المقدمات
الممهدات [كتاب الصيام] [فصل في معرفة اشتقاق
الصيام]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله
وصحبه وسلم تسليما كتاب الصيام
فصل في معرفة اشتقاق الصيام الصيام في
اللغة هو الإمساك والكف والترك، فمن أمسك عن شيء وتركه وكف عنه فهو صائم
عنه. قال الله عز وجل: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}
[مريم: 26] وهو الإمساك عن الكلام والكف عنه. قال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
ومنه قول امرئ القيس:
فدع ذا وسل الهم عنك بحسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا
معناه إذا انتصف النهار وقام قائم الظهيرة؛ لأن الشمس إذا كانت في وسط
السماء نصف النهار فكأنها واقفة غير متحركة لإبطاء مشيها. والعرب قد تسمي
الشيء باسم ما قرب منه.
فصل والصيام في الشرع هو أيضا إمساك على ما هو عليه في اللغة غير منقول
عنها إلى اسم غير لغوي، إلا أنه في الشرع إمساك عن أشياء مخصوصة في أزمان
معلومة على وجوه مخصوصة، فهو إمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع
الفجر إلى غروب الشمس، مع اقتران النيات به على اقتران وجوهها من فرض واجب
(1/237)
أو تطوع غير لازم أو كفارة يمين أو غيره،
فمتى انخرم وجه من هذه الوجوه لم يكن صائما شرعا، وإن صح أن يسمى صائما في
اللغة على ما قدمناه.
[فصل الصيام الشرعي ينقسم على وجهين]
فصل والصيام الشرعي ينقسم على وجهين واجب وتطوع. فالواجب ينقسم أيضا على
قسمين: واجب بالنص، وواجب بالشرع.
فالواجب بالنص: هو الذي نص الله تعالى على وجوبه، وهو ينقسم على قسمين
أيضا: واجب تعبد الله به عباده لغير علة، وواجب تعبدهم به لعلة. فالواجب
الذي تعبدهم به لغير علة هو صيام شهر رمضان. والواجب الذي تعبدهم به لعلة
هو صيام كفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة اليمين وقضاء رمضان.
فصل والواجب بالشرع هو ما أوجبه العبد على نفسه بالنذر أو باليمين فوجب
عليه لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، ويقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» .
وهو أيضا على قسمين: معين بوقت مثل قول: لله علي أن أصوم يوم كذا أو شهر
كذا أو سنة كذا وما أشبه ذلك، [وثابت في الذمة غير معين بوقت، مثل قوله لله
علي أن أصوم شهرا أو يوما أو سنة وما أشبه ذلك] ، فالمعين يوافق رمضان في
وجوب صيامه ووجوب قضائه على من أفطره متعمدا في حضر أو سفر، ويفارقه في
وجوب الكفارة على من أفطره متعمدا، وفي وجوب قضائه على من أفطره من عذر من
مرض أو حيض إلا على رواية ابن وهب عن مالك الواقعة في بعض روايات المدونة
بإيجاب القضاء، والإغلاظ في ذلك، وعلى من أفطره ناسيا على قول سحنون خلافا
لابن القاسم. والثابت في الذمة الذي هو غير معين بوقت إن نواه متتابعا أشبه
صيام كفارة القتل
(1/238)
وكفارة الظهار في جميع وجوهه، وإن نواه
متفرقا أشبه قضاء رمضان في جميع وجوهه.
فصل أما التطوع فهو ما عدا الواجب فيما عدا شهر رمضان وأيام التشريق ويوم
النحر ويوم الفطر من سائر أيام السنة، وبعضها أفضل من بعض، على ما نذكره إن
شاء الله.
فصل وصيام شهر رمضان واجب على الأعيان، أوجبه الله تعالى في كتابه وافترضه
على عباده، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وقال عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ
فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ
كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
[البقرة: 185] ، وقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «بني
الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة،
وصيام شهر رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» .
فصل وهو يتحتم بستة أوصاف، وهي: البلوغ، والإسلام، والعقل، والصحة،
والإقامة، والطهارة من دم الحيض والنفاس. وهذه الستة الأوصاف تنقسم على
أربعة أقسام:
منها ما يشترط في وجوب الصيام وفي صحة فعله وفي وجوب قضائه، وهو
(1/239)
الإسلام؛ لأن الكافر لا يجب عليه الصيام
ولا يصح منه إن فعله، ولا يجب عليه قضاؤه إذا أسلم؛ لقول الله عز وجل:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ
سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وإنما استحب له مالك قضاء اليوم الذي أسلم في بعضه
والإمساك في بقيته عن الأكل مراعاة لقول من يرى أنه مخاطب بالصيام في حال
كفره. ومنها ما هو شرط في وجوب الصيام لا في جواز فعله ولا في وجوب قضائه،
وهما الإقامة، والصحة. لأن المسافر والمريض مخاطبان بالصوم مخيران بينه
وبين غيره. وقد قيل: إنهما غير مخاطبين بالصوم، وهو بعيد، إذ لو لم يكونا
مخاطبين بالصوم لما أثيبا على صومهما ولما أجزأهما فعله.
ومنها ما هو شرط في وجوب الصيام وفي صحة فعله لا في وجوب قضائه، وهما العقل
والطهارة من دم الحيض والنفاس؛ لأن الصيام لا يجب عليهما ولا يصح منهما،
والقضاء واجب عليهما. وقد قيل في المجنون: إنه لا يجب عليه القضاء فيما كثر
من السنين واختلف في حدها. وهما في حال الجنون والحيض غير مخاطبين بالصوم،
وقد قيل في الحائض: إنها مخاطبة بالصوم ومن أجل ذلك وجب عليها القضاء، وهو
بعيد، إذ لو كانت مخاطبة به لأثيبت عليه ولأجزأ عنها. وإنما وجب عليها
القضاء بأمر آخر وهو قوله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] .
ومنها ما هو شرط في وجوبه ووجوب قضائه لا في صحة فعله، وهو البلوغ؛ لأن
الصغير لا يجب عليه الصيام ولا يجب عليه القضاء، ويصح منه الصيام. وقد
اختلف هل هو مأمور به قبل البلوغ على طريق الندب أم لا على قولين، وبالله
التوفيق.
فصل وما عدا شهر رمضان من الأيام فصيامه تطوع حاشا يوم النحر ويوم الفطر
وأيام منى. فأما يوم الفطر ويوم النحر فلا يحل صيامهما لأحد، وأما اليومان
الأولان من أيام منى فلا يصومهما إلا المتمتع الذي لا يجد هديا أو من كان
في معناه في
(1/240)
المشهور من المذهب. وأما اليوم الرابع
فيصومه من نذره، أو من كان في صيام متتابع.
فصل فأيام السنة تنقسم في الصيام على ستة أقسام:
منها ما يجب صومه ولا يحل فطره إلا بعدم وصف من الأوصاف الستة، وهو شهر
رمضان.
ومنها ما يجب فطره ولا يحل صومه، وهو يوم النحر ويوم الفطر.
ومنها ما يجوز صومه على وجه ما، وهما اليومان اللذان بعد يوم النحر.
ومنها ما يكره صومه، وهو اليوم الرابع من أيام التشريق.
ومنها ما يجوز صومه وفطره، وهو ما لم يرد في صومه ترغيب مما عدا شهر رمضان
ويوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق.
ومنها ما يستحب صومه، وهو ما ورد فيه ترغيب. من ذلك ما روي أن «رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينما هو جالس مع أصحابه إذ أقبل رجل
من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، وهو حمام بن ثعلبة
السعدي، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فأخبره رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشرائع الإسلام، فقال: خمس صلوات في اليوم
والليلة، فقال: هل علي غيرهن، قال: لا إلا أن تطوع. قال: وصيام شهر رمضان،
قال: هل علي غيره، قال: لا إلا أن تطوع. قال: وذكر رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة، فقال: هل علي غيرها، فقال: لا إلا أن
تطوع، فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أفلح إن صدق» . وفي قول رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلا أن تطوع ندب منه إلى
التطوع بالصيام في غير رمضان وحض عليه.
فصل فالتطوع بالصيام من نوافل الخير المرغب فيها المندوب إليها. روي عن
(1/241)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أنه قال: «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك،
إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلى، الصيام لي وأنا أجزي به، كل حسنة
بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به» .
فصل وفضائل الصيام كثيرة، وأفضل الأيام للصيام بعد رمضان يوم عاشوراء. وقد
كان هو الفرض قبل أن يكتب رمضان، وقد خص لفضله بما لم يخص به غيره من أن
يصومه من لم يبيت صيامه ومن لم يعلم به حتى أكل أو شرب. وقد قيل: إن ذلك
إنما كان حين كان صومه فرضا. وروي أن صيامه يكفر سنة، وأن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتحر بصيامه يوما بعينه إلا يوم
عاشوراء. وقد اختلف فيه فقيل: هو العاشر، وقيل: هو التاسع. فمن أراد أن
يتحراه صام التاسع والعاشر. وقد كان ابن شهاب يصومه في السفر ويأمر بفطر
رمضان، فقيل له في ذلك فقال: رمضان فيه عدة من أيام أخر، وهذا يفوت.
وصيام عشر ذي الحجة ومنى وعرفة مرغب فيه، قيل في قول الله عز وجل:
{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] : إنها عشر ذي الحجة، وفي الشفع والوتر: إن
الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة. وقيل في شاهد ومشهود: إن شاهدا يوم
الجمعة ومشهودا يوم عرفة. وروي أن صوم يوم عرفة كصيام سنتين، وأن صيام يوم
منى كصوم سنة، وأن صوم يوم من سائر أيام العشر كصيام شهر، وهذا في غير
الحج. وأما في الحج ففطر يوم عرفة أفضل من صومه. وكان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه مفطرا. وصيام الأشهر الحرم أفضل من
غيرها، وهي أربعة: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. وفي الأشهر الحرم
أيام هي أفضل من سائرها. وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم حتى نقول لا
(1/242)
يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيته
استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته أكثر صوما منه في شعبان» . ففي
هذا دليل على فضل صيام شعبان، وأنه أفضل من صيام سواه. «وكان رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم الاثنين والخميس، وقال: " إن
الأعمال تعرض على الله فيهما، فأنا أحب أن يعرض عملي على الله وأنا صائم»
فصيامهما مستحب. وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
«من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله» ، فكره مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذلك مخافة أن يلحق برمضان ما ليس منه أهل
الجهالة والجفاء. وأما للرجل في خاصة نفسه فلا يكره له صيامها. وكذلك كره
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن يتعمد صيام الأيام الغر، وهي يوم
ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر على ما روي فيها، مخافة أن يجعل صيامها
واجبا. وروي أن صيام الأيام البيض هو أول يوم ويوم عشر ويوم عشرين صيام
الدهر، وأن ذلك كان صوم مالك بن أنس - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. ولم ير
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - النهي الذي جاء في صيام يوم الجمعة
منفردا لا يصوم قبله ولا بعده، وقال: لا بأس بصيامه منفردا وأن يتحرى ذلك.
وذكر أن بعض أهل الفضل كان يتحرى صيامه، ولا بأس بصيام الدهر إذا أفطر
الأيام التي نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
صيامها. وقد كره بعض أهل العلم صيام الدهر؛ لحديث أبي قتادة عن «النبي -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه سئل عن صيام الدهر، فقال: من فعل
ذلك فلا صام ولا أفطر، أحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود كان يصوم يوما
ويفطر يوما» وهذا والله أعلم لما خشي عليه من السآمة والملل. وقد قال -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لا يمل حتى تملوا اكلفوا من
العمل ما لكم به طاقة» إذ قيل له في الحولاء بنت تويت: إنها لا تنام
(1/243)
ليلا وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع
ولا ظهرا أبقى» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن يشاد
هذا الدين أحد إلا غلبه» .
[فصل في شروط صحة الصيام]
فصل ومن شروط صحة الصيام وفرائضه النية، فلا يجزئ صوم بغير نية؛ للنص
الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بقوله: «من
لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» ، ولعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإنما لكل امرئ ما نوى» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ، والصيام عمل من الأعمال؛
لأنه من أعمال القلوب فوجب أن لا يجزئ بغير نية؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا
أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:
5] ، والصيام من الدين فوجب أن تخلص العبادة لله تعالى به. والذي يلزم من
النية في صيام رمضان اعتقاد القربة إلى الله تعالى بأداء ما افترض الله
عليه من استغراق طرفي النهار بالإمساك عن الطعام والشراب والجماع.
فصل وإنما افتقر الصيام إلى النية، وإن لم يكن فعلا مأمورا به من أفعال
الأبدان، وإنما هو إمساك عن فعل وهو ترك، والتروك في الشرع لا تفتقر إلى
نية؛ لأنه ترك مختص بزمن معلوم فإنه يفتقر إلى النية، بخلاف ما كان منها لا
يختص بزمن معلوم كترك الزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك. وقد أطلق القول جماعة
من أهل اللغة أن الصيام ليس بعمل، وإلى هذا ذهب الطحاوي وقال فيما روي عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال حكاية عن ربه: «كل
عمل ابن آدم فهو له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به» ، إنه استثناء منفصل
بمعنى لكن، والصواب ما ذكرناه.
(1/244)
فصل وإنما افتقر الترك المختص بزمن معلوم
إلى النية، بخلاف الترك الذي لا يختص بزمن معلوم؛ لأن الترك على كل حال عمل
من أعمال القلوب، بدليل تناول الأمر له. ألا ترى أنك تقول اترك كذا كما
تقول اعمل كذا. فإذا اختص بزمن معلوم تعين أوله وآخره وجبت النية عند أوله
كسائر العبادات؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم
يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» . لأن معنى النية إخلاص العمل لله، إذ
قد يصح أن يفعل لغير الله. ألا ترى أنه قد يصح أن ينوي الصيام لمنفعة نفسه
تطببا فلا يثاب عليه، إذ لم يصم لله وإنما صام لنفسه، فكان صائما لعلة لا
شرعا. وإذا لم يختص الترك بزمن معلوم لم يتعين أوله من آخره فسقطت النية
فيه، إذ لم يتعين لها وقت يختص به، وسقط الجزاء عليه أيضا فكان معاقبا على
الفعل غير مأجور على الترك.
فصل ويصح إيقاع نية الصيام قبل ابتدائه والتشبث به بإجماع؛ لقول رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا
صيام له» ، من غير أن يخص أوله من آخره، قيل: بخلاف الصلاة، من جهة أن
إيقاع نية الصوم مع طلوع الفجر معا في حالة واحدة عسير، فلو كلف ذلك الناس
لكان من الحرج في الدين، والله تعالى قد رفعه عن عباده بقوله تعالى: {وَمَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وليس ذلك بفرق
بين الموضعين، إذ لو كانت النية في الصيام قبل الفجر كالعدم، لوجب إيقاعها
مع الفجر معا، وإن في ذلك مشقة إذ لا ينفع عمل بغير نية، فلا يمتنع عندي
قياس الصلاة على الصيام في جواز تقدم النية قبل ابتداء الصلاة على وجه
القياس؛ لأن جواز ذلك في الصيام إجماع من أهل العلم، وفيه سنة قائمة عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فهذا أصل يجب أن ترد إليه
الصلاة المختلف فيها كما رد إليه الغسل والوضوء، فيجوز فيها من تقدم النية
قبل ابتدائها ما جوز في الغسل والوضوء قياسا على الصيام.
(1/245)
فصل ورمضان كله كيوم واحد إذ لا يتخلله وقت
فطر يصح صومه، فتجزئ فيه نية واحدة في أوله، ويكون حكم النية باقيا مستصحبا
لا يحتاج إلى تجديد النية عند كل يوم، كالصلاة التي يلزمه إحضار النية لها
عند أولها، ولا يلزمه تجديدها عند كل ركن من أركانها. وكذلك من شأنه سرد
الصيام ومن نذر صوما متتابعا لا يحتاج إلى تبييته كل ليلة. وكذلك من نذر
صوم يوم معين من الجمعة يجزئه ما تقدم من نيته ولا يحتاج إلى تجديد النية
ليلة ذلك اليوم. وقد قال ابن الماجشون في الواضحة: إن أهل البلد إذا عمهم
علم رؤية الهلال بالرؤية أو بالشهادة عند حكم الموضع فذلك يجزئ من لم يعلم
وإن لم يبيت الصيام. وكذلك الغافل والمجنون فكأنه رأى لما تعين صوم اليوم
أجزأه ما تقدم من نيته لصيام رمضان كناذر يوم من أيام الجمعة معين. وعلى
هذا لا يحتاج إلى أن يفرق بين أن يعمهم علم الرؤية أو لا يعمهم. وقال
سحنون: لا يجزئه إلا أن يعلم ويبيت. وقد اختلف من هذا المعنى في المرأة
تحيض في رمضان ثم تطهر، هل عليها تجديد نية الصيام أم لا على قولين:
أحدهما: أن النية الأولى تجزئها؛ لأن أيام الحيض لا يصلح لها صومها فأشبهت
الليل، والثاني: أن تجديد النية يلزمها لتخلل صومها الفطر.
فصل وقَوْله تَعَالَى في شهر رمضان: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] منسوخ، نسخه قول الله تبارك
وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] .
فصل وكان في أول الإسلام من شاء أن يصوم صام ومن شاء أن يفطر أفطر وأطعم
(1/246)
عن كل يوم مسكينا على ما ورد في هذه الآية،
فنسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
[البقرة: 185] ، وهذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه. وقد
قيل: إن الآية محكمة وردت في الشيخ الكبير والعجوز والمرضع والحامل. وروي
ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - في رواية، وروي عنه
وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنهما قرءا وعلى الذين
يطوقونه. ومعنى هذه القراءة يكلفونه فلا يطيقونه إلا بجهد ومشقة. وقد وردت
الآية عامة في هؤلاء وفي الصحيح المقيم، فنسخ من ذلك الصحيح المقيم بقوله
تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]
وبقيت الآية محكمة في المذكورين.
فصل والمريض الذي يصح له الفطر هو الذي لا يقدر على الصيام أو يقدر عليه
بجهد ومشقة من أجل مرضه، فاختلف إذا قدر على الصيام بغير جهد ولا مشقة
تلحقه من أجل مرضه إلا أنه يخشى أن يزيده الصيام في مرضه، فقيل: إن الفطر
له جائز، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في العتبية. وقيل: إن ذلك لا يجوز
له؛ لأن الصوم عليه واجب لقدرته عليه وما يخشى من زيادة مرضه أمر لا
يستيقنه، فلا يترك فريضة بشك. والأول أصح، وقد قيل: إن المريض له أن يفطر
بكل حال إذا كان يسمى مريضا بظاهر قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضًا} [البقرة: 184] ، روي عن طريف بن تمام العطاردي أنه دخل على محمد
بن سيرين وهو يأكل في رمضان فلم يسأله، فلما فرغ قال له: إنه وجعت إصبعي
هذه. والأولى في هذا أن المرض الذي أذن الله بالإفطار معه، هو المرض الذي
يجهد الصائم الصيام معه جهدا غير محتمل، أو يخشى زيادة المرض به.
فصل وقد كان في أول الإسلام من نام من الليل قبل أن يطعم لم يأكل ولا جامع
بقية ليلته ويومه حتى يمسي، على ما كان عليه أهل الكتاب لقول الله عز وجل:
(1/247)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ} [البقرة: 183] ، وهم أهل الكتاب، وقيل: الناس كلهم، وقيل: إن
النصارى كتب عليهم صيام شهر رمضان على أن لا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا
النساء بعد النوم، فاشتد عليهم ذلك حين كان يغلب عليهم ذلك في الشتاء
والصيف، [فلما رأوا ذلك اجتمعوا، فجعلوه في الفصل بين الشتاء والصيف] ،
وقالوا: نزيد عشرين يوما نكفر بها ما صنعنا، فجعلوا صيامهم خمسين يوما، فلم
يزل المسلمون على ذلك حتى نسخه الله بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ
الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية، واختلف في
سبب نزول هذه الآية الناسخة لما تقدم مما كان الأمر عليه، فقيل: كان سبب
ذلك أن «قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، فلما حضر الفطر أتى إلى امرأته،
فقال لها: أعندك طعام، فقالت: لا، ولكن انطلق فاطلب لك، وكان يومه يعمل،
فغلبته عينه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت له: خيبة لك، فلما انتصف
النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -،
فنزلت هذه الآية ففرحوا بها فرحا شديدا» . وقيل: كان سبب ذلك «أن عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أراد امرأته، فقالت له: قد نمت،
فظن أنها تعتل فلم يصدقها، وواقعها، ثم ندم فبات يتقلب بطنا وظهرا، فأنزل
الله تعالى الآية فنسخت ما كانوا عليه» .
فصل ومعنى قول الله عز وجل: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، هو
بياض النهار المعترض في الأفق الشرقي من سواد الليل. وروي «عن عدي بن حاتم
أنه قال: لما نزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:
187] عمدت إلى عقالين أبيض
(1/248)
وأسود فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر
إليهما فلا يستبين لي، فغدوت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فذكرت ذلك له، فقال: " إن وسادك إذا لعريض، إنما ذلك سواد
الليل من بياض النهار» . وقد كان، على ما روي، رجال إذا أرادوا الصيام ربط
أحدهم في رجله الخيط الأبيض والأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما،
فأنزل الله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، فعلموا أنه إنما يعني
بذلك الليل والنهار.
فصل والفجر فجران: فالأول: هو الذي يسمى الكاذب، وهو البياض المرتفع في
الأفق ويشبه بذنب السرحان؛ لارتفاع ضوئه، لا يحل الصلاة ولا يحرم الطعام.
والفجر الثاني: الصادق، هو المعترض في الأفق آخذا من القبلة إلى دبر القبلة
من شعاع الشمس وضوئها، وهو الذي يعتبر به في تحريم الطعام وتحليل الصلاة.
وقد اختلف إذا شك في الفجر هل يأكل أم لا، فقال مالك: إذا شك في الفجر فلا
يأكل، فإن أكل فعليه القضاء. وقال ابن حبيب: استحبابا، وقال جماعة من أهل
العلم وهو مذهب ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنه يأكل ما شك في
الفجر حتى يتبين له، على ظاهر قول الله تبارك وتعالى: {وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، وأما من شك في غروب
الشمس فلا يأكل باتفاق، وإن أكل فعليه القضاء والكفارة؛ لقول الله عز وجل:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ، ومن جهة
المعنى أن الأكل بالليل مباح فلا يمتنع منه إلا بيقين وهو تبين الفجر،
والأكل بالنهار في رمضان محظور، فلا يستباح إلا بيقين وهو تبين غروب الشمس.
وهذه المسألة انفرد باتفاقها أبو عبيد الطليطلي في مختصره. وقوله في الظهار
من المدونة فيمن ظن أن الشمس قد غابت فأفطر ثم طلعت الشمس: إن عليه القضاء
ولا كفارة عليه، معناه أيقن
(1/249)
بغروبها، والظن قد يكون بمعنى اليقين. قال
الله عز وجل: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا
مَصْرِفًا} [الكهف: 53] يريد أيقنوا، {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ
اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} [التوبة: 118] معناه أيقنوا، ومن الناس من حمل الظن
في مسألة المدونة على بابه من الشك، فتأول أن مذهب مالك في المدونة
المساواة بين الفجر والغروب [في أنه لا كفارة في الأكل مع الشك فيهما، وهو
بعيد، وإلى المساواة بين الفجر والغروب] في إسقاط الكفارة عمن أكل شاكا
فيهما ذهب ابن القصار وعبد الوهاب، وهو بعيد في الغروب مع ألا يغلب على ظنه
أحد الطرفين. فلعلهما أرادا بالمساواة بينهما إذا أكل شاكا فيهما والأغلب
على ظنه أن الفجر لم يطلع وأن الشمس قد غابت، فيكون لقولهما وجه؛ لأن الحكم
بغلبة الظن أصل في الشرع.
[فصل فيما يثبت به صوم رمضان]
فصل ولا يجب صيام شهر رمضان إلا برؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين يوما،
قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر: «لا
تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له» ،
وقال في حديث ابن عباس: «فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم أفطروا» ،
أدخله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موطئه بعد حديث ابن عمر على
طريق التفسير له؛ لأن أهل العلم اختلفوا في معنى قول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاقدروا له، فروي عن ابن عمر أنه كان إذا
كانت السماء صاحية أصبح مفطرا، وإن كان مغيمة أصبح صائما، فكان يتأول قول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك. وقد قيل: إن معنى
قوله فاقدروا له من التقدير، أن يقدر لمنازل القمر وطريق الحساب. فروي عن
مطرف بن عبد الله بن الشخير أنه كان يقول يعتبر الهلال إذا غم بالنجوم
ومنازل القمر وطريق الحساب. وروي مثل ذلك عن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - في رواية. والمعروف له المشهور عنه أنه لا يصام إلا
برؤية فاشية أو شهادة عادلة كالذي عليه الجمهور. والصواب ما ذهب إليه مالك
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من تفسير حديث ابن عمر بحديث ابن عباس؛ لأن
التقدير يكون بمعنى التمام. قال الله عز
(1/250)
وجل: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْرًا} [الطلاق: 3] أي: تماما. وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب
الجامع.
فصل ورؤية الهلال تكون على وجهين: رؤية عامة، ورؤية خاصة. فالرؤية العامة
أن يراه العدد الكثير والجم الغفير الذين لا يجوز عليهم التواطؤ ولا
التشاعر من غير أن يشترط في صفتهم ما يشترط في صفة الشاهد من الحرية
والبلوغ والعدالة. والرؤية الخاصة هو أن يراه النفر اليسير.
فصل فإذا رآه النفر اليسير فلا يخلو أن يكون ذلك في الصحو أو في الغيم. فإن
كان ذلك في الغيم فلا خلاف في إجازة شهادة شاهدين في ذلك، وأما إن كان ذلك
في الصحو، فقيل: إن شهادة شاهدين جائزة في ذلك، وهو ظاهر ما في المدونة،
وقيل: إنها لا تجوز وهو قول أبي حنيفة ومعنى ما في سماع عيسى من كتاب الحبس
وقول سحنون؛ لأنه روي عنه أنه قال: وأي رؤية أكثر من هذه؟!.
فصل وهذه الرؤية الخاصة تختص بالحكام. فإذا ثبت عند الإمام رؤية الهلال
بشهادة شاهدين عدلين أمر الناس بالصيام أو الفطر وحمل الناس عليه.
فصل فإن شهد عنده شاهد على هلال شعبان وشاهد على هلال رمضان، فقد قال يحيى
بن عمر: لا تجوز الشهادة، وقال غيره من أهل العلم: تجوز، ومعنى ذلك إذا شهد
الشاهد على هلال رمضان أنه رآه بعد ثلاثين يوما من رؤية الشاهد على هلال
شعبان إذ ليس في شهادة الشاهد الثاني تصديق الشاهد الأول. وأما لو رآه
الشاهد
(1/251)
الثاني بعد تسعة وعشرين يوما من رؤية الأول
لوجب أن تجوز شهادتهما؛ لأن الشاهد الثاني يصدق الشاهد الأول، إذ لا يصح أن
يصدق الشاهد الثاني إلا والأول صادق في شهادته، يريد فيصام للتمام من
رؤيته. قال: وهو معنى خفي.
قلت: وليس هو عندي بينا في المعنى؛ لأنه كما يصدق ها هنا الشاهد الثاني
للشاهد الأول من أجل أنه لا يمكن أن يرى الهلال ليلة تسع وعشرين، فكذلك
يصدق في المسألة الأولى الشاهد الأول للشاهد الثاني من أجل أنه لا بد أن
يرى ليلة أحد وثلاثين. فالصحيح عندي أن لا فرق بين المسألتين، وأنهما جميعا
يتخرجان على قولين؛ لأنهما جميعا متفقان على إيجاب الصيام للتمام من رؤية
الأول وإن اختلفا فيما قد شهدا به، إذ قد اختلف الشاهدان في شهادتهما
واتفقا فيما يوجبه الحكم فالمشهور أن لا تجوز.
فصل فإذا رأى الهلال الجم الغفير أو ثبت عند الإمام بشهادة شاهدين فأمر
بصيامه وجب الصيام على كل من بلغه ذلك بنقل الواحد العدل من باب قبول خبر
الواحد لا من باب الشهادة، وذلك مروي عن أحمد بن ميسر قال: إذا أخبرك عدل
أن الهلال ثبت عند الإمام وأمر بالصيام أو نقل ذلك إليك عن بلد آخر لزمك
الصوم بإخباره من باب قبول خبر الواحد لا من طريق الشهادة. قال ابن أبي
زيد: كما ينقل الرجل إلى أهله وولده فيلزمهم الصوم بقوله. وحكي عن أبي
عمران أنه طعن في هذا وقال: لا يلزم الرجل الصيام في هذا بقول واحد؛ لأنه
شاهد وليس ذلك كنقل الرجل إلى أهله وولده؛ لأنه القائم عليهم فيلزمهم
الصيام بقوله. قال: وإنما الرواية عن ابن ميسر في الأصل قال: وإذا وجه
القوم رجلا إلى بلد فأخبرهم أنهم رأوا الهلال لزمهم الصيام بقوله. قال:
وهذا لا حجة فيه؛ لأنهم لما بعثوه لذلك صار كالمستكشف لهم ولزمهم الصيام
بإخباره. وقول أبي عمران لا معنى له، ولا فرق أن يخبرهم دون أن يبعثوه أو
بعد أن بعثوه أو يخبر بذلك أهله وولده.
فصل وإنما يفترق ذلك عندي فيما يحكم به الإمام، فإن الإمام إذا بعث رجلا
إلى
(1/252)
أهل بلد ليخبره إن كانوا رأوا الهلال،
فأخبره أنهم صاموا برؤية مستفيضة أو بثبوت الهلال عند قاضيهم، وجب عليه أن
يأمر الناس بالصيام لذلك اليوم بقوله، من باب قبول خبر الواحد، وإن أخبره
بذلك من غير أن يرسله وجب عليه هو الصيام في خاصته، ولم يصح له أن يأمر
الناس بالصيام حتى يشهد عنده بذلك شاهد آخر؛ لأنه حكم فلا يكون إلا بشهادة
شاهدين.
فصل فصيام رمضان يجب بأحد خمسة أشياء: إما أن يرى هلاله. وإما أن يخبره
الإمام أن قد ثبتت عنده رؤيته. وإما أن يخبره العدل عنه بذلك أو عن الناس
أنهم رأوه رؤية عامة، وكذلك إن أخبره أن أهل بلد كذا صاموا يوم كذا برؤية
عامة أو بثبوت رؤيته عند قاضيهم وجب عليه بذلك قضاء ذلك اليوم. وإما أن
يخبره شاهدان عدلان أنهما قد رأياه. وإما أن يخبره بذلك شاهد واحد عدل في
موضع ليس فيه إمام يتفقد أمر الهلال بالاهتمام به. ووجه ذلك أن الشهادة فيه
لما تعذرت بعدم الحكم أو بتضييعه رجع إلى إثباته من جهة الخبر كما رجع إلى
إثباته بالشهادة عند الحكم عند تعذر الرؤية العامة. وكما جاز قبول المؤذن
العدل العارف بالفجر في طلوعه لتعذر الشهادة في ذلك عند الحكم إذ لا يلزمه
طلب الشهادة في ذلك. والفرق بين وجوب ذلك عليه في الهلال دون الفجر أن
الصيام يصح إيقاع النية فيه قبل الفجر، ولا يصح اعتقاد الصوم في أول يوم من
رمضان قبل العلم باستهلال الهلال. ولا يلزم على هذا زوال الشمس لصلاة الظهر
ولا غروب الشمس للفطر؛ لأنه يمكنه التأخير حتى يوقن بزوال الشمس أو
بغروبها.
فصل فإن كان هذا الذي وصفاه في هلال شعبان، وأغمي هلال رمضان أتم شعبان
ثلاثين يوما. وكذلك إن كان ذلك في هلال رجب وأغمي هلال شعبان ورمضان أكمل
رجب وشعبان ثلاثين يوما ثلاثين يوما.
(1/253)
[فصل فيما
ينبغي للصائم]
فصل وينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الرفث والخنا والغيبة وقول الزور. روي
عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «الصيام جنة فإذا
كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني
صائم إني صائم» .
(1/254)
|