المقدمات
الممهدات [كتاب الصلاة] [فصل
في معرفة اشتقاق اسم الصلاة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا ومولانا محمد
نبيه الكريم
وعلى آله وصحبه كتاب الصلاة فصل
في معرفة اشتقاق اسم الصلاة أصل الصلاة في اللغة: الدعاء. قال الله عز وجل:
{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ
الرَّسُولِ} [التوبة: 99] أي: دعاءه، وقال الله تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] أي: ادع لهم {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}
[التوبة: 103] أي: إن دعواتك سكن لهم، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاء الناس بصدقاتهم يدعو لهم. «قال عبد الله ابن
أبي أوفى: فجئت مع أبي بصدقته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى» . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فسميت
الصلاة بذلك لما فيها من الدعاء، إذ هي طاعة لله ووسيلة إليه، وموضع للرغبة
في مغفرته ورحمته ودخول جنته. ألا ترى أن
(1/137)
الصلاة على الميت لما كانت دعاء له سميت
صلاة وإن لم يكن فيها ركوع ولا سجود. قال الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى
أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] .
وقد قيل: إن الصلاة مأخوذة من الصلوين وهما عرقان في الردف ينحنيان في
الركوع والسجود، ولذلك كتبت الصلاة في المصحف بالواو. وقيل: إنها مأخوذة من
قولهم صليت العود إذا قومته؛ لأن الصلاة تحمل الإنسان على الاستقامة وتنهى
عن المعصية. قال الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] . وقيل: إنها مأخوذة من الصلة؛ لأنها تصل
بين العبد وبين خالقه، بمعنى أنها تدنيه من رحمته وتوصله إلى كرامته وجنته،
والأول هو المشهور المعروف أن الصلاة مأخوذة من الدعاء.
فصل فالصلاة في اللغة عبارة عن الدعاء، وهي في الشرع واقعة على دعاء مخصوص
في أوقات محدودة تقترن به أفعال مشروعة.
فصل وقد اختلف في قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] وما أشبه ذلك من ألفاظ
الصلاة الواردة في القرآن. فقيل: إنها مجملة لا يفهم المراد بها من لفظها
وتفتقر في البيان إلى غيرها، فلا يصح الاستدلال بها على صفة ما أوجبته، وهو
ظاهر قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الحج، قوله: الحج كله في كتاب
الله، والصلاة والزكاة ليس لها في كتاب الله بيان، ورسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك وسن ذلك في أخرى. وقد قيل: إنها عامة
يصح الاستدلال بها على ذلك، ويجب حملها على عمومها في كل ما تناوله الاسم
من أنواع
(1/138)
الدعاء إلا أن الشرع قد خصها في نوع من
الدعاء على وجه مخصوص تقترن به أفعال مشروعة من قيام وجلوس وركوع وسجود
وقراءة وما أشبه ذلك.
فصل فالصلاة من معالم الإسلام، وهي تنقسم على خمسة أقسام: منها فرض واجب من
فروض الأعيان، ومنها فرض على الكفاية، ومنها سنة، ومنها فضيلة، ومنها
نافلة. فأما الفرض المتعين على الأعيان فهي الصلوات الخمس أوجبها الله
تعالى على عباده وذكر فرضها في آيات متعددة من كتابه، وتوعد على إضاعتها،
وأمر بالمحافظة عليها، فقال الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] ، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}
[المؤمنون: 2] ، وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9]
{عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 10] ، وقال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ} [المدثر: 42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43]
{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44] ، وقال تعالى: {إِنَّ
الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:
103] ، وقال عز وجل: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ
فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] ، وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
[البقرة: 238] .
(1/139)
فصل وقد اختلف في الصلاة الوسطى: فقيل:
إنها الصبح، وهذا مذهب مالك. ودليله على ذلك أن قبلها صلاتين من الليل
وبعدها صلاتين من النهار وهي وسطهن منفردة بوقت لا يشاركها فيه غيرها من
الصلوات. وأيضا فإنها صلاة يضيعها الناس كثيرا لنومهم عنها وعجزهم عن
القيام لها فخصت بالتأكيد لهذه العلة. وقيل: إنها صلاة العصر، وهو قول أكثر
الرواة، منهم الشافعي وأبو حنيفة. وروي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - أنه قال يوم الخندق: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر
ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا» أو كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهي الصلاة التي فتن عنها نبي الله سليمان -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى توارت الشمس بالحجاب. قال الله تبارك وتعالى:
{إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31] الآية إلى قوله {فَطَفِقَ مَسْحًا
بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص: 33] وقال من ذهب إلى هذا في قراءة عائشة
وحفصة وصلاة العصر بالواو: إن المعنى في ذلك وهي صلاة العصر؛ لقول الله عز
وجل: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ،
وقد روى عنهما صلاة العصر بغير واو على البدل. وقد قيل: إنها الظهر، وهو
قول لا دليل لقائله، إلا أن يوجد في ذلك أثر عن النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فيرجع إليه. وما قيل من أنه إنما قيل لها وسطى؛
لأنها تصلى في وسط النهار بعيد؛ لأن لفظ وسطى إنما يحتمل أحد معنيين: إما
متوسطة بين أخواتها من الصلوات، وإما فاضلة من قولهم فلان أوسط القوم يعني
أفضلهم. قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}
[البقرة: 143] أي: خيارا عدولا. وقال: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28]
أي: أعدلهم وأفضلهم {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:
28]
(1/140)
وقيل: إنها المغرب. ودليل من ذهب إلى ذلك
أنها ثلاث ركعات فلا نظير لها من الصلوات، وأن أول الصلوات الظهر؛ لأنها
أول صلاة صلاها جبريل بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين
فرضت الصلاة، وبذلك سميت الأولى. وقيل: إنها الجمعة. وهذا الاختلاف كله يدل
والله أعلم على أن الله خصها بالذكر وأبهمها ليكون ذلك سببا للمحافظة عليها
كلها كليلة القدر. وأحسب أني قد رأيت لبعض العلماء أنها العشاء الآخرة ولا
أحقق ذلك في وقتي هذا.
فصل والصلوات الخمس أحد دعائم الإسلام الخمس، قال النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا
الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت من استطاع
إليه سبيلا» .
فصل
فمن جحد فرض الصلاة فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكان ماله للمسلمين
كالمرتد إذا قتل على ردته بإجماع من أهل العلم لا اختلاف بينهم فيه. وأما
من أقر بفرضها وتركها عمدا من غير عذر، فاختلف أهل العلم فيه على ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه كافر ينتظر به آخر وقت الصلاة، فإن صلى وإلا قتل، وكان ماله
لجميع المسلمين كالمرتد، روي هذا عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس
وجابر بن عبد الله وأبي الدرداء، وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب: " ولاحظ في
الإسلام لمن ترك الصلاة "، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أن من
ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها فهو كافر حلال الدم إن لم يتب،
ويستتاب فإن تاب وإلا قتل، وكان ماله لجميع المسلمين كالمرتد إذا قتل على
ردته.
(1/141)
فصل واستتابته إذا أبى من الصلاة أن ينتظر
به حتى يخرج وقتها. والوقت في ذلك للظهر والعصر إلى غروب الشمس، وللصبح إلى
طلوع الشمس، وللمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر. وقال إسحاق بن راهويه: وقد
أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع، وهو أن من عرف
بالكفر ثم رئي يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة في أوقاتها ولم
يعلم أنه أقر بالتوحيد بلسانه فإنه يحكم له بالإيمان، بخلاف الصوم والزكاة
والحج يريد، والله أعلم، أنه كما يحكم له بفعل الصلاة بحكم الإيمان
والإسلام، فكذلك يحكم له إذا تركها بحكم الكفر والارتداد. وهو قول أحمد بن
حنبل: إنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة إلا بترك الصلاة عمدا. وحجة من
ذهب إلى هذا: ظواهر الآثار الواردة عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - بتكفير تارك الصلاة. من ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من ترك الصلاة فقد حبط عمله» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس بين العبد وبين الكفر أو قال الشرك إلا ترك
الصلاة» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك الصلاة
حشر مع هامان وفرعون» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من
صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله. ومن أبى فهو كافر
وعليه الجزية» . وقال ابن حبيب: من ترك الصلاة مفرطا فيها أو مكذبا بها أو
مضيعا لها فهو كافر في تركه إياها، وكذلك أخوات الصلاة من الصيام والزكاة
والحج. وحجته في ذلك: ظواهر الآثار المذكورة في الصلاة، وقول أبي بكر
الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ -: والله لأقاتلن من
فرق بين الصلاة والزكاة. وانفرد ابن حبيب بهذا من بين سائر أهل العلم.
والقول الثاني: هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأكثر أهل العلم، أن من ترك
الصلاة وأبى من فعلها وهو مقر بفرضها، فليس بكافر، ولكنه يقتل على ذنب من
(1/142)
الذنوب لا على كفر، ويرثه ورثته من
المسلمين. والحجة لهم: قول أبي بكر الصديق في جماعة من الصحابة في الذين
منعوا زكاة أموالهم: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فقاتلهم ولم
يسبهم؛ لأنهم لم يكفروا بعد الإيمان ولا أشركوا بالله، وقالوا لأبي بكر: ما
كفرنا بعد إيماننا ولكننا شححنا على أموالنا. وقول النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نهيت عن قتل المصلين» ، فدل ذلك على أنه قد
أمر بقتل من لم يصل. وما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «سيكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد
سلم، ولكن من رضي وتابع " قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم قال: " لا ما
صلوا الخمس» ، فدل ذلك على أن من لم يصل الخمس قوتل. وقوله «في مالك بن
الدخشن: " أليس يصلي " قالوا: بلى ولا صلاة له، قال: " أولئك الذين نهانا
الله عنهم» فدل على أنه لو لم يصل لم يكن من الذين نهاه الله عن قتلهم، بل
كان يكون ممن أمر الله بقتلهم. فدلت هذه الآثار كلها على القتل ولم تدل على
الكفر. وتأولوا الآثار الواردة بتكفير من ترك الصلاة في ظاهرها على ما
تأولوا عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يزني الزاني
حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن» ، وعلى ما تأولوا عليه
«سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وعلى ما تأولوا عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» . وقد
روي عن عبد الله بن عباس أنه قال: ليس [سباب المسلم] بالكفر الذي
(1/143)
يذهبون إليه أنه كفر ينقل عن الملة ولكنه
كفر ليس ينقل عن الملة ثم تلا قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
[المائدة: 44] .
والقول الثالث: أن من ترك الصلاة فسقا وتهاونا من غير أن يبتدع دينا غير
الإسلام، فإنه يضرب ضربا مبرحا، ويسجن حتى يتوب ويرجع ولا يقتل، قاله ابن
شهاب وجماعة من سلف الأمة، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وبه قال داود ومن
اتبعه. وحجة هؤلاء ومن قال بقولهم: قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة
فمن جاء بهن لم يضيع» الحديث، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني
دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . قالوا: وقد بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقها ما هو فقال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى
ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس» .
فصل وفرض الله تعالى على نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
الصلوات الخمس في السماء حين الإسراء بخلاف سائر الشرائع، وذلك يدل على
حرمتها وتأكد وجوبها. واختلف كيف فرضت فروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهَا - أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر
فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. وقيل: إنها فرضت أربع ركعات ثم قصر
منها ركعتان في السفر، ويؤيد هذا ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة» .
ووضع لا يكون إلا من تمام.
(1/144)
وكان بدء الصلاة قبل أن تفرض الصلوات الخمس
ركعتين غدوا وركعتين عشيا. وروي عن الحسن في قول الله سبحانه وتعالى:
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر: 55] ،
أنها صلاته بمكة حين كانت الصلاة ركعتين غدوا وركعتين عشيا، فلم يزل فرض
الصلاة على ذلك ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
والمسلمون بمكة تسع سنين، فلما كان قبل الهجرة بسنة أسرى الله بعبده ورسوله
- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - ليلا من المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى، ثم عرج به جبريل من بيت المقدس إلى سماء الدنيا، ثم مضى به
من سماء إلى سماء حتى انتهى به إلى السماء السابعة ثم إلى سدرة المنتهى،
فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه عند ذلك وعلى أمته أن يصلوا كل يوم
وليلة خمسين صلاة قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«فلما انصرفت بهن لقيت موسى بن عمران في السماء السادسة، فقال: بماذا أمرت
فقلت: أمرت بخمسين صلاة في كل يوم وليلة، فقال لي: إن أمتك لا تطيق ذلك وقد
بلوت الناس قبلك وقاسيت بني إسرائيل أشد المقاساة لقد فرضت عليهم صلاتان في
كل يوم وليلة فما أطاقوهما، فارجع إلى ربك وسله التخفيف عن أمتك، ففعلت،
فجعلها ربي أربعين صلاة، فمررت بموسى، فقال لي: ما فعلت، فقلت: جعلها ربي
أربعين صلاة، فقال: سله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فما زلت أنطلق بين
ربي وموسى وينقصها حتى جعلها خمس صلوات، ثم قال لي: قد أمضيت فريضتي وخففت
عن أمتك وجعلت لهم الحسنة بعشر أمثالها فخمس بخمسين، فعلمت أنها عزمة من
ربي» . فمعنى قوله خمس بخمسين أنها خمس في العدد وخمسون في تضعيف الحسنات،
جعل الصلاة بعشرة وجعل سائر الحسنات، بسبب ما كان من فرض الصلوات كل حسنة
بعشرة أمثالها، تفضلا منه لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وأمته ولم يعط ذلك نبي قبله.
فصل
وذكر الله تبارك وتعالى الصلاة بركوعها وسجودها وقيامها وقراءتها وأوقاتها
(1/145)
وأسمائها فقال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] ، ففي الطرف
الأول صلاة الصبح، وفي الطرف الثاني صلاة الظهر والعصر، وزلفا من الليل
المغرب والعشاء، وقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى
غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] ، فدلوك الشمس ميلها وذلك وقت صلاة الظهر
والعصر، وغسق الليل اجتماعه وظلمته، وذلك وقت صلاة المغرب والعشاء،
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:
78] يعني أن صلاة الصبح يشهدها مع الناس ملائكة الليل وملائكة النهار. قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يتعاقبون فيكم ملائكة
بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين
باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم
يصلون وأتيناهم وهم يصلون» وقال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ
تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] ،
فقوله حين تمسون يريد المغرب والعشاء، وحين تصبحون صلاة الصبح، وعشيا
العصر، وحين تظهرون صلاة الظهر، وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] فقبل طلوعها صلاة
الصبح، وقبل غروبها صلاة الظهر والعصر، وقال تعالى في الركوع والسجود:
{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ، وقال تعالى في القيام: {وَقُومُوا
لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وقال تعالى في القراءة: {وَإِذَا
قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ؛ لأن
معناه في الصلاة، وقال تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ
بِهَا} [الإسراء: 110] يعني لا تجهر بقراءتك في الصلاة حتى يسمعك المشركون
لئلا
(1/146)
يسبوا قراءتك، ولا تخافت بها حتى لا يسمعك
أصحابك، وقيل: معناه في الدعاء والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل إلا أن هذا كله مجمل أجمله الله في كتابه فلم يحد فيها الأوقات، ولا
بين فيه عدد السجدات والركعات، ولا شيئا من رتبة عملها في القيام والجلوس.
فلو تركنا وظاهر ما في القرآن لم يصح لنا منه امتثال ما أمرنا به من إقامة
الصلاة، لكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بين ما أجمل
الله تعالى في كتابه من ذلك قولا وعملا كما أمره الله سبحانه وتعالى حيث
يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مواقيت الصلاة، وعدد الركعات والسجدات، وصفة جميع الصلوات، وما
لا تصح إلا به من الفرائض، وما يستحب فيها من السنن والفضائل، ونقلت ذلك
عنه الكافة عن الكافة، ولم يمت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى
بين جميع ما بالناس الحاجة إلى بيانه، فكمل الدين. قال الله عز وجل:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] نزلت هذه الآية على
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع يوم الجمعة في
يوم عرفة.
فصل فالصلاة تجب بأربع شرائط متفق عليها، وشرط خامس مختلف فيه هل هو مشروط
في وجوب الصلاة أو في صحة فعلها.
فأما الأربعة المتفق عليها فهي: البلوغ، والعقل، ودخول الوقت، وارتفاع
الحيض والنفاس. فأما البلوغ والعقل: فالدليل على صحة اشتراطهما في وجوب
الصلاة قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم
عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون
(1/147)
حتى يفيق» ، فلا اختلاف بين أحد من أهل
العلم أن الصبي والمجنون الذي لا يعقل غير متعبدين بالصلاة ولا بشيء من
الشرائع، وأما دخول الوقت: فالدليل على صحة اشتراطه في وجوب الصلاة إجماع
أهل العلم أن من صلى صلاة قبل دخول وقتها فإنها لا تجزئه، فلا خلاف بين أحد
من المسلمين أن الصلاة لا تجب على أحد قبل دخول وقتها، إلا أنه يجب عليه
قبل دخول وقتها اعتقاد وجوبها عليه إذا دخل وقتها.
[فصل في تحقيق حدود الأوقات]
فصل
في تحقيق حدود الأوقات فأول وقت الظهر زوال الشمس عن كبد السماء، وآخر
وقتها المستحب أن يصير ظل كل شيء مثله بعد الظل الذي زالت عليه الشمس. وأول
وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال، وآخر وقتها المستحب أن
يصير ظل كل شيء مثليه. وآخر وقت الظهر والعصر للضرورة إلى غروب الشمس،
وتشارك العصر الظهر في وقتها المستحب من أول زوال الشمس للعذر. وقد قيل: إن
الظهر يختص من أول الزوال بمقدار أربع ركعات لا يشاركها فيه العصر، وتشارك
الظهر العصر في وقتها المستحب إلى تمام القامتين للعذر أيضا. واختلف هل
تشارك العصر الظهر عند اعتدال القامة في الوقت المستحب أم لا على قولين،
فذهب ابن حبيب إلى أنها لا تشاركها فيه وأن آخر وقت الظهر عند تمام القامة
وأول وقت العصر عند ابتداء القامة الثانية بقدر ما يسلم من الظهر ويبدأ
بالعصر دون فاصلة بين الوقتين، وهذا مذهب الشافعي، وقد قيل: إن مذهبه أن
بين الوقتين فاصلة وإن قلت لا تصلح للظهر ولا للعصر في الاختيار، وليس ذلك
بصحيح عنه.
(1/148)
والمشهور في المذهب أن العصر مشاركة للظهر
في وقت الاختيار، وذلك بين في حديث إمامة جبريل للنبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه صلى به الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي
صلى فيه العصر في اليوم الأول. واختلف الذين ذهبوا إلى هذا المذهب هل العصر
هي المشاركة للظهر في آخر القامة الأولى أو الظهر هي المشاركة للعصر في أول
ابتداء القامة الثانية، والأظهر أن العصر هي المشاركة للظهر في آخر القامة
الأولى.
وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس وقت واحد لا يجوز أن تؤخر عنه إلا بقدر مثل
الجمع بين الصلاتين للمسافر والمريض وفي المطر. وقيل إنه لا يجوز تأخير
المغرب عن غروب الشمس لشيء من هذه الأعذار ويجمع بين الصلاتين عند الغروب.
وقيل: إن لها وقتين في الاختيار وإن آخر وقتها المختار مغيب الشفق فجائز أن
تؤخر صلاة المغرب إلى مغيب الشفق من غير عذر، وهو ظاهر قول مالك في موطئه،
إلا أن أول الوقت أفضل، فحصل الإجماع في المغرب على أن المبادرة لها عند
الغروب أفضل.
وأول وقت العشاء المستحب مغيب الشفق، وهو الحمرة عند مالك، وآخر وقتها
المستحب ثلث الليل الأول، وقيل: نصفه. وآخر وقت المغرب والعشاء للضرورة إلى
طلوع الفجر. وتشارك العشاء المغرب في وقتها المستحب لها من أول الغروب
للعذر. وقد قيل: إن المغرب تختص من أول الغروب بمقدار ثلاث ركعات لا
تشاركها فيه العشاء.
وأول وقت الصبح انصداع الفجر، وهو الفجر الثاني المعترض في الأفق الشرقي.
وأما الفجر الأول الذي يسمونه الكاذب وهو المشبه بذنب السرحان فإنه لا يحل
الصلاة ولا يحرم على الصائم الأكل بإجماع. وآخر وقتها طلوع الشمس،
(1/149)
وقيل: الإسفار البين الذي يكون قرب طلوع
الشمس، ذهب إلى هذا من رأى أن للصبح وقت ضرورة.
فصل فالأوقات تنقسم على خمسة أقسام: وقت اختيار وفضيلة وهو أن يصلي قبل
انقضاء الوقت المستحب. ووقت رخصة [وتوسعة، وهو أن يصلي في آخر الوقت
المستحب. ووقت رخصة] للعذر وهو أن يؤخر الظهر إلى آخر وقت العصر المستحب أو
يعجل العصر في أول وقت الظهر المستحب أو بعده مقدار ما يصلي فيه صلاة الظهر
على ما ذكرناه في ذلك من الاختلاف. ووقت تضييق من ضرورة وهو أن يؤخر الظهر
والعصر إلى غروب الشمس، والصبح إلى طلوع الشمس، والمغرب والعشاء إلى طلوع
الفجر. ووقت سنة أخذ بحظ من الفضيلة للضرورة وهو الجمع بين الصلاتين بعرفة
والمزدلفة.
فصل وأول الوقت في الصلوات كلها أفضل، قال الله تبارك وتعالى:
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] {أُولَئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11] {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 12] ،
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}
[آل عمران: 133] ، ومعلوم أن من بادر إلى طاعة ربه أفضل ممن تأخر عنها
وتأنى عنها، وقد سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي
الأعمال أفضل، فقال: «الصلاة لأول وقتها» . وروي أن الصلاة في أول الوقت
رضوان الله وفي وسطه رحمة الله وفي آخره عفو الله، فكان أبو بكر الصديق -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يقول رضوان الله أحب إلي من
(1/150)
عفوه. هذا هو المنصوص عن مالك المعلوم من
مذهبه في كتاب ابن المواز وغيره. وقد تأول بعض الشيوخ على مذهبه في المدونة
أن أول الوقت وأوسطه وآخره في الفضل سواء من إنكاره لحديث يحيى بن سعيد «إن
المصلي ليصلي الصلاة وما فاته وقتها ولما فاته من وقتها أعظم وأفضل من ماله
وأهله» . وهذا بعيد؛ لأنه إنما أنكره لأن ظاهره يوجب أن من فاته بعض الوقت
كمن فاته جميعه على ما جاء في حديث عبد الله بن عمر «الذي تفوته صلاة العصر
كأنما وتر أهله وماله» .
فصل وهذا التأويل إنما يصح فيما عدا صلاة الصبح وصلاة المغرب. أما صلاة
المغرب فلما وضحنا فيها من الإجماع على أن أول الوقت أفضل. وقد روي أن عمر
بن عبد العزيز أخر المغرب حتى طلع نجم أو نجمان، فأعتق رقبة أو رقبتين؛
خوفا من أن يكون منه بعد أن غربت الشمس غفلة أو فترة. وأما صلاة الصبح فإنه
نص في سماع أشهب على أن التغليس بها أفضل من الإسفار؛ لأنه الذي كان يداوم
عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالت عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن
من الغلس» . فيبعد أن يتأول قوله على خلاف المنصوص عنه. وقد روى زياد عن
مالك أن الصلاة في أول وقت الصبح منفردا أفضل من الصلاة في آخره جماعة.
فصل واتفق أصحاب مالك على أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن الوقت المختار
المستحب إلى ما بعده من وقت الضرورة إلا من ضرورة، وهو القامة في الظهر،
والقامتان في العصر [أو ما لم تصفر الشمس] . ومغيب الشفق في المغرب على
(1/151)
مذهب من رأى أن لها وقتين. وانقضاء نصف
الليل في العشاء الآخرة. والإسفار في الصبح على مذهب من رأى أن له وقت
ضرورة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تلك صلاة
المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان أو على
قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» . ولأنه لم يعلم
أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخر صلاة من الصلوات
حتى خرج وقتها المختار المستحب.
فصل فمن فعل ذلك فهو مضيع لصلاته مفرط فيما أمره الله به من حفظها ورعايتها
آثم لتضييعه وتفريطه وإن كان مؤديا لها غير قاض. وأما تركها حتى يخرج وقتها
فهو من الكبائر، قال الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ
غَيًّا} [مريم: 59] ، وإضاعتها على ما قال أكثر أهل التأويل تأخيرها عن
مواقيتها. والغي بئر في قعر جهنم يسيل فيه صديد أهل النار، وقيل: الغي
الخسران وقيل: الشمر، والمعنى في ذلك متقارب.
فصل فوقت الصلاة يتسع لتكرار فعلها مرارا، وجميعه وقت لجواز فعلها. واختلف
في وقت الوجوب منه على أربعة أقوال:
أحدها: قول أصحاب مالك: إن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا موسعا وأن جميع
الوقت وقت للوجوب.
والثاني: قول أصحاب الشافعي: إن الصلاة تجب بأول الوقت وإنما ضرب آخره
تمييزا للأداء عن القضاء. وهذا فيه نظر؛ لأنك إذا أطلقت القول بوجوب الصلاة
في أول الوقت لزمك أن لا تجيز له تأخيرها عن وقت الوجوب وهو أول الوقت،
وهذا ما لا يقوله أحد.
(1/152)
والقول الثالث: قول أصحاب أبي حنيفة: إن
الصلاة لا تجب إلا بآخر الوقت، وهو الحين الذي لم يأثم المكلف بتأخير
الصلاة عنه. وهذا فيه نظر أيضا؛ لأن الصلاة إذا لم تجب عنده في أول الوقت
فينبغي أن لا تجزئه إن صلاها فيه كما لا تجزئ من صلى قبل دخول الوقت، وهذا
ما لا يقوله أحد. ولهذا قال الكرخي: إن الصلاة المفعولة في أول الوقت تطوع
وهي تسد مسد الفرض.
والرابع: أن وقت الوجوب منه غير معين، وللمكلف تعيينه بفعل الصلاة فيه.
وهذا أظهر الأقاويل وأسدها وأجراها على أصول المالكيين؛ لأن معظمهم قالوا:
إن الأفعال المخير فيها كالإطعام والعتق والكسوة في الكفارة الواجب منها
واحد غير معين، وللمكلف تعيين وجوبه بفعله، ولم يخالف في ذلك إلا ابن خويز
منداد فإنه قال: إن جميعها واجب فإذا فعل المكلف أحدها سقط وجوب سائرها.
وما قدمناه هو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأن الأفعال الواجب جميعها لا
يسقط بعضها بفعل بعضها.
فصل وأما ارتفاع دم الحيض والنفاس فالدليل على صحة اشتراط ذلك في وجوب
الصلاة أن الصلاة لا تصح إلا بطهر؛ لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» ، والطهور لا يصح
للحائض والنفساء إلا بعد ارتفاع الدم لقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] إلى قوله {حَتَّى
يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللَّهُ} [البقرة: 222] الآية، فوجب أن لا تجب عليها الصلاة إلا بعد
(1/153)
كمال الطهارة، وهذا مما لا اختلاف فيه؛ لأن
الحائض والنفساء غير مخاطبتين بالصلاة فثبت صحة اشتراط ذلك في وجوب الصلاة.
فصل فأما الشرط المختلف فيه فهو الإسلام؛ لأنه إنما يشترط في وجوب الصلاة
على مذهب من يرى أن الكفار غير مخاطبين بشرائع الإسلام؛ لقول الله عز وجل:
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}
[النساء: 103] ، [فدل ذلك على أنها ليست على غير المؤمنين كتابا موقوتا] ،
وقَوْله تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17] ، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] وما أشبه ذلك
من الآيات التي خص بالخطاب بها المؤمنون. وأما على مذهب من يرى أن الكفار
مخاطبون بشرائع الإسلام، وهو الظاهر من مذهب مالك؛ لقول الله عز وجل: {مَا
سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:
44] {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45] ، فالإسلام ليس
بشرط في وجوب الصلاة، وإنما هو شرط في صحتها كالنية وسائر فرائضها.
[فصل في ذكر فرائض الصلاة]
فصل
في ذكر فرائض الصلاة والصلوات الخمس تشتمل على فرائض وسنن ومستحبات وفضائل،
فلا تصح إلا بجميع فرائضها، ولا تكمل إلا بسننها وفضائلها. وفرائضها ثمان
عشرة فريضة، منها عشر فرائض متفق عليها عند الجميع، وهي النية، والطهارة،
ومعرفة
(1/154)
دخول الوقت، والتوجه إلى القبلة، والركوع،
والسجود، ورفع الرأس من السجود، والقيام، والجلوس الأخير، وترتيب أفعال
الصلاة.
فصل فأما النية فالدليل على وجوبها واشتراطها في صحة الصلاة قول الله تبارك
وتعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] ، وقوله:
{وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
[البينة: 5] ، وقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما
الأعمال بالنيات» . والصلاة عبادة من العبادات وعمل من الأعمال فوجب أن لا
تجزئ إلا بالنية.
فصل ومن صفة النية على الكمال أن يستشعر الناوي الإيمان بقلبه فيقرن بذلك
اعتقاد القربة إلى الله تعالى بأداء ما افترض عليه من تلك الصلاة بعينها،
وذلك يحتوي على أربع نيات: وهي اعتقاد القربة، واعتقاد الوجوب، واعتقاد
القصد إلى الأداء، وتعيين الصلاة. واستشعار الإيمان شرط في صحة ذلك كله.
فإذا أحرم ونيته على هذه الصفة فقد أتى بإحرامه على أكمل أحواله، فإن سها
في وقت إحرامه عن استشعار الإيمان لم يفسد عليه إحرامه لتقدم علمه به
واعتقاده له؛ لأنه موصوف به في حال الذكر له والغفلة عنه. وكذلك إذا سها عن
أن ينوي مع الإحرام بها وجوب الصلاة عليه والقصد إلى أدائها والتقرب بها
إلى الله تعالى لم يفسد عليه إحرامه إذا عين الصلاة؛ لأن التعيين لها يقتضي
الوجوب والقربة والأداء لتقدم علمه بوجوب تلك الصلاة التي عينها عليه. وأما
إن لم يعين الصلاة فليس بمحرم لها، ولهذا قلنا: إن من ذكر صلاة من يوم لا
يدري أيتهن هي إنه يصلي خمس صلوات، بخلاف ما حكي عن بعض أصحاب الشافعي أنه
يصلي أربع ركعات يجهر في الأوليين ويجلس في الثانية والثالثة ويتشهد ويصلي
على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجزئه. وإنما
(1/155)
اختلف أصحاب مالك فيمن ذكر صلاة لا يدري من
السبت أو من الأحد، فقيل: إنه يصليها مرة واحدة ينويها عن اليوم الذي تركها
فيه، وقيل: إنه يصليها مرة للسبت ومرة للأحد.
وقد اختلف أهل العلم هل من شرط صحتها أن تكون مقارنة للإحرام أم ليس ذلك من
شرط صحتها ويجزئ تقدمها قبل الإحرام بيسير، فقال ابن أبي زيد في رسالته:
والدخول في الصلاة بنية الفرض فريضة، وإلى هذا ذهب عبد الوهاب في شرح
الرسالة. والأصح أن تقدم النية قبل الإحرام بيسير جائز، كالوضوء والغسل في
مذهبنا، والصيام عند الجميع؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» . ولا معنى لتفرقة من
فرق في هذا بين الوضوء والغسل وبين الصلاة للاختلاف الحاصل في وجوب اشتراط
النية في صحة الغسل والوضوء.
فصل وتجزئ النية بالقلب دون النطق باللسان في مذهب مالك وجميع أصحابه.
فصل وأما الطهارة فالدليل على وجوبها واشتراطها في صحة الصلاة قول الله عز
وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]
، الآية، وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل
الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول» . وهذا معلوم من دين الأمة وإجماع
المسلمين فلا معنى لإيراد النصوص فيه.
فصل وأما معرفة الوقت فالدليل على وجوب اشتراطه في صحة الصلاة الإجماع
(1/156)
على أن الصلاة لا تجب عليه ولا تجزئ عنه
قبل دخول الوقت؛ لقول الله عز وجل: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] ؛ ولأن جبرائيل - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أقام للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوقات
الصلوات، ثم قال له: بهذا أمرت. فإذا صلى وهو غير عالم بدخول الوقت وجب أن
لا تجزئه صلاته وإن انكشف له [أنه صلاها بعد دخول الوقت؛ لأنه صلاها وهو
غير عالم بوجوبها عليه. وقيل: إنها تجزئه إن انكشف له] أنها وقعت بعد دخول
الوقت. واستدل من ذهب إلى ذلك بما جاء من أن «علي بن أبي طالب وأبا موسى
الأشعري قدما على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة
الوداع وهما محرمان، فسألهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: بما أهللتما، فقال: كل واحد منهما قلت لبيك بإهلال كإهلال
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصوب النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فعلهما وأمرهما بما يفعلان في بقية إحرامهما»
ولا دليل في ذلك؛ لأنهما إنما أحرما في وقت يجوز لهما الإحرام بالحج فيه
وإن لم يعلما هل كان أحرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بعد أم لا، ولا بما أحرم إن كان أحرم. وقاس ذلك أيضا بالذي يصوم أول يوم من
رمضان متحريا دون أن يرى الهلال. وليس ذلك بقياس صحيح؛ لأن هذا احتياط
مخافة أن يأكل يوما من رمضان، وهذا ترك الاحتياط إذ لم يؤخر صلاته حتى يوقن
بدخول الوقت. وأما إذا لم ينكشف له أنه صلاها بعد دخول الوقت فبين أنها لا
تجزئه؛ لأنها ثابتة عليه ولازمة لذمته فلا تسقط عنه إلا بيقين. ولو صلاها
وهو غير عالم بدخول الوقت مخافة أن يفوته الوقت إذ لا يدري لعله قد دخل
ومضى حتى لم يبق منه إلا قدر ما يصلي فيه لجرى ذلك على الاختلاف في الذي
يصوم أول يوم من رمضان مخافة أن يكون من رمضان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل وأما التوجه إلى القبلة فالدليل على وجوبه واشتراطه في صحة الصلاة قول
(1/157)
الله عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ، فعلى المعاين للقبلة استقبالها، وعلى من غابت
عنه الاجتهاد في طلبها بالأدلة المنصوبة عليها، فإن صلى بغير اجتهاد لم
تجزئه صلاته، وإن وقعت إلى القبلة. وإن اجتهد فتبين له أنه أخطأ فصلى
مستدبر القبلة أو مشرقا أو مغربا أعاد في الوقت على طريق الاستحباب. وقال
الشافعي: إن استدبر القبلة فالإعادة عليه واجبة في الوقت وبعده، وهو قول
المغيرة من أصحابنا. والدليل لنا ما روي عن «عامر بن ربيعة أنه قال: كنا مع
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة ظلماء في سفر،
فخفيت علينا القبلة، فصلى كل واحد منا إلى وجهه، وعلمنا علما، فلما أصبحنا
فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فسألنا عن ذلك رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مضت صلاتكم، ونزلت: {فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » ، ولما كان المجتهد في
طلب القبلة إذا أخطأ لا ينصرف إلى يقين وإنما يرجع إلى اجتهاد مثله لم تجب
عليه الإعادة إلا في الوقت؛ بخلاف من صلى إلى غير القبلة وهو بموضع يعاينها
ويرجع إذا أخطأ إلى يقين لا إلى اجتهاد.
فصل وأما الركوع والسجود فالدليل على وجوبهما قول الله عز وجل: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ، وقَوْله
تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] ، وقوله عز وجل: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
[البقرة: 125] ، وقَوْله تَعَالَى: {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} [التوبة:
112] .
(1/158)
فصل وأما الرفع من السجود فالدليل على
وجوبه أن السجود لا يتم إلا به وهو يفصل بين السجدتين، وما لا يتم الواجب
إلا به فهو واجب مثله.
فصل وأما القيام فالدليل على وجوبه قول الله عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] ، وأقل ما يتعين منه في كل ركعة على
الإمام والفذ قدر ما يقرأ فيه أم القرآن، وعلى المأموم قدر ما يوقع فيه
تكبيرة الإحرام.
فصل وأما الجلوس الآخر فهو من فرائض الصلاة بإجماع. وأقل ما يجزئ فيه عند
مالك قدر ما يوقع فيه السلام.
فصل وأما ترتيب أفعالها والبداية فيها بالقيام قبل الركوع وبالركوع قبل
السجود وبالسجود قبل الجلوس، فهو واجب بإجماع؛ لأن الله تعالى قال:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] ، وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفة فعلها قولا وعملا، فلو عكس أحد صلاته فبدأ
بالجلوس قبل القيام أو بالسجود قبل الركوع وما أشبه ذلك لم تجزه صلاته
بإجماع.
فصل ومنها ثلاث متفق عليها في المذهب، وهي تكبيرة الإحرام، والسلام، وقراءة
أم القرآن على الإمام والفذ. فأما تكبيرة الإحرام فإنها فرض عند مالك وجميع
(1/159)
أصحابه وأكثر أهل العلم. وقد روى ابن وهب
وأشهب عن مالك أنه استحب للمأموم إذا لم يكبر للإحرام ولا للركوع إعادة
الصلاة، ولم يوجب ذلك، وقال: أرجو أن يجزئ عنه إحرام الإمام، وهو شذوذ في
المذهب. ولا يجزئ فيها إلا الله أكبر؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريم الصلاة التكبير» . وذهب ابن شهاب وسعيد بن
المسيب إلى أنها سنة، وروي ذلك عن ابن مسعود، ولذلك قال مالك فيمن ترك
تكبيرة الإحرام مع الإمام وكبر للركوع: إنه يتمادى مع الإمام استحبابا
مراعاة للاختلاف، ثم يعيد استحبابا على مذهبه. كذا حفظنا عن بعض شيوخنا في
تأويل ما وقع في المدونة من مراعاة قول مالك لسعيد بن المسيب في التمادي مع
الإمام. والصواب أن تكبيرة الإحرام عند سعيد بن المسيب فرض، وسنذكر ذلك
فيما يأتي، إن شاء الله تعالى.
فصل وكذلك السلام من الصلاة هو واجب عند مالك وأصحابه وأكثر أهل العلم؛
لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريم الصلاة
التكبير، وتحليلها التسليم» وذهب أبو حنيفة إلى أن السلام في الصلاة غير
واجب، وأنه إذا قعد في آخر صلاته مقدار التشهد فقد خرج من الصلاة وإن لم
يسلم؛ ولهذا قال ابن القاسم: إن الإمام إذا أحدث بعد التشهد وتمادى حتى سلم
بالقوم عامدا إن صلاتهم تجزئهم.
فصل وكذلك قراءة أم القرآن في الصلاة هي واجبة على الإمام والفذ على مذهب
مالك وجميع أصحابه وجل أهل العلم، قيل: في جملة الصلاة، وقيل: في كل ركعة
منها. واختلف قول مالك وأقوال أصحابه فيمن ترك أم القرآن من ركعة أو أكثر
من صلاة ثلاثية أو رباعية، أو من ركعة واحدة من صلاة هي ركعتان اختلافا
كثيرا، سنذكره فيما يأتي إن شاء الله تعالى. ومن أهل العلم من لم يوجب
قراءة أم القرآن ولا
(1/160)
غيرها في الصلاة على ظاهر قول عمر بن
الخطاب حين ترك القراءة في الصلاة، فقيل له: إنك لم تقرأ، فقال: كيف كان
الركوع والسجود، قالوا: حسن، قال: فلا بأس إذا.
فصل ومنها خمس مختلف فيها في المذهب، وهي: الرفع من الركوع، وطهارة الثوب
والبقعة، وستر العورة، وترك الكلام، والاعتدال في الفصل بين أركان الصلاة.
فصل فأما الرفع من الركوع فالاختلاف فيه في المذهب، روى عيسى عن ابن القاسم
أنه لا يعتد بتلك الركعة التي لم يرفع منها رأسه، واستحب أن يتمادى ثم
يعيد، وروى علي بن زياد عن مالك أنه لا إعادة عليه. وعلى هذا يأتي اختلاف
مالك في عقد الركعة هل هو الركوع أو الرفع منه، فمن لم يوجب رفع الرأس منه
جعل عقد الركعة الركوع، ومن أوجب الرفع منه جعل عقد الركعة بالرفع من
الركوع.
فصل وكذلك طهارة الثوب والبقعة الاختلاف فيه في المذهب: ذهب ابن وهب إلى
أنه فرض، وقال ابن القاسم وأكثر أصحاب مالك: إنه سنة، ومن أهل العلم من
يعبر عنه أنه فرض بالذكر يسقط بالنسيان.
فصل وكذلك ستر العورة الاختلاف فيه أيضا في المذهب. قيل: إنه فرض من
(1/161)
فرائض الصلاة مع القدرة عليه، وقيل: إنه
فرض قائم بنفسه في الجملة وسنة في الصلاة. فمن ذهب إلى أنه فرض من فرائض
الصلاة أوجب الإعادة أبدا على من صلى مكشوف العورة وهو قادر على سترها
ناسيا كان أو جاهلا أو متعمدا. ومن ذهب إلى أنه ليس من فرائض الصلاة وإنما
هو فرض قائم بنفسه في الجملة وسنة من سنن الصلاة لم يوجب عليه الإعادة إلا
في الوقت إن كان ناسيا أو جاهلا، وأما إن كان متعمدا فيعيد أبدا، ولا يدخل
في ذلك الاختلاف فيمن ترك سنة من سنن الصلاة عامدا إذ قد قيل: إن ذلك فرض
وهو الأظهر لقول الله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
[الأعراف: 31] .
فصل وكذلك ترك الكلام الاختلاف فيه في المذهب. ذكر أبو بكر الأبهري في
الشرح أنه سنة، وبناه على أصلين في المذهب، وإنما قال فيه: إنه سنة؛
لقولهم: إن من تكلم في صلاته ساهيا كمن سها عن سنة من سننها تجزئه صلاته
ويسجد لسهوه، بخلاف من سها عن فريضة من فرائضها، فرأى على قياس هذا أنه
إنما يعيد إذا تكلم عامدا لترك السنة عامدا. والأظهر أنه فرض، والدليل على
وجوبه قول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] أي:
صامتين. وقد كان الناس في أول الإسلام يتكلمون في الصلاة حتى نزلت
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فنهوا عن الكلام. وقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يحدث من أمره ما
يشاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة» ، والفرق بين الكلام ساهيا
وترك الفريضة ساهيا أن الكلام شيء قد فرط لا يمكنه استدراكه؛ لاستحالة ترك
فعل الشيء بعينه بعد فعله، وقد تجاوز الله عنه بنص قول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان»
(1/162)
والفريضة يقدر أن يعود إلى فعلها بعد
تركها، فإن لم يفعل بعمد أو نسيان حتى فاته ذلك، وجب عليه إعادة الصلاة.
وبهذا المعنى يفترق الحكم فيمن سها فزاد في صلاته ركعة أو سجدة، أو أسقط
ذلك منها، فيجزئه سجود السهو في الزيادة، ولا يجزئه ذلك في النقصان.
فصل وكذلك الاعتدال في الفصل بين أركان الصلاة الاختلاف فيه في المذهب. ففي
مختصر ابن الجلاب أنه فرض، والأكثر أنه غير فرض. فمن لم يعتدل في رفعه من
الركوع والسجود استغفر الله ولم يعد، روى ذلك عيسى عن ابن القاسم. وقيل: إن
الإعادة عليه واجبة على ظاهر الحديث في قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي صلى ولم يعتدل في صلاته: «ارجع فصل فإنك لم تصل»
.
[فصل في ذكر سنن الصلاة]
فصل
في ذكر سنن الصلاة وأما سنن الصلاة فثمان عشرة سنة، وهي: إقامة الصلاة في
المساجد، والإقامة، وقيل: الأذان والإقامة، والصواب أن الأذان ليس بسنة على
الأعيان، وإنما هو سنة في مساجد الجماعات، وفرض في جملة المصر. وقد قال أهل
الظاهر: إنه سنة، وهو قول ضعيف لا وجه له. ورفع اليدين عند الإحرام، وقد
قيل في رفع اليدين: إنه استحباب. وأما رفعهما عند الركوع وعند الرفع منه
فاختلف قول مالك فيه، فمرة قال: لا يرفع، واستحسن مرة الرفع، ومرة خير فيه.
وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم أنه أنكر رفع اليدين عند الإحرام، وهي رواية
شاذة ضعيفة خاملة، ونحوها في بعض روايات المدونة. والسورة التي مع أم
القرآن، والجهر بالقراءة في موضع الجهر والإسرار بها في موضع الإسرار،
والإنصات مع الإمام فيما يجهر فيه، والتكبير سوى تكبيرة الإحرام، وقد قيل:
إن كل تكبيرة منها سنة، وسمع الله لمن حمده للإمام والفذ، والتشهد الأول،
والجلوس له، والتشهد الآخر والصلاة
(1/163)
على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - في الصلاة سنة، وفريضة مطلقة في غيرها، ورد السلام على
الإمام، وتأمين المأموم إذا قال الإمام ولا الضالين، وقوله ربنا ولك الحمد
إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، والقناع للمرأة، والتسبيح في الركوع
والسجود.
فصل فمن هذه السنن ثمان مؤكدات يجب سجود السهو للسهو عنها وإعادة الصلاة
على اختلاف لتركها عمدا، وهي السورة التي مع أم القرآن، والجهر في موضع
الجهر، والإسرار في موضع الإسرار، والتكبير سوى تكبيرة الإحرام، وسمع الله
لمن حمده، والتشهد الأول، والجلوس له، والتشهد الآخر. وسائرها لا حكم
لتركها، فلا فرق بينها وبين الاستحبابات إلا في تأكيد فضائلها، حاشا المرأة
تصلي بغير قناع، فإن الإعادة في الوقت مستحبة لها.
[فصل في ذكر مستحبات الصلاة]
فصل
في ذكر مستحبات الصلاة وأما استحباباتها فثمان عشرة أيضا وهي أخذ الرداء،
والتيامن في السلام، وقراءة المأموم مع الإمام فيما يسر فيه، وإطالة
القراءة في الصبح والظهر، وتقصير الجلسة الأولى، والتأمين بعد قراءة أم
القرآن للفذ وللإمام فيما يسر فيه، [وقول الفذ ربنا ولك الحمد، وصفة
الجلوس، والإشارة بالإصبع فيه] ، والقنوت في الصبح، وقيام الإمام من موضعه
ساعة يسلم، والسترة، واعتدال الصفوف، والاعتماد، وترك قراءة بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في الفريضة، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في
الصلاة، وقد كرهه مالك في المدونة، ومعنى كراهيته أن يعد من واجبات الصلاة،
والصلاة على الأرض أو على ما أنبتت الأرض، والصلاة
(1/164)
في الجماعة مستحبة للرجل في خاصة نفسه.
وأما إقامة الجماعة في الصلوات فإنها فرض في الجمعة وسنة في كل مسجد.
فصل وأما الصلاة التي هي فرض على الكفاية فصلاة الجنائز، وقد قيل: إنها
سنة، وهو قول أصبغ. والدليل على أنها فرض على الكفاية «أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالمدينة على النجاشي إذ لم يكن
له من يصلي عليه بموضعه الذي توفي فيه» وأجمع على العمل بذلك جميع المسلمين
في جميع بلاد الإسلام، فصار ذلك سبيل المؤمنين الذي توعد الله على ترك
اتباعه بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:
115] ، فلو أن قوما تركوا الصلاة على جنائزهم للحقهم الوعيد المذكور في
الآية، وهذا دليل بين على الوجوب، وقد استدل على ذلك ابن عبد الحكم بقول
الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:
84] ؛ لأنه سئل عن الصلاة على الجنازة فقال: هي فرض وتلا الآية، وليس ذلك
بدليل بين؛ لأن النهي عن الصلاة على المنافقين ليس بأمر بالصلاة على
المؤمنين، إذ ليست بضد لها، وإنما يفهم الأمر من ذلك بدليل الخطاب، وقد
اختلف في القول به وفي حمل الأمر على الوجوب فضعف الاستدلال بذلك.
فصل وأما السنة فهي خمس صلوات سنها النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -، وهي: الوتر، وصلاة الخسوف، والاستسقاء، والعيدين، وقد قيل
في صلاة العيدين: إنهما واجبتان بالسنة على الكفاية، وإلى هذا كان يذهب
شيخنا الفقيه ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، والأول هو المشهور
المعروف أنهما سنة على الأعيان.
فصل واختلف في ركعتي الفجر وركعتي الإحرام وركعتي الطواف، فقيل: إنهما سنة
(1/165)
وقيل: إنهما استحباب. فأما الاختلاف في
ركعتي الفجر فمنصوص عليه، روى أبو زيد عن ابن القاسم أنهما سنة، وهو مذهبه
في المدونة بدليل اشتراطه لهما النية فيهما. ومثله في سماع ابن القاسم من
العتبية. وروى أشهب عن مالك أنه يستحب العمل بهما وليستا بسنة. ومثله في
سماع عيسى من كتاب المحاربين والمرتدين لأصبغ. وأما ركعتا الإحرام فالصواب
فيهما أنهما نافلة على مذهب مالك؛ لأنه لا يمنع من الزيادة عليهما وإنما
يستحب أن لا يحرم إلا بأثر صلاة نافلة أقلها ركعتان. وما لم يكن من النوافل
مقدرا حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه فلا يسمى سنة عند جماعة أصحابنا؛ لأن
السنة إنما هي ما رسم ليحتذى فلا يزاد عليه ولا ينقص منه. وقد اختلف
أصحابنا في الصفة التي لأجلها تسمى النوافل سنة، فمنهم من ذهب إلى أنه لا
يسمى سنة إلا ما أظهره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجمع
عليه أمته وشرع له الجماعة كصلاة العيدين والخسوف والاستسقاء، فمن ذهب إلى
هذا لم ير ركعتي الفجر من السنن. ومنهم من ذهب إلى أنه يسمى منها سنة ما
كان مقدرا لا يزاد عليه ولا ينقص منه، فمن ذهب إلى هذا قال في ركعتي الفجر:
إنهما سنة. ألا ترى أنه لا يقال في صلاة الليل ولا في صلاة الضحى إنهما من
السنن لما كانت غير مقدرة. وأما ركعتا الطواف فهما من الطواف، فإن كان
واجبا فهما واجبتان، وإن كان نفلا فهما نافلتان.
فصل وأما الفضيلة فهي خمس صلوات أيضا: تحية المسجد، وصلاة خسوف القمر،
وقيام رمضان، وقيام الليل، وسجود القرآن. وسائر الصلوات نوافل كالركوع قبل
الظهر وبعده وقبل العصر وبعد المغرب وقبل العشاء وبعدها وصلاة الضحى وما
أشبه ذلك.
فصل فالصلوات كلها ما عدا الخمس غير واجبة إلا أن منها سنة ومنها فضيلة
ومنها
(1/166)
نافلة على ما بيناه. قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد في
اليوم والليلة فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند
الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه
وإن شاء أدخله الجنة» . «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لضمام
بن ثعلبه إذ جاء يسأله عن الإسلام قال: " خمس صلوات في اليوم والليلة، قال:
هل علي غيرهن قال: لا إلا أن تطوع» . وذهب أبو حنيفة إلى أن الوتر واجب،
ودليله قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الله زادكم
صلاة إلى صلاتكم ألا وهي الوتر» . ومعنى ذلك عندنا، زادكم ثوابا إلى ثواب
صلاتكم، إذ لو كان المعنى ما ذهب إليه أبو حنيفة لقال زاد عليكم صلاة إلى
صلاتكم، وقد استدل أصحابنا على أنه غير واجب بخلاف الصلوات الخمس؛ [بأنه لا
يقضى بعد خروج وقته كما تقضى الصلوات الخمس] بعد خروج وقتها، وذلك لا يلزم
المخالف؛ لأنه يوجب قضاءه بعد خروج وقته. وكذلك استدل أيضا بعض الناس على
أنه غير واجب بإجازة صلاته على الراحلة، وذلك لا يلزم المخالف إذ لا يقول
بذلك. فمن تركه عامدا أو من غير عذر فإنما يأثم لرغبته عن السنة وقصده إلى
تضييعها.
فصل والفضل في الصلوات على قدر مراتبها، فأعظم الصلوات أجرا صلاة الفريضة،
ثم صلاة الجنائز؛ لأنه قد قيل فيها: إنها سنة وقد قيل: إنها فرض على
الكفاية، ثم صلاة الوتر؛ لأنه لم يختلف فيها أنها سنة وقد قيل: إنها واجبة،
ثم صلاة العيدين وصلاة الخسوف وصلاة الاستسقاء؛ لأنه لم يختلف فيها أنها
سنة، ثم ركعتا الفجر؛ لأنه قد قيل فيهما: إنهما سنة، ثم ما أطلق عليه من
النوافل اسم فضيلة، ثم ما
(1/167)
لم يطلق عليه اسم الفضيلة. والأجر في ذلك
كله على قدر النية فيه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «نية المؤمن خير من عمله» .
فصل فالصلاة من أفضل أعمال البر، فرائضها أفضل من سائر الفرائض، ونوافلها
أفضل من سائر النوافل. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «استقيموا ولن تحصوا واعملوا وخير أعمالكم الصلاة» ، يريد بعد الإيمان
بالله تعالى، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما مثل
الصلاة كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون
ذلك يبقي من درنه» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من
امرئ يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة
الأخرى حتى يصليها» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول
اللهم اغفر له اللهم ارحمه» . «وسئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أي الأعمال أفضل قال: " إيمان بالله "، قيل: ثم أي؟ قال: " الصلاة على
مواقيتها " قيل: ثم أي قال: " جهاد في سبيل الله» . وفي حديث آخر: قال:
«إيمان بالله "، قيل: ثم أي قال: " جهاد في سبيل الله» . وفي حديث آخر قال:
«إيمان بالله " قيل: ثم أي، قال: " جهاد في سبيل الله» فإن لم يكن سقط عن
الراوي من هذا الحديث ما زاد في الحديث الأول فليس ذلك بتعارض، ومعناه أن
الصلاة أفضل من الجهاد إذا كان الجهاد فرضا على الكفاية فقيم بالفرض؛ لأن
الفرض على الكفاية إذا قيم به كان لسائر الناس نفلا، وأن الجهاد أفضل من
الصلاة لجميع الناس في الموضع الذي يتعين فيه الجهاد على
(1/168)
الأعيان، ولمن قام بالفرض في الموضع الذي
هو فيه فرض على الكفاية، فالمجاهد يحوز الأجرين جميعا، أجر الجهاد وأجر
الصلاة؛ لأن الجهاد لا يكون إلا بصلاة، فإذا جاهد في الموضع الذي يتعين فيه
الجهاد على الأعيان، أو كان ممن قام بفرض الجهاد في الموضع الذي يكون فيه
الجهاد فرضا على الكفاية، كان أجره في جهاده أعظم من أجر الصلاة في الجهاد،
وفي غير الجهاد بما الله أعلم بقدره. وإذا جاهد وقد قيم بفرض الجهاد كان
أجره في الصلاة أعظم من أجره في الجهاد بما الله أعلم بقدره. وهنا يكون أجر
من قعد ولم يجاهد في صلاته أعظم من أجر المجاهد في جهاده إذا تجرد عن أجره
في صلاته، فلا يبلغ القاعد درجة المجاهد في حال من الأحوال ولو صام لا يفطر
وقام لا يفتر، وقد قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مثل المجاهد
في سبيل الله كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى
يرجع» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لو صمت
النهار وقمت الليل ما بلغت نوم المجاهد» .
[فصل في القول في الإحرام في الصلاة]
فصل
في القول في الإحرام في الصلاة الدخول في الصلاة والتحريم بها يفتقر إلى
نية ولفظ. فالنية اعتقاد أداء ما افترض عليه من الصلاة التي قام إليها وعمد
لها، واللفظ التكبير، وصفته الله أكبر لا يجزئ عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ
- وجميع أصحابه في ذلك ما سواه من تسبيح أو تهليل أو تحميد خلافا لأبي
حنيفة، ولا التكبير بخلاف هذه الصفة خلافا للشافعي في قوله إنه يجوز فيه
الله الأكبر. ودليلنا عليهما جميعا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم» . وما روي عنه من
رواية أبي هريرة وغيره أنه
(1/169)
قال للرجل الذي علمه الصلاة: «إذا أردت
الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ثم اركع حتى تطمئن
راكعا» الحديث. ولفظ التكبير بإطلاقه لا يقع إلا على الله أكبر. ودليلنا
على أبي حنيفة من جهة القياس أن هذا ذكر عري من لفظ التكبير فلم يجز في
الإحرام أصله إذا قال: اللهم اغفر لي. ودليلنا من جهة القياس على الشافعي
أن هذه زيادة في لفظ التكبير ... عن بنية الله أكبر فلم يجز في الإحرام
أصله إذا قال: الله الكبير.
فصل واختلف أهل العلم هل من شرط صحة الإحرام أن تكون النية مقارنة للفظ
الذي هو التكبير عندنا أو ليس ذلك من شرطه ويجزئ أن تتقدمه بيسير بعد
إجماعهم أنه لا يجوز أن تتقدمه بكثير ولا أن يتقدمها اللفظ بيسير ولا كثير،
إلى أنه يجوز أن تتقدمه بيسير، وذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز أن تتقدمه
بيسير ولا كثير، وإلى هذا ذهب عبد الوهاب من أصحابنا، وهو ظاهر قول ابن أبي
زيد في رسالته. والدخول في الصلاة بنيه الفرض فريضة، وليس عن مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في ذلك نص ولا عن أحد من أصحابه المتقدمين،
ولو كان ذلك عندهم من فروض الصلاة لتكلموا عليه ولما أغفلوا ذكره ولا وسع
أحدا عندهم جهله ولا أجازوا إمامة من يجهله، كما لا تجوز عندهم إمامه من
يجهل أن القبلة والمباشرة تنقضان الوضوء وما أشبه ذلك مما أجمعوا عليه ولم
يختلفوا فيه وإن كان الخلاف فيه موجودا. والصحيح عندي على مذهبه ومذهبهم
أنه ليس من شرط صحة الإحرام مقارنة النية للتكبير، وأنه يجزئ أن تتقدمه
بيسير. فإذا قام الرجل إلى الصلاة ولم يجدد النية لها مع الإحرام معا
نسيانا فصلاته تامة جائزة لتقدم نيته قبل تشبثه بالصلاة، إذ لا يتصور من
القائم للصلاة عدم النية لها، قياسا على قولهم في الغسل والوضوء، وعلى ما
أجمع عليه أهل العلم في الصيام للنص الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وقد فرق بين الموضعين من خالف في ذلك
(1/170)
بتفاريق لا تسلم من الاعتراض ليس هذا موضع
ذكرها والانفصال عنها. وأغرق بعضهم في القياس فقالوا: إن جدد النية للإحرام
بعد أن أخذ في التكبير قبل تمامه لم يجزئه حتى ينويه من أوله. ومنهم من
قال: إن تجديد النية عند الإحرام لا يجزئه حتى يسمي الصلاة التي يريد بلفظه
فيقول صلاة كذا، وهذا لا يوجبه نفر، ولا يعضده أثر.
فصل فتكبيرة الإحرام هي التكبيرة التي تقترن بها نية أداء فرض الصلاة أو
تتقدمها بيسير على ما قدمناه، وهي فرض عند مالك وجميع أهل العلم إلا من شذ
منهم على الفذ والإمام والمأموم. وقد روي عن ابن شهاب أنه قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكبيرة الإحرام على الفذ
والإمام والمأموم» . وقول سعيد بن المسيب وابن شهاب فيمن نسي تكبيرة
الإحرام مع الإمام وكبر للركوع: إنها تجزئه من تكبيرة الإحرام وإن لم ينو
بها تكبيرة الإحرام، لا يدل أن تكبيرة الإحرام عندهما ليست بفرض، خلاف ما
ذهب إليه بعض المتأولين من المتأخرين، وإنما معنى ما ذهبا إليه والله أعلم
وأحكم أنها تجزئه من تكبيرة الإحرام؛ لأن النية قد تقدمت منه عند القيام
إلى الصلاة، إذ لا يتصور عدم النية من القائم للصلاة فانتظمت النية
المتقدمة بالتكبير للركوع لقرب ما بينهما فصح الإحرام وأجزأت الركعة؛ لأن
الإمام يحمل عنه القراءة، ولم ير ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: وذلك
إذا نوى بها تكبيرة الإحرام، وإن كان من مذهبه جواز تقدم النية على الإحرام
على ما ذكرناه؛ لأنه لما نوى بها تكبيرة الركوع وهي سنة كان قد نقض بذلك
نيته المتقدمة. وإنما كانت تجزئه من تكبيرة الإحرام وتنتظم عنده بالنية
المتقدمة لو لم تكن له فيها نية. فأصل الاختلاف بينه وبينهما إنما هو هل
ترتفض بذلك نيته المتقدمة بتحويلها إلى نية تكبيرة الركوع الذي هو سنة أم
لا. فرأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنها ترتفض بذلك، ورأى سعيد
بن المسيب وابن شهاب أنها لا ترتفض به، وذلك نحو قول
(1/171)
مالك فيمن طاف تطوعا إنه يجزئه من طواف
الإفاضة إذا تباعد، ومثل قول أشهب فيمن قرأ سجدة في صلاته فركع بها ساهيا:
إن الركعة تجزئه، ومثل قولهم فيمن حالت نيته وهو في الصلاة إلى نافلة: إن
صلاته تامة. والفرق عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بين من حالت
نيته في الصلاة إلى نافلة وبين القائم إلى الصلاة تحول نيته فيكبر بنية
الركوع الذي هو سنة مراعاة الاختلاف، وذلك أن كثيرا من العلماء يوجبون عليه
تجديد النية عند الإحرام. ولا خلاف عند أحد من العلماء في أنه لا يلزمه
تجديد النية عند كل ركن من أركان الصلاة، ومن مذهبه مراعاة الاختلاف. وأما
سعيد بن المسيب وابن شهاب فطردا قولهما على أصل مذهبهما ولم يراعيا خلاف
غيرهما. ولو كبر للركوع وهو ذاكر للإحرام متعمدا لما أجزأته صلاته بإجماع،
كما لو رجع في صلاته إلى نية النافلة متعمدا لبطلت صلاته. ومن تأول على ابن
المسيب وابن شهاب أن تكبيرة الإحرام عندهما سنة وأن سجود السهو يجزئ فيها
عن الفذ وأن الإمام يحملها عن المأموم فقد أخطأ عليهما خطأ ظاهرا، إذ لو
كانت عندهما سنة لحملها الإمام عن المأموم كبر للركوع أو لم يكبر، كما يحمل
عنه القراءة وجميع سنن الصلاة وإن كثرت، ولأجزأ الفذ والإمام من تركها سجود
السهو وأن لم يكبر للركوع وإن كان القوم سهوا عنها بسهوه أجزأهم سجود سجدتي
السهو بهم. وإن كانوا كبروا هم دونه قبل ابتدائه بالقراءة بطلت صلاتهم
لدخولهم فيها قبله إن كان مذهبه أن صلاة القوم مرتبطة بصلاة إمامهم، وهذا
لا يصح؛ لأنه خلاف ما نصا عليه في قولهما أجزأته تكبيرة الركوع من تكبيرة
الإحرام؛ لأنهما لما قيدا الإجزاء بتكبيرة الركوع دل ذلك من مذهبهما على أن
تكبيرة الإحرام عندهما فرض إلا أنه يجزئ منها عندهما للفذ والإمام والمأموم
تكبيرة الركوع، فلا يكون واحد منهم داخلا في الصلاة على مذهبهما إذا لم
يكبروا للإحرام إلا تكبيرة الركوع النائبة منابها عندهما على التأويل الذي
وصفناه من أن النية المتقدمة انتظمت بها فصح الإحرام، فإن تركها المأموم
وكبر للركوع صحت صلاته على مذهبهما وكان داخلا فيها بتكبيرة الركوع التي
أجزأته من تكبيرة الإحرام؛ لانتظامها بالنية المتقدمة وحمل الإمام عنه
القراءة. وهذا إن كبر للركوع في حالة القيام. وإن تركها الفذ وكبر للركوع
أجزأته تكبيرة الركوع عن تكبيرة الإحرام فصح إحرامه
(1/172)
وسجد قبل السلام لتركه القراءة في تلك
الركعة على الاختلاف في ذلك إن كان أوقع تكبيرة الركوع في حال القيام. وأما
إن كان كبر للركوع وهو راكع بطلت الركعة لإسقاطه منها القيام وأتى بها بعد
سلام الإمام. وكذلك إن تركها الإمام ومن معه وكبروا للركوع. وأما إن أحرموا
هم ونسي الإمام تكبيرة الإحرام وكبر للركوع فلا تجزئهم صلاتهم؛ لأنهم
أحرموا قبله ويصلح هو صلاته بالسجود أو إلغاء الركعة على ما تقدم. وقد قيل:
إن من أحرم قبل إمامه فهو بمنزلة من لم يحرم في جميع الأحوال. فيتخرج على
هذا القول إن كبروا للركوع بعده أن يكونوا بمنزلته في إصلاح الصلاة بالسجود
أو إلغاء الركعة.
فصل فإذا نسي المأموم تكبيرة الإحرام وكبر للركوع ولم ينو بها تكبيرة
الإحرام تمادى مع الإمام وأعاد، وإن نوى بها تكبيرة الإحرام أجزأته صلاته
وحمل عنه الإمام القراءة. وأما إن ترك الإمام والفذ تكبيرة الإحرام فلا بد
لهما على مذهب مالك من استئناف الصلاة وإن نويا بتكبيرة الركوع تكبيرة
الإحرام؛ لأنهما إن لم ينويا بها تكبيرة الإحرام فليسا في صلاة، وإن نويا
بها تكبيرة الإحرام فقد بدآ من صلاتهما بالركوع قبل القراءة متعمدين لذلك
فأفسدا.
فصل وكذلك إن فاتته الأولى ودخل مع الإمام في الثانية فنسي الإحرام وكبر
للركوع، الحكم في ذلك سواء، إن لم ينو بها تكبيرة الإحرام تمادى مع الإمام
وأعاد بعد قضاء الركعة التي فاتته، وإن نوى بها تكبيرة الإحرام أجزأته
الصلاة وقضى الركعة بعد سلام الإمام. كذا روى علي بن زياد عن مالك. وذهب
ابن حبيب إلى أنه إذا فاتته الأولى ونسي الإحرام وكبر للركوع ولم ينو بها
تكبيرة الإحرام أنه يقطع على كل حال ولا وجه لقوله. وأما من دخل مع الإمام
في الأولى ونسي الإحرام والتكبير للركوع وكبر في الركعة الثانية ولم ينو
بها الإحرام فقال مالك في الموطأ: إنه يقطع، والفرق عنده بين هذه وبين
الأولى تباعد ما بين النية والتكبير والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1/173)
فصل واختلف إذا ذكر المأموم تكبيرة الإحرام
وهو راكع قد كبر للركوع وهو يطمع أن يرفع ويحرم ويدرك الركعة، فقيل: إنه
يتمادى ويعيد، وقيل: إنه يرفع ويحرم ويدرك الركعة، وقيل: يقطع بسلام ويدرك
الركعة. فإن لم يكبر للركوع وكبر للسجود قطع ما لم يركع الركعة الثانية كبر
لها أو لم يكبر، قاله في كتاب ابن المواز. فإن ركع تمادى وأعاد بعد قضاء
ركعة، وإن نوى بتكبير السجود الإحرام أجزأه وقضى ركعة بعد سلام الإمام.
فهذا حكم المأموم ينسى تكبيرة الإحرام. وأما إن شك فيها فذكر قبل أن يركع
أو بعد أن ركع ولم يكبر للركوع، فقيل: إنه يقطع ويحرم، يريد بسلام. وفي
الواضحة دليل على أنه يقطع بغير سلام، والله أعلم. وقيل: إنه يتمادى ويعيد.
وأما إن لم يذكر حتى كبر للركوع، فإنه يتمادى ويعيد. وأما من كبر قبل إمامه
فقيل: إنه بمنزلة من لم يكبر في جميع شأنه، وقيل: إنه إن ذكر قبل أن يركع
أو بعد أن ركع ولم يكبر إنه يقطع بسلام ويدخل مع الإمام، وقيل: إنه إن ذكر
قبل أن يركع قطع بغير سلام، وإن ذكر بعد أن ركع ولم يكبر قطع بسلام، وهو
قول ابن القاسم. وأما إن لم يذكر حتى كبر للركوع، فإنه يتمادى ويعيد قولا
واحدا.
فصل وأما من نسي تكبيرة الإحرام وهو وحده أو إمام فإنه يقطع متى ما ذكر
ويحرم، فإن كان قبل ركعة قطع بغير سلام، وإن كان بعد ركعة فقيل: إنه يقطع
بسلام، وقيل: بغير سلام ويعيد الإقامة.
فصل فإن شك فيها وهو وحده أو إمام فقيل: إنه يتمادى حتى يتم ويعيد، فإن كان
إماما سأل القوم فإن أيقنوا بإحرامه صحت صلاتهم، وإن لم يوقنوا أعادوا
الصلاة. وفي هذا القول دليل على ما ذهبنا إليه من إجازة تقدم النية الإحرام
على مذهب مالك. وقيل: إنه بمنزلة من أيقن يقطع متى علم، وقيل: إنه إن كان
قبل أن يركع قطع وإن كان قد ركع تمادى وأعاد إلا أن يكون إماما فيوقن القوم
أنه قد أحرم. وفي
(1/174)
رجوعه إلى يقين القوم بإحرامه واجتزائه
بذلك دليل على إجازة تقدم النية الإحرام وقد ذكرنا ذلك.
[فصل في السلام من الصلاة]
فصل
في السلام من الصلاة والسلام من الصلاة بمنزلة الإحرام لها في جميع حالاته؛
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بينهما فقال: «تحريم
الصلاة التكبير وتحليلها التسليم» . فكما لا يدخل في الصلاة إلا بتكبيرة
ينوي بها الدخول في الصلاة والتحرم بها، فكذلك لا يخرج منها إلا بتسليمة
ينوي بها الخروج من الصلاة والتحلل منها، فإن سلم في آخر صلاته ولا نية له
أجزأ ذلك عنه لما تقدم من نيته، إذ ليس عليه أن يجدد الإحرام لكل ركن من
أركان الصلاة. وإن نسي السلام الأول وسلم السلام الثاني لم يجزئه ذلك على
مذهب مالك، وأجزأه على ما تأولناه على مذهب ابن المسيب وابن شهاب. وإن سلم
ساهيا قبل تمام صلاته لم يخرج بذلك عن صلاته بإجماع، فليتم صلاته ويسجد
لسهوه إن كان وحده أو إماما، فإن سلم شاكا في تمام صلاته لم يصح له الرجوع
إلى تمامها. واختلف إن أيقن بعد سلامه أنه قد كان أتم صلاته، فقال ابن
حبيب: صلاته جائزة كمن تزوج امرأة وهو لا يدري إن كان زوجها حيا أو ميتا ثم
انكشف أنه قد مات وانقضت العدة أن نكاحه جائز، وقد قيل: إن صلاته فاسدة وهو
أظهر. وإن سلم قاصدا إلى التحلل من الصلاة وهو يرى أنه قد أتمها ثم شك في
شيء منها أو أيقن به لم يمنعه ذلك من الرجوع إلى إصلاحها. واختلف هل يرجع
إليها بإحرام أم لا على قولين: أحدهما أن السلام على طريق السهو لا يخرجه
عن الصلاة فيرجع إليها بغير إحرام، وهو قول أشهب وابن الماجشون واختيار ابن
المواز في كتابه، والثاني أنه يخرجه عن الصلاة فلا يرجع إليها إلا بإحرام،
وهو قول ابن القاسم في المجموعة وروايته عن مالك. وإلى هذا ذهب أحمد بن
خالد وقال: إنه
(1/175)
قد روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -. قال أحمد بن خالد: فإن لم يرجع بإحرام أعاد الصلاة. ومثله
في مختصر ابن عبيد الطليطلي، إلا أنه قال: يكبر ثم يجلس ويبني، وحكاه عن
ابن القاسم. وإنما الصواب أن يجلس ثم يكبر فيبني؛ لأنه إذا كبر قائما فقد
زاد في الصلاة الانحطاط من حال القيام إلى حال الجلوس.
فصل فمن رأى السلام يخرجه من الصلاة وقال: إنه يرجع بإحرام، فلا بد له من
الرجوع إلى الموضع الذي فارق فيه الصلاة، فإن كان سلم من ركعتين رجع إلى
الجلوس، وإن كان سلم من ركعة أو ثلاث ركعات فذكر وهو قائم رجع إلى حال رفع
رأسه من السجود ولم يجلس إذ لم يكن ذلك موضعا لجلوسه، وإنما كان الواجب
عليه أن يقوم من السجدة الأخيرة دون أن يرجع إلى الجلوس، وهذا بين. ومن رأى
أن السلام لا يخرجه من الصلاة فيأتي على مذهبه أنه إن ذكر وهو قائم كبر
وابتدأ القراءة ولم يرجع إلى الجلوس؛ لأن قيامه للانصراف محسوب له من صلاته
إذا لم يخرجه عنها السلام، وإن ذكر وهو جالس في موضعه قام وكبر وابتدأ
القراءة. وهذا على مذهب ابن القاسم إن كان سلم من ركعتين. وأما إن كان سلم
من ركعة أو ثلاث فيرجع إلى صلاته ويبتدئ القراءة دون تكبير قائما كان أو
قاعدا. وليس في المدونة في هذا بيان إن كان يرجع إلى الجلوس أم لا إلا ما
يظهر من مذهب سحنون في قوله إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رجع يوم ذي اليدين بتكبير. ويحتمل أن تكون تلك التكبيرة - إن
ثبتت - تكبيرة إحرام، وأن تكون تكبيرة القيام من اثنتين.
ولقد نازعني بعض أصحابنا في مسألة المدونة وهي قوله فيمن فاته بعض صلاة
الإمام فظن أن الإمام قد سلم فقام لقضاء ما فاته فسلم الإمام وهو قائم أنه
(1/176)
يلغي ما قرأ ويستأنف قراءته من أولها ولا
يرجع إلى الجلوس ويسجد قبل السلام يريد لنقصان النهضة، فقال فيها: إن هذا
من قوله في المدونة مثل قول ابن نافع فيمن سلم من ركعتين ساهيا ثم ذكر
بالقرب وهو قائم إنه [يلغي ما قرأ ويستأنف قراءته من أولها ولا يرجع إلى
الجلوس ويسجد قبل السلام، يريد لنقصان النهضة، فقال فيها: إن هذا من قوله
في المدونة مثل قول ابن نافع فيمن سلم من ركعتين ساهيا ثم ذكر بالقرب وهو
قائم إنه لا يرجع إلى الجلوس خلاف قول ابن القاسم إنه يحرم] ، ويرجع إلى
الجلوس.
فقلت له: مسألة المدونة هذه صحيحة لا يصح دخول ذلك الاختلاف فيها؛ لأنها
مسألة أخرى، والفرق بينهما: أن الذي سلم من ركعتين ساهيا اختلف هل يخرج من
الصلاة بالسلام على طريق السهو أم لا، على قولين. فمن ذهب إلى أنه يخرج به
عن الصلاة يقول: يرجع بإحرام ويعود إلى الجلوس؛ لأن نهضته لم يفعلها
للصلاة، وهو مذهب ابن القاسم. ومن يقول إن السلام على طريق السهو لا يخرج
به المصلي عن الصلاة يقول إنه لا يحتاج في رجوعه إلى إحرام ولا يرجع إلى
الجلوس؛ لأن قيامه يعتد به من صلاته وهو مذهب ابن الماجشون وابن نافع وأشهب
واختيار محمد بن المواز. والذي قام قبل سلام الإمام فعلم بسلامه وهو قائم
لم يخرج بفعله ذلك عن صلاته وصارت النهضة التي فعل في حكم الإمام وقبل
سلامه ملغاة لا يعتد بها فكأنه أسقطها فوجب أن لا يرجع إليها ويسجد قبل
السلام قياسا على من أسقط الجلسة الوسطى ساهيا فلم يذكر حتى اعتدل قائما
إنه لا يرجع إليها ويسجد قبل السلام.
فقال لي: لا فرق بين القراءة والنهضة التي فعل قبل سلام الإمام في أنه لا
يعتد بشيء من ذلك، فكما يستأنف قراءته من أولها فكذلك يلزم أن يرجع إلى
الجلوس ليأتي بالنهضة التي فعل في حكم الإمام، فلم يعتد بها على مذهب ابن
القاسم فيمن سلم من ركعتين.
فقلت له: لا يلزم ذلك. والفرق بين القراءة والنهضة أن النهضة قد فات
(1/177)
موضعها ولا يقدر أن يرجع إليها إلا بزيادة
الانحطاط من حال القيام إلى الجلوس، وليس ذلك من الصلاة. والقراءة لم يفت
موضعها فهو يستأنفها من غير أن يزيد في صلاته شيئا.
فقال لي: قول ابن القاسم في الذي سلم من ركعتين ساهيا إنه يحرم ثم يجلس،
فقد قال ابن القاسم: إنه يرجع إلى الجلوس فلا يصح لك الفرق بين القراءة
والنهضة بذلك.
قلت له: لا يصح عن ابن القاسم ولا عن غيره في مسألتك أن يحرم ثم يرجع إلى
الجلوس، وقد أخطأ على ابن القاسم من حمل قوله على ذلك، وإنما معنى قوله أن
يرجع إلى الجلوس قبل ثم يحرم، بدليل إجماعهم على أن مسقط الجلسة الوسطى لا
يرجع إليها بعد اعتداله قائما من أجل زيادة الانحطاط، وبذلك تعلل السنة
الثابتة في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسكت
وسلم.
فإن قال قائل: فإن الذي يسقط سجدة فيذكرها وهو قائم في الثانية يؤمر أن
يرجع إليها وهو في رجوعه إليها يزيد في صلاته ما ليس منها، وهو الانحطاط من
حال القيام إلى الجلوس. فما الفرق بين ذلك وبين رجوعه إلى النهضة التي يجب
إلغاؤها؟.
قيل له: السجدة ركن من أركان الصلاة لا يجزئ عنها سجود السهو، فوجب الرجوع
إليها ما لم تفت بعقد ركعة، والنهضة تجزئ عنها سجدتا السهو كالجلسة الوسطى،
فلم يرجع إليها بزيادة ما ليس من الصلاة، وبالله التوفيق.
(1/178)
|