المقدمات
الممهدات [كتاب الصلاة الثاني] [فصل
في القراءة في الصلاة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم
تسليما كتاب الصلاة الثاني فصل
في القراءة في الصلاة القراءة في الصلاة واجبة عند جمهور العلماء بدليل قول
الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] ؛ لأن المعنى في ذلك: إذا قرئ
القرآن في الصلاة فاستمعوا له وأنصتوا، إذ لا يجب الإنصات للقارئ واستماع
قراءته إلا على المأموم للإمام، بدليل قول الله عز وجل: {وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا}
[الإسراء: 110] ؛ لأن المعنى في ذلك عند بعض أهل التفسير: ولا تجهر بقراءة
صلاتك حتى يسمعها المشركون لئلا يسبوا قراءتك، ولا تخافت بها حتى لا يسمعها
أصحابك الذين معك في صلاتك، وبدليل قول الله عز وجل أيضا: {فَاقْرَءُوا مَا
تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] ؛ لأن معناه في الصلاة. بدليل قول رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قال الله تبارك وتعالى: قسمت
الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل،
اقرؤوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين» الحديث. لأنه لما سمى القراءة في
الصلاة صلاة دل على أن الصلاة
(1/179)
لا تجزئ إلا بها. ألا ترى أنه سمى الصلاة
إيمانا لما كانت الصلاة لا تصح إلا بالإيمان، فقال الله عز وجل: {وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي: صلاتكم إلى بيت
المقدس، على ما قاله أهل التأويل.
فصل والذي يتعين من القراءة في الصلاة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم، قراءة أم القرآن على الإمام
والفذ. قيل: في جملة الصلاة، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج غير
تمام» ، وبدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن
لم يقرا بأم القرآن» . وقيل: في كل ركعة، بدليل ما روي عنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تتم ركعة لم يقرأ فيها بأم
القرآن» ، وبدليل قول جابر بن عبد الله: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم
القرآن لم يصل إلا وراء إمام. فعلى القول بأنها واجبة في جملة الصلاة إن
ترك قراءتها جملة أعاد الصلاة، وإن تركها في ركعة واحدة من أي الصلوات كانت
أجزأه سجود السهو. وعلى القول بأنها واجبة في كل ركعة، إن ترك قراءتها في
ركعة أو ركعتين أو ثلاث ألغاها، وبنى صلاته على الركعة التي قرأها فيها،
على حكم من ترك سجدة أو ركعة من ركعتين أو من ثلاث أنه يصلح صلاته بإلغاء
ما بطل عليه من الركعات، والسجود للسهو بعد السلام أو قبله إن كان قد اجتمع
له في سهوه زيادة ونقصان على ما يأتي لهم في مسائلهم. وفرق مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - بين أن يترك أم القرآن من ركعة واحدة وبين أن يتركها من
ركعتين أو أكثر، فقال: إنه إن تركها من ركعتين أو أكثر أعاد الصلاة ولم
يختلف في ذلك قوله. واختلف قوله إن تركها من ركعة واحدة على ثلاثة أقوال:
أحدها أن يسجد قبل السلام وتصح صلاته. والثاني أنه يلغي الركعة. والثالث
أنه يسجد قبل السلام ويعيد الصلاة. قيل: كانت
(1/180)
الصلاة من أي الصلوات كانت، وهو ظاهر ما في
المدونة على معنى ما قاله ابن الماجشون، من أنه إنما ينظر إلى قلة السهو من
كثرته لا إلى مقدار ما يقع في الصلاة. وقيل: إنما ذلك إذا كانت الصلاة
ثلاثية أو رباعية، وهو قوله في رواية مطرف عنه، وحكاه ابن حبيب أيضا عنه من
رواية ابن القاسم. واختلف اختيار ابن القاسم في ذلك، فمرة أخذ بالإلغاء،
وهو قوله في الصلاة من المدونة، ومرة أخذ بالإعادة، وهو قوله في الوضوء
منها وفي كتاب ابن المواز. وهذا كله استحسان على غير قياس مراعاة لقول من
لا يرى القراءة واجبة في الصلاة جملة، وهو [مذهب ربيعة بن أبي] ، عبد
الرحمن وعبد العزيز بن أبي سلمة على ما جاء عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - من أنه لا إعادة على من ترك القراءة في صلاته
إذا كان الركوع والسجود حسنا، وعن عمر بن الخطاب من أنه صلى بالناس المغرب
فلم يقرأ فيها، فلما انصرف قيل له: ما قرأت، قال فكيف كان الركوع والسجود،
قالوا: حسن، قال: فلا بأس إذا. وقد أنكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- ذلك عن عمر بن الخطاب، فقال: أنا أنكر أن يكون عمر فعله، وإنما هو حديث
سمعناه لا أدري ما حقيقته. وقد روي أن عبد الرحمن بن عوف دخل عليه، فقال:
يا أمير المؤمنين صليت بنا ولم تقرأ، فقال: أجل، إني جهزت عيرا إلى الشام
فأنزلتها منازلها فخرج عمر إلى الناس فأعاد بهم الصلاة.
فصل فعلى القول بالإعادة إن ذكر قبل أن يركع أنه لم يقرأ استأنف القراءة
وسجد بعد السلام على الاختلاف في السجود بزيادة القرآن سهوا، وإن ذكر ذلك
بعد أن ركع وقبل أن يرفع، فقيل: إنه يقطع، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن
المواز، وقيل: إنه ينصرف إلى القيام فيقرأ ويركع ويسجد بعد السلام، وهو
قوله في سماع سحنون. وهذا على الاختلاف في عقد الركعة هل هو بالركوع أو
بالرفع منه. وقال:
(1/181)
أصبغ يمضي على صلاته ويسجد لسهوه ويجتزئ
بها إلا أن يشاء أن يعيدها. وإن ذكر بعد أن رفع رأسه من الركوع قبل أن يسجد
أو بعد أن سجد إحدى السجدتين قطع، وإن ذكر بعد أن سجد السجدتين ما لم يركع
في الثانية، فمرة قال: يقطع، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، ومرة
قال: يتم ركعتين، وهو قوله في كتاب ابن المواز. وكذلك إن ذكر بعد أن ركع في
الثانية على القول بأن عقد الركعة [لا يكون إلا برفع الرأس من الركوع. وأما
على القول بأن عقد الركعة] يكون بالركوع فيتم ركعتين كما لو ذكر بعد أن رفع
رأسه من الركوع. وإن ذكر وهو واقف في الثالثة رجع إلى الجلوس وسلم، وإن ذكر
بعد أن صلى الثالثة أتم الرابعة وسجد قبل السلام وأعاد الصلاة في الوقت
وبعده. قال ابن القاسم في موضع: احتياطا، وقال في موضع: يعيد أحب إلي، وقال
في موضع: يتم الرابعة وتكون نافلة ويعيد.
فصل وأما على القول بالإلغاء، فإن ذكر أنه لم يقرأ قبل أن يتم الركعة
بسجدتيها ألغى ما مضى منها واستأنف القراءة من أولها وسجد بعد السلام، وإن
ذكر ذلك وهو واقف في الركعة الثانية جعلها أولى وألغى الأولى التي لم يقرأ
فيها، وسجد بعد السلام. وكذلك إن ذكر وهو قائم في الثالثة جعلها ثانية وقرأ
فيها بالحمد لله وسورة وجلس وتشهد وسجد بعد السلام. وإن ذكر ذلك بعد أن ركع
في الثالثة وإن لم يرفع رأسه من الركوع تمادى وجعلها ثانية وجلس وتشهد وسجد
قبل السلام، وكذلك إن ذكر ذلك بعد أن قام من الثالثة وهو واقف في الرابعة
جعلها ثالثة وسجد قبل السلام. وأخذ أشهب وابن عبد الحكم وأصبغ بالإعادة في
الركعة الواحدة، وبالإلغاء في الركعتين والثلاث. قال ابن عبد الحكم: ما لم
يسلم فإن سلم أعاد، وقال أصبغ: وإن سلم جاهلا فإنه يرجع إلى صلاته ويلغي ما
كان بالقرب، إذ لم يختلف قول مالك في أن من ترك القراءة في ركعتين فما زاد
إنه يعيد، فراعى هؤلاء اختلاف قول مالك كما راعى مالك اختلاف قول غيره ممن
تقدمه. فتحصيل الاختلاف في هذه المسألة أن في تارك القراءة في ركعة واحدة
من صلاة ثلاثية أو
(1/182)
في رباعية ثلاثة أقوال لمالك، وفي تارك
القراءة من ركعتين أو ثلاث من صلاة رباعية أو من ركعتين من صلاة ثلاثية
قولان: أحدهما: الإعادة، وهو قول مالك، والثاني: الإلغاء، وهو قول أشهب
وابن عبد الحكم وأصبغ. واختلف في تارك القراءة من ركعة من صلاة هي ركعتان
كالصبح والجمعة وصلاة السفر، فقيل: إن ذلك كتارك القراءة في ركعة من صلاة
ثلاثية أو رباعية يدخل في ذلك الثلاثة الأقوال لمالك، وقيل: إن ذلك كتارك
القراءة في ركعتين من صلاة رباعية لا يكون في ذلك إلا قولان: الإعادة،
والإلغاء، وبالله التوفيق.
[فصل فيما يجب على المرأة من الستر في الصلاة]
فصل
فيما يجب على المرأة من الستر في الصلاة
قال الله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الآية، وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ
فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59] . فلما أمرت المرأة الحرة بالستر من
الأجنبيين، وأن لا تبدي عند غير ذي المحرم منها من زينتها إلا ما ظهر منها،
وهو الوجه والكفان على ما قاله أهل العلم بالتأويل، وجب عليها مثل ذلك في
الصلاة سنة واجبة لا ينبغي لها تركها. فأقل ما يجزئها من اللباس في الصلاة
الخمار والدرع السابغ الذي يستر ظهور قدميها على ما قالته أم سلمة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - للتي سألتها عما تصلي فيه المرأة من الثياب. ولا يجوز
لها أن تصلي في ثوب خفيف يصف جسدها، ولا في ثوب صفيق رقيق يلتطئ بها فيصف
خلقها؛ لأنها إذا
(1/183)
فعلت ذلك كانت كاسية في حكم العارية. قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نساء كاسيات عاريات
مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة
خمسمائة عام» ، فإن فعلت ذلك أو صلت بادية الشعر أو الصدر أو الذراعين أو
القدمين، أعادت في الوقت. وأما الأمة فحكمها فيما يجوز لها أن تصلي فيه من
الثياب حكم الرجل، إلا في وجوب ستر فخذها، إذ لا اختلاف في أن الفخذ من
المرأة عورة. وإنما اختلف في الفخذ من الرجل، فروى ابن عباس وجرهم عن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الفخذ عورة» . وقال «أنس
بن مالك: أجرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زقاق خيبر
وإن ركبتي لتمس فخذه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحسر رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإزار عن فخذه حتى إني أنظر
إلى بياض فخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وقال
البخاري: حديث أنس أسند وحديث جرهم أحوط حتى يخرج من اختلافهم. «وروي عنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان في حائط بعض الأنصار مدليا
رجليه في بئرها وبعض فخذه مكشوف، فدخل عليه أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - وهو على حاله لم ينتقل عنها حتى دخل عثمان فغطى فخذه وقال: "
ألا أستحي ممن استحيت منه ملائكة الرحمن» . فإن صلت الأمة مكشوفة الفخذ -
أو السرة - لأنها منها أيضا عورة أعادت في الوقت. واختلف إن صلت مكشوفة
البطن، فقال أصبغ: لا إعادة عليها، وقال أشهب: تعيد في الوقت، وكذلك الرجل
عنده، وهو بعيد. وإن صلى الرجل مكشوف البطن والظهر فلا إعادة عليه في
المشهور في المذهب، وإن صلى مكشوف الفخذ تخرج وجوب الإعادة عليه في الوقت
على الاختلاف فيه هل هو عورة أم لا. والذي أقول به أن ما روي عن النبي -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الفخذ ليس باختلاف تعارض، ومعناه
أنه ليس عورة يجب سترها فرضا كالقبل والدبر، وأنه عورة يجب سترها في مكارم
الأخلاق ومحاسنها، فلا ينبغي التهاون بذلك في المحافل والجماعات، ولا عند
ذوي الأقدار والهيئات. فعلى هذا تستعمل الآثار كلها، واستعمالها كلها أولى
من بعضها.
(1/184)
فصل وقد اختلف في ستر العورة، فقيل: إنها
من فرائض الصلاة، وقيل: إنها ليست من فروض الصلاة وإنما هي فرض في الجملة
وسنة في الصلاة. فمن رآها من فروض الصلاة أوجب الإعادة أبدا على من صلى
مكشوف العورة وهو قادر على سترها، ومن لم يرها من فروض الصلاة لم يوجب عليه
الإعادة إلا في الوقت.
وحكم المرأة في النظر إلى فخذ المرأة وإلى سرتها كحكم الرجل في نظره إلى
ذلك من الرجل. وحكم المرأة فيما يصح لها أن تراه من الرجل الأجنبي كحكم
الرجل فيما يصح له أن يراه من ذوات محارمه على القول بأن الرجل لا يغسل
ذوات محارمه كما لا يغسل النساء الرجل الأجنبي، وهو الصحيح من الأقوال.
وحكم المرأة فيما يصح لها أن تراه من ذوي محارمها كحكم الرجل فيما يصح له
أن يراه من الرجل. وقد قيل: إن حكم المرأة فيما يصح لها أن تراه من الرجل
كحكم الرجل فيما يصح له أن يراه من المرأة، وبالله تعالى التوفيق.
[فصل في الجمع بين الصلاتين المشتركتين في
الوقت]
فصل
في الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت الجمع بين الصلاتين المشتركتي
الوقت وهما الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في السفر والمرض والمطر رخصة
وتوسعة. والأصل في جواز ذلك ما ثبت من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في سفره إلى
تبوك» «وأنه أخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل وخرج
وصلى المغرب والعشاء جميعا» «وأنه كان إذا أراد أن يسير يومه جمع بين الظهر
والعصر، وإذا أراد أن يسير ليله جمع بين المغرب والعشاء» . وما روي
(1/185)
عن ابن عمر أنه قال: «كان رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جد به السير يجمع بين الظهر
والعصر» . وما روي عن ابن عباس من أنه قال: «صلى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا
في غير خوف ولا سفر.» قال مالك: أرى ذلك كان في مطر. وروي في غير خوف ولا
مطر. قال ابن عباس: فعل ذلك لئلا يحرج أمته، وما أشبه ذلك من الآثار.
فصل فاتفق مالك وجميع أصحابه على إباحة الجمع بين الصلاتين المشتركتي الوقت
لعذر السفر والمرض والمطر في الجملة، على الاختلاف بينهم في ذلك على
التفصيل. واختلفوا في إباحة الجمع بينهما لغير عذر، فالمشهور أن ذلك لا
يجوز، وقال أشهب: ذلك جائز على ظاهر حديث ابن عباس وغيره. واختلفوا أيضا في
صفة الجمع وكثير من أحكامه بحسب اختلاف الأعذار المبيحة له. وتحصيل القول
في ذلك يفتقر إلى معرفة حقيقة وقتهما وكيفية اشتراكهما فيه. فأول وقت الظهر
زوال الشمس عن كبد السماء، وآخر وقتها المختار المستحب أن يكون ظل كل شيء
مثله بعد الظل الذي زالت عنه الشمس أيضا على اختلافه في الصيف والشتاء، وهو
بعينه أول وقت العصر المختار المستحب، وآخر وقته المختار المستحب أن يكون
ظل كل شيء مثليه بعد الظل الذي زالت عنه الشمس أيضا على اختلافه في الصيف
والشتاء؛ لأن الظل الذي تزول الشمس عليه لا يعتبر في حال من الأحوال ولا في
بلد من البلدان. وتدخل العصر على الظهر في وقتها المختار المستحب فتشاركها
فيه للعذر، قيل: من أول الزوال، وقيل: بعد مقدار ما تصلى فيه صلاة الظهر.
وتدخل أيضا الظهر على العصر في وقتها المختار المستحب فتشاركها فيه للعذر
إلى آخره وهو تمام القامتين. واختلفوا هل تشارك الظهر العصر في وقت
الاختيار عند اعتدال القامة، فقيل: إنهما لا يشتركان في ذلك
(1/186)
وإن تمام وقت الظهر المستحب بتمام القامة،
وابتداء وقت العصر المستحب بابتداء القامة الثانية. وقيل: إنهما يشتركان.
واختلفوا على القول بأنهما يشتركان في وقت اشتراكهما، فقيل: في آخر القامة
الأولى، وقيل: في أول القامة الثانية، وقد قيل: إن بين الظهر والعصر فاصلة
لا تصلح في الاختيار للظهر ولا للعصر.
فصل وكذلك القول في المغرب والعشاء. فأول وقت المغرب غروب الشمس، وآخر وقته
المختار المستحب مغيب الشفق على مذهب من رأى أن له وقتين، وهو بعينه أول
وقت العشاء المختار المستحب، وآخر وقته ثلث الليل أو نصفه. وتدخل العشاء
على المغرب في وقته المختار المستحب فتشاركه فيه للعذر، قيل: من أول
المغرب، وقيل: بل من بعد مقدار ما تصلى فيه صلاة المغرب. ويدخل أيضا المغرب
على العشاء في وقته المختار المستحب فيشاركه فيه للعذر إلى آخره وهو ثلث
الليل أو نصفه. واختلف هل يشارك المغرب العشاء في وقت الاختيار عند مغيب
الشفق، فقيل: إنهما لا يشتركان في ذلك، وإن أول وقت المغرب المختار ينقضي
بانقضاء مغيب الشفق ثم يدخل وقت العشاء دون فاصلة بين الوقتين، وقيل: إنهما
يشتركان فيه. واختلف على القول بأنهما يشتركان فيه في وقت اشتراكهما، فقيل:
في آخر مغيب الشفق، وقيل: عند انقضاء مغيبه. وقد قيل: إن بين المغرب
والعشاء فاصلة لا تصلح في الاختيار للمغرب ولا للعشاء، وذلك مبني على القول
بأنه ليس للمغرب إلا وقت واحد.
فصل ويشترك الظهر والعصر إلى الغروب، والمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر لأهل
الضرورات، وهم خمسة: الصبي يحتلم، والكافر يسلم، والمغمى عليه يفيق،
والحائض تطهر أو الطاهر تحيض، والحاضر يسافر أو المسافر يقدم.
فصل فيجمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر المسافر يرتحل من المنهل
(1/187)
بالسنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقياسا على الجمع بعرفة، هذا هو المشهور في
المذهب، وقد قيل: إنه لا يجمع إلا أن يجد به السير. وقد قيل: إنه لا يجمع
وإن جد به السير. وهذان القولان في رسم المحرم من سماع ابن القاسم من كتاب
الجامع. والمريض الذي يخشى أن يغلب على عقله على اختلاف في ذلك. ويجمع في
آخر وقت العصر المختار وهو القامتان، المريض الذي يدخل عليه وقت الظهر وهو
مريض لا يقدر على الصلاة إلا بمشقة قائما أو قاعدا وهو يرجو أن ينكشف عنه
ذلك المرض ما بينه وبين آخر الوقت فتخف عليه الصلاة على اختلاف في ذلك، إذ
قد قيل: إنه لا يؤخر صلاة الظهر إلى آخر وقت العصر، ويصلي كل صلاة لوقتها
كيفما استطاع، أو يجمع بينهما في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، إن كان ذلك
أرفق به. والذي يرتحل قبل زوال الشمس ويريد النزول آخر وقت العصر بالسنة
الثابتة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك وقياسا على
الجمع بالمزدلفة. ويجمع في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر المريض الذي يكون
الجمع أرفق به والمسافر الذي يرتحل من قبل الزوال إلى بعد انقضاء القامتين.
قيل: إذا جد به السير، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك على ظاهر حديث
عبد الله بن عمر أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذا عجل به السير يجمع بين الظهر والعصر» . وقيل: وإن لم يجد
به السير، وهو مذهب ابن حبيب على ظاهر قوله في الحديث «فخرج فصلى الظهر
والعصر جميعا، ثم دخل فخرج فصلى المغرب والعشاء جميعا» .
وفي تحقيق وقت جمع هذين ثلاثة أقوال: أحدها: أن يجمع بينهما في آخر القامة
الأولى. والثاني: أن يجمع بينهما في أول القامة الثانية. والثالث: أن يجمع
بينهما بأن يصلي الظهر في آخر القامة الأولى، والعصر في أول القامة
الثانية. فالقول الأول والثاني على اختلافهم في الوقت الذي يشتركان فيه في
الاختيار. والقول الثالث على القول بأنهما لا يشتركان في وقت الاختيار.
فصل والقول في المغرب والعشاء كالقول في الظهر والعصر، يجمع في أول
(1/188)
الغروب الذي يرتحل من المنهل باتفاق، والذي
يخشى أن يغلب على عقله باختلاف. وعند انقضاء نصف الليل الذي يرتحل من قبل
الغروب إلى قبل انقضاء نصف الليل باتفاق، والمريض الذي يدخل عليه وقت
المغرب وهو مريض يرجو أن ينكشف عنه المرض في آخر وقت العشاء وهو ثلث الليل
أو نصفه على اختلاف. وعند مغيب الشفق المريض الذي يكون الجمع أرفق به
والمسافر الذي يرتحل من قبل الغروب إلى بعد انقضاء وقت العشاء وهو ثلث
الليل أو نصفه. قيل: إذا عجل به السير. وقيل: وإن لم يعجل به السير. ولا
يجوز لشيء من هذه الأعذار تأخير الظهر والعصر إلى الغروب ولا إلى ما بعد
القامتين لنهي النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن ذلك بقوله:
«تلك صلاة المنافقين» الحديث، وكذلك لا يجوز لشيء منها تأخير المغرب
والعشاء إلى طلوع الفجر ولا إلى ما بعد نصف الليل؛ إلا أن يكون المريض لا
يقدر على الصلاة إيماء لشدة مرضه إلا بمشقة لا يلزمه تكلفها فيكون ذلك له.
ولو كان لا يقدر على تكلف ذلك بحال لأشبه المغمى عليه، إلا في سقوط الصلاة
عنه بخروج الوقت على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك من أجل أن معه عقله.
فصل واختلف في الجمع بين المغرب والعشاء بسبب المطر والطين والظلمة. فقيل:
إنه يكون قبل مغيب الشفق، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك والمشهور في
المذهب. وقيل: إنه يجمع بينهما عند الغروب وهو قول ابن عبد الحكم وابن وهب
وروايته عن مالك. فالقول الأول مبني على أن وقت المغرب المختار
(1/189)
المستحب يمتد إلى مغيب الشفق. [والقول
الثاني مبني على أنه لا يمتد إلى مغيب الشفق] وإنما فارق الجمع في المطر
جمع المسافر والمريض في تعجيل الجمع قبل مغيب الشفق أو عند غروب الشمس من
أجل أنه لا رفق للمسافر والمريض في تعجيل الجمع قبل مغيب الشفق، وللناس رفق
في تعجيل الجمع في المطر قبل مغيب الشفق لينصرفوا في بقية من الضياء.
فصل ولما كان على القول بأن المغرب ليس لها في الاختيار إلا وقت واحد، لا
يجوز أن تؤخر المغرب عن وقت الغروب إلا لعذر، وكانت العشاء لا يجوز أن تعجل
عن وقت مغيب الشفق إلا لعذر أيضا، واستوى الطرفان جميعا، وجب أن يفعل من
ذلك الذي هو أرفق بالناس، وهو الجمع عند أول الغروب لرجوعهم والضياء متمكن.
فهذا وجه تعجيل الجمع عند الغروب بناء على هذا القول، وبالله التوفيق.
[فصل في سجود القرآن]
فصل
في سجود القرآن
الأصل في هذا الباب قول الله عز وجل: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ
الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] ، وقوله عز وجل:
{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا}
[الإسراء: 107] ، وقوله عز وجل: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق:
20] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21]
الآية. ومداره على أربع مسائل: معرفة عزائم السجود [من غير العزائم، ومعرفة
وجوب السجود فيها، ومعرفة من يجب عليه السجود فيها ممن لا يجب، والرابع
معرفة أحكام السجود وشرائطه.
(1/190)
فصل فأما عزائم السجود] فإنها عند مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء، ولا
في الحج إلا سجدة واحدة، وهي التي في أول السورة. قال في الموطأ: الأمر
عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء. وقال
في رواية ابن بكير وغيره: الأمر المجتمع عليه عندنا. ورواية يحيى أولى؛ لأن
الاختلاف في عزائم السجود معلوم بين السلف في المدينة. وقد يتأول قوله:
الأمر المجتمع عليه عندنا، على أنه إنما أراد أنه اجتمع على أن الأحد عشر
من العزائم ولم يجتمع على أن ما سواها من العزائم. وهو تأويل جيد محتمل تصح
به الرواية. فالتي ليست من العزائم عند مالك سجدة آخر الحج، وسجدة والنجم،
{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}
[العلق: 1] . وإنما لم يرها مالك من العزائم لما جاء فيها من الخلاف. فقد
روي أنه ليس في الحج إلا سجدة واحدة، وروي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة» . وذهب ابن
وهب من أصحاب مالك إلى أنها كلها عزائم يسجد فيها، وهو اختيار ابن حبيب
وجماعة من العلماء، وقد روى ذلك ابن وهب عن مالك. وقال الشافعي وأبو حنيفة
والثوري: عزائم السجود أربع عشرة سجدة، إلا أن الشافعي أسقط سجدة ص وأسقط
أبو حنيفة سجدة آخر الحج، وأسقط الثوري سجدة والنجم. وروي عن علي بن أبي
طالب أنه قال: عزائم السجود أربعة: ألم تنزيل، وحم السجدة، والنجم، واقرأ
باسم ربك. وقال بعض العلماء: إن الذي يوجبه النظر أن يسجد من ذلك فيما جاء
على سبيل الخبر، ولا يسجد من ذلك فيما جاء على سبيل الأمر؛ لأن ما جاء منها
على سبيل الأمر يحمل على السجود الواجب في الصلاة المفروضة. وعلى هذا يأتي
مذهب مالك إذا اعتبرته؛ لأن
(1/191)
جميع ما لم ير فيه السجود جاء على سبيل
الأمر، وجميع ما رأى فيه السجود جاء على سبيل الخبر.
فإن قال قائل: سجدة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] جاءت على
سبيل الخبر ولا يسجد فيها عنده.
قيل له: الوعيد المذكور فيها يقوم مقام الأمر.
وإن قال قائل: سجدة حم السجدة جاءت على سبيل الأمر ويسجد فيها عنده.
قيل له: المعنى فيها الإخبار عن فعل الكفار الذين لا يسجدون لله ويسجدون
للشمس والقمر، والنهي عن التشبه بهم في ذلك، لا الأمر بمجرد السجود لله
فيحمل على سجود الصلاة، ويدل على ذلك قوله في آخر الآية: {فَإِنِ
اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] ؛ لأن المعنى في ذلك: فإن
استكبر الكفار عن السجود لله فالذين عنده لا يستكبرون عن ذلك. وقد اختار
بعض العلماء السجود عند قولهم وهم لا يسأمون ليكون عند ذكر الإخبار على
الأصل الذي ذكرناه.
فصل وأما وجوب السجود فيها فإنه واجب، قيل: وجوب السنن التي من فعلها أجر
ومن تركها لم يأثم، وقيل: وجوب الفرائض التي من تركها أثم. ومذهب مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه واجب وجوب السنن لا وجوب الفرائض. ودليله على ذلك
أن الله تبارك وتعالى أثنى على الساجدين عند التلاوة ولم يأمر به، وفعله
النبي عليه الصلاة
(1/192)
والسلام فوجب الاقتداء به في ذلك دون وجوب؛
لقول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، وقد بين ذلك عمر بن الخطاب بقوله إن الله لم
يكتبها علينا إلا أن نشاء. فمن سجد على مذهب مالك أجر، ومن ترك السجود لم
يأثم إلا من جهة الرغبة عن إتيان السنن. وذهب أبو حنيفة إلى أن السجود واجب
من تركه أثم. وقول مالك هو الصحيح إذ ليس في وجوب ذلك نص في القرآن ولا في
السنة ولا اجتمعت عليه الأمة، والفرائض الواجبات لا تؤخذ إلا من أحد هذه
الوجوه الثلاثة.
فصل وأما معرفة من يجب عليه السجود فيها ممن لا يجب ففي ذلك تفصيل: أما
التالي للقرآن في صلاة أو في غير صلاة فيجب عليه السجود في مواضع السجود
بإجماع، إلا أنه يكره للإمام أن يقرأ بسورة فيها سجدة لئلا يخلط على من
خلفه. وقد قيل: إنه يجوز له أن يقرأها إذا كان من خلفه قليلا وأمن أن يخلط
على أحد منهم. وأما فيما يسر فيه فلا يقرأ بسورة فيها سجدة بحال. وقد استحب
ابن القاسم للمنفرد ترك القراءة بسورة فيها سجدة في الفريضة لئلا يدخل على
نفسه سهوا بذلك في صلاته، وقال: إنه هو الذي رأى مالكا يذهب إليه. وأما
المستمع للتلاوة فإن جلس لاستماع تلاوة التالي على سبيل التعليم والحفظ سجد
بسجوده إن سجد، واختلف هل يجب عليه السجود إن لم يسجد. وإن جلس لاستماع
تلاوته ابتغاء الثواب في ذلك لم يجب عليه السجود إن لم يسجد، واختلف إن سجد
هل يجب عليه السجود بسجوده أم لا على قولين. وهذا كله إذا كان التالي ممن
تصح إمامته. وأما إن جلس إليه ليقرأ السجدة فيسجد لسجوده فلا يسجد لسجوده؛
لأن ذلك مكروه من الفعل. واختلف في المعلم والمقرئ يجلس لقراءة القرآن
عليه، فقيل: إنه يسجد في أول ما تمر به سجدة بسجود القارىء عليه إذا كان
بالغا، وليس عليه سجود بعد ذلك كلما جاءت سجدة. وقيل: ليس ذلك عليه ولا في
أول مرة.
(1/193)
وأما من سمع قراءة رجل دون أن يجلس لاستماع
قراءته على وجه من الوجوه فليس عليه أن يسجد بسجوده، وقيل: إن ذلك عليه وهو
شذوذ.
فصل وأما معرفة أحكام السجود فإن أحكامه أحكام صلاة النافلة في أنه لا يكون
بغير طهارة، ولا في موضع غير طاهر، ولا في وقت لا تحل فيه الصلاة، ولا لغير
القبلة إلا للمسافر على دابته حيثما توجهت به. وقد اختلف في سجود سجدة
التلاوة بعد الصبح ما لم يسفر، وبعد العصر ما لم تصفر الشمس على ثلاثة
أقوال: أحدها: أنه لا يسجد في شيء من هذه الأوقات، وهو قوله في الموطأ
قياسا على النوافل. والثاني: أنه يسجد فيها وهو قوله في المدونة قياسا على
صلاة الجنائز. والثالث: إنما يسجد بعد الصبح ولا يسجد بعد العصر وهو قول
مطرف وابن الماجشون في الواضحة.
(1/194)
[القول في سهو
الصلاة]
فرض الله تبارك وتعالى الصلاة في كتابه على المكلفين من عباده فرضا مجملا،
وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفة فعلها، والحكم عن
السهو فيها أو عن شيء منها قولا وعملا؛ لأن الله تبارك وتعالى كان ينسيه في
صلاته ليسن لأمته على ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنه قال: «إني لأنسى أو أنسي لأسن» ، فحفظ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه سها في الصلاة في أربعة مواضع: «قام من اثنتين، وأسقط
الجلسة فلم يرجع إليها وسجد سجدتي السهو قبل السلام» «وسلم من ركعتين فكلمه
في ذلك ذو اليدين فرجع إلى بقية صلاته وسجد سجدتي السهو بعد السلام» وصلى
خامسة فسجد بعد السلام لسهوه، وأسقط آية من سورة الفرقان فلم يسجد لسهوه.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم
يذكر كم صلى ثلاثا أو أربعا فليصل ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل السلام،
فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة
فالسجدتان ترغيم للشيطان» فتبين بما سن لأمته بقوله وفعله، أن السهو في
الصلاة على ثلاثة أقسام: منه ما لا يجزئ فيه
(1/195)
سجود السهو. ومنه ما لا يجب فيه سجود
السهو. ومنه ما يصلحه سجود السهو. وأن ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «في كل سهو سجدتان» ليس على عمومه، وأن
المراد بذلك السنن دون الفرائض والفضائل؛ لأن الفرائض هي التي لا يجزئ فيها
سجود السهو، والفضائل هي التي لا يجب فيها سجود السهو.
فصل والصلاة أقوال وأفعال، فجميع أفعال الصلاة فرض حاشا ثلاثة: رفع اليدين
في الإحرام، والتيامن في السلام، والجلسة الوسطى، وحاشا الرفع من الركوع
فقيل: إنه فرض؛ لأن الركوع لا يتم إلا به، وقيل: إنه سنة. وجميع أقوال
الصلاة سنة وفضيلة حاشا ثلاثة: تكبيرة الإحرام، وقراءة أم القرآن، والسلام.
وقد اختلف في ذلك حسبما ذكرنا كلا في موضعه. وبالله التوفيق.
[فصل في أقسام السهو في الصلاة]
فصل
في أقسام السهو في الصلاة
والسهو في الصلاة ينقسم على قسمين: سهو يوقن به، وسهو يشك فيه. فالسهو الذي
يوقن به ينقسم على قسمين: زيادة ونقصان. وكذلك السهو الذي يشك فيه [ينقسم
أيضا على قسمين: زيادة ونقصان] ، فهذه أربعة أقسام. وقد يجتمع في السهو
اليقين بالزيادة والنقصان في الصلاة الواحدة، والشك فيهما جميعا، والشك في
الزيادة واليقين بالنقصان، واليقين بالزيادة والشك في النقصان، فهذه تتمة
ثمانية أقسام.
فصل فأما السهو في الزيادة فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون في الأفعال،
(1/196)
والثاني: أن يكون في الأقوال. فإن كان في
الأفعال فلا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما: أن يكون من جنس أفعال الصلاة [أو
من غير جنسها. فأما إن كان من جنس أفعال الصلاة] . فيجزئ فيه سجود السهو
بعد السلام فيما قل باتفاق، وفيما كثر على اختلاف. والكثير ما كان مثل نصف
الصلاة أو أكثر. وأما إن كان من غير جنس أفعال الصلاة فإن ذلك ينقسم على
قسمين: أحدهما: أن يكون ذلك كثيرا، والثاني: أن يكون ذلك يسيرا. فأما إن
كان ذلك كثيرا، مثل أن يأكل أو يخيط ثوبه أو يصقل سيفه، فيطول ذلك فإن
صلاته تبطل بذلك ولا يجزئه سجود السهو فيه. وأما إن كان ذلك يسيرا فهو على
ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون مما يجوز له أن يفعله في صلاته. والثاني: أن
يكون مما يكره له أن يفعله في صلاته. والثالث: أن يكون مما لا يجوز له أن
يفعله في صلاته. فالأول لا سجود عليه فيه، وذلك مثل أن تمر به الحية أو
العقرب فينسى أنه في صلاة فيقتلها. والثاني يتخرج على قولين: أحدهما أن
عليه السجود. والثاني أنه لا سجود عليه، وذلك مثل أن تمر به الحية أو
العقرب فينسى أنه في صلاة فيقتلهما دون أن يريداه. والثالث قيل فيه: إنه
يسجد وتجزئه صلاته، وقيل: إنه تبطل صلاته ولا يجزئه في ذلك سجود السهو،
وذلك مثل أن ينسى أنه في صلاة فيأكل أو يشرب ولا يطول ذلك.
فصل وإن كان في الأقوال فلا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما أن يكون من جنس
أقوال الصلاة أو من غير جنسها. فأما إن كان من جنس أقوال الصلاة فاختلف فيه
هل فيه سجود السهو أم لا على قولين، وذلك مثل أن يقرأ سورة مع أم القرآن في
الركعتين الأخيرتين أو يذكر الله فيما بين السجدتين وما أشبه ذلك. وأما إن
كان من غير جنس أقوال الصلاة فيسجد سجدتي السهو بعد السلام.
(1/197)
فصل فهذا حكم الزيادة في الصلاة على سبيل
السهو. أما الزيادة فيها على طريق العمد فإن كانت في الأفعال التي هي من
جنس أفعال الصلاة أو في الأقوال التي ليست من جنس أقوال الصلاة أبطلها
باتفاق فيما قل أو كثر. وإن كان في الأفعال التي ليست من جنس أفعال الصلاة
أبطلها في الكثير دون القليل. وأما إن كان في الأقوال التي من جنس أقوال
الصلاة فقيل: إنه يبطل الصلاة، وقيل: إنه يستغفر الله ولا سجود عليه؛ لأنه
لم يسه.
فصل وأما السهو في النقصان فلا يخلو أيضا أن يكون في الأفعال أو في
الأقوال.
فإن كان في الأفعال فلا يخلو أن يكون فيما هو منها فرض أو فيما هو منها سنة
أو فيما هو منها فضيلة. فإن كان فيما هو منها فرض مثل الركوع والسجود
والقيام أو الجلسة الآخرة، لم يجزئ فيه سجود السهو دون أن يأتي بما سها عنه
من ذلك. فإن أتى بما سها عنه من ذلك فأوجب عليه إتيانه به زيادة في صلاته
سجد بعد السلام، وإن أوجب عليه إتيانه به زيادة ونقصانا سجد قبل السلام على
اختلاف قول مالك في ذلك، إلا أن يكون مع الإمام وتكون الزيادة أو النقصان
والزيادة في داخل صلاة الإمام فلا يجب عليه سجود؛ لأن الإمام يحمل عمن خلفه
جميع السهو الذي يجزئ عنه سجود السهو في الزيادة أو في النقصان أو فيهما
جميعا. والأصل في ذلك أنه يحمل عنه جميع سنن الصلاة دون فرائضها، فلا يحمل
عنه القيام ولا الركوع ولا السجود ولا الجلسة الآخرة ولا السلام ولا النية
ولا الطهارة من الحدث ولا طهارة الثوب والبقعة ولا استقبال القبلة ولا
تكبيرة الإحرام على اختلاف في ذلك، وقد ذكرناه فيما تقدم.
فصل وكل ما يحمله الإمام عمن خلفه فسهوه عنه سهو لهم وإن فعلوه، وكل ما لا
يحمله الإمام عمن خلفه فلا يكون سهوه عنه سهوا لهم إذا هم فعلوه إلا في
النية
(1/198)
وتكبيرة الإحرام؛ لأنهم إذا فارقوه في
النية أو في الإحرام لم يدخلوا معه في الصلاة.
فصل وإن كان فيما هو منها سنة كالجلسة الوسطى وجب عليه سجود السهو. وإن كان
فيما هو منها فضيلة كرفع اليدين في الإحرام [والتيامن في السلام لم يجب
عليه في ذلك سجود السهو] . فإن قيل في رفع اليدين: إنه سنة، فليس من السنن
المؤكدات وهو في الفضائل أدخل.
فصل وإن كان النقصان من الأقوال فلا يخلو أيضا أن يكون فيما هو فرض فيها أو
سنة أو فضيلة. فإن كان فيما هو منها فرض كتكبيرة الإحرام والسلام لم يجزئ
فيه سجود السهو وبطلت الصلاة. وإن كان فيما هو منها سنة كقراءة السور التي
مع أم القرآن أجزأه منها سجود السهو قبل السلام. وإن كان فيما هو منها
فضيلة كالقنوت والتسبيح في الركوع والسجود لم يجب في ذلك سجود.
فصل واختلافهم فيمن نسي تكبيرة واحدة من صلاته ليس بخارج عن هذا الأصل،
وإنما هو جار على اختلافهم هل كل تكبيرة منها سنة على حدة أو هل جملة
التكبير كله ما عدا تكبيرة الإحرام سنة واحدة في الصلاة. فمن جعل كل تكبيرة
سنة أوجب السجود في التكبيرة الواحدة والتكبيرتين، وأوجب الإعادة فيما زاد
على ذلك إذا ترك السجود حتى طال الأمر. ومن لم ير كل تكبيرة سنة وإنما جعل
جملة التكبير سنة واحدة في الصلاة لم يوجب السجود في التكبيرة الواحدة، وهو
أحد قولي ابن القاسم في المدونة، ولا أوجب الإعادة فيما زاد على التكبيرة
الواحدة إذا ترك السجود حتى طال، وذلك منصوص لابن القاسم في رواية أبي زيد
عنه.
(1/199)
فصل وكذلك اختلافهم في ترك قراءة أم القرآن
في الصلاة ليس بخارج على ما أصلناه، وإنما هو جار على اختلافهم في قراءتها
هل هو فرض في جملة الصلاة أو في كل ركعة منها أو ليس بفرض جملة. فمن لم ير
ذلك فرضا أجزأ عنده فيه سجود السهو، ومن رآه فرضا في كل ركعة قال بالإلغاء،
ومن رآه فرضا في الجملة أوجب عليه الإعادة إن لم يقرأها رأسا، وإن قرأها في
ركعة واحدة من أي الصلوات كانت سجد ولم يعد الصلاة. وما يوجد من أقوالهم
خارجا عن هذا فليس بجار على قياس. وإنما هو استحسان مراعاة للخلاف.
فصل فهذا حكم النقصان على طريق السهو. وأما النقصان على طريق العمد، فإن
كان فريضة أبطل الصلاة كان من الأقوال أو من الأفعال، وإن كان سنة واحدة
فقيل: يبطل الصلاة وقيل: يستغفر الله ولا شيء عليه. وإن كثرت السنن التي
ترك متعمدا أبطلت الصلاة، وإن كانت فضيلة فلا شيء عليه.
فصل فإن اجتمع عليه في صلاته زيادة ونقصان فيما يجب فيه سجود السهو فقيل:
إنه يسجد قبل السلام، وقيل: إنه يسجد بعد السلام. والقولان قائمان من
المدونة ومنصوص عليهما في رواية عيسى من العتبية. والأشهر أنه يسجد قبل
السلام، وهو قائم من حديث النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
قوله: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا فليصل ركعة ثم
ليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم» الحديث؛ لأن الركعة التي شك في إسقاطها
إن كانت الركعة الأولى أو الثانية فقد صارت الثالثة ثانية وكان عليه أن
يقرأ فيها بالحمد وسورة ويجلس، فقرأ
(1/200)
فيها بالحمد وحدها وقام فحصل معه الشك في
نقصان السورة والجلسة الوسطى، واليقين في الزيادة. ولا فرق بين أن يشك في
النقصان أو يوقن به. هذا توجيه الحديث على هذا المذهب، وقد نحا إلى ذلك ابن
المواز في كتابه.
فصل ولا يفترق اليقين بالسهو من الشك فيه إلا في موضعين: أحدهما: أن يشك في
الزيادة الكثيرة في أفعال الصلاة فإنه يجزئه في ذلك سجود السهو باتفاق،
بخلاف الذي يوقن بالزيادة. والثاني: هو أن الذي يكثر عليه السهو في الصلاة
بخلاف الذي يكثر عليه الشك في السهو فيها. فالذي يكثر عليه السهو لا بد من
إصلاحه. وإنما اختلف في وجوب سجود السهو عليه بعد إصلاح ما سها فيه. والذي
يكثر عليه الشك في السهو يلهى عنه ولا يبنى على اليقين. واختلف قول مالك هل
يسجد لسهوه أم لا على قولين، وذهب محمد بن المواز إلى أن ذلك ليس باختلاف
من القول وأنه إنما أوجب سجود السهو على الذي يكثر عليه [الشك في السهو
فيلهى عنه ولا يبنى على اليقين وإنما أسقطه عن الذي يكثر عليه] السهو
فيصلحه لتيقنه به. قال فضل: وقول ابن المواز بعيد، والأظهر أنه اختلاف من
القول. يريد في الذي يكثر عليه الشك في السهو. وأما الذي يكثر عليه السهو
ويوقن به فإنه يصلحه ويسجد لسهوه عنده خلاف ما ذهب إليه ابن المواز من أنه
لا سجود عليه تأويلا على مالك. فهذه جملة في السهو تأتي عليها المسائل إن
شاء الله، وبالله التوفيق.
فصل فأما السهو عنها جملة. فروي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه نام في الوادي عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس فصلى بعد خروج
الوقت وقال: " إذا رقد أحدكم عن
(1/201)
الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما
كان يصليها في وقتها فإن الله تبارك وتعالى يقول أقم الصلاة لذكري» . فأجمع
أهل العلم على أن من نسي الصلاة أو نام عنها حتى خرج وقتها فإنه يجب عليه
أن يصليها بعد خروج وقتها.
فصل وفي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فليصلها إذا ذكرها»
دليل على أنه لا يجوز تأخيرها عن وقت ذكرها. وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - فقال: إنه إذا ذكر صلوات يسيرة في وقت صلاته إنه يبدأ
بها وإن فاته وقت التي هو في وقتها، قياسا على من نسي الظهر والعصر إلى قرب
الغروب أنه يبدأ بالظهر وإن فاته وقت العصر، وخالفه الشافعي فقال: إنه يبدأ
بالتي هو في وقتها قبل الفائتة. وحجته ما روي أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يومئذ ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح، وهي
حجة ظاهرة إلا أن ذلك لم يصح عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فقد
سئل في سماع أشهب هل صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يوم الوادي ركعتي الفجر، فقال: ما سمعت. وأما تأخير الصلاة إلى أن خرج من
الوادي فلا حجة للمخالف فيه؛ لأنه قد بين علة ذلك في الحديث فقال: إن هذا
واد به شيطان.
فصل فترتيب الصلوات اليسيرة مع ما هو في وقته واجب ابتداء عند مالك كوجوب
ترتيب ما هو في وقته، يبدأ بالصلوات المنسيات وإن خرج وقت التي هو في
وقتها، كما يبدأ إذا نسي الظهر والعصر إلى عند الغروب بالظهر وإن فاته وقت
العصر. وكذلك أيضا يجب على مذهبه ترتيب الفوائت في القضاء الأولى فالأولى.
فإن ترك الترتيب في شيء من ذلك كله ناسيا فلا إعادة عليه للتي قدم إلا
الرتبة في الوقت على طريق الاستحباب. مثال ذلك مما هو في وقته من الصلوات
أن ينسى الظهر والعصر إلى قرب الغروب بقدر ما يصلي فيه صلاة واحدة فيذكر
العصر وحدها
(1/202)
فيصليها ثم يذكر بعد السلام منها الظهر
فإنه يصلي الظهر التي ذكرها ولا إعادة عليه للعصر. ولو بقي من الوقت ما
يصلي فيه العصر أو ركعة منها لأعاد العصر استحبابا. وقد قيل: إنه إذا ترك
إعادتها في الوقت فلم يفعل حتى خرج الوقت إنه يعيدها بعد الوقت، وكان أيضا
تأكيدا في الاستحباب.
فإن قيل: قد روي عن مالك في الحائض تطهر لمقدار خمس ركعات فتظن أنها لم يبق
عليها من الوقت إلا قدر أربع ركعات. فتصلي العصر ويبقى عليها من النهار قدر
ركعة إنها تصلي الظهر ثم تعيد العصر بعد الغروب، وهي كالناسية إذا لم تعلم
أن صلاة الظهر واجبة عليها.
فعن ذلك جوابان: أحدهما: ما قال ابن المواز: إن معنى ذلك أنها علمت باتساع
الوقت للصلاتين قبل سلامها من صلاة العصر ففسدت عليها العصر، كمن ذكر صلاة
في صلاة. والجواب الثاني: أن الإعادة إنما وجبت عليها للعصر بعد الوقت على
مذهب من يرى أن الظهر تختص بأربع ركعات من أول الزوال لا يشاركها فيها
العصر، فصارت في صلاتها العصر في الوقت المختص بالظهر كمن صلى الظهر قبل
الزوال؛ لأن طهر الحائض آخر الوقت أول الوقت لها كزوال الشمس لغير الحائض،
بخلاف التارك للصلاة إلى آخر الوقت. ومثال ذلك في الصلوات المنسيات مع ما
هو في وقته أن لا يذكرها حتى يصلي ما هو في وقته فلا يتم بالمنسيات حتى
ينقضي الوقت فلا إعادة عليه لها. ومثال ذلك في الفوائت أن ينسى الظهر
والعصر [أو الصبح والعصر] فيذكر العصر فيصليها، ثم يذكر بعد تمامها الصبح
أو الظهر فيصليها أنه لا إعادة عليه للعصر ولا خلاف في ذلك.
فصل وأما إن ترك الترتيب في ذلك متعمدا أو جاهلا بالصواب فيما هو في وقته
من الصلوات فإنه يعيد الثانية وإن خرج الوقت، مثل أن يصلي العصر قبل الظهر
وهو ذاكر للظهر فإنه يعيد العصر ولا خلاف في ذلك أعلمه. وأما إن ترك
الترتيب في
(1/203)
الصلوات المنسيات مع ما هو في وقته متعمدا
أو جاهلا بالصواب في ذلك، مثل أن يصلي العصر وهو ذاكر لصبح يومه أو لصبح
أمسه ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعيد العصر أبدا، وهو الذي يأتي على
ما في رسم أوصى ورسم بع من كتاب الصلاة إذا تدبرته. والثاني: أنه لا إعادة
عليه للعصر إلا في الوقت، وهو الذي يأتي على ما في سماع سحنون. والثالث:
الفرق بين أن يصلي العصر وهو ذاكر للصبح أو يذكرها وهو فيها بعد الإحرام
بها، وهو ظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة. وكذلك إن ترك الترتيب في
الفوائت متعمدا أو جاهلا بالصواب في ذلك، مثل أن يكون قد نسي الصبح والظهر
أو الظهر والعصر فيذكر ذلك بعد أيام فيصلي الظهر وهو ذاكر للصبح أو العصر
وهو ذاكر للظهر، في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ليس عليه إعادة الصلاة
التي صلى؛ لأنه إذا صلاها فقد خرج وقتها وكأنه قد وضعها في موضعها فلا
إعادة عليه لها بعد خروج وقتها، وهذا يأتي على ما في سماع سحنون عن ابن
القاسم. والثاني: أن عليه إعادتها. والثالث: الفرق بين أن يتعمد الصلاة
الثانية قبل الأولى، أو يدخل في الثانية ثم يذكر الأولى فيتمادى عليها.
وهذا يأتي على قول ابن القاسم في المدونة، فقد قال فيمن نسي الصبح والظهر
فذكر الظهر ولم يذكر الصبح، فلما دخل فيها ذكر الصبح: إنه يصلي الصبح ثم
يعيد الظهر وإن كان وقتها قد خرج بتمامها. وقال فيمن ذكر صلوات يسيرة فصلى
قبلها ما هو في وقته جاهلا أو متعمدا: إنه لا إعادة عليه إلا في الوقت،
وهذا بين إذ لا فرق بين المسألتين.
فصل ويلزم على هذا القول الآخر وعلى القول الأول فيمن ذكر صلاتين لا يدري
أيتهما قبل صاحبتها، مثل أن يذكر الظهر والعصر أو الصبح والظهر من يومين لا
يدري أيتهما قبل صاحبتها أنه ليس عليه أن يصلي إلا صلاتين الصبح والظهر أو
العصر والظهر، خلاف نص ما في سماع عيسى في رسم أوصى ورسم بع من كتاب
الصلاة، وخلاف ما في الواضحة وكتاب ابن المواز، وخلاف قول سحنون وابن عبد
الحكم. وعلى القول الثاني أن عليه إعادة الصلاة التي صلى وإن خرج
(1/204)
وقتها بتمامها يأتي على قولهم فيمن نسي
صلاتين من يومين مختلفين لا يدري أيهما قبل صاحبه، مثل ظهر وعصر، إنه يصلي
ثلاث صلوات ظهرا بين عصرين أو عصرا بين ظهرين حتى يوقن أنه قد خلص من
التنكيس وأتى بما نسي على الترتيب. ولو ذكر على هذا القول ثلاث صلوات صبحا
وظهرا وعصرا لا يدري أيتهن قبل صاحبتها لوجب عليه أن يصلي سبع صلوات يبدأ
بالصبح ويختم بها. ولو ذكر أربع صلوات صبحا وظهرا وعصرا ومغربا لا يدري
أيتهن قبل صاحبتها لوجب عليه أن يصلي ثلاث عشرة صلاة يبدأ بالصبح أيضا
ويختم بها. ولو ذكر خمس صلوات صبحا وظهرا وعصرا ومغربا وعشاء، لا يدري
أيتهن قبل صاحبتها، لوجب عليه أن يصلي إحدى وعشرين صلاة يبدأ بالصبح أيضا
ويختم بها، إذ لا يصح له اليقين والترتيب بما دون ذلك. وأصل ما تقيس عليه
هذا أن تسقط أبدا من عدد الصلوات المنسيات واحدا ثم تضرب ما بقي في عددها
فما اجتمع من ذلك حملت عليه الواحد الذي أسقطت [من عددها] ، وإن شئت أسقطت
من عددها واحدا ثم ضربت ما بقي في مثله وحملت على ما اجتمع عدد الصلوات،
وذلك سواء.
فصل ولو نسي الظهر والعصر أحدهما للسبت والآخر للأحد، لا يدري أيتهما للسبت
ولا أيتهما للأحد، لتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن لا يعتبر في ذلك
بالتعيين ولا بالترتيب فيصلي ظهرا وعصرا لا أكثر. والثاني: أنهما يعتبران
جميعا باعتبار التعيين؛ لأن اعتبار الترتيب داخل تحته إذ لا يشك أن السبت
قبل الأحد فيصلي ظهرا وعصرا للسبت ثم ظهرا وعصرا للأحد على ما قال ابن
حبيب، أو ظهرا للسبت ثم عصرا للأحد، ثم عصرا للسبت ثم ظهرا للأحد، على ما
روى عيسى عن ابن القاسم، وذلك كله صحيح لإتيانه بذلك على شكه وحصول الترتيب
به
(1/205)
يقينا إذ لا يشك أن السبت قبل الأحد.
والثالث: أنه يعتبر في ذلك الترتيب دون تعيين الأيام، فيصلي ظهرا وعصرا ثم
ظهرا، أو يبدأ بالعصر فيصلي عصرا وظهرا ثم عصرا لا أكثر.
ولو نسي ظهرا وعصرا إحداهما للسبت والأخرى للأحد، لا يدري أيتهما للسبت ولا
أيتهما للأحد ولا إن كان السبت قبل الأحد أو الأحد قبل السبت من جمعة أخرى،
لتخرج ذلك على أربعة أقوال: أحدها: أن لا يعتبر التعيين ولا الترتيب، فيصلي
ظهرا وعصرا لا أكثر. والثاني: أن يعتبر التعيين والترتيب جميعا، فيصلي ظهرا
وعصرا للسبت ثم ظهرا وعصرا للأحد، ثم ظهرا وعصرا للسبت، وإن بدأ بالأحد ختم
به. والثالث: أن يعتبر التعيين دون الترتيب فيصلي ظهرا وعصرا للسبت وظهرا
وعصرا للأحد. والرابع: أن يعتبر الترتيب دون التعيين فيصلي ظهرا ثم عصرا ثم
ظهرا، أو عصرا ثم ظهرا ثم عصرا، يختم بالذي بدأ به وهذا كله بين.
فصل فأما ترك اعتبار تعيين الأيام فهو قول سحنون، وذهب إليه ابن لبابة
وقال: يلزم من قال باعتبار تعيين الأيام أن يقول إذا ذكر صلاة لا يدري من
أي يوم أن يصلي سبع صلوات صلاة لكل يوم من أيام الجمعة، وهذا يلزم، وكذلك
يجب أن يقول في أيام الجمعة وما قل من الصلوات مما لا كبير مشقة فيه، إلا
أن قول ابن لبابة عندي أظهر؛ لأنه إذا نوى بصلاته قضاء صلاة ذلك اليوم الذي
تركها فيه وإن لم يعرفه بعينه وجب أن يجزئه قياسا على من نذر صوم يوم بعينه
فأفطره ناسيا ثم نسي أي يوم كان من أيام الجمعة، أنه ليس عليه إلا صوم يوم
واحد ينوي به ذلك اليوم. وانظر لو ظن أنه يوم بعينه فنواه لقضائه ثم انكشف
له أنه غير ذلك اليوم هل يجزئه أم لا، والظاهر عندي أنه لا يجزئه، وكذلك
الصلاة. وأما ترك اعتبار الترتيب في ذلك فقد ذكرنا أنه الذي يأتي على ما في
المدونة في ذاكر صلوات يسيرة يصلي صلاة أنه لا يعيدها إلا في الوقت.
(1/206)
فصل وأما من صلى قبل أن يذكر الصلوات
المنسية فلا يعيدها إلا في الوقت للرتبة استحسانا، فإن لم يتسع له الوقت
لإعادة ذلك فلا إعادة عليه بعد الوقت إلا أن يتسع له الوقت للإعادة فلم
يفعل، فقد قيل: إنه يعيد بعد الوقت، وذلك تأكيد في الاستحباب.
فصل فيتحصل في ترتيب الفوائت اليسيرة مع ما حضر وقته من الصلوات قولان:
أحدهما: أنه فرض بالذكر يسقط بالنسيان كالكلام في الصلاة. والثاني: أنه
إنما يجب بالسنة وجوب السنن. وأما ترتيب ما حضر وقته من الصلوات فلا خلاف
أعرفه في وجوبه مع الذكر على ما بيناه إن شاء الله تعالى
فصل وأما ذكر صلوات كثيرة فلم يختلف قول مالك أنه يبدأ بما حضر وقته قبلها،
قيل: إن خشي أن يفوته فيما حضر وقت الاختيار، وهو ظاهر قول ابن حبيب في
الواضحة، وقيل: ما لم تصفر الشمس في الظهر والعصر، وهو قول ابن القاسم في
مختصر يحيى بن عمر، وقيل: ما لم تغب الشمس، وهو قول ابن القاسم في سماع
سحنون من العتبية.
فصل ووجه تفرقة مالك بين الصلوات الكثيرة والقليلة، هو أن ظاهر الحديث
بحمله على ما يقتضيه من العموم يوجب أن يبدأ بالفوائت قلت أو كثرت قبل ما
هو في وقته وإن فات الوقت؛ لقوله: فليصلها إذا ذكرها في الصلاة التي هي من
ألفاظ العموم، فخصص الإجماع من ذلك الصلوات الكثيرة وبقي الحديث مستعملا في
اليسيرة. وقد اختلف في حدها ما هو، فقيل: الأربع، وقيل: الخمس، وقيل: الست
وهو الصواب، إذ لا يصح أن يخصص عموم الحديث إلا بما يتفق أنه كثير وهو الست
صلوات، وبالله التوفيق.
(1/207)
[فصل في القول
في قصر الصلاة]
فصل
في القول في قصر الصلاة اختلف أهل العلم في قصر المسافر الصلاة في السفر مع
الأمن على أربعة أقوال: أحدها: أن القصر لا يجوز. والثاني: أنه واجب فرض.
والثالث: أنه سنة مسنونة. والرابع: أنه رخصة وتوسعة. واختلف الذين رأوه
رخصة وتوسعة في الأفضل من ذلك، فمنهم من رأى القصر أفضل، ومنهم من رأى
الإتمام أفضل، ومنهم من خير بين الأمرين من غير أن يفضل أحدهما على صاحبه.
فصل والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم في كيفية فرض الصلاة، وفي تأويل قول
الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا} [النساء: 101] ، فبنى كل واحد مذهبه في ذلك على ما ثبت عنده من
الروايات في كيفية فرض الصلاة، وصح عنده من التأويلات في معنى تفسيرها.
وذلك أنه اختلف في كيفية فرض الصلاة على ثلاثة أقوال: قيل: إنها فرضت
ركعتين في السفر وأربعا في الحضر. وقيل: إنها فرضت ركعتين ركعتين في الحضر
والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. وقيل: إنها فرضت أربعا أربعا
في السفر والحضر، فأقرت صلاة الحضر وقصرت صلاة السفر. واختلف في القصر الذي
رفع الله الجناح فيه بقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] على ستة أقوال:
أحدها: أنه أراد به القصر من طول القراءة والركوع والسجود، دون أن ينقص من
عدد الركعات عند الخوف، قبل أن تنزل صلاة الخوف.
والثاني: أنه القصر من حدود الصلاة بصلاتهم إيماء إلى القبلة وإلى غير
القبلة، عند شدة الخوف والتحام الحرب، كقوله تعالى في آية البقرة: {فَإِنْ
خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] .
(1/208)
والثالث: أنه القصر من أربع ركعات إلى
ركعتين عند الخوف.
والرابع: أنه القصر من ركعتين إلى ركعة عند الخوف. وعلى هذا يأتي ما روي أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بكل طائفة ركعة ولم
يقضوا.
والخامس: أنه القصر من أربع ركعات إلى ركعتين في السفر من غير خوف، على ما
روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه قال: «سأل قوم من
التجار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول
الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ
فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}
[النساء: 101] ، ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم
محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى
مثلها في أثرها. فأنزل الله تعالى بين الصلاتين: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ
عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101] {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] إلى آخرها، فنزلت صلاة الخوف» قال الطبري:
وهذا تأويل حسن في الآية لو لم يكن في الكلام إذا؛ لأن إذا تؤذن بانقطاع ما
بعدها على معنى ما قبلها. ولو لم يكن في الكلام إذا لكان معنى الكلام إن
خفتم أيها المؤمنون أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم وكنت فيهم يا محمد
فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك الآية.
والقول السادس: أن المراد به ما بينه في الآية التي بعدها من صلاة الخوف
بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ
فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] على الاختلاف المروي
في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من صلاته بكل طائفة
ركعتين ركعتين فتصير له أربعا ولكل طائفة ركعتين. وبكل طائفة ركعة ركعة دون
أن يقضوا شيئا فتصير له ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة. وبكل طائفة ركعة ركعة
ثم يقضون جميعا ركعة ركعة بعد سلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-. وبكل طائفة ركعة ركعة فتتم الطائفة الأولى قبل مجيء الثانية، ثم تقضي
الثانية قبل سلام الإمام أو بعد سلامه. أو على
(1/209)
ما روي من «أن العدو كان في جهة القبلة،
فلما رأوهم يصلون الظهر تآمروا على الهجوم عليهم في صلاة العصر، فأنزل الله
على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الآية، فجعل النبي -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لصلاة العصر أصحابه صفين خلفه، فكبر
بهم جميعا، ثم ركع بهم جميعا، ثم سجد بالنصف الذي يليه سجدتين ووقف الصف
الثاني يحرسونهم من العدو. فلما فرغ النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - من سجوده وقام سجد الصف الثاني ثم تقدموا مكان الصف الأول
وتأخر الصف الأول مكان الصف الثاني، فركع بهم النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - جميعا ثم سجد بالصف الذي يليه سجدتين والصف الثاني يحرسونهم
من العدو. فلما فرغ من سجوده سجد الصف المؤخر ثم قعدوا فتشهدوا مع النبي -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثم سلم بهم جميعا. فلما نظر إليهم
المشركون قالوا: لقد أخبروا بالذي أردنا» .
فصل فمن ذهب إلى ما روي من أن الصلاة فرضت أربعا أربعا في الحضر والسفر،
وإلى ما روي من أن القصر الذي رفع الله فيه الجناح على عباده في الآية
المذكورة هو القصر في الخوف من أربع إلى ركعتين، أو من طول الصلاة أو من
حدودها على ما ذكرناه ولم يصح عنده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قصر الصلاة في غير خوف، لم يجز للمسافر قصر الصلاة مع الأمن.
وذهب إلى هذا جماعة من العلماء. وقد قيل: إنه مذهب عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهَا - في إتمامها في السفر. روي عنها أنها قالت في سفرها:
أتموا صلاتكم، فقالوا: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان يصلي في السفر ركعتين، فقالت: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان في حرب، وكان يخاف فهل تخافون أنتم شيئا؟، ومن ذهب إلى [ما
روي من] أن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر
وزيد في صلاة الحضر، أو إلى أن الصلاة فرضت أربع ركعات في الحضر وركعتين في
السفر، وصح عنده قصر
(1/210)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الصلاة في السفر من غير خوف، وتأول أن مراد الله عز وجل بالقصر
الذي رفع فيه الحرج هو القصر مع الخوف من ركعتين إلى ركعة أو من طول الصلاة
أو من حدودها، رأى القصر في السفر فرضا، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وجماعة
من العلماء، وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحق وأبو بكر بن الجهم. وذكر ابن
الجهم أن أشهب روى ذلك [عن مالك] ، ويلزم من قال بهذا القول أن يوجب
الإعادة أبدا على من أتم صلاته في السفر متعمدا صلى وحده أو في جماعة كما
يقول أبو حنيفة وأصحابه، ولا يوجد ذلك في المذهب لمالك ولا لأحد من أصحابه.
والذي رأيت لمالك من رواية أشهب عنه أن فرض المسافر ركعتان، وذلك خلاف ما
حكى عنه ابن الجهم إذا تدبرته. ومن ذهب إلى ما روي من أن الصلاة فرضت أربعا
أربعا في السفر والحضر فأقرت صلاة الحضر وقصرت صلاة السفر وتأول القصر الذي
رفع الله فيه الجناح عن عباده على أنه القصر من أربع ركعات إلى ركعتين مع
الأمن على ما ذكرناه فيما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -،
وصح عنده أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة في
سفره وهو آمن» قال: إن القصر في السفر سنة من السنن، التي الأخذ بها فضيلة
وتركها غير خطيئة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن
ليختار مما خيره الله فيه إلا الذي علم أنه الأفضل عنده. وقد نبه على ذلك
بقوله: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» . فحض على قبول الصدقة
والاقتداء به في ذلك من غير وجوب، إذ لا يجب على المتصدق عليه قبول ما تصدق
به عليه، وإنما المختار له ذلك، ما لم يقترن بصدقته معنى يوجب كراهيتها،
وذلك المعنى معدوم في صدقة الله تعالى. وهي رواية أبي المصعب عن
(1/211)
مالك والمعلوم من مذهبه ومذهب أصحابه في
مسائله ومسائلهم؛ لأنهم لم يخيروا المسافر بين القصر والإتمام، ولا أوجبوا
عليه الإعادة أبدا إذا أتم، وإنما رأوها عليه في الوقت استحبابا ليدرك
فضيلة السنة، إلا أن يكون صلاها في جماعة فلا يعيد لإحرازه فضل الجماعة،
وإن كانت فضيلة السنة عنده آكد من فضيلة الجماعة؛ لأنه لم ير له أن يصلي في
جماعة ويترك القصر إلى أن تغشاه الصلاة في موضعه الذي هو فيه من مسجد أو
غيره؛ لما في ذلك من الجفاء وتعريض نفسه إلى سوء الظن. وقد ذهب ابن حبيب
إلى أنه يعيد في الوقت وإن صلى في جماعة ما لم تكن صلاته في الجماعة في
المسجد الجامع، وذلك على حسب تأكيد فضيلة السنة عنده. ومن ذهب إلى هذا ولم
يصح عنده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة في
سفره مع الأمن رأى المسافر مخيرا بين القصر والإتمام بالقرآن. ويحتمل أن
يكون هذا، أعني التخيير بين القصر والإتمام، مذهب من صح عنده قصر النبي -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الصلاة في السفر مع الأمن إذا تأول
القصر الذي رفع الله فيه الجناح عن عباده أنه هو القصر من أربع ركعات إلى
ركعتين مع الخوف، ويرى أن قصر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
مع الأمن إنما هو زيادة بيان لما في القرآن لا سنة مسنونة. ومن ذهب إلى هذا
ورأى أن القصر أفضل، استدل على ذلك بما روي أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما
يحب أن تؤتى شدائده، ولقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:
«صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» . ومن ذهب إلى هذا ورأى الإتمام
أفضل رآه زيادة عمل وقاسه على الصيام في السفر. ومن استوت عنده في ذلك
الأدلة لم يفضل أحد الأمرين على صاحبه.
فصل وقد اختلف في حد ما تقصر فيه الصلاة من السفر اختلافا كثيرا من مسافة
ثلاثة أميال، وهو مذهب أهل الظاهر، إلى مسيرة ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي
حنيفة وأصحابه. والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الصلاة لا
تقصر في أقل من مسيرة اليوم التام. واختلف في حده فقيل: ثمانية وأربعون
ميلا، وقيل: خمسة وأربعون
(1/212)
ميلا، وقيل: أربعون ميلا. فإن قصر فيما دون
الثمانية والأربعين ميلا فلا إعادة عليه فيما بينه وبين الأربعين ميلا. فإن
قصر فيما دون الأربعين فقيل: يعيد في الوقت، وقيل: لا إعادة عليه فيما بينه
وبين ستة وثلاثين ميلا. فإن قصر فيما دون ستة وثلاثين ميلا أعاد في الوقت
وبعده.
فصل ويتم المسافر إلى أن يبرز عن بيوت القرية، ويقصر إلى أن يدخل إلى مثل
ذلك الحد. قال ابن حبيب: إلا في الموضع الذي تجمع فيه الجمعة فإنه يقصر
ويتم إلى الحد الذي يلزمه منه الإتيان إلى الجمعة.
فصل ولا يزال المسافر يقصر ما لم يمر بموطن يكون له محل إقامة بإجماع، أو
ينوي إقامة أربعة أيام على اختلاف. والاختلاف في هذا كثير خارج المذهب، من
تسعة عشر يوما على ما روي عن ابن عباس إلى يوم وليلة، وهو مذهب ربيعة قياسا
على حد ما تقصر فيه الصلاة، فيتحصل فيه اثنا عشر قولا.
فصل والإتمام يجب بمجرد نية الإقامة أو بحلول موضعها، ولا يجب القصر إلا
بالنية مع العمل. وحد العمل الذي يحسب به القصر لمن خرج من موطن البروز عن
بيوت البلدة وبساتينها، ولمن نوى إقامة أربعة أيام في غير موطن ثم نوى
السفر التحرك من موضعه.
فصل ولو نوى المسافر أن يقيم بموضع قبل أن يصل إليه ثم رجعت نيته عن
الإقامة قبل أن يصل إليه بطلت نيته الأولى، وقصر بذلك الموضع إن وصل إليه
وإن لم يتحرك منه. وذلك بخلاف المسافر يكون بطريقه قرية يكون له بها أهل،
فينوي دخولها ثم ترجع نيته عن ذلك. ولا تخلو هذه المسألة من أحد أربعة
أوجه: أحدها:
(1/213)
أن يكون فيما بينه وبينها وفيما بينها وبين
منتهى سفره أربعة برد فصاعدا. والثاني: أن لا يكون فيما بينه وبينها ولا
فيما بينها وبين منتهى سفره إلا أقل من أربعة برد. والثالث: أن يكون فيما
بينه وبينها أربعة برد فصاعدا، ولا يكون فيما بينها وبين منتهى سفره إلا
أقل من أربعة برد. والرابع: بعكس ذلك، وهو أن لا يكون فيما بينه وبينها إلا
أقل من أربعة برد، ويكون فيما بينها وبين منتهى سفره أربعة برد فصاعدا.
فأما الوجه الأول: فلا تأثير لنية دخوله فيها على حال، لكون المسافتين مما
يجب في كل واحدة منهما القصر، فهو يقصر من حين خروجه، نوى دخول القرية أو
لم ينو، فإن دخلها أتم فيها حتى يخرج منها ويجاوز بيوتها.
وأما الوجه الثاني: فإن نوى دخولها أتم فيما بينه وبينها وفيما بينها وبين
منتهى سفره، إذ ليس في واحدة من المسافتين ما يجب فيه قصر الصلاة. وإن نوى
أن لا يدخلها قصر من حين خروجه لكون المسافتين باجتماعهما ما يجب فيه قصر
الصلاة. وإن نوى دخولها فلما سار بعض الطريق انصرفت نيته عن ذلك فنوى أن لا
يدخلها، نظر إلى ما بقي من سفره فإن كان ما تقصر فيه الصلاة قصر، وإلا لم
يقصر. وإن نوى أن لا يدخلها فقصر فلما سار بعض الطريق انصرفت نيته عن ذلك
فنوى دخولها ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه يتمادى على تقصيره حتى يدخلها، وهو
مذهب سحنون. ووجهه أن التقصير قد وجب عليه فلا ينتقل عنه إلى الإتمام إلا
بنية المقام أو بحلول موضعه. والثاني: أنه يرجع إلى الإتمام بمنزلة أن لو
نوى دخولها من أول سفره، إذ ليس فيما بينه وبينها أربعة برد. وعلى هذا
يختلف فيمن نوى الرجوع عن سفره إلى البلد الذي خرج منه قبل أن يبلغ أربعة
برد، فقيل: إنه يتمادى على تقصيره حتى يرجع إلى بلده، وهو قول سحنون. وقيل:
إنه يتم في رجوعه إذ ليس فيما بينه وبين بلده ما يجب فيه قصر الصلاة، وهو
الذي في الواضحة وكتاب ابن المواز. وكذلك لو سار في سفره بريدين ثم نوى أن
يرجع بعد أن يتمادى بريدا ثالثا.
والوجه الثالث من المسألة: محمول على الوجه الأول منها، فهو يقصر فيما
(1/214)
بينه وبين القرية نوى دخولها أو لم ينو،
ولا يقصر فيما بين القرية وبين منتهى سفره إلا أن لا يدخل القرية ولا ينوي
دخولها.
والوجه الرابع: محمول على الوجه الثاني فيما بينه وبين القرية، ويقصر فيما
بين القرية وبين منتهى سفره على كل حال دخل القرية أو لم يدخلها نوى دخولها
أو لم ينوه؛ لأنها مسافة يجب فيها قصر الصلاة. وبالله التوفيق.
فصل والأسفار تنقسم على خمسة أقسام: سفر واجب، وسفر مندوب إليه، وسفر مباح،
وسفر مكروه، وسفر محظور. فأما السفر الواجب والمندوب إليه فلا خلاف في قصر
الصلاة فيهما. وأما ما سواهما فاختلف في قصر الصلاة فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الصلاة لا تقصر في شيء منها، وهو مذهب بعض أهل الظاهر، وروي مثله
عن ابن مسعود. والثاني: أنها تقصر فيها كلها، وهو قول أكثر أهل الظاهر؛
لعموم قوله عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101] ولم
يخص سفرا، وهي رواية ابن زياد عن مالك. والثالث: أنه يقصر في السفر المباح
دون المكروه والمحظور، وهو قول جل أهل العلم والمشهور من مذهب مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
فصل وقصر الصلاة في السفر على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
وجميع أصحابه سنة من السنن، التي الأخذ بها فضيلة وتركها غير خطيئة، فإن
أتم المسافر الصلاة على مذهبه أعاد في الوقت إن افتتح الصلاة بنية الإتمام
متعمدا أو جاهلا أو ناسيا لسفره. وأما إن أحرم بنية القصر ثم أتم عامدا
فقيل: إنه يعيد في الوقت [وقيل: في الوقت وبعده. وكذلك يختلف أيضا إذا أحرم
على الإتمام ثم قصر متعمدا، فقيل: يعيد في الوقت] وبعده، وقيل: في الوقت.
فالقول الأول مبني على أن المسافر مخير بين القصر والإتمام ما لم يتشبث
بفعل الصلاة، فإن تشبث بها لزمه ما أحرم عليه من قصر أو إتمام. والثاني
مبني على أنه مخير وإن تشبث بها ولا يلزمه الإتمام
(1/215)
على ما أحرم عليه من قصر أو إتمام. وأما إن
أحرم بنية القصر ثم أتم ساهيا، فقيل: إنه يسجد بعد السلام لسهوه، وتجزئه
صلاته، وقيل: إنه يعيد في الوقت وبعده لكثرة السهو، وقيل: إنه يعيد في
الوقت. وهذا على القول بأن للمسافر أن يتم وإن أحرم بنية القصر، وعلى القول
بأن ما صلى على السهو يجزئ عن الفرض، مثل أن يصلي الرجل في الظهر أو العصر
أو العشاء الآخرة ركعة خامسة على سبيل السهو فيذكر سجدة من الأولى، وهذا
الاختلاف كله لابن القاسم.
فصل واختلف إذا دخل المسافر خلف المقيم، وهو يظنه مسافرا فألفاه مقيما، أو
دخل خلف المسافر وهو يظنه مقيما فألفاه مسافرا، فقيل: إن صلاته جائزة في
الوجهين جميعا، وقيل: إنها فاسدة في الوجهين جميعا وعليه الإعادة، وقيل:
إنه إن ظنه مسافرا فألفاه مقيما جازت صلاته، وإن ظنه مقيما فألفاه مسافرا
فسدت صلاته ووجبت عليه الإعادة، وقيل بعكس ذلك في الوجهين جميعا. فهي أربعة
أقوال، والإعادة في الوقت وبعده، وقيل: في الوقت خاصة.
فصل واختلف إذا صلى المسافر بالمسافرين ركعتين، ثم قام لإتمام الصلاة فيما
يصنع القوم خلفه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يسلمون لأنفسهم وينصرفون،
وقيل: إنهم يقدمون من يسلم بهم. والثاني: أنهم ينتظرونه حتى يتم الصلاة
فيسلمون بسلامه. والثالث: أنهم يتبعونه ويعيدون الصلاة.
فصل فإن سلموا على قول من يرى ذلك تمت صلاتهم على كل حال كان الإمام ناسيا
لسفره أو قاصدا للإتمام من أول صلاته عامدا أو جاهلا أو متأولا، أو كان قد
أحرم على ركعتين فأتم عامدا أو ساهيا، إلا أن يكون الإمام إنما أتم لأنه
نوى الإقامة فعليهم الإعادة ويعيد الإمام صلاته في الوقت إن كان أحرم بنية
الإتمام. وإن كان أحرم بنية ركعتين ثم أتم عامدا أعاد في الوقت وبعده،
وقيل: في الوقت، وقيل: يجتزئ بسجدتي السهو ولا إعادة عليه.
(1/216)
فصل وأما إن قعدوا فسلموا بسلامه على قول
من يرى ذلك وكان الإمام ناسيا لسفره أو قاصدا للإتمام من أول صلاته، فقيل:
إنهم يعيدون في الوقت، وهذا قول سحنون، وقيل: إنه لا إعادة عليهم، وهو قوله
في المدونة. وأما إن أحرم بنية ركعتين فأتم عامدا فإنهم يعيدون في الوقت
وبعده؛ لأنه قد أفسد عليهم الصلاة بإفساده إياها على نفسه في المشهور من
الأقوال. وأما إن كان أحرم بنية ركعتين فأتم ساهيا، فإنه يسجد لسهوه
ويسجدون بسجوده على القول الذي يرى فيه أنه يصلح صلاته بسجود السهو، ولا
شيء عليهم على قول من يوجب عليه إعادة الصلاة لكثرة سهوه؛ لأنهم لم يتبعوه
على سهوه، وهذا على مذهب ابن القاسم في المدونة. وعلى قياس قول سحنون فيها
يعيدون في الوقت وبعده كما يعيد الإمام. وأما على قول من يوجب عليه الإعادة
في الوقت فيعيدون هم في الوقت على قياس قول سحنون المتقدم، وعلى قياس قول
ابن القاسم لا إعادة عليهم وأما إن كان إنما أتم لأنه نوى الإقامة قبل
الإحرام فعليهم الإعادة في الوقت وبعده.
فصل وأما إن اتبعوه على قول من يرى ذلك فإنهم يعيدون صلاتهم في الوقت وبعده
إن كانوا اتبعوه بنية الإعادة. وإن كانوا إنما اتبعوه بنية الإتمام في
السفر وتأولوا اتباع إمامهم وقد كان الإمام أحرم بنية الإتمام في السفر
أعادوا أيضا في الوقت وبعده، وقيل: إنهم يعيدون في الوقت، ولا يجب على
الإمام أن يعيد إلا في الوقت. وإن كان الإمام إنما أحرم بنية ركعتين ثم
تمادى عامدا كان بمنزلتهم وأعاد هو وهم في الوقت وبعده، وقيل: في الوقت على
ما تقدم من الاختلاف. وإن كان الإمام نوى الإقامة فيتخرج ذلك على ثلاثة
أقوال: أحدها: أن الصلاة تامة ولا إعادة عليهم، والثاني: أنهم يعيدون في
الوقت. [والثالث: أنهم يعيدون في الوقت] وبعده؛ لأن ذلك مبني على ما تقدم
من الاختلاف في المسافر يدخل مع القوم وهو يظنهم مسافرين فيجدهم مقيمين.
(1/217)
فصل وأما إن صلى المسافر بالمقيمين ركعتين،
ثم قام لإتمام صلاته فإن اتبعوه وكان الإمام قد أحرم على الإتمام متأولا
أعادوا في الوقت وبعده، وقيل: لا إعادة عليهم. وهذا على اختلافهم فيمن وجب
عليه أن يصلي فذا فصلى بإمام. وقيل: يعيدون في الوقت كالإمام. وإن قعدوا
ولم يتبعوه بطلت صلاتهم بجلوسهم عن اتباعه على القول بأنهم إن اتبعوه
أعادوا في الوقت وأجزأتهم صلاتهم، وصحت على القول بأنهم إن اتبعوه أعادوا
في الوقت وبعده، ويتخرج على قول سحنون أنهم يعيدون في الوقت كما يعيد
الإمام. ولا أذكر في ذلك نص رواية. وأما إن كان الإمام إنما أحرم بنية
ركعتين، ثم أتم عامدا فاتبعوه فإنهم يعيدون في الوقت وبعده على قول من يوجب
على الإمام الإعاده في الوقت وبعده، وعلى قول من لا يوجب عليه الإعادة إلا
في الوقت، يجري الأمر في إيجاب الإعادة عليهم على الاختلاف المذكور إذا
أحرم بنية الإتمام عامدا فاتبعوه. وأما إن قعدوا ولم يتبعوه فالحكم في ذلك
على ما تقدم في المسألة التي قبلها. وأما إن كان الإمام إنما أحرم على نية
ركعتين ثم أتم ساهيا فاتبعوه فقيل: إن ذلك لا يجزئهم، وقيل: إن صلاتهم تامة
على الاختلاف في الإمام إذا صلى خامسة ساهيا فاتبعه فيها من فاتته ركعة من
الصلاة. وهذا على القول بأن الإمام يجتزئ بسجود السهو. وأما على القول بأنه
يعيد في الوقت أو في الوقت وبعده فعلى ما تقدم في المسألة التي قبلها. وإن
قعدوا ولم يتبعوه فيتموا صلاتهم إذا سلم الإمام وتجزئهم، ويسجدون للسهو كما
يسجد الإمام، على القول بأن الإمام يسجد لسهوه وتجزئه صلاته. وأما على
القول بأن الإمام يعيد في الوقت وبعده لكثرة السهو، فلا سجود عليهم للسهو
ولا إعادة؛ لأنهم لم يسهوا.
فصل وأما إن كان الإمام السفري إنما أتم بهم الصلاة؛ لأنه نوى الإقامة قبل
دخوله فيها فإن اتبعوه صحت صلاتهم، وإن قعدوا ولم يتبعوه بطلت صلاتهم،
وبالله تعالى التوفيق.
(1/218)
[القول في صلاة
الجمعة]
قصد الجمعة وشهودها فرض على الأعيان. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، وقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك صلاة الجمعة ثلاث مرات من غير عذر
ولا علة طبع الله على قلبه بطابع النفاق» . فلا يجوز التخلف عنها إلا لعذر
أو علة كما ذكر في الحديث. والأعذار في ذلك منقسمة على ثلاثة أقسام: منها
ما يباح التخلف عنها بسببه باتفاق، كالمرض والشغل بجنازة ميت لينظر في أمره
على ما في سماع ابن القاسم. ومعنى ذلك إذا لم يجد من يكفنه وخشي عليه
التغير إن أخر ذلك إلى أن يصلي الجمعة، أو يكون في الموت يجود بنفسه، قاله
في السماع المذكور وحكاه ابن حبيب عن مالك. وقال في الأعمى الذي لا قائد
له: إن الجمعة ساقطة عنه. ومنها ما يباح على اختلاف كالجذمى لما على الناس
من الضرر في مخالطتهم في المسجد الجامع، والمطر، وعندي أن قولهم في المطر
ليس باختلاف قول، وإنما ذلك على قدر حال المطر، والله تعالى أعلم. وفي تخلف
العروس عنها اختلاف ضعيف. ومنها ما لا يباح باتفاق مثل المدين يخشى أن يقوم
عليه غرماؤه فيسجنوه، وما أشبه ذلك.
(1/219)
فصل وصلاة الجمعة على من تجب عليه الجمعة
بدل من صلاة الظهر، وتجزئ من لا تجب عليه من صلاة الظهر. فوقتها وقت صلاة
الظهر، قيل: إلى الاصفرار وقيل: إلى أن يبقى بعد إقامتها قدر أربع ركعات
للعصر قبل الغروب، وقيل: إلى أن يبقى من الوقت ركعة لصلاة العصر. وقيل:
وقتها إلى الغروب وإن لم تصل العصر إلا بعد غروب الشمس.
فصل وقد اختلف متى يتعين الإقبال إليها، فقيل: إذا زالت الشمس، وقيل: إذا
أذن المؤذن. والاختلاف في هذا إنما هو على اختلافهم في وجوب شهود الخطبة،
فمن أوجب شهود الخطبة على الأعيان أوجب على الرجل الإتيان من أول الزوال
ليدركها، ومن لم يوجب شهود الخطبة على الأعيان لم يوجب على الرجل الإتيان
إلا بالأذان؛ لأنه معلوم أنه إذا لم يأت حتى أذن المؤذن أنه ستفوته الخطبة
أو بعضها.
فصل وهذا لمن قرب موضعه من الجمعة وأما من بعد موضعه ولا يدرك الخطبة أو
الصلاة إلا بالإتيان إليها قبل الزوال فيلزمه الإتيان في الوقت الذي يغلب
على ظنه أنه يدرك الخطبة والصلاة على الاختلاف في ذلك.
فصل وحد البعد الذي يلزمه منه الإتيان إلى الجمعة فرسخ، وهو ثلاثة أميال.
قال في المدونة: وإن كانت زيادة يسيرة فأرى ذلك عليه. وقال في رواية أشهب:
ثلاثة أميال فدون. وقال في رواية علي بن زياد عن مالك: [ثلاثة أميال] ؛ لأن
ذلك
(1/220)
منتهى صوت المؤذن. وقال في رواية أشهب عنه:
لأن ذلك منتهى أبعد العوالي إلى المدينة، ولم يعلم أن من كان أبعد من
العوالي أتوا إلى الجمعة ولا لزمهم الإتيان.
فصل وهذا الحد لمن كان خارج المصر وأما من كان في المصر فيتعين عليه
الإتيان إلى الجمعة وإن كان بينه وبين المسجد الجامع ثلاثة أميال أو أكثر،
كذا روى ابن أبي أويس عن مالك وابن وهب أيضا، وهو عندي تفسير للمذهب.
فصل وللجمعة شرائط لا تجب إلا بها وتصح دونها، وشرائط لا تجب إلا بها ولا
تصح دونها، وفرائض لا تصح إلا بها، وسنن وفضائل لا تكمل إلا بها.
فأما الشرائط التي لا تجب إلا بها وتصح دونها فهي ثلاث: الذكورية، والحرية،
والإقامة. لأن العبد والمسافر والمرأة لا تجب عليهم الجمعة ولهم أن يصلوها.
وأما الشرائط التي لا تجب الجمعة إلا بها ولا تصح دونها فهي ثلاثة أيضا:
الإمام، والجماعة، وموضع الاستيطان، قرية كانت أو مصرا على مذهب مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وقد قيل في الإمام والجماعة: إنهما من شرائط
الصحة كالوضوء والنية والتوجه إلى القبلة وما أشبه ذلك، وقيل: إنهما من
شرائط الوجوب. ولا يصح أن يقال فيهما: إنهما من شرائط الوجوب دون الصحة ولا
من شرائط الصحة دون الوجوب، وإنما الصحيح أن يقال فيهما: إنهما من شرائط
الوجوب والصحة جميعا، إذ قد يعدمان ولا يمكن وجودهما، فهما من شرائط الوجوب
إذا عدما، ومن شرائط الصحة إذا وجدا. وبيان هذا أن القوم متى لم تكن لهم
جماعة تصح بهم الجمعة أو لم يكن معهم إمام يحسن إقامة الجمعة بهم سقط عنهم
فرض الجمعة، ومتى كانت لهم جماعة تصح بهم الجمعة وإمام يحسن إقامة الجمعة
بهم وجبت عليهم إقامة الجمعة بالجماعة والإمام، فإن أخلوا بهما أو بأحدهما
لم تجزئهم الجمعة
(1/221)
ووجبت عليهم إعادتها في الوقت وظهرا بعد
الوقت. وكذلك موضع الاستيطان على تأويل ما، والأظهر فيه أنه شرط في الوجوب
خاصة.
فصل وأما المسجد فقيل فيه: إنه من شرائط الوجوب والصحة جميعا كالإمام
والجماعة، وهذا على قول من يرى أنه لا يكون مسجدا إلا ما كان بيتا وله سقف،
بدليل قول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ}
[النور: 36] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بنى
مسجدا ولو مفحص قطاة» الحديث، إذ قد يعدم مسجد يكون على هذه الصفة وقد
يوجد، فإذا عدم كان من شرائط الوجوب، وإذا وجد كان من شرائط الصحة. وعلى
قياس هذا القول أفتى القاضي أبو الوليد الباجي في أهل قرية انهدم مسجدهم
وبقي لا سقف له فحضرت الجمعة قبل أن يبنوه أنه لا يصح لهم أن يجمعوا الجمعة
فيه، ويصلون ظهرا أربعا. وهو بعيد؛ لأن المسجد إذا حصل مسجدا لا يعود غير
مسجد إذا انهدم، بل يبقى على ما كان عليه من التسمية والحكم، وإن كان لا
يصح أن يسمى الموضع الذي يتخذ لبناء المسجد مسجدا قبل أن يبنى وهو فضاء.
وقيل فيه، أعني المسجد،: إنه من شرائط الصحة دون الوجوب، وهذا على قول من
يقول إن المكان من الفضاء يكون مسجدا ويسمى مسجدا بتعيينه وتحبيسه للصلاة
فيه، واعتقاد اتخاذه للصلاة موضعا لها، إذ لا يعدم موضع يصح أن يتخذ مسجدا.
فلما كان لا يعدم ويقدر عليه في كل حال صار من شرائط الصحة كالخطبة وكسائر
فرائض الصلاة فهذا وجه هذا القول. ولا يصح أن يقول أحد في المسجد إنه ليس
من شرائط الصحة، إذ لا اختلاف في أنه لا يصح أن تقام الجمعة في غير مسجد.
ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يصح أن تقام إلا في الجامع، وإلى هذا ذهب
الباجي فقال: إنه لو منع عذر من إقامتها في
(1/222)
المسجد الجامع لم تصح إقامتها فيما سواه من
المساجد، إلا أن تنقل الجمعة إليه على التأبيد. وهو بعيد؛ لأنه مسجد، وصلاة
الجمعة فيه جائزة إذا تعذرت إقامتها بالمسجد الجامع وإن لم تنقل الجمعة
إليه على التأبيد. وقد أقيمت الجمعة بقرطبة في مسجد أبي عثمان بالربض
الغربي، ولا أرى ذلك كان إلا لعذر منع من إقامتها في المسجد الجامع دون أن
تنقل الجمعة إليه على التأبيد، والعلماء متوافرون ولو نقل الإمام الجمعة في
جمعة من الجمع من المسجد الجامع إلى مسجد من المساجد من غير عذر لكانت
الصلاة مجزئة.
فإن قال قائل: لو جاز أن تصلى الجمعة في غير المسجد الجامع من غير أن تنقل
إليه الجمعة على التأبيد لجاز لمن رعف مع الإمام في صلاة الجمعة أن يتم
صلاته في أقرب المساجد إليه حيث يغسل الدم عنه وقد قالوا: إنه لا يتم صلاته
إلا في المسجد الجامع.
فالجواب عن ذلك أن من أصحابنا من قال: يتم صلاته في أقرب المساجد إليه إلا
أن يعلم أنه يدرك من صلاة الإمام شيئا فيرجع إلى المسجد الجامع ليتم صلاته
مع الإمام، فعلى هذا القول لا يلزمنا هذا السؤال. ومن أوجب عليه الرجوع إلى
المسجد الجامع وإن لم يدرك من الصلاة مع الإمام شيئا فالمعنى عنده إنما هو
الرجوع إلى المسجد الذي ابتدأ فيه الصلاة مع الإمام لابتدائه معه الصلاة
فيه لا لأنه المسجد الجامع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل وأما الخطبة فإنما هي شرط في صحة الجمعة، وذهب ابن الماجشون إلى أنها
سنة. والدليل على وجوبها قول الله عز وجل: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:
11] ، ومن شرطها أن تكون قبل الصلاة. واختلف هل من شرطها الجماعة أم لا،
وظاهر المدونة من شرطها الجماعة. واختلف أيضا هل من شرط صحة الصلاة استدامة
الجماعة من أول الصلاة إلى آخرها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك من شروط
(1/223)
صحتها وأن الناس لو انفضوا عنه قبل السلام
من الصلاة حتى لم يبق معه إلا النساء والعبيد ومن لا عدد له من الرجال
لبطلت الصلاة. والثاني: أن الصلاة جائزة إن لم ينفضوا عنه حتى صلى ركعة،
قياسا على من أدرك ركعة من صلاة الإمام أنه يقضي ركعة واحدة وتكون له جمعة.
والثالث: أنه إذا أحرم بالجماعة فصلاته الجمعة جائزة وإن انفضوا عنه قبل
ركعة. والقول الأول أظهر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وظاهر ما في المدونة أنه أجاز إتمام الصلاة إذا انفض الناس عنه بعد الإحرام
بعدد لا تجوز إقامة الجمعة بهم، وأراه ذهب في ذلك إلى ما روي في تفسير قول
الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا
إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] من أنه لم يبق مع النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ إلا اثنا عشر رجلا، والله
سبحانه وتعالى أعلم.
فصل وكل ما يشترط في وجوب الصلوات الخمس من البلوغ والعقل وارتفاع دم الحيض
والنفاس ودخول الوقت والإسلام على القول بأن الكفار ليسوا مخاطبين بشرائع
الإسلام، فهو مشترط أيضا في وجوب صلاة الجمعة. وقد بينا ما يختص به وجوب
صلاة الجمعة من الشرائط. وكل ما يشترط في صحة ما عدا الجمعة من الصلوات من
النية والإحرام والتوجه إلى القبلة وما أشبه ذلك، فهو يشترط في صحة صلاة
الجمعة أيضا، وهو فرائضها التي لا تصح إلا بها. وكل ما هو سنة وفضيلة فيما
عدا الجمعة من الصلوات فهو سنة في صلاة الجمعة وفضيلة فيها.
وتختص الجمعة بسنن وفضائل تنفرد بها دون سائر الصلوات، منها الغسل، والطيب،
والإنصات، وتعجيل الرواح، وترك التخطي، وما أشبه ذلك مما هو مذكور في أمهات
الكتب، وبالله التوفيق لا شريك له.
(1/224)
|