التوسط
بين مالك وابن القاسم في المسائل التي اختلفا فيها من مسائل
المدونة ذكر ما اختلف فيه
مالك وابن القاسم في كتاب الطهارة من المدونة.
1 - حكم حيض الحامل (1) (2)
" قال ابن القاسم: قال مالك في الحامل -ترى الدم على حملها-: ليس أول الحمل
كآخره، إن رأته في أول حملها أمسكت عن الصلاة قدر ما يجتهد لها فيه وليس
لذلك حد.
وقال ابن القاسم: إن رأت ذلك في ثلاثة أشهر أو نحوها، تركـ (ت الـ) صلاة
(3) خمسة عشر يوما ونحو ذلك، وإن جاوزت الستة أشهر من حملها ثم
_________
(1) قال ابن رشد في بداية المجتهد (1/ 38): اختلف الفقهاء قديما وحديثا هل
الدم الذي ترى الحامل هو حيض أم استحاضة؟ فذهب مالك والشافعي في أصح قوليه
وغيرهما إلى أن الحامل تحيض، وذهب أبو حنيفة وأحمد والثوري وغيرهم إلى أن
الحامل لا تحيض وأن الدم الظاهر لها دم فساد وعلة، إلا أن يصيبها الطلق
فإنهم أجمعوا على أنه دم نفاس وأن حكمه حكم الحيض في منعه الصلاة وغير ذلك
من أحكامه.
وذكر ابن عبد البر في التمهيد (16/ 86) أن مذهب مالك والشافعي والليث
والطبري أنه حيض.
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي والأوزاعي: ليس بحيض، إنما هو
استحاضة.
وذكر الدسوقي (1/ 169) أن المرأة إذا حاضت في الشهر 3 أو 4 أو 5 فأكثر
الحيض 20 يوما ومازاد فهو دم فساد.
وإن حاضت في 7 فما فوق فأكثر الحيض 30 يوما.
وإن حاضت في السادس فظاهر المدونة إن له حكم ما قبلها، وعند جميع شيوخ
إفريقيا له حكم ما بعدها.
وانظر الشرح الكبير (1/ 169) ومواهب الجليل (1/ 369) والقوانين الفقهية
(31).
(2) هذا العنوان مني تسهيلا وتبيينا.
(3) ما بين القوسين به خرم، وأتممته لظهور معناه.
(1/24)
رأته تركت الصلاة ما بينها وبين العشرين
ونحو ذلك. (1)
قال أبو عبيد: قد اختلفت الرواية عن مالك رحمة الله عليه في هذه المسألة،
فروى عنه ابن عبد الحكم (2) أنه قال في الحامل ترى الدم أنها تكف عن الصلاة
قدر أيام حيضتها، ثم تستظهر (3) بثلاث ثم تصلي.
وهذه الرواية توجب التسوية بين حكم الحامل وغيرها في أقصى مدة ترك الصلاة
عند رؤية الدم.
والمعنى الجامع بينهما قول الله تعالى: " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى
فاعتزلوا النساء في المحيض"، والمحيض كل دم ظهر من فرج حا (ئل) (4) أو حامل
لأن قوله "فاعتزلوا النساء" يوجـ (ـب) (5) العموم في كل النساء [ص7] حوائل
كن أو حوامل.
وإذا كان ذلك كذ (لك) (6)، فواجب على الحامل أن تكف عن الصلاة إذا رأت
الدم، وأن تعتزل فيه حتى ينقطع، أو يمضي له من الزمان ما يدل على أنه ليس
بحيض، وهو أن يستمر بها الدم أكثر من خمسة عشر يوما، فتكون مستحاضة،
_________
(1) المدونة (1/ 54 - 55)، وقد قدمت في التقديم التنبيه على أنني لا أهتم
بذكر الفروق بين نقل المؤلف من نسخته من المدونة وبين المدونة المطبوعة.
(2) هو أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث الفقيه المصري
المالكي (ت 214).
انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (10/ 220) والجرح والتعديل (5/ 105)
والعبر (1/ 366) وترتيب المدارك (3/ 363) والشذرات (1/ 34) وشجرة النور
(59).
(3) قال الأزهري: ومعنى الاستظهار في قولهم هذا: الاحتياط والاستيثاق، لسان
العرب (4/ 522).
(4) هنا بتر، وأتممته لظهور المعنى واعتمادا على السياق، ولأن المصنف
سيكررها قريبا بنفس اللفظ.
والحائل هي كل من انقطع عنها الحمل لسنة فأكثر، انظر لسان العرب (11/ 189).
(5) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(6) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(1/25)
وهذا على قوله الأول، وإليه ذهب ابن القاسم
في اختياره الأول: إذا رأت الدم في أول حملها.
فأما وجه قوله: في الاستظهار، فإنما هو مبني على الاحتياط، لتصلي قبل
الخمسة عشر يوما التي هي أقصى مدة الحيض (1).
لأن الأصل عنده في الحائض أن تترك الصلاة ما بينها وبين غاية (المـ) ـحيض
(2)، فاحتاط لها بأن تستظهر بثلاث، إذ ليس من عادة الحيض أن ينتقل من خمسة
إلى خمسة عشر، ولا أن يزيد على أيامه المعهودة بمثلها، وقد يجتهد أن يزيد
اليوم واليومين.
وإنما اقتصر على الثلاثة وجعلها حدا في الاستظهار، لأنها قد حدت في كثير من
الأحكام، من ذلك: الخيار في المصراة (3)، لاعتبار لبن التصرية من غيره،
فلما جعلت الثلاثة حدا في استبراء اللبن المعتاد خروجه من الشاة ليفصل بها
بينه وبين
_________
(1) اختلف في تقدير أقل الحيض وأكثره، وكل ما ورد في الباب من أحاديث لا
تصح.
قال ابن رشد في بداية المجتهد (1/ 36): اختلف العلماء في أكثر أيام الحيض
وأقلها وأقل أيام الطهر.
فروي عن مالك أن أكثر أيام الحيض خمسة عشر يوما، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: أكثره عشرة أيام.
وأما أقل أيام الحيض فلا حد لها عند مالك ...
وقال الشافعي: أقله يوم وليلة.
وقال أبو حنيفة: أقله ثلاثة أيام ... إلى آخر كلامه.
(2) ما بين القوسين فيه بياض بسبب الرطوبة، وأتممته لظهور معناه.
(3) رواه البخاري (2044) ومسلم (1524) وأبو داود (3/ 270) والنسائي (7/ 253
- 254) والترمذي (1251 - 1252) وابن ماجه (2/ 753) وأحمد (2/ 273 - وغيرها)
والدارمي (2553) والبيهقي (5/ 273 - 320) وابن أبي شيبة (7/ 291) وعبد
الرزاق (8/ 197) والطحاوي (4/ 17 - 18 - 19) والطبراني في الأوسط (4/ 51)
(7/ 249) (8/ 248) عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من
اشترى غنما مصراة فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من
تمر.
(1/26)
الناذر خروجه منها، وكا (ن) (1) الحيض في
النساء معتادا، والاستحاضة فيهن نادرا، وكان حكم دم الحيض مباينا لحكم دم
الاستحاضة، كما أن موجب حكم لبن التصرية مخالف لموجب حكم اللبن المعتاد وجب
أن تكون الثلاثة حدا لمن زادت حيضتها على أيامها بين دم الحيض المعتاد وبين
دم الاستحاضة، الذي هو نادر، ليقع بها الفصل بين حكم الدمين، كما وقع بها
الفصل بين حكم اللبنين ا (حتـ) ـياطا (2) للصلاة لتصلي قبل الخمسة عشر
يوما، لأن العادات موضوعة على الاحتياط للصلاة، أن يترك في حال لا يتيقن
أنها حال حيض.
وهذا القول أحوط، والأول أقيس، والله أعلم بالصواب. [ص8]
وأما وجه ما رواه عنه ابن القاسم (مـ) ـن (3) قوله:
"وليس أول الحمل كآ (خر) هـ (4) إن رأت الدم في أول حملها أمسكت عن الصلاة
قدر ما يجتهد لها فيه، وليس لذلك حد"، فلأن حيض الحامل لما اختلفت فيه ضعف
عنده التحديد في أقصى مدته، لأن التحديد طريقه النص والإجماع، فلما فقدا في
حيض الحامل، وجب التوقف عن تحديد غايته، والمصير إلى الاجتهاد فيه، وأن
تكون غاية المدة التي يجتهد لها في أول حمل أقصر منها في آخره.
لأن (المشيمة) (5) إذا قبلت النطفة اجتمعت وأمسكت الدم، ومنعته الخروج على
جاري عادته، فكلما طال زمانه تمكن اجتماع الدم بسببه.
فإذا رأت الحامل الدم الذي لا ينكر أنه دم حيض، كانت به حائضا في أول الحمل
كان ذلك أو في آخره.
_________
(1) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(2) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(3) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(4) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(5) غير مقروءة تماما، وهكذا أثبتها حسن حمدوشي.
والمشيمة هي التي يكون فيها الجنين داخل الرحم، راجع لسان العرب (12/ 331).
(1/27)
فإن اتصل خروجه وجب أن يكون الزمان المجتهد
لها في جعله أقصى مدة حيضها في آخر الحمل أطول منه في أوله.
واستعمال الاجتهاد في طلب الحق سائغ في كل ما اختلف فيه.
فهذا وجه رواية ابن القاسم عنه، وكلتا (الـ) روايتين (1) لهما وجه سائغ في
النظر، وبالله التوفيق.
وأما وجه تحديد ابن القاسم في أول الحمل خمسة عشر يوما وفي آخره عشرين
يوما، فلأن زمن الحمل مناسب للزمان الذي قبله، لخلو الرحم من اجتماع الدم
فيها، فحكم للحامل في أول حملها بحكم الحائل في حال حيضها.
ولما كان الدم في آخر الحمل قد تناهى اجتماعه في الرحم ولابد له من زمان
يخرج فيه، جعل العشرين يوما حدا في ذلك.
فإن كان تحديده هذا من جهة النص، فطرق النص: كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله
عليه السلام، وإجماع أمته، وليس في شيء منها ما يدل على التحديد في ذلك.
وإن كان من جهة الا (جـ) ـتهاد، فإن اجتهاده لا يكون عبارا (2) على ا
(جتهـ) اد (3) غيره، وقول مالك رحمه الله [ص9] في ذلك أولى بالـ (ـصـ) ـواب
عندي، والله أعلم.
_________
(1) ما بين القوسين به بتر، وأتممته لظهور معناه.
(2) أي ميزانا لاجتهاد غيره. قال صاحب لسان العرب (9/ 18): وعبر المتاع
والدراهم يعبرها نظركم وزنها وما هي، وعبرها وزنها دينارا دينارا.
(3) ما بين القوسين به خرم، وأتممته لظهور معناه.
(1/28)
|