التهذيب
في اختصار المدونة (كتاب
الهبات) (1)
3887 - قال: وإذا تغيرت الهبة عند الموهوب في بدنها بزيادة أو نقصان، لزمته
قيمتها، وليس له ردها، ولا تفيتها حوالة الأسواق، ومن وهبك حنطة، أو تمراً،
أو غيره من مكيل الطعام أو موزونه، إلا أن تعوضه قبل التفرق طعاماً من
كعام، فإنه يجوز، لأن هبة الثواب بيع.
قال: إلا أن تعوضه طعاماً مثل طعامه صفة وجنساً ومقداراً، فذلك جائز. ولا
تعوضه دقيقاً من حنطة ولا من جميع الحبي [إلا] عرضاً. وإن وهبك ثياباً
فسطاطية، فعوضته بعد ذلك أثواباً فسطاطية أكثر منها، لم يجز. وإن وهبته
داراً
_________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (4/108) ، والتاج والإكليل (4/482) ، ومواهب
الجليل (4/83) ، والمدونة (15/79) ، والتقييد (6/184) ، والقوانين الفقهية
لابن جزي (ص9) ، وشرح حدود ابن عرفة (ص605) .
(4/361)
أو عرضاً، فعوضك بعد تغير الهبة في بدنها
سكنى دار، أو خدمة عبد، أو عرضاً له موصوفاً على رجل إلى أجل، لم يجز ذلك
لفسخك ما وجب لك من القيمة فيما لا تتعجله من خلافها.
ولو لم تتغير الهبة أو تغيرت بحوالة سوق فقط، جاز ذلك إن كانت الهبة مما
يسلم في ذلك العرض المؤجل، وكأنك بعتها بذلك. وإن عوضك بعد تغير الهبة في
بدنها ديناً له حل أو لم يحل، جاز ذلك إذا كان مثل القيمة في العين والوزن،
ومثل العدد فأقل، لأنها حوالة ومعروف صَنَعْته بالموهوب. وإن كان الدين
المؤجل أكثر من قمية الهبة، لم يجز، لأنك أخرته بزيادة، ولو لم تتغير
الهبة، جاز ذلك.
3888 - وقد قال مالك: افسخ ما حلّ من دينك، فيما قد حل وفيما لم يحل، إذا
فسخته في مثل دينك من عين أو عرض صفة ومقداراً. ومن لك عليه دراهم [حالة] ،
فأحالك على دنانير له على رجل، وهي كصرف دراهمك، وقد حلت أو لم تحل لم يجز.
وكذلك لو فسخت دراهمك في طعام ولم تقبضه.
وإن كان لك عليه عرض من بيع، أو قرض قد حل، فلا بأس أن تفسخه في
(4/362)
عرض له على رجل آخر من بيع أو قرض إذا كان
مثل عرضك الذي لك عليه، وإن كان مخالفاً له، لم يجز، لأنه دين بدين، وكذلك
إن كان لك عليه طعام من قرض قد حلّ فأحالك على طعام له من قرض قد حل أو لم
يحل، جاز. وإن أحالك على طعام له من سلك لم يحل وهو مثل طعامك، لم يجز،
لأنه يدخله بيع الطعام قبل قبضه. وإن حلّ أجل الطعامين، جاز. وكذلك إن كان
الذي لك من سلم والذي له [من] قرض قد حلا، فلا بأس في الوجهين أن يؤخر
المحال من أحيل عليه. وإن كان الطعام الذي لك من سلم، فلا يجوز أن يحيلك
على طعام له من سلم وإن حلا.
وكل دين لك من عين أو عرض، فلك بيعه من غير غريمك قبل محله، أو بعد بثمن
يتعجله.
فإن كان دنانير أو دراهم، بعته بعرض، وإن كان عرضاً، بعته بعين أو بعرض
يخالفه نقداً.
قال مالك - رحمه الله -: وهذا إذا كان الذي لك عليه الدين حاضراً مقراً،
وإن كان لك عليه ثوب فسطاطي من بيع أو قرض إلى أجل، فبعته من غيره قبل
الأجل بثوب مثله في صفته نقداً وأحلته به، فليس ببيع، ولكنه قضاك عن الرجل
على أن أحلته عليه. فإن كان النفع لك، جاز، وإن اغتزى هو نفع نفسه لسوق
يرجوه ونحوه، لم يجز.
(4/363)
ولو بعته من غيره أيضاً قبل الأجل بثوب
مثله إلى أجل من الآجال، لم يجز، لأنه دين بدين، وإن كان دينك دنانير فعجله
لك رجل على أن أحلته عليه، لم يجز، كان النفع ههنا له أو لك دونه، لأنه بيع
الذهب بالذهب إلى أجل.
قال سحنون: وقد قال ابن القاسم: لا بأس بهذا إذا كانت المنفعة لقابض
الدنانير، وهو أسهل - إن شاء الله -، وهذا حسن.
3889 - وللمأذون أن يهب للثواب كالبيع، ويقضى عليه أن يعوض من وهبه.
ومن وهب لعبد هبة فأخذها منه سيده، قضي على العبد بقيمتها في ماله.
(4/364)
وللأب أن يهب من مال ابنه الصغير للثواب
ويعوض عنه واهبه للثواب، وبيع الأب جائز على ابنه الصغير.
3890 - وإذا وجد الموهوب بالهبة عيباً، فله ردها وأخذ العوض.
وإن وجد الواهب عيباً بالعوض، فإن كان عيباً فادحاً لا يتعاوض بمثله
كالجذام والبرص، فله رده وأخذ الهبة إن لم تفت، إلا أن يعوضه، وإن لم يكن
فادحاً نظر إلى قيمته بالعيب، فإن كان كقيمة الهبة فأكثر لم يجب له غيره،
لأن ما زاده على القيمة تطوع غير لازم، وإن كان دون قيمتها فأتم له القيمة
برئ.
وليس للواهب رد العوض إلا أن يأبى الموهوب أن يتم له قيمة هبته، لأن كل ما
عوضه مما يجري بين الناس في الأعواض لزم الواهب قبوله، وإن كان معيباً وفيه
وفاء بالقيمة، فذلك لازم له قبوله، وإن عوضته تبناً، أو حطباً، لم يلزمه
أخذه، إذ ليس مما يتعاوضه الناس، وفي كتاب الشفعة مسألة من وهب شقصاً من
دار للثواب، هل فيه شفعة؟.
3891 - ومن وهب هبة لغير الثواب، فامتنع من دفعها، قضي بها عليه للموهوب.
(4/365)
ولو خاصمه فيها الموهوب في صحة الواهب،
وأقام بينة، وأوقفت الهبة والسلطان ينظر فيها حتى مات الواهب قبل قبض
الموهوب، فإنه يقضى بها للموهوب إن عُدّلت بينته، كالمفلس يخاصمه الرجل في
عين سلعته، وتوقف السلعة ثم يموت المفلس، إن ربها أحق بها إن ثبتت ببينة.
ولو لم يقم الموهوب فيها حتى مرض الواهب، فلا شيء له إلا أن يصح.
3892 - ومن لزمه دين لرجل، أو ضمان عارية يغاب عليها، فحلف بالطلاق ثلاثاً
ليؤدين ذلك، وحلف الطالب بالطلاق ثلاثاً أن قبله، فأما الدين فيجبر الطالب
على قبضه ويحنث، ولا يجبر في أخذ قيمة العارية، ويحنث المستعير إن أراد
ليأخذنه مني، فإن أراد ليغرمنّه له، قبله أو لم يقبله، لم يحنث واحد منهما.
والفرق أن الدين لزم ذمته والعارية إنما ضمنها لغيبة أمرها، فإنما يقضى
بالقيمة لمن طلبها في ظاهر الحكم وله تركها، وقد تسقط أن لو قامت بينة
بهلاكها، وفوات الهبة عند الموهوب يوجب عليه قيمتها.
والفوت فيها في العروض والحيوان خروجها من يده.
(4/366)
3894 - وحدوث العيوب والهلاك، وتغير
الأبدان، والعتق وشبهه، وليس حوالة الأسواق في ذلك فوتاً.
ولو باع الموهوب الهبة ثم اشتراها، فذلك يفيتها وإن لم تحل. وولادة الأمة
عند الموهوب فوت يوجب عليه قيمتها. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
يوم الهبة.
3895 - قال ابن القاسم: وجناية العبد عند الموهوب فوت، وتلزمه القيمة،
[لأنه نقص دخله] .
قال ابن القاسم: وإن كانت الهبة عبداً بعينه بياض، أو به صمم، فبرئ عند
الموهوب وزال صممه وبياض عينه، فذلك فوت، لأنه نماء وتلزمه القيمة، والهدم
والبناء في الدار والغرس في الأرض، فوت يوجب القيمة. وليس له أن يقول: أقلع
بنياني وشجري وأردها، والبيع حرام مثله، وإحالتها عن حالها رضىً بالثواب.
(4/367)
[قال ابن القاسم:] وإن وهبه ثوباً فصبغة
بعصفر، أو قطعه قميصاً ولم يخطه، فذلك فوت.
وإن كان عبداً فأعتقه، أو دبره، أو كاتبه، أو وهبه، أو تصدق به، فإن كان
ملياً جاز ولزمته القيمة، وإلا منع من ذلك.
ولو كانت بدنة فقلّدها وأشعرها ولا مال له، فللواهب أخذها، ولو ابتاعها
ففعل ذلك بها، فإنها ترد وتحل قلائدها وتباع على المشتري في الثمن، [وبيع
الهبة فوت] .
وإن كانت داراً، فباع نصفها، قيل له: اغرم القيمة، فإن أبى خُير الواهب،
فإما أخذ نصف الدار ونصف قيمتها، وإما أخذ قيمة جميعها.
وإن كانا عبدين فباع أحدهما وأبى أن يثيب قيمتهما، فإن باع وجههما [وفيه
كثرة الثمن] ، لزمته قيمتهما.
وإن لم يكن وجه الهبة، غرم قيمته يوم قبضه ورد الباقي، وإن وهبه عبدين
فأثابه
(4/368)
من أحدهما ورد عليه الآخر، فللواهب أن يأخذ
العبدين، إلا [أن] يثيبه منهما جميعاً، لأنها صفقة واحدة.
3896 - ومن وهب لرجل هبة لغير الثواب، ثم ادعى رجل أنه ابتاعها من الواهب
وجاء ببينة، فقام الموهوب يريد قبضها، فالمبتاع أحق.
وكذلك قول مالك في الذي حبس على ولد له صغار حبساً، ومات وعليه دين لا يدري
اقبل الحبس أو بعده؟ فقال البنون: قد حُزْناه بحوز الأب علينا، فإن أقاموا
البينة أن الحبس كان قبل الدين، فالحبس لهم، وإلا بيع للغرماء، فكذلك الهبة
لغير ثواب.
3897 - ومن قال: داري صدقة على المساكين أو على رجل بعينه في يمين، فحنث،
لم يقض عليه بشيء، وإن قال: لك في غير يمين بتلاً، فليقض عليه إن كان لرجل
بعينه.
وإن قال: كل مال أملكه صدقة على المساكين، لم أجبره على صدقة ثلث ماله،
(4/369)
وأما المكاتبون فيخرج ثلث قيمة كتابتهم،
فإن رقوا يوماً نظر إلى قيمة رقابهم، فإن كان ذلك أكثر من قيمة كتابتهم،
يوم أخرج ذلك، فليخرج ثلث الفضل.
قال: وإن لم يخرج ثلث ماله حتى ضاع ماله كله، فلا شيء عليه، فرّط أو لم
يفرط.
وكذلك إن قال ذلك في يمين فحنث، فلم يخرج ثلثه حتى تلف جل ماله، فليس عليه
[إلا إخراج ثلث ما بقي بيده] .
3898 - ومن قال لرجل: قد أعمرتك هذه الدار حياتك، أو قال: هذا العبد، أو
هذه الدابة، جاز ذلك. وترجع بعد موته إلى الذي أعمرها أو إلى ورثته. قيل:
فإن أعمر ثياباً أو حلياً؟ قال: لم أسمع من مالك في الثياب شيئاً، وأما
الحلي فأراه بمنزلة الدور.
(4/370)
ومن قال لرجلين: عبدي هذا حبس عليكما وهو
للآخر منكما، جاز، وهو للآخر يبيعه ويصنع به ما شاء.
ومن قال لرجل: داري هذه لك صدقة سكناها، فإنما له السكنى دون رقبتها.
وإن قال له: قد أسكنتك هذه الدار وعقبك من بعدك، أو قال: هذه الدار لك
ولعقبك سكناها، فإنها ترجع إليه ملكاً له بعد انقراضهم، فإن مات فإلى أولى
الناس به [يوم مات] ، أو إلى ورثتهم، لأنهم هم ورثته، وأما إن قال: حبس
عليك وعلى عقبك، قال مع ذلك: صدقة، أو لم يقل، فإنها ترجع بعد انقراضهم إلى
أولى الناس بالمحبس يوم المرجع من ولد أو عصبة، ذكورهم وإناثهم سواء،
يدخلون في ذلك حبساً، ولو لم تكن إلا ابنة واحدة كانت لها حبساً، ولا ترجع
إلى المحبس وإن كان حياً، وهي لذوي الحاجة من أهل المرجع دون الأغنياء، فإن
كانوا كلهم أغنياء، فهي لأقرب الناس بهم من الفقراء.
3899 - وهبة المريض عبداً للثواب، تجوز كبيعه، فإن قبض منه الموهوب أو
المبتاع ذلك فأعتق ولا مال له، لم يجز ذلك، ولو باعه كان لورثة الواهب منعه
حتى يأخذوا العوض. (1)
ومن أوصى لرجل بدار وثلثه يحملها فقال الورثة: نعطيك ثلث جميع ماله ولا
نعطيك الدار، فليس ذلك لهم، وله أخذ الدار، لأنها لو غرقت فصارت بحراً
_________
(1) انظر: الكافي (1/545) .
(4/371)
بطلت الوصية فيها، ويقضى بين المسلم والذمي
فيما وهب أحدهما للآخر أو تصدق عليه بحكم الإسلام، لأن كل أمر يكون بين
مسلم وذمي، فإنما يحكم بينهما بحكم الإسلام، وقد بقي من هذا الكتاب مسائل
يسيرة، تقدم ذكرها في كتاب الأحباس وفي الوصايا فأغنى عن إعادتها.
* * *
(4/372)
|