المدخل
لابن الحاج
[فَصْلٌ فِي التَّكْبِيرِ إثْرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
فِي أَيَّامِ الْعِيدِ]
ِ وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ أَهْلَ الْآفَاقِ يُكَبِّرُونَ دُبُرَ
كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَيَّامِ إقَامَةِ الْحَجِّ
بِمِنًى فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ فِي تِلْكَ
الْأَيَّامِ كَبَّرَ
(2/289)
تَكْبِيرًا يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَمَنْ
يَلِيهِ وَكَبَّرَ الْحَاضِرُونَ بِتَكْبِيرِهِ كُلُّ وَاحِدٍ يُكَبِّرُ
لِنَفْسِهِ وَلَا يَمْشِي عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ عَلَى مَا وُصِفَ مِنْ
أَنَّهُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيه فَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ.
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ أَنَّهُ إذَا
سَلَّمَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ كَبَّرَ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى صَوْتٍ
وَاحِدٍ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ زَعَقَاتِهِمْ فِي الْمَآذِنِ
وَيُطِيلُونَ فِيهِ وَالنَّاسُ يَسْتَمِعُونَ إلَيْهِمْ وَلَا يُكَبِّرُونَ
فِي الْغَالِبِ وَإِنْ كَبَّرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَهُوَ يَمْشِي عَلَى
أَصْوَاتِهِمْ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ إذْ إنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ وَلَا
أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ. وَفِيهِ إخْرَاقُ
حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ فِيهِ وَالتَّشْوِيشِ عَلَى
مَنْ بِهِ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَالتَّالِينَ وَالذَّاكِرِينَ.
[فَصْلٌ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسْجِدِ]
ِ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ
ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمَّا أَنْ اجْتَمَعُوا جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ وَلَمْ
يَخْرُجْ إلَيْهِمْ فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - قَدْ عَرَفْت الَّذِي رَأَيْت مِنْ صَنِيعِكُمْ وَمَا
مَنَعَنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْكُمْ إلَّا خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ
عَلَيْكُمْ» فَلَمَّا أَنْ مَضَى لِسَبِيلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - أَمِنَ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ الْفَرْضِ عَلَى الْأُمَّةِ.
فَلَمَّا أَنْ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
الْخِلَافَةَ وَتَفَرَّغَ لِلنَّظَرِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ
وَكَانَ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَقُومُونَ فِي
لَيَالِي رَمَضَانِ أَوْزَاعًا مُتَفَرِّقِينَ قَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ جَمَعْتُهُمْ عَلَى قَارِئٍ
وَاحِدٍ لَكَانَ أَحْسَنَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - لَيْلَةً أُخْرَى وَهُمْ يُصَلُّونَ عَلَى مَا أَمَرَهُمْ
بِهِ فَقَالَ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا
أَفْضَلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَصْلِ فِعْلِهَا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ
فَلَا يَكُونُ بِدْعَةً. وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
أَحَدَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: جَمْعُهُمْ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ قِيَامَهُمْ أَوَّلَ اللَّيْلِ
دُونَ آخِرِهِ
(2/290)
وَأَمَّا الْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ
سُنَّةٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ. وَمَا قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِهِمْ لَا
عَلَيْهِمْ إذْ إنَّهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَمَعُوا بَيْنَ
الْفَضِيلَتَيْنِ مِنْ قِيَامِ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ. أَلَا تَرَى
إلَى مَا حَكَاهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّهُمْ
كَانُوا إذَا انْصَرَفُوا مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ اسْتَعْجَلُوا
الْخَدَمَ بِالطَّعَامِ مَخَافَةَ الْفَجْرِ وَكَانُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَى
الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فَقَدْ حَازُوا - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - الْفَضِيلَتَيْنِ مَعًا قِيَامَ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ
فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت مُتَّبِعًا. إنَّ الْمُحِبَّ
لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ وَهُمْ سَادَتُنَا وَقُدْوَتُنَا إلَى رَبِّنَا
فَيَنْبَغِي لَنَا الِاتِّبَاعُ لَهُمْ وَالِاقْتِفَاءُ لِآثَارِهِمْ
الْمُبَارَكَةِ لَعَلَّ بَرَكَةَ ذَلِكَ تَعُودُ عَلَى الْمُتَّبِعِ
لَهُمْ، لَكِنْ هَذَا قَدْ تَعَذَّرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ
أَعْنِي قِيَامَ اللَّيْلِ كُلِّهِ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا يَخْتَلِطُ بِهِ
مِمَّا لَا يَنْبَغِي، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى
الْمُكَلَّفِ الْيَوْمَ أَنْ لَا يُخْلِيَ نَفْسَهُ مِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ
أَلْبَتَّةَ بَلْ يَفْعَلُهَا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ النَّاسِ عَلَى مَا
هُمْ يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ مِنْ التَّخْفِيفِ فِيهَا فَإِذَا فَرَغُوا
وَرَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَنِمَ بَرَكَةَ
اتِّبَاعِهِمْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ إلَى آخِرِهِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ
فَيُصَلِّي فِي بَيْتِهِ بِمَنْ تَيَسَّرَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ
وَحْدَهُ فَتَحْصُلُ الْفَضِيلَةُ الْكَامِلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى، وَيَكُونُ وَتْرُهُ آخِرَ تَنَفُّلِهِ اقْتِدَاءً بِهِمْ. وَقَدْ
قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حِينَ كَانَ يُصَلِّي مَعَ
النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ الْإِمَامُ مِمَّنْ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ
لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِسَلَامٍ، أَمَّا أَنَا فَإِذَا أَوْتَرُوا
خَرَجْت وَتَرَكْتُهُمْ فَلِلْإِنْسَانِ بِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
أُسْوَةُ فِي تَرْكِ الْوِتْرِ مَعَهُمْ حَتَّى يُوتِرَ فِي بَيْتِهِ
بَعْدَ تَنَفُّلِهِ آخِرَ اللَّيْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ
إلَى النَّوْمِ إذَا آتَى إلَى بَيْتِهِ، وَيَخَافُ أَنْ يَسْتَغْرِقَهُ
إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا يُغَرُّ وَيَتْرُكْ الْوِتْرَ بَعْدَ
نَوْمِهِ وَلْيُوقِعْهُ قَبْلَهُ، فَإِنْ أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ
شَيْئًا قَامَهُ وَلَمْ يُعِدْ وِتْرَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ
مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا فَقَدْ حَصَلَ
لَهُ الْوِتْرُ فِي وَقْتِهِ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي
أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ مَعَ
النَّاسِ صَلَاةَ الْقِيَامِ وَيُوتِرُ مَعَهُمْ فَإِذَا رَجَعَ إلَى
(2/291)
بَيْتِهِ صَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ، وَكَانَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ شَيْخَهُ سَيِّدِي الشَّيْخَ أَبَا
الْحَسَنِ الزَّيَّاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ يَنْبَغِي
لِلْمُكَلَّفِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ يُعَجِّلُ فِطْرَهُ ثُمَّ
يَقُومُ فَيُصَلِّي بِحِزْبَيْنِ وَنِصْفٍ أَوْ أَكْثَرَ قَبْلَ الْعِشَاءِ
ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي مَعَ النَّاسِ الْقِيَامَ وَيُوتِرُ مَعَهُمْ
ثُمَّ إذَا رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ صَلَّى لِنَفْسِهِ بِحِزْبَيْنِ وَنِصْفٍ
أَوْ أَكْثَرَ فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمُنُ الْخَتْمَةِ أَوْ
أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ ثُمَّ يَنَامُ مَا قُدِّرَ لَهُ ثُمَّ
يَقُومُ لِتَهَجُّدِهِ فَيُصَلِّي مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِمَّا بَقِيَ
عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ قَرَّرْتُمْ أَنَّ
قِيَامَ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ سُنَّةٌ فَمَا وَجْهُ تَرْكِ أَبِي
بَكْرٍ لَهَا. فَالْجَوَابُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
كَانَ مُشْتَغِلًا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهَمُّ فِي الدِّينِ
وَهُوَ قِتَالُ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَبَعْثُ
الْجُيُوشِ إلَى الشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ
مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَغَيْرِهِ، وَتَرَاكُمِ الْفِتَنِ عِنْدَ
انْتِقَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ
شُغْلِهِ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ وَتَدْوِينِهِ مَعَ قِصَرِ مُدَّتِهِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِمَا تَفَرَّغَ لَهُ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَبَانَ
مَا ذُكِرَ وَاتَّضَحَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. |