المقدمات
الممهدات [فصل في الطريق
إلى معرفة أحكام الشرائع]
فأحكام شرائع الدين تدرك من أربعة أوجه، أحدها كتاب الله عز وجل الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والثاني سنة
نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الذي قرن الله تعالى طاعته
بطاعته وأمرنا باتباع سنته فقال عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ} [المائدة: 92] ، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وقال:
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]
(1/26)
والحكمة السنة. وقال. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . والثالث الإجماع
الذي دل تعالى على صحته بقوله. {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:
115] ؛ لأنه عز وجل توعد باتباع غير سبيل المؤمنين فكان ذلك أمرا واجبا
باتباع سبيلهم. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «لا
تجتمع أمتي على ضلالة» ، والرابع الاستنباط وهو القياس على هذه الأصول
الثلاثة التي هي الكتاب والسنة والإجماع؛ لأن الله تعالى جعل المستنبط من
ذلك علما وأوجب الحكم به فرضا فقال عز وجل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، وقال عز وجل: {إِنَّا
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] أي بما أراك فيه من الاستنباط
والقياس؛ لأن الذي أراه فيه من الاستنباط والقياس هو مما أنزل عليه وأمره
بالحكم به حيث يقول: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}
[المائدة: 49] .
فصل فإذا ثبت هذا فالكتاب ينقسم إلى قسمين مجاز وحقيقة.
فالمجاز: ما تجوز به في اللفظ عن موضوعه، وهو في القرآن كثير، ينقسم على
أربعة أضرب: زيادة كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ،
وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 13] . ونقصان كقوله
تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ،
(1/27)
وقوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ
السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29] . وتقديم وتأخير كقوله: {أَخْرَجَ
الْمَرْعَى} [الأعلى: 4] {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 5] ، وإنما
تقدير الكلام وحقيقته أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء. واستعارة كقوله: {قُلْ
بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} [البقرة: 93] والإيمان لا يأمر
في الحقيقة، وكقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] ، والصلاة لا تنهى في الحقيقة، وكقوله:
{جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] والموات لا تصح
منه الإرادة، وكقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] والذل لا جناح له في الحقيقة، وهو في القرآن
كثير أكثر من أن يحصى عددا. وقد ذكر ابن خويز منداد من أصحابنا أن القرآن
لا مجاز فيه. وحجته أن القرآن حق، ومحال أن يكون حقا ما ليس بحقيقة. وهو
خطأ واضح؛ لأن الحق ليس من الحقيقة بسبيل؛ لأن الحق ضد الباطل، والحقيقة ضد
المجاز. وقد يؤتى بحقيقة اللفظ ويكون الكلام باطلا ويؤتى بالمجاز فيه ويكون
الكلام حقا نحو لو رأيت رجلا قد قاتل فأبلى بلاء عظيما فقلت رأيت اليوم
أسدا قاتل فأبلى بلاء عظيما كنت قد قلت الحق ولم تأت بالحقيقة في اللفظ إذ
عبرت عن الرجل بالأسد وليس بأسد على الحقيقة. ولو قلت قاتل فلان اليوم
قتالا شديدا وهو لم يفعل لكنت قد قلت الباطل وأتيت بحقيقة اللفظ دون تجوز
فيه.
فصل والحقيقة تنقسم على قسمين: مفصل ومجمل.
(1/28)
فأما المجمل فهو ما لا يفهم المراد به من
لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، فلا يفهم من لفظ الحق جنسه ولا مقداره
إلا بعد البيان ومثل قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:
183] ، و {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] قد قيل في هذه الآيات إنها عامة وليست
بمجملة، والصحيح أنها مجملة، وهو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقد قال
الحج كله في كتاب الله، والصلاة والزكاة ليس لهما في كتاب الله بيان، ورسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك.
وأما المفصل فإنه ينقسم على وجهين محكم ومنسوخ.
فالمنسوخ: ما نسخ حكمه وبقي خطه، وهو في القرآن كثير، مثل قوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] ، ثم نسخ ذلك بقوله
تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:
13] ، ومثل قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65]
{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] . ثم نسخ ذلك بالآية التي
بعدها.
وأما المحكم: فإنه ما لم ينسخ، وهو ينقسم على قسمين محتمل وغير محتمل. فأما
غير المحتمل فهو النص، وحده ما رقي في بيانه إلى أبعد غاية، مأخوذ من النص
في السير وهو أبعده، وقيل إنه مأخوذ من منصة العروس التي ترفع عليها لتجلى
للناس، وذلك مثل قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ،
(1/29)
فهو نص في الثلاثة لا يحتمل غير ذلك، مثل
قَوْله تَعَالَى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، و
{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] .
فصل
ويجري مجرى النص عندنا ما عرف المراد به من جهة عرف التخاطب وإن لم يكن
نصا، نحو قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ
وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}
[المائدة: 3] ، إذ ليس بنص في تحريم وطء الأمهات ولا بنص في تحريم أكل
الميتة وإنما هو مجاز لأنه علق التحريم في الأمهات وسائر المحرمات على
الأعيان، والمراد به تحريم الأفعال في الأعيان؛ لأن اللفظ إذا كثر استعماله
فيما هو مجاز خرج عن حد المجاز ولحق بالمفصل لفهم المراد به من جهة عرف
التخاطب، نحو قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ} [النساء: 43] ، ونحو ذلك. فقد علم وفهم من لغة العرب أن
التحريم والتحليل إذا علق على عين من الأعيان فالمراد به تحريم الفعل
المقصود [منه] فالمقصود من الميتة أكلها، والمقصود من النساء الاستمتاع بهن
بالوطء فما دونه، وهو الذي وقع عليه التحريم دون ما سواه؛ لأنه الفعل
المقصود منه. وإن قال له حرمت عليك الفرس فهم منه تحريم ركوبه لأنه المقصود
منه، وإن قال حرمت عليك الجارية فهم منه تحريم الوطء.
فصل وقد ادعى بعض أصحاب أبي حنيفة الإجمال في ذلك وليس بصحيح
(1/30)
لما قدمناه ومثله قول النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» ، وقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة إلا بطهور» ، وقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» ،
فإنه قد ادعى بعض أصحاب أبي حنيفة في ذلك الإجمال وذهب إلى ذلك القاضي أبو
بكر، والصحيح ما قدمناه لأنه يعرف بعرف التخاطب أن المراد بذلك نفي
الانتفاع بالعمل دون نية لا نفي العمل بعد وقوعه وحصوله.
فصل وأما لحن الخطاب فهو الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به نحو قَوْله
تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، معناه فأفطر فعدة من أيام أخر.
وقَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}
[المائدة: 89] ، معناه فحنثتم، فيجري مجرى النص سواء عند الجميع. وكذلك
فحوى الخطاب مثل قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا
تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] يفهم منه المنع من الضرب والشتم ويجري مجرى
النص سواء في وجوب العمل به عند الجميع ولا خلاف في ذلك.
فصل وأما المحتمل فإنه ينقسم على قسمين، أحدهما أن لا يكون أحد محتملاته
(1/31)
أظهر من الآخر. والثاني أن يكون أحد
محتملاته أظهر من الآخر. فأما القسم الأول وهو أن لا يكون أحد محتملاته
أظهر من الآخر فإنه يجري مجرى المجمل في أنه لا يصح امتثال الأمر به إلا
بعد البيان. وأما القسم. الآخر وهو أن يكون بعض محتملاته أظهر من الآخر،
نحو الأوامر التي ترد والمراد بها الوجوب والندب والإباحة والتعجب إلا أنها
أظهر في الوجوب عند أكثر أصحابنا فتحمل عليه، ونحو ألفاظ العموم فإنها قد
ترد والمراد بها الخصوص، وترد والمراد بها العموم، إلا أنها في العموم أظهر
فتحمل عليه عند أكثر أصحابنا حتى يدل الدليل على تخصيصها. ويندرج تحت هذا
النحو من الخطاب الحكم بالقياس لأنا قد استدللنا عليه بعموم قَوْله
تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وما أشبه ذلك
أيضا من الألفاظ. ومن ذلك أيضا ألفاظ الحصر مثل إنما وما أشبه ذلك، الظاهر
منها أنها ترد لتحقيق الحكم في المنصوص عليه ونفيه عما سواه فيحمل على ذلك،
وإن كانت قد ترد لإيجاب الحكم في المنصوص عليه لا لنفيه عما سواه.
فصل والسنة تنقسم على أربعة أقسام:
سنة لا يردها إلا كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهي ما نقل بالتواتر فحصل
العلم به ضرورة، كتحريم الخمر، وأن الصلوات خمس، وأن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالأذان، وأن القبلة هي الكعبة وما أشبه
ذلك.
وسنة لا يردها إلا أهل الزيغ والتعطيل، إذ قد أجمع أهل السنة على تصحيحها
وتأويلها، كأحاديث الشفاعة والرؤية وعذاب القبر وما أشبه ذلك.
وسنة توجب العلم والعمل وإن خالف فيها مخالفون من أهل السنة، وذلك نحو
الأحاديث في المسح على الخفين وأن ما دون المسكر من الأنبذة حرام.
(1/32)
وسنة توجب العمل ولا توجب العلم، وهو ما
ينقله الثقة عن الثقة، وهو كثير في كل نوع من أنواع الشرائع، وهو نحو ما
أمر الله به من الحكم بشهادة الشاهدين العدلين وإن كان الكذب والوهم جائزا
عليهما فيما شهدا به.
فصل
والإجماع لا يصدر إلا عن دليل، إما توقيف عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -، وإما استدلال من الكتاب والسنة، وإما اجتهاد، كنحو إجماعهم
على جلد شارب الخمر وما أشبه ذلك. وهو ينقسم على قسمين: فمنه ما يجتمع فيه
العلماء والعامة كالوضوء والصلاة والزكاة والصيام. ومنه ما يجتمع عليه
العلماء دون العامة غير أن العامة مجمعة على أن ما اجتمعت عليه العلماء من
ذلك فهو الحق وهو فروع العبادات وأحكام الطلاق والحدود وما أشبه ذلك.
[فصل في وجوب الحكم بالقياس]
وأما الاستنباط وهو القياس فالتعبد به جائز في العقل واجب في الشرع. والذي
يدل على أنه أصل من أصول الشرع الكتاب والسنة وإجماع الأمة. فأما الكتاب
فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ،
والاعتبار تمثيل الشيء بالشيء وإجراء حكمه عليه. روي عن ثعلب أنه فسر
قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] بأن
المراد به القياس وقال الاعتبار هو القياس وهو ممن يعول على قوله في اللغة
والنقل عن العرب. ودليل آخر من الكتاب وهو أن الله تعالى كلفنا تنفيذ
الأحكام وأعلمنا أن جميع ذلك في القرآن بقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ
شَيْءٍ} [النحل: 89] ، وقَوْله تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ
مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فلما لم توجد
(1/33)
جميع الأحكام في القرآن نصا علمنا أنه أراد
أنه نص على بعضها وأحال على الاستنباط و [هو] القياس في سائرها. فمن منع من
الاستنباط وهو القياس فقد كذب بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ
مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] إذ لا يجوز له أن يدعي أنه نص على جميع الأحكام
في القرآن نصا. ودليل آخر من الكتاب وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62]
فوبخهم على إنكارهم النشأة الثانية مع أن لهم طريقا إلى معرفتها وهو القياس
على النشأة الأولى التي يقرون بها وهي في معناها. ومثل ذلك: {أَوَلَيْسَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ} [يس: 81] ومثله في القرآن كثير.
وأما السنن الواردة في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
فكثيرة أيضا ترفع العذر وتوجب القطع عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - بالحكم بالرأي والاجتهاد وإقرار أصحابه على ذلك في زمنه ومع
وجوده ونزول الوحي، فكيف به اليوم بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وانقطاع الوحي. ومن ذلك «الخبر المشهور لمعاذ بن جبل حين أنفذه
إلى اليمن حاكما فقال له بم تحكم قال بكتاب الله، قال فإن لم تجد قال فبسنة
رسوله، قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي. قال الحمد لله الذي وفق رسول رسوله
لما يرضي رسوله.» ومن ذلك «قوله للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت
قاضيته قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضى» فقاس رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(1/34)
وجوب قضاء دين الخالق على وجوب قضاء دين
المخلوق. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لحوم الأضاحي:
«إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم» فأعلمهم بالعلة ليعتبروها.
وهذا نص منه على وجوب الحكم بالقياس. «وسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا يبس فقالوا
نعم، فقال فلا إذا» . ففي سؤاله إياهم هل ينقص الرطب إذا يبس دليل واضح على
أنه إنما أراد بذلك تنبيههم على العلة في بيع الرطب بالتمر وتوقيفهم عليها
ليعتبروها حيثما وجدوها، إذ لا جائز أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجهل أن الرطب إذا يبس ينقص، وإنما أراد أن يعلمهم أن
معنى نهيه عن بيع التمر بالتمر متفاضلا موجود في بيع الرطب بالتمر مثلا
بمثل، وهذا بين. وروت أم سلمة أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
- قال: «إني أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل به وحي» . ومصداق هذا الخبر في
كتاب الله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، وقال
تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] .
فصل وأما الإجماع في ذلك فمعلوم حصوله وتقرره قبل خلق أهل الظاهر القائلين
بنفيه. والدليل على ذلك أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -
اختلفوا في أشياء كثيرة كتوريث الجد والعول في الفرائض وديات الأسنان وما
أشبه ذلك، واحتج كل
(1/35)
واحد منهم على صاحبه لمذهبه بالقياس وشاع
ذلك بينهم وذاع من غير نكير، ولو كان باطلا ومنكرا لتسارعوا إلى إنكاره على
ما وصفهم الله تعالى به في كتابه حيث يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] ولو لم يوجد في ذلك إلا حديث عمر في أمر
الوباء لصح به الإجماع، ووجب له الانقياد والاتباع، حين خرج إلى الشام
بأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما كان بسرغ بلغه أن
الوباء قد وقع بالشام، فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا عليه، فمنهم من
قال له: أرى أن لا تفر من قدر الله، ومنهم من قال له: لا تقدم ببقية أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا الوباء. ثم دعا
الأنصار فاختلفوا كاختلاف المهاجرين قبلهم. ثم دعا من حضر من مشيخة قريش من
مهاجرة الفتح فلم يختلفوا عليه وأمروه بالرجوع، ولم يكن منهم أحد ذكر في
ذلك آية من كتاب الله ولا حديثا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، بل أشار كل واحد منهم عليه برأيه وما أداه اجتهاده إليه، ولم
ينكر عليه أحد فعله، فقال عمر: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو
عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا
عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر، أرأيت لو كان لك إبل في واد له عدوتان
إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت
الخصبة رعيتها بقدر الله؟ فاعترض عليه أبو عبيدة بالرأي وجاوبه عمر بالرأي
والقياس، ولم يحتج أحدهما في ذلك بكتاب ولا سنة ولا إجماع. ثم شاعت هذه
القضية وذاعت ولم يكن في المسلمين من أنكر على واحد منهم القول فيها
بالرأي، وما أعلم مسألة يدعى الإجماع فيها أثبت في حكم الإجماع من هذه
المسألة، والتوفيق من عند الله.
فصل فطريق التعبد به السمع من الكتاب والسنة وإجماع الأمة دون دلالة العقول
(1/36)
على ما قدمناه. وقد ذهب جماعة من الفقهاء
إلى أنه واجب بالعقل، وأن الشرع ورد بتأكيد ما في العقل منه، ولو لم يرد
فيه شرع لاكتفي بإيجاب العقل له. والصحيح أن العقل لا حظر فيه ولا إباحة.
فصل وإنما منع من الحكم بالقياس أهل التعطيل والزيغ، فقال منهم قائلون إنه
محال لا يصح ورود الشرع به، وقال داود وابنه ليس من المستحيل، ولو ورد في
الشرع لكان جائزا ولكنه لم يرد به شرع. فمنهم من يدعي أنه لا نازلة إلا وفي
الكتاب عليها نص، ومن بلغ هذا الحد فقد سقط تكليمه لأنه عاند الحق وجحد
الضرورة، وإن كلمناه مسامحة أوردنا عليه نوازل مثل العول في الفرائض وتقدير
أروش الجنايات، وتقويم المتلفات، ومقاسمة الجد الإخوة والأخوات، ومثل ثوب
أطارته الريح في قدر صباغ، ودينار وقع في مجمرة رجل وما أشبه ذلك، وطالبناه
بالنص على ذلك من الكتاب فلا شك في عجزه عن ذلك. والحذاق منهم يقرون أن
النص لم يحط بجميع أحكام النوازل، وأن منها عفوا مسكوتا عنه لا حكم لله
فيه، وأنه قد بين في الكتاب والسنة أنه لا حكم لله فيما سكت عنه. وقائل هذه
المقالة لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يحكم في هذه النوازل عند نزولها
بهواه فيقع في أشد مما أنكر علينا؛ لأنا لا نحكم فيها بالهوى وإنما نحكم
فيها بأدلة الشرع؛ لأن الله تعالى قد نهى عن الحكم به فقال: {وَلا
تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] ، وقال:
{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] . وإما أن يترك الحكم فيها فيؤول ذلك إلى
إبطال الأحكام ووقوع الحرب والقتال، وهو باطل بإجماع. ومنهم من يقول إن ما
لا نص فيه فهو باق على حكم العقل من حظر وإباحة كل على مذهبه، وهذا باطل،
إذ لا يمكن من جهته
(1/37)
تنفيذ الأحكام، ولو أمكن ذلك لما صح
اعتقاده لأنه يبطل فائدة قول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ
مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .
فصل فالقياس هو حمل الفرع على الأصل في إثبات الحكم أو إسقاطه لعلة يدل
الدليل على أن الحكم إنما ثبت في الأصل أو سقط منه لتلك العلة، وتكون تلك
العلة موجودة في الفرع فيقتضي ذلك إلحاقه بالأصل في إثبات ذلك الحكم فيه أو
إسقاطه منه.
فصل فإذا علم الحكم في الفرع صار أصلا وجاز القياس عليه بعلة أخرى مستنبطة
منه، وإنما سمي فرعا ما دام مترددا بين الأصلين لم يثبت له الحكم بعد.
وكذلك إذا قيس على ذلك الفرع بعد أن ثبت أصلا بثبوت الحكم فيه فرع آخر بعلة
مستنبطة منه أيضا فثبت الحكم فيه صار أصلا وجاز القياس عليه إلى ما لا
نهاية له. وليس كما يقول بعض من يجهل أن المسائل فروع فلا يصح قياس بعضها
على بعض، وإنما يصح القياس على الكتاب والسنة والإجماع. وهذا خطأ بين، إذ
الكتاب والسنة والإجماع هي أصول أدلة الشرع، فالقياس عليها أولى، ولا يصبح
القياس على ما استنبط منها إلا بعد تعذر القياس عليها. فإذا نزلت النازلة
ولم توجد لا في الكتاب ولا في السنة ولا فيما أجمعت عليه الأمة نصا ولا وجد
في شيء من ذلك كله علة تجمع بينه وبين النازلة ووجد ذلك فيما استنبط منها
أو فيما استنبط مما استنبط منها وجب القياس على ذلك.
فصل واعلم أن هذا المعنى مما اتفق عليه مالك وأصحابه ولم يختلفوا فيه على
(1/38)
ما يوجد في كتبهم من قياس المسائل بعضها
على بعض، وهو صحيح في المعنى وإن خالف فيه مخالفون؛ لأن الكتاب والسنة
والإجماع أصل في الأحكام الشرعيات كما أن علم الضرورة أصل في العلوم
العقليات. فكما بني العلم العقلي على علم الضرورة أو على ما بني على علم
الضرورة هكذا أبدا من غير حصر بعدد على ترتيب ونظام الأقرب على الأقرب. ولا
يصح أن يبنى الأقرب على الأبعد، فكذلك العلوم السمعيات تبنى على الكتاب
والسنة وإجماع الأمة أو على ما بني عليها أو ما بني على ما بني عليها بصحته
هكذا أبدا إلى غير نهاية على ترتيب ونظام الأقرب على الأقرب ولا يصح بناء
الأقرب على الأبعد. مثال هذا الذي ذكرناه أني أعلم نفسي ضرورة، فإذا علمتها
ضرورة نظرت هل أنا محدث أو قديم، فعلمت بالنظر أني محدث. ولا يصح أن أنظر
هذا النظر قبل علمي بوجود نفسي، فعلمي بأني محدث علم نظري مبني على علم
الضرورة، فإذا علمت أني محدث نظرت هل لي محدث أم لا، فعلمت بالنظر أن لي
محدثا، فالعلم بأن لي محدثا علم نظري مبني على علم نظري مبني على علم
الضرورة. فإذا علمت بأن لي محدثا نظرت هل محدثي قديم أو محدث فعلمت بالنظر
أنه قديم وهو الله رب العالمين. فعلمي بأنه قديم علم نظري مبني على علم
نظري وهو أن لي محدثا، والعلم بأن لي محدثا مبني على علم نظري وهو العلم
بحدوثي، والعلم بحدوثي مبني على علم الضرورة وهو العلم بوجود نفسي.
فصل والعلة الشرعية لا توجب الحكم في الأصل بنفسها وإنما توجبه بجعل صاحب
الشرع لها علة. مثال ذلك أن السكر قد كان موجودا في الخمر ولم يدل
(1/39)
ذلك على تحريمها حتى جعله صاحب الشرع علة
في تحريمها، فليست علة على الحقيقة، وإنما هي أمارة على الحكم وعلامة عليه.
فصل والذي يدل على صحة العلة في الأصل الكتاب والسنة وإجماع الأمة والتأثير
وشهادة الأصول. والتأثير هو أن يعدم الحكم بعدم العلة في موضع ما. وشهادة
الأصول هو مثل أن يستدل المالكي على الحنفي بأن القهقهة لا تنقض الوضوء في
الصلاة كما لا تنقضه قبل الصلاة كالكلام فيطالب عن صحة العلة فيقول الأصول
متفقة على التسوية بين الأمرين.
فصل وهذا كله يرجع إلى وجهين:
أحدهما: أن تكون العلة معلومة قد ثبتت بدليل قاطع لا يحتمل التأويل من نص،
كقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما نهيتكم من أجل
الدافة التي دفت عليكم» . أو تنبيه كقوله: «أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم
قال فلا إذا» أو دليل أولى كنهيه عن التضحية بالعوراء فإنه يدل على أن
العمياء بذلك أولى. أو مفهوم من اللفظ من غير جهة الأولى كنهيه عن البول في
الماء الدائم والأمر بإراقة السمن الذائب إذا ماتت فيه فأرة؛ لأن هذا يعرف
من لفظه أن الدم مثل البول وأن الزيت مثل السمن الذائب. أو إجماع كإجماعهم
على أن حد العبد إنما نقص لرقه وما أشبه ذلك. وهذا كله هو القياس الجلي،
وإن كان بعضه أجلى من بعض.
والثاني: أن تكون العلة مظنونة غير معلومة إذا لم تثبت بدليل قاطع لا
(1/40)
يحتمل التأويل كنحو ما عرف بالاستنباط وحمل
عليه التأثير كالشدة المطربة في الخمر، فإنه لما وجد التحريم بوجودها وزال
بزوالها دل على أنها هي العلة، ولا يقطع على ذلك؛ لأن أبا حنيفة يقول إنما
حرمت لاسمها. وهو محتمل؛ لأن الاسم يوجد بوجود الشدة ويزول بزوالها. وكنحو
علة الربا التي اختلف فيها الفقهاء وفي أوصافها وشروطها، فذهب كثير من
المالكيين إلى أنها كون الجنس الواحد مطعوما مدخرا مقتاتا أو مصلحا للقوت.
وزاد بعضهم في صفات العلة أصلا للمعاش غالبا. وذهب كثير من الشافعيين إلى
أن الطعم بانفراده هو العلة حتى حرم التفاضل في السقمونيا والطين الأرميني.
وذهب الحنفيون إلى أن العلة فيه الكيل والوزن. فكل واحد من هؤلاء الفقهاء
يغلب على ظنه ترجيح علته على علة صاحبه، وما منهم أحد يعلم أنها العلة ولا
يدعي أن له عليها نصا من الكتاب أو السنة أو ما يقوم مقام النص من التنبيه.
وإنما الدليل عليها عنده غلبة ظنه على صحتها فهي مظنونة والحكم بها إذا غلب
على الظن صحتها معلوم مقطوع على وجوبه. وهذا النوع من القياس هو القياس
الخفي. وكذلك العلة المنصوص عليها مظنونة أيضا إذا جاء النص عليها في السنة
من طريق الآحاد والحكم بها معلوم. مثال هذا الذي ذكرناه وبيناه شهادة
الشاهدين لا يقطع على عدالتهما وإنما يقال إنهما عدلان لغالب الظن. فإذا
غلب على ظن الحاكم عدالة الشاهدين كان الحكم عند غلبة ظنه بذلك معلوما
مقطوعا عليه.
فصل فكل قايس حامل لأحد المعلومين على الآخر بالمعنى الجامع بينهما. وقالوا
إنه على ثلاثة أضرب: قياس العلة، وقياس الدلالة، وقياس الشبهة. فقياس العلة
نحو قياس الأرز على البر، وقياس النبيذ على الخمر، وقياس الأكل في رمضان
(1/41)
على الجماع، بالعلة الجامعة بين كل واحد من
ذلك وبين صاحبه وما أشبه ذلك. وقالوا في قياس الدلالة إن ذلك مثل أن يستدل
على منع وجوب سجود التلاوة بجواز فعلها على الراحلة، فإن جوازه على الراحلة
من أحكام النوافل. ومثل أن يستدل بنظير الحكم على الحكم، فيقول الصبي لا
تجب الزكاة في ماله فلا يجب العشر في زرعه، ولا يلزمه الظهار فلا يلزمه
الطلاق. فيستدل بربع العشر على العشر، وبالظهار على الطلاق. وقالوا في قياس
الشبه إنه يحمل الفرع على الأصل بضرب من الشبه، وذلك مثل أن يتردد الفرع
بين أصلين ويشبه أحدهما في ثلاثة أوصاف ويشبه الآخر في وصفين فيرد إلى أشبه
الأصلين به. وذلك كالعبد يشبه الحر في أنه آدمي مخاطب مثاب معاقب ويشبه
البهيمة في أنه مملوك مقوم فيلحق بما هو أشبه به. وهذان القياسان يستندان
إلى العلة وإن لم يكونا قياس علة على التحقيق، وبالله تعالى التوفيق.
فصل والقياس لا يكون إلا ما رد إلى أصل، وهو أحد أقسام الاجتهاد؛ لأن
الاجتهاد يقع على ما رد إلى أصل وعلى ما لم يرد إلى أصل، نحو أروش الجنايات
ونفقات الزوجات وما يحمل الرجل من العاقلة من الديات وما أشبه ذلك. فكل
قايس مجتهد وليس كل مجتهد قايسا، فالاجتهاد أعم من القياس. فأما الرأي فهو
اعتقاد إدراك صواب الحكم الذي لم يرد فيه نص فلا يكون إلا بعد كمال
الاجتهاد.
فصل وكل ما ذكرنا من أصول الدين وأصول الفقه وأقسام الكتاب ومعاني الخطاب
ووجوب العمل بالقياس وتبيين وجوهه وشرح معانيه مما يحتاج إليه ولا يستغني
عنه من انتدب إلى ما ندب الله إليه في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التفقه في دينه والعلم بشرائعه وأحكامه.
(1/42)
[فصل في وجوب
طلب العلم]
فصل
في وجوب طلب العلم
وطلب العلم والتفقه في الدين من فروض الكفاية كالجهاد، أوجبه الله تعالى
على الجملة فقال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ
طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] ، ومن
للتبعيض. فإذا قام به بعض الناس سقط الفرض عن سائرهم، إلا ما لا يسع
الإنسان جهله من صفة وضوئه وصلاته وصومه وزكاته إن كان ممن تجب عليه
الزكاة، فإن ذلك واجب عليه لا يسقط عنه الفرض فيه معرفة غيره به. وكذلك من
كان فيه موضع للإمامة والاجتهاد فطلب العلم عليه واجب قاله مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - وقد سئل عن طلب العلم أواجب هو أم لا فقال أما على كل
الناس فلا. وروي عنه أن ابن وهب كان جالسا معه فحضرت الصلاة فقام إليها
فقال له: ما الذي قمت إليه بأوجب عليك من الذي قمت عنه. وهذا كلام فيه نظر،
كيف يكون طلب العلم على أحد أوجب عليه من صلاة الفريضة، فالمعنى في ذلك
عندي إن صحت الرواية أنه أراد ما الذي قمت إليه بأوجب عليك في هذا الوقت من
الذي قمت عنه؛ لأن الصلاة لا تجب بأول الوقت إلا وجوبا موسعا، فأراد -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أن اشتغاله بتقييد ما يخشى فواته من
العلم آكد عليه من البدار إلى الصلاة في أول الوقت.
فصل وكما يجب على المتعلم التعلم فكذلك يجب على العالم التعليم. قال الله
عز وجل: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] ، ويقرأ تعلمون وتعلمون بمعنى تتعلمون فتجمع
القراءات الثلاث العلم والتعلم والتعليم. وقال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ
وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ،
(1/43)
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ
مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] ، وقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بلغوا عني ولو آية» ، وقال - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا ليبلغ الشاهد الغائب» . وروي عن أبي ذر
أنه قال لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة
سمعتها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن تجيزوا
علي لأنفذتها.
فصل ولا يحصل العلم إلا بالعناية والملازمة والبحث والنصب والصبر على
الطلب، كما حكى الله تعالى عن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
أنه قال للخضر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي
لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] وأنه قال لفتاه: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ
سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] وقال سعيد بن المسيب إني كنت لأرحل
في طلب العلم والحديث الواحد مسيرة الأيام والليالي وبذلك ساد أهل عصره،
وكان يسمى سيد التابعين. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أقمت
خمس عشرة سنة أغدو من منزلي إلى منزل ابن هرمز وأقيم عنده إلى صلاة الظهر
مع ملازمته لغيره وكثرة عنايته، وبذلك فاق أهل عصره وسمي إمام دار الهجرة.
وأقام ابن القاسم متغربا عن بلده في رحلته إلى مالك عشرين سنة حتى مات مالك
- رَحِمَهُ اللَّهُ -. ورحل سحنون أيضا إلى ابن القاسم فكان مما قرأ عليه
مسائل المدونة والمختلطة ودونها فحصلت أصل علم المالكيين، وهي مقدمة على
غيرها من الدواوين بعد موطأ مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ويروى أنه ما بعد
كتاب الله كتاب أصح من موطأ مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا بعد الموطأ
ديوان في الفقه أفيد من المدونة. والمدونة هي عند أهل الفقه ككتاب سيبويه
عند أهل
(1/44)
النحو، وككتاب إقليدس عند أهل الحساب،
وموضعها من الفقه موضع أم القرآن من الصلاة، تجزئ من غيرها ولا يجزئ غيرها
منها. وكانت مؤلفة على مذهب أهل العراق، فسلخ أسد بن الفرات منها الأسئلة
وقدم بها المدينة ليسأل عنها مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويردها على مذهبه،
فألفاه قد توفي، فأتى أشهب ليسأله عنها فسمعه يقول أخطأ مالك في مسألة كذا
وأخطأ في مسألة كذا، فتنقصه بذلك وعابه ولم يرض قوله فيه وقال ما أشبه هذا
إلا كرجل بال إلى جانب البحر فقال هذا بحر آخر، فدل على ابن القاسم فأتاه
فرغب إليه في ذلك فأبى عليه، فلم يزل به حتى شرح الله صدره لما سأله فجعل
يسأله مسألة مسألة، فما كان عنده فيها سماع عن مالك قال سمعت مالكا يقول
فيها كذا وكذا، وما لم يكن عنده من مالك فيه إلا بلاغ قال لم أسمع من مالك
في ذلك شيئا وبلغني عنه أنه قال فيها كذا وكذا، وما لم يكن عنده سماع ولا
بلاغ قال لم أسمع من مالك في ذلك شيئا ولا بلغني والذي أراه فيه كذا وكذا
حتى أكملها. فرجع إلى بلده بها فطلبها منه سحنون فأبى عليه فتحيل سحنون حتى
صارت الكتب عنده فانتسخها ثم رحل بها إلى ابن القاسم فقرأها عليه فرجع منها
من مسائل وكتب إلى أسد بن فرات أن يصلح كتابه على ما في كتاب سحنون. فأنف
أسد من ذلك وأباه، فبلغ ذلك ابن القاسم فدعا عليه أن لا يبارك له فيها،
وكان مجاب الدعوة، فأجيبت دعوته ولم يشتغل بكتابه ومال الناس إلى قراءة
المدونة ونفع الله بها. وكان سحنون إذا حث على طلب العلم والصبر عليه تمثل
بهذا البيت:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
فصل ومن أفضل ما يستعان به على الطلب تقوى الله العظيم فإنه عز وجل يقول:
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] .
(1/45)
فصل
ويجب على طالب العلم أن يخلص النية لله تعالى في طلبه، فإنه لا ينفع عمل لا
نية لفاعله. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما
الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» . وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «نية المؤمن خير من عمله» . وقال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله
ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما
هاجر إليه» ، ويجب عليه أيضا أن لا يريد بتعلمه الرياء والسمعة ولا عرضا من
أعراض الدنيا فإن الله تبارك وتعالى يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ
فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود: 15] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي
الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] ، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}
[الشورى: 20] ، وقال تعالى: مَنْ {كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا
لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ
يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ
وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] . وروي أن رهطا من أهل العراق مروا على أبي ذر
فسألوه فحدثهم ثم قال لهم هل تعلمون أن هذه الأحاديث التي يبتغى بها وجه
الله لن يتعلمها أحد يريد بها عرض الدنيا يجد عرف الجنة. وعرفها ريحها.
وروي عن شفي الأصبحي أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد
(1/46)
اجتمع الناس عليه فقال من هذا؟ فقالوا أبو
هريرة. قال فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس، فكلما سكت وخلا
قلت له أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل لأحدثنك
حديثا حدثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في هذا
البيت عقلته وعلمته، ثم نشع أبو هريرة نشعة فسكت قليلا ثم أفاق فقال:
لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشع أبو هريرة نشعة أخرى ثم نكس حتى
أفاق فمسح وجهه ثم قال أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره ثم نشع
أبو هريرة نشعة شديدة ثم مال خارا على وجهه فاشتد به طويلا ثم أفاق فقال:
حدثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن الله تبارك
وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم فكل أمة جاثية فأول
ما يدعي به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال
والصدقة. فيقول الله تعالى للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فيقول بلى
يا رب، فيقول ماذا عملت فيما علمت، فيقول كنت أقوم به آناء الليل وآناء
النهار، فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة له كذبت، ثم يقول الله له أردت
أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع
عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ فيقول بلى يا رب. فيقول فماذا عملت فيما
آتيتك؟ فيقول كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة له
كذبت، ويقول الله له بل أردت بذلك أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك. ويؤتى
بالرجل الذي قتل في سبيل الله. فيقال له في ماذا قتلت؟ فيقول أمرت بالجهاد
في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت
وبقول الله له بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ركبتيه فقال يا أبا هريرة أولئك
الثلاثة أول خلق تسعر بهم
(1/47)
النار يوم القيامة.» وحدث شفي بهذا الحديث
معاوية فقال: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس فبكى حتى ظننا أنه
هالك، ثم أفاق فمسح على وجهه وقال صدق الله ورسوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ
فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ - أُولَئِكَ الَّذِينَ} [هود: 15 -
16] الآية وروي عن مجاهد أنه قال في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ
يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ
يَبُورُ} [فاطر: 10] إنه الرياء.
فصل وهذا الوعيد والله أعلم إنما هو لمن كان أصل عمله الرياء والسمعة فأما
من كان أصل عمله لله تعالى وعلى ذلك عقد نيته فلا تضره إن شاء الله الخطرات
التي تقع بالقلب ولا تملكه. وقد سئل مالك وربيعة عن الرجل يحب أن يلقى في
طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق السوء فأما ربيعة فكره ذلك وأما مالك
فقال إذا كان أول ذلك وأصله لله تعالى فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى قال
الله عز وجل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39] ، وقال:
{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] ؛ وقال عمر
بن الخطاب لابنه: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا إذ أخبره بما كان وقع
في نفسه من أن الشجرة التي مثلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالرجل المسلم وسأل أصحابه عنها فوقعوا في شجر البوادي هي
النخلة. قال: فأي شيء هذا إلا هذا فإنما هذا أمر يكون في القلب لا يملك،
فهذا إنما يكون من الشيطان ليمنعه من العمل، فمن وجد ذلك فلا يكسل عن
التمادي في فعل الخير ولا يؤيسه من الأجر، وليدفع الشيطان عن نفسه ما
استطاع ويجدد النية لذلك ولقد روي عن بعض المتقدمين أنه قال طلبنا العلم
لغير الله فردنا لله. وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
- ما يؤيد ما ذهب إليه مالك. وقع في جامع المستخرجة
(1/48)
في سماع ابن القاسم من «رواية معاذ بن جبل
أنه قال: يا رسول الله إنه ليس من بني سلمة إلا مقاتل فمنهم من القتال
طبيعته ومنهم من يقاتل رياء ومنهم من يقاتل احتسابا فأي هؤلاء الشهيد من
أهل الجنة فقال يا معاذ بن جبل من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن
تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة» . وروي «أن رجلا قال
لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يا رسول الله الرجل
يعمل العمل فيخفيه فيطلع عليه الناس فيسره فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له أجر السر وأجر العلانية.
»
فصل ويجب على من تعلم العلم أن يعمل به، فإن لم يعمل به كان حجة عليه يوم
القيامة وحسرة وندامة. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أنه قال: «ما منكم من أحد إلا وسيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة
البدر أو قال ليلته، ثم يقول يا ابن آدم ما غرك بي، ابن آدم ما غرك بي، ابن
آدم ما عملت فيما علمت، ابن آدم ماذا أجبت المرسلين» وروي عن أبي الدرداء
أنه قال: من شر الناس منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه. وقال النبي -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل
به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، والمؤمن الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به
كالثمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به
كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل
الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها»
فصل وكان العلم في الصدر الأول والثاني في صدور الرجال، ثم انتقل إلى جلود
(1/49)
الضأن وصارت مفاتحه في صدور الرجال، فلا بد
لطالب العلم من معلم يفتح عليه ويطرق له. وقد قال بعض الحكماء: العلم يفتقر
إلى خمسة أشياء متى نقص منها شيء نقص من علمه بقدر ذلك، وهي ذهن ثاقب،
وشهوة باعثة، وعمر طويل، وجدة، وأستاذ. وله خمس مراتب، أولها أن تنصب
وتسمع، ثم أن تسأل فتفهم ما تسمع، ثم أن تحفظ ما تفهم، ثم أن تعمل بما
تعلم؟ ثم أن تعلم ما تعلم.
فصل وطلب العلم إذا أريد به وجه الله تعالى وأخلصت النية فيه لله من أفضل
أعمال البر وأجل نوافل الخير. قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]
، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، وقال تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا
الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ؛ جاء في
التفسير أنه الفقه في دين الله. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» . وقال: «من سلك طريقا
يطلب فيها علما سهل الله له طريقا إلى الجنة» . وروي «أن الملائكة تضع
أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع» . وقال أبو هريرة: من غدا أو
(1/50)
راح إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرا
أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانما. وروي عن النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «ما أعمال البر كلها في الجهاد إلا
كبصقة في بحر، وما أعمال البر كلها والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر»
. فنص في هذا الحديث على أن طلب العلم أفضل من الجهاد، ومعناه في الموضع
الذي يكون الجهاد فيه فرضا على الكفاية إذا كان قد قيم به؛ لأنه يكون له
نافلة. وأما القيام بفرض الجهاد أو الجهاد في الموضع الذي يتعين فيه الجهاد
على الأعيان فلا شك أنه أفضل من طلب العلم والله أعلم. وظاهر الحديث يدل
على أن طلب العلم أفضل من الصلاة. وما روي عن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال: الصلاة لأول ميقاتها» معناه
في الفرائض، وأما في النوافل فطلب العلم أفضل منها على ظاهر الحديث المذكور
والله أعلم.
وقد سئل مالك عن القوم يتذاكرون الفقه القعود معهم أحب إليك في ذلك أم
الصلاة؟ فقال بل الصلاة. وروي عنه أن العناية بالعلم أفضل، وليس ذلك عندي
اختلافا من قوله. ومعناه أن طلب العلم أفضل من الصلاة لمن ترجى إمامته،
والصلاة أفضل من طلب العلم لمن لا ترجى إمامته إذا كان عنده منه ما يلزمه
في خاصة نفسه من صفة وضوئه وصلاته وصيامه. وقال سحنون يلزم أثقلهما عليه.
فصل والأجر في العناية بالعلم على قدر النية فيه. قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى قد أوقع أجره على قدر نيته»
. والله تبارك وتعالى قد قسم بين عباده الأعمال وتفضل عليهم بالثواب. روي
أن بعض العباد كتب إلى مالك يحضه
(1/51)
على الانفراد وترك مجالسة الناس، فكتب إليه مالك يقول: إن الله قد قسم بين
عباده الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في
الصيام، ورب رجل فتح له في الصيام ولم يفتح له في الصلاة، ورب رجل فتح له
في كذا ولم يفتح له في كذا فعدد أشياء ثم قال وما أظن ما أنت فيه بأفضل مما
أنا فيه، وكلانا على خير إن شاء الله والسلام. |