إذا دبغت، فإنما كرهه مالك في خاصة نفسه،
ولم يحرمه، ولا بأس أن يغربل عليها ويجلس، وهذا وجه الانتفاع الذي جاء في
الحديث.
* * *
(3/363)
[في إجارة نزو الفحل]
2922 - ولا بأس بإجارة الفحل للإنزاء، كان فرساً، أو حماراً، أو بعيراً، أو
تيساً، على نزو أكوام معلومة، أو أشهر بكذا، فإن شرط نزو الفحل حتى تعلق
الرمكة لم تجز الإجارة. (1)
وذكر بيع ماء العيون قد جرى مستوعباً في كتاب التجارة [بأرض الحرب] .
2923 - وكره مالك - رحمه الله - أن يشتري الوصي من مال اليتيم لنفسه، فإن
فعل، أو أجر الوصي نفسه من يتيم في حجره تعقبه الإمام، فما كان خيراً
لليتيم أمضاه. وكذلك الأب في ابنه الصغير.
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/427) .
(3/364)
ومن أجر ابنه للخدمة، فإن كان الابن
محتلماً جاز ذلك، وكان له الأجر.
2924 - وإن أجر صبياً صغيراً في عمل بغير إذن وليه، أو عبداً محجوراً عليه
بغير إذن سيده لم يجز ذلك إلا بإذنهما، فإن [فعل] بوعملا] فعليه الأكثر مما
سمى، أو أجر المثل، كالتعدي والغصب في الدابة، وإن عطبا وكان عملاً يعطبان
في مثله، فالسيد مخير في أخذ الكراء ولا شيء له من قيمة العبد، أو يأخذ
قيمة العبد ما بلغت ولا كراء له. وأما في الصبي فعلى المكتري الأكثر من أجر
مثله، أو ما سمي له، والدية على عاقلته.
قال ابن وهب عن مالك: وإذا أنكر السيد أن يكون أذن له في الإجارة لم يضمن
مستعمله أجر هلاكه، إلا أن يستعمله في غرر كالبئر ذات الحَمْأة، أو الهدم
تحت الجدران بغير إذن أهله فيضمن.
وكذلك إن أطلقه ربه في الإجارة ضمن من استعمله في هذا الغرر بغير إذن سيده،
لأنه لم يؤذن له في التغرير بنفسه.
وإن خرج به في سفر بغير إذن أهله ضمن.
(3/365)
2925 - قال ربيعة: من استعان عبداً فيما
فيه الإجارة ضمنهن وكذلك إن أجره في غرر والعبد قد أرسل في الإجارة. وأما
حُرّ كبير فما علمت فيه شيئاً، إلا أن يستغفل أو يستجهل في أمر لا يعلم منه
ما يعلم من أجره.
ومن استعان غلاماً غير بالغ فيما في مثله الإجارة ضمن ما أصابه، وأما ما لا
إجارة فيه كمناولة القدح والنعل وشبه ذلك، فلا عقل فيه في حر ولا عبد.
قال ابن القاسم: ومن آجر عبداً يخدمه شهراً بعينه، على أنه إن مرض قضاه ذلك
في غيره، لم يعجبني، لاختلاف أيام الشتاء والصيف عن تمادى مرضه. (1)
2926 - ولا بأس بإجارة الحائط لحمل خشب، أو لبناء سترة عليه، أو لضرب وتد،
أو تعليق ستر كل شهر بكذا.
_________
(1) انظر: حاشية العدوي (2/476) .
(3/366)
والحديث في غرز الخشب إنما هو ندب ولا يقضى
به. (1)
2927 - ولا بأس بإجارة العبد ذي الصنعة على أن يأتيك بالغلة، ما لم تُضمّنه
في أصل الإجارة خراجاً معلوماً، وإن وضعته عليه بعد ذلك ولم تضمنه إن لم
يأت به جاز ذلك.
قال ابن وهب: قال مالك: وإن آجرت أجيراً سنة بدنانير ليعمل لك في السوق على
أن يأتيك بثلاثة دراهم كل يوم، لم يجز، لأنه إن أعطاك فضة فهو ذهب في فضة
مؤجلة، وإن كان على أن يعطيك به طعاماً فهو سلم في حنطة بغير سعر معلوم،
وقد يكثر ما يعطيك بثلاثة دراهم لرخص الطعام، وقد يقل لغلائه فهو غرر.
_________
(1) رواه البخاري (1215) ، ومسلم (1609) .
(3/367)
2928 - وأكره للأعزب أن يؤاجر حرة ليس بينه
وبينها محرم أو أمة لخدمته، يخلو معها أو يعادلها في محمل.
2929 - ولا بأس بإجارة العبد عشر سنين أو خمس عشرة سنة، وجواز ذلك في الدور
أبين.
(3/368)
والموصى له بخدمة [عبد] عشر سنين لا بأس أن
يكريه عشر سنين.
وقال غيره: لا تجوز إجارة العبد السنين الكثيرة لما في الحيوان من سرعة
التغير، وهو في الدواب أبين غرراً.
2930 - ومن أجّر عبده أو نفسه في خياطة شهراً، لم يجز أن يفسخ ذلك في قصارة
أو غيرها، لأنه دين بدين [إلا أن تكون الإجارة يوماً ونحوه فيجوز ذلك، لأنه
لا يكون ديناً بدين] .
2931 - ومن استأجر عبداً يخدمه جاز أن يؤاجره في مثل ذلك.
ومن استأجر عبداً للخياطة كل شهر بكذا فلا يستعمله في غيرها، فإن فعل فعطب
ضمنه إن كان عملاً يعطب في مثله.
2932 - ومن أجر أجيراً في الخدمة استعمله على عرف الناس من خدمة الليل
والنهار، كمناولته إياه ثوبه، أو الماء في ليله، وليس فيما يمنعه النوم،
إلا في
(3/369)
أمر يعرض له المرة يستعمله فيه بعض ليله،
كما لا ينبغي لأرباب العبيد إجهادهم، فمن عمل منهم في نهاره ما يجهده فلا
يستطحنه في ليله، إلا أن يخفّ عمل نهاره فليستطحنه ربه في ليله إن شاء من
غير [إكراء ولا] إفداح. وكُره ما أجهد أو قل أمنه.
2933 - ومن استأجر أجيراً للخدمة فليس له أن يسافر به، ولا يجوز أن يشترط
أنه إن سافر أو حرث استعمله في ذلك.
2934 - ولا بأس باشتراط ما شابه الخدمة من عجن وخبز وكنس، والمُتباعد خطراً
لتفاوت قيم الأعمال.
2935 - ومن أجر عبده ثم باعه، فالإجارة أولى به، فإن كانت إجارته قريبة،
كيوم أو يومين، جاز البيع، وإن بعد الأجل فسخ البيع، ولم يكن للمبتاع أخذه
بعد الإجارة، إذ لا يجوز بيع عبد على أن يقبض إلى شهر.
(3/370)
2936 - والعبد المستأجر يمرض مرضاً بيناً
أو يأبق أو يهرب إلى بلد الحرب، فإن الإجارة تفسخ، ولو رجع أو أفاق في بقية
المدة لزمه تمامها.
قال غيره: إلا أن يكون فُسخ الإيجار.
وقال في باب بعد هذا: إلا أن يتفاسخا قبل ذلك.
ولو هرب السيد إلى بلد الحرب كانت الإجارة بحالها لا تنتقض.
ولا تكرى أم الولد في الخدمة.
2937 - ومن استأجر عبداً للخدمة فألفاه سارقاً فهو عيب يرد به كالبيع.
2938 - ومن استؤجر على رعاية غنم كثيرة لا يقوى على أكثر منها، فليس
(3/371)
له أن يرعى معها غيرها، إلا أن يدخل معه
راعياً يقوى به، إلا أن تكون غنماً يسيرة فذلك له، إلا أن يشترط ربها عليه
ألا يرعى معها غيرها، فيجوز ويلزمه.
وأكره هذا الشرط في قليل القراض، إذ ليس بإجارة معلومة، وهذا يحيله عن وجه
رخصته.
والإجارة تجوز مؤجلة، أو على بيع متاع، أو شرائه ببلد آخر بخلاف القراض.
فإن رعى [غنماً] غيرها بعد هذا الشرط فالأجر لرب الأولى.
وكذلك أجيرك للخدمة يؤجر نفسه من غيرك يوماً أو أكثر، فلك أخذ الأجر وتركه،
أو إسقاط حصة ذلك اليوم من الأجر عنك.
قال غيره: إن لم يدخل برعاية الثانية [على الأولى تقصير في الرعاية، فأجر
الثانية] للراعي، وليس للراعي أن يأتي بغيره يرعى مكانه،
(3/372)
ولو رضي بذلك رب الغنم لم يجز.
2939 - ومن مر براعٍ فلا ينبغي له أن يستسقيه لبناً، وإذا توالدت الغنم
حُملا في رعاية الولد على عرف الناسن فإن لم تكن لهم سُنة لم يلزمه
رعايتها.
2940 - ولا ضمان على الرعاة إلا ما تعدّوا فيه، أو فرطوا في جميع ما رعوه
من الغنم والدواب لناس شتى، أو لرجل واحد، ولا يضمن [الراعي] ما سُرق إلا
أن تشهد بينة أنه ضيع أو فرط. قال أبو الزناد: وإلا لم يلزمه إلا يمين. (1)
قال ابن وهب: قال مالك - رحمه الله -: ولا ضمان عل العبد الراعي إلا أن
ينحر شيئاً فيضمنه.
قال أبو الزناد: وإن استُرعي العبد بغير إذن سيده فنحر أو باع، فليس على
سيده
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/427) ، ومواهب الجليل (5/428) .
(3/373)
ولا في رقبة العبد شيء من ذلك. قال ابن
القاسم: وإن اشترط على الراعي الضمان فسدت الإجارة ولا شيء عليه وله أجر
مثله بغير ضمان، [نافَ] على التسمية أو نقص.
وقال غيره: إن كان ذلك أكثر من التسمية لم يزد عليها. قال: ومحال أن تكون
أكثر.
قال ابن القاسم: وكذلك إن شرطوا على الراعي أنه إن لم يأت بسمة [على] ما
مات منها ضمن، فلا يضمن وإن لم يأت بها، وله أجر مثله ممن لا ضمان عليه.
وإن خاف الراعي الموت على شاة فذبحها، لم يضمن ويصدق إذا جاء بها مذبوحة.
وقال غيره: يضمن ما نحر.
والراعي مصدق فيما هلك أو سُرق، ولو قال: ذبحتها ثم سُرقت، صُدّق.
(3/374)
وقال غيره: بالذبح ضَمِن.
وإن أنزى الراعي على الإبل أو البقر والغنم والرمك بغير إذن أهلها فعطبت
ضمن. قال غيره: لا يضمن.
وإن شرط عليه الرعاية بموضع فرعى في غيره ضمن قيمتها يوم تعدى، كالتعدي في
الدابة، وله الأجر إلى يوم تعديه.
2941 - ولا باس بإجارة الظئر على إرضاع الصبي حولاً أو حولين بكذا. (1)
وكذلك إن شرطت عليهم طعامها وكسوتها، وليس لزوجها وطؤها إن أجرت
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (4/364) ، (5/425) ، ومواهب الجليل (5/412) .
(3/375)
نفسها بإذنه، وإن كان بغير إذنه فله أن
يفسخ إجارتها، وترضعه حيث اشترطوا، فإن لم يشترطوا موضعاً فشأن الناس
الرضاع عند الأبوين، إلا امرأة لا ترضع مثلها عند الناس، أو يكون الأب
وضيعاً لا يرضع مثلها عنده فذلك لها، ويُحمّلون فيما يحتاجه الصبي من
المؤنة في غسل خرقه، وتحميمه ودهنه ودق ريحانه وطيبه، على ما تعارفه الناس،
فإذا حملت الظئر فخيف على الصبي فلهم فسخ الإجارة، ولا يلزمهما أن تأتي
بغيرها ترضعه، وكذلك تفسخ الإجارة بموت الصبي ولها بحساب ما أرضعت، وليس
لها ولا لأبويه أن يأتوا بصبي غيره ترضعه، كمن اكترى دابة ليركبها، فليس له
كراؤها من غيره في مثل حاله وخفته، لأنه قد يجد من هو مثله في الأمانة
والحال والخفة، ولا يكون مثل في الرفق.
وإن سافر الأبوان فليس لهما أخذ الصبي إلا أن يدفعا إلى الظئر جميع الأجر.
2942 - وإن أجرت الشريفة نفسها لرضاع صبي لزمها ذلك، وإن لم يقض على مثلها
برضاع ولدها، لأنها ألزمت ذلك نفسها، كما لو شاءت رضاع ولدها لم تمنع.
2943 - وإذا مرضت الظئر مرضاً لا تقدر معه على الرضاع فسخت الإجارة.
ولو صحت في بقية منها جُبرت على الرضاع [بقيتها] ، ولها من الأجر بقدر
(3/376)
ما أرضعت، وليس عليها أن ترضع ما مرضت. قال
غيره: إلا أن يكون الكراء فسخ بينهما فلا يعود.
[قال ابن القاسم:] وإن تمادى مرضها حتى انقضى وقت الإجارة فلا تعود إلى
الرضاع.
ولو آجرها على رضاع صبيين حولين، فمات أحدهما بعد حول، وضع عنه قدر ما
ينوبه، وذلك ربع الإجارة، إلا أن يختلف ذلك من رخص الكراء أو غلائه،
وباختلاف الأزمنة من شتاء وصيف، وصبي كبير وصغير، فيحسب ذلك. ثم لها أن
ترضع مع الباقي غيره بإجارة. ولو آجرها على إرضاع صبي لم يكن لها أن ترضع
غيره معه. ومن آجر ظئرين فماتت واحدة، فللباقية ألا ترضع وحدها.
(3/377)
وكذلك الأجيران في رعاية الغنم، يموت
أحدهما.
وإن آجر واحدة ثم [آجر] أخرى تطوعاً، فماتت الثانية فالرضاع للأولى لازم
كما كانت، وإن ماتت الأولى فعليه أن يأتي بمن يرضع مع الثانية.
2944 - وإن هلك الأب فحصة باقي المدة من الأجر في مال الولد، قدمه الأب أو
لم يقدمه، وترجع حصة باقي المدة [من الأجر] إن قدمه الأب ميراثاً، وليس ذلك
عطية وجبت، [إذ] لو مات الصبي لم يورث عنه، وكان للأب خاصة دون أمه، ففارق
معنى الضمان في الذي يقول لرجل: اعمل لفلان عملاً أو بعه سلعتك والثمن لك
عليّ، فالثمن في ذمة الضامن إن مات، ولا طلب على المبتاع ولا على الذي عمل
له.
وإن مات الأب ولم يدع مالاً، ولم تأخذ الظئر من أجرتها شيئاً، فلها فسخ
الإجارة.
ولو تطوع رجل بأدائها لم تفسخ، وما وجب للظئر فيما مضى ففي ذمة الأب، ولا
طلب فيه على الصبي.
ولو أرضعته باقي المدة لم تتبعه بشيء، وكذلك إن قالت: أرضعه على أن أتبعه،
فهي متطوعة، كمن أنفق على يتيم لا مال له، وأشهد أن يتبعه إن طرأ له مال،
فذلك غير لازم له، وهو على وجه الحسبة.
(3/378)
ولا بأس أن يؤجر الرجل أمه أو أخته أو ذات
رحم على رضاع ولده، أو يؤجر زوجته أو خادمتها على رضاع ولده من زوجة له
أخرى.
وأجر رضاع اللقيط، ومن لا مال له [من اليتامى] على بيت المال.
2945 - وحامل الدُّهن والطعام لا يضمن ما عثر به فاهراق أو انكسر، أو فيما
ربضت به الدابة أو انقطع به الحبل، إلا أن يعلم أنه غر من عثار أو ضعف
حباله، أو غرر في رباطه، أو أخرق في سوق دابته، وإن لم يعلم ذلك لم يضمن،
وهو مصدق فيما ادعى من ذلك، إلا في الطعام والإدام، فلا يصدق في ذهابه إلا
ببينة.
ولا ضمان على من جلس يحفظ ثياب من دخل الحمام، لأنه أجير.
(3/379)
ولا يضمن أجير الخدمة ما كسر من آنية، أو
أفسد من طحين، أو أهراق من ماء أو لبن، أو ما وطئ عليه فكسره أو خرقه إلا
أن يتعدى.
وقال غيره: ما وطئ ليه أو عثر عليه فهي جناية، وما سقط من يده أو عثر به لم
يضمن.
وللصناع منه ما عملوا حتى يقبضوا أجرهم، وهم أحق به في الموت والفَلَس.
وكذلك حامل المتاع والطعام على رأسه أو دابته أو سفينته.
2946 - ولو آجرته على بناء دار فالأداة والماء والفؤوس والقفاف والدلاء على
من تعارف الناس أنها عليه.
(3/380)
وكذلك حيثان التراب في حفر القبر، ونقش
الرحا وشبهه، فإن لم تكن لهم سنة فآلة البناء على رب الدار ونقش الرحا على
ربها.
وإذا انهدم من حمام أو دار أو رحا ما أضر بالمكتري في السكنى، أو منعه
العمل فأراد فسخ الإجارة وأبى ربها فقال: أنا أصلح، فالقول قول المكتري.
ومن أجرته على بناء حائط ووصفته له فبنى نصفه ثم انهدم، فله بحساب ما بنى
[من أجره، لأنك قابض لكل ما بنى] ، وليس عليه بناؤه ثانية، كان الآجر
والطين [من عندك أو] من عنده.
وقال غيره: هذا في عمل رجل بعينه، وعليه في المضمون تمام العمل.
2947 - وإن آجرته على حفر بئر صفتها كذا، فحفر نصفها ثم انهدمت فله بقدر ما
عمل، ولو انهدمت بعد فراغها أخذ جميع الأجر، حفرها في ملكك أو في غير ملكك،
إلا أن يكون بمعنى الجعل.
(3/381)
فإن انهدمت قبل إسلامها إليك فلا شيء له،
وإسلامها إليك فراغه من حفرها.
وقد قال مالك - رحمه الله - في الأجير على حفر قبر: فإن انهدم قبل فراغه
فلا شيء له، وإن انهدم بعد فراغه فله الأجر. (1)
قال ابن القاسم: وذلك فيما لا يملكه من الأرضين.
ولا بأس بالإجارة على حفر بئر بموضع كذا عمقها كذا، وقد خبر الأرض، فإن لم
يخبرها لم يجز، لأنه قد يسهل أعلاها ثم يظهر له حجر أو صلابة، وكذلك
الإجارة على حفر فُقُر النخل إلى الماء إن خبر الأرض جاز، وإلا لم يجز.
قال أبو الزناد: وعلى حافر البئر إخراج الماء.
قال ربيعة: ذلك في أرض متقاربة في خروج الماء، فأما مختلفة فمزارعة أحب
إليّ.
_________
(1) انظر: مواهب الجليل (2/246) .
(3/382)
2948 - ومن آجرته على حفر قبر فحفره شقاً،
فقلت أنت: أردته لحداً، حملتما على سنة الناس.
وإن أجرت رجلين على حفر بئر فحفرا بعضها ثم مرض أحدهما فأتمها الآخر فالأجر
بينهما. ويقال للمريض: أرض الحافر من حقك، فإن أبى لم يقض عليه، والحافر
متطوع له.
2949 - وإذا أراد الصناع والأجراء تعجيل الأجر قبل [الفراغ] وامتنع رب
العمل حُملوا على المتعارف بين الناس فيه، فإن لم تكن لهم سنة لم يقض لهم
إلا بعد فراغ أعمالهم، وأما في الأكرية في دار، أو راحلة، أو في إجارة بيع
السلع ونحوه فبقدر ما مضى.
وليس للخياط إذا خاط نصف القميص أخذ نصف الأجرة حتى يتم، إذ لم يأخذها على
ذلك.
(3/383)
2950 - وإن ادعى رب المتاع أن الصانع عمله
له باطلاً، وقال الصانع: [بل] بأجر كذا، صدق الصانع فيما يشبه من الأجر،
وإلا رد إلى إجارة مثله.
وقال غيره: يحلف الصانع ويأخذ الأقل مما ادعى أو من أجر مثله.
ومن ادعي على صباغ أو صانع فيما قد عمله أنه أودعه إياه، وقال الصانع: بل
استعملني فيه، فالصانع مصدق، لأنهم لا يشهدون في هذا، ولو جاز هذا لذهبت
أعمالهم.
وقال غيره: بل الصانع مدع.
(3/384)
وإذا أقرّ الصانع بقبض متاع، وقال: عملته
ورددته ضمن، إلا أن يقيم برده بينة، وإن ادعي على أحدهم فأنكر لم يؤخذ إلا
ببينة أن المتاع قد دفع [إليه] وإلا حلف.
وإذا قال الصانع: استعملتني هذا المتاع، وقال ربه: بل سُرق مني، تحالفا، ثم
قيل لربه: ادفع إليه أجر عمله وخذه، فإن أبى قيل للعامل: ادفع إليه قيمة
ثوبه غير معمول، فإن أبى كانا شريكين، هذا بقيمة ثوبه غير معمول، وهذا
بقيمة عمله، لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه.
وقال غيره: العامل مدع، ولا يكونان شريكين.
2951 - قال ابن القاسم: وكذلك إن ادعى أن الصانع سرقه منه، إلا أنه ههنا إن
كان الصانع ممن لا يشار إليه بذلك، عوقب رب الثوب، وإلا لم يعاقب.
2952 - وإن أقمت بينة على قميص بيد رجل أنها كانت ملحفة لك لم تأخذه إلا
بغرم
(3/385)
قيمة الخياطة، وإلا قضى بما ذكرنا في
السرقة.
وقاله مالك - رضي الله عنه - في يتيم باع ملحفة فتداولتها الأيدي بالبيع
وقد صبغها آخرهم، فإنهم يترادّون الربح فيما بينهم، ولا شيء على اليتيم من
الثمن، إلا أن يكون قائماً بيده فيرده، ويكون اليتيم والذي صبغها آخراً
شريكين، هذا بقيمة الصبغ، واليتيم بقيمة الملحفة بيضاء، وبيعه للملحفة كلا
بيع.
وإذا قلع الحجام ضرس رجل بأجر فقال له: لم آمرك أن تقلع إلا الذي يليه، فلا
شيء بله] عليه، لأنه علم به حين قلعه، وله أجره، إلا أن يصدقه الحجام فلا
يكون له أجر. وقال غيره: الحجام مدع.
(3/386)
ومن لتّ سويقاً بسمن وقال لربه: أمرتني أن
ألته لك بعشرة دراهم، وقال ربه: لم آمرك أن تلته بشيء، قيل لصاحب السويق:
إن شئت فاغرم له ما قال وخذ السويق ملتوتاً، فإن أبى قيل للاّت: اغرم له
سويقه غير ملتوت، وإلا فأسلمه إليه بلتاته ولا شيء لك، ولا يكونان شريكين
في الطعام لوجود مثله.
وقال غيره: إن امتنع رب السويق أن يعطيه ما لتّه به قُضي له على اللاّت
بمثل سويقه غير ملتوت.
فإن قال: أمرتني أن ألته بعشرة ففعلت، فقال ربه: بل أمرتك بخمسة وبها
لتَتّه، فاللات مصدق مع يمينه إن أشبه أن يكون فيه سمن بعشرة، لأنه مدع
عليه الضمان.
وكذلك الصباغ إذا صبغ الثوب بعشرة دراهم عصفراً وقال لربه: بذلك أمرتني،
(3/387)
وقال ربه: بل ما أمرتك أن تجعل فيه إلا
بخمسة دراهم عصفراً، فالصباغ مصدق مع يمينه إن أشبه أن يكون فيه بعشرة
[دراهم] ، وإن أتى بما لا يشبه صٌدّق رب الثوب، فإن أتيا جميعاً بما لا
يشبه فله أجر مثله، واللات مثله سواء.
ولو قال رب الثوب: كان لي فيه صبغ متقدم، أو في السويق لتات متقدم، لم
يصدق، لأنه ائتمن الذي أسلمه إليه، والقول قول الصباغ واللات مع أيمانهما،
وهذا في جميع ما ذكرنا، إذا أسلم إليه السويق والثوب، وأما إن لم يسلمه
إليه، ولم يغب عليه فرب السويق مصدق في قوله: أمرتك بخمسة، إذا لم يأتمنه،
وهو كمبتاع يقول: لم أشتر إلا بخمسة، فالقول قوله، وإن قال أهل النظر: فيه
سمن بعشرة [دراهم] ، فإن لم يدع ربه أنه تقدم له فيه سمن فاللات مصدق، وإن
قال ربه: كان لي فيه لتات، فهو مصدق، إذ لم يسلمه إليه، ولو أسلمه إليه
لصدق رب السمن، ولم يصدق ربه أنه تقدم له فيه لتات.
2953 - ومن آجر يتيماً في حجره ثلاث سنين، فاحتلم بعد سنة، ولم يظن ذلك به،
فلا يلزمه باقي المدة إلا أن يبقى كالشهر ويسير الأيام، ولا يؤاجره وصي ولا
أب بعد احتلامه، وأما إن أكرى ربعه ودوابه ورقيقه سنين ثم احتلم بعد مضي
السنة، فإن كان يظن بمثله أنه لا يحتلم في تلك المدة، فعجل عليه الاحتلام
وأنس منه الرشد،
(3/388)
فلا فسخ له ويلزمه باقيها. وقال غيره: لا
يلزمه إلا فيما قل.
قال ابن القاسم: وإن عقد عليه أمداً يعلم أنه يبلغ فيه، لم يلزمه في نفسه
ولا فيما يملك من ربع وغيره، وكذلك الأب.
وأما سفيه بالغ آجر عليه وليّ أو سلطان، ربعه أو رقيقه سنتين أو ثلاث ثم
انتقل إلى حال الرشد، فذلك يلزمه، لأن الولي عقد يومئذ ما يجوز له.
قال غيره: إنما يجوز للولي هذا أن يكري عليه هذه الأشياء كالسنة ونحوها،
لأنه جُل كراء الناس، وإذ ترجى إفاقته كل يوم، فأما ما كثر فله فسخه.
2954 - وتجوز إجارة السمسار والجعل في شراء كثير الثياب بخلاف بيعها.
ومن دفع إلى بزاز مالاً وجعل له في كل مائة ديناراً يشتري له بها بزّاً كذا
وكذا جاز، وهذا جُعل.
(3/389)
قال ربيعة: إن كان ذلك موجوداً، فإن اشترى
أخذ وإلا فلا شيء له.
قال مالك - رحمه الله -: وله رد المال متى شاء، وإن ضاع بيده لم يضمن.
وإن فوض إليه في شراء مائة ثوب ولم يصفها، فاشترى له ما يشبه في تجارته أو
في كسوته لزمه ذلك.
2955 - ومن قال لرجل: إن جئتني، أو قال: من جاءني بعبدي الآبق فله أو فلك
عشرة دنانير، وسمى موضعاً [هو فيه] ، أو لم يسم ولم يعرف السيد موضعه، جاز
ذلك، ولمن جاء به العشرة.
وإن قال: من جاءني به فله نصفه، لم يجز، لأنه لا يدري ما دخله، وما لا يجوز
بيعه فلا يجوز [أن يكون] ثمناً لإجارة أو جعل، فإن جاء به على هذا فله أجر
مثله، وإن لم يأت به فلا شيء له.
ومن جعل لرجل في عبدين أبقا عشرة دنانير، إن أتى بهما، لم يجز، فإن
(3/390)
أتاه بأحدهما فله أجر مثله في عنائه لا
خمسة. وقال ابن نافع: له خمسة.
وإن جعل في عبد واحد لرجل خمسة، ثم جعل لآخر عشرة فأتيا به جميعاً فالعشرة
بينهما على الثلث والثلثين. وقال ابن نافع: لكل واحد منهما نصف ما جعل له.
2956 ومن قال لرجل: احصد زرعي هذا ولك نصفه، أو جذ نخلي هذه ولك نصفها،
جاز، وليس له تركه، لأنها إجارة.
وكذلك لقط الزيتون، وهو كبيع نصفه، وإن قال: فما حصدت أو لقطت فلك نصفه،
جاز، وله الترك متى شاء، لأن هذا جعل وغيره لا يجيز هذا.
(3/391)
وإن قال له: احصد اليوم أو التقط اليوم،
فما اجتمع فلك نصفه، فلا خير فيه، إذ لا يجوز بيع ما يحصد اليوم، ولا أجيزه
ثمناً مع ضرب الأجل في الجعل، إلا أن يشترط أن يترك متى شاء فيجوز.
وإن قال له: انفض شجري، أو حركها فما نفضت أو سقط فلك نصفه، لم يجز، لأنه
مجهول.
[وإن قال له: اعصر زيتوني، أو جلجلاني، فما عصرت فلك نصفه، لم يجز، إذ لا
يدري كيف يخرج، وإذ لا يقدر على الترك إذا شرع، وليس
(3/392)
هكذا الجعل] ، والحصاد يدعه متى شاء إذا
قال: فما حصدت من شيء فلك نصفه.
وأما قوله: احصده ولك نصفه، فتلك إجارة لازمة.
وإن قال له: احصد [زرعي هذا] وادرسه لك ونصفه، لم يجز، لأنه استأجره بنصف
ما يخرج من الحب، وهو لا يدري كم يخرج [ولا كيف يخرج] ، ولأنك لو بعته زرعك
جزافاً وفد يبس على أن عليك درسه وحصاده وذريه، لم يجز، لأنه اشترى حباً
جزافاً لم يعاين جملته.
ولو قال: على أن كل قفيز بدرهم، جاز، لأنه معلوم بالكيل وهو يصل إلى صفة
القمح بفرك سنبله، وإن تأخر في درسه على مثل عشرة أيام أو خمسة عشر يوماً،
فهو قريب، وليس ذلك كحنطة في بيتك، تلك لا بد فيها من صفة أو عيان وهذا
معين.
(3/393)
وكره مالك الجعل على الخصومة، على أنه لا
يأخذ إلا بإدراك الحق.
قال ابن القاسم: وإن عمل على ذلك فله أجر مثله. (1)
وقد روي عن مالك أنه جائز.
* * *
_________
(1) انظر: البيان والتحصيل لابن رشد (14/49) .
(3/394)
|