التهذيب في اختصار المدونة

 (كتاب الحبس)
3838 - قال: ومن حبّس في سبيل الله فرساً أو متاعاً، فذلك في الغزو، ويجوز أن يصرف في مواحيز الرباط، كالإسكندرية ونحوها، وأمر مالك في مال جُعل في السبيل أن يُفرَّق في السواحل من الشام ومصر [وتونس بالغرب] ولم يَرَ جُدَّة من ذلك. قيل: قد نزل بها العدو. قال: كان ذلك أمراً خفيفاً. (1)
[وسأله قوم: أيام كان من دهلك ما كان، وقد تجهزوا يريدون
_________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/32) ، والتقييد (6/157) .

(4/319)


الغزو إلى عسقلان وإلى الإسكندرية أو بعض السواحل، فاستشاره قوم أن ينصرفوا إلى جدة فنهاهم عن ذلك وقال لهم: الحقوا بالسواحل] .
3839 - قال ربيعة: كل ما جعل حبساً أو حبساً صدقة، فذلك يصرف في مواضع الصدقة على نحو النفع به، إن كانت دواب ففي الجهاد، وإن كانت غلة أموال فرأي الإمام في [أي وجه] الصدقة [يضعها] .
ومن قال: داري حبس فقط، ولم يجعل لها مخرجاً في وصيته، فهي حبس على الفقراء [والمساكين] إلا أن يُرى لذلك وجه يصرف إليه، مثل أن يكون بموضع رباط كالإسكندرية، وجُلّ ما حبس الناس بها في السبيل فيجتهد فيها الإمام. (1)
3840 - ومن حبس رقيقاً أو دواب في السبيل، استعملوا في ذلك ولم يباعوا، ولا بأس أن يحبس الرجل الثياب والسروج.
وما ضعف من الدواب المحبسة في السبيل، وما بلي من الثياب حتى لا ينتفع به،
_________
(1) انظر: منح الجليل لعليش (8/145) .

(4/320)


بيع فاشتُري بثمن الدواب فرس أو برذون أو هجين، فإن لم يبلغ أُعين به في فرس.
ابن وهب عن مالك: وكذلك الفرس يكْلِب أو يخبث، فلا باس أن يباع ويشترى فرس مكانه.
قال ابن القاسم: وأما الثياب فيشترى بثمنها ثياباً ينتفع بها، فإن لم يبلغ، تصدق بها في السبيل.
وقد روى غيره أنه لا يُباع ما حبس من عبد أو ثوب، كما لا تباع الرباع الداثرة [الحبس إذا خربت، وبقاء أحباس السلف خراباً دليل على أن بيعه غير

(4/321)


مستقيم] ، وإن كان قد روي عن ربيعة في الرباع والحيوان خلاف هذا، إذا رأى ذلك الإمام.
3841 - مالك: ومن قال: هذه الدار حبس على فلان وعقبه، أو عليه وعلى ولده وولد ولده، أو قال: حبس على ولدي، ولم يجعل لها مرجعاً، فهي موقوفة لا تباع ولا توهب، وترجع بعد انقراضهم حبساً على أولى الناس، بالذي حبس يوم المرجع وإن كان حياً.
قال مالك: وإن تصدق بدار له على رجل وولده ما عاشوا، ولم يذكر شرطاً ولا مرجعاً فانقرضوا، فإنها ترجع حبساً في فقراء أقارب الذي حبس ولا تورث.

(4/322)


قال غير ابن القاسم: كل حبس أو صدقة لا مرجع لها على مجهول [يأتي] فهو الحبس الموقوف، مثل أن يقول: على ولدي، ولم يسمهم، [هذا مجهول] ، ألا ترى أن من حدث من ولده بعد هذا القول يدخل فيه؟.
وكذلك لو قال: على ولدي وعلى من يحدث لي بعدهم، فإنها لا ترجع ملكاً.
قال ربيعة: وكذلك على قوم لا يحاط بعددهم.
قال ربيعة: فأما الصدقة على قوم بأعيانهم - ومعناه: ما عاشوا ولم يذكر تعقيباً - فهو تعمير ترجع إليه إذا ماتوا مُلْكاً. (1)
_________
(1) انظر: المقدمات لابن رشد (2/420) ، والتقييد (6/160) .

(4/323)


3842 -[قال مخرمة بن بكير: أو لورثته إن مات ملكاً] .
وأصل قول مالك أنه إذا قال: حبساً، ولم يقل: صدقة، فهي حبس إذا كانت على غير قوم بأعيانهم، وإن كانت على قوم بأعيانهم فقال: حبس، ولم يقل: صدقة، لا تباع ولا توهب، فقد اختلف قوله فيه، فمرة قال: ترجع بعد انقراضهم إلى ربها إن كان حياً، أو إلى ورثته بعد موته ملكاً تباع. وقال مرة: لا ترجع ملكاً، وتكون حبساً، كقوله: لا تباع.

(4/324)


وإن قال في المعينين حبساً صدقة، أو قال: لا تباع، فانقرضوا، فلم يختلف قوله أنها لا تباع وترجع إلى أولى الناس به يوم المرجع حبساً، ولا ترجع إليه وإن كان حياً، وعليه أكثر الرواة.
3843 - وقال ربيعة: ومن حبس داره على ولده وولد غيره، فليسكنوها بقدر مرافقهم، فإن انقرضوا فهي لولاته دون ولاة من ضم مع ولده.
قال يحيى بن سعيد: من حبس داره على ولده، فهي على ولده وولد ولده: ذكرهم وأنثاهم، إلا أن ولده أحق من أبنائهم ما عاشوا، إلا أن يكون فضل فيكون لولد الولد.
وقال مالك: من قال حبس على ولدي فإن ولد الولد يدخلون مع الآباء، ويؤثر الآباء.
وإن قال: على ولدي وولد ولدي، دخلوا أيضاً ويبدأ بالولد، فإن كان فضل كان لهم وكان المغيرة وغيره يساوي بينهم.

(4/325)


3844 - قال مالك: ولا شيء لولد البنات، للإجماع أنهم لم يدخلوا في قول الله عز وجل: ×يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ% [النساء: 11] .
[ابن القاسم:] ومن حبس في مرضه داراً على ولده وولد ولده والثلث يحملها، ثم مات وترك [أماً] وزوجة، فإنها تقسم على عدد الولد وولد الولد، فما صار لولد الولد نفذ لهم في الحبس، وما صار للأعيان كان بينهم وبين الأم والزوجة على الفرائض موقوفاً بأيديهم حتى ينقرض ولد الأعيان، فتخلص الدار كلها لولد الولد حبساً، [ولو ماتت الأم أو الزوجة كان ما بيدهما لورثتهما موقوفاً، وكذلك يورث نفع ذلك عن وارثهما [أبداً] ما بقي أحد من ولد الأعيان] ، فإن مات أحد ولد الأعيان قسم نصيبه [بالتحبيس] على من بقي من ولد الأعيان وعلى ولد الولد، [لأنهم هم الذين حبس عليهم] ، ثم تدخل الأم والزوجة وورثة الميت من ولد الأعيان في الذي أصاب ولد الأعيان من ذلك على فرائض الله تعالى، فإن هلكت الأم أو الزوجة أو هلكتا جميعاً، دخل ورثتهما في حظوظهما ما دام أحد من ولد الأعيان حياً.

(4/326)


فإذا انقرضت الأم أو الزوجة أولاً دخل ورثتهما مكانهما.
فإن انقرض أحد ولد الأعيان بعد ذلك، قسم نصيبه على من بقي من ولد الأعيان [وعلى ولد الولد، ورجع من بقي من ورثة ذلك الهالك من ولد الأعيان] وورثة الزوجة وورثة الأم في الذي أصاب ولد الأعيان، فيكون بينهم على الفرائض، فإن مات ورثة الزوجة والأم وبقي ورثة ورثتهم دخل في ذلك ورثة ورثتهم، وورثة من هلك من ولد الأعيان أبداً، ما بقي من [ولد الأعيان أحد بحال ما وصفنا، فإن انقرض ولد الأعيان و] ولد الولد، رجعت الدار حبساً على أقرب الناس بالمحبس.

(4/327)


3845 - ومن حبس داراً على رجل وعلى [ولده و] ولد ولده، واشترط على الذي حبس عليه إصلاح ما رثّ منها من ماله، لم يجز، وهو كراء مجهول، ولكن يمضي [ذلك] ولا مرمة عليه، وترم من غلتها، وقد فاتت في سبيل الله ولا يشبه البيوع.
3846 - وقال مالك في الفرس يحبس على الرجل ويشترط على المحبس عليه حبسه سنة وعلفه فيها: إنه لا خير فيه، إذ قد يهلك الفرس قبلها فيذهب علفها باطلاً.

(4/328)


3847 - قال ابن القاسم: وأرى إن لم يمض الأجل أن يخير الذي حبس الفرس، فإما ترك الشرط وبتل الفرس للرجل، أو أخذه وأدى للرجل ما أنفق عليه، وإن مضى الأجل لم يؤد، وكان للذي بتل له بعد السنة بغير قيمة. (1)
3848 - وأما بائع العبد على أنه مدبر على المبتاع، فلا خير فيه، إلا أنه لا يفسخ، لأنه بيع [قد] فات بالتدبير، ويرجع البائع على المبتاع بتمام الثمن، إن كان البائع هضم له من الثمن [لذلك] شيئاً.
_________
(1) انظر: البيان والتحصيل لابن رشد (12/204) .

(4/329)


3849 - ويكره لمن حبس أن يخرج البنات من حبسه، [ولا يخرج من الحبس أحد لأحد] .
[وروى ابن وهب أن عائشة - رضي الله عنها - كانت إذا ذكرت صدقات الناس

(4/330)


اليوم وإخراج الناس بناتهم منها، تقول: ما وجدت للناس مثلاً اليوم في صدقاتهم إلا ما قال الله تبارك وتعالى: ×وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء% [الأنعام: 139] .
قال سحنون: فهذا من قول عائشة يدل أن الصدقات فيما مضى إنما كانت على البنين والبنات، ولقد كتب عمر بن عبد العزيز أن ترد صدقات [الناس] التي أخرجوا منها البنات. ولا يخرج من الحبس أحد لأحد] .
ومن لم يجد مسكناً فلا كراء له، ومن مات أو غاب غيبة انتقال استحق الحاضر مكانه، وأما من سافر لا يريد مقاماً، فهو على حقه إذا رجع.
قال عطاء: لا يخرج أحد لأحد إلا أن يكون بيده فضل مسكن.

(4/331)


3850 - قال مالك: ومن حبس على ولده وأعقابهم ولا عقب له يومئذ، فأنفذه في صحته ثم هلك هو وولده وبقي ولد ولده وبنوهم، فذلك بين جميعهم إن تساووا في الحال، والمؤنة سواء بينهم إلا أن الأولاد ما داموا صغاراً لم يبلغوا أو ينكحوا أو تعظم مؤنتهم، فإنه لا يقسم لهم، ولكن يعطى الأب بقدر ما يمون، وإذا نكح الأبناء وعظمت مؤونتهم كانوا بقسم واحد مع آبائهم.
وقد قال مالك: وإذا بنى بعض أهل الحبس فيه، أو أدخل خشبة، أو أصلح ثم مات ولم يذكر لما أدخل في ذلك ذِكْراً، فلا شيء لورثته فيه.
قال ابن القاسم: وإن كان قد أوصى به أو قال: هو لورثتي، فذلك لهم، وإن لم يذكر ذلك، فلا شيء لهم، قلّ أو كثر.
وقال المغيرة: لا يكون من ذلك صدقة محرمة إلا فيما لا بال له من الميازيب والسُّتَر، وأما ما له خطر، فإنه مال له يورث عنه ويقضى به دينه.

(4/332)


3851 - ومن حبس نخل حائط على المساكين في مرضه والثلث يحمله فلم يخرجه من يده حتى مات، فذلك نافذ، لأنها وصية، وأما من حبس في صحته مالاً غلة له مثل السلاح والخيل وشبه ذلك، فلم ينفذها ولا أخرجها من يده حتى مات، فهي ميراث، وإن كان يخرجه في وجوهه ويرجع إليه، فهو نافذ من رأس ماله.
وإن أخرج بعضه وبقي بعضه فما أخرج فهو نافذ وما لم يخرج فهو ميراث.
وكذلك ما حبس صحته أو تصدق به على المساكين من حائط أو دار أو شيء له على، فكان يكريه ويفرق غلته كل عام على المساكين، ولم يخرجه من يده حتى مات لم يجز ذلك، لأن هذا غير وصية إلا أن يخرج ذلك من يده قبل موته أو يوصي بإنفاذه في مرضه لغير وارث، فينفذ من ثلثه.
ولا يجوز من فعل الصحيح إلا ما قُبِض وحيز قبل أن يموت أو يفلس.
وكذلك إن وهب أو تصدق على من يقبض لنفسه من وارث أو غيره فلم يقبض ذلك المعطى حتى مات المعطي، لم يكن للمعطى قبضها الآن، وكانت إن مات مال وارث، وكذلك الحبس والعمرى والعطايا والنحل.

(4/333)


[وروي أن أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم أجمعين - وغيرهم قالوا: لا تجوز صدقة حتى تقبض] .
وقال عثمان بن عفان: إلا أن ينحل ولده الصغير الذي لم يبلغ أن يحوز [نحلته] ، فيعلن بها ويشهد، فيجوز وإن وليه الأب.
3852 - ومن حبس ثمرة حائطه على رجل بعينه حياته فكان يغتلها، ثم مات المعطي وفيه ثمرة قد طابت، فهي لورثته، وإن لم تطب فهي لرب الحائط، كما قال مالك فيمن حبس حائطاً على قوم معينين فكانوا يلونه ويسقونه، فمات أحدهم بعد طيب الثمرة، فإن نصيبه لورثته، وإن أُبرت ولم تطب فجميع الثمرة لبقية أصحابه يقوون بها على العمل. قال: وإن لم يلوا عملها وإنما تقسم عليهم الغلة، فنصيب الميت ها هنا لرب النخل. ثم رجع مالك فقال: بل يرد ذلك على من بقي من أصحابه.
وبهذا أخذ ابن القاسم أن ذلك يرجع على من بقي منهم كان مما تنقسم غلته أو كانوا يلونه بأنفسهم.

(4/334)


وروى الرواة كلهم عن مالك: ابن القاسم وأشهب وابن وهب وابن نافع وعلي والمغيرة، أنه قال فيمن حبس على قوم بأعيانهم ما يقسم من غلة دار أو غلة عبد أو ثمرة: إن من مات منهم رجع نصيبه إلى الذي حبسه، [لأن هذا مما يقسم عليهم] ، وأما دار يسكنونها أو عبد يخدمهم، فنصيب الميت لباقيهم، لأن سكناهم الدار سكناً واحداً، واستخدامهم العبد كذلك. (1)
فثبت الرواة [كلهم] عن مالك على هذا، وقاله المغيرة على هذا فيما يقسم وفيما لا يقسم، على ما وصفنا، إلا ابن القاسم فإنه أخذ برجوع مالك في هذا بعينه، فقال: يرجع على من بقي، كان مما ينقسم أو لا ينقسم، وهذا ما اجتمعوا عليه.
_________
(1) انظر: منح الجليل (8/140) .

(4/335)


فإن مات منهم ميت والثمرة قد أبرت، فحقه فيها ثابت، قاله غير واحد من الرواة.
3853 - ومن أسكن رجلاً داراً سنين مسماة، أو حياته على أن عليه مرمتها، لم يجز، وهو كراء مجهول.
وأما إن أعطاه رقبتها على أن ينفق على ربها حياته فهو بيع فاسد، والغلة للمعطي بالضمان، وترد الدار على ربها ويتبعه بما أنفق عليه. (1)
* * *
_________
(1) انظر: البيان والتحصيل (12/187) .

(4/336)