المقدمات
الممهدات [فصل في أحكام
الشريعة المتعلقة بالوضوء وغيره من العبادات]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فصل
في أحكام الشريعة المتعلقة بالوضوء وغيره من العبادات وأحكام الشريعة تنقسم
على خمسة أقسام: واجب، ومستحب، ومباح، وحرام، ومكروه.
فالواجب حده ما حرم تركه، وقيل ما توعد الله على تركه وترك بدله إن كان له
بدل بالعقاب، والأول أخصر وهذا أبين. وفائدة هذا التقييد أن من العبادات ما
لا بدل له كغسل الوجه فيستحق العقاب بتركه، ومنها ما له بدل كغسل الرجلين
فلا يستحق العقاب إلا بترك الغسل والمسح على الخفين الذي هو بدل الغسل. وله
خمسة أسماء: واجب، وفرض، وحتم، ولازم، ومكتوب؛ وكلها قائمة من القرآن. وهو
ينقسم على ثلاثة أقسام واجب بالقرآن، وواجب بالسنة، وواجب بالإجماع، وهي
كلها سواء في لحوق الإثم بترك الامتثال. وإنما يفترق في قدر ما يتوعد به
على الترك، فرب ذنب أعظم من ذنب وإن كان الأصغر إذا انفرد عظيما. والواجب
والفرض عندنا سواء خلاف ما ذهب إليه أهل العراق من أن الفرض آكد من الواجب،
وأن الفرض ما وجب بالقرآن والواجب ما وجب بالسنة والإجماع.
(1/63)
والمستحب ما كان في فعله ثواب ولم يكن في
تركه عقاب فبالوصف الأول بان من المكروه والمباح والمحظور، إذ ليس في شيء
من ذلك كله ثواب، ووافق الواجب. وبالوصف الثاني بان من الواجب ووافق
المكروه والمباح والمحظور. وهو ينقسم على ثلاثة أقسام: سنن، ورغائب،
ونوافل. فالسنن ما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفعله
واقترن بأمره ما يدل على أن مراده به الندب أو لم تقترن به قرينة على مذهب
من يحمل الأوامر على الندب ما لم يقترن بها ما يدل أن المراد بها الوجوب.
أو ما داوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فعله، بخلاف
صفة النوافل. والرغائب ما داوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- على فعله بصفة النوافل أو رغب فيه بقوله من فعل كذا فله كذا. والنوافل ما
قرر الشرع أن في فعله ثوابا من غير أن يأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به أو يرغب فيه أو يداوم على فعله.
والمباح ما لم يكن في فعله ثواب ولا في تركه عقاب، نحو القيام والجلوس
والحركة والسكون والاستمتاع بالمباحات من المطعم والملبس والمركب وما أشبه
ذلك.
والحرام ضد الواجب، وهو ما توعد الله على فعله بالعقاب.
والمكروه ضد المستحب وهو ما كان في تركه ثواب ولم يكن في فعله عقاب، وهو
المتشابه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحلال
بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات» الحديث.
فصل والعبادات التي لها هذه الأحكام تنقسم على ثلاثة أقسام: قسم منها يتوجه
إلى القلوب. وقسم منها يتوجه إلى الأبدان. وقسم منها تشترك فيه القلوب
والأبدان. فالذي يتوجه منها إلى القلوب خمسة أجناس: نظر، واعتقاد، وعلم،
وظن، وإرادة. والذي يتوجه منها إلى الأبدان: ما لم يفتقر في امتثاله إلى
نية. والذي تشترك فيه القلوب والأبدان ما افتقر في أدائه إلى نية، وقد تقدم
بيان ذلك.
(1/64)
فصل فمن العبادات المتوجهة إلى الأبدان أو
إلى القلوب والأبدان على ما بيناه طهارة الثياب والأجسام. وأصل الطهارة في
اللغة النظافة والنزاهة؛ ولذلك كانت العرب تستعملها في الطاهر دون النجس
فيفترق بين الأمرين. ومنه قول الله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}
[المدثر: 4] أي قلبك فنق من الآثام والأدناس. ومنه قول الله عز وجل:
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] أي ينزهكم عن الدناءة ويبعدكم
عنها ويعلي درجاتكم. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ
وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ} [آل عمران: 42] معناه نزهك وأبعدك مما قذفت به
ورفع درجتك.
فصل والطهارة في الشرع من هذا المعنى مأخوذة، وهي تنقسم على وجهين: طهارة
لإزالة نجاسة، وطهارة لرفع حدث.
فأما الطهارة لإزالة النجاسة فحدها إزالة النجاسة، وهي من العبادات
المتوجهة إلى الأبدان دون القلب، إذ لا تفتقر في أدائها إلى نية. واختلف
فيها فقيل إنها فرض، وقيل إنها سنة، وقيل إنها استحباب، وليس ذلك بصحيح على
ما أصلناه. وقيل إنها فرض مع القدرة والذكر تسقط مع النسيان، كالكلام في
الصلاة، وستر العورة فيها. وهذا غير صحيح على ما سنورده في موضعه إن شاء
الله تعالى.
وأما الطهارة لرفع الحدث فإنها من العبادات المتوجهة إلى الأبدان والقلوب
لافتقارها إلى النية على مذهب مالك والشافعي. وهي تنقسم على ثلاثة أقسام:
غسل، ووضوء، وبدل منهما عند عدم القدرة عليهما وهو التيمم. ومن الناس من
يذهب إلى أنه لا يصح أن يقال في التيمم على مذهب مالك إنه بدل من الوضوء
(1/65)
لأنه لا يرفع الحدث عنده على الإطلاق كما
يرفعه الغسل والوضوء، وإن كان يستباح به عنده جميع ما يستباح بالوضوء من
الفرائض والنوافل. والأظهر أنه بدل منه على مذهبه لأنه يستباح به عنده جميع
ما يستباح بالغسل والوضوء، وإنما لم يرفع الحدث عنده لأن الأصل كان إيجاب
الوضوء. والتيمم عند عدم الماء لكل صلاة بظاهر قول الله تبارك وتعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]
فخرج من هذا الظاهر الوضوء بما ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلى صلوات بوضوء واحد، وبقي التيمم على الأصل فلم يقس على
الوضوء لأن البدل لا يقوى قوة المبدل منه. والله أعلم. ولا اختلاف في أنه
بدل من الوضوء عند من رأى أنه يرفع الحدث على الإطلاق أو إلى أن يجد الماء،
ولا في أنه استباحة للصلاة عند من رأى أنه لا يصلى به سوى الفريضة خوف فوات
وقتها.
فصل فأما الغسل فإنه يتنوع: فمنه واجب، ومنه مسنون، ومنه مستحب. فالواجب
منه الغسل من الجنابة والحيضة والنفاس، والمسنون منه غسل الجمعة، والمستحب
منه غسل العيدين، وغسل المستحاضة إذا ارتفع عنها دم الاستحاضة، والغسل
للإحرام ولدخول مكة وللوقوف بعرفة.
فصل
وكذلك الوضوء أيضا منه واجب ومنه مسنون ومنه مستحب. فالواجب منه ما يفعل
لما لا يصح فعله إلا بطهارة من الفرائض والسنن والنوافل، لا يتنوع تنوعها
لأنه لا يراد لنفسه وإنما يجب لغيره، فلا يقال فيه إنه واجب على الإطلاق،
وإنما يقال إنه واجب لكذا بمعنى أنه شرط في صحة ذلك الفعل، وغير واجب لكذا
بمعنى أنه غير شرط في صحته. والمسنون منه وضوء الجنب إذا أراد أن ينام.
(1/66)
والمستحب منه الوضوء للنوم، ووضوء
المستحاضة والذي يسلس منه البول لكل صلاة. وتجديد الوضوء أيضا لكل صلاة
مستحب مرغب فيه.
[فصل في معرفة اشتقاق الوضوء]
فصل
في معرفة اشتقاق الوضوء الوضوء مشتق من الوضاءة وهي النظافة أيضا والحسن.
ومنه قيل فلان وضيء الوجه أي نظيفه. فكأن الغاسل لوجهه أو لشيء من أعضائه
وضأه أي نظفه بالماء وحسنه. والوضوء في اللغة يقع على غسل العضو الواحد فما
فوقه، والدليل على ذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مفصلا من أن الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم
ويصح البصر. وسمى غسل اليد وضوءا. وأما في الشرع إذا أطلق فلا ينطلق إلا
على غسل جملة أعضاء على وجه مخصوص، وهو يشتمل على فروض وسنن ومستحبات على
ما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
[فصل فيما يجب منه الوضوء]
ويجب الوضوء من تسعة أشياء على اتفاق في المذهب، وهي المذي، والودي،
والبول، والغائط، والريح إذا خرج ذلك كله على العادة، سواء خرج الريح بصوت
أو بغير صوت. والقبلة مع وجود اللذة أو القصد إليها، والمباشرة، واللمس مع
وجود اللذة، وزوال العقل بنوم مستثقل أو إغماء أو سكر أو تخبط جنون. وإنما
شرطنا الاستثقال في النوم لأنه ليس بحدث في نفسه وإنما هو سبب للحدث.
والقدر الذي يحكم على النائم بانتقاض وضوئه من أجله يختلف باختلاف هيئته في
نومه، وهي على أربع مراتب: أقربها إلى انتقاض وضوئه فيها
(1/67)
بالنوم الاضطجاع ثم السجود، ثم الجلوس
والركوع، ثم القيام والاحتباء. واختلف في الركوع فقيل إنه كالقيام وقيل إنه
كالسجود. واختلف في الاستناد فقيل إنه كالجلوس وقيل إنه كالاضطجاع. فإذا
نام الرجل مضطجعا وجب عليه الوضوء بالاستثقال وإن لم يطل. وإذا نام ساجدا
لم يجب عليه الوضوء إلا أن يطول، وقيل إنه يجب عليه بالاستثقال وإن لم يطل.
وإذا نام جالسا أو راكبا فلا وضوء عليه إلا أن يطول. وإذا نام قائما أو
محتبيا فلا وضوء عليه وإن طال لأنه يثبت. ومن أهل العلم من زاد على هذه
التسعة الأشياء الحقنة وليس بصحيح؛ لأن الحقنة ليست بحدث ينقض الطهارة، إذ
لو ارتفعت بعد وجودها لما لزم الوضوء منها.
ويجب من تسعة أشياء أيضا على اختلاف في المذهب، وهي مس الرجل ذكره أو مس
المرأة فرجها، والتذكر مع الاشتهاء، وخروج شيء من المعتادات من أحد
المخرجين على غير العادة، والقبلة مع عدم اللذة وعدم القصد إليها ممن
يشتهى؛ لأن من لا يشتهي لصغره أو لكونه من ذوات المحارم فلا وضوء في قبلته
على الصفة المذكورة، والمباشرة والملامسة مع عدم اللذة ووجود القصد إليها،
والارتداد، ورفض الوضوء، والشك في الحدث. والأخصر من هذا أن تقول إن الوضوء
يجب من وجهين: أحدهما ما يخرج من المخرجين من المعتادات على العادة باتفاق
أو على غير العادة باختلاف. والثاني ما هو سبب لما يخرج منهما قوي باتفاق
أو ضعيف على اختلاف. فيندرج تحت هذا الوجه زوال العقل بالنوم المستثقل
وبالإغماء والسكر والجنون، ويندرج تحته أيضا القبلة والمباشرة واللمس
(1/68)
مع وجود اللذة أو القصد إليها على الاختلاف
في ذلك، ويندرج تحته أيضا مس الرجل ذكره ومس المرأة فرجها والتذكر مع
الاشتهاء على مذهب من يوجب الوضوء لذلك؛ لأن الأصل في وجوب الوضوء من ذلك
كله هو ما يخشى أن تكون اللذة قد حركت المذي عن موضعه وأخرجته إلى قناة
الذكر من غير أن يشعر بذلك. فهذه الأقوال في الأحداث الموجبة للوضوء مجملة،
وستأتي مفسرة في مواضعها إن شاء الله تعالى.
فصل ولوجوب الوضوء من هذه التسعة الأشياء خمس شرائط: وهي الإسلام، والبلوغ،
والعقل، وارتفاع "الحيض والنفاس، ودخول وقت الصلاة.
فصل
والأصل في وجوبه من هذه التسعة الأشياء بهذه الخمس الشرائط قول الله تبارك
وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] . والأمر على الوجوب. ومن قال من
أصحابنا إنه ليس على الوجوب فقد وافقنا في أمر الله تعالى بالوضوء أنه على
الوجوب للآثار الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما
أبان ذلك ورفع الاحتمال منه. من ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول» ، وقوله -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا هو أحدث
حتى يتوضأ» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله
صلاة امرئ حتى يضع الوضوء
(1/69)
مواضعه» ، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «لا تتم صلاة أحدكم حتى يتوضأ كما أمره الله تبارك وتعالى
فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين» ، «وقوله -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - للأعرابي لما علمه الوضوء: "توضأ كما
أمرك الله» . ووجوب ذلك معلوم من دين الأمة ضرورة فلا معنى للإطالة في جلب
النصوص في ذلك.
فصل وآية الوضوء قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية نزلت بالمدينة، وكان
سبب نزولها التيمم، وقد كان الوضوء قبل ذلك واجبا بالسنة. وفي قوله في حديث
التيمم فأصبحوا على غير ماء فأنزل الله آية التيمم ولم يقل آية الوضوء دليل
واضح على أنه إنما طرأ عليهم في ذلك الوقت العلم بالتيمم وأن الوضوء قد كان
معلوما عندهم مشروعا لهم. لا خلاف بين أحد من الأمة أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل قط وهو جنب ولا هو على غير وضوء. روى
زيد بن حارثة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول ما
أوحي إليه، يريد في الصلاة، أتاه جبريل فعلمه الوضوء.» «وجاء في الخبر أن
جبريل أتاه حين افترضت الصلاة فهمز بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت عين ماء
عذب فتوضأ جبريل ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر، فوضأ
وجهه ومضمض واستنشق ومسح برأسه وغسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين
ونضح فرجه ثم قام فركع ركعتين وأربع سجدات.
»
(1/70)
فصل والوضوء مما خص الله به أمة محمد -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبه يعرف النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمته يوم القيامة من بين سائر الأمم على ما جاء
في الحديث: «قيل يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك، قال: أرأيت
لو كانت لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله، قالوا بلى قال
فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض» وقد
روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ مرة مرة
فقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين فقال هذا
وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين؛ ثم توضأ ثلاثا ثلاثا فقال هذا وضوئي
ووضوء الأنبياء قبلي» رواه المسيب بن واضح عن عمرو بن دينار عن ابن عمر،
فقال أبو محمد أراه الأصيلي ليس هذا بثابت. والمسيب بن واضح ضعيف وليس يصح
عن ابن عمر حديث في الضوء. وهذه الأمة مخصوصة بالوضوء والله سبحانه وتعالى
أعلم.
قلت وإن صح الحديث فالمعنى فيما روى أن أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إنما خصت بالغرة والتحجيل.
فصل واختلف في تأويل الآية جملة وتفصيلا. فأما الاختلاف في تأويلها جملة
فهو ما قيل إن فيها تقديما وتأخيرا وإن تقديرها يا أيها الذين آمنوا إذا
قمتم إلى الصلاة أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم إلى المرافق
(1/71)
وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم وإن
كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا
طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. وإنما قدر هذا التقدير من ذهب إلى هذا
التأويل، وهو محمد بن مسلمة من أصحابنا؛ لأن ظاهرها أن السفر والمرض حدث
يوجب الوضوء كالمجيء من الغائط سواء، وذلك لا يصح بإجماع. وقيل إنها على
تلاوتها لا تقديم فيها ولا تأخير. واستدل من ذهب إلى ذلك بأن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتوضأ إلا على نسق الآية، فمسح
رأسه قبل غسل رجليه على ما عليه العمل. ولو كانت الآية مقدرة على غير
تلاوتها من التقديم والتأخير لوجب أن تغسل الرجلان قبل مسح الرأس لأن
التقدير بمنزلة التفسير، ولا يصح أن يكون العمل بخلاف التفسير، فيكون معنى
قَوْله تَعَالَى وإن كنتم مرضى إذا حملت الآية على تلاوتها دون أن يقدر
فيها تقديم وتأخير أي مرضى لا تقدرون على مس الماء أو على من يناولكم إياه
لأن المرض يتعذر معه مس الماء أو الوصول إليه في أغلب الأحوال. واكتفى الله
تبارك وتعالى بذكر المرضى وفهم منه المراد كما فهم من قوله عز وجل: {فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ} [البقرة: 184] أن معناه فأفطر. وكذلك قوله عز وجل: {أَوْ عَلَى
سَفَرٍ} [النساء: 43] يريد غير واجدين للماء، فاكتفى بذكر السفر وفهم منه
المراد به؛ لأن السفر يعدم فيه الماء في أغلب الأحوال. ولما كان الغالب في
الحضر وجود الماء صرح بشرط عدمه فقال أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم
النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا. وهذا أولى وأظهر عندي من حمل
الآية على التقديم والتأخير لأن التقديم والتأخير مجاز وحمل الكلام على
الحقيقة أولى من حمله على المجاز لا سيما ومن أهل العلم من نفى أن يكون في
القرآن مجاز.
فصل وعلى أن الآية على تلاوتها لا تقديم فيها ولا تأخير فيها ذهب مالك في
(1/72)
المدونة؛ لأنه قال فيها إن المريض الذي لا
يقدر على مس الماء يتيمم وإن كان واجدا له، وإن الصحيح الحاضر غير المسافر
يتيمم إذا عدم الماء على التأويل الذي ذكرناه. وهو قول مجاهد في المدونة:
للمجدور وأشباهه رخصة أن لا يتوضأ، ويتلو: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ
عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] ، قال ذلك مما يخفى من تأويل القرآن. ومن حمل
الآية على التقديم والتأخير لا يجيز التيمم للمريض مع وجود الماء وإن لم
يقدر على مسه، ولا للصحيح الحاضر وإن عدم الماء لأنه يعيد قوله: {فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] على السفر والمرض.
فصل والذي أقول به في تأويل الآية أن أو في قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] بمعنى الواو؛ لأن الآية على هذا
تبقى على ظاهرها لا يحتاج فيها إلى تقديم وتأخير، ولا يفتقر فيها إلى
إضمار، فتأتي بينة لا إشكال فيها لتبين معناها مع كونها على تلاوتها دون
تقديم ولا تأخير ولا إضمار؛ لأنه إذا قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}
[المائدة: 6] إلى قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] فقد بين أن من
جاء من المرضى والمسافرين من الغائط أو لامس النساء يتيمم إن لم يجد الماء.
وعلى هذا التأويل لا يكون أيضا المريض الواجد للماء إذا لم يقدر على مسه
ولا الحاضر العادم للماء من أهل التيمم.
فصل وأما الاختلاف في تأويل بعض وجوهها تفصيلا. فمن ذلك قَوْله تَعَالَى:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] فقيل معناه إذا قمتم
محدثين، وقيل معناه إذا قمتم من المضاجع، وهو قول زيد بن أسلم، وهو أولى من
التأويل الأول؛ لأن الأحداث
(1/73)
مذكورة في الآية، والنوم ليس بحدث وإنما هو
مسبب للحدث، فحمل الكلام على زيادة فائدة أولى من حمله على التكرار لغير
فائدة. وقيل إن الكلام على غير عمومه في الأمر بالوضوء لكل قائم إلى الصلاة
وإن الوضوء كان واجبا لكل صلاة فنسخ الله ذلك بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة تخفيفا عن عباده. وهذا على مذهب من ذهب
إلى جواز نسخ القرآن بالسنة، وقد اختلف في ذلك. وحمل الحديث على البيان
للقرآن على ما ذهب إليه زيد بن أسلم أولى من حمله على النسخ؛ لأن النسخ
إنما يكون في النصوص التي تتعارض والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد روي عن علي
بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه كان يتوضأ لكل صلاة ثم
يتلو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}
[المائدة: 6] وكل قائم الصلاة يتوضأ على مذهبه على ظاهر الآية ولم يبلغه
الحديث والله أعلم. ويحتمل أن يكون إنما كان يتوضأ لكل صلاة لما اختص به
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل بيته من إسباغ الوضوء.
روي عن «ابن عباس أنه قال ما اختصنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إلا بثلاث: إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي
الحمر على الخيل» . وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
أنه كان إذا أحدث لم يكلم أحدا حتى يتوضأ وضوءه للصلاة فنسخ الله هذا وأمر
بالطهارة عند القيام للصلاة، ثم نسخ هذا بفعله يوم فتح مكة. ومن العلماء من
قال ينبغي لكل من قام إلى الصلاة أن يتوضأ طلبا للفضل فحمل الآية على
الندب.
فصل ومعنى قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]
أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وفي الكلام دليل على هذا ومثله قول الله
عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] أي إذا أردت أن تقرأ القرآن. وليس
المراد بذلك القيام الذي هو ضد الجلوس، وإنما المعنى بذلك إذا نهضتم إليها
(1/74)
وعمدتم لها وأردتم إصلاح أمرها من قولهم هو
يقوم بأمر القوم، وفلان قائم بأمر فلان وبدولة السلطان، وقائم بشأنه وقائم
على ماله، أي بالإصلاح والتعاهد. وفي تعليق الله الأمر بالوضوء بإرادة
الصلاة بيان ظاهر أن الوضوء يراد للصلاة ويفعل من أجلها وأنه فرض من
فرائضها وشرط في قبولها وصحتها، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة امرئ أحدث حتى يتوضأ» . ودليل
واضح على افتقاره إلى النية لأن الله تعالى قد شرط في صفة فعله إرادة
الصلاة. وفعله من أجلها وإذا فعله تبردا أو تنظفا فلم يفعله على الشرط الذي
شرطه الله في فعله وذلك يوجب أن لا يجزئه. وهذا أمر متفق عليه في المذهب،
خلافا لأبي حنيفة وأصحابه في قولهم إن الغسل والوضوء يجزئ بغير نية بخلاف
التيمم، وخلافا للأوزاعي في قوله إن الغسل والوضوء والتيمم تجزئ بغير نية.
والدليل على صحة قول مالك قول الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] . وقال
تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ} [غافر: 65] والوضوء من الدين فوجب أن لا يجزئ بغير نية وقوله -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» ، والوضوء عمل
من الأعمال فوجب أن لا يجزئ بغير نية. ومن طريق القياس على من فرق في ذلك
بين الوضوء والتيمم أن الوضوء طهارة تتعدى محل موجبها فافتقرت إلى النية
كالتيمم. وإنما الكلام في المذهب هل من شرط صحة النية في الوضوء والغسل من
الجنابة أن تكون مقارنة لأول الفعل أم لا ويجزئ إذا تقدمتها بيسير. وقد
أشبعنا الكلام في هذا في كتاب ردنا على المرادي فمن أراد الوقوف على ذلك
فليتأمله هناك.
(1/75)
فصل وقَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] والوجه مأخوذ من المواجهة. وحد الوجه الذي يجب
غسله في الوضوء من منابت شعر الرأس إلى اللحى الأسفل إلى الصدغ. واختلف في
البياض الذي بين الصدغ إلى الأذن على ثلاثة أقوال: أحدها أنه من الوجه يجب
غسله. والثاني أنه ليس من الوجه فلا يجب غسله. والثالث أن الأمرد يغسله ولا
يغسله الملتحي. وقيل إن غسله سنة، ذكر ذلك عبد الوهاب. واختلف فيما طال من
شعر اللحية فقيل ليس عليه أن يغسله، وهو ظاهر ما في سماع موسى عن ابن
القاسم. وحكى سحنون في سماعه عن مالك أن اللحية من الوجه وعليه أن يمر
الماء عليها ويغسلها، فإن لم يفعل أعاد، وقال به سحنون. واختلف في تخليل
اللحية في الوضوء فروى ابن وهب وابن نافع عن مالك إيجاب تخليلها في الوضوء،
وروى أشهب عن مالك وابن القاسم عن مالك في العتبية أنها لا تخلل. وقد قيل
إن ذلك مستحب وليس بواجب. والصواب أن تخليلها ليس بواجب في الوضوء لأن
الفرض إنما هو في غسل ظواهر الأعضاء دون البواطن. فإذا كان شعر اللحية الذي
على الوجه كثيفا انتقل الفرض إلى الشعر ولم يجب عليه تخليل الشعر وإيصال
الماء إلى البشرة لأن ذلك من البواطن. وقد نص على ذلك عبد الوهاب في بعض
تواليفه.
فصل وأما غسل الأيدي والأرجل في الوضوء فقد حدهما الله تبارك وتعالى في
كتابه فقال في اليدين {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وفي الأرجل {إِلَى
الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] إلا أن أهل العلم اختلفوا في إيجاب غسل
المرافق من اليدين والكعبين من الرجلين. فظاهر ما في المدونة إيجاب غسل
ذلك. وروى ابن نافع عن مالك أنه ليس عليه أن يجاوز
(1/76)
بالغسل المرفقين والكعبين، وإنما عليه أن
يبلغ إليهما لأن إلى غاية، وهو الأظهر، إلا أن إدخالهما في الغسل أحوط
لزوال تكلف التحديد. ومن قال بإيجاب غسلهما قال إلى بمعنى مع، وذلك موجود
في اللسان، قال الله عز وجل: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران:
52] أي مع الله. وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى
أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] ، أي مع أموالكم. وقد قال المبرد: إن الحد إذا
كان من جنس المحدود دخل فيه، فتقول بعت الثوب من الطرف إلى الطرف، فالطرفان
داخلان في البيع. ويلزم من قال في آية الوضوء إن إلى بمعنى مع أن يوجب غسل
اليدين إلى المنكبين؛ لأن العرب تسمي ذلك يدا.
وأما قول الله عز وجل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فاختلف في
هذه الباء فقيل إنها للتبعيض، وقيل إنها للإلزاق وليست للتبعيض. فأما مالك
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فذهب إلى أن الواجب مسح الرأس كله، وأن من
قصر عن ذلك وجبت عليه الإعادة، كمن قصر عن غسل بعض وجهه خلافا لأبي حنيفة
والشافعي، وقال محمد بن مسلمة إن مسح ثلثيه أجزأه، وقال أبو الفرج إن مسح
ثلثه أجزأه. وقال أشهب في بعض روايات العتبية إنه لا إعادة على من مسح مقدم
رأسه. والدليل على صحة قول مالك قول الله تبارك وتعالى: {وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] كما قال في التيمم: {فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] فلما لم يجز الاقتصار في التيمم على بعض الوجه
دون بعض [كان الرأس كذلك. وكذلك الطواف بالبيت لا يجوز أن يقتصر في الطواف
على بعضه دون بعض] ، وإن كان الله يقول في كتابه: {وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] لأن الباء إنما دخلت للإلزاق لا
للتبعيض. ومن الدليل على صحته أيضا أن الاستثناء يصلح فيها لو قلت امسح
برأسك إلا ثلثه جاز، كأنك قلت
(1/77)
امسح رأسك إلا ثلثه. ولو صح أن الباء تصلح
للمعنيين وأشكل الأمر لكان فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دافعا للإشكال لأنه مسح جميع رأسه وقال هذا وضوء لا يقبل الله
صلاة إلا به. وما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مسح بعض رأسه شاذ لا يعمل به. ويحتمل أن يكون فعل ذلك لعذر أو مجددا من غير
حدث. ولا يجوز عند مالك أن يمسح رأسه على حائل إلا لعلة. وقد رويت إجازة
ذلك عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الثوري وأحمد بن
حنبل والأوزاعي وأبي ثور وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد القاسم بن سلام، وبه
قال داود بن علي للآثار الواردة في ذلك وقياسا على الخفين. والصحيح ما ذهب
إليه مالك؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}
[المائدة: 6] فمن مسح على حائل لم يمسح على رأسه. والآثار الواردة في ذلك
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مضطربة، فقد روي أنه مسح
على عمامته فأدخل يده من تحتها، وإن صح أنه مسح عليها فلعله فعل ذلك لعذر
أو لتجديد من غير حدث والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
وأما قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]
فإن الناس اختلفوا في قراءتها فقرأها قوم وأرجلكم بالنصب عطفا على اليدين،
وقرأها قوم وأرجلكم بالخفض. فأما من قرأها وأرجلكم بالنصب عطفا على اليدين
فهو الغسل لا كلام فيه؛ لأن الشيء يصح عطفه على ما يليه وعلى ما قبله، وهذا
كثير موجود في القرآن ولسان العرب، من ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى
الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وأما من قرأ وأرجلكم بالخفض ففي
قراءتها لأهل العلم أربعة أوجه. الأول أنها معطوفة على اليدين وإنما خفضت
للجوار والإتباع كما قالوا جحر ضب خرب. وقد قرئ {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا
شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35] بالخفض. والثاني أنها
(1/78)
معطوفة على مسح الرأس وأن الغسل إنما وجب
بالسنة لقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ويل للأعقاب من
النار» فتكون السنة على هذا ناسخة للقرآن. والثالث أن المراد بذلك المسح
على الخفين. والرابع أن الغسل يسمى مسحا عند العرب لأنها تقول تمسحنا
للصلاة أي اغتسلنا، فبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
مراد الله تعالى بقوله فامسحوا برؤوسكم إمرار اليد على الرأس دون نقل الماء
إليه وأن مراده بأمره بمسح الرجلين إمرار اليد عليهما مع نقل الماء إليهما.
وذهبت طائفة من الشيعة إلى إجازة مسح الرجلين في الوضوء، وروي ذلك عن بعض
الصحابة وبعض التابعين، وتعلق به بعض المتأخرين، وهو شذوذ لا يعد به
الخلاف، لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان يغسل رجليه في وضوئه مرتين أو ثلاثا، وأنه قال «ويل للأعقاب من النار
ويل للعراقيب من النار» والوعيد لا يكون إلا في ترك الواجب.
فصل وقوله في الآية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] اختلف في
الملامسة التي عناها الله تعالى ما هي، فمذهب مالك ما قدمناه أنها ما دون
الجماع وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنها كناية عن الجماع. ومن
ذهب إلى ذلك لم يوجب الوضوء في القبلة ولا في المباشرة ولا في اللمس إذا
سلم في ذلك من المذي.
فصل وفي قوله عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] دليل على أن
الوضوء لا يجوز إلا بالماء وقد اختلف أهل العلم في حد الماء الذي يجوز به
الوضوء فحده عند مالك الماء المطلق الذي لم يتغير أحد أوصافه بشيء طاهر أو
نجس حل فيه. وحده عند أبي حنيفة ومن أجاز الوضوء بالنبيذ الماء الذي لم
تحله نجاسة؛ لأن ما حلته
(1/79)
نجاسة فهو عنده نجس وإن لم يتغير بها شيء
من أوصافه إلا أن يكون الماء الكثير المستبحر الذي لا يقدر آدمي أن يحرك
طرفيه. وحده عند الشافعي فيما دون القلتين ما لم تحله نجاسة، وفيما فوقهما
ما لم يتغير أحد أوصافه من شيء طاهر أو نجس حل فيه.
[فصل في تبيين فرائض الوضوء من سننه ومستحباته]
فصل
في تبيين فرائض الوضوء من سننه ومستحباته
وقد ذكرنا فيما تقدم أن الوضوء الشرعي يشتمل على فرائض وسنن واستحبابات.
ففرائض الوضوء ثمانية، منها أربعة متفق عليها عند أهل العلم وهي التي نص
الله تبارك وتعالى عليها: غسل الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين.
واثنان متفق عليهما في المذهب وهما: النية، والماء المطلق الذي لم يتغير
أحد أوصافه بشيء طاهر حل فيه أو نجس. واثنان مختلف فيهما في المذهب، وهما
الفور، والترتيب. فأما الفور ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه فرض على الإطلاق،
وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. والثاني أنه سنة على الإطلاق وهو المشهور
في المذهب. والثالث أنه فرض فيما يغسل وسنة فيما يمسح وهو قول مطرف وابن
الماجشون عن مالك وهو أضعف الأقوال. فعلى القول بأنه فرض تجب إعادة الوضوء
والصلاة على من فرقه ناسيا أو متعمدا، وعلى القول بأنه سنة إن فرقه ناسيا
فلا شيء عليه، وإن فرقه عامدا ففي ذلك قولان: أحدهما أنه لا شيء عليه وهو
قول محمد بن عبد الحكم. والثاني أنه يعيد الوضوء والصلاة لترك سنة من سننها
عامدا لأنه كالمتلاعب المتهاون، وهذا مذهب ابن القاسم. ومن أصحابنا من يعبر
على مذهبه هذا في الفور أنه فرض بالذكر يسقط بالنسيان كالكلام في الصلاة.
فعلى التأويل الأول من أهريق ماؤه في أثناء الوضوء وابتدأ وضوءه بماء
(1/80)
يغلب على ظنه أنه يكفيه فعجزه أنه لا يضره
القيام لأخذ الماء وإن بعد، وعلى التأويل الثاني إن بعد عنه الماء في
الوجهين ابتدأ الوضوء لأنه ذاكر.
فصل وأما الترتيب فالمشهور في المذهب أنه سنة، وهو المعلوم من مذهب ابن
القاسم وروايته عن مالك. وروى علي بن زياد عن مالك أن من نكس وضوءه أعاد
الوضوء والصلاة فجعله فرضا. وإلى هذا ذهب أبو المصعب وحكاه عن أهل المدينة،
ومعلوم أن مالكا منهم وإمام فيهم.
فصل فإذا قلنا إنه سنة فإن كان بحضرة الوضوء أخر ما قدم ثم غسل ما بعده
ناسيا كان أو عامدا، وإن كان قد تباعد وجف وضوؤه وكان متعمدا ففي ذلك ثلاثة
أقوال: أحدها أنه يعيد الوضوء والصلاة. والثاني أنه يعيد الوضوء ولا يعيد
الصلاة قاله ابن حبيب. والثالث أنه لا إعادة عليه لا للصلاة ولا للوضوء وهو
قوله في المدونة لا أدري ما وجوبه. وإن كان ناسيا فقال ابن حبيب يؤخر ما
قدم ويغسل ما بعده. وفي قوله نظر لأنه إذا فعل ذلك ولم يعد الوضوء من أوله
فقد حصل وضوؤه مفرقا، ومن قوله إن من فرق وضوءه ناسيا أو متعمدا أعاد
الوضوء والصلاة في الوقت وبعده. وقال ابن القاسم: يؤخر ما قدم ولا يغسل ما
بعده، وهو بعيد؛ لأنه لا يخلص بذلك من التنكيس. والذي يأتي على أصله في
تفرقة الوضوء ناسيا أن لا شيء عليه في تنكيسه إذا فرق وضوءه. ووجه قوله إن
ما قدم فوضعه في غير موضعه بمنزلة ما نسيه فذكره وقد تباعد أنه يفعله وحده
ولا يعيد ما بعده. وإذا جعل ما قدم كان تركه فيلزمه على هذا إذا نكس وضوءه
إعادة الوضوء والصلاة خلاف ما في المدونة. وهذا في ترتيب المفروض مع
المفروض. وأما في ترتيب المفروض مع المسنون فظاهر ما في الموطأ أن الترتيب
بين المفروض والمسنون مستحب لأنه قال فيمن
(1/81)
غسل وجهه قبل أن يمضمض إنه يمضمض ولا يعيد
غسل وجهه، وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب هو سنة إلا أنه جعله أخف من ترتيب
المفروض مع المفروض، فقال مرة يعيد الوضوء إذا نكس متعمدا كالمفروض مع
المفروض، وله في موضع آخر ما يدل على أنه لا شيء عليه [إذا فارق وضوءه،
وقال إن نكسه ساهيا إنه لا شيء عليه] ، قال فضل: معناه إذا فارق وضوءه،
وأما إذا لم يفارق وضوءه فإنه يؤخر ما قدم ويغسل ما بعده على أصله. فمن نسي
شيئا من مسنون الوضوء فذكره بحضرة وضوئه فإنه يفعل ما نسي وما بعده. ويحتمل
أن يكون ذلك اختلافا من قوله فيكون أحد قوليه مثل ما في الموطأ.
فصل وأما سنن الوضوء فاثنتا عشرة، منها أربع متفق عليها في المذهب، وهي
المضمضة، والاستنشاق، والاستنثار، ومسح الأذنين مع تجديد الماء لهما.
والمنصوص لمالك أنهما من الرأس وإنما السنة في تجديد الماء لهما. وقد قيل
في غير المذهب إنهما من الرأس يمسحان معه ولا يجدد لهما ماء. وقيل إنهما من
الوجه يغسلان معه. وقيل إن باطنهما من الوجه وظاهرهما من الرأس. والصواب ما
ذهب إليه مالك يشهد بصحته الحديث: «إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت
الخطايا من فيه إلى قوله فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من
أذنيه» .
وثمان قيل فيها إنها سنة، وقيل إنها استحباب وهي غسل اليدين قبل إدخالهما
في الإناء إذا أيقن بطهارتهما، وما زاد على الواحدة بعد العموم، والابتداء
(1/82)
باليمين قبل الشمال، والابتداء بمقدم
الرأس، ورد اليدين في مسحه، وغسل البياض الذي بين العارض والأذن على ما قال
عبد الوهاب، واستيعاب مسح الأذنين، وترتيب المفروض مع المسنون.
وأما استحباباته فثمان، وهي التسمية، وجعل الإناء على اليمين، وأن لا يتوضأ
في الخلاء، وتخليل أصابع اليدين، وتخليل أصابع الرجلين، وتخليل اللحية، وقد
قيل إن ذلك واجب في الوضوء عن مالك وليس بصحيح، والسواك عند الوضوء، ويجزئ
الأصبع منه إذا لم يجد سواكا قاله مالك، وذكر الله على الوضوء مستحب،
وبالله التوفيق.
(1/83)
[القول في
توقيت الوضوء]
هذا الباب يشتمل على سبع مسائل: إحداها أن الأعداد في الوضوء غير واجبة وأن
الواجب الإسباغ، أسبغ في مرة واحدة أو مرات. والثانية أن تكرار الغسل ثلاثا
مستحب فيه إن أسبغ فيما دونها. والثالثة أن ما فوق الثلاث مكروه إن أسبغ
بها أو بما دونها. والرابعة أن الثلاث أفضل من الاثنتين وأنه مخير بين
الاثنتين والثلاث. والخامسة أن الاقتصار على الواحدة مكروه، واختلف في وجه
الكراهية في ذلك فقيل إنما كره لتركه الفضيلة جملة، وقيل إنما كره ذلك
مخافة أن لا يعم فيها، وهو دليل ما روي عن مالك أنه قال لا أحب الواحدة إلا
للعالم بالوضوء. والسادسة أن استحباب التكرار مقصور على المغسول دون
الممسوح. والسابعة أن التكرار إنما يكون باستئناف أخذ الماء؛ ولذلك لا يقال
في رد اليدين على الرأس في مسحه إنه تكرار لمسحه. وقوله اختلفت الآثار في
التوقيت يريد في الأعداد. وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا، ومرتين في بعض
الأعضاء وثلاثا في بعضها. وليس الاختلاف في هذا اختلاف تعارض، وإنما هو
اختلاف تخيير وإعلام بالتوسعة، وبالله التوفيق.
(1/84)
[القول في
المياه]
الأصل في هذا الباب قول الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
طَهُورًا} [الفرقان: 48] ، وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ} [الأنفال: 11] ، وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] ، «وقول النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من الأقذار
والنجاسات: خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شي إلا ما غير لونه أو طعمه أو
رائحته» يريد إلا ما غير أحد أوصافه على ما بين في الحديث المتقدم.
فصل فالأصل في المياه كلها الطهارة والتطهير، ماء السماء وماء البحر وماء
الأنهار
(1/85)
وماء العيون وماء الآبار، عذبة كانت أو
مالحة، كانت على أصل مياعتها أو ذابت بعد جمودها، إلا أن تكون مالحة فتذوب
في غير موضعها بعد أن صارت ملحا فانتقلت عنه فإن لأصحابنا المتأخرين في ذلك
ثلاثة أقوال: أحدها أنها على الأصل لا يؤثر فيها جمودها. والثاني أن حكمها
حكم الطعام فلا يتطهر بها وينضاف بها ما غيرت من سائر المياه. والثالث أن
جمودها إن كان بعناية وعمل وصنعة كان له تأثير فلا يتطهر بها وإن لم يكن
بعناية وعمل لم يكن له تأثير.
فصل وهي تنقسم على ثلاثة أقسام: ماء طاهر مطهر، وماء لا طاهر ولا مطهر،
وماء طاهر لا مطهر. فأما الماء الطاهر المطهر فهو الماء المطلق، وصفته أنه
لم يتغير أحد أوصافه بما ينفك عنه. وإنما سمي مطلقا لأنه إذا أطلق عليه
مجرد الاسم وهو ماء كان كافيا في الإخبار عنه على ما هو عليه. والماء
الطاهر غير المطهر هو الماء الذي تغيرت أحد أوصافه بما ينفك عنه من
الطاهرات. ومعنى قولنا فيه إنه طاهر أنه غير نجس فلا يجب غسله من ثوب ولا
بدن. ومعنى قولنا فيه غير مطهر أنه لا يرفع الحدث ولا حكم النجاسة وإن أزال
عينها. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يرفع الحدث على أصله في إجازة الوضوء
بالنبيذ، ويرفع حكم النجاسة إذا أزال عينها على أصل مذهبه أن كل ما أزال
العين رفع الحكم. وأما الماء الذي ليس بطاهر ولا مطهر فهو الماء الذي تغيرت
أحد أوصافه بنجاسة حلت فيه، وإن لم يتغير أحد أوصافه بما حل فيه من النجاسة
فلا يؤثر ذلك في حكمه كان الماء قليلا أو كثيرا على أصل مذهب مالك، وهي
رواية المدنيين عنه. وروى المصريون عنه أن ذلك يؤثر فيه إذا كان قليلا،
وقاله كثير من أصحابه. فأما ابن القاسم فأطلق القول فيه، بأنه نجس على طريق
التوسع في العبارة والتحرز من المتشابه لا على طريق الحقيقة. يدل على ذلك
من مذهبه أنه لم يأمر من توضأ به بإعادة الصلاة أبدا كما يأمر من توضأ
بالمتغير. ومن أصحابنا من عبر عنه بأنه مشكوك فيه، وهي عبارة
(1/86)
غير مرضية؛ لأن الشك في الحكم ليس بمذهب
فيه، وإنما يكون الماء مشكوكا فيه إذا شك في تغيير أحد أوصافه بنجاسة حلت
فيه أو في حلول النجاسة فيه على مذهب من يرى أن حلول النجاسة في الماء
تنجسه وإن لم تغير له وصفا. وأما إذا أوقن أن أوصافه لم يتغير منها شيء بما
حل فيه من النجاسة فهو طاهر في قول ونجس في قول.
فصل وقد اختلف أصحاب مالك الذين التقوه ولم يحققوا القول فيه بأنه نجس في
الحكم فيه؛ فقال ابن القاسم يتيمم ويتركه، فإن لم يفعل وتوضأ به أعاد في
الوقت ولم يفرق بين أن يكون جاهلا أو متعمدا أو ناسيا. وقال ابن حبيب في
الواضحة: إن كان جاهلا أو متعمدا أعاد في الوقت وبعده. وقال ابن الماجشون:
يتوضأ ويتيمم ويصلي. وقال سحنون: يتيمم ويصلي ويتوضأ ويصلي.
فصل وحد هذا الماء الذي يتقى لحلول النجاسة فيه هو أن يكون قدر ما يتوضأ به
فتقع فيه القطرة من البول أو الخمر، أو يكون قدر القصرية فيتطهر فيها الجنب
ولا يغسل ما به من الأذى، فقس على هذا. وكذلك إذا كان الماء قدر ما يتوضأ
به فرأى الهر أو الكلب أو شيئا من السباع يلغ فيه وفي فيه نجاسة، أو شيئا
من الطير التي تأكل الجيف والنجاسات وفي مناقرها نجاسة. فإن لم تر في
أفواهها ولا في مناقرها نجاسة في وقت شربها ففي ذلك تفصيل: أما الهر فهو
عند مالك وأصحابه محمول على الطهارة للحديث الوارد فيه من الطوافين
والطوافات عليكم. وأما السباع والدجاج المخلاة فهي في مذهب ابن القاسم في
روايته عن مالك محمولة
(1/87)
على النجاسة وتفسد ما ولغت فيه فلا يتوضأ
بالماء ولا يؤكل الطعام إلا أن يكون الماء كثيرا لقول عمر بن الخطاب لا
تخبرنا يا صاحب الحوض فإنا نرد على السباع وترد علينا. غير أن ابن القاسم
قال في الطعام إنه لا يطرح إلا بيقين لحرمتها وهو استحسان على غير قياس؛
لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما أعلم بطهارة سؤر الهرة
وبين أن العلة في ذلك طوافها علينا ومخالطتها لنا وجب باعتبار هذه العلة أن
يكون ما عداها من السباع التي لا تخالطنا في بيوتنا محمولة على النجاسة،
فلا يتوضأ بسؤرها ولا يؤكل بقيتها من الطعام وإن لم يوقن بنجاسة أفواهها في
حين ولوغها. وقال علي بن زياد: الطعام والماء سواء إن رئي في مناقرها أذى
طرح وإلا لم يطرح. وهو قول ابن وهب وأشهب إنها محمولة على الطهارة في الماء
والطعام، فلا يطرح شيء من ذلك إذا ولغت فيه إلا أن يوقن بنجاسة أفواهها
تعلقا بظاهر ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شرابا وطهورا» . وتعلقا أيضا
بظاهر قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لصاحب الحوض لا تخبرنا
فإنا نرد على السباع وترد علينا لما سأله عمرو بن العاص هل ترد حوضك
السباع؟ وهذا لا حجة فيه؛ لأن الحياض ماؤها كثير فهي تحمل هذا القدر من
النجاسة.
وأما الكلب فاختلف فيه اختلافا كثيرا من أجل الحديث الوارد بغسل الإناء من
ولوغه فيه سبع مرات، فروى ابن وهب عن مالك أنه يغسل الإناء من ولوغه فيه
سبع مرات كان طعاما أو ماء. فظاهر الرواية أن الطعام يطرح فحمله على
النجاسة وجعله أشد من السباع. وجعله ابن القاسم أخف من السباع لأنه حمله
فيها على الطهارة في الماء واللبن جميعا فقال إنه يؤكل الطعام ولا يتوضأ
بالماء إلا من ضرورة، ويغسل الإناء سبع مرات في الماء خاصة تعبدا. وقال ابن
الماجشون عن
(1/88)
مالك إنه يغسل سبعا من الماء واللبن جميعا،
ويؤكل اللبن ويطرح الماء إلا أن يحتاج إليه، فإذا احتاج إليه توضأ به ولم
يتيمم على مذهبه ومذهب ابن القاسم في المدونة، ثم لا إعادة عليه وإن وجد
ماء غيره في الوقت. وقد روى أبو زيد عن ابن الماجشون أنه مشكوك فيه يتوضأ
به ويتيمم ويصلي، على مذهبه في الماء المشكوك فيه. فإن توضأ به ولم يتيمم
أعاد في الوقت كما لو رأى في فيه نجاسة حين ولوغه فحمله على النجاسة كسائر
السباع. قال وإن عجن بذلك الماء خبزا أو طبخ طعاما لم يأكله كان بدويا أو
حضريا. وأما إن شرب من إناء فيه لبن فإنه يأكل اللبن ويشربه إن كان بدويا
كان له زرع أو ماشية أو لم يكن، ثم يغسل الإناء سبع مرات للحديث، ويطرحه إن
لم يكن بدويا. وقال أصبغ: أهل البادية وأهل الحاضرة في ذلك سواء، والماء
واللبن سواء، يؤكل اللبن وينتفع بالماء إن احتيج إليه، ولا بأس بما صرف فيه
من خبز وطبخ. وقال مطرف إن كان اللبن كثيرا أكله وإن كان يسيرا طرحه
والبدوي والحضري في ذلك سواء. واختلف قول مالك في الحديث الوارد في الكلب،
فمرة حمله على عمومه في جميع الكلاب، ومرة رآه في الكلب الذي لم يؤذن في
اتخاذه. وتفرقة ابن الماجشون بين البدوي والحضري قول ثالث.
فيتحصل في سؤر الكلب أربعة أقوال: أحدها أنه طاهر، وهو الذي يأتي على قول
ابن وهب وأشهب وعلي بن زياد أن السباع محمولة على الطهارة؛ لأن الكلب سبع
من السباع، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك فيها على ما
حكى عنه من أن الكلب ليس كغيره من السباع. والثاني أنه نجس كغيره من
السباع، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه لما جاء عن النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من الأمر بغسل الإناء سبعا من ولوغه فيه.
والثالث الفرق بين الكلب المأذون في اتخاذه وغير المأذون في اتخاذه وهو
أظهر الأقوال؛ لأن علة الطهارة التي نص النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - عليها في الهرة موجودة في الكلب المأذون في اتخاذه بخلاف
الذي لم يؤذن في اتخاذه. والرابع الفرق بين البدوي والحضري،
(1/89)
وهو قول ابن الماجشون في رواية أبي زيد
عنه. فمن رأى سؤر الكلب طاهرا قال أمر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - بغسل الإناء سبعا من ولوغه فيه تعبد لا لعلة، ومن رآه نجسا
قال ما يقع به الإنقاء من الغسلات واجب للنجاسة وبقية السبع غسلات عبادة لا
لعلة، [ومن رآه نجسا قال ما يقع به الإنقاء من الغسلات واجب للنجاسة، وبقية
السبع غسلات تعبد لا لعلة] ، كالأمر في الاستنجاء بثلاثة أحجار الواجب منها
ما يقع به الإنقاء وبقية الثلاث تعبد. واختلف متى يغسل الإناء سبعا من ولوغ
الكلاب، فقيل بفور ولوغه، وقيل عند إرادة استعماله. وإذا كان غسله تعبدا
فلا معنى لتأخير العبادة، وإنما يجب غسله عند إرادة استعماله على القول
بأنه يغسل لنجاسة لا لعبادة. قلت: والذي أقول به في معنى أمر النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب فيه،
والله أعلم وأحكم، إنه أمر ندب وإرشاد مخافة أن يكون الكلب كلبا يدخل على
آكل سؤره أو مستعمل الإناء قبل غسله منه ضرر في جسمه، والنبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عما يضر بالناس في دينهم ودنياهم، فقد
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة»
حتى ذكرت أن الروم وفارسا يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم شيئا. لا لنجاسة إذ
هو محمول على الطهارة بالأدلة المذكورة. وإذ لا توقيت في عدد الغسل من
النجاسة فإذا ولغ الكلب المأذون في اتخاذه في إناء فيه ماء أو طعام لم ينجس
الماء ولا الطعام على هذا التأويل، ووجب أن يتوقى من شربه أو أكله أو
استعمال الإناء قبل غسله مخافة أن يكون الكلب كلبا فيكون قد داخل ذلك من
لعابه ما يشبه السم المضر بالأبدان على ما أرشد النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه بما أمر به من غسل الإناء الذي ولغ فيه سبعا
إشفاقا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(1/90)
على أمته، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما. ويدل على هذا التأويل تحديده -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغسل الإناء سبعا لأن السبع من العدد
مستحب فيما كان طريقه التداوي لا سيما فيما يتقي منه السم. فقد قال -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه: «هريقوا علي من سبع قرب لم
تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر» .
فصل فعلى هذا التأويل لا ينبغي شرب الماء الذي ولغ فيه الكلب لما أرشد
النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إليه مما يتقي منه ولا ينفع
غسل الإناء به ويجوز الوضوء به وجد غيره أو لم يجد. وعلى القول بأنه يغسل
سبعا للنجاسة لا يجوز شربه ولا غسل الإناء به لأنه نجس. ويختلف في الوضوء
به إذا لم يجد سواه على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يتوضأ به ولا يتيمم وهو
مذهب ابن القاسم. والثاني أنه يتوضأ به ويتيمم ويصلي وهو مذهب ابن
الماجشون. والثالث أنه يتيمم ويصلي ثم يتوضأ به ويصلي وهو قول سحنون. وعلى
القول بأنه يغسل سبعا تعبدا لا لنجاسة يجوز شربه ولا ينبغي الوضوء به إذا
وجد غيره مراعاة للخلاف في النجاسة. وكذلك لا ينبغي أن يغسل الإناء به إذا
وجد غيره مراعاة للخلاف. وأما إن لم يجده غيره فقيل إنه يغسل الإناء به كما
يتوضأ به. والأظهر أنه لا يغسل الإناء به وإن كان يتوضأ به؛ لأن المفهوم من
أمر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بغسل الإناء من ولوغ الكلب
فيه أن يغسل بغير ذلك الماء ويجوز على قياس هذا أن يغسل بماء غيره قد ولغ
فيه كلب.
فصل
وقد اختلف في معنى ما وقع في المدونة من قول ابن القاسم: وكان
(1/91)
يضعفه، فقيل إنه أراد بذلك أنه كان يضعف
الحديث لأنه حديث آحاد وظاهر القرآن يعارضه وما ثبت أيضا في السنة من تعليل
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طهارة الهرة بالطواف علينا
والمخالطة لنا. وقيل بل أراد بذلك أنه كان يضعف [وجوب الغسل، وقيل بل أراد
بذلك أنه كان يضعف] العدد. فالتأويل الأول ظاهر في اللفظ بعيد في المعنى،
إذ ليس في الأمر بغسل الإناء سبعا ما يقتضي نجاسته فيعارضه ظاهر القرآن وما
علل به النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طهارة الهر. والتأويل
الثاني بعيد في اللفظ ظاهر في المعنى؛ لأن الأمر محتمل للوجوب والندب، فإذا
صح الحديث وحمل على الندب والتعبد لغير علة لم يكن معارضا لظاهر القرآن ولا
لما علل به النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طهارة الهرة. وأما
التأويل الثالث فهو بعيد في اللفظ والمعنى، إذ لا يصح تضعيف العدد مع ثبوت
الحديث لأنه نص فيه على السبع، ولا يجوز أن يصح الحديث ويضعف ما نص فيه
عليه، وبالله التوفيق.
فصل
واختلف قول مالك في غسل الإناء من ولوغ الخنزير فيه، فعنه فيه روايتان:
إحداهما أنه لا يغسل، والثانية أنه يغسل سبعا قياسا على الكلب، وهي رواية
مطرف عنه، حكى الروايتين عنه ابن القصار.
فصل
وإذا قاس الخنزير على الكلب فيلزمه ذلك في سائر السباع لوجود العلة فيها
وهي أنها أكثر أكلا للأنجاس من الكلب. وأيضا فإن الكلب اسم للجنس يدخل تحته
جميع السباع لأنها كلاب. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال في عتبة بن أبي لهب اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فعدا
عليه الأسد فقتله» .
(1/92)
فصل وموت الدابة في الماء الدائم على مذهب
ابن القاسم ورواية المصريين عن مالك بخلاف حلول النجاسة فيه؛ لأن النجاسة
تنماع في الماء ويخشى أن يخرج من الدابة عند موتها شيء لا ينماع في الماء
ويبقى على وجهه، فإن كان الماء غير معين مثل القصرية أو الجب طرح ولم يتوضأ
منه مخافة أن يكون ذلك الشيء النجس قد حصل فيما يتوضأ به، وإن كان بئرا نزف
منها قدر ما تطيب النفس به إلا أن يتغير الماء فلا بد أن ينزف منها حتى
يزول التغير.
فصل
وهذا في الدواب التي لها دم سائل. وأما الخشاش مثل التي ليس لها دم سائل
ودواب الماء مثل السرطان والضفدع فلا يفسد الماء موته فيه. فإن تقطعت أجزاء
الخشاش في الماء جرى ذلك على الاختلاف في جواز أكلها بغير ذكاة.
(1/93)
[القول في
استقبال القبلة لبول أو غائط]
ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة
أنه «نهى أن تستقبل القبلة ببول أو غائط» . وروي «عن ابن عمر أنه قال لقد
ارتقيت على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته.» وفي غير رواية مالك
«مستقبل بيت المقدس مستدبر القبلة» ، وهو مفسر لما وقع في رواية مالك. وروي
«عن عائشة أنها قالت: ذكر عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أن قوما يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة فقال أوقد فعلوا استقبلوا
بمقعدي القبلة» . وروي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من
رواية جابر بن عبد الله «أنه نهى عن استقبال القبلة واستدبارها لبول أو
غائط، ثم قال رأيته بعد ذلك مستقبل القبلة ببوله قبل موته بعام» . واختلف
أهل العلم في تخريج هذه الأحاديث واستعمالها، فمنهم من أخذ بالحديث الأول
وحمله على عمومه في القرى والمدائن والفيافي والقفار. ومنهم من جعل حديث
جابر ناسخا له فأجاز استقبال القبلة للبول والغائط وهم أهل الظاهر. وأما
مالك فاستعمل الحديثين الحديث الأول وحديث ابن عمر، وجعل حديث ابن عمر
مخصصا للحديث الأول وقال إنما عنى بذلك الصحارى والفيافي ولم يعن بذلك
القرى والمدائن. هذا قوله في المدونة. فعلى قوله فيها يجوز
(1/94)
استقبال القبلة واستدبارها في القرى
والمدائن من غير ضرورة إلى ذلك. والدليل على ذلك أنه أجاز مجامعة الرجل
امرأته إلى القبلة ولا مشقة عليه في التحول عنها في ذلك. ويؤيد هذا المذهب
حديث عائشة «استقبلوا بمقعدي القبلة» . فالمعنى على هذا في النهي من أجل أن
لله عبادا يصلون له، فإذا استتر في القرى والمدائن بالأبنية ارتفعت العلة.
وكذلك على هذا لو استتر في الصحراء بشيء لجاز أن يستقبل القبلة لحاجته، وقد
فعل هذا عبد الله بن عمر. روى مروان الأصفر عنه أنه أناخ راحلته مستقبل بيت
المقدس ثم جلس يبول إليها، فقلت يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟
فقال إنما نهي عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا
بأس به.
ولمالك في المجموعة أنه لا يستقبل القبلة لبول أو غائط في القرى والمدائن
إلا في الكنف المتخذة لذلك للمشقة الداخلة عليه في التحول عنها. فالمعنى
عنده على هذه الرواية في النهي إعظام القبلة، فلا يجوز له أن يجامع امرأته
مستقبل القبلة على هذه الرواية إذ لا ضرورة إلى ذلك. ويحمل حديث ابن عمر أن
اللبنتين كانتا مبنيتين ولم يصح عنده حديث عائشة أو لم يبلغه والله أعلم.
وذكر أبو إسحاق التونسي أنه قد تؤول على ما في المدونة أنه أجاز مجامعة
الرجل امرأته في الصحراء إلى القبلة، وهو بعيد والله أعلم.
[فصل في القول في الملامسة]
المعنى في الملامسة الطلب. قال الله عز وجل: {وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8]
أي طلبنا السماء وأردناها فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا أي حفظة
يحفظونها. «وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرجل
سأله أن يزوجه المرأة التي وهبت نفسها للنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: "هل معك شيء تصدقها قال ما عندي إلا إزاري هذا. قال فإن
أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك
(1/95)
فالتمس شيئا أي اطلب قال ما أجد شيئا قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التمس ولو خاتما من حديد
فالتمس فلم يجد شيئا» ".
فصل فلا يقال لمن مس شيئا قد لمسه إلا أن يكون مسه ابتغاء معنى يطلبه من
حرارة أو برودة أو صلابة أو رخاوة أو علم حقيقة. قال الله عز وجل: {وَلَوْ
نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ
لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام: 7]
ألا ترى أنه يقال تماس الحجران ولا يقال تلامس الحجران لما كانت الإرادة
والطلب مستحيلة عليهما.
فصل فلما كان المعنى المقصود من مس النساء الالتذاذ بهن علم أن معنى قول
الله عز وجل: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] هو اللمس الذي
يبتغى به اللذة دون ما سواه من المعاني.
فصل وقد اختلف في قول الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:
43] فقيل المراد بذلك الجماع، روي ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ -، وهو قول عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا -. روي أن عبيد بن عمير وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح اختلفوا
في الملامسة، فقال سعيد وعطاء هو اللمس والغمز، وقال عبيد بن عمير هو
النكاح، فخرج عليهم ابن عباس وهم كذلك فسألوه وأخبروه بما قالوا فقال أخطأ
الموليان وأصاب العربي، هو الجماع ولكن الله يعف ويكفي وهو
(1/96)
محفوظ عن ابن عباس من وجوه كثيرة. روي عنه
أنه قال ما أبالي قبلت امرأتي أو شممت ريحانة. وإلى هذا ذهب أهل العراق
وحجتهم ما روي «عن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كان يقبلها ثم يخرج إلى الصلاة فلا يتوضأ» . وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ
لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] قالوا فالملامسة مفاعلة من اثنين فلا
يكون إلا الجماع. وقيل إن المراد به ما دون الجماع من القبلة والمباشرة
واللمس، وهو قول عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود. وتأول إسماعيل القاضي
مثله على عمر بن الخطاب في قوله إن الجنب لا يتيمم، وقال به جماعة من
التابعين، وإليه ذهب مالك وأصحابه. والدليل على ذلك أن الله عز وجل قد ذكر
في أول الآية {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فلو
كان معنى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] الجماع لكان مكررا
لغير فائدة ولا معنى. ودليل آخر وهو أن لفظ الملامسة حقيقة في اللمس باليد
ومجاز في الوطء، وحمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز. ودليل
ثالث وهو أن الملامسة واقعة على التقاء البشرتين، فإذا كانت كذلك لم يخل
اللمس باليد من أن يكون أولى بإطلاق هذا الاسم عليه من الجماع فيقتصر عليه،
أو أن يكون هو وغيره من أنواعها سواء فيجب حمل الظاهر على عمومه في كل ما
يقع عليه الاسم، ولأن الآية قد قرئت أو لمستم النساء، ولا خلاف أن ذلك لغير
اللمس باليد فصح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فصل فإذا ثبت أن الملامسة ما دون الجماع من القبلة والمباشرة واللمس باليد
فلا يخلو ذلك من أربعة أوجه: أحدها أن يقصد بهذه الأشياء إلى الالتذاذ
فيلتذ، والثاني أن لا يقصد بها إلى الالتذاذ ولا يلتذ، والثالث أن يقصد بها
إلى الالتذاذ فلا يلتذ، والرابع أن لا يقصد بها إلى الالتذاذ فيلتذ.
فصل فأما الوجه الأول وهو أن يقصد بها إلى الالتذاذ فيلتذ فلا خلاف عندنا
في إيجاب الوضوء لوجود الملامسة التي سماها الله ووجود معناها وهو
الالتذاذ.
(1/97)
وأما الوجه الثاني: وهو أن لا يقصد بها إلى
الالتذاذ ولا يلتذ فتفترق فيه القبلة من المباشرة واللمس. فأما المباشرة
واللمس فلا يجب عليه فيهما وضوء إذا لم يلامس اللمس الذي عناه الله تعالى
بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] ولا وجد معناه. وأما
القبلة فاختلف فيها على قولين: أحدهما إيجاب الوضوء منها وهي رواية أشهب عن
مالك وقول أصبغ ودليل المدونة. وعلة ذلك أن القبلة لا تنفك من اللذة إلا أن
تكون صبية صغيرة فيقبلها على سبيل الرحمة أو ذات محرم فيقبلها على سبيل
الوداع أو ما أشبه ذلك. والثاني أن لا وضوء منها كالملامسة والمباشرة وهو
قول مطرف وابن الماجشون وغيرهما.
وأما الوجه الثالث وهو أن يقصد بها إلى اللذة فلا يلتذ ففي ذلك اختلاف. روى
عيسى عن ابن القاسم أن عليه الوضوء، وهو ظاهر ما في المدونة. والعلة في ذلك
وقوع الملامسة التي عناها الله تعالى بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}
[النساء: 43] وهي الملامسة ابتغاء اللذة على ما بيناه. فإذا ابتغاها بلمسه
وجب عليه الوضوء وجدها أو لم يجدها على ظاهر القرآن إذ لم يشترط في
الملامسة وجود لذة. واعتل في الرواية بأنه قد وجدها بقلبه حيت وضع يده على
امرأته وليس ذلك بعلة صحيحة؛ لأن اللذة إذا لم تكن كائنة عن اللمس وموجودة
به فلا معنى للاعتبار بها. وروى أشهب عن مالك أنه لا وضوء عليه. ووجه ذلك
أن المعنى في إيجاب الملامسة الوضوء اقتران اللذة بها فإن عدمت لم يجب
الوضوء، وهذا الاختلاف فيما عدا القبلة. وأما القبلة فإنها توجب الوضوء إذا
قصد بها اللذة وإن لم يلتذ لا أعرف في المذهب نصا خلاف ذلك، ولا يبعد دخول
الاختلاف فيه بالمعني.
وأما الوجه الرابع وهو أن لا يقصد بها إلى اللذة فيلتذ فهذا لا اختلاف فيه
في المذهب إنه يوجب الوضوء لأنه وجد معنى الملامسة، والأحكام إنما هي
للمعاني.
فصل وسواء على مذهب مالك كانت الملامسة على ثوب أو على غير ثوب إلا أن
(1/98)
يكون الثوب كثيفا، روى ذلك علي بن زياد عن
مالك، وهو مفسر لجميع الروايات عندي..
فصل وهذا التفصيل كله في اللامس. وأما الملموس فإن التذ وجب عليه الوضوء،
وإن لم يلتذ فلا وضوء عليه. هذا تحصيل مذهب مالك. والشافعي يوجب الوضوء على
اللامس إذا لمس على غير حائل قصد بلمسه اللذة أو لم يقصدها وجدها أو لم
يجدها، وله في الملموس قولان أحدهما كقول مالك، والثاني أنه لا وضوء عليه.
وحجته في ذلك «حديث عائشة فقدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فالتمسته فوقعت يدي على باطن قدميه وهو يصلي» .
(1/99)
[القول في
الوضوء من مس الذكر]
ومما يتعلق بالملامسة وهو من معناها مس الذكر. اختلفت الآثار عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إيجاب الوضوء من مس الذكر، فروى
عنه الأمر بالوضوء من مس الذكر جماعة منهم أبو هريرة وسعد بن أبي وقاص وزيد
بن خالد الجهني وأبو أيوب الأنصاري وابن عمر وجابر وبسرة وأم حبيبة، وروي
بألفاظ مختلفة ومعان متفقة في بعضها: «من مس ذكره فليتوضأ» «ومن مس فرجه
فليتوضأ» «ومن مس فرجه فلا يصلين حتى يتوضأ وضوءه للصلاة» «ومن أفضى بيده
إلى فرجه ليس بينها وبينه حجاب فقد وجب عليه الوضوء» «والوضوء من مس الذكر»
«وويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون» . «وروى قيس بن طلق عن
أبيه طلق بن علي أنه قال: قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فجاءه رجل كأنه بدوي فقال يا رسول الله ما ترى في مس الرجل
ذكره بعدما يتوضأ فقال: "وهل هو إلا بضعة منك»
فصل واختلف أهل العلم في تأويل هذه الأحاديث وتخريجها وفي المعمول به منها
فذهبت طائفة منهم إلى الأخذ بوجوب الوضوء من مس الذكر جملة من
(1/100)
غير تفصيل وصححوا الآثار الواردة بالأمر
بالوضوء من مسه وضعفوا حديث طلق بن علي. ومنهم من جعله منسوخا بحديث بسرة،
واستدل على نسخه بأن إيجاب الوضوء وارد من جهة الشرع، وقوله هل هو إلا بضعة
منك حجة عقلية، فجاز أن ينسخ ما في العقل بالشرع، ولا يصح أن ينسخ الشرع
بما في العقل. ومنهم من تأوله فقال ليس فيه نص بإسقاط الوضوء، فيحتمل أن
يكون المراد به إجازة مسه وإسقاط غسل اليدين من مسه كسائر الأعضاء. ومنهم
من ذهب إلى أن لا وضوء من مس الذكر جملة من غير تفصيل، وهم أهل العراق،
وصححوا حديث طلق وضعفوا الأحاديث الواردة بالأمر بالوضوء منه بأن قالوا إن
هذا أمر تعم به البلوى، فلو كان الوضوء منه واجبا لألقاه رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أمته إلقاء ذائعا ولو فعل ذلك لم
يخف على أكابر الصحابة مثل عثمان وعلي وابن عباس وعمران بن الحصين وغيرهم
[ممن أنكر الوضوء من مس الذكر. وهذا يعكس عليهم فيقال لهم لو كان الوضوء
غير واجب منه لم يخف ذلك على أكابر الصحابة الذين أوجبوا الوضوء منه مثل
عمر بن الخطاب وسعيد وابن عمر وغيرهم] .. ومنهم من فرق بين العمد والنسيان،
فاستعمل حديث طلق في مسه ناسيا، والآثار الواردة بالأمر بالوضوء من مسه في
مسه عامدا.
فصل وأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فاختلفت الروايات عنه في ذلك، فروى عنه
أشهب أنه سئل عن مس الذكر فقال: لا أوجبه وأبى فروجع في ذلك فقال يعيد ما
كان في الوقت وإلا فلا. وروي عنه في موضع آخر من مس ذكره انتقض وضوؤه وقال
في المدونة إن مسه بباطن كفه أو أصابعه انتقض وضوؤه، وإن مسه بظاهر الكف أو
الذراع لم ينتقض وضوؤه. واختلف قوله في مسه ناسيا على قولين رواهما عنه ابن
وهب في العتبية. فتحصيل هذا أن له في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها ألا وضوء
من
(1/101)
مس الذكر ناسيا كان أو متعمدا كمذهب أهل
العراق، وهي رواية أشهب الأولى عن مالك؛ لأن الإعادة في الوقت استحباب، وهو
قول سحنون وروايته عن ابن القاسم في العتبية. والثاني إيجاب الوضوء من مسه
ناسيا كان أو متعمدا. قيل إذا مسه بباطن الكف أو الأصابع التذ أو لم يلتذ
لأنه الموضع المقصود بمسه له فخرج الحديث عليه، وإن مسه بظاهر الكف أو
الذراع لم يجب عليه الوضوء وإن التذ. وقيل بل إذا التذ وجب عليه الوضوء مسه
بباطن الكف أو بظاهره أو بأي عضو كان. أما التأويل الأول فهو لبعض أهل
النظر على قول مالك في المدونة، وأما التأويل الثاني فمنهم من يتأوله على
ما في المدونة ويقول إن تخصيصه فيها لباطن الكف من ظاهره تنبيه منه على
مراعاة اللذة، ومنهم من يتأوله على مذهب مالك قياسا على ملامسة النساء.
والقول الثالث إنه إن كان ناسيا فلا وضوء عليه بحال، وإن كان متعمدا فعليه
الوضوء على التأويلين المذكورين. وقد قيل إن معنى رواية أشهب عن مالك
الأولى إذا مسه على غير الصفة المراعاة في نقض الوضوء إما ناسيا وإما
متعمدا بظاهر الكف أو الذراع التذ أو لم يلتذ على الاختلاف المتقدم. هذا
تحصيل مذهب مالك في هذه المسألة، وهذا إذا مسه على غير حائل. وأما إن كان
مسه على حائل رقيق فاختلف قول مالك: روى عنه ابن وهب أنه لا وضوء عليه وهو
الأشهر، وروى علي بن زياد عن مالك أن عليه الوضوء. وأما إن مسه على حائل
كثيف فلا وضوء عليه، فعلى ما حكيناه من الاختلاف لا اختلاف في المذهب أنه
إن مس ذكره ناسيا أو متعمدا بظاهر الكف أو الذراع ولم يلتذ فلا وضوء عليه.
فصل
وأما مس المرأة فرجها فعن مالك في ذلك أربع روايات: إحداها سقوط الوضوء،
والثانية استحبابه، والثالثة إيجابه، والرابعة التفرقة بين أن تلطف أو لا
تلطف، وهي رواية ابن أبي أويس عنه. فأما الرواية الأولى والثانية فهما
واحدة في سقوط الوجوب. وذهب أبو بكر الأبهري إلى أن ذلك كله ليس باختلاف
رواية، وإنما هو اختلاف أحوال، فرواية ابن القاسم وأشهب في سقوط الوضوء
معناها إذا لم تلطف ولا قبضت عليه فالتذت، ورواية علي بن زياد عن مالك في
وجوب
(1/102)
الوضوء معناها إذا ألطفت على ما بين في
رواية ابن أبي أويس عن مالك. ومن أصحابنا من يحمل الروايات كلها على
روايتين: إحداهما وجوب الوضوء، والثانية سقوطه، والوجوب متعلق بالإلطاف
والالتذاذ.
فصل
فإذا مست المرأة فرجها فلم تلطف ولم تلتذ فلا وضوء عليها عند مالك، ولم
يختلف عنه في ذلك، فإذا ألطفت والتذت وجب عليها الوضوء عند مالك بلا خلاف،
وقيل إن عنه في ذلك روايتين على ما بيناه.
فصل ولم يختلف قول مالك في أنه لا وضوء على الرجل في مس دبره التذ أو لم
يلتذ، وأوجب عليه الشافعي الوضوء لظاهر قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «من مس فرجه فقد وجب عليه الوضوء» .
[فصل في القول في الرعاف]
الرعاف ليس بحدث ينقض الطهارة عند مالك وجميع أصحابه قل أو كثر، خلافا لأبي
حنيفة وأصحابه في قولهم إنه ينقض الوضوء إذا كان كثيرا، ولمجاهد في قوله
إنه ينقضه وإن كان يسيرا. وهو -أعني الرعاف- ينقسم في حكم الصلاة على
قسمين: أحدهما أن يكون دائما لا ينقطع. والثاني أن يكون غير دائم ينقطع.
فأما القسم الأول وهو أن يكون دائما لا ينقطع فالحكم فيه أن يصلي صاحبه
الصلاة به في وقتها على الحالة التي هو عليها. والأصل في ذلك أن عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صلى حين طعن وجرحه يثعب دما.
فإن لم يقدر على السجود والركوع إما لأنه يضر به ويزيد في رعافه وإما لأنه
يخشى أن يتلطخ بالدم إن ركع أو سجد أومأ في صلاته كلها إيماء كما قال سعيد
بن المسيب فكلا التأويلين
(1/103)
قد تؤولا عليه. فإن انقطع عنه الرعاف في
بقية من الوقت وقدر على الصلاة راكعا أو ساجدا لم تجب عليه إعادة لأن
إيماءه إن كان لإضرار الركوع أو السجود فهو كالمريض الذي لا يقدر على
السجود فيصلي إيماء ثم يصح في بقية من الوقت أنه لا إعادة عليه، وإن كان
مخافة أن تمتلئ ثيابه بالدم فهو عذر يصح له به الإيماء إجماعا فوجب أن لا
تكون عليه إعادة كالمسافر الذي لا علم عنده بالماء يتيمم ثم يجد الماء في
الوقت أنه لا إعادة عليه من أجل أنه من أهل التيمم إجماعا، بخلاف المريض
والخائف إذ قيل إنهما ليسا من أهل التيمم، وبخلاف المصلي في الطين إيماء إذ
قيل إنه ليس من أهل الإيماء ويلزمه أن يركع ويسجد في الطين وإن فسدت ثيابه
فما ذلك على الله بعزيز، وقد «سجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في الماء والطين فانصرف من الصلاة وعلى جبينه وأنفه أثر الماء
والطين» .
وأما القسم الثاني وهو أن يكون غير دائم ينقطع، فإن أصابه قبل أن يدخل أخر
الصلاة حتى ينقطع عنه ما لم يفت وقت الصلاة المفروضة: القامة للظهر،
والقامتان للعصر. وقيل بل يؤخرهما ما لم يخف فوات الوقت جملة بأن يتمكن
اصفرار الشمس للظهر والعصر فيخشى أن لا يدرك تمامهما قبل غروب الشمس، فإن
خشي ذلك صلاهما قبل خروج الوقت كيفما أمكنه ولو إيماء. وإن أصابه ذلك بعد
أن دخل في الصلاة فلا يخلو من وجهين: أحدهما أن يكون يسيرا يذهبه الفتل.
والثاني أن يكون كثيرا قاطرا أو سائلا لا يذهبه الفتل. فأما إن كان يسيرا
يذهبه الفتل فإنه يفتله ويتمادى على صلاته فذا كان أو إماما أو مأموما، ولا
اختلاف في ذلك على ما روي عن جماعة من السلف، منهم سعيد بن المسيب، وسالم
بن عبد الله، أنهم كانوا يرعفون في الصلاة حتى تختضب أصابعهم أي الأنامل
الأولى منها من الدم الذي يخرج من أنوفهم فيفتلونه ويمضون على صلاتهم. وأما
إن تجاوز الدم الأنامل الأولى وحصل منه في الأنامل الوسطى قدر الدرهم على
مذهب ابن حبيب أو أكثر من الدرهم على رواية علي بن زياد عن مالك، فيقطع
ويبتدئ،
(1/104)
لأنه قد حصل بذلك حامل نجاسة، فلا يصح له
التمادي على صلاته ولا البناء عليها بعد غسل الدم. وأما إن كان كثيرا قاطرا
أو سائلا لا يذهبه الفتل فالذي يوجبه القياس والنظر أن يقطع وينصرف فيغسل
الدم ثم يبتدئ بصلاته؛ لأن الشأن في الصلاة أن يتصل عملها ولا يتخللها شغل
كثير ولا انصراف عن القبلة، إلا أنه قد جاء عن جمهور الصحابة والتابعين
إجازة البناء في الصلاة بعد غسل الدم، ومعناه ما لم يتفاحش بعد الموضع الذي
يغسله فيه، وقال بذلك مالك وجميع أصحابه في الإمام والمأموم، واختلفوا في
الفذ، فذهب ابن حبيب إلى أنه لا يبني الفذ، قال لأن البناء إنما هو ليحوط
فضل الجماعة. وقال محمد بن مسلمة يبني. ومثله في رسم سلعة سماها من سماع
ابن القاسم من كتاب الصلاة في بعض روايات العتبية، وهو قول أصبغ أيضا وظاهر
ما في المدونة على ما قاله ابن لبابة. واختلفوا أيضا فيمن رعف قبل أن يركع
بعد أن أحرم هل يصح له البناء على إحرامه أم لا على أربعة أقوال: أحدها أنه
يبني على إحرامه جملة من غير تفصيل وهو قول سحنون. والثاني أنه لا يبني
ويستأنف الإقامة والإحرام جملة أيضا من غير تفصيل وهو قول ابن عبد الحكم،
ومثله في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم. والثالث أنها إن كانت جمعة
ابتدأ الإحرام، وإن كانت غير جمعة بنى على إحرامه، وهو قول مالك في رواية
ابن وهب عنه وظاهر ما في المدونة عندي، واستحب أشهب في الجمعة أن يقطع.
والرابع أنه إن كان وحده أو إماما ابتدأ الإحرام، وإن كان مأموما بنى على
إحرامه.
واختلفوا أيضا فيمن رعف في أثناء الركعة قبل أن تتم بركوعها وسجودها على
أربعة أقوال:
أحدها أنه يصح له ما مضى منها ويبني عليها كانت الأولى أو الثانية بعد أن
عقد الأولى، فإن رعف وهو راكع فرفع رأسه للرعاف رفع من الركعة، وإذا رجع
رجع إلى القيام فيخر منه إلى السجود. وإن رعف وهو ساجد فرفع رأسه للرعاف
(1/105)
رفع من السجدة، فإذا رجع سجد السجدة
الثانية أو جلس فتشهد إن كان رعافه في السجدة الثانية. وإن كان رعف وهو
جالس في التشهد الأول فقيامه للرعاف قيام من الجلسة، فإذا رجع ابتدأ قراءة
الركعة الثالثة، إلا أن يكون ذلك في مبتدأ الجلوس فليرجع إلى الجلوس حتى
يتم تشهده، وهو قول ابن حبيب، وحكاه عن ابن الماجشون.
والثاني أنه يلغي ما مضى عن تلك الركعة ولا يبني على شيء منه، ويبتدئها
بالقراءة من أولها إذا رجع، كانت الركعة الأولى أو الثانية بعد أن عقد
الأولى. وهو ظاهر ما في المدونة عندي، وقد روي ذلك عن ابن القاسم.
والثالث أنه إن كان في الركعة الأولى لم يبن واستأنف الإحرام، وإن كان في
الثانية بعد أن عقد الأولى ألغى ما مضى منها واستأنف الركعة من أولها
بالقراءة إذا رجع. وقد تؤول ما في المدونة على هذا، وهو قول ابن القاسم
وروايته أيضا عن مالك في رسم سلعة سماها، فمرة ساوى ابن القاسم بين الركعة
الأولى والثانية، ومرة فرق بينهما على ما قد ذكرته عنه.
والرابع أنه إن كان في الركعة الأولى لم يبن واستأنف الإحرام، وإن كان في
الثانية بعد أن عقد الأولى صح له ما مضى منها وبنى عليه إذا رجع. روي هذا
القول عن ابن الماجشون. فيتحصل إذا رعف في أثناء الركعة الأولى خمسة أقوال،
وإذا رعف في أثناء الركعة الثانية بعد أن عقد الأولى قولان.
فصل ولصحة البناء في الرعاف أربعة شروط متفق عليها: أحدها أن لا يجد الماء
في موضع فيجاوزه إلى غيره؛ لأنه إن وجد الماء في موضع. فتجاوزه إلى غيره
بطلت صلاته باتفاق. والثاني أن لا يطأ على نجاسة رطبة؛ لأنه إن وطئ على
نجاسة رطبة انتقضت صلاته باتفاق أيضا. والثالث أن لا يسقط من الدم على ثوبه
أو جسد ما لا يغتفر لكثرته، وقد تقدم الخلاف في حده؛ لأنه إن سقط من الدم
(1/106)
على ثوبه أو جسده كثير بطلت صلاته باتفاق.
والرابع أن لا يتكلم جاهلا أو متعمدا؛ لأنه إن تكلم جاهلا أو متعمدا بطلت
صلاته باتفاق. وشرطان مختلف فيهما: أحدهما أن لا يتكلم ناسيا لأنه قد اختلف
إن تكلم ناسيا فقال ابن حبيب لا يبني لأن السنة إنما جاءت في بناء الراعف
ما لم يتكلم ولم يخص في ذلك ناسيا من متعمد وحكى ابن سحنون عن أبيه أنه
يبني على صلاته ويسجد لسهوه إلا أن يكون الإمام لم يفرغ بعد من صلاته فإنه
يحمله عنه. والثاني أن لا يطأ على قشب يابس لأنه قد اختلف إن وطئ على قشب
يابس، فقال ابن سحنون تنتقض صلاته، وقال ابن عبدوس لا تنتقض صلاته. وأما
مشيه في الطريق لغسل الدم وبها أرواث الدواب وأبوالها فلا تنتقض بذلك صلاته
لأنه مضطر إلى المشي في الطريق لغسل الدم كما يضطر إلى الصلاة فيها، وليس
بمضطر إلى المشي على القشب اليابس قاله ابن حارث.
فصل وليس البناء في الرعاف بواجب وإنما هو من قبيل الجائز. وقد اختلف في
المختار المستحب من ذلك، فاختار ابن القاسم القطع بسلام أو كلام على
القياس. قال فإن ابتدأ ولم يتكلم أعاد الصلاة، واختار مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - البناء على الأتباع للسلف وإن خالف ذلك القياس والنظر،
وهذا على أصله [أن العمل أقوى من القياس؛ لأن العمل المتصل لا يكون أصله]
إلا عن توقيف. وقد ذكر ابن حبيب ما دل على وجوب البناء وهو قوله إن الإمام
إذا رعف فاستخلف بالكلام جاهلا أو متعمدا بطلت صلاته وصلاتهم، فجعل قطعه
صلاته بالكلام بعد الرعاف يبطل صلاتهم كما لو تكلم جاهلا أو متعمدا بغير
رعاف. والصواب ما في المدونة أن صلاتهم لا تبطل؛ لأنه إذا رعف فالقطع له
جائز في قول ومستحب في قول، فكيف تبطل صلاة القوم بفعله ما يجوز له أو ما
يستحب له؟.
(1/107)
فصل ولا يخرج الراعف من حكم الصلاة وحرمتها
على مذهب من يجيز له البناء إلا بأن يقطع بسلام أو كلام أو فعل ما لا يصح
فعله في الصلاة. وهذا وجه قول ابن حبيب إن من رعف وهو جالس في وسط صلاته أو
راكع أو ساجد فإن قيامه من الجلوس أو رفعه من الركوع أو السجود لرعافه يعتد
به من صلاته.
فصل واختلف إذا كان مأموما فانصرف لغسل الدم وهو يريد البناء هل يخرج من
حكم الإمام أم لا على أربعة أقوال: أحدها أنه يخرج من حكمه حتى يرجع إليه
جملة من غير تفصيل. والثاني أنه لا يخرج من حكمه جملة من غير تفصيل.
والثالث أنه إن رعف قبل أن يعقد معه ركعة خرج عن حكمه حتى يرجع إليه، وإن
رعف بعد أن قيد معه ركعة لم يخرج عن حكمه. والرابع أنه إن أدرك ركعة من
صلاة الإمام بعد رجوعه كان في حكمه حال خروجه عنه، وإن لم يدرك من صلاته
ركعة بعد رجوعه لم يكن في حكمه حال خروجه، فتكون على هذا القول أحكامه حال
خروجه في ارتباط صلاته بصلاة إمامه معتبرة بما يكشفه الغيب من إدراك ركعة
فأكثر من صلاته. فمن رأى أنه يخرج من حكمه حتى يرجع يقول إن أفسد الإمام
صلاته متعمدا قبل أن يرجع لم تفسد عليه هو، وإن تكلم سهوا سجد بعد السلام
ولم يحمل ذلك عنه الإمام، خلاف أصل ابن حبيب الذي يرى أن ذلك يبطل عليه
البناء. وإن ظن أن الإمام قد أتم صلاته فأتم صلاته في موضعه ثم تبين له أنه
لو مضى لأدركه في الصلاة أجزأته صلاته، وإن سها الإمام لم يلزمه من سهوه
شيء. ومن رأى أنه لا يخرج عن حكمه يقول إن أفسد الإمام صلاته متعمدا فسدت
عليه هو صلاته، وإن أتم صلاته في موضعه ثم تبين له أنه لو مضى لأدرك الإمام
في الصلاة لم تجزه صلاته، وإن سها الإمام لزمه سهوه، وإن تكلم هو ساهيا حمل
ذلك عنه الإمام، خلاف أصل ابن حبيب المذكور. وإن قرأ الإمام بعده سجدة
(1/108)
فسجدها فرجع هو بعد سلام الإمام كان عليه
أن يقرأها ويسجدها، قاله ابن المواز على قياس هذا القول.
فصل وحكم الإمام في الرعاف حكم المأموم في جميع الأشياء لأنه يستخلف عند
رجوعه من يتم بالقوم صلاتهم، فيصير المستخلف له إماما يصلي معه ما أدرك من
صلاته بعد غسل الدم ويقضي ما فاته ويكون في حكمه حتى يرجع إليه على
الاختلاف المذكور فوق هذا. فإن ظن الإمام أنه قد رعف فانصرف ثم تبين أنه لم
يرعف بطلت صلاته، واختلف في صلاة القوم فقال ابن عبدوس لا تبطل وحكى ذلك عن
سحنون في المجموعة، وقال ابن سحنون تبطل.
فصل فإذا رعف الرجل خلف الإمام فخرج فغسل الدم عنه فإن علم أنه يدرك الإمام
في صلاته رجع إليه فأتم معه، وإن علم أنه لا يدركه أتم صلاته في موضعه. فإن
كان قد فاته بعض صلاة الإمام وصلى معه بعضها ثم رعف في بقيتها بدأ بالبناء
قبل القضاء عند ابن المواز وابن حبيب وهو مذهب ابن القاسم. وقال محمد بن
سحنون يبدأ بالقضاء قبل البناء. مثال ذلك أن يفوت الرجل ركعة من صلاة
الإمام فيدخل معه في الثانية فيصليها معه ثم يرعف في الثالثة فلا ينصرف حتى
يتم الإمام صلاته، فإنه على القول بتقديم البناء على القضاء يأتي بالركعة
الثالثة يقرأ فيها بالحمد لله وحدها كما قرأ فيها الإمام لأنها ثالثة صلاته
ويجلس فيها لأنها ثانية بنائه، إذ ليس بيده إلا الركعة الثانية التي صلى مع
الإمام. ثم يأتي بالركعة الرابعة فيقرأ فيها بالحمد لله وحدها ويقوم عند
ابن حبيب لأنها ثالثة بنائه، ويجلس عند ابن المواز لأنها رابعة صلاته وآخر
صلاة الإمام، فلا يقوم للقضاء إلا من جلوس، ثم يأتي بالركعة الأولى التي
فاتته بالحمد وسورة كما فاتته، فتصير صلاته جلوسا كلها على مذهبه. وعلى
الفول بتقديم القضاء على البناء يأتي أولا بالركعة الأولى فيقرأ فيها
بالحمد وسورة كما قرأ الإمام ويجلس فيها لأنها ثانية للركعة التي صلى مع
(1/109)
الإمام، ثم يأتي بالركعة الثالثة فيقرأ
فيها بالحمد لله وحدها ويقوم ولا يجلس فيها لأنها ثالثة لما قد صلى، ثم
يأتي بالركعة الرابعة بالحمد لله وحدها أيضا ويجلس ويتشهد ويسلم.
ولو فاتته مع الإمام الأولى وصلى معه الثانية ورعف في الثالثة وأدرك معه
الرابعة لكان عليه قضاء الأولى والثالثة يبدأ بقضاء الأولى فيأتي بركعة
يقرأ فيها بأم القرآن وسورة ويقوم لأنها ثالثة له ثم يأتي بالثالثة فيقرأ
فيها بالحمد لله وحدها ويجلس ويتشهد ويسلم، قاله ابن حبيب. ولم يقل إنه
يبدأ ببناء الثالثة التي رعف فيها على الثانية التي صلاها مع الإمام على
أصله في تبدئة البناء على القضاء، إذ قد حالت بينه وبين بنائه عليها الركعة
الرابعة التي أدرك مع الإمام. وأما على مذهب من يرى أن القضاء يبدأ على
البناء فلا إشكال في صحة هذا الجواب في هذه المسألة لأن البناء لما بعد
فيها ووجب قضاء الركعتين وجب أن يبدأ بقضاء الأولى قبل الثالثة. وقد وقع
لسحنون في المجموعة أنه يقضي الثالثة بالحمد لله وحدها قبل الأولى، وذلك
مخالف لأصله بعيد من قوله.
فصل وحكم الراعف خلف الإمام في الجمعة وغيرها سواء إلا في موضعين: أحدهما
أنه إذا رعف في الجمعة بعد أن صلى مع الإمام ركعة فلم يفرغ من غسل الدم حتى
أتم الإمام صلاته أنه لا يصلي الركعة الثانية إلا في المسجد الذي ابتدأ
الصلاة فيه لأن الجمعة لا تكون إلا في المسجد، فإن حال بينه وبين الرجوع
إلى المسجد واد أو أمر غالب أضاف إليها ركعة وصلى ظهرا أربعا، قاله
المغيرة. والثاني أنه إذا رعف قبل أن يتم مع الإمام ركعة بسجدتيها ثم لم
يفرغ من غسل الدم حتى أتم الإمام صلاته لا يبني على صلاة الإمام تمام
ركعتين ويصلي أربع ركعات في موضعه على قول من رأى أنه يبنى على الإحرام في
الجمعة. وقد تقدم ذكر الاختلاف في ذلك وبالله التوفيق.
(1/110)
فصل وإذا رعف الإمام في صلاة الجنازة أو
صلاة العيد استخلف من يتم بالقوم بقية الصلاة كصلاة الفريضة سواء. وأما إذا
رعف المأموم فيهما فإنه ينصرف ويغسل الدم ثم يرجع فيتم مع الإمام ما بقي من
تكبير الجنازة وصلاة العيد، فإن علم أنه لا يدرك شيئا من ذلك مع الإمام أتم
في موضعه حيث يغسل الدم عنه إلا أن يعلم أنه يدرك الجنازة قبل أن ترفع،
فإنه يرجع حتى يتم ما بقي من التكبير عليها. قال أشهب: فإن كان رعف قبل أن
يعقد من صلاة العيد ركعة أو قبل أن يكبر من تكبير الجنازة شيئا وخشي إن
انصرف لغسل الدم أن تفوته الصلاة لم ينصرف وصلى على الجنازة وتمادى على
صلاته في العيد. وكذلك لو رأى في ثوبه نجاسة وخاف إن انصرف لغسلها أن تفوته
صلاة الجنازة أو صلاة العيد لتمادى على صلاته ولم ينصرف؛ لأن صلاة الجنازة
والعيد مع الرعاف وبالثوب النجس أولى من فواتهما وتركهما بخلاف صلاتهما
بالتيمم لمن لم يجد الماء، إذ ليس الصحيح الحاضر من أهل التيمم. هذا كله
-أعني ما ذكرته في هذا الفصل- هو معنى ما في كتاب ابن المواز الذي ينبغي أن
يحمل عليه وإن كان ظاهر لفظه مخالفا لبعضه. وبالله تعالى التوفيق.
[فصل في القول في التيمم]
فصل
في القول في التيمم أمر الله سبحانه وتعالى المسافر والمريض بالتيمم للصلاة
عند عدم الماء، وأجمع أهل العلم على وجوب التيمم عليهما لأن الأمر لهما
بالتيمم مع عدم الماء نص في الآية لا يحتمل التأويل. واختلفوا في الصحيح
الحاضر العادم للماء والمريض الواجد للماء العادم للقدرة على مسه هل هما من
أهل التيمم أم لا، لما
(1/111)
احتملته الآية من التأويل. فمن حمل الآية
على ظاهرها ولم يقدر فيها تقديما ولا تأخيرا رآهما من أهل التيمم؛ لأن شرط
عدم الماء في الآية يعود على الحاضر، ويتأول إضماره في المريض والمسافر،
وإضمار عدم القدرة على مسه في المريض أيضا. ومن قدر في الآية تقديما
وتأخيرا لم يرهما من أهل التيمم؛ لأن شرط عدم الماء على التقديم والتأخير
لا يعود إلا على المريض والمسافر. وكذلك إذا حملت الآية على التأويل الذي
ذكرناه فيما تقدم فيها من أن "أو" في قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] بمعنى الواو لا يكونان من أهل
التيمم، وهو أظهر من التأويلين المتقدمين؛ لأن التلاوة تبقى على ظاهرها دون
تقديم وتأخير، ولا يحتاج فيها إلى إضمار، فتأتي بينة لا إشكال فيها ولا
احتمال. لأن تقديرها على هذا التأويل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] الآية
إلى {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] .
والتيمم القصد، قال الله عز وجل: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}
[المائدة: 2] أي قاصديه. والصعيد: ما صعد من الأرض، وقيل التراب. والطيب
الطاهر. يقول الله تعالى: وإن كنتم على هذه الأحوال فاقصدوا ترابا طاهرا
فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
وجميع أصحابه أن الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره؛ لأنهم يجيزون التيمم
بالرمل والحصا والجبل.
والدليل على صحة قول مالك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» فوجب بظاهر هذا الحديث أن يجوز
التيمم بكل ما هو مشاكل للأرض لم تدخله صنعة كما تجوز الصلاة عليه، ويجوز
على هذا التيمم بالحشيش النابت على وجه الأرض إذا عم الأرض وحال بينك
وبينها. وقال يحيى بن سعيد ما حال
(1/112)
بينك وبين الأرض فهو منها. واختلف قول مالك
في التيمم على الثلج إذا عم الأرض فأجازه في رواية علي بن زياد ومنع منه في
رواية أشهب وغيره. وذهب الشافعي إلى أن التيمم لا يجوز إلا على التراب،
واحتج بما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«جعلت لي الأرض مسجدا وجعلت تربتها لي طهورا» ، فحصل الإجماع على إجازة
التيمم على التراب، والاختلاف فيما سواه مما هو مشاكل للأرض. فالاختيار أن
لا يتيمم على الحصباء وما أشبهها إلا عند عدم التراب. فإن تيمم عليه وهو
واجد للتراب فظاهر المدونة أنه لا إعادة عليه، وقال ابن حبيب يعيد في
الوقت. وأما الثلج فإن تيمم عليه وهو يصل إلى الأرض فيعيد أبدا، قاله ابن
حبيب وهو معنى ما في المدونة، وإن تيمم عليه وهو لا يصل إلى الأرض فظاهر
المدونة أنه لا إعادة عليه، وقال ابن حبيب يعيد في الوقت. وهذا كله على
رواية علي بن زياد عن مالك، وأما على رواية أشهب عنه فيعيد أبدا إن تيمم
عليه كان يصل إلى الأرض أو لا يصل إليها.
فصل وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن التيمم بالتراب على غير
وجه الأرض جائز مثل أن يرفع إلى المريض في طبق أو إلى الراكب في محمل أو
يكون مريضا فيتيمم جدارا إلى جانبه إن كان من طوب نيء. وذهب ابن بكير إلى
أن العبادة إنما هي القصد إلى وجه الأرض فلم يجز شيئا من ذلك.
فصل وأطلق الله تبارك وتعالى الأيدي في التيمم ولم يقيدها بالحد إلى
المرفقين كما فعل في الوضوء. واختلفت الآثار في ذلك عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فروي عنه الأمر بالتيمم إلى المرفقين، وإلى
الكوعين، بضربة واحدة، وبضربتين. «وروي عن عمار
(1/113)
بن ياسر أنه قال: لما نزلت آية التيمم عمد
المسلمون مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتيمموا إلى
المناكب والآباط.» فيحتمل أن يكونوا فعلوا ذلك اتباعا لظاهر القرآن بكل ما
يقع عليه اسم يد عند العرب قبل أن يأمرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك بشيء، إذ لا يوجد ذلك للنبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في غير هذا الحديث. وعلى هذا اختلف أهل العلم في
حد التيمم، فمنهم من ذهب إلى إيجاب التيمم إلى المنكبين، وهو قول ابن شهاب
ومحمد بن مسلمة من أصحابنا. ومنهم من ذهب إلى أن التيمم لا يجب إلا إلى
المرفقين على ما روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقياسا
على الوضوء، وهو مذهب الشافعي وأكثر أهل العلم، وإليه ذهب من أصحابنا ابن
نافع ومحمد بن عبد الحكم. ومنهم من ذهب إلى أن التيمم لا يجب إلا إلى
الكوعين قياسا على القطع في السرقة. قيل في ذلك كله بضربة واحدة، أو
بضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين، فهذه ستة أقوال. وقال الحسن وابن أبي
ليلى يضرب ضربتين فيمسح بكل واحدة منهما وجهه ويديه. وحكى ابن لبابة في
المنتخب قولا ثامنا في المسألة، وهو أن الجنب يتيمم إلى الكوعين بالسنة لا
بالقرآن، وغير الجنب إلى المنكبين على ظاهر ما في القرآن، واحتج لذلك بما
يقف عليه من تأمله في موضعه من كتابه.
فصل ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الجنب يتيمم بظاهر القرآن؛ لأن
الله تبارك وتعالى أمر بالوضوء من الحدث والغسل من الجنابة للصلاة، ثم أمر
بالتيمم عند عدم الماء بالنص على ذلك، وعند عدم القدرة على استعماله
بالتأويل الظاهر، فوجب أن يحمل ذلك على الوضوء والغسل من الجنابة جميعا،
وأن لا يخصص في أحدهما دون الآخر إلا بدليل، ولا دليل على ذلك. بل قد دلت
السنن الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تيمم
الجنب على خلافه؛ وأن التيمم عنده، أعني عند مالك، من الجنابة والحدث الذي
ينقض الوضوء سواء، وأن فرض التيمم فيهما ضربة واحدة للوجه واليدين إلى
الكوعين، إلا أنه يستحب ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين
(1/114)
إلى المرفقين، فإن تيمم إلى الكوعين أعاد
في الوقت، وإن تيمم بضربة واحدة لوجهه ويديه إلى المرفقين لم يعد.
فصل ومن أهل العلم من ذهب إلى أن الجنب لا رخصة له في التيمم، وهو مذهب عمر
بن الخطاب، وكان عبد الله بن مسعود يقوله ثم رجع عنه. وقد روي «أن رجلا سأل
عمر بن الخطاب فقال إني أجنبت فلم أجد الماء، فأمره أن لا يصلي، فقال له
عمار أما تذكر أنا كنا في سرية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجنبت أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت
بالتراب فصليت، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت
ذلك له فقال إنما كان يكفيك هكذا، فضرب بكفيه الأرض فنفخ فيهما فمسح وجهه
وكفيه» فلم يقنع عمر بقول عمار وخشي أن يكون قد دخل عليه فيما حدثه به وهم
أو نسيان إذ لم يذكر هو شيئا من ذلك.
فصل وقد ذهب بعض الناس ممن ينتحل الحديث إلى أن الجنب يتيمم إذا عدم الماء
ويتوضأ إذا وجده ولم يقدر على مسه على ما روي «عن عمرو بن العاص أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره على جيش ذات السلاسل، وفي
الجيش نفر من المهاجرين والأنصار، منهم عمر بن الخطاب، فاحتلم عمرو بن
العاص في ليلة شديدة البرد، فأشفق أن يموت إن اغتسل فتوضأ ثم أم أصحابه،
فلما قدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقدم عمر بن الخطاب فشكا
عمرو بن العاص حتى قال وأمنا جميعا، فأعرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عمر بن الخطاب. فلما قدم عمرو دخل على رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل يخبره بما صنع في غزاته، فقال له
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصليت جنبا يا عمرو؟
فقال نعم يا رسول الله أصابني احتلام في ليلة باردة لم يمر على وجهي مثلها
قط، فخيرت نفسي بين أن أغتسل فأموت أو أقبل رخصة الله عز وجل فقبلت رخصة
الله تعالى وعلمت أن الله
(1/115)
أرحم بي فتوضأت ثم صليت. فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحسنت ما أحب أنك تركت شيئا صنعته
ولو كنت في القوم لصنعت كما صنعت.» وممن كان يذهب إلى هذا أحمد بن صالح
وقال إن الوضوء فوق التيمم، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الله تبارك وتعالى جعل
التيمم بدل الغسل من الجنابة ولم يجعل الوضوء بدلا منه، فليس بأرفع منه في
ذلك، وإنما هو أرفع منه في الحدث الأصغر حيث جعل بدلا منه. وأما الحديث
فيحتمل أن يكون ما كان من عمرو بن العاص قبل نزول آية التيمم، والحكم حينئذ
في الجنب إذا عدم الماء أن يصلي بلا غسل، فلما سقط عنه فرض الاغتسال بالخوف
على نفسه صار في حكم من لا جنابة عليه، فتوضأ وصلى كما يفعل من استيقظ من
نومه ولا جنابة عليه، وكما يصلي عريانا من لم يجد سترة. وقد صلى أصحاب رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل فرض التيمم وهم محدثون على
غير وضوء، فلم ينكر ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عليهم على ما روي. فصح ما تأولناه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل والتيمم لا يرفع الحدث الأكبر ولا الأصغر عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - وجميع أصحابه وجمهور أهل العلم، خلافا لسعيد بن المسيب وابن
شهاب في قولهما إنه يرفع الحدث الأصغر دون الأكبر، وخلافا لقول أبي سلمة بن
عبد الرحمن في أنه يرفع الحدثين جميعا حدث الجنابة والحدث الذي ينقض
الوضوء. ومعنى هذا أنه إذا تيمم للوضوء أو من الجنابة كان على طهارة أبدا
ولم يجب عليه الغسل ولا الوضوء وإن وجد ماء ما لم يحدث أو يجنب. وقد وقع في
المدونة عن ابن مسعود ما ظاهره أنه كان يقول مثله. ولا يصح أن يحمل الكلام
على ظاهره، فإن المحفوظ عن ابن مسعود ما حكيناه عنه قبل من أن الجنب لا
يتيمم بحال ثم رجع إلى [أنه يتيمم، فإذا وجد الماء اغتسل. فما وقع في
المدونة
(1/116)
من قول سحنون: وقد كان يقول غير ذلك ثم رجع
إلى] هذا أي أنه يغتسل. معناه: وقد كان يقول إنه لا يتيمم بحال ثم رجع إلى
هذا الذي ذكره عنه وعن مالك وسعيد بن المسيب من أنه إذا تيمم وصلى ثم وجد
الماء أنه يغتسل.
فصل وإن كان التيمم عند مالك وأصحابه لا يرفع الحدث جملة فإنه يستباح به
عندهم ما يستباح بالوضوء والغسل من صلاة الفرائض والنوافل وقراءة القرآن
نظرا وظاهرا وسجود التلاوة وما أشبه ذلك مما تمنعه الجنابة أو الحدث الذي
ينقض الوضوء. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يستباح به نافلة، منهم عبد
العزيز بن أبي سلمة. فمن ذهب إلى أن التيمم يرفع الحدثين جميعا فهو عنده
بدل من الوضوء والغسل حقيقة. ومن رأى أنه يرفع الحدث الأصغر ولا يرفع الحدث
الأكبر فهو عنده بدل من الوضوء حقيقة. ومن رأى أنه لا يرفع الحدثين ولا
أحدهما ولا يستباح به إلا الفرائض فليس هو عنده بدلا منهما ولا من أحدهما
وإنما هو استباحة للصلاة خاصة خوف فوات الوقت. وأما على مذهب من يرى أنه
يستباح به جميع ما يمنع منه الحدث دون أن يرفعه، فقيل إنه استباحة لفعل ما
يمنع منه الحدث وليس ببدل من الطهارة بالماء إذ لا يرفع الحدث كما ترفعه
الطهارة، وقيل إنه بدل منهما وإن كان لا يرفع الحدث، وهو الأظهر. ودليله أن
تقول إن الأصل كان في الطهارة بالماء والتيمم عند عدمه وجوبهما لكل صلاة
بظاهر قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية
فخصصت السنة من ذلك الطهارة بالماء، وهي صلاة النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - يوم فتح مكة الصلوات بوضوء واحد، وبقي التيمم على أصله إذ
لا يقوى البدل قوة المبدل منه.
فصل فإذا قلنا إنه يستباح به ما لا يجوز فعله إلا بطهارة الماء فإن الذي
يستباح به
(1/117)
على ضربين: أحدهما عبادة مؤقتة بوقت،
والثاني عبادة غير مؤقتة بوقت. فأما العبادة المؤقتة بوقت فإن التيمم لها
لا يصح إلا بعد دخول وقتها، ولصحته بعد دخول وقتها شرائط متفق عليها ومختلف
فيها. فأما المتفق عليها فهي عدم الماء أو عدم القدرة على الوصول إليه في
السفر والمرض مع طلبه عند عدمه أو طلب القدرة على الوصول إليه عند عدمها.
وأما المختلف فيها فهي عدم الماء في الحضر أو عدم القدرة على استعماله لمرض
مع طلبه أيضا عند عدمه أو طلب القدرة على استعماله. وطلب الماء عند عدمه
إنما يجب مع اتساع الوقت لطلبه، والذي يلزم منه ما جرت العادة به من طلبه
في رحله أو سؤال من يليه ممن يرجو وجوده عنده ولا يخشى أن يمنعه إياه، أو
العدول إليه عن طريقه إن كان مسافرا على قدر ما يمكنه من غير مشقة تلحقه مع
الأمن على نفسه. ولا حد في ذلك يقتصر عليه لاختلاف أحوال الناس، وقالوا في
الميلين إنه كثير، وفي الميل ونصف الميل مع الأمن إنه يسير، وذلك للراكب
والراجل القوي القادر. وعدم القدرة على استعماله هو مثل أن يخشى من
استعماله الموت أو المرض أو زيادة فيه إن كان مريضا. قال أبو الحسن القابسى
مثل أن يخشى أن تصيبه نزلة أو حمى، وقال الشافعي لا يجوز له التيمم مع وجود
الماء إلا أن يخاف تلف نفسه باستعماله.
فصل فإذا قلنا إن ذلك شرط في صحة التيمم فهل ذلك شرط في صحة التيمم لكل
صلاة عند القيام إليها؟ أو في صحته لما اتصل به من الصلوات عند القيام لها؟
أو في صحة التيمم على الإطلاق؟ في ذلك بين أهل العلم اختلاف. أما من ذهب
إلى ما حكيناه من أن الأصل كان إيجاب الوضوء لكل صلاة أو التيمم عند عدم
الماء أو عدم القدرة على استعماله بظاهر قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية وأن
السنة خصصت من ذلك الوضوء وبقي التيمم على الأصل، فلا يصح عنده صلاتان
بتيمم واحد وإن اتصلتا ونواه لهما، ولا صلاة بتيمم نواه لغيرها، ولا صلاة
بتيمم نواه لها إذا صلى به غيرها أو تراخى عن الصلاة به اشتغالا بما سواها.
ويجيء على مذهبه أن طلب الماء أو طلب القدرة على استعماله شرط في صحة
(1/118)
التيمم لكل صلاة عند القيام إليها، فإن صلى
صلاتين بتيمم واحد أو صلاة بتيمم نواه لغيرها أو لها فصلى به غيرها أو
تراخى عن الصلاة به وجبت عليه الإعادة في الوقت وغيره، وهو ظاهر ما في
المدونة ونص رواية مطرف وابن الماجشون عن مالك. ومن لم يوجب عليه الإعادة
إلا في الوقت أو فرق بين المشتركتين من غير المشتركتين أو بين أن يتيمم
لنافلة فيصلي [به فريضة وبين أن يتيمم لفريضة فيصلي قبلها نافلة] فلم يجر
في ذلك على أصل، وإنما ذهب في ذلك إلى مراعاة الخلاف. وكان يلزم على قياس
هذا القول أن لا يصلي نافلة بتيمم مكتوبة لا قبلها ولا بعدها وإن اتصلت
بها، ولا نافلتين بتيمم واحد، إلا أنه أباح ذلك مراعاة لقول من يرى أن
التيمم إذا صح على شروطه يرفع الحدث كالوضوء بالماء، ولقول من يرى أن الطلب
لا يتعين على عادم الماء إلا مرة ثم لا يتكرر عليه وجوبه، وأن التيمم إذا
صح على شروطه كان على طهارة ما لم يحدث أو يجد الماء من غير أن يطلبه، إذ
لا يتكرر عليه وجوب طلبه إلى مذهبه، أو يعلم أنه يقدر على مس الماء إن كان
تيممه لعدم القدرة على استعماله. فعلى قول هؤلاء جميعا يكون طلب الماء أو
طلب القدرة على استعماله شرطا في صحة التيمم على الإطلاق، وإن كان ينتقض في
قول بعضهم بوجود الماء، ولا ينتقض في قول بعضهم إلا بالحدث على ما بيناه.
ويجري على رواية أبي الفرج في ذاكر الصلوات أنه يصليها بتيمم واحد أن طلب
الماء أو طلب القدرة على استعماله شرط في صحة التيمم لما اتصل من الصلوات
التي نواها عند القيام لها. وإذا قلنا إن رواية أبي الفرج هذه مبنية على
هذا الأصل فيلزم عليها إجازة الصلوات المكتوبات والنوافل بتيمم واحد إذا
اتصلت وكان تيممه لها كلها، تقدمت النوافل أو تأخرت. ولا يجوز له أن يصلي
بتيمم واحد من النوافل إلا ما نواه أيضا بتيممه أو اتصل عمله. ولا يجوز له
أن يصلي بتيممه لمكتوبة نافلة لم ينوها وإن اتصلت بالمكتوبة.
(1/119)
فإن قائل قائل: لا اختلاف في المذهب في
جواز صلاة النافلة بتيمم المكتوبة إذا اتصلت بها.
قيل له: إن أجاز ذلك على هذه الرواية فليس على أصله فيها، وإنما هو مراعاة
للاختلاف في الأصل وقد ذكرناه.
فصل فيتحصل من هذا أن في وجوب تكرار الطلب قولين: أحدهما أنه لا يتكرر،
والثاني أنه يتكرر. وإذا قلنا إنه لا يتكرر فهل يجب الوضوء بوجود الماء أم
لا؟ في ذلك قولان: أحدهما أنه يجب، والثاني أنه لا يجب. وإذا قلنا إنه
يتكرر، فهل يتكرر لكل صلاة عند القيام إليها؟ أو لا يتكرر إلا عند التراخي
عنها بالاشتغال بما سواها؟ في ذلك قولان أيضا.
فصل وأما دخول الوقت فإنه مراعى في المشهور من المذهب. وقال ابن شعبان من
أصحابنا ليس بشرط في صحة التيمم. والدليل على صحة مذهب مالك أن الله تعالى
أوجبه عند القيام للصلاة، ولا يكون القيام لها إلا عند دخول وقتها.
فصل والدليل على صحة اشتراط الطلب قول الله عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] ولا يصح أن يكون غير واجد
للماء إلا بعد أن يطلبه.
فصل وأما العبادات التي هي غير مؤقتة فيستباح في كل وقت ما اتصل منها
بالتيمم على الشرائط التي ذكرناها فيما له وقت بعد دخول الوقت.
(1/120)
فصل والعادمون للماء على ثلاثة أضرب: أحدها
أن يعلم أنه لا يقدر على الماء في الوقت أو يغلب ذلك على ظنه. والثاني أن
يشك في الأمر. والثالث أن يعلم أنه يقدر على الماء في آخر الوقت أو يغلب
ذلك على ظنه.
فأما الضرب الأول فإنه يستحب له التيمم والصلاة في أول الوقت ليحوز فضيلة
أول الوقت إذ قد فاتته فضيلة الماء، وهذا حكم الذي لا يقدر على مس الماء.
وأما الوجه الثاني فيتيمم في وسط الوقت. ومعنى ذلك أن يتيمم من الوقت في
آخر ما يقع عليه اسم أول الوقت؛ لأنه يؤخر الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء
ما لم يخف فوات فضيلة أول الوقت، فإذا خاف فواتها تيمم وصلى لئلا تفوته
فضيلة أول الوقت ثم لا يدرك الماء فتفوته الفضيلتان.
وأما الوجه الثالث، فإنه يؤخر الصلاة إلى أن يدرك الماء في آخره لأن فضيلة
الماء أعظم من فضيلة أول الوقت؛ لأن فضيلة أول الوقت مختلف فيها، وفضيلة
الماء متفق عليها. ففضيلة أول الوقت يجوز تركها دون ضرورة، ولا يجوز ترك
فضيلة الماء إلا لضرورة، والله سبحانه وتعالى أعلم. ويريد في المدونة بقوله
آخر الوقت ووسطه آخر الوقت المختار [ووسط الوقت المختار] خلاف ما ذهب إليه
ابن حبيب والله الموفق.
(1/121)
[القول في
الحيض والاستحاضة وأحكامهما]
قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وفي سبب سؤالهم الني - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - عن محيض النساء وكيفية اعتزالهن فيه بين أهل العلم اختلاف.
فصل
في ذكر الاختلاف في السبب الباعث لهم على ذلك
فأما سبب سؤالهم النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن المحيض
فقيل إنما كان ذلك لأنهم كانوا قبل بيان الله لهم لا يساكنون حائضا ولا
يؤاكلونها ولا يشاربونها، كما كانت اليهود تفعل، فعرفهم الله تعالى بهذه
الآية أن الذي بهن في الدم لا يبلغ أن تحرم به مجامعتهن في البيوت
ولامؤاكلتهن ومشاربتهن بقوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] لأن الأذى
لا يعبر به إلا عن المكروه الذي ليس بشديد. قال الله عز وجل: {لَنْ
يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى} [آل عمران: 111] ، وقال: {إِنْ كَانَ بِكُمْ
أَذًى مِنْ مَطَرٍ} [النساء: 102] وأعلمهم أن الذي عليهم في أيام حيض
نسائهم تجنب جماعهن لا غير. والدليل على ذلك من الآية قَوْله تَعَالَى:
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}
[البقرة: 222] أي فجامعوهن
(1/122)
في موضع جماعهن. فدل ذلك على أنه إنما نهى
في حال الحيض عما نص على إباحته بعد الطهر وهو الجماع في موضع الجماع لا
غير. وقيل إنما سألوه عن ذلك لأنهم كانوا يجتنبون النساء في المحيض
ويأتونهن في أدبارهن، فلما سألوه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
ذلك أنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}
[البقرة: 222] إلى قوله {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}
[البقرة: 222] أي في الفرج لا تعدوه، وهو أظهر من القول الأول وأبين في
المعنى.
[فصل في ذكر الاعتزال المأمور به في الآية]
فصل
في ذكر الاختلاف في كيفية الاعتزال المأمور به في الآية
وأما كيفية اعتزال النساء في الحيض المأمور به في الآية ففيه لأهل العلم
ثلاثة أقوال:
أحدها اعتزال جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه على ظاهر قول الله عز وجل؛
لأنه أمر باعتزالهن عموما ولم يخص منهن شيئا دون شيء. وهذا إنما ذهب إليه
من اتبع ظاهر القرآن وجهل ما ورد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - من الآثار.
والثاني إباحة مباشرة ما فوق الإزار على ما وردت به الآثار، وعلى هذا جمهور
فقهاء الأمصار. وهو مذهب مالك وجمهور أصحابه المتقدمين والمتأخرين من
البغداديين.
والثالث إباحة كل شيء منها ما عدا الفرج على ظاهر ما روي عن عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنها قالت لمن سألها عن ذلك: كل شيء لك منها
حلال، ما عدا الفرج. وإلى هذا ذهب أصبغ فقال: إنما أمرت أن تشد عليها
إزارها لئلا يصيبه شيء من دمها في مضاجعته إياها، وجعل النهي الوارد عن
مباشرتها فيما دون الإزار من باب حماية الذرائع لئلا يجامعها في الفرج.
(1/123)
[فصل في تقسيم
ما تراه المرأة من الدم]
فصل
في تقسيم ما تراه المرأة من الدم
والدم الذي تراه المرأة ينقسم على ثلاثة أقسام: دم حيض، ودم استحاضة،
ويسمونه دم علة وفساد، ودم نفاس.
فأما دم الحيض فهو الدم الخارج من الفرج على عادة الحيض من غير علة ولا
نفاس، وهو شيء كتبه الله على بنات آدم وجعله حفظا للأنساب وعلما لبراءة
الأرحام. وقد قيل إن أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل. والأول من جهة
المعنى أظهر، والثاني من جهة النقل أصح.
وأما دم النفاس فهو الدم الخارج من الفرج على العادة عند النفاس، ويوجب ما
يوجبه الحيض ويمنع ما يمنع منه الحيض.
وأما دم الاستحاضة فهو ما زاد على دم الحيض والنفاس، وهو دم علة وفساد، فلا
حكم له على طريق الوجوب. والذي يستحب للمستحاضة على مذهب مالك وأصحابه أن
تتوضأ لكل صلاة. وقد استحب بعض العلماء لزوجها أن لا يطأها، واستحب لها
بعضهم أن تغتسل من ظهر إلى ظهر وفي البخاري عن أم حبيبة أنها كانت تغتسل
لكل صلاة، وليس في الحديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أمرها بذلك، فلعلها تبرعت بذلك احتياطا. وقال الخطابي ليس كل مستحاضة يجب
عليها الغسل لكل صلاة، وإنما يجب ذلك على التي تسمى المتحيرة وهي التي لا
تميز الدم ولا كانت لها أيام معلومة أو كان فنسيتها ولا تعرف عددها، فهذه
يجب عليها الغسل لكل صلاة لإمكان أن يكون ذلك الوقت قد صادف وقت انقطاع دم
الحيض. ومن هذه حالها من النساء فلا يطؤها زوجها وتصوم رمضان مع الناس
وتقضيه بعد ذلك لتحيط علما أن قد استوفت عدد الثلاثين يوما في وقت كان لها
أن تصوم فيه، وإن كانت حاجة طافت طوافين بينهما خمسة عشر يوما لتكون على
يقين
(1/124)
من حصول أحد الطوافين في وقت يصح لها فيه،
وهذا ليس على المذهب، وفيه نظر.
فصل فلا يتبين دم الاستحاضة من دم الحيض والنفاس إلا بمعرفة أكثر دم الحيض
والنفاس، وهو يزيد وينقص، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ
كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8]
فأخبر بنقصان ذلك وزيادته.
فصل ودم الحيض إنما هو دم يتحادر من أعماق الجسم إلى الرحم فيجمعه الرحم
طول مدة الطهر، ومن ذلك سمي الطهر قرءا من قولهم قريت الماء في الحوض إذا
جمعته فيه. قال الله عز وجل: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}
[القيامة: 17] وقال الشاعر:
ذراعي حرة أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا
أي لم تجمع في بطنها جنينا، ثم تدفعه في أيام الحيض، فقد تدفعه دفعا
متواليا متصلا، وقد تدفعه متقطعا شيئا بعد شيء. فإذا كان بين الدمين من
الأيام أيام يسيرة لا تكون طهرا فاصلا بين حيضتين علم أن الدم الثاني [من
الدم الأول وأنها حيضة واحدة تقطعت، وإن كان بينهما أيام كثيرة تكون طهرا
فاصلا علم أن الدم الثاني] ليس من الدم الأول وأنه حيضة ثانية مما تحادر
إلى الرحم وجمعته في هذا الطهر الذي قبله.
[فصل في مقادير أقل الطهر وأكثر الحيض والنفاس
وأقلهما]
فصل
في مقادير أقل الطهر وأكثر الحيض والنفاس وأقلهما والذي يحتاج إلى تفصيله
في هذا الباب معرفة أقل الطهر ليعلم بذلك الفصل بين الحيضتين وأقل الحيض
الذي [يكون حيضة] تعتد به المرأة في
(1/125)
الطلاق، وأكثر الحيض والنفاس ليعلم بذلك
الفصل بينه وبين دم الاستحاضة. وأما أكثر الطهر فلا حد له لأن المرأة ما
دامت طاهرة تصلي وتصوم ويأتيها زوجها طال زمان ذلك أو قصر. فأما أقل الطهر
فاختلف فيه على أربعة أقوال:
أحدها قول ابن الماجشون وروايته عن مالك أن أقله خمسة أيام، فكلما قل الطهر
كثر الحيض، وكلما قل الحيض كثر الطهر. وهو قول ضعيف لأنه يقتضي أن المرأة
قد تحيض أكثر من نصف دهرها وذلك يرده الأثر.
والثاني قول سحنون وهو دليل المدونة على ما تأوله ابن أبي زيد إن أقله
ثمانية أيام.
والثالث رواية التونسي عن مالك ورواية أصبغ عن ابن القاسم أن أقله عشرة
أيام.
والرابع قول محمد بن مسلمة أن أقله خمسة عشر يوما. وهذا القول الرابع له حظ
من القياس، وهو أن الله تبارك وتعالى جعل عدة الحرائر ذوات الأقراء في
الطلاق ثلاثة قروء فقال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وجعل عدة اليائسة من المحيض ثلاثة أشهر
فقال: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ}
[الطلاق: 4] فجعل بإزاء كل شهر طهرا وحيضا، فلا يخلو ذلك من أربعة أقسام:
أحدها أن يكون أكثر الحيض وأكثر الطهر. والثاني أن يكون أقل الطهر وأقل
الحيض. والثالث أن يكون أكثر الطهر وأقل الحيض. والرابع أن يكون أقل الطهر
وأكثر الحيض. فأكثر الطهر وأكثر الحيض أو أقل الطهر وأقل الحيض لا يصح؛ لأن
الطهر لا حد لأكثره، وأقل الطهر وأقل الحيض لا يصح؛ لأن أقل الطهر أكثر ما
قيل فيه خمسة عشر يوما، وأقل الحيض أكثر ما قيل فيه خمسة أيام، فيبقى من
الشهر عشرة أيام. فإذا بطلت هذه الثلاثة الأقسام لم يبق إلا القسم الرابع
وهو أن يكون بإزاء الشهر أقل الطهر وأكثر
(1/126)
الحيض باتفاق خمسة عشر يوما، فإذا نقصتها
من الشهر بقي منه أقل الطهر وذلك خمسة عشر يوما. وأما سائر الأقاويل فلا حظ
لها في القياس وإنما أخذت من عادة النساء؛ لأن كل ما وجب تحديده في الشرع
ولم يرد به نص لزم الرجوع فيه إلى العادة، كنفقة الزوجات وشبه ذلك. وقد حكى
أحمد بن المعدل عن ابن الماجشون أنه وجد من النساء مت يكون طهرها خمسة أيام
وعرف ذلك بالتجربة من جماعة النساء.
وأما أكثر الحيض فخمسة عشر يوما. والأصل في ذلك ما روي «عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خطب النساء فقال: إنكن ناقصات عقل ودين
فقالت امرأة منهن ما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله فقال إن إحداكن تمكث
نصف عمرها أو شطر عمرها لا تصلي فذلك نقصان دينكن» . فساوى - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ما تصلي فيه وبين ما لا تصلي فيه فجعلا
شطرين، وذلك يقتضي أن لا يكون الحيض أكثر من خمسة عشر يوما كل شهر؛ لأن
الحديث خرج مخرج الذم لهن، فدل على أنه إنما قصد إلى ذكر أقصى ما يتركن
الصلاة فيه بسبب الحيض.
هذا قول مالك وأصل مذهبه. وقد قال إن المرأة إذا تمادى بها الدم استظهرت
بثلاثة أيام على أكثر أيامها ثم اغتسلت وصلت وصامت، ولم يبين إن كان يطؤها
زوجها فيما بينها وبين الخمسة عشر يوما ويكون حكمها حكم المستحاضة أم لا.
واختلفت تأويلات أصحابنا عليه في ذلك. فمنهم من قال إن اغتسالها بعد
الاستظهار استحسان واحتياط للصلاة، ولا يطؤها زوجها حتى تتم خمسة عشر يوما
فتطهر طهرا آخر واجبا، وهو دليل رواية ابن وهب عن مالك قوله فرأيت أن أحتاط
لها فتصلي وليس ذلك عليها أحب إلي من أن تترك الصلاة وهي عليها. فإذا بنى
قوله على الاحتياط فمن الاحتياط ترك وطئها قبل الخمسة عشر يوما وإيجاب
الغسل عليها إذا أكملت الخمسة عشر يوما وقضاء الصيام. ومنهم من ذهب إلى
أنها إذا اغتسلت وصلت وصامت أجزأها صومها ووطئها زوجها وكان حكمها حكم
المستحاضة، فلا يجب عليها غسل عند تمام الخمسة عشر يوما إلا
(1/127)
استحسانا، وهو دليل ما في كتاب الحج الثالث
من قوله في الحائض في الحج إن الكري يحبس عليها أقصى ما يمسكها الدم
والاستظهار، فدل أنها تطوف بعد الاستظهار كالمستحاضة، وإن كان ابن أبي زيد
قد تأول أن الكراء يفشى بينها وبين الكري إن تمادى بها الدم بعد الاستظهار
وهو بعيد. فعلى هذا التأويل في أكثر الحيض لمالك قولان: أحدهما أكثره خمسة
عشر يوما. والثاني أن أكثر حيض كل امرأة أيامها المعتادة مع الاستظهار ما
بينها وبين خمسة عشر يوما. وأبو حنيفة يرى أن أكثر الحيض عشرة أيام، وهو
قول لا يعضده أثر ولا يوجبه نظر.
وأما أقل الحيض فاختلف فيه على ستة أقوال:
أحدها ألا حد له من الأيام، وأن الدفعة واللمعة حيض. فإن كان قبله طهر فاصل
وبعده طهر فاصل كان حيضة تعتد به المطلقة في أقرائها، وإن لم يكن قبله طهر
فاصل لم يكن حيضة وكان حيضا مضافا إلى الدم الذي قبله. وإن كان قبله طهر
فاصل ولم يكن بعده طهر فاصل لم يكن حيضة أيضا وكان مضافا إلى ما بعده من
الدم. هذا مذهب مالك.
والثاني أن أقل الحيض ثلاثة أيام في العدة والاستبراء، وما دونه يكون حيضا
يمنع الوطء ويمنع الصيام من غير أن يسقط وجوبه، ويمنع الصلاة ويسقط وجوبها،
وهو قول ابن مسلمة.
والثالث أن أقل الحيض خمسة أيام، يريد في العدة والاستبراء، فلا اختلاف في
المذهب أن ما تراه المرأة من الدم في وقت يصح فيه الحيض منها يكون حيضا
يمنع الوطء والصيام والصلاة ويسقط وجوب الصلاة. وإنما الاختلاف فيه إذا كان
أقل من ثلاثة أيام وخمسة أيام هل يكون حيضة يعتد بها في الطلاق على ما
بيناه. والرابع مذهب أهل العراق أن أقل الحيض ثلاثة أيام وما دون الثلاثة
الأيام لا يحكم لها بحكم الحيض فتقضي المرأة صلاة تلك الأيام.
والخامس مذهب الشافعي أن أقل الحيض يوم وليلة. وروي عن علي بن
(1/128)
أبي طالب أن أقل الحيض يومان، وهذا كله
بعيد؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ
هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فلو
كان لا يعلم كون الدم حيضا قبل تقضي وقته ثلاثة أيام أو يوم وليلة لكان
الأمر باعتزالهن مشروطا بما لا طريق إلى العلم بحصوله إلا بعد تقضيه، وذلك
باطل.
فصل وأما النفاس فلا حد لأقله عندنا وعند أكثر الفقهاء، وذهب أبو يوسف إلى
أن أقل النفاس خمسة عشر يوما فرقا بينه وبين أكثر الحيض، وأما أكثره فاختلف
قول مالك فيه، فقال مرة ستون يوما، وقال مرة يسأل النساء عن ذلك [ولم يحد
له حدا، وقال ابن الماجشون: لا يسأل النساء عن ذلك اليوم] ؛ لتقاصر أعمالهن
وقلة معرفتهن، وقد سئل النساء عن ذلك قديما فقلن أقصاه من الستين إلى
السبعين، والاقتصار على الستين أحسن، وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة:
أكثره أربعون يوما، وقد قيل إنه إجماع من الصحابة، وذكر عن الحسن أن أكثره
خمسون يوما.
فصل وأما الاستحاضة فلا حد لأكثرها ولا لأقلها عند الجميع، وبالله التوفيق.
فصل فيما تراه المرأة من الدم على اختلاف أحوالها وما تراه المرأة من الدم
محمول على أنه دم حيض ومحكوم له بحكمه حتى يعلم أنه ليس دم حيض؛ بأن تراه
المرأة في مدة الاستحاضة أو في حال لا يشبه أن يكون حيضا من صغر أو كبر.
وبيان هذه الجملة أن النساء الواجدات للدم خمس: طفلة صغيرة لا يشبه أن
تحيض، ويفعة مراهقة يشبه أن تحيض، [وبالغة في سن من تحيض، ومسنة يشبه ألا
تحيض، وعجوز لا يشبه أن تحيض] .
(1/129)
فأما الطفلة الصغيرة فما رأت من الدم حكم
له بأنه دم علة وفساد؛ لانتفاء الحيض مع الصغر، وليس لها حد من السن إلا ما
يقطع النساء أن مثلها لا تحيض.
وأما اليفعة التي تشبه أن تحيض فما رأت من الدم حكم له بأنه حيض وكان ذلك
دلالة على البلوغ.
وأما البالغة فما رأت من الدم حكم له بأنه حيض إلا أن تراه في مدة
الاستحاضة، وذلك أن ترى الدم خمسة عشر يوما ثم ينقطع ثم يعود بعد يومين أو
ثلاثة قبل مضي أقل مدة الطهر فهذا دم استحاضة، إذ لا يمكن أن يضاف إلى
الحيضة المتقدمة ولا أن يجعل حيضة مستأنفة، إذ لا فاصل بينهما من الأيام.
وأما المسنة التي يشبه أن لا تحيض فما رأت من الدم حكم له بحكم الحيض؛ لأن
الله تعالى قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}
[البقرة: 222] فأخبر أن المحيض هو الأذى الخارج من الفرج، فإذا احتمل سن من
وجد بها ذلك الأذى أن تحيض حكم له بأنه دم حيض.
وأما العجوز التي لا يشبه أن تحيض فما رأت من الدم حكم له بأنه دم علة
وفساد؛ لانتفاء الحيض مع الكبر كما ينتفي مع الصغر، وليس لذلك أيضا حد من
السنين إلا ما يقطع النساء على أن مثلها لا تحيض. ألا ترى أن بنت سبعين
وبنت ثمانين لا تحيض.
فصل فإن تمادى بالمرأة الدم المحكوم له بأنه دم حيض ففي ذلك ستة أقوال:
أحدها أنها تبقى أيامها المعتادة وتستظهر بثلاثة أيام ثم تكون مستحاضة
تغتسل وتصلي وتصوم وتطوف إن كانت حاجة مباحة ويأتيها زوجها، ما لم تر دما
تنكره بعد مضي أقل مدة الطهر من يوم حكم باستحاضتها، وهو ظاهر رواية ابن
القاسم عن مالك في المدونة؛ لأنه قال في الحج: إن الكري لا يحبس عليها إلا
أيامها المعتادة
(1/130)
والاستظهار. فظاهر قوله أنها تطوف بعد
الاستظهار وقبل تمام الخمسة عشر يوما كالمستحاضة، وعلى هذه الرواية تغتسل
عند تمام الخمسة عشر يوما استحبابا لا إيجابا.
والقول الثاني: أنها تقعد أيامها المعتادة والاستظهار، ثم تغتسل استحبابا،
وتصلي احتياطا، وتصوم وتقضي الصيام، ولا يطؤها زوجها، ولا تطوف طواف
الإفاضة إن كانت حاجة، إلى تمام الخمسة عشر يوما. فإذا بلغت الخمسة عشر
يوما اغتسلت إيجابا، وكانت مستحاضة، وهذا دليل رواية ابن وهب عن مالك في
كتاب الوضوء من المدونة.
والقول الثالث: أنها تقعد إلى تمام الخمسة عشر يوما، ثم تغتسل وتصلي وتكون
مستحاضة.
والقول الرابع: أنها تقعد أيامها المعتادة، ثم تغتسل وتصلي وتكون مستحاضة
من غير استظهار، وهو قول محمد بن مسلمة.
والقول الخامس: أنها تقعد أيامها المعتادة، ثم تغتسل وتصلي وتصوم ولا
يأتيها زوجها، فإن انقطع عنها الدم ما بينها وبين خمسة عشر يوما علم أنها
حيضة انتقلت ولم يضرها ما صامت ولا ما صلت، يريد وتغتسل عند انقطاعه، وإن
تمادى بها الدم على خمسة عشر يوما علم أنها كانت مستحاضة، وأن ما مضى من
الصيام والصلاة في موضعه، ولم يضره امتناعه من الوطء هذا في المعتادة.
وأما المبتدأة أيضا ففيها خمسة أقوال كالمعتادة؛ لأن عادة لداتها في الحيض
تجعل كعادة لها، إلا أن ابن القاسم يقول في المبتدأة كقول محمد بن مسلمة في
المعتادة، فلا يرى أن تستظهر بثلاثة أيام، وروي عن نافع أنها تستظهر بثلاثة
أيام وإن زاد على خمسة عشر يوما، وهو شذوذ من القول، وهو القول السادس.
(1/131)
واختلف إن اختلفت أيامها المعتادة فالمشهور
أنها تستظهر على أثر أيامها، وقال ابن حبيب: إنها تستظهر على أقل أيامها،
وذهب ابن لبابة إلى أنها تغتسل عند أقل أيامها من غير استظهار وتكون
مستحاضة، وهو خطأ صراح يرده القرآن ويبطله الاعتبار.
فصل والحيض قد تتصل أيامه وقد تتقطع على ما بيناه من أن الرحم يثج الدم
المجتمع فيه في مدة القرء ثجا متصلا، وقد يثجه شيئا بعد شيء، وقد مضى القول
في اتصاله، وأما انقطاعه فحكمه أن تلفق فيه أيام الدم وتلغي أيام الطهر،
فإذا اجتمع في أيام الدم أيامها المعتادة والاستظهار أو خمسة عشر يوما على
الاختلاف الذي قدمنا ذكره كانت مستحاضة، ولم تلتفت إلى الدم الذي تراه بعد
ذلك ما بينها وبين مضي أقل مدة الطهر من اليوم الذي حكم فيه باستحاضتها،
وتغتسل متى ما انقطع عنها وتصلي وتصوم، وتعد اليوم الذي ترى الدم في بعضه
من أيام الدم لا من أيام الطهر، وإن لم تر الدم فيه إلا ساعة أو لمعة، ولا
تلفق أيام الطهر في مذهب مالك وأصحابه، حاشى محمد بن مسلمة فإنه ذهب إلى
أنها تلفق أيام الدم وأيام الطهر، فتكون في أيام الدم حائضا وفي أيام الطهر
طاهرا أبدا إن ساوت أيام الدم أيام الطهر أو كانت أقل منها، مثل أن تحيض
يوما وتطهر يوما، أو تحيض يومين وتطهر يومين، وأما إن كانت تحيض يومين
وتطهر يوما، فتلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر وتكون مستحاضة إذا اجتمع من
أيام الدم أيامها المعتادة؛ لأنه لا يقول بالاستظهار على ما قدمناه عنه،
وكذلك الحكم في النفاس إذا تقطع دمه ولم يتصل، أعني أنها تلفق أيام الدم
وتلغي أيام الطهر حتى تبلغ أقصى مدة النفاس على الاختلاف في حد ذلك، ثم
تكون مستحاضة إن زاد الدم على ذلك الأكثر، إذ لا استظهار فيه كالحيض الذي
هو جار على عادة وله أيام معتادة ولا يساويه في المدة. وانظر هل يصح أن
تلفق فيه أيام الطهر على مذهب ابن مسلمة، ولا يبعد ذلك عندي.
(1/132)
فصل ودم الحيض دم أسود غليظ، ودم الاستحاضة
دم أحمر رقيق، يدل على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي
الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصلي» .
فصل والصفرة والكدرة محكوم لهما بحكم الدم، فإن وجدتا في أيام الحيض كانتا
حيضا، وإن وجدتا في أيام النفاس كانتا نفاسا، وإن وجدتا في أيام الاستحاضة
كانتا استحاضة. هذا قولنا وقول الشافعي وأبي حنيفة، وحكى الطحاوي عن أبي
يوسف أنه لا يكون حيضا إلا أن يتقدمه الدم يوما وليلة، وهو دليل قول ابن
شهاب في المدونة، ولا تصلي المرأة ما دامت ترى من الترية شيئا إذا كانت
الترية عند الحيضة أو الحمل، وحكي عن بعض الفقهاء أنه لا يكون حيضا إلا أن
يوجد في الأيام المعتادة، فإن وجدته المبتدأة أو المعتادة بعد انقضاء أيام
عدتها أو في غير أيام العادة بعد مضي أقل أيام الطهر لم يكن حيضا، بخلاف
الدم لو وجد في هذه المواضع، والدليل على صحة قولنا وفساد هذا القول: ما
روي أن النساء كن يبعثن إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -
بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيض فتقول لهن لا تعجلن حتى ترين
القصة البيضاء.
فصل وللطهر علامتان: الجفوف والقصة البيضاء. وقد اختلف أيهما أبرأ. فعند
(1/133)
ابن القاسم أن القصة البيضاء أبرأ، فإن
كانت ممن تراها فلا تغتسل بالجفوف حتى تراها إلا أن يطول ذلك بها، وقال ابن
عبد الحكم: إن الجفوف أبرأ فلا تغتسل إذا رأت القصة البيضاء حتى ترى الجفوف
إلا أن يطول ذلك بها، وحكي ابن حبيب عن ابن القاسم ومطرف في المبتدأة أن لا
تغتسل حتى ترى الجفوف، ثم تعمل بعد على ما يظهر من أمرها، ونقل عبد الوهاب
في الشرح عنهما أنها إن رأت الجفوف تطهرت به، ثم تراعى بعد ما يظهر من
أمرها من جفوف أو قصة، وقال: إن هذا هو القياس؛ لأنهما جميعا علامتان،
فأيهما وجدت قامت مقام الأخرى، ولا فرق بين المبتدأة وغيرها في ذلك، ونقله
أصح في المعنى وأبين في النظر مما حكى ابن حبيب عنهما؛ لأنه كلام متناقض في
ظاهره.
فصل والحامل تحيض عندنا خلافا لأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه، ولنا على
ذلك أدلة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. فإن تمادى بها الدم ففي ذلك ثمانية
أقوال:
أحدها: أنها تبقى أيامها المعتادة من غير استظهار ثم تغتسل وتصلي.
والثاني: أنها تستظهر على أيامها المعتادة.
والثالث: أنها تبقى إلى خمسة عشر يوما.
والرابع: التفرقة بين أول الحمل وآخره، فتمسك عن الصلاة في أول الحمل
الخمسة عشر يوما ونحو ذلك، وفي آخره العشرين يوما ونحو ذلك. وقيل: [إنها
تمسك عن الصلاة في أول الحمل ما بين الخمسة عشر يوما إلى العشرين] ، وفي
آخره ما بين العشرين إلى الثلاثين، هو القول الخامس.
(1/134)
والسادس: أن تمسك عن الصلاة ضعف أيامها
المعتادة.
والسابع: أنها إن أصابها ذلك في أول شهر من شهور الحمل أمسكت عن الصلاة قدر
أيامها المعتادة، وإن أصابها ذلك في الشهر الثاني تركت الصلاة ضعف أيامها
المعتادة، وإن أصابها ذلك في الشهر الثالث تركت الصلاة ثلاثة أمثال أيامها
المعتادة، وإن أصابها ذلك في الشهر الرابع تركت الصلاة أربعة أمثال أيامها
المعتادة، هكذا أبدا ما لم تجاوز أكثر مدة دم النفاس.
والثامن: تفرقة أشهب في الاستظهار بين أن تستريب من أول ما حملت أو لا
تستريب. وفي المسألة قول تاسع حكاه ابن لبابة، وهو أن تترك الصلاة عدد
الأيام التي كانت تحيضهن من أول الحمل ما بلغت، من رواية أصبغ عن مالك من
الثمانية.
فصل ودم الحيض والنفاس يمنع من خمسة عشر شيئا، العشرة الأشياء منها متفق
عليها، والخمسة مختلف فيها.
فأما العشرة المتفق عليها، فأحدها: رفع حكم الحدث من جهتهما، لا خلاف أن
التطهر منهما لا يرفع حكم الحدث ماداما متصلين وإنما يرفعه بعد انقطاعهما.
والثاني: وجوب الصلاة، لا خلاف أن الصلاة ساقطة عن الحائض والنفساء.
والثالث: صحة فعلهما، لا خلاف أن الحيض والنفاس لا يصح معهما فعل الصلاة.
والرابع: صحة فعل الصيام من غير إسقاط وجوبه، لا خلاف أن الحيض والنفاس لا
يصح معهما الصيام. والخامس: مس المصحف، وفي ذلك اختلاف شاذ في غير المذهب.
والسادس: الوطء في الفرج، لا خلاف بين الأمة أن ذلك محظور في حال الحيض
والنفاس. والسابع: دخول المسجد، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» . والثامن: الطواف
(1/135)
بالبيت. والتاسع: الاعتكاف. والعاشر: منع
صلاة ما عدا الصلوات الخمس من السنن والفضائل والنوافل.
والخمسة المختلف فيها: أحدها: الوطء فيما دون الفرج أباحه أصبغ من أصحابنا
وجعل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله:
«لتشد عليها إزارها ثم شأنه بأعلاها» من باب حماية الذرائع. والثاني: قراءة
القرآن ظاهرا اختلف فيه قول مالك. والثالث: رفع الحدث من غيرهما، قيل إنهما
يمنعانه فلا يكون للمرأة إذا أجنبت ثم حاضت أن ترفع حكم الجنابة عنها
بالاغتسال لتقرأ القرآن ظاهرا. وقيل إن حكم الجنابة مرتفع مع الحيض، فيكون
لها أن تقرأ القرآن ظاهرا وإن لم تغتسل للجنابة وهو الصواب. وقيل إنهما لا
يمنعانه فيكون لها إذا أجنبت ثم حاضت أن ترفع حدث الجنابة بالغسل فتقرأ
القرآن ظاهرا لبقاء حدث الحيضة عليها خاصة. فيأتي في المرأة تجنب ثم تحيض
ثلاثة أقوال: أحدها: أن لها أن تقرأ القرآن ظاهرا وإن لم تغتسل للجنابة.
والثاني: أنه ليس لها أن تقرأ القرآن ظاهرا وإن اغتسلت للجنابة. والثالث:
أنه ليس لها أن تقرأ القرآن ظاهرا إلا أن تغتسل للجنابة. والرابع: منع
وطئها إذا رأت النقاء قبل أن تغتسل بالماء. والخامس: منع استعمال فضل
مائها، اختلف في ذلك قول عبد الله بن عمر، فقال في أحد قوليه: لا بأس بفضل
المرأة ما لم تكن حائضا أو جنبا وبالله تعالى التوفيق.
(1/136)
|