المقدمات الممهدات

 [كتاب الاعتكاف]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الاعتكاف الاعتكاف في كلام العرب هو الإقامة واللزوم. يقال منه اعتكف فلان بمكان كذا إذا أقام فيه ولازمه ولم يخرج عنه. وعكف فلان على فلان إذا أقام عليه ولزمه، ومنه قول الله عز وجل: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97] ، أي: مقيما وملازما، وقال عز وجل: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] ، أي: ملازمون، وقال: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] ، أي: يلازمونها ويقيمون على عبادتها. وهو في الشريعة الإقامة على ما هو عليه في اللغة إلا أنه في الشريعة الإقامة على عمل مخصوص دون ما سواه، في موضع مخصوص لا يتعداه، على شرائط قد أحكمتها السنة في ذلك.

فصل واختلف في العمل فقيل: إنه الصلاة وقراءة القرآن وذكر الله تعالى دون ما سوى ذلك من أعمال البر، وهو مذهب ابن القاسم؛ لأنه لا يجيز للمعتكف عيادة المرضى ولا مدارسة العلم ولا الصلاة على الجنائز وإن كان ذلك كله من أعمال البر، وقيل: إنه جميع أعمال البر المختصة بالآخرة، وهو مذهب ابن وهب؛ لأنه لا يرى بأسا للمعتكف بمدارسة العلم وعيادة المرضى، يريد في موضع معتكفه،

(1/255)


وكذلك الصلاة على الجنائز على مذهبه إذا انتهى إليه زحام الناس الذين يصلون عليها. وإنما قلنا المختصة بالآخرة تحرزا من الحكم بين الناس والإصلاح بينهم.

فصل وأما الموضع فإنه المسجد. وقد اختلف هل يكون في كل مسجد أم في بعض المساجد دون بعض، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في المشهور عنه أن الاعتكاف يصح في كل مسجد، وأنه لا بأس بالاعتكاف في مسجد لا تجمع فيه الجمعة، إذا كان ممن لا تلزمه الجمعة، أو بموضع لا يلزمه منه الإتيان إلى الجمعة، أو كان لا تدركه الجمعة باعتكافه؛ لظاهر قول الله عز وجل: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، إذ عمها ولم يخص منها شيئا دون شيء. وروى ابن عبد الحكم عنه أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد الجامع، وهو قول جماعة من السلف. وروي عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد بني كمسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومسجد إيلياء والبيت الحرام. والمرأة والرجل في ذلك سواء عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، خلاف قول أبي حنيفة وأصحابه أن المرأة لا تعتكف إلا في مسجد بيتها - واحتج من نصر قولهم بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها» ، وبحديث عائشة: «لو أدرك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعه نساء بني إسرائيل» قالوا: لا حجة لمن أجاز ذلك في إذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن أذن لهن من أزواجه أن يعتكفن معه؛ لأنه يحتمل أن يكون اتسع ذلك لهن بخلاف غيرهن، لكونه معهن بحق الزوجية أو لحرمتهن على جميع المسلمين سواه. وقد تسافر المرأة مع زوجها ومع ذوي محارمها الأسفار البعيدة وليس لهن أن يفعلن ذلك مع سواهم. والله الموفق للصواب. وذهب ابن لبابة إلى أن الاعتكاف يصح في غير مسجد، وأن ترك مباشرة

(1/256)


النساء لا يلزم المعتكف إلا إذا اعتكف في مسجد على ظاهر ما في القرآن، وهو شذوذ من القول فتدبر ذلك.

فصل ومن شرائطه ترك مباشرة النساء. فمن جامع امرأته أو باشرها أو قبلها أو تلذذ بشيء من أمرها ناسيا أو متعمدا في ليل أو نهار بطل اعتكافه واستأنفه من أوله، لقول الله عز وجل: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، وكذلك إن كانت امرأة فجومعت في اعتكافها نائمة أو مكرهة بطل اعتكافها. وكذلك إذا أفطر متعمدا بطل اعتكافه واستأنفه نذرا كان أو تطوعا على مذهب مالك في المدونة، وإن كان ناسيا قضى ما أفطر ووصله باعتكافه في الوجهين. وقال ابن حبيب: لا يلزمه قضاء في التطوع.

فصل ومن شرائطه على مذهب مالك وأصحابه الصوم، فلا يكون اعتكاف إلا بصوم، لأن الله جل ذكره إنما ذكره مع الصيام فقال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، وأجاز الشافعي والمزني - رحمهما الله تعالى - الاعتكاف بغير صوم. واحتج من نصر مذهبهما بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية علي وابن عباس أنه قال: «ليس على المعتكف صوم إلا أن يوجبه على نفسه» وإلى هذا ذهب ابن لبابة فقال: لو لزم المعتكف الصيام وإن لم يرده لما جاز أن يعتكف في رمضان، كما لا يجوز لمن نذر اعتكافا بصوم أن يجعله في رمضان. وهذا لا يلزم، لأنا لا نقول إن من شرط صحة الاعتكاف أن يكون الصيام له، وإنما نقول إن من شرط صحته الصيام وإن فعله لغيره كالطهارة التي هي من شرط صحة الصلاة وإن فعلها لغيرها. ودليلنا على ذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عائشة أنه قال: «لا اعتكاف إلا بصوم» . وهو قول علي وابن

(1/257)


عباس وابن عمر، ولا مخالف لهم من الصحابة. وأما الاحتجاج على ذلك بالآية فإنه ضعيف، إذ لو وجب بها الصيام على كل معتكف لذكر الاعتكاف فيها مع الصيام لوجب فيها أيضا الاعتكاف على كل صائم لذكر الصيام فيها مع الاعتكاف. وقد استدل بعض من ذهب إلى الاحتجاج للشافعي على جواز الاعتكاف بغير صوم بأن الليل يدخل على المعتكف فيكون فيه معتكفا وهو غير صائم. وهذا لا يلزم، لأن دخول الليل الذي لا يصح فيه الصوم على المعتكف لا يخرجه من حرمة اعتكافه وإن كان غير صائم فيه، كما أن خروج المعتكف إلى ما لا بد له منه كحاجة الإنسان لا يخرجه من حرمة اعتكافه وإن كان الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد فلو جاز أن يعتكف من غير صوم من أجل أن الليل هو فيه معتكف غير صائم لجاز أن يعتكف في الطرقات والكنف لأنه فيها عند خروجه معتكف في غير المسجد. فإذا لم يلزم هذا في الخروج الذي هو من فعله فأحرى أن لا يلزم في الليل الذي ليس من فعله. والحجة الصحيحة لنا من طريق النظر، إذ لم يوجد شيء يعول عليه في ذلك من جهة الأثر. ولا حجة في مجرد أقوال العلماء مع اختلافهم في أن الاعتكاف لبث في موضع يتقرب به إلى الله تعالى، فوجب أن يكون بتحرم وهو الصيام، كما أن اللبث بمنى وعرفة والمزدلفة لا يكون قربة إلا بالتحرم بحرمة الحج.

فصل والاعتكاف في جميع أيام السنة جائز إلا في الأيام التي نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامها، وهن يوم الفطر وأيام التشريق.

فصل وهو من نوافل الخير، اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأزواجه والمسلمون، ولم يكن السلف الصالح على شيء من أعمال البر أقل تعاهدا منهم على الاعتكاف، وذلك لشدته، ولأن ليله ونهاره سواء، ولأن من دخل فيه لزمه الإتيان به على شرائطه وقد لا يفي بها. ولذلك كرهه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال في المجموعة: وما زلت أفكر في ترك الصحابة الاعتكاف وقد اعتكف النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حتى قبضه الله وهم

(1/258)


أتبع الناس لأموره وآثاره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى أخذ بنفسي أنه كالوصال الذي نهى عنه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، «فقيل له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنك تواصل، فقال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» . فلا ينبغي أن يعتكف إلا من يقدر أنه يفي بشروط الاعتكاف.

فصل وأفضل الشهور للاعتكاف شهر رمضان، وأفضل أيامه العشر الأواخر منه. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف العشر الأول من رمضان فأتاه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال له إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الوسط، فأتاه فقال له إن الذي تطلب أمامك فاعتكف العشر الأواخر» .

فصل وأدنى الاعتكاف يوم وليلة، وأعلاه في الاستحبابات عشرة أيام، قاله ابن حبيب. وقد اختلف قول مالك في أدناه فمرة قال أقله يوم وليلة، ومرة قال أقله عشرة أيام. فمن أوجب على نفسه اعتكافا ولم يسم عددا من الأيام أو دخل في الاعتكاف ولم ينو عددا من الأيام لزمه عشرة أيام على القول الواحد، وعلى القول الثاني لا يلزمه إلا يوم وليلة، يبدأ بالليلة قبل اليوم، فيدخل اعتكافه عند الغروب. فإن دخل اعتكافه بعد الغروب وقبل الفجر لم يجزئه اعتكاف ذلك اليوم، وهو مذهب سحنون. وقيل إنه يجزئه وبئس ما صنع لأن الليل كله وقت لتبيت الصيام، فأي وقت نوى فيه أجزأه قاله عبد الوهاب. وقد قيل إن ذلك ليس باختلاف قول، ويحمل قول سحنون على أنه نذر الاعتكاف وقول عبد الوهاب على أنه نواه. والأول أظهر أنه اختلاف يدخل في الوجهين جميعا.

فصل والاعتكاف يجب بأحد وجهين: إما بالنذر، وإما بالنية مع الدخول فيه

(1/259)


لاتصال عمله. وكذلك الجوار إذا جعل على نفسه فيه الصيام، وإن لم يجعل على نفسه فيه الصيام وإنما أراد أن يجاور كجوار مكة بغير صيام فلا يلزمه بالنية مع الدخول فيه بما نوى من الأيام. واختلف هل يلزمه مجاورة اليوم الذي دخل فيه أم لا على قولين: أحدهما أنه يلزمه. والثاني أنه لا يلزمه وله أن يخرج متى شاء من يومه ذلك وهو الأظهر، إذ لم يتشبث بعمل يبطل عليه بقطعه.

فصل والنذر في الاعتكاف على وجهين: أحدهما أن ينذر اعتكاف أيام بأعيانها، والثاني أن ينذر اعتكاف أيام بغير أعيانها.
فأما إذا نذر أياما بأعيانها، فلا يخلو أن تكون من رمضان أو من غير رمضان، فإن كانت من رمضان فعليه قضاؤها إن مرضها كلها لوجوب قضاء الصيام عليه، وإن مرض بعضها قضى ما مرض منها ووصل، فإن لما يصل استأنف سواء كان مرضه من أولها قبل دخوله في الاعتكاف أو من آخرها بعد دخوله فيه، وكذلك إن أفطر فيها ساهيا. وأما إن أفطر فيها متعمدا من غير عذر فعليه استئناف الاعتكاف مع الكفارة لفطره في رمضان.

فصل وأما إن كانت من غير رمضان فمرضها كلها أو مرض بعضها ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أن عليه القضاء جملة من غير تفصيل، وهذا على رواية ابن وهب عن مالك في بعض روايات الصيام من المدونة. والثاني أنه لا قضاء عليه جملة من غير تفصيل، وهو مذهب سحنون. والثالث التفرقة بين أن يمرض قبل دخوله في الاعتكاف أو بعد أن دخل فيه، وهو أيضا مذهب ابن القاسم في المدونة على ما

(1/260)


تأول عليه ابن عبدوس، واختلف إذا أفطر فيه ساهيا على قولين: أحدهما أنه لا قضاء عليه وهو مذهب سحنون. والثاني أن عليه القضاء بشرط الاتصال وهو مذهب ابن القاسم.

فصل وأما الوجه الثاني وهو أن ينذر أياما بغير أعيانها. فإذا نذر اعتكاف أيام بغير أعيانها فليس له أن يعتكفها في رمضان ولا في صوم واجب عليه، لأن النذر يوجب عليه الصيام فليس له إسقاطه عن نفسه باعتكافه فيما قد وجب عليه صومه، خلاف قول محمد بن عبد الحكم إن له أن يجعل اعتكافه الذي نذره في أيام صومه التي نذرها، حكاه ابن حارث، فإذا دخل في اعتكافها لزمه إتمامها وتعين عليه قضاء ما مرض فيه أو أفطره ساهيا يصل ذلك باعتكافه، ولا خلاف في هذا. وإن أفطره متعمدا أفسده ووجب عليه قضاؤه لوجوبه عليه بالدخول فيه، وأن يعتكف اعتكافا آخر لنذره، وجرى ذلك على الاختلاف فيمن أفطر متعمدا في قضاء يوم من رمضان.

فصل وأما إن نوى الاعتكاف ودخل فيه ولم ينذره فقد تعين عليه بالدخول فيه كتعين النذر لأيام بأعيانها، ووجب أن يكون حكمه كحكمه في المرض فيه أو الفطر ساهيا أو متعمدا على ما بيناه إلا في دخول القول الثالث في المرض إذ لا يتصور فيه. وبالله التوفيق.

(1/261)


[ما جاء في ليلة القدر]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على مولانا محمد وآله وسلم ما جاء في ليلة القدر قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، يريد الكتاب المبين لأن الهاء من أنزلناه عائدة عليه وإن كان لم يتقدم له ذكر في هذه السورة فإنه قد تقدم في سورة الدخان في قوله: {حم} [الدخان: 1] {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ - إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 2 - 3] .

فصل وليلة القدر هي الليلة المباركة التي أنزل الله فيها القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم أنزل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من السماء الدنيا نجما بعد نجم على قدر الحاجة إليه، فكان بين أوله وآخره عشرون سنة، روي ذلك عن ابن عباس في تفسير الآية.

فصل فسماها الله تبارك وتعالى مباركة لنزول القرآن فيها ولثبات الخير فيها ودوامه، لأن البركة في اللغة الثبات والدوام. وسماها الله تعالى ليلة القدر لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى ليلة القدر من السنة الأخرى. قال مجاهد إلا الشقاء والسعادة، يشهد لذلك قَوْله تَعَالَى:

(1/263)


{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] ، وقد قيل إن الآجال تنسخ ليلة النصف من شعبان والأول أصح، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2] ، معناه التعجب بها والتعظيم لها. وما كان في القرآن من قوله وما أدراك فقد أدراه، وما كان فيه من قوله وما يدريك فلم يدره، قاله الفراء وسفيان بن عيينة وغيرهما والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل وأما قوله عز وجل: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، ففي تأويله اختلاف، قيل معنى ذلك أن العمل بما يرضي الله في تلك الليلة من صلاة وغيرها خير من العمل في غيرها ألف شهر. [وقيل إنما معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر] ، ليس فيها ليلة القدر. وهو نحو الأول لأن فضيلة الليلة على ما سواها ليس لمعنى يختص بها حاشا تضعيف الحسنات فيها. وقيل إن معنى ذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل ويجاهد النهار، ففعل ذلك ألف شهر وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فتمنى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكون ذلك في أمته وقال يا رب جعلت لأمتي أقصر الأعمار وأقل الأعمال فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من ألف شهر، يريد خيرا من تلك الألف شهر التي قام الإسرائيلي ليلها وجاهد نهارها، فضيلة له ولأمته. وهو معنى حديث مالك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه

(1/264)


تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل ما بلغه غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر» . وقيل إن معنى ذلك هو ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى في منامه بني أمية يعلون منبره خليفة خليفة فشق ذلك عليه فأنزل الله عليه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ، و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] » يعني ملك بني أمية. قال فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر.

فصل وهذا التأويل يدل على أن ليلة القدر خص بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان على عهده، وإليه ذهب والله أعلم من قال إن ليلة القدر رفعت، وليس ذلك بصحيح، والصحيح الذي عليه عامة أهل العلم والدين أنها لم ترفع جملة وإنما رفع علم تعيينها في ليلة بعينها وذلك بين من الحديث، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أريت هذه الليلة في رمضان حتى تلاحى رجلان فوقعت فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» ، فلو رفعت جملة لما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتماسها.

فصل فالصحيح أن ليلة القدر باقية لأمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يوم القيامة. وإنما اختلف أهل العلم فيها على ثلاثة أقوال: أحدها أنها في ليلة بعينها لا تنتقل عنها إلا أنها غير معروفة أعلم بفضلها وأخفى عينها ليجتهد في طلبها فيكون ذلك سببا للاستكثار من فعل الخير. وافترق الذين ذهبوا إلى هذا على أربعة أقوال: أحدها أنها في العام كله. والثاني أنها في شهر رمضان. والثالث أنها في العشر الوسط منه. والرابع أنها في العشر الأواخر منه.

فصل والقول الثاني أنها في ليلة بعينها لا تنتقل عنها معروفة. واختلف الذين ذهبوا

(1/265)


إلى هذا في تعيينها على أربعة أقوال: أحدها أنها ليلة إحدى وعشرين على حديث أبي سعيد الخدري. والثاني أنها ليلة ثلاث وعشرين على حديث عبد الله ابن أنيس الجهني. والثالث أنها ليلة سبع وعشرين على حديث أبي بن كعب وحديث معاوية، وهي كلها أحاديث صحاح. والرابع أنها ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين. ذهب إلى هذا عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. روي أن عمر بن الخطاب دعا جماعة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألهم عن ليلة القدر فقالوا: كنا نرى أنها في العشر الوسط ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر، وأكثروا عليه في ذلك فقال ابن عباس إني لأعلم أي ليلة هي، فقال عمر: وأي ليلة هي؟ فقال سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر، فقال عمر من أين علمت ذلك؟ قال رأيت الله عز وجل خلق سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام يدور الدهر عليهن، وخلق الإنسان من سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطواف سبع، ورمي الجمار وذكر مثل هذا. فقال له عمر: ما قولك خلق الله الإنسان من سبع ويأكل من سبع؟ فتلا قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] ، قال ابن عباس وأما يأكل من سبع فقول الله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس: 27] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 28] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} [عبس: 29] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: 30] {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] ، فالأب للأنعام، والسبعة للإنسان. وفي هذا الخبر أن عمر سأل يومئذ من حضره من الصحابة وكانوا جماعة عن معنى نزول سورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، فوقفوا ولم يزيدوا على أن قالوا أمر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا فتح الله عليه أن يسبحه ويستغفره، فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس؟ فقال ومع ذلك يا أمير المؤمنين فإنه نعى إليه نفسه وأعلمه أنه قابضه إذا دخلت العرب في الدين أفواجا، فسر عمر بذلك وقال أتلومونني على تقريب هذا الغلام؟ فقال ابن مسعود لو أدرك أسناننا ما عاشره أحد منا ونعم ترجمان القرآن ابن

(1/266)


عباس. وروي عن ابن عباس أيضا أنها ليلة سبع وعشرين، وأنه عد السورة كلمة كلمة فكانت السابعة والعشرون هي وباقي السورة حتى مطلع الفجر.

فصل والقول الثالث أنها ليست في ليلة بعينها وأنها تنتقل في الأعوام، وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - والشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم، وهو أصح الأقاويل وأولاها بالصواب والله أعلم، لأن الأحاديث كلها تستعمل على هذا، واستعمالها كلها أولى من استعمال بعضها واطراح سائرها، لا سيما وهي كلها أحاديث صحيحة ثابتة لا مطعن فيها لأحد فيحمل حديث أبي سعيد الخدري على ذلك العام بعينه، وحديث عبد الله بن أنيس على ذلك العام بعينه، وأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتماسها في العشر الأواخر من رمضان على ذلك العام بعينه بدليل ما روي أنها قد تكون في العشر الوسط وأمره بالتماسها في السبع الأواخر في ذلك العام بعينه دون ما سواه من الأعوام، إذ قد تكون في بقية العشر الأواخر على ما صح عنه في الأمر بالتماسها في العشر الأواخر وفي العشر الوسط على ما جاء في ذلك أيضا.

فصل فنقول على استعمال جميع الآثار في هذا أن ليلة القدر تختص في انتقالها في الأغلب من حالها بالعشر الوسط وبالعشر الأواخر، والأغلب أنها تكون من العشر الوسط ليلة سبع عشرة، وليلة تسع عشرة، ومن العشر الأواخر في الأوتار منها. فمن أراد أن يتحرى ليلة القدر فليتحرها في العشر الوسط، وفي العشر الأواخر، ومن ضعف عن ذلك فليتحرها في الأوتار من العشر الأواخر.

فصل واختلف في قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» فقيل إنها معدودة من أول العشر وأن المراد بذلك في الخامسة والسابعة والتاسعة، لأن الواو لا توجب رتبة. فالتاسعة ليلة تسع وعشرين، والسابعة ليلة سبع

(1/267)


وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين. وقيل إنها معدودة من آخر العشر، وأن التاسعة ليلة إحدى وعشرين والسابعة، ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين، وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ودليله على ذلك أن الأظهر في الواو الترتيب وإن كانت قد ترد للمساواة دون الترتيب ولا يختلف ذلك في نقصان الشهر وكماله، لأن من حسب ذلك على نقصان الشهر عد التاسعة والسابعة والخامسة، ومن حسب ذلك على كماله لم يعد التاسعة والسابعة والخامسة، وقال معنى ذلك لتاسعة تبقى، ولسابعة تبقى، ولخامسة تبقى. وحسابه على نقصان الشهر أظهر، لأن الشهر تسعة وعشرون يوما، واليوم الثلاثون ليس من الشهر بيقين قد يكون وقد لا يكون. ولا يحتمل أن يكون أراد النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أن يحسب ذلك على كمال الشهر ولا على ما ينكشف من نقصانه أو كماله، لأنه لو أراد أن يحسب على كماله لكان ذلك حضا منه على التماسها في غير الأوتار، وهو إنما حض على تحريها في كل وتر على ما جاء في غير هذا الحديث. ولو أراد أن يحسب على ما ينكشف عليه الشهر من نقصانه أو إتمامه لكان قد أمر بما لا يصح امتثاله إلا بعد فواته، فلم يبق إلا أنه أراد أن يحسب ذلك على نقصانه، إلا أن نقول إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبهم مراده من ذلك لتلتمس الليلة في جميع ليالي العشر، وهو بعيد من التأويل، إذ لا بد أن يكون لقوله التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة زيادة فائدة على قوله: «التمسوها في العشر الأواخر،» والله سبحانه وتعالى أعلم. وذهب ابن حبيب إلى أن تتحرى الليلة في جميع ليالي العشر على نقصان الشهر وكماله، وذلك بعيد على ما أوردناه والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم. وروي ذلك عن ابن عباس أنه كان يحيي ليلة ثلاث وعشرين، وأربع وعشرين على هذا، وقال إنها لسبع بقين تماما يريد لسبع بقين على تمام الشهر بليلة أربع وعشرين التي كان يحييها أيضا.

فصل وقوله عز وجل: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4] ، معناه [تنزل الملائكة وجبريل معهم، لأن جبريل هو الروح الأمين. وقوله من كل أمر

(1/268)


معناه، بكل أمر مما يقضي الله عز وجل في ليلة القدر من السنة إلى أن تأتي ليلة القدر من السنة المقبلة، وعلى هذا يتم الكلام في قوله من كل أمر، ويحسن الوقف عليه والابتداء من قوله: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] ، أي هي سلام من أن يحدث فيها ما لم يحدث في غيرها أو أن يستطيع شيطان أن يعمل فيها شيئا معناه في الأغلب والله أعلم. وقيل خير هي إلى مطلع الفجر، وقيل رحمة إلى مطلع الفجر. وقد قيل إن التمام في قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر: 4] ، فيكون المعنى في الابتداء من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر من كل داء ومن كل شيطان ليلة القدر مسلمة إلى طلوع الفجر. وقيل إن التمام في قوله من كل أمر سلام، ثم ابتدأ جزءا آخر فقال هي حتى مطلع الفجر، أي ليلة القدر هي حتى مطلع الفجر، ويكون معنى قوله من كل أمر سلام هي أي هي مسلمة من كل داء وشيطان. وقد قيل إن معنى قوله من كل أمر سلام أن الملائكة يسلمون على عباد الله المؤمنين الليلة إلى طلوع الفجر. واحتج من ذهب إلى هذا بما روي من قراءة ابن عباس {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4] {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] وبالله التوفيق.

(1/269)