المقدمات
الممهدات [كتاب الجنائز] [فصل في الإماتة والإحياء]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم
عونك اللهم لا شريك لك كتاب الجنائز
فصل في الإماتة والإحياء قال الله عز
وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] ، وقال تعالى:
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] ، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي
أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الحج: 66] ، وقال
تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] يريد تعالى أنه أحياهم
في الدنيا بعد أن كانوا نطفا في أصلاب آبائهم وأجنة في بطون أمهاتهم، ثم
أماتهم فيها ثم يحييهم الحياة الدائمة. وأما قول الله تبارك وتعالى:
{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] فإنها آية اختلف أهل
العلم في تأويلها، فقيل: إن معناها كمعنى الآيتين المتقدمتين، وإن قوله
فيها أمتنا بمعنى: جعلتنا أمواتا فهما موتتان وحياتان، الموتة الأولى لم
تتقدمها حياة، والحياة الآخرة لا يكن بعدها موت، وقيل: إن قوله في هذه
الآية أمتنا اثنتين يدل
(1/225)
على أنهما موتتان تقدمت كل موتة منها حياة.
واختلف الذين ذهبوا إلى هذا في هاتين الإماتتين، فمنهم من ذهب إلى أن
الإماتة الأولى إذ أحياهم من ظهر آدم فأخذ عليهم الميثاق، والثانية إماتتهم
في الدنيا بعد أن أحياهم فيها. ومنهم من ذهب، وهم الأكثر، إلى أن الإماتة
الأولى إماتتهم في الدنيا بعد أن أحياهم فيها، والثانية إماتتهم في القبور
بعد أن أحياهم فيها لمسألة منكر ونكير، وهذا أظهر الأقاويل وأولاها
بالصواب، والله أعلم.
فصل وهذان التأويلان يقتضيان أن الإحياء أربع مرات: أولها الإحياء من صلب
آدم، ثم الإحياء في الدنيا، ثم الإحياء في القبور، ثم الإحياء في الآخرة
الحياة الدائمة، وهذا لا يرده قول الله تعالى وأحييتنا اثنتين؛ لأن من أحيا
أربع مرات فقد أحيا مرتين [والإخبار بالإحياء مرتين] ليس بناف للزيادة
عليهما. وكذلك قوله في هذه الآية أمتنا اثنتين ليس بناف لقوله وهو الذي
أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إنما هو زيادة بيان.
فصل وقال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] فقال: رسلنا
بلفظ الجماعة، وقد علم أن ملك الموت واحد لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ
يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]
فالمعنى في ذلك على ما روي عن جماعة من السلف أن الله تبارك وتعالى أعان
ملك الموت بأعوان من عنده فيسلون الروح من الجسد حتى إذا كان عند خروجه
قبضه ملك الموت.
(1/226)
وجعل الله تعالى له الأرض كالطست بين يديه
يتناول منها حيث يشاء. وقد قيل: إن ملك الموت له أعوان يتولون قبض الأرواح
بأمره ثم يلي هو قبضها منهم، فيرفع روح المؤمن إلى ملائكة الرحمة وروح
الكافر إلا ملائكة العذاب، فيكون فعل أعوان ملك الموت مضافا إلى ملك الموت،
كما يقال قتل السلطان وجلد وكتب وإن لم يفعل ذلك بيده وإنما فعله أعوان
بأمره، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله.
فصل فملك الموت يقبض أرواح كل حي في البر والبحر وذهب أهل الاعتزال إلى أن
ملك الموت يقبض أرواح بني آدم، وأن أعوانه يقبضون أرواح البهائم، وهذا تحكم
بغير دليل ولا برهان، إذ لا يصح أن يقال هذا إلا بتوقيف ممن يصح له
التسليم، فإذا عدمنا ذلك صح ما ذهب إليه أهل السنة؛ لأن الله تبارك وتعالى
قد نص على أن ملك الموت يقبض أرواح بني آدم، وقام الدليل من قَوْله
تَعَالَى ملك الموت على أنه يقبض روح كل حي من الجن والإنس وغيرهم؛ لأن
الموت اسم عام مستغرق للجنس، فلا يصح أن يخصص في بعض أنواع الحيوان دون بعض
إلا بدليل.
فصل وليس ينافي شيء من هذا قول الله تبارك وتعالى. {وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60] ، وقول الله تبارك وتعالى:
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا} [الزمر: 42] ؛ لأن ملك الموت وإن كان قابض الأرواح ومتوفي
الأنفس بإذن ربه، فالقابض على الحقيقة والمتوفي هو الله رب العالمين المحيي
المميت خالق الموت والحياة، وإنما لملك الموت في ذلك الكسب بفعل ما قدره
الله عليه مما أجرى الله العادة أن يخلق الموت عنده لا غير.
(1/227)
فصل وكل ميت فبأجله يموت، مات حتف أنفه أو
مات مقتولا. قال الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] ، هذا قول
أهل السنة. وذهبت القدرية مجوس هذه الأمة إلى أنه من قتل فلم يستوف أجله
الذي كتب الله له وأنه مات قبل بلوغه، وهو كفر صريح بنوه على أصلهم الفاسد
أن العباد خالقون لأفعالهم، فجعلوا موت المقتول من فعل القاتل. وقد أعلم
الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن قائل هذا ومعتقده كافر بقوله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ
اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ
اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] .
[فصل في تمييز الروح من النفس]
واختلف في الروح والنفس، فذهب ابن حبيب في الواضحة إلى أن النفس غير الروح،
وأن الروح هو النفس المتردد في الإنسان، وأن النفس جسد مجسدة لها يدان
ورجلان ورأس وعينان، وإنها هي التي تلذ وتفرح وتتألم وتحزن [وأنها هي التي
تتوفى في المنام فتخرج وتسرح فترى الرؤيا فتسر بما تراه وتفرح به أو تتألم
وتحزن] ، ويبقى الجسم دونها بالروح لا يلذ ولا يفرح ولا يتألم ولا يحزن ولا
يعقل حتى تعود إليه النفس، فإن أمسكها الله تعالى ولم يرجعها إلى جسدها،
تبعها الروح فصار معها شيئا واحدا، ومات الجسم، وإن أرسلها إلى أجل مسمى
وهو أجل الوفاة حيي الجسم. واحتج لذلك كله بقوله عز وجل: {اللَّهُ
يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ
الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]
(1/228)
، وحكى ذلك كله عن عبد الرحيم بن خالد.
والذي وقع في العتبية عن عبد الرحيم بن خالد أن الروح هي الجسد المجسدة
خلاف حكايته عنه.
فصل وقول ابن حبيب فيه نظر. والذي ذهب إليه أهل النظر وأكثر أهل العلم، أن
الروح والنفس اسمان لشيء واحد، وكل واحد منهما قد يقع بانفراده على مسميات،
فيقع الروح على الملك. قال الله عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا
فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] ، ويقع أيضا على القرآن.
قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}
[الشورى: 52] ، ويقع أيضا على الحياة الموجودة في الإنسان وغيره من
الحيوان. يقال: ما في فلان روح إذا مات وذهبت حياته، وفيه روح إذا كانت فيه
حياة باقية. ويقع أيضا على النفس المتردد في الإنسان على ما ذهب إليه ابن
حبيب. والنفس قد تقع على ذات الشيء وحقيقته. يقال: هذا نفس الأمر ونفس
الطريق أي: حقيقته، ورأيت فلانا نفسه أي: ذاته حقيقة. ويقع أيضا على الدم
يقال: سالت نفسه، وحيوان له نفس سائلة وليس له نفس سائلة. ويقع أيضا على
الحياة الموجودة في الإنسان وغيره من الحيوان. يقال: ذهبت نفسه إذا مات ولم
يبق فيه حياة.
فصل وما يسمى من هذه الأشياء روحا فلا يسمى نفسا، وما يسمى نفسا فلا يسمى
روحا. فإذا عبر بالنفس والروح عن شيء واحد، فالمراد به ما يحيا به الجسم،
وهو الذي يتوفاه ملك الموت ويقبضه فيدفعه إلى ملائكة الرحمة أو ملائكة
العذاب، وهي النسمة التي قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فيها: «إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر
(1/229)
الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه»
. فالنفس والروح والنسمة شيء واحد. وقد يسمى الإنسان نسمة مجازا واتساعا.
فصل والدليل على أن الروح والنفس شيء واحد أن الله تبارك وتعالى قال:
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا} [الزمر: 42] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: إذ نام عن الصلاة [في الوادي حتى طلعت الشمس] «إن الله قبض
أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا» ، فسمى - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - روحا ما سماه الله تعالى في كتابه نفسا وما سماه هو
أيضا في الحديث نفسا؛ لأنه قال فيه: «أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك» ، وهذا
بين.
فصل وإنما قلنا إنه ما يحيا به الجسم ولم نقل إنه الحياة الموجودة بالجسم؛
لأن الحياة الموجودة به معنى من المعاني، والمعاني لا تقوم بأنفسها ولا يصح
عليها ما وصف الله تبارك وتعالى به الأنفس والأرواح في كتابه وعلى لسان
رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من القبض والإخراج والرجوع
والطمأنينة والصعود والتنعيم والتعذيب. فمعنى قولنا ما يحيا به الجسم أي:
ما أجرى الله تعالى العادة بأن يحيي الجسم بكونه ويميته بإخراجه منه؛ لأن
ما يحيا به الجسم وجوبا لا عادة هي الحياة، ولا يصح أن تكون إلا معنى؛ لأن
الجواهر لا توجب الأحكام في الأجسام.
فصل فإذا قلنا إن النفس والروح شيء واحد، وإنه هو الذي أخبر الله عز وجل في
كتابه أنه يتوفاه عند الموت وعند النوم، فقد قال بعض المتقدمين: إن قبضه في
حال
(1/230)
النوم هو أن يقبض وله حبل ممدود إلى الجسم
كشعاع الشمس، فإذا حرك الجسم رجع إليه الروح أسرع من طرف العين. وقد قال
بعض العلماء: إن النوم آفة تعرض للروح وليس هذا بشيء. والأظهر في ذلك عندي
أن قبضه في حال الوفاة هو بإخراجه من الجسم، وقبضه في النوم ليس بإخراج له
من الجسم، وإنما معناه منعه من الميز والحس والإدراك وقبضه عن ذلك، كما
يقال: قبض فلان عبده وقبض السلطان وزيره إذا منعه عما كان مطلقا عليه قبل
وإن لم يزله عن مكانه في الحقيقة. والقبض على هذا والتوفي في الوفاة حقيقة،
وفي حال النوم مجاز. والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله، قال الله عز
وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] .
[فصل فيما يستحب عند الاحتضار]
ويستحب أن يلقن الميت عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله، فقد جاء أن «من
كان آخر قوله شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة» وأن يوجه إلى القبلة على
شقه الأيمن كما يجعل في لحده وكما يصلي المريض الذي لا يقدر على الجلوس،
فإن لم يمكن ذلك فعلى ظهره ورجلاه إلى القبلة. وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - أنه قال في التوجيه ما هو من الأمر القديم. وذلك نحو ما
روي عن سعيد بن المسيب أنه أنكر ذلك على من فعله به عند مرضه. وتأول ابن
حبيب أنه إنما كره ذلك لاستعجالهم به قبل أن تنزل به أسباب الموت. والأظهر
أنه كرهه بكل حال. والذي يدل على أنه غير مشروع أن ذلك لم يرو أنه فعل
بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا بأحد من الصحابة
المتقدمين الكرام، ولو كان ذلك لنقل وذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويستحب أن يكون ما تحته وما حوله طاهرا إن أمكن ذلك، وأن يحضره أفضل أهله
وأحسنهم هديا وكلاما، فإن الملائكة تحضره. فإذا قضى غمض عينيه ونظر في غسله
وتجهيزه إلى قبره. فقد قال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
عن النبي عليه الصلاة والسلام: «أسرعوا بجنائزكم فإنما هو خير تقدمونهم
إليه أو شر تضعونه
(1/231)
عن رقابكم» ، إلا الغريق فإنه يستحب أن
يؤخر دفنه مخافة أن يكون الماء قد غمره فلم تتبين حياته.
[فصل فيما يتوجه على الأحياء في الميت من
العبادات]
إذا مات الميت ارتفعت العبادات عنه ولذلك قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى -: إن الميت إذا مات يحنط وإن كان محرما، وتوجهت على الأحياء فيه
أمور. فالذي يتوجه فيه على الأحياء أربعة أشياء، وهو غسله، وتكفينه،
والصلاة عليه، ودفنه. فأما غسله فإنه سنة مسنونة لجميع المسلمين حاشا
الشهداء من المجاهدين، وشرعه الله في الأولين والآخرين. روي أن آدم -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما توفي أتي بحنوط وكفن من الجنة،
ونزلت الملائكة فغسلوه وكفنوه في وتر من الثياب وحنطوه، وتقدم ملك منهم
فصلى عليه، وصفت الملائكة خلفه، ثم أقبروه وألحدوه ونصبوا اللبن عليه،
وابنه شيث معهم. فلما فرغوا قالوا له: هكذا فاصنع بولدك وأخوتك فإنها
سنتكم.
فصل
إلا أنها سنة تخص وتعم، فتخص مال الميت وتتعين فيه إن كان له مال، فإن لم
يكن له مال اختص غسله بمن يلزمه تكفينه، وتعين عليه أن يلي ذلك بنفسه أو
يستأجر عليه من ماله، فإن لم يكن له من يلزمه ذلك من قرابته عم لزوم ذلك
سائر الناس ولزمهم القيام به على الكفاية، وسيأتي الكلام على صفة فعله في
موضعه من الكتاب إن شاء الله تعالى.
فصل وقد قيل: إن غسله واجب، قاله عبد الوهاب، واحتج من نص على ذلك بقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهَا -: «اغسلنها ثلاثا» ، وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في المحرم: " اغسلوه "؛ لأن الأمر على الوجوب. وليس ذلك بحجة
ظاهرة؛ لأن أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(1/232)
بغسل ابنته خرج مخرج التعليم بصفة الغسل
الذي قد كان قبل معلوما معمولا به، وكذلك أمره بغسل المحرم خرج مخرج
التعليم بما يجوز أن يعمل بالمحرم من غسله وترك تحنيطه وتخمير رأسه، فالقول
بأن الغسل سنة أظهر، وهو قول ابن أبي زيد.
فصل ومما يستحب فيه الوتر كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في ابنته: «اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن،
بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور» . ويستحب أن تكون
الغسلة الأولى بالماء القراح، والثانية [بالماء والسدر، والثالثة] بالماء
والكافور. وقال ابن شعبان: ولو غسل بماء الورد لم يكره إلا من ناحية السرف،
فقيل: إنه ليس بخلاف للمذهب بدليل قوله في الحديث بماء وسدر، وليس ذلك
بظاهر؛ لاحتمال أن يريد أن يغسل بالماء والسدر دون أن يضاف السدر إلى
الماء. والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل ويجزئ بغير نية، والأصل في ذلك أن كل ما يفعله الإنسان في غيره فلا
يحتاج فيه إلى نية كغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب فيه، ولو قيل: إن ذلك
يفتقر إلى نية لما بعد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل فإن ترك غسله استدرك ما لم يدفن، وقيل: ما لم يخش عليه التغير وإن دفن،
وتعاد الصلاة عليه.
[فصل في وجوب تكفين الميت]
وكذلك تكفينه أيضا واجب، ويتعين في ماله من رأس المال إن كان له مال، ثم
على من يلزمه ذلك من سيد إن كان عبدا باتفاق أو زوج أو أب أو ابن على
اختلاف مذكور مسطور في الأمهات، ثم على جميع المسلمين على الكفاية.
(1/233)
والذي يتعين منه تعين الفرض ستر العورة،
وما زاد على ذلك فهو سنة. فإن تشاح الأولياء فيما يكفنونه به قضي عليهم أن
يكفنوه في نحو ما كان يلبسه في الجمع والأعياد، إلا أن يوصي بأقل من ذلك
فتتبع وصيته. وإن أوصى أن يكفن بسرف فقيل: إنه يبطل الزائد، وقيل: إنه يكون
في الثلث. وما يستحب في صفة الكفن ويتقى منه مذكور في الأمهات فلا معنى
لذكره.
[فصل في وجوب الصلاة على الميت]
وأما الصلاة عليه فقيل: إنها فرض على الكفاية كالجهاد يحمله من قام به، وهو
قول ابن عبد الحكم. ودليله قول الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ
مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ؛ لأن في النهي عن الصلاة على
المنافقين دليلا على الأمر بالصلاة على المسلمين، وهو دليل ضعيف، إذ قد
اختلف في صريح الأمر هل هو محمول على الندب أو على الوجوب، فكيف إذا لم
يثبت إلا بدليل الخطاب الذي قد اختلف في وجوب القول به. وقد قيل: إنها سنة
على الكفاية، وهو قول أصبغ.
فصل ومن سنة الصلاة عليه أن تكون قبل أن يدفن، فإن دفن قبل أن يصلى عليه
أخرج وصلي عليه ما لم يفت، فإن فات صلي عليه في قبره. وهو مذهب ابن القاسم
وابن وهب، وقيل: إنه إن فات لم يصل عليه لئلا يكون ذريعة للصلاة على
القبور، وهو مذهب أشهب وسحنون. واختلف بم يكون الفوت، فقيل: يفوت بأن يهال
عليه التراب بعد نصب اللبن وإن لم يفرغ من دفنه، وما لم يهل عليه التراب
وإن نصبت اللبن فإنه يخرج ويصلى عليه، وهو قول أشهب. وقيل: إنه لا يفوت إلا
بالفراغ من الدفن، وهذا قول ابن وهب في سماع عيسى. وقيل: إنه لا يفوت وإن
فرغ من دفنه، ويخرج ويصلى عليه ما لم يخش عليه التغير، وهو قول سحنون وعيسى
بن دينار وروايته عن ابن القاسم في سماعه. وإنما يصلى عليه في القبر ما لم
[يطل حتى] يغلب على الظن أنه قد فني ببلى أو غيره. وقال أبو حنيفة: لا
(1/234)
يصلى على قبر بعد ثلاث، قالوا: لأنه بعد
ثلاث يخرج من حد من يصلى عليه. والمعلوم خلاف ذلك مع ما قد روي «عن النبي -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه صلى على قبر بعد ثلاث» .
[فصل في ترتيب الجنائز للصلاة عليها]
ومن سنة الصلاة على الجنائز إذا اجتمعت جنائز الرجال والنساء والأحرار
والعبيد والصغار والكبار، أن يقدم الأحرار على العبيد صغارا كانوا أو
كبارا، والذكور على الإناث صغارا كانوا أو كبارا، ولا يقدم الكبار على
الصغار إلا إذا استوت مرتبتهم في الحرية والرق، وفي الذكورة والأنوثة.
فصل فصفة ترتيبهم على مراتبهم وهي اثنتا عشرة مرتبة إذا اجتمعوا أن يقدم
إلى الأمام أعلى المراتب وهم الرجال الأحرار البالغون، فإن تفاضلوا في
العلم والفضل والسن قدم إلى الأمام أعلمهم ثم أفضلهم ثم أسنهم، وقيل: إنه
يقدم الأفضل على الأعلم، وهو بعيد؛ لأن فضيلة العلم مزية يقطع عليها وزيادة
الفضل مزية لا يقطع عليها، ثم الصبيان الأحرار. فإن تفاضلوا أيضا في حفظ
القرآن ومعرفة شيء من أمور الدين والمحافظة على الصلوات وفعل الطاعات وفي
السن، قدم ذو المعرفة منهم على الذي عرف بالمحافظة على الصلوات وفعل
الطاعات ثم الأسن. فإن لم يكن لأحدهم على صاحبه مزية إلا السن قدم الأسن
على المسن. ثم العبيد الكبار، فإن تفاضلوا أيضا في العلم والفضل والسن فعلى
ما تقدم في الأحرار. ثم العبيد الصغار فإن تفاضلوا أيضا فيما بينهم فعلى ما
تقدم في الأحرار الصغار. وهذا على ما أصلناه فوق هذا من تقديم الأحرار على
العبيد صغارا كانوا أو كبارا، وهو قول ابن القاسم وابن أبي حازم، وإليه ذهب
ابن حبيب وحكاه عمن لقي من أصحاب مالك. وقد روي عن ابن القاسم أنه قدم
العبيد الكبار على الأحرار الصغار؛ لأن العبد الكبير يؤم ولا يؤم الحر
الصغير. ووجه القول الأول أن نقيصة العبودية أثبت من نقيصة الصغر؛ لأن
الصغير يبلغ على كل حال مع حياته والعبد قد لا يعتق. ثم الخنائي المشكلون
الأحرار الكبار ثم الخنائي المشكلون الأحرار
(1/235)
الصغار ثم الخنائي العبيد [الكبار ثم
الخنائي العبيد] الصغار، ثم النساء الأحرار الكبار، ثم النساء الأحرار
الصغار، ثم الإماء الكبار، ثم الإماء الصغار.
[فصل في صفة الصلاة على الجنائز]
وصلاة الجنائز أربع تكبيرات عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع
أصحابه. تنزل التكبيرة فيها منزلة الركعة في الصلاة، والدعاء فيها بمنزلة
القراءة في الصلاة. من شرط صحتها الإمامة كصلاة الجمعة، فإن صلي عليها بغير
إمام أعيدت الصلاة ما لم يفت ذلك.
[فصل في وجوب دفن الميت]
وأما دفنه فإنه واجب، قال الله عز وجل في ابني آدم: {فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ -
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ
يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ
مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ} [المائدة: 30 - 31] {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} [المائدة: 32] ،
وروي أنه حمله على عنقه سنة يدور به لا يدري ما يصنع إلى أن بعث الله
الغراب منبها له على دفنه ففعل ذلك، وكانت سنة له ولمن بعده إلى يوم
القيامة أنعم الله بها على عباده، وعدد النعمة بها عليهم في غير ما آية من
كتابه، فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25]
{أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] ، وقال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ
فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22] ، وقال:
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ
تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] ، وهو أيضا من فروض الكفاية يحمله من قام به من
الناس، ويجري مجرى الكفن في كون الاستئجار عليه من رأس المال، والحكم به إن
لم يكن له مال على من يحكم عليه بالتكفين، وبالله التوفيق.
(1/236)
|