الكافي في فقه أهل المدينة المالكي

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الحوالة
الحوالة تحويل الذمم وتفسير معناها أن يكون رجل له على آخر دين ولذلك الرجل دين على رجل آخر فيحيل الطالب له على الذي له عليه مثل دينه فإذا استحال عليه ورضي ذمته الى ذمة الاخر بريء المحيل من الدين ولم يكن عليه منه تبعة وصار الحق على المحال عليه ولا رجوع له على المحيل أبدا أفلس المحال عليه أو مات معدما إلا أن يكون قد غره من رجل معدم أو مفلس لا يعلم رب الحق بعدمه فإن كان ذلك فحينئذ يكون له الرجوع على من كان عليه الحق اولا وإن علم بعدمه ورضي الحوالة عليه فلا رجوع له على الاول بوجه من الوجوه ومن كان له على رجل عروض فلا يجوز أن يحتال بها في ذهب ولا ورق ولا عروض مخالفة لها ولا بأس ان يحتال بها في مثلها ولا يجوز ان يحتال احد بحق له على غائب لانه لا يدري ما حاله في

(2/797)


حاله ولا يجوز لاحد أن يحتال على ميت بعد موته وهو خلاف المفلس لان الميت قد فاتت ذمته وذمة الحي موجودة ومن كان له على رجل مال فلا بأس أن يحتال به على غيره فيما حل من دين غريمه وفيما لم يحق ولو كان دينه لم يحل لم يجز شيء من ذلك
ولا يجوز ان يحيل بحق عليه لم يحل أجله في حق على رجل قد حل او لم يحل ولا بأس أن يحيل بحق قد حل عليه في حق له على آخر أو لم يحل ومن أحال رجلا على رجل له عليه خمسون دينارا بمائة دينار ولم يعلم المحتال ذلك فله عليه خمسون حالة لا رجوع له فيها على الاول وخمسون حالة يرجع بها على الاول ان شاء ومن حل عليه دين فأحال به على رجل ليس عليه شيء ورضي بذلك وعلم صاحب الدين انه ليس له عليه شيء فقنع بالاستحالة عليه وأبرأ غريمه فقد اختلف أصحاب مالك في ذلك فقال بعضهم هذا كالحمالة وحكمها حكم الحمالة وليست حوالة وقال بعضهم هي حوالة وهو تحصيل مذهب مالك ويبرأ الحميل من تباعة صاحب الدين ومن رجوعه عليه وهو كما شرط لا سبيل له على الاول أفلس بعد ذلك او مات معدما الا ان يكون غره من فلس كما تقدم ذكره فإن كان كذلك كان له الرجوع على الاول ولو كان على

(2/798)


رجل دين فباع عبدا له من رجل وأحال الذي عليه الدين بثمنه على مشتري العبد فرضي بالحوالة واستحق العبد من يد المشتري فالحوالة عليه تامة بحالها وعليه الغرم وله ان يرجع بثمن العبد المستحق على بائعه وكذلك لو كان البيع فاسدا فاحتال بالثمن رجل له على البائع دين ثم ادرت الصفقة وفسخ بيعها غرم المشتري الثمن للمحتال عليه ورجع بذلك على بائعها وكذلك لو باع رجل سلعة وأحال بثمنها على مشتريها فظهر المشتري على عيب في السلعة وردها به غرم ثمنها لمن احتال عليه ورجع بالثمن على بائعها فإن كانت السلعة قد فاتت غرم ثمنها لمن احتال عليه ورجع بالثمن على بائعها وكذلك لو اكترى دارا على النقد او اشترى نمرة بعد زهوها وأحال عليه رب ذلك بالثمن وأجيحت الثمرة غرم ما احيل به عليه ورجع على رب الدار ورب الثمرة بما اخذ منه المستحيل ومن ابتاع سلعة بنظرة فلا يجوز له ان يحيل بثمنها في دين له حل أو لم يحل وكذلك من اكترى دارا كراء مؤجلا فلا يجوز له ان يحيل بذلك في دين حل او لم يحل لانه دين بدين ولو حل عليه نجم من انجم الكراء كان له ان يحيل بذلك في دين حل او لم يحل ومن اشترى جارية بنقد هي من جواري المواضعة فلا يجوز له ان يحيل بثمنها في دين له حل او لم يحل لما يدخله من الدين بالدين وكذلك الثمرة في رؤوس النخل تشترى بدين هذا مذهب ابن القاسم وقال أشهب ذلك جائز إذا قبض الجارية الى نفسه وقبض الثمرة في رؤوس النخل بما يقبض

(2/799)


به وليس من باب الدين بالدين واختار قول أشهب جماعة من نظار المالكيين ببغداد لأن الدين بالدين ما اغترف الدين طرفيه وأما ما لم يغترف طرفيه فليس دينا بدين

(2/800)


بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الوديعة
لا يضمن الوديعة احد ممن أودعت عنده الا ان يتعدى فيها أو يضيع ما تكلف من حرزها وإن ادعى ردها الى ربها صدق مع يمينه إلا ان يقبضها ببينة فلا يصدق عند مالك الا ببينة وإن ادعى تلفها صدق على كل حال ببينة قبضها او بغير بينة إلا ان يكون متهما فيحلف ومن أودع وديعة في حضر فلا بأس أن يودعها غيره فإن سافر فذهبت فهو ضامن وكذلك أن اراد الرحيل والانتجاع من بلد الى بلد آخر فأخرجها مع نفسه فضاعت ضمن ومن أودع وديعة في سفر فأودعها غيره فهو لها ضامن ان تلفت ومن ارسل معه مال من بلد الى بلد فعرضت له اقامة في سفره ذلك فلا بأس أن يبعثه مع غيره ولا ضمان عليه ولو كان في

(2/801)


حضر فأودعها غيره فضاعت فإن كان أراد سفرا فأودعها لأجل ذلك لم يضمن وكذلك لو كانت بيته عورة يخاف فيه طرق السراق وبأن ذلك وشبهه بما يعذر به لم يضمن وإن لم يكن له عذر ضمن ولا بأس اذا خاف عورة منزله ان ينقلها عنه الى غيره ويودعها من يثق به ومن أودع اناء فسقط فانكسر لم يضمن ولو سقط من يده على شيء فكسره ضمن عند مالك وأصحابه وغيرهم يخالفهم في ذلك ومن استودع وديعة فدفعها الى عياله كزوجته وابنته وابنه وسريته وغيرهم من عياله الذين يتولون حفظ شيئه فلا شيء عليه في ضياعها ان ضاعت وإن دفعها الى غير من يحفظ اسبابه فهو ضامن لها ومن استودع وديعة فخلطها بماله حتى لم تتميز فقد اختلف في ذلك قول مالك فقال مرة يضمن ومرة قال لا يضمن وتحصيل مذهبه انه ان خلطها بمثلها كالدنانير بالدنانير والدراهم بدراهم مثلها فلا ضمان عليه وإن بقي بعضها وتلف بعضها فمصيبة ما تلف بينهما بالحصص فإن خلطها بغير عيونها ثم اصيب بعض المال فمصيبة من تلف له شيء من ماله من نفسه ولا ضمان على المودع وان استودع دنانير فخلطها بدراهم أو دراهم فخلطها بدنانير فتلفت فلا ضمان عليه وليس هذا خلطا ومن اودع قمحا فخلطه بمثله في عينه وصفته فلا ضمان عليه وكذلك جميع الحب إذا خلط بمثله ولو كان قمحا فخلطه بشعيرا وكذلك لو خلطه بشيء من الحب بخلافه في عينه وصفته ضمنه ولا يشبه هذا الدنانير

(2/802)


والدراهم ولو عدا رجل او صبي على قمح وشعير مودعين لرجلين عند رجل فخلطهما كان على الذي خلطهما ضمان مكيلة القمح ومكيلة الشعير لربه والصبي والرجل في ذلك سواء وإن كان عمد الصبي خطأ فالأموال تضمن بالخطأ كما تضمن بالعمد وليست كالدماء فإن لم يكن للصبي مال اتبع رب القمح والشعير ذمته الا ان يرضيا أن يكونا شريكين في كل ما خلط من طعامهما فصاحب القمح بقيمة مكيلة قمحه وصاحب الشعير بقيمة مكيلة شعيره ثم يباع جميعه فيقتسمان ثمنه على الحصص فذلك لهما ولا يجوز أن يأخذه أحدهما ويضمن لصاحبه مكيلة طعامه وإنما يجوز ذلك للمعتدي وحده هذا مذهب مالك وأصحابه في ذلك ومن تعدى في وديعة عنده فاستهلكها ثم ردها مكانها فإن كانت دنانير أو دراهم أو طعاما أو نحو ذلك يكون مما يكال أو يوزن وضاعت فلا شيء عليه وكذلك أن اخذ البعض وأبقى البعض وتلف فلا ضمان عليه لا فيما رد ولا فيما بقي ولو كانت الوديعة ثيابا أو سائر العروض فتعدى فيها ثم رد مثلها سواء في موضعها وتلفت فهو ضامن من ساعة تعدى وروى ابن وهب عن مالك وقال به جماعة من اصحابه أنه ضامن لما أخذ من الوديعة فقط وفي هذه الرواية الدنانير والدراهم وغيرهما سواء اذا تلفت بعد ردها
والأمين مصدق فيما يدعيه من تلف الوديعة والقول قوله ابدا وإن لم يأت بما يستدل عليه وإن اتهم حلف وإن

(2/803)


تعدى او ضيع فهو ضامن ومن التعدى أن يودع دابة فيركب أو جارية فيزوجها أو عبدا فيوجهه في سفر ثم يتلف شيء من ذلك بسبب فعله فهو ضامن لما ادركه في ذلك من تلف او نقص وما انفق المودع على الوديعة فعلى ربها سواء اذن له او لم يأذن له اذا احتاجت الى ذلك ولا يجب لأحد أن يتعدى في وديعة عنده فيتلفها إلا ان يكون له مال مأمون يرجع اليه ان تلفت الوديعة بتعديه وترك التعدي في الوديعة أفضل وينبغي أن يشهد بها إذا استسلفها وإن تجر في وديعة عنده وربح فهو لها ضامن حتى يردها الى موضع حرزها والربح له دون رب المال ولو اشترى بالمال أمة فوطئها وحملت كانت له ام ولد وضمن المال لربه ولم يكن لرب المال على الامة سبيل هذا قول مالك لأنه ضمن المال بالتعدي فيه فطابت اذا أدى ما لزم ذمته من مال الامة لربها ومن أودع عبدا وديعة فأتلفها فهي في ذمته ولا شيء منها على سيده وسواء كان قبضه لها بإذن سيده أو بغير إذن سيده الا انه ان قبضها فله أن يفسخها عنه فإن فسخها عنه لم يكن عليه فيها تبعة عند مالك وإن قبضها بإذنه فليس له فسخها عنه وهي في ذمته يتبع بها اذا اعتق ومن كانت عنده وديعة فغاب ربها وانقطع خبره كان عليه ان ينتظره بها الى اقصى ما يرجى مثله فإن يئس من حياته دفعها الى ورثته فإن لم يكن له وارث تصدق بها عنه

(2/804)


باب حكم البضائع
سبيل البضاعة سبيل الوديعة لا ضمان على قابضها الا ان يتعدى او يخالف ما أمر به فيضمن والمبضع معه وكيل فقد مضى في باب الوكالة من حكمها ما يغني عن ذكره في هذا الباب ومن دفع اليه رجل شيئا ليوصله الى آخر أو أبضع معه مالا ليوصله الى عياله او الى غيره فزعم انه قد دفعه وأنكر المبعوث اليه فهو ضامن الا ان تكون له بينة على الدفع وهذا سبيل من أبضع معه شيء الى قريب او بعيد ولو كان صدقة لأن دفعه اياها بلا بينة سوء نظر لنفسه وتضييع وعن مالك وبعض اصحابه خلاف في الذي يعطي دراهم ليتصدق بها وتحصيل مذهبه ان الصدقة ان كانت على غير معنيين فهو مصدق وإن كانت على مساكين بأعيانهم ضمن ان لم يشهد ومن ابضع معه بضاعة في شراء شيء بعينه او بغير عينه فخالف ما أمر به فصاحب البضاعة بالخيار ان شاء اخذ ما اشترى بماله وإن شاء ضمنه ما قبض منه ومن ابضع معه بضاعة وأمر أن يبتاع بها سلعة فابتاع خلاف ما أمر به وربح فيها ثم ابتاع بها سلعة اخرى خلاف ما أمر به ايضا وتلفت فهو ضامن لأصل ما قبض من المال ولما ربح فيه وان نض المال بعد التعدي وتلف وهو عين فلا ضمان عليه وان ابتاع به بعد التعدي ما أمر به فتلف فلا ضمان عليه ومن أبضع معه بضاعة الى رجل ببعض البلدان ومات قبل وصوله الى ذلك البلد ولم يجد للبضاعة ذكرا فهو دين عليه

(2/805)


في ماله وان وصل الى البلد ومات وانكر المبعوث بها اليه ان تكون وصلت اليه فليس على ورثة الميت الا اليمين بالله ما يعملون للبضاعة علما ويبرؤن وإن نكلوا غرموا
وإن مات المبعوث بها اليه بعد وصول الرسول بها الى البلد وادعى الرسول دفعها اليه لم يقبل قوله الا ان يأتي على دفعها بالبينة ولو وصل الرسول بها الى البلد ولم يوصلها الى المبعوث بها اليه ولم يجد لها ذكرا حتى رجع وادعى تلفها فهو ضامن لها ومن أبضع معه بضاعة فجحدها ثم اقر بها فهو ضامن وكذلك المودع له عنده ومن امر رجلا ان يبتاع سلعة بوجهه ويأتيه بها ويدفع اليه ثمنها فابتاعها وقبضها ثم تلفت من يده قبل ان يوصلها الى الآمر فمصيبتها من الآمر ولو دفع اليه الثمن بعد تلفها وضاع كان ايضا غرمة على الامر ولو أتاه بها فدفع له ثمنها ليوصله الى بائعه فتلف الثمن من يد المأمور فعلى الآمر غرمه أبدا حتى يصل الى رب السلعة ولو وزن الرسول فيها من ماله ثم اتاه بها فدفع اليه ثمنها ثم ضاع من يد الرسول فلا شيء عليه لانه دين اداه ومن قبض من قوم بضائع ليبتاع لهم بها قمحا فخلطها على وجه النظر فضاعت فلا ضمان عليه وان ضاع بعضها فهم جميعا شركاء فيما ضاع وفيما بقي بالحصص وكذلك لو اشترى بها كلها طعاما صفقة واحدة على ان يقسمه عليهم بقدر اموالهم فهلك الطعام كانت مصيبته منهم اجمعين هذا اذا كانوا قد امروه بصفتة واحدة من القمح فإذا اختلفت صفاتهم كان

(2/806)


فيما فعل من ذلك متعديا وضمن إذا خالف فيما حد له وفيما خلط من النوعين المختلفين من الطعام لان الشركة فيه لا تجوز ولو خالف بعضها دون بعض ضمن نصيب من خالف امره دون غيره

(2/807)