المقدمات الممهدات

[فصل في تحرير القول في الإيمان والإسلام]
فصل
في تحرير القول في الإيمان والإسلام
ولا يصح شيء من العبادات إلا بعد الإقرار بالمعبود والتصديق به. فأول الواجبات الإيمان بالله تعالى وبوحدانيته وبما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وكل ما جاءوا به من عنده. والإيمان هو التصديق الحاصل في القلب قال الله عز وجل: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي بمصدق لنا {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] . وأما الإسلام فهو إظهار الإيمان والإعلان به، مأخوذ من الاستسلام وهو الانقياد؛ لأن من أظهر الإيمان فقد انقاد واستسلم لجريان حكمه عليه. فكل مؤمن مسلم؛ لأن من اعتقد الإيمان في الباطن فهو معلن به في الظاهر. وليس كل مسلم مؤمنا؛ لأن المنافق والزنديق يظهران الإسلام ويعتقدان الكفر، فهما مسلمان في الظاهر كافران في الباطن. فالإسلام أعم من الإيمان. وهذا في بلد الإسلام وحيث يجب على المؤمن إظهار إيمانه ولا يحل له كتمه. وأما في بلد الحرب إذا أكره على الكفر فواجب عليه إذا خاف على نفسه فأظهر الكفر أن يعتقد الإيمان بقلبه، فيكون إذا فعل ذلك مؤمنا غير مسلم؛ لأن الله تبارك وتعالى قد سماه مؤمنا في كتابه فقال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28] ، وقال: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] وليس بمسلم

(1/52)


إذ لم يستسلم بإظهار الإيمان. وقد قيل إن الإسلام والإيمان اسمان واقعان على معنى واحد، واحتج من ذهب إلى هذا بقول الله عز وجل وقوله الحق: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 35] {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36] ، وهذا لا حجة فيه؛ لأن المؤمنين إذا أظهروا الإيمان مسلمون بإظهار الإيمان كما بيناه والدليل على أن الإيمان غير الإسلام قول الله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] أي انقدنا {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] فنفى عنهم الإيمان الحاصل في القلب وأوجب لهم الإسلام الذي هو الانقياد بإظهار الإيمان دون اعتقاده. وما روي أيضا «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صورة أعرابي وقال: يا محمد ما الإيمان فقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره حلوه ومره. قال فما الإسلام قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت. قال صدقت.» ففرق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الإيمان والإسلام بأن جعل الإيمان من أفعال القلوب الباطنة والإسلام من أفعال الجوارح الظاهرة. فالإيمان خصلة من خصال الإسلام التي ينقاد بها المكلف لأمر الله تعالى كما ينقاد للصوم والصلاة والحج وسائر العبادات.

فصل فهذا هو الإيمان في الشرع. وأما في اللغة فكل من ظهر منه التصديق يسمى مؤمنا. فالمسلم في اللغة مؤمن، ويصح أن يسمى في الشرع مؤمنا مجازا؛ لأن إظهار الشهادة يدل على الإيمان، فيحكم لمن أظهرها بحكمه في الدنيا لا أنه إيمان ينتفع به في الآخرة. والعرب قد تسمي الشيء باسم ما قرب منه، ويصح على هذا أن يسمى ما يظهر من أعمال الطاعات كلها إيمانا لأنها دالة على الإيمان ومن أفعال المؤمنين وسجاياهم. ووجه آخر أيضا صحيح جيد، وهو أن أعمال

(1/53)


الطاعات كلها لا تكون طاعة وقربة إلا مع مقارنة الإيمان لها، ومتى لم يقارنها لم تكن طاعة ولا قربة، فسميت الطاعات باسم الأصل الذي لا يثبت لها الحكم بأنها طاعة وقربة إلا به. وهذا بين في المعنى وعليه يحمل قول من قال من أهل السنة إن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح. وما روي أن معنى قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] ، أي صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت مقارنة للإيمان ولذلك حصل الانتفاع بها والجزاء عليها، فبان بما قلناه وأوردناه أن أنفس الطاعات من الأقوال والأفعال إذا لم يصح أن تسمى طاعات إلا بمقارنة الإيمان لها فلا يصح أن يقال إنها غير الإيمان، إذ لا يصح مفارقتها له، ولا أنها الإيمان كالصفة القديمة لا يصح أن يقال إنها هي الموصوف ولا أنها غيره.

فصل وأما قول من قال من أهل السنة إن الإيمان يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقص الأعمال ففيه تأويلان: أحدهما أن المعنى في ذلك أن ثواب الإيمان يزيد مع الطاعة وينقص مع تركها، بمعنى أنه يتجرد ثواب الإيمان عن ثواب الطاعة إذا تركها إلى مباح أو معصية، فلا يكون ثواب الإيمان في حال الصلاة كثوابه في حال الجلوس ولا كثوابه في حال المعصية. يؤيد هذا التأويل ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» ، أي ليس هو في تلك الحال مؤمنا يثاب على إيمانه فيها مثل ما كان يثاب عليه لو كان في عمل مباح أو مندوب إليه أو واجب على هذا يحمل الحديث إذ لا يصح أن يقال إن المؤمن في حال المعصية منسلخ عن الإيمان. وقد قيل في معنى هذا الحديث إن الإيمان إيمانان، فإيمان يؤمن به من الخلود في

(1/54)


النار، وإيمان يؤمن به من دخول النار. فالإيمان الذي يؤمن به من دخول النار هو الإيمان الذي لا معصية معه، والإيمان الذي يؤمن به من الخلود في النار هو الإيمان الذي معه المعاصي. فالزاني والسارق في حال السرقة والزنا ليس بمؤمن الإيمان الذي يؤمن به من دخول النار؛ لأنه في تلك الحال مصر على المعصية غير تائب منها، فإنما نفي عنه على هذا التأويل الإيمان الممدوح. وقد كان بعض الشيوخ يرويه لا يشرب بكسر الباء على معنى الأمر يقول إذا كان مؤمنا فلا يشرب الخمر ولا يسرق ولا يزن. وقد قيل في معنى الحديث إن الإيمان لما كان مضمناته التصديق بالوعيد بالعقاب على هذه الكبائر صار كالمناقض للشهوة الباعثة عليها فأيهما غلب صاحبه نفاه. فلما كان مرتكب الكبائر في حال ارتكابه إياها قد غلبت شهوته تصديقه وخوفه جاز أن يوصف بانتفاء الإيمان عنه على ضرب من التوسع والمجاز. وقد قيل إن معنى الحديث إنما هو فيمن زنى أو سرق وهو مستحل لذلك.
والتأويل الثاني في معنى زيادة الإيمان بزيادة الأعمال ونقصانه بنقصان الأعمال أنه يزيد بتكراره بفعل الطاعة لأن الطاعة لا تكون طاعة إلا مع مقارنة الإيمان لها، فإذا كثر عمله زادت أجزاء إيمانه بتكررها، وإذا نقص عمله نقصت أجزاء إيمانه على قدر ما كانت تكون لو كثر عمله. وهذا كما يقال نقص ماء العين وزاد. على هذا التأويل لا يخرج الكلام عن الحقيقة إلى المجاز بخلاف التأويل الأول؛ لأن حقيقة المراد بالزيادة في الشيء هو أن يضاف إليه غيره، وحقيقة المراد بالنقصان منه هو أن ينقص منه بعض أجزائه. وأما الشيء الواحد فلا ينقص في نفسه ولا يزيد في نفسه لأن ذلك من المحال.

(1/55)


فصل وقد نص الله تبارك وتعالى على زيادة الإيمان فقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] . ومعنى ذلك زيادة اليقين في الإيمان والبعد من دخول الشك فيه عليه؛ لأن آيات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأقواله وما ينزل عليه يصدق بعضه بعضا، وذلك يوجب زيادة اليقين في الإيمان والاستبصار في التمسك به والبعد من دخول الشك عليه فيه.

فصل فالإيمان يتفاضل في زيادة اليقين والقوة فيه والعلم به والبعد من دخول الشك عليه فيه، فكلما قوي اليقين بالله والعلم به لمن عرفه كان أبعد من طرو الشكوك عليه، فليس من آمن بالله ولم يعرفه بالاستدلال عليه كمن عرفه به، ولا من عرفه بوجه واحد من وجوه الأدلة كمن عرفه من وجوه كثيرة، ولا من عرفه بالأدلة دون معاينة الآيات كمن شاهدها وعاينها بحضرة النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في قوة اليقين في القلب وبعده عن أن يفتن فيه أو يزيغه الشيطان عنه. روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من أصحابي من الإيمان في قلبه أثبت من الجبال الرواسي» . وقال في بعض أصحابه أراه أبا بكر: «لو رفع له الغطاء ما زاد يقينا» . ويروى أن عمر بن الخطاب أتاه منكر ونكير فقالا له: من ربك وما دينك، فقال لهما أما أنا فالله ربي والإسلام ديني ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيي، وأنتما فمن ربكما وما دينكما ومن نبيكما؟ فنظر بعضهما إلى بعض فقالا إنه عمر وانصرفا عنه. فهل

(1/56)


يساويه أحد من أهل هذا الزمان في قوة اليقين هذا ما لا يكون والله سبحانه وتعالى أعلم.

[فصل في زيادة الإيمان ونقصانه]
فصل
فزيادة الإيمان ونقصانه يكون على هذه الوجوه الثلاثة زيادة في اليقين وزيادة في العدد وزيادة في الثواب، وهو أبعد التأويلات؛ لأن الكلام يحمل في هذا التأويل على المجاز، وحمله على الحقيقة أولى. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كان يطلق القول بزيادة الإيمان ويكف عن إطلاق نقصانه، إذ لم ينص الله تعالى إلا على زيادته. فروي عنه أنه قال عند موته لابن نافع وقد سأله عن ذلك: قد أبرمتموني، إني تدبرت هذا الأمر فما من شيء يزيد إلا وهو ينقص الإيمان يزيد وينقص. وهو الصحيح. والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل
فهذا هو حقيقة القول في الإيمان والإسلام على مذاهب أهل السنة. وذهبت المعتزلة إلى أن الإيمان هو فعل الواجبات من العبادات وترك المحظورات، وأنه قد نقل هذا الاسم في الشرع على مقتضى اللغة وجعل اسما لجميع الواجبات وترك المحظورات، فكفروا المسلمين بالذنوب، وقال منهم قائلون إنه اسم في الدين لجميع الطاعات فرائضها ونوافلها، وقالت طائفة من المرجئة إن الإيمان هو الإقرار باللسان وإن وجد مع عدم المعرفة، وهذا كله باطل يرده القرآن.

فصل وهذا الذي قلناه من أن أول الواجبات الإيمان بالله تعالى هو على مذهب من

(1/57)


يرى أن الإيمان بالله هو التصديق الحاصل في القلب وليس من شروط صحته المعرفة هو الذي اختاره القاضي أبو الوليد الباجي واحتج له. وأما على مذهب من رأى أن الإيمان بالله تعالى لا يصح إلا بعد المعرفة فيقول إن أول الواجبات النظر والاستدلال؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يعلم ضرورة وإنما يعلم بالنظر والاستدلال بالأدلة التي نصبها لمعرفته. وإلى هذا ذهب البخاري في كتابه فبوب باب العلم قبل القول والعمل لقول الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] فبدأ بالعلم، وهو الذي ركن إليه القاضي أبو بكر الباقلاني؛ لأنه قال: إن الإيمان هو العلم، وكل مؤمن بالله فهو عالم به. والذي ذهب إليه أن من لم يكن عالما بالله تعالى فهو جاهل به، والجاهل بالله تعالى كافر به. وليس ذلك ببين؛ لأن الإيمان يصح باليقين الذي قد يحصل لمن هداه الله بالتقليد وبأول وهلة من الاعتبار بما أرشد الله تعالى إلى الاعتبار به في غير ما آية من كتابه. ومن قال إن الإيمان بالله هو العلم به، والعلم به لا يصح إلا بالنظر والاستدلال فأول الواجبات عنده النظر والاستدلال. وقد قال القاضي أبو بكر المذكور في بعض كتبه إن الإيمان ليس هو العلم، وإنما سبيله أن يتضمن العلم، لأن الإيمان في اللغة هو التصديق، والتصديق هو من قبيل الأقوال التي تكون في النفس ويعبر عنها تارة بالقول، وذلك القول الموجود بالقلب لا يصح وجوده مع الجهل ولا بد أن يكون متضمنا للعلم. قال بعض من تكلم على قوله من الفقهاء: وهذا هو التحقيق الذي يمر مع النظر.
وقد حكى القاضي أبو الوليد الباجي عن شيخه القاضي أبي جعفر السمناني أنه كان يقول: القول بأن النظر أول الواجبات مسألة من مسائل الاعتزال بقيت في المذهب عند من التزمها؛ لأن من جعله أول الواجبات أوجبه

(1/58)


بالعقل، إذ لا يصح أن يعلم أحد أن الله أوجب عليه النظر وهو لا يعلم الله إلا بعد النظر. ومن أصول أهل السنة أن العمل لا حظر فيه ولا إباحة. وليس قوله عندي بصحيح؛ لأن الشيء الواجب في ذاته لا يخرجه عن الوجوب في حق أحد جهله بمعرفة وجوبه عليه. ألا ترى أن الإيمان واجب بالشرع على من لا يعلم الشرع عند من جعله أول الواجبات، [فكما يكون الإيمان واجبا بالشرع على من لا يعلم الشرع عند من جعله أول الواجبات] ، فكذلك يكون النظر واجبا بالشرع على من لا يعلم الشرع عند من جعله أول الواجبات. وقد استدل الباجي على من قال إن النظر والاستدلال أول الواجبات بإجماع المسلمين في جميع الأعصار على تسمية العامة والمقلدين مؤمنين. قال فلو كان ما ذهبوا إليه صحيحا لما صح أن يسمى مؤمنا إلا من عنده علم بالنظر والاستدلال. قال وأيضا لو كان الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال لجاز للكفار إذا غلب عليهم المسلمون أن يقولوا لهم لا يحل لكم قتلنا لأن من دينكم أن الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال فأخرونا حتى ننظر ونستدل، وهذا يؤدي إلى تركهم على كفرهم وأن لا يقاتلوا حتى ينظروا ويستدلوا. قال ولا خلاف في بطلان هذا. وهذا لا يلزم لأن من جعل النظر والاستدلال أول الواجبات لا يقفهما على الحد الذي رتبه أهل الكلام من الاستدلال بالأعراض المتوالية على الأجسام على حدوث العالم وإثبات محدثه على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله، بل يقول إنه يعرف ذلك بأول بديهة العقل؛ لأن العاقل إذا نظر إلى السماء والأرض واختلاف الليل والنهار وإلى نفسه واختلاف أحواله وخروجه من العدم إلى الوجود علم أن لذلك كله خالقا ومدبرا ليس كمثله شيء.
والذي أقول به إن النظر والاستدلال على هذا الوجه هو أول الواجبات عند من جعل النظر أول الواجبات، ويصح به الإيمان لأن اليقين يحصل به وإن لم يقع به العلم، إذ لا يقع العلم إلا بعد إمعان النظر، وقد يصح تيقن المعتقد من غير علم. فمن آمن بالله بتقليد أو نظر يحصل به اليقين أو يقع به العلم فهو مؤمن

(1/59)


حقيقة، وإن كانت مرتبة من آمن بالله وعلمه بالنظر والاستدلال أرفع من مرتبة من آمن به بيقين حصل عنده من غير علم.

فصل فإذا قلنا إن أول الواجبات الإيمان بالله وهو التصديق به وبما أخبر به عن نفسه من صفات ذاته وأفعاله، فإن النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله تعالى واجب أيضا أوجبه الله على عباده وافترضه عليهم وتعبدهم به كسائر العبادات الواجبات. والدليل على وجوبه قول الله عز وجل: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] ، وقال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] الآية، وقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] ، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق: 6] الآية، ومثل هذا في القرآن كثير.
ومن الدليل أيضا على وجوب النظر والاستدلال أن الله تعالى قد أوجب المعرفة به وبما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله في غير ما آية من كتابه فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] ، وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98] ، وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 17] ، والعلم بشيء من ذلك لا يصح إلا من جهة

(1/60)


النظر والاستدلال، وما لا يصح الواجب إلا به فهو واجب مثله. فمن عرف الله تعالى بالأدلة التي نصبها لمعرفته فهو مؤمن، ومرتبته في الإيمان أرفع من مرتبة من آمن به من غير علم. قال الله عز وجل: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] .

فصل فكل عالم بالله مؤمن وليس كل مؤمن بالله عالما به.

فصل وقولنا إن الإيمان شرط في جميع العبادات ليس على الإطلاق؛ لأن ما يصح فعله بغير نية من العبادات يصح مع عدم الإيمان إذا قلنا إن الكافر متعبد بشرائع الإسلام، وفي ذلك بين أهل العلم اختلاف. وكذلك النظر الموجب إلى معرفة الله تعالى عند من جعله أول الواجبات ليس من شرطه الإيمان ولا النية، وقد دللنا على فساد هذا القول.

فصل والعبادات لا تفتقر إلى النية إلا بخمسة شروط: أحدها أن تكون فعلا أو تركا تختص بزمن معلوم مؤقت كالصيام، فإن كانت العبادة تركا لا تختص بزمن معلوم كترك الزنا وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وما أشبه ذلك لم تفتقر إلى نية. والثاني أن تكون العبادة مما يصح أن تفعل لله ويصح أن تفعل لغيره. فإن كانت العبادة مما لا يصح أن تفعل إلا لله كإرادة التقرب إليه بالعبادة، أو كانت مما لا يصح أن يفعل إلا لغير الله كالنظر المؤدي إلى معرفة الله عند من جعله أول الواجبات لم يفتقر ذلك

(1/61)


إلى نية. والثالث أن تكون العبادة واجبة لحق الله كالصلاة والزكاة والصيام، فإن كانت واجبة لحق مخلوق لم تفتقر إلى نية، كقضاء الديون وأداء الودائع والأمانات، وبر الآباء والأمهات، وما أشبه ذلك من العبادات. والرابع أن لا تكون العبادة واجبة لعلة ترتفع بامتثال العبادة دون نية، فإن كانت واجبة لعلة ترتفع بامتثالها دون نية لم تفتقر إلى نية، كالاستنجاء وغسل النجاسات من الثياب والأبدان وما أشبه ذلك.
والخامس أن تكون العبادة يفعلها المتعبد بها في نفسه، فإن كانت مما يفعلها في غيره لم تفتقر إلى نية، كغسل الميت، وغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب فيه، ومن وضأ غيره؛ لأن النية إنما تجب على الموضأ لا على الموضئ، وهذا بين وبالله التوفيق.

(1/62)