المقدمات
الممهدات [كتاب الزكاة الأول] [فصل في معرفة اشتقاق
اسم الزكاة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله. عونك
اللهم كتاب الزكاة الأول
فصل في معرفة اشتقاق اسم الزكاة الزكاة
مأخوذة من الزكاء وهو النماء، من ذلك قولهم زكا الزرع إذا نما وطاب وحسن
وزكت النفقة إذا نمت وبورك فيها. ومن ذلك قول الله تعالى: (أقتلت نفسا
زاكية بغير نفس) ، ومنه تزكية القاضي الشهود لأنه ينمي حالهم ويرفعهم من
حال السخطة إلى حال العدالة. ومنه يقال زكا فلان، وفلان أزكى من فلان.
فصل فسميت الصدقة الواجب أخذها من المال زكاة لأن المال إذا زكي. نما وبورك
فيه، وقيل إنما سميت بذلك لأنها تزكو عند الله أي تنمو لصاحبها عنده سبحانه
وتعالى كما روي «من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا كان
كأنما يضعها في كف الرحمن يربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون
مثل الجبل» . وقيل إنما سميت بذلك لأنها لا تؤخذ إلا من الأموال التي يبتغى
فيها النماء لا من العروض المقتناة. والذي أقول به إنما سميت بذلك لأن
فاعلها يزكو بفعلها عند الله تعالى أي يرتفع حاله بذلك عنده يشهد لهذا قول
الله تعالى:
(1/271)
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، وذلك بين ظاهر ولم
أره لمن تقدم، ممن على هذا المعنى تكلم، وبالله التوفيق.
[فصل في وجوب الزكاة]
والزكاة واجبة كوجوب الصلاة، أوجبها الله عز وجل على عباده وقرنها بها في
غير ما آية من كتابه فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] ، وقال
تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا
إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] ، وقال تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ
مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}
[المؤمنون: 4] ، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] ، ومثل هذا في القرآن
كثير.
فصل وهي إحدى دعائم الإسلام الخمس. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بنى الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت
من استطاع إليه سبيلا» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«أنه قام في الناس فقال: "يا أيها الناس إنه أتاني آت من ربي في المنام
فقال لي يا محمد إنه لا صلاة لمن لا
(1/272)
زكاة له، ولا زكاة لمن لا صلاة له» . مانع
الزكاة في النار والمتعدي فيها كمانعها. وقد توعد الله في غير ما آية من
كتابه مانعها فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4]
{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ
يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] ،
والماعون الزكاة في قول أكثر أهل العلم. والويل واد في جهنم يسيل من عصارة
أهل النار في النار على ما روي. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ
جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا
مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}
[التوبة: 34 - 35] ، والكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن لم يكن
مدفونا، وما أدي زكاته من المال فليس بكنز وإن كان مدفونا. ذكر مالك في
موطئه عن عبد الله بن دينار أنه قال سمعت عبد الله بن عمر يسأل عن الكنز ما
هو فقال هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة. فقوله تعالى ولا ينفقونها ليس
على ظاهره من العموم، والمعنى فيه ولا ينفقون ما وجب عليهم إنفاقه منها.
وقد قيل إن الضمير في قَوْله تَعَالَى ولا ينفقونها عائد على الزكاة وإن
كان لم يتقدم لها ذكر، لأنها المراد بالإنفاق. وقيل إنه يعود على الفضة
والذهب داخل فيها بالمعنى. وقيل إنه لما كان المعنى في الذهب والفضة سواء
جاز أن يرجع الضمير إليهما جميعا بلفظ واحد مثل قَوْله تَعَالَى:
{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، فقال يرضوه
ولم يقل يرضوهما لما كان رضا الله فيه رضاء رسوله. وقيل إنه يعود على
الكنوز وإذا قلنا إنه عائد على الفضة والذهب، أو على الفضة والذهب داخل
فيها بالمعنى، أو على الكنوز، فالمراد بإنفاقها إنفاق الزكاة الواجبة فيها.
وبيان هذا أنه قد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه
قال في تفسير الآية: ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل يوم القيامة
صفائح من نار تكوى بها جبهته وجنباه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
حتى يقضي الله بين الناس ثم يرى سبيله فإن كانت إبلا بطح لها بقاع
(1/273)
قرقر فجاءت أوفر ما كانت تطؤه بأخفافها
وتعضه بأفواهها كلما مرت أخراها ردت أولاها حتى يقضي الله بين العباد ثم
يرى سبيله، وإن كانت غنما فمثل ذلك إلا أنه قال تنطحه بقرونها وتطؤه
بأظلافها.» وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية هي خاصة فيمن لم يؤد
زكاة ماله من المسلمين، وعامة في أهل الكتاب لأنهم كفار لا تقبل منهم
نفقاتهم وإن أنفقوا - وقال تبارك وتعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ
بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] ، معناه بخلوا بالزكاة الواجبة عليهم فيما
آتاهم الله من فضله. وروي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنه قال في تفسير هذه الآية مال البخيل الذي منع حق الله منه يصير ثعبانا
في رقبته» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتاه الله
مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم
القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني بشدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك» . وقيل
إنه يجعل في عنقه طوق من نار.
فصل فمن جحد فرض الزكاة فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كالمرتد. وقال
ابن حبيب إن تركها كفر وإن كان مقرا بفرضها كالصلاة على مذهبه، وليس بصحيح.
وأما من أقر بفرضيتها ومنعها فإنه يضرب وتؤخذ منه كرها إلا أن يمنع في
جماعة ويدفع بقوة فإنهم يقاتلون عليها حتى تؤخذ منهم كما فعل أبو بكر
الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بأهل الردة حين شحوا بأداء
الزكاة فقال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجاهدتهم عليه فقاتلهم وأمر بقتالهم. وقال
والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
فصل واختلف فيمن أخذت منه الزكاة كرها هل تجزئه أم لا على قولين: أحدهما
أنها لا تجزئه لأنه لا نية له. والثاني أنها تجزئه وهو الأظهر، لأن الزكاة
متعينة في
(1/274)
المال، فإذا أخذها من إليه أخذها أجزأت عنه
كما تجزئ الصبي والمجنون إذا أخذت من أموالهما وإن لم تصح النية منهما في
تلك الحال.
فصل وإنما ورد في القرآن الأمر بالزكاة بألفاظ مجملة وعامة. فالمجمل منه ما
لا يفهم المراد منه من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره مثل قَوْله
تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، فلا يفهم
من هذا اللفظ جنس الحق ولا مقداره، ولا يمكن امتثال الأمر به إلا بعد بيان.
ومثل هذا اللفظ إذا ورد وجب اعتقاد وجوب المراد به إلى أن يرد البيان.
والعام ما ظاهره استغراق الجنس فيجب امتثال الأمر به بحمله على عمومه حتى
يأتي ما يخصصه، مثل قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، وما أشبه ذلك.
فالظاهر في قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] ، أن
الزكاة تؤخذ من جميع أصناف الأموال ومن القليل والكثير منها، إذ لم يخص
شيئا من ذلك دون شيء، وقَوْله تَعَالَى: {صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، من المجمل الذي يفتقر إلى بيان، إذ
لا يفهم من نفس هذا اللفظ قدر الصدقة التي يقع بها التطهير والتزكية بها
فالآية مشتملة على نص لا يحتمل التأويل، وعلى عموم يحتمل التأويل، وعلى
مجمل يفتقر إلى البيان والتفسير، لأنها نص في الأخذ وفي أنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مأمور به، وعموم في الأموال، ومجمل في
المقدار.
فصل واختلف في قول الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] ، وما أشبه هذه الألفاظ هل هي مجملة
تفتقر إلى بيان أو عامة يجب حملها على عمومها حتى يرد ما يخصصها. والأصح
أنها مجملة مفتقرة إلى البيان.
(1/275)
فصل واختلف في قول الله عز وجل:
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] ، فقيل
العفو في هذه الآية الزكاة. وقيل إنه ما سمح به المعطي. وقيل إنه ما فضل عن
العيال. فأما من ذهب إلى أن العفو فيها الزكاة أو إلى أنه ما سمح به المعطي
فالآية عنده محكمة غير منسوخة. وأما من ذهب إلى أن العفو ما فضل عن العيال
فمنهم من قال إن ذلك كان واجبا في أول الإسلام وإن أحدهم كان إذا حصد زرعه
أخذ منه قوته وقوت عياله وما يزرعه في العام المقبل وتصدق بالباقي ثم نسخ
ذلك بفرض الزكاة. ومنهم من قال إن الآية محكمة غير منسوخة وهي على الندب لا
على الوجوب مثل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ
مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] . ومنهم من قال إن
الآية محكمة على الوجوب، ذهب إلى هذا جماعة من أهل الزهد والورع فحرموا ما
فوق الكفاف، وإلى نحو هذا ذهب أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -،
لأنه قد رويت عنه آثار كثيرة في بعضها شدة تدل أنه كان يذهب إلى أن كل مال
مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز، وكان يقول الأكثرون هم الأخسرون
يوم القيامة، ويل لأصحاب المئين. وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - في هذا آثار كثيرة إلا أن جمهور أهل العلم تأولها في الزكاة
على خلاف ما حملها عليه أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وبالله
التوفيق.
فصل وقد بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مجمل القرآن
في الزكاة وغيرها وخصص عمومه المراد به الخصوص قولا وعملا كما أمره الله
تعالى به حيث يقول في كتابه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، فبين النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مم تؤخذ الزكاة من الأموال وممن تؤخذ
من الناس وكم يؤخذ منها ومتى تؤخذ فقال: «ليس على المسلم
(1/276)
في عبده ولا في فرسه صدقة» فدل أن الزكاة
لا تجب في العروض المقتناة لغير التجارة، وأنها خارجة عن عموم قول الله عز
وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ
بِهَا} [التوبة: 103] ، والحلي المتخذ للباس مخصص من العموم المذكور
بالقياس على ذلك عند مالك وجميع أصحابه. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة
وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» فتبين أن ما دون هذه المقادير لا زكاة فيها
وأنها مخصصة من العموم خارجة عنه. ولذلك بين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مقدار الزكاة فقال: «هاتوا إلي ربع العشر من كل أربعين درهما
درهما» ، وقال: «في كل عشرين مثقالا ذهبا نصف مثقال» . وقال: «فيما سقت
السماء والعيون والبعل العشر، وفيما يسقى بالنضح نصف العشر» . وقال في زكاة
الماشية: «في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم..» الحديث. وقال «في كل
ثلاثين من البقر تبيع وفي كل أربعين بقرة مسنة» [ «وفي كل أربعين من الغنم
شاة» ] .
فصل وفي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمسة
أوسق صدقة» دليل على أن الزكاة لا تجب في الفواكه ولا في الخضر وإنما تجب
فيما يوسق ويدخر قوتا من الأقوات الحبوب والطعام. وهو مذهب مالك وجميع
أصحابه إلا ابن حبيب فإنه أوجب الزكاة في الفواكه، فخرجت الفواكه والخضر
بذلك عند مالك من عموم قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ومن عموم قول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيما سقت السماء والعيون والبعل
العشر وفيما سقي بالنضح نصف
(1/277)
العشر» . وذكر الثمر في حديث أبي سعيد
الخدري في بعض الروايات عنه محمول عند أهل العلم على أنه خرج على سؤال سائل
فلا تعلق لأحد بظاهره في إسقاط الزكاة مما يوسق مما عدا التمر.
فصل وكذلك بين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متى يجب أخذ الزكاة
من المال الذي تجب فيه الزكاة فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«ليس في المال المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول» فعم بظاهر قوله هذا جميع
الأموال المستفادة، فخرج من عموم قوله الحبوب والثمار بدليل قول الله عز
وجل: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وخرج منه أيضا ما يخرج من المعدن من الذهب
والورق بالقياس على الحبوب والثمار عند مالك لأنه يعتمل كما يعتمل الزرع
وينبت في الأرض كما ينبت الزرع. ويخرج من ذلك أيضا نماء الماشية فتزكى على
أصولها ولا يستقبل بها الحول بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها» ، ولعلة افتراق الحول فيها مع
خروج المصدق مرة في العام.
واختلف قول مالك في أرباح الأموال فمرة رآها مزكاة على أصول الأموال قياسا
على غذاء الماشية وللمشقة الداخلة عليه في حفظ أحواله، ومرة قال إنه يستقبل
بها حولا كسائر الفوائد، وهو الأظهر، لأن الربح ليس بمتولد عن المال بنفسه
كغذاء الماشية، وإنما يحصل لصاحب المال ممن بايعه بمبايعته إياه ولو شاء لم
يبايعه، فأشبه ما يحصل له من عنده بهبة أو صدقة، إذ لو شاء لم يهبه ولا
تصدق عليه وبالله عز وجل التوفيق.
[فصل في معرفة ما تجب فيه الزكاة من الأموال]
فالزكاة لا تجب إلا في ثلاثة أشياء: في الحرث، والعين، والماشية. فالعين
(1/278)
هو الذهب والورق. والماشية: الإبل والبقر
والغنم. والحرث ما يخرج من الأرض من الحبوب والثمار والكروم، لأن السنة قد
خصصت ما عدا هذه الثلاثة الأشياء من عموم قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]
، وخصصت من هذه الثلاثة الأشياء أيضا بعضها على ما تقدم من ذلك في تبيين
النصاب وما لا يوسق ويدخر من جميع الثمار.
[فصل في معرفة ما تجب به الزكاة]
والزكاة تجب بخمسة أوصاف، وهي الإسلام، والحرية، والنصاب، والحول فيما عدا
ما يخرج من الأرض وعدا الدين في العين.
فصل فالدليل على صحة اشتراط الإسلام في وجوب الزكاة قول الله عز وجل: {خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:
103] ، والطهرة والتزكية لا تصح في الكفار. وهو أيضا دليل قَوْله تَعَالَى:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إلى قَوْله تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] والدليل على صحة
اشتراط الحرية في ذلك قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}
[التوبة: 103] فلما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}
[التوبة: 103] ، دل على أنه لم يرد العبد إذ لا يصح أن يقال في مال العبد
إنه ماله على الإطلاق، إذ لا يجوز له فيه ما يجوز لذي المال في ماله من
الهبة والصدقة وما أشبه ذلك بإجماع، وإنما هو ماله على صفة. والدليل على
صحة ملكه قول الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ
يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] ، إذ لا يصح أن يوصف بالفقر
والغنى من لا يملك، ولذلك يطأ بملك يمينه على مذهب مالك لأنه يملك عنده.
والدليل على صحة اشتراط النصاب في ذلك الحديث الصحيح: «ليس فيما دون خمسة
أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق
صدقة» .
(1/279)
والدليل على صحة اشتراط الحول فيما عدا ما
يخرج من الأرض قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال
المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول» لأنه لفظ عام يخصص منه ما يخرج من
الأرض بقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، ويخصص منه أيضا نماء الماشية باتفاق
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل ذات رحم فولدها
بمنزلتها» ، وأرباح الأموال بالقياس على ذلك على اختلاف، ويبقى الحديث عاما
فيما سوى ذلك. والدليل على صحة اشتراط عدم الدين في وجوب الزكاة في العين
إجماع الصحابة على ذلك بدليل ما روي أن عثمان بن عفان كان يصيح في الناس:
هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها
الزكاة، والصحابة متوافرون مسلمون بذلك، فدل ذلك على إجماعهم على القول
بذلك. وبالله التوفيق.
[فصل في تقسيم الديون التي تسقط الزكاة]
والديون التي تسقط زكاة العين تنقسم عند ابن القاسم على ثلاثة أقسام:
قسم منها يسقط الزكاة وهو دين الزكاة، كانت له عروض تفي به أو لم تكن، مرت
به سنة من يوم استدانه مثل أن يكون له عشرون دينارا فيحول عليها الحول فلا
يخرج زكاتها ويمسكها حتى يحول عليها حول آخر فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من
أجل الدين الذي عليه من زكاة العام الأول، أو لم تمر به سنة من يوم استدانه
مثل أن يفيد عشرين دينارا فتقيم عنده عشرة أشهر ثم يفيد عشرين أخرى فيحل
حول العشرين الأولى فلا يزكيها وينفقها أو تتلف ثم يحول الحول على العشرين
الأخرى فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من أجل الدين الذي عليه من زكاة الفائدة
الأولى. وقسم منها يسقط الزكاة مرت به سنة من يوم استدانه أو لم تمر، إلا
أن تكون له عروض تفي بالدين يجعل الدين فيها هو ما استدانه في غير ما بيده
من مال الزكاة.
(1/280)
وقسم لا يسقط الزكاة إن لم تمر به سنة من
يوم استدانه، كانت له عروض أو لم تكن. ويسقطها إن مرت به سنة من يوم
استدانه إلا أن تكون له عروض يجعله فيها، وهو ما استدانه فيما بيده من مال
الزكاة، كان الدين من سلف أو مبايعة فكونه من سلف هو مثل أن تكون له عشرة
دنانير فيتسلف عشرة أخرى ويتجر بالعشرين حولا، فهذا يزكي العشرين إن كانت
له عروض تفي بالعشرة التي عليه دينا من السلف، فإن بقيت العشرة التي بيده
عشرة أشهر فتسلف عشرة أخرى فتجر في العشرين إلى تمام الحول لم تجب عليه
زكاتها وإن كان له من العروض ما يفي بالعشرة التي عليه من السلف حتى يحول
الحول عليه من يوم تسلفها. وكونه من مبايعة هو مثل أن تكون له عشرة دنانير
فيأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة فيتجر في العشرين حولا فإنه يزكي العشرين
إن كانت له عروض تفي بالعشرة التي عليه من السلم. ولو بقيت العشرة التي له
بيده عشرة أشهر فأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة فيتجر في العشرين إلى تمام
الحول لم تجب عليه زكاتها وإن كان له من العروض ما يفي بالدين الذي عليه من
السلم حتى يحول الحول من يوم أخذ العشرة دنانير في السلم. وأشهب يساوي بين
دين الزكاة وغير الزكاة. فالدين ينقسم في هذا عنده على قسمين. وقد قيل إن
الدين يسقط الزكاة زكاة العين على كل حال وفي كل دين، وإن كانت له عروض لم
يجعله فيها على ظاهر حديث عثمان بن عفان المذكور، إذ لم يفرق فيه بين دين
الزكاة من غيره ولا شرط عدمه للعروض وبالله التوفيق.
فصل ولا يشترط في ذلك البلوغ والعقل بخلاف الصلاة. والدليل على ذلك قول
الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] والطهرة والتزكية تصح دونهما، فكانت
الآية عامة في الصغير والكبير والعاقل والمجنون. وقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله أمره أن يأخذ الزكاة من الأغنياء
ويردها على الفقراء» عام في كل غني من صغير وكبير وعاقل ومجنون، فوجب أن
يحمل على عمومه، إذ لم يأت ما
(1/281)
يخص من ذلك الصغير والمجنون. ولا حجة
للمخالف في ذلك في قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لأن الله إنما جمع بينهما في الوجوب جملة لا في
أن الزكاة لا تجب إلا على من تجب عليه الصلاة. فكما تجب الصلاة على العبد
ولا تجب عليه الزكاة عندهم، وتجب الزكاة على الحائض عند الجميع ولا تجب
عليها الصلاة، فكذلك تجب الزكاة على الصبي والمجنون عندنا وإن لم تجب
عليهما الصلاة، وهذا بين.
[فصل في معرفة قدر النصاب في الأموال التي تجب
فيها الزكاة]
فصل في معرفة قدر النصاب من الأموال التي تجب فيها الزكاة
والنصاب من الذهب عشرون مثقالا، فإن نقصت عن ذلك نقصانا بينا تتفق عليه
الموازين لم تجب فيها الزكاة إلا أن تجوز بجواز الوازنة إذا كانت جارية
عددا. والنصاب من الورق خمس أواق كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والأوقية أربعون درهما بالوزن القديم، وهو المعروف
بالكيل. فالخمس الأواقي مائتا درهم كيلا، وذلك بوزن زماننا مائتا درهم
وثمانون درهما، لأن ورقنا دخل أربعين ومائة في مائة كيلا وذلك خمسة وثلاثون
دينارا دراهم. فإن نقصت عن ذلك نقصانا بينا تتفق عليه الموازين لم تجب فيها
الزكاة إلا أن تجري عددا وتجوز بجواز الوازنة فتجب فيها الزكاة. وقيل إن
الزكاة لا تجب إذا كان النقصان كثيرا. وأما إن لم تجز بجواز الوازنة فلا
تجب فيها الزكاة قل النقصان أو كثر. وقيل إن الزكاة تجب فيها إذا كان
النقصان يسيرا وإن لم تجز بجواز الوازنة. وذهب ابن لبابة إلى أن الزكاة لا
تجب فيها إذا كان النقصان يسيرا وإن جازت بجواز الوازنة. ووجه قوله أنه إذا
كان كل درهم منها ينقص نقصانا يسيرا لا تتفق عليه الموازين فهو في جملتها
كثير تتفق عليه الموازين.
فيتحصل في الدراهم الناقصة الجارية عددا إذا كانت تجوز بجواز الوازنة ثلاثة
أقوال: أحدها أنه لا تجب فيها الزكاة. والثاني أنه تجب فيها الزكاة.
والثالث الفرق بين أن يكون النقصان يسيرا لا تتفق عليه الموازين، أو كثيرا
تتفق عليه
(1/282)
الموازين. وذهب ابن حبيب إلى أن الزكاة تجب
في مائتي درهم عندنا بوزن زماننا وقال إنما يزكي أهل كل بلد بوزنهم الجاري
عندهم وإن كان أقل من الكيل، وهو بعيد.
فصل واختلف إذا كانت الدراهم أو الذهب مشوبين بنحاس فقيل إن الزكاة لا تجب
إلا في النصاب من الذهب أو الورق الخالص. وقيل إذا كان الذهب أو الفضة
الأكثر فالحكم لهما والنحاس ملغى والزكاة واجبة فيهما، والأول أصح إن شاء
الله تعالى.
والنصاب من الإبل خمس ذود، ومن الغنم أربعون شاة، ومن البقر ثلاثون بقرة.
ومن الطعام المدخر الذي تجب فيه الزكاة خمسة أوسق كما قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والوسق ستون صاعا بصاع النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والصاع أربعة أمداد بمده - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمد زنة رطل وثلث، قيل بالماء، وقيل
بالوسط من القمح، وهو هذا المد الجاري عندنا. فمدنا مد النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكيلنا صاعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وقفيزنا اثنا عشر صاعا. فالوسق بكيلنا خمسة أقفزة، والنصاب
خمسة وعشرون قفيزا. [وقال ابن حبيب إن النصاب بالكيل القرطبي ثلاثون قفيزا]
على أن في كل قفيز عشرة آصع، وهي أربعون مدا بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فيأتي على هذا في كيلنا ثلاثة أمداد وثلث مد بمد
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويكون الصاع بمدنا خمسة
أمداد إلا خمس مد. والوسق ستة أقفزة. هذا قوله في كتاب الزكاة. وقال في
كتاب النكاح في باب نفقة الزوجات إن القفيز القرطبي أربعة وأربعون مدا،
فيأتي النصاب على هذا سبعة وعشرين قفيزا وثلاثة أجزاء من أحد عشر من
القفيز. ويأتي في الكيل بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ثلاثة أمداد وثلثا مد، وفي القفيز أحد عشر صاعا، ويكون الصاع بمدنا أربعة
أمداد وأربعة أجزاء من أحد عشر جزءا من المد، والوسق بكيلنا خمسة أقفزة
وخمسة أجزاء من أحد عشر من القفيز.
(1/283)
وقد قيل إن في القفيز القرطبي اثنين
وأربعين مدا بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فالنصاب على
هذا الحساب ثمانية وعشرون قفيزا وأربعة أسباع قفيز. وذلك أن يكون في كيلنا
بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أمداد ونصف، وفي
قفيزنا من صاعه عشرة آصع ونصف، ويكون الصاع على هذا بمدنا أربعة أمداد
وأربعة أسباع مد، والوسق خمسة أقفزة وخمسة أسباع قفيز، ووزن الخمسة الأوسق
ثلاثة وخمسون ربعا وثلث ربع، كل ربع منها من ثلاثين رطلا. وما قدمته أولى
من أن النصاب خمسة وعشرون قفيزا بالكيل القرطبي، وهو أولى الأقاويل عندي
وأحوط في الزكاة.
[فصل في افتراق حكم الأموال في الزكاة]
والأموال في الزكاة تنقسم على ثلاثة أقسام:
قسم الأغلب فيه إنما يراد لطلب الفضل والنماء فيه لا للاقتناء، وهو العين
من الذهب والورق وأتبارهما، والمواشي، وآنية الذهب والفضة وكل ما لا يجوز
اتخاذه منها. فهذا تجب فيه الزكاة، اشتراه أو ورثه أو تصدق به عليه، نوى به
التجارة أو القنية أو ما نوى.
وقسم ثان الأغلب منه إنما يراد للاقتناء، لا لطلب الفضل والنماء، وهي
العروض كلها: الدور والأرضون والثياب والطعام والحيوان الذي لا تجب في
رقابه الزكاة، فهذا يفرق فيه بين الشراء والفائدة، فما أفاده من ذلك بهبة
أو ميراث أو بما أشبه ذلك من وجوه الفوائد فلا زكاة عليه فيه نوى به
التجارة أو القنية حتى يبيعه ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه وما اشترى من
ذلك فهو على ما نوى فيه، إن أراد به القنية فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه
ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه، وإن أراد به التجارة أكان للتجارة وزكاه
على سنة التجارة،. واختلف ابن القاسم وأشهب إذا اشتراه للتجارة ثم نوى به
القنية هل يرجع إلى حكمها بالنية أم لا، فقال ابن القاسم يرجع إلى القنية
ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه وقبض ثمنه إن باعه ورواه عن مالك. وقال
أشهب لا يرجع إلى القنية بالنية، وهو على ما اشتراه عليه
(1/284)
من نية التجارة. فإن باعه زكاه ساعة باعه
وقبض ثمنه إن كان الحول قد حال على أصل الثمن ورواه عن مالك. ولم يختلفا
أنه إذا اشتراه للقنية أو أفاده بميراث أو غيره ثم نوى به التجارة أنه لا
ينتقل إليها بالنية. واختلفا أيضا إذا اشتراه للوجهين جميعا، فغلب ابن
القاسم القنية على أصله فيما اشتراه للتجارة أنه يرجع إلى القنية بالنية
لأنها الأصل، وغلب أشهب التجارة على أصله أن القنية والتجارة أصلان لا يرجع
أحدهما إلى صاحبه بالنية، فلما اجتمعا كان الحكم للذي أوجب الزكاة احتياطا،
كالبينتين إذا أثبتت إحداهما الحكم ونفته الأخرى، وكقول مالك فيمن له أهل
بمكة وأهل ببعض الآفاق إنه متمتع.
وقسم ثالث يراد للوجهين جميعا للاقتناء وطلب النماء، وهو حلي الذهب والفضة،
فهذا لا يفرق فيه بين الفائدة والشراء، وهو في الوجهين معا على ما نوى، إن
أراد به التجارة زكاه، وإن أراد به الاقتناء ليلبسه أهله وجواريه أو هي إن
كانت امرأة فلا زكاة عليها فيه. واختلف فيما يتخذ منه للكراء هل يخرج بذلك
عن حكم الاقتناء وتجب فيه الزكاة أم لا على قولين.
[فصل في افتراق حكم التجارة في الزكاة]
والتاجر ينقسم على قسمين: مدير، وغير مدير. فالمدير هو الذي يكثر بيعه
وشراؤه ولا يقدر أن يضبط أحواله، فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة يقوم فيه
ما عنده من العروض ويحصي ما له من الديون التي يرتجى قبضها فيزكي ذلك مع ما
عنده من الناض. وأما غير المدير وهو المحتكر الذي يشتري السلع ويتربص بها
النفاق فهذا لا زكاة عليه فيما اشترى من السلع حتى يبيعها وإن أقامت عنده
أحوالا.
[فصل في بيان ما يضم بعضه إلى بعض في الزكاة]
ولا يضم في الزكاة صنف إلى صنف، ويضم الصنف كله بعضه إلى بعض وإن اختلفت
أجناسه وأسماؤه وصفاته. فالإبل كلها صنف واحد وإن اختلفت أسماؤها وصفاتها
تجمع في الزكاة، وكذلك الضأن والمعز صنف واحد يجمعان في
(1/285)
الزكاة وإن اختلفت أسماؤهما وصفاتهما.
وكذلك البقر والجواميس صنف واحد يجمعان في الزكاة وإن اختلفت أسماؤهما
وصفاتهما. وكذلك القمح والشعير والسلت صنف واحد تجمع في الزكاة وإن اختلفت
أسماؤها وصفاتها وأجناسها، واختلف في العلس، فقيل هو صنف على حدة، وقيل
يجمع مع القمح والشعير والسلت. والقطاني كلها صنف واحد تجمع في الزكاة وإن
اختلفت أسماؤها وصفاتها، كان رفعه لها وإصابته إياها في بلد واحد أو بلدان
شتى متباينة، وحصاده لها في وقت واحد أو في أوقات شتى متباعدة إذا كان
زريعته لآخر ما زرع منها قبل حصاده لأول ما زرع منها. وأما ما زرع من أنواع
القطنية بعد حصاد غيرها ووجوب الزكاة فيها فلا يجمعها معها، كان زرعه لها
في تلك الأرض التي حصد منها الأولى أو في غيرها، لأن ما زرع بعد حصاد
الأولى في تلك الأرض أو في غيرها كأنه إنما زرعه في سنة أخرى، ولا يضم زرع
عام إلى عام آخر.
وبيان هذا الذي وصفناه أنه لو زرع ثلاثة أنواع من القطنية في ثلاثة أشهر في
كل شهر صنفا، فزرع، في المحرم الصنف الواحد، ثم في ربيع الأول الصنف
الثاني، ثم في جمادى الأولى الصنف الثالث، ثم حصدها كلها بعد جمادى الأولى
فإنه يضم بعضها إلى بعض، فإن كمل له من جميعها النصاب وجبت فيها الصدقة
وأخرج من كل صنف بحسابه. ولو زرع الثاني قبل حصاد الأول ثم زرع الثالث بعد
حصاد الأول وقبل حصاد الثاني لجمع الثاني مع الأول ومع الثالث ولم يجمع
الأول مع الثالث. فإن رفع من الأول ثلاثة أوسق ثم رفع من الثاني وسقين
فأكثر زكى الجميع إن كانت الثلاثة الأوسق باقية عنده على مذهب ابن القاسم.
وأما على مذهب أشهب في الفائدتين يحول حول الأولى منهما وهي عشرة دنانير
فينفقها بعد الحول ثم يحول حول الفائدة الثانية وهي عشرة أنه يزكي العشرتين
جميعا، فيزكي الوسقين عند حصادهما وإن كان قد أنفق الثلاثة الأوسق. ثم إن
رفع من الثالث ثلاثة أوسق وقد كان رفع من الثاني وسقين فأخرج زكاتهما مع
الأول فلا زكاة عليه في الثلاثة الأوسق على مذهب ابن القاسم، إذ لا يبلغ مع
ما بقي من الوسقين بعد
(1/286)
إخراج الزكاة منهما ما تجب فيه الزكاة،
ويزكي الثلاثة الأوسق على مذهب أشهب في الفائدتين. ولو زرع الصنف الثاني
قبل حصاد الأول ثم زرع الصنف الثالث بعد حصاد الثاني وقبل حصاد الأول، إذ
من القطاني ما يتعجل ومنها ما يتأخر، لجمع الأول مع الثاني ومع الثالث، ولم
يجمع الثاني مع الثالث على هذا القياس. فإن رفع من الثاني ثلاثة أوسق انتظر
حتى يحصد الأول، فإن حصد الأول فكان فيه وسقان فأكثر والثلاثة الأوسق باقية
بيده لم ينفقها على مذهب ابن القاسم زكى الثلاثة الأوسق مع هذين الوسقين.
ثم إن حصد الثالث فبلغ مع ما بقي بيده من الوسقين اللذين حصدهما من الأول
بعد إخراج الزكاة منهما ما تجب فيه الزكاة زكى ما حصد من الثالث خاصة، ولم
يزك ما كان بقي بيده من الوسقين لأنه قد زكاهما مع ما حصد من الثاني. وأما
على مذهب أشهب فيزكي ما حصد من الثالث إن بلغ ثلاثة أوسق فأكثر، كان
الوسقان بيده أو قد أنفقهما على ما تقدم.
فصل وعلى قياس هذا يجري الأمر في زكاة المعادن، لا يضيف ما خرج من المعدن
بعد انقطاع نيله إلى ما كان خرج منه قبل ذلك، كما لا يضيف ما أخرجت الأرض
من الحب إلى ما كان خرج منها قبل ذلك. وكذلك لا يضيف ما خرج له من معدن إلى
ما خرج له من معدن غيره إذا كان خروجه بعد انقطاع الأول، وإنما يضيفه إليه
إذا خرج قبل انقطاع الأول، كما لا يضيف زرع أرض إلى زرع أرض أخرى إذا زرع
إحداهما بعد حصاد زرع الأخرى، وإنما يضيفه إليه إذا زرعه قبل حصاد زرع
الأرض الأخرى.
فصل فإذا كانت للرجل معادن فعمل في أحدها فأنال له، ثم عمل في الثاني فأنال
له قبل انقطاع الأول، ثم عمل في الثالث فأنال له قبل انقطاع الأول والثاني،
أضاف بعضها إلى بعض وإن كثرت على هذا المثال والترتيب. ولو عمل في الأول
فأنال له ثم عمل في الثاني فأنال له قبل انقطاع الأول فتمادى النيل فيهما
جميعا،
(1/287)
ثم انقطع نيل الأول وبقي الثاني على حاله
فعمل في المعدن الثالث فأنال له قبل انقطاع الثاني لأضاف ما خرج له من
الثاني إلى ما خرج له من الأول وإلى ما خرج له من الثالث، ولم يضف ما خرج
له من الأول إلى ما خرج له من الثالث. ولو عمل في الأول فأنال له فاتصل
نيله ثم عمل في معدن ثان فأنال له مدة ثم انقطع نيله ثم عاد، أو لما انقطع
نيله عمل في معدن ثالث فأنال له والأول على حاله متصل النيل، لأضاف ما خرج
له من المعدن الأول الذي اتصل نيله إلى ما خرج له من المعدن الثاني قبل
انقطاعه وبعدا انقطاعه، أو إلى ما خرج له من المعدن الثالث، ولا يضيف ما
خرج له من المعدن الثاني قبل انقطاعه إلى ما خرج له منه بعد انقطاعه، ولا
ما خرج له من الثاني إلى ما خرج له من المعدن الثالث بعد انقطاع الثاني.
وهذا كله قول محمد بن مسلمة، وهو عندي تفسير لما في المدونة، لأن المعادن
بمنزلة الأرض، فكما يضيف زرع أرض إلى أرض له أخرى إذا زرعها قبل حصاد
الأخرى فكذلك يضيف نيل معدن إلى نيل معدن آخر إذا أنال له قبل انقطاع
الأول، خلاف ما ذهب إليه سحنون من أن المعادن لا يضاف بعضها إلى بعض وإن
اتصل نيلها ولم ينقطع وبالله التوفيق.
فصل والذهب والفضة كلها صنف واحد تبرها ومسكوكها ومصوغها تجمع في الزكاة
على ما كانت عليه الدراهم في الزمن الأول، كل دينار بعشرة دراهم، لا
بالقيمة يوم إخراج الزكاة، إلا ما كان من الذهب والفضة حليا مصوغا يحبس
للبس أو حلي به سيف أو مصحف أو خاتم فإنه لا زكاة فيه.
فصل فالأموال التي تجمع في الزكاة إذا تقاربت منافعها فتجعل صنفا واحدا وإن
اختلفت أسماؤها وأجناسها وأنواعها وجودتها ورداءتها تنقسم على ثلاثة أقسام:
مكيل، وموزون، ومعدود.
فأما المكيل فهو مثل القمح والشعير والسلت الذي هو صنف واحد، أو
(1/288)
القمح والشعير والسلت والعلس على القول بأن
العلس مضاف إلى ذلك، ومثل القطاني التي هي في الزكاة صنف واحد على
اختلافها، ومثل الحائط من النخل يكون فيه أنواع من التمر مختلف، فالحكم فيه
أن يؤخذ من كل شيء منه قل أو كثر ما يجب فيه عشره أو نصف عشره، إلا أن تكثر
أنواع الحائط من النخل فيؤخذ من وسطها ما يجب فيها كلها، إذ لا يلزمه أن
يعطي من أرفعها ولا يجزئه أن يعطي من أوضعها، لقول الله عز وجل: {وَلا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . وقد قيل إنه
يؤخذ من وسطها وإن كان الحائط جيدا كله أو رديئا كله قياسا على المواشي،
! وهو ظاهر قول مالك في الموطأ، إلا أنه بعيد وشاذ.
فصل فإن أراد أن يخرج من صنف عن صنف آخر ما وجب عليه منه بالكيل جاز من
الأرفع ولم يجز من الأدنى. وإن أراد أن يخرجه بالقيمة لم يجز فيما لا يجوز
فيه التفاضل وجاز فيما يجوز فيه التفاضل، وهو القطاني على القول بأنها في
البيع أصناف مختلفة، وعلى القول أيضا بأن من وجب عليه حب فأخرج عينا أو
عرضا فإنه يجزئه.
وأما الموزون فهو العين من الذهب والورق الجيد والرديء، فالحكم فيه أيضا أن
يخرج من الذهب ربع عشره ومن الورق ربع عشره، ومن الجيد ربع عشره ومن الرديء
ربع عشره. ويجوز أن يخرج عن الذهب ورقا قيل بالقيمة بالغة ما بلغت، وهو
مذهبه في المدونة، وقيل ما لم ينقص عن صرف عشرة دراهم، وهو قول ابن حبيب.
وقيل إنه يخرج من صرف عشرة دراهم بدينار. وكذلك يجوز له أن يخرج عن الورق
ذهبا، وقيل إنه لا يجوز إلا أن يكون في ذلك وجه نظر، مثل المديان يكون عليه
دينار وما أشبه ذلك.
وأما المعدود وهو الغنم الضأن والمعز، والإبل البخت والعراب، والبقر
والجواميس وغير الجواميس، فلا يصح إذا جمع شيء من ذلك في الزكاة أن يأخذ
(1/289)
من كل جنس ما يجب فيه، إذ لا تتبعض الأسنان
الواجبة فيها، فقد يؤخذ من ذلك ما يجب في الجنسين جميعا من الصنف الواحد،
وقد يؤخذ منهما جميعا باتفاق وعلى اختلاف. وبيان ما يتفق فيه من ذلك مما
يختلف فيه يفتقر إلى بسط وتفسير وتقسيم. أما إذا وجب في الصنفين من الضأن
والمعز شاة واحدة فإنها تؤخذ من أكثرهما، فإن استويا في العدد كان الساعي
مخيرا يأخذ من أي الصنفين لثمار، ولا اختلاف في هذا الوجه. وأما إذا وجب في
الصنفين شاتان أو شياه فإن ذلك ينقسم على وجهين كل وجه منهما ينقسم على
وجهين فالوجه الأول أن تكون الشاتان أو الشياه إنما تجب في أحد الصنفين،
والصنف الثاني وقص لا يبلغ ما تجب فيه الزكاة، أو يبلغ ما تجب فيه الزكاة.
والوجه الثاني أن تكون الشاتان أو الشياه إنما تجب في الصنفين جميعا بأن لا
يكون أحدهما وقصا للآخر ويبلغ كل صنف منهما ما تجب فيه الزكاة أو يبلغ ذلك
أحدهما ولا يبلغه الآخر.
فأما الوجه الأول وهو إذا كانت الشاتان أو الشياه تجب في أحد الصنفين
والصنف الثاني وقص لا تجب فيه الزكاة، فمثاله أن تكون الضأن مائة وإحدى
وعشرين والمعز ثلاثين فهذا لا يؤخذ فيه من المعز شيء باتفاق، وإنما يؤخذ
الجميع من الضأن شاتان، وكذلك لو كانت الضأن مائتي شاة وشاة والمعز ثلاثين
لأخذ الجميع من الضأن ثلاث شياه. فإن كان الصنف الثاني وقصا يجب في عدده
الزكاة مثل أن يكون الضأن مائة وإحدى وعشرين والمعز أربعين فاختلف في ذلك،
فقيل تؤخذ الشاتان من الضأن ولا يؤخذ من المعز شيء لأنها وقص، وهذا على
قياس قول ابن القاسم في المدونة إن في ثلثمائة ضائنة وتسعين معزة ثلاث شياه
من الضأن ولا شيء في المعز. وعلى هذا التعليل لا يعتبر ما بقي من الضأن بعد
ما تجب فيه الشاة الواحدة هل هو أقل من المعز أو أكثر. وقيل يعتبر ذلك
فتؤخذ الشاة الواحدة من الضأن والأخرى من المعز، لأن في مائة وعشرين من
الضأن شاة فيبقى منها شاة، والمعز أربعون فتؤخذ الثانية من المعز لأنها
أكثر. وفي المدونة ما ظاهره هذا القول، وهو قوله فيها فانظر فإذا كان للرجل
ضأن ومعز فإن كان في كل واحدة إذا فرقت ما تجب فيه الزكاة أخذ من كل واحدة،
لأنه عم ولم يذكر وقصا من غيره. ويحتمل أن يكون معناه إذا لم يكن الأقل
وقصا للأكثر فلا يكون ذلك اضطرابا من
(1/290)
قوله. وهذا على مذهب من يعلل بأن الأوقاص
مزكاة. وأما على مذهب من يقول إن الأوقاص غير مزكاة فيقول في هذه المسألة
إن الشاتين تؤخذان من الضأن وإن لم تكن عليه في ذلك أن المعز وقص، لأن
الشاة من الضأن إنما أخذت عن أربعين منها، والأحد والثمانون الباقية منها
لم يؤخذ عنها شيء، وهي أكثر من المعز، فتؤخذ الثانية منها أيضا على هذا
التعليل.
وكذلك لو كانت الضأن مائتي شاة وشاة أو ثلثمائة شاة والمعز أربعين الاختلاف
في ذلك واحد فاعلمه. وهذا أصل فقس عليه ما شاكل هذين الوجهين من المسائل.
فصل وأما الوجه الثاني وهو أن تكون الشاتان أو الشياه إنما تجب في الصنفين
جميعا بأن لا يكون أحدهما وقصا مع صاحبه ويبلغ كل صنف منهما ما تجب فيه
الزكاة، فمثاله أن تكون الضأن مائة وعشرين والمعز أربعين، فاضطرب قول ابن
القاسم فيه في المدونة، فقال في هذه المسألة إن في الضأن شاة وفي المعز
أخرى، وقال فيمن له ثلثمائة وستون من الضأن وأربعون من المعز إن الأربع
شياه تؤخذ من الضأن هو خلاف جوابه في المسألة الأولى. واختلاف قوله في ذلك
جار على الاختلاف في الأوقاص هل هي مزكاة أم لا، فجعل الأوقاص على جوابه في
المسألة الأولى مزكاة فقال إن الشاة من الضأن أخذت عن جملة المائة والعشرين
فوجب أن تؤخذ الثانية من المعز. وجعلها في المسألة الثانية غير مزكاة فقال:
إن الثلاث شياه إنما أخذت عن الثلاثمائة من الضأن فيبقى منها ستون وهي أكثر
من المعز فأخذت الرابعة منها. وكان يلزمه على هذا الجواب أن يقول في
المسألة الأولى إن الشاة إنما أخذت عن أربعين من الضأن وبقي منها ثمانون لم
يؤخذ عنها شيء وهي أكثر من المعز فتؤخذ الثانية منها إذ هي أكثر، وهو مذهب
سحنون في هذه المسألة أن الشاتين تؤخذان من الضأن على هذا التعليل. وهذا
أصل فقس عليه ما يرد عليك من هذا الباب. ويحتمل أن يكون ذهب إلى أن ما زاد
على الأربعين إلى العشرين ومائة ليس بوقص غير مزكى بل هو مزكى بالشاة بدليل
قول
(1/291)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «إن في سائمة الغنم إذا بلغت أربعين إلى عشرين ومائة شاة» ، وإلى أن
الوقص الذي ليس بمزكى إنما هو ما زاد على الثلثمائة إلى أن يبلغ مائة بدليل
قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فما زاد ففي كل مائة
شاة» .، لأنه نص على الشاة في المائة وسكت عما نقص عنها، فلا يكون على هذا
قوله في هاتين المسألتين اضطرابا من قوله، ويكون أصله الذي بنى عليه مسائله
ولم يضطرب فيه قوله أنه إذا كان أحد الصنفين أقل من نصاب أو وقصا فيما زاد
على المئين في الثلثمائة فما فوقها فلا يؤخذ منه شيء، وإذا لم يكن أحدهما
أقل من نصاب ولا وقصا مع صاحبه أخذ منهما جميعا في المائتين فما دونهما من
كل أربعين من الضأن شاة ومن كل أربعين من المعز معزة، وفيما فوق المائتين
من كل مائة من الضأن شاة ومن كل مائة من المعز معزة، وما فضل من الصنفين
جميعا فلم تجب فيه إلا شاة واحدة أخذت من أكثرهما. وأما إن كان أحد الصنفين
في هذا الوجه لا يبلغ ما تجب فيه الزكاة مثل أن تكون الضأن مائة وعشرين
والمعز ثلاثين، فاختلف فيه أيضا. قال ابن القاسم في المدونة: يأخذ الشاتين
من الضأن، وهو الذي يأتي على قول سحنون في مائة وعشرين من الضأن وأربعين من
المعز إن الشاتين تؤخذان من الضأن، وجعل سحنون تفرقة ابن القاسم بين أن
تكون المعز ثلاثين أو أربعين اضطرابا من قوله، فقال مسألة الجواميس تدل على
أحسن من هذا، يريد أن الواجب على أصل ابن القاسم في مسألة الجواميس أن يأخذ
المعزة من الثلاثين من المعز وإن كانت الزكاة لا تجب فيها بانفرادها، كما
يأخذ التبيع في مسألة الجواميس من العشرين من البقر وإن كانت الزكاة لا تجب
فيها بانفرادها. وليس قوله بصحيح، لأن المعنى في هذه المسألة الذي من أجله
وقع الخلاف فيها أن الشاة تؤخذ عن الأربعين وتؤخذ أيضا عن جميع المائة
والعشرين، فوقع الخلاف فيها لذلك. وأما مسألة الجواميس فصحيحة لا يدخل
الاختلاف فيها، لأن التبيع من الجواميس إنما أخذ عن ثلاثين منها وبقيت عشرة
منها غير مزكاة باتفاق، فوجب أن يؤخذ التبيع الثاني من البقر الأخرى التي
هي أكثر. وقد روي عن سحنون في
(1/292)
مسألة الجواميس المذكورة، وهي أربعون من
الجواميس وعشرون من البقر، أنه يأخذ التبيعين من الجواميس، وهو بعيد وما له
وجه حاشا أنه قسم الجواميس والبقر قسمين، فكان كل قسم عشرين جاموسا وعشرة
من البقر فأخذ التبيع من الأكثر. ويلزم على هذا في اثنين وستين ضائنة وستين
معزة أن تؤخذ الشاتان من الضأن. فما أبعد هذا في الاعتبار وعلى هذه الوجوه
التي شرحت لك في الضأن والمعز فقس الجواميس مع البقر والبخت مع الإبل
العراب فإنها منهاج لها ودليل عليها، وبالله التوفيق.
فصل وإذا زادت الغنم على ثلثمائة فالوقص عند ابن القاسم ما زاد على
الثلاثمائة إلى أن تبلغ أربعمائة، فإذا بلغت أربعمائة فالوقص فيها ما زاد
عليها إلى أن تبلغ خمسمائة، فإذا بلغت خمسمائة فالوقص فيها ما زاد عليها
إلى أن تبلغ ستمائة، وكذلك ما زاد على هذا الحساب، لما جاء في الحديث من
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فما زاد ففي كل مائة شاة» .
ألا ترى إنه يقول في ثلاثمائة ضائنة وخمسين ضائنة، وخمسين معزة إنه يأخذ
منها ثلاث ضائنات ويكون مخيرا في الرابعة إن شاء أخذها من الضأن وإن شاء
أخذها من المعز، فبنى جوابه على أن الوقص غير مزكى وجعله من الضأن ما زاد
على الثلثمائة فاعتدلت الضأن والمعز فخير الساعي. ولو جعل الوقص في الغنم
ما زاد على مائتي شاة وشاة على الأصل لأخذ الأربعة من الضأن. ولو بنى جوابه
على أن الأوقاص مزكاة لقال إنه يأخذ الرابعة من المعز دون أن يخير في ذلك
الساعي. وقد كان القياس في هذه المسائل كلها أن يعرف ما يجب في مجموع
الصنفين من عدد الرؤوس وما يقع من ذلك لكل صنف على عددها قل أو كثر فيؤخذ
الرأس المنكسر من الصنف الذي وقع له أكثره، فإن استويا فيه أخذه من أيهما
شاء. مثال ذلك أن تكون الضأن مائة وعشرين والمعز أربعين فالواجب في ذلك
شاتان يقع من ذلك للضأن شاة ونصف وللمعز نصف شاة فيأخذ الواحدة من الضأن
ويكون مخيرا في الأخرى يأخذها من أي الصنفين شاء. ولو كانت المعز أكثر فوقع
(1/293)
لها من الشاتين أكثر من نصف شاة أخذت الشاة
الواحدة منها. ولو كانت المعز أقل فوقع لها من الشاتين أقل من نصف شاة أخذت
الشاتان من الضأن ولم يؤخذ من المعز شيء، والله سبحانه وتعالى أعلم وبالله
التوفيق.
[فصل في زكاة الحلي]
أجمع أهل العلم على أن العين من الذهب والورق في عينه الزكاة تبرا كان أو
مسكوكا أو مصوغا صياغة لا يجوز اتخاذها، نوى به مالكه التجارة أو القنية.
واختلف إذا صيغ صياغة يجوز اتخاذها. فالذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - أنه في الاشتراء والفائدة على ما نوى به مالكه، فإن نوى
به التجارة زكاه، وإن نوى به الاقتناء للانتفاع بعينه فيما ينتفع فيه بمثله
سقطت عنه الزكاة. وتخصص من أصله بالقياس على العروض المقتناة التي نص رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سقوط الزكاة فيها بقوله -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه
صدقة» واعتبر في صحة العلة الجامعة بينهما بقول الله عز وجل: {أَوَمَنْ
يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:
18] فإن نوى به القنية عدة للزمان أولم تكن له نية في اقتنائه رجع على
الأصل ووجبت فيه الزكاة. وإن اتخذه للكراء وهو ممن يصلح له الانتفاع به في
وجه مباح ففي ذلك روايتان: إحداهما وجوب الزكاة. والثانية سقوطها، وقد روي
عنه استحباب الزكاة، وذلك راجع إلى إسقاط الوجوب.
فصل فإن كان الحلي مربوطا بالحجارة كاللؤلؤ والزبرجد ربط صياغة فاختلفت
الرواية عن مالك في ذلك أيضا، فروى عنه أشهب أن حكمه حكم العروض في جميع
أحواله، كان الذهب تبعا لما معه من الحجارة أو غير تبع، يقومه التاجر
المدير إذا حال حوله، ولا يزكيه التاجر غير المدير حتى يبيعه وإن مرت عليه
(1/294)
أحوال. وإن أفاده لم تجب عليه فيه زكاة حتى
يبيعه ويحول على الثمن الحول من يوم باعه وقبض ثمنه إن كان ما تجب فيه
الزكاة، أو كان له مال سواه إذا أضافه إليه وجبت فيه الزكاة. وروى ابن
القاسم عنه أن ربطه بالحجارة لا تأثير له في حكم الزكاة إلا في وجه واحد
اختلف فيه قوله، وهو إذا كان الذهب تبعا لما معه من الحجارة، فإن ورثه وحال
عليه الحول زكى ما فيه من الذهب والورق تحريا ولم يكن عليه زكاة فيما فيه
من الحجارة حتى يبيعه ويحول الحول على ثمنه من يوم قبضه. ووجه العمل في ذلك
إذا باعه جملة أن يفض الثمن على قيمة ما فيه من الذهب أو الورق مصوغا وعلى
قيمة الحجارة فيزكى ما ناب الحجارة من ذلك إذا حال عليه الحول. وإن اشتراه
للتجارة وهو مدير قوم ما فيه من الحجارة وزكى وزن ما فيه من الذهب والورق
تحريا ولم يجب عليه تقويم الصياغة. هذا ظاهر المدونة. وذهب أبو إسحاق
التونسي إلى أنه يجب عليه تقويم الصياغة. وإن اشتراه للتجارة وهو غير مدير
زكى إذا حال عليه الحول وزن ما فيه من الذهب أو الورق تحريا، ولم يجب عليه
زكاة ما فيه من الحجارة حتى يبيع، فإذا باع زكى ثمن ذلك زكاة واحدة وإن كان
بعد أعوام. ووجه العمل في ذلك إذا باع جملة على ظاهر ما في المدونة أن يفض
الثمن على قيمة الذهب أو الورق مصوغا وعلى قيمة الحجارة فيزكي ما ناب
الحجارة من ذلك. وعلى ما ذهب إليه أبو إسحاق التونسي لا يحتاج إلى الفض
وإنما يسقط من الثمن عدد ما زكاه تحريا ويزكي الباقي. والذي ذكرناه هو
المشهور المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك.
ووقع في المدونة بين رواية ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع وأشهب لفظ
فيه إشكال والتباس واختلاف في الرواية، اختلف الشيوخ في تأويله وتخريجه
اختلافا كثيرا. ونص الرواية: وقد روى ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع
أيضا إذا اشترى الرجل حليا أو ورثه فحبسه للبيع كلما احتاج إليه باع أو
للتجارة، وروى أشهب فيمن اشترى حليا للتجارة معهم وهو مربوط بالحجارة لا
يستطيع نزعه فلا زكاة عليه فيه حتى يبينه. وإن كان ليس بمربوط فهو بمنزلة
العين يخرج زكاته في كل عام. زاد في بعض الروايات زكاه بعد قوله كلما احتاج
إليه باع أو لتجارة وأسقط معهم. فأما على هذه الرواية بثبوت لفظة زكاه
وإسقاط لفظة معهم فتستقيم
(1/295)
المسألة ويرتفع الالتباس، لأن رواية أشهب
تكون حينئذ منفردة منقطعة عما قبلها جارية على مذهبه المعلوم وروايته عنه،
ويكون معنى رواية ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع أنه حلي ذهب وفضة لا
حجارة معها. وأما على الرواية الأخرى إذا سقطت لفظة زكاه وثبتت لفظة معهم
فمن الشيوخ من قال إنها رواية خطأ لا يستقيم الكلام بها، لأن اللفظ يدل إذا
اعتبرته على خلاف الأصول من وجوب الزكاة في العروض المقتناة ساعة المبيع
لقوله فلا زكاة عليه حتى يبيع، وهو قد جمع الشراء والميراث في حلى مربوط
بالحجارة، والحجارة عروض، لا اختلاف أن الزكاة لا تجب فيها إذا كانت موروثة
إلا بعد أن يحول الحول على ثمنها بعد قبضه. ومنهم من قال معنى ذلك أنه إذا
باع وكان ذلك الحلي المربوط بالحجارة من ميراث إنه يزكي ما ينوب الذهب
ويستقبل بما ينوب الحجارة سنة من يوم قبضه. وإن كان من شراء زكى الجميع إذا
باع مديرا كان أو غير مدير. وهذا تأويل ابن لبابة، فيكون على هذا التأويل
في الكتاب في الحلي المربوط بالحجارة ثلاثة أقوال. ومنهم من قال معنى
الرواية أن المدير يقوم مثل رواية أشهب، فيكون على هذا لمالك في الكتاب
قولان. ومنهم من قال معنى ذلك أن المدير يقوم وأن ما تكلم عليه ابن القاسم
قبل في المدير وغير المدير معناه في الحلي الذي ليس بمربوط، وأن الذي تدل
عليه رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة في الحلي المربوط مثل ما ذهب
إليه مالك في رواية أشهب عنه، فلم يجعل في الحلي المربوط اختلافا. وفي جميع
التأويلات بعد، وهذا أبعدها. والصحيح في تأويل الرواية المذكورة إذا سقط
منها زكاه وثبت فيها معهم أن جواب مالك في رواية ابن القاسم وعلي بن زياد
وابن نافع عنه في قوله: وإن كان ليس بمربوط فهو بمنزلة العين يخرج زكاته في
كل عام، وأن جوابه في رواية أشهب عنه في قوله فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه،
وأنه انفرد دونهم في الرواية عنه في الحلي المربوط، وانفردوا دونه في
الرواية عنه في الحلي الذي ليس بمربوط. وإنما وقع الإشكال في الرواية إذ
جمعهم الراوي في
(1/296)
الرواية أولا ثم فصل ما انفرد به كل واحد
منهم دون صاحبه، وقصر في العبارة بتقديم بعض الكلام على بعض.
والصواب في سوق الكلام دون تقصير في العبارة إن شاء الله أن يقول: وقد روى
ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع وأشهب إذا اشترى الرجل حليا أو ورثه
فحبسه للبيع كلما احتاج إليه باعه أو لتجارة، قال في رواية أشهب عنه فيما
اشتراه للتجارة وهو مربوط بالحجارة لا يستطيع نزعه فلا زكاة عليه فيه حتى
يبيعه. قال في رواية ابن القاسم وعلي وابن نافع: وإن كان ليس بمربوط فهو
بمنزلة العين زكاته في كل عام اشتراه أو ورثه. فعلى هذا التأويل إنما تكلم
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في رواية ابن القاسم وعلي وابن نافع في
الحلي الذي ليس بمربوط، وهي زيادة بيان فيما رواه عنه منفردا في الحلي
المربوط، ولم يجتمع ابن القاسم وأشهب في الرواية عن مالك في الحلي المربوط
في لفظ ولا معنى. وهذا التأويل هو الذي اخترناه وعولنا عليه لصحته وجريانه
على المعلوم المتقرر من روايتهما جميعا المختلفة عن مالك في الحلي المربوط،
وإليه ذهب سحنون فيما جلبه من الروايتين والله أعلم.
ويحتمل أن يكون تأويل الرواية المذكورة بسقوط زكاه وثبوت معهم أن جواب مالك
في رواية أشهب معهم في قوله وإن كان ليس بمربوط فهو بمنزلة العين يخرج
زكاته في كل عام، وإن جوابه في رواية أشهب دونهم في الشراء خاصة في قوله
فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه، وأن مجامعهم في الرواية في الحلي الذي ليس
بمربوط، وانفرد دونهم في الرواية في الحلي المربوط في الشراء خاصة. ويكون
الصواب في سوق الكلام على هذا التأويل دون تقصير في العبارة أن يقول: وقد
روى ابن القاسم وعلي بن زياد وابن نافع وأشهب إذا اشترى الرجل حليا أو ورثه
فحبسه للبيع كلما احتاج إليه باع أو لتجارة، قال في رواية أشهب عنه دونهم
إذا اشتراه للتجارة وهو مربوط بالحجارة لا يستطيع نزعه فلا زكاة عليه فيه
حتى يبيعه. وقال في روايتهم كلهم وأشهب معهم: وإن كان ليس بمربوط بالحجارة
فهو
(1/297)
بمنزلة العين يخرج زكاته في كل عام اشتراه
أو ورثه فحبسه للبيع كلما احتاج إليه باع أو للتجارة. وهذا التأويل أيضا
صحيح بين، وفيه زيادة بيان على التأويل الذي اخترناه، وهو أن الحلي الذي
ليس بمربوط لا اختلاف فيه بين الرواة عن مالك، وبالله التوفيق.
(1/298)
[القول في المعادن]
القول في المعادن يرجع إلى ثلاثة فصول:
أحدها معرفة حكم أصولها وهل هي تبع للأرض التي هي فيها أم لا، والثاني
معرفة وجه حكم المعاملة في العمل فيها، والثالث معرفة ما يجب فيما يخرج
منها من الذهب والفضة.
فصل فأما أصولها فاختلف فيها على قولين:
أحدهما: أنها ليست بتبع للأرض التي هي فيها، مملوكة كانت أو غير مملوكة،
وأن الأمر فيها إلى الإمام يليها ويقطعها لمن يعمل فيها بوجه الاجتهاد حياة
المقطع أو مدة ما من الزمان من غير أن يملكه أصلها، ويأخذ منها الزكاة على
كل حال على «ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من أنه
أقطع لبلال بن الحارث المزني معادن من معادن القبلية» فتلك المعادن لا يؤخذ
منها إلى اليوم إلا الزكاة، إلا أن تكون في أرض قوم صالحوا عليها فيكونون
أحق بها يعاملون فيها كيف شاءوا المسلمين على ما يجوز لهم إن شاءوا. فإن
أسلموا رجع أمرها إلى الإمام. هذا مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في
المدونة ورواية يحيى عن ابن القاسم في العتبية.
والثاني أنها تبع للأرض التي هي فيها، فإن كانت في أرض حرة أو في أرض
العنوة أو في الفيافي التي هي غير ممتلكة كان أمرها إلى الإمام يقطعها لمن
يعمل
(1/299)
فيها أو يعامل الناس على العمل فيها لجماعة
المسلمين على ما يجوز له، ويأخذ منها الزكاة على كل حال. وإن كانت في أرض
متملكة فهي ملك لصاحب الأرض يعمل فيها ما يعمل ذو الملك في ملكه. وإن كانت
في أرض الصلح كان أهل الصلح أحق بها إلا أن يسلموا فتكون لهم. هذا مذهب
سحنون ومثله لمالك في كتاب ابن المواز.
وجه القول الأول أن الذهب والفضة اللذين في المعادن التي هي في جوف الأرض
أقدم من ملك المالكين لها، فلم يجعل ذلك ملكا لهم بملك الأرض، إذ هو ظاهر
قول الله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ} [الأعراف: 128] إذ لم يقل الأرض لله يورثها وما فيها من يشاء من
عباده فوجب بنحو هذا الظاهر أن يكون ما في جوف الأرض من ذهب أو ورق في
المعادن فيئا لجميع المسلمين بمنزلة ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب.
ووجه القول الثاني أنه لما كان الذهب والفضة نابتين في الأرض كانا لصاحب
الأرض بمنزلة ما نبت فيها من الحشيش والشجر. والقول الأول أظهر، لأن الحشيش
والشجر نابتان في الأرض بعد الملك بخلاف الذهب والورق في المعادن.
وأما وجه حكم المعاملة في العمل فيها فهو أن يكون على سبيل الإجارة
الصحيحة. وقد اختلف هل تجوز المعاملة فيها على الجزء منها أم لا على قولين:
أحدهما أن ذلك لا يجوز لأنه غرر، وهو قول أصبغ في العتبية واختيار محمد بن
المواز وقول أكثر أصحاب مالك. والثاني أن ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم في
أصل الأسدية، واختيار الفضل بن سلمة، قال لأن المعادن لما لم يجز بيعها
جازت المعاملة فيها على الجزء منها قياسا على المساقاة والقراض.
فصل وأما ما يجب فيما يخرج منها فاختلف فيه اختلافا كثيرا. والذي ذهب إليه
(1/300)
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع
أصحابه أن فيها الزكاة قياسا على الزرع الذي يخرج من الأرض، لأن الذهب
والفضة يخرجان منها كما يخرج الزرع منها، ويعتمل كما يعتمل الزرع، فيعتبر
فيه النصاب، ولا يعتبر فيه الحول كما لا يعتبر في الزرع، لقول الله عز وجل:
{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
[الأنعام: 141] إلا أن توجد فيه ندرة خالصة فيكون فيها الخمس على مذهبه في
المدونة، وفي ذلك اختلاف.
فصل فإذا نض لصاحب المعدن من نيل المعدن وزن عشرين دينارا أو مائتي درهم
كيلا وجبت عليه في ذلك الزكاة، ثم ما زاد بحسابه ما اتصل النيل ولم ينقطع
العرق، وسواء بقي ما نض في يده إلى أن كمل النصاب أو أنفقه قبل ذلك على حكم
الرجل يكون له الدين قد حل عليه الحول فقبضه شيئا بعد شيء. وإن تلف ذلك من
يده بغير سببه فعلى الاختلاف فيما تلف مما قبض من الدين: قال ابن المواز لا
يضمنه، وقال ابن القاسم يضمنه. وهذا الاختلاف إنما يصح عندي إذا تلف في
الحد الذي لو تلف فيه المال بعد الحول لم يضمن وأما إن انقطع النيل بتمام
العرق ثم وجد عرقا آخر في المعدن نفسه فإنه يستأنف فيه مراعاة النصاب. وفي
هذا الوجه تفصيل، إذ لا يخلو ما نض إليه من النيل الأول أن يتلف من يده قبل
أن يبدأ النيل الثاني أو أن يتلف من يده بعد أن بدأ النيل الثاني، أو أن
يبقى بيده إلى أن كمل عليه من النيل الثاني في تمام النصاب.
فصل وأما إن تلف من يده قبل أن يبدأ النيل الثاني فلا اختلاف في أنه لا
زكاة عليه فيما يحصل إليه من الثاني حتى يكمل عنده النصاب منه كاملا، لأنه
في التمثيل
(1/301)
كمن أفاد عشرة دنانير فحال عليها الحول ثم
تلفت بعد الحول ثم أفاد بعد تلفها فائدة أخرى، فلا اختلاف في أنه لا يضيفها
إلى الفائدة التي تلفت قبل أن يفيد هذه. وأما إن تلفت من يده بعد أن بدأ
النيل الثاني وقبل أن يكمل عنده بما كان تلف من الأول النصاب فيتخرج ذلك
على قولين: أحدهما أن عليه الزكاة إذا كمل له النصاب بما نض له من الثاني
إلى ما كان تلف من الأول. والثاني أنه لا زكاة عليه لأنه في التمثيل كمن
أفاد عشرة دنانير ثم أفاد بعد ستة أشهر عشرة دنانير أخرى فحال الحول على
العشرة الثانية وقد تلفت العشرة الأولى بعد حلول الحول عليها، فتجب عليه
الزكاة عند أشهب، ولا تجب عليه عند ابن القاسم.
فصل ومن كانت له معادن فانقطع نيل أحدها ثم بدأ النيل في الآخر فالحكم في
ذلك حكم المعدن الواحد ينقطع نيله ثم يعود بعد ذلك في أنه لا يضاف إليه.
واختلف إذا بدأ الثاني قبل أن ينقطع الأول فقيل إنه لا يضيفه إليه بمنزلة
المعدن الواحد ينقطع نيله ثم يعود، وهو قول سحنون. وقيل إنه يضيفه إليه،
وهو قول محمد بن سلمة والذي يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في
المدونة، لأن المعادن بمنزلة الأرضين، فكما يضيف زرع الأرض إلى زرع الأرض
الأخرى إذا زرع الثاني قبل حصاد الأول، فكذلك يضيف نيل المعدن إلى نيل
المعدن الآخر إذا بدأ الثاني قبل انقطاع الأول. وبيان هذا بالمثال أن يكون
للرجل معادن يعمل فيها فينيل أحدها ويتمادى النيل فيه إلى أن ينيل الثاني
فيتمادى النيل فيهما إلى أن ينيل الثالث فيتمادى النيل فيها كلها إلى أن
ينيل الرابع هكذا وإن كثرت فإنه يضيفها كلها لاتصال النيل فيها. ولو أنال
الأول فتمادى النيل فيه إلى أن أنال الثاني، ثم انقطع نيل الأول وتمادى نيل
الثاني إلى أن أنال الثالث، فإنه ههنا يضيف الأول إلى الثاني والثاني إلى
الثالث، ولا يضيف الأول إلى الثالث. ولو أنال الأول فتمادى النيل فيه إلى
أن أنال الثاني فتمادى نيل الثاني مع الأول مدة ثم انقطع نيل الثاني وتمادى
نيل الأول إلى أن أنال الثالث فإنه ههنا يضيف الأول إلى الثاني
(1/302)
والثالث لاتصال نيله بهما جميعا، ولا يضيف
الثاني إلى الثالث لانقطاع الثاني قبل أن ينيل الثالث. وعودة نيل أحدهما
بعينه بعد انقطاعه كابتداء نيل أحدهما بعد انقطاع نيل صاحبه في القياس
سواء. فقس على هذا تصب إن شاء الله تعالى.
[فصل في زكاة الديون]
فصل
في زكاة الديون الديون في الزكاة تنقسم على أربعة أقسام: دين من فائدة،
ودين من غصب، ودين من قرض، ودين من تجارة.
فأما الدين من الفائدة فإنه ينقسم على أربعة أقسام:
أحدها: أن يكون من ميراث أو عطية أو أرش جناية أو مهر امرأة أو ثمن خلع وما
أشبه ذلك، فهذا لا زكاة فيه حالا كان أو مؤجلا حتى يقبض ويحول الحول عليه
من بعد القبض ولا دين على صاحبه يسقط عنه الزكاة فيه. وإن ترك قبضه فرارا
من الزكاة لم يوجب ذلك عليه فيه الزكاة.
والثاني أن يكون من ثمن عرض أفاده بوجه من وجوه الفوائد، فهذا لا زكاة فيه
حتى يقبض ويحول الحول عليه بعد القبض، وسواء كان باعه بالنقد أو بالتأخير.
وقال ابن الماجشون والمغيرة إن كان باعه بثمن إلى أجل فقبضه بعد حول زكاه
ساعة يقبضه، فإن ترك قبضه فرارا من الزكاة تخرج ذلك على قولين: أحدهما أنه
يزكيه لما مضى من الأعوام، والثاني أنه يبقى على حكمه فلا يزكيه حتى يحول
عليه الحول من بعد قبضه أو حتى يقبضه إن كان باعه بثمن إلى أجل على
الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك.
والثالث أن يكون من ثمن عرض اشتراه بناض عنده للقنية، فهذا إن كان باعه
بالنقد لم تجب عليه فيه زكاة حتى يقبضه ويحول عليه الحول بعد القبض. وإن
كان باعه بتأخير فقبضه بعد حول زكاه ساعة يقبضه. وإن ترك قبضه فرارا من
الزكاة زكاه لما مضى من الأعوام، ولا خلاف في وجه من وجوه هذا القسم.
(1/303)
والرابع أن يكون الدين من كراء أو إجارة،
فهذا إن كان قبضه بعد استيفاء السكنى والخدمة كان الحكم فيه على ما تقدم في
القسم الثاني، وإن كان قبضه قبل استيفاء العمل مثل أن يؤاجر نفسه ثلاثة
أعوام بستين دينارا فيقبضها معجلة ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يزكي إذا
حال الحول ما يجب له من الإجارة وذلك عشرون دينارا، لأنه قد بقيت في يده
منذ قبضها حولا كاملا، ثم يزكي كلما مضى به من المدة شيء له بال ما يجب له
من الكراء إلى أن يزكي جميع الستين لانقطاع الثلاثة الأعوام. وهذا يأتي على
ما في سماع سحنون عن ابن القاسم وعلى قياس قول غير ابن القاسم في المدونة
في مسألة هبة الدين هو عليه بعد حلول الحول عليه. والثاني أنه يزكي إذا حال
الحول تسعة وثلاثين دينارا ونصف دينار، وهو نص ما قاله ابن المواز على قياس
القول الأول. والثالث أنه لا زكاة عليه في شيء من الستين حتى يمضي العام
الثاني، فإذا مر زكى عشرين، لأن ما ينوبها من العمل دين عليه فلا يسقط إلا
بمرور العام شيئا بعد شيء، فوجب استئناف حول آخر بها منذ تم سقوط الدين
عنها.
وأما الدين من الغصب ففيه من المذهب قولان: أحدهما وهو المشهور أنه يزكيه
زكاة واحدة ساعة يقبضه كدين القرض. والثاني أنه يستقبل به حولا مستأنفا من
يوم يقبضه كدين الفائدة. وقد قيل إنه يزكيه للأعوام الماضية، وبذلك كتب عمر
ابن عبد العزيز إلى بعض عماله في مال قبضه بعض الولاة ظلما، ثم عقب بعد ذلك
بكتاب آخر أن لا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة لا أنه كان ضمارا.
وأما دين القرض فيزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من السنين.
واختلف هل يقومه المدير أم لا، فقيل إنه يقومه، وهو ظاهر ما في المدونة،
وقيل إنه لا يقومه، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. وهذا الاختلاف مبني على
الاختلاف فيمن له مالان يدير أحدهما ولا يدير الآخر، لأن المدير إذا أقرض
من المال الذي يدير قرضا فقد أخرجه بذلك عن الإدارة.
(1/304)
وأما دين التجارة فلا اختلاف في أن حكمه
حكم عروض التجارة يقومه المدير ويزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما
مضى من الأعوام، كما يقوم المدير عروض التجارة. ولا يزكيها غير المدير حتى
يبيع فيزكيها زكاة واحدة لما مضى من الأعوام. وإذا قبض من الدين أقل من
نصاب أو باع من العروض بعد أن حال عليه الحول بأقل من نصاب فلا زكاة عليه
حتى يقبض تمام النصاب أو يبيع بتمامه. فإذا كمل عنده تمام النصاب زكى
جميعه، كان ما قبض أولا قائما بيده أو كان قد أنفقه. واختلف إن كان تلف من
غير سببه، فقال محمد بن المواز لا ضمان عليه فيه لأنه بمنزلة مال تلف بعد
حلول الحول عليه من غير تفريط. فعلى قياس قول مالك في هذه المسألة التي
نظرها بها تسقط عنه زكاة باقي الدين إن لم يكن فيه نصاب. وعلى قول محمد بن
الجهم فيها يزكي الباقي إذا قبضه وإن كان أقل من نصاب، وهو الأظهر، لأن
المساكين تنزلوا معه بمنزلة الشركاء، فكانت المصيبة فيما تلف منه ومنهم،
وكان ما بقي بينه وبينهم قل أو كثر. وقال ابن القاسم وأشهب يزكي الجميع.
وهذا الاختلاف إنما يكون إذا تلف بعد أن مضى من المدة ما لو كان ما تجب فيه
الزكاة لضمنه. وأما إن تلف بفور قبضه فلا اختلاف في أنه لا يضمن ما دون
النصاب، كما لا يضمن النصاب. وقول ابن المواز أظهر، لأن مادون النصاب لا
زكاة عليه فيه فوجب أن لا يضمنه في البعد كما لا يضمنه في القرب. ووجه ما
ذهب إليه ابن القاسم وأشهب من أنه يضمن ما تلف بغير سببه في البعد مراعاة
لقول من يوجب الزكاة في الدين وإن لم يقبض، فهو استحسان.
فصل وإذا تخلل الاقتضاء فوائد وكان كلما اقتضى من الدين شيئا أنفقه، وكلما
حال الحول على فائدة أفادها أنفقها، فمذهب أشهب في ذلك أن يضيف كل ما اقتضى
من الدين وكل ما حال عليه الحول من الفوائد إلى ما كان اقتضى قبله من الدين
وأنفقه وإلى ما كان حال عليه الحول من الفوائد قبله فأنفقه. وأما ابن
القاسم فمذهبه أن يضيف الدين إلى ما أنفقه من الدين وإلى ما أنفقه من
الفوائد بعد حلول الحول عليها، ولا يضيف الفائدة التي حال الحول عليها إلى
ما أنفقه من الدين بعد
(1/305)
اقتضائه ولا إلى ما أنفقه من الفوائد بعد
حلول الحول عليها. مثال ذلك أن يقتضي من دين له خمسة دنانير فينفقها وله
فائدة لم يحل عليها الحول وهي عشرة دنانير، فينفقها بعد حلول الحول عليها،
ثم يقبض من دينه عشرة فإنه يزكيها مع العشرة الفائدة التي أنفقها، ولا يزكي
الخمسة الأولى التي اقتضى من الدين حتى يقتضي منه خمسة وبالله التوفيق،
والله سبحانه وتعالى أعلم.
[فصل في زكاة الأحباس الموقوفة والصدقات
والهبات المبتولة]
فصل
في زكاة الأحباس الموقوفة والصدقات والهبات المبتولة الأحباس الموقوفة
تنقسم في الزكاة على قسمين: أحدهما ما تجب فيه الزكاة في غلته ولا تجب في
عينه، والثاني ما تجب الزكاة في عينه ولا تجب في غلته [لأنها فائدة إلا بما
تجب به الزكاة في الفوائد فأما ما تجب الزكاة في غلته] ولا تجب في عينه،
وذلك حوائط النخيل والأعناب، فإن كانت محبسة موقوفة على غير معينين مثل
المساكين وبني زهرة وبني تميم فلا خلاف أن ثمرتها مزكاة على ملك المحبس،
وأن الزكاة تجب في ثمرتها إذا بلغت جملتها ما تجب فيه الزكاة، وكذلك إن
أثمرت في حياة المحبس وله حوائط لم يحبسها فاجتمع في جميع ذلك ما تجب فيه
الزكاة. واختلف إن كانت محبسه على معينين، فقال ابن القاسم في المدونة إنها
أيضا مزكاة على ملك المحبس. وفي كتاب ابن المواز أنها مزكاة على ملك المحبس
عليهم. فمن بلغت حصته منهم ما تجب فيه الزكاة زكى عليه، ومن لم تبلغ حصته
منهم ما تجب فيه الزكاة لم تجب عليه زكاة. وقول ابن القاسم هذا على أصل
قوله في كتاب الحبس إن من مات من المحبس عليه قبل طيب الثمرة لم يورث عنه
نصيبه منها ورجع على أصحابه. وما في كتاب ابن المواز على أصل قول أشهب في
كتاب الحبس المذكور أن من مات من المحبس عليهم بعد أن بلغت الثمرة حد
إبارها فحقه واجب لورثته.
(1/306)
فصل واختلف إن كان الحبس على ولد فلان هل
يحمل ذلك محمل التعيين أم لا على قولين قائمين من المدونة في الوصايا وفي
غيرها.
فصل وأما ما تجب الزكاة في عينه ولا تجب في غلته إلا بما تجب به الزكاة في
الفوائد، وذلك المواشي من الإبل والبقر والغنم والعين من الدنانير والدراهم
وأتبارهما.
فإذا كان ذلك محبسا موقوفا للانتفاع بغلته في وجه من وجوه البر فلا اختلاف
أن الزكاة تجب في جميع ذلك كل سنة على ملك المحبس كانت موقوفة لمعينين أو
في المساكين وابن السبيل.
فصل والحكم في زكاة أولاد هذه الماشية المحبسة الموقوفة إن كانت وقفت
للانتفاع بنسلها وغلتها كالحكم في زكاة ثمار الحوائط المحبسة الموقوفة تزكى
مع الأمهات على حولها وملك المحبس لها إن كانت محبسة على قوم غير معينين
قولا واحدا، وكذلك إن كانت محبسة على قوم معينين على ما في المدونة، وأما
على ما في كتاب ابن المواز فتزكى على ملك المحبس عليهم إذا حال الحول على
ما بيد كل واحد منهم من يوم الولادة وفيه ما تجب فيه الزكاة.
فصل واختلف إن كانت الماشية من الإبل والبقر والعين من الدنانير والدراهم
ووقفت لتفرق في المساكين وابن السبيل لا ينتفع بغلتها، فحال عليها الحول
قبل أن تفرق، في المدونة إنه لا زكاة في شيء من ذلك لأنه يفرق ولا يمسك،
ولم يعط فيها جوابا إن كانت تفرق على معينين. والذي يأتي على مذهب ابن
القاسم فيها أن الدنانير لا زكاة فيها كانت تفرق على المساكين أو على
معينين. ومثله في كتاب ابن
(1/307)
المواز. وأما الماشية فينبغي على مذهبه في
المدونة إذا كانت تفرق على معينين أن يزكي كل من صار في حظه منهم ما تجب
فيه الزكاة، وهو قول أشهب في كتاب ابن المواز نصا أنه إن كانت تفرق على
المساكين فلا زكاة فيها، وإن كانت تفرق على معينين فيزكي كل من صار في حظه
منهم ما تجب فيه الزكاة. ويلزم مثله في الدنانير على مذهب من يرى على من
ورث دنانير غائبة زكاتها إذا حال الحول عليها وإن لم يقبضها، لأن الفرق بين
الماشية والعين في المعينين أن من أوصي له بنصاب من العين أو أفاده بوجه من
الوجوه فلا زكاة عليه فيه حتى يحول عليه الحول من يوم قبضه، ومن أوصي له
بنصاب من الماشية تجب عليه فيه الزكاة بحلول الحول قبضه أو لم يقبضه. وفي
كتاب محمد أن الزكاة تجب في جملة الماشية إن كانت تفرق على غير معينين، وفي
حظ من وجب في حظه منهم الزكاة إن كانت تفرق على معينين. فرآها على هذا
القول مزكاة على ملك واهبها أو الموصي بها إن كانت تفرق على غير معينين،
وعلى أملاك الذين تفرق عليهم إن كانوا معينين. ويلزم بالقياس مثله في
الدنانير. ووقع في كتاب محمد أيضا ما ظاهره أن الماشية لا زكاة فيها وإن
كانت تفرق على معينين يصير في حظ كل واحد منهم ما تجب فيه الزكاة، وهذا لا
وجه له في النظر، إذ لم يختلف في أن من أفاد ماشية تجب عليه الزكاة بحلول
الحول وإن لم يقبضها.
فصل فعلى هذا يأتي في الماشية الموقفة للتفرقة ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا
زكاة فيها إن كانت تفرق على غير معينين، وأن الزكاة في حظ كل واحد منهم إن
كانوا معينين، وهو نص قول أشهب في كتاب ابن المواز ومعنى ما في المدونة.
والثاني أن الزكاة تجب في جملتها إن كانت تفرق على غير معينين، وفي حظ كل
واحد منهم إن كانوا معينين، وهو قول ابن القاسم في كتاب المواز. والثالث
ألا زكاة فيها كانت تفرق على معينين أو على غير معينين، وهذا أبعد الأقاويل
على ما ذكرناه. فهذه ثلاثة أقوال في الجملة، وهي على التفصيل قولان في كل
طرف إن كانت تقسم على غير معينين فقيل إنه لا زكاة فيها وقيل إن فيها
الزكاة على ملك المحبس
(1/308)
لها، وإن كانت تقسم على معينين فقيل إنه لا
زكاة فيها وقيل إنها تزكى على أملاك الذين تقسم عليهم.
فصل وأولاد هذه الماشية إذا سكت عنها تبع لها في الزكاة تزكى معها في
الموضع الذي تزكى فيه على ما تقدم من الاختلاف. وأما إن كانت تفرق على غير
من تفرق عليه الأمهات فالحكم في زكاتها على ما تقدم في أولاد الماشية
المحبسة الموقوفة قبل هذا.
فصل وفي العين ثلاثة أقوال أيضا: أحدها أن الزكاة لا تجب فيه كان يفرق على
معينين أو على غير معينين، وهو نص ما في كتاب ابن المواز ومعنى ما في
المدونة. والثاني أن الزكاة لا تجب فيه إن كان يفرق على غير معينين وأنها
تجب في حظ كل واحد منهم إن كانوا معينين. وهذا القول خرجناه على مذهب من
يرى في فائدة العين الزكاة بحلول الحول عليه قبل القبض. والثالث أن الزكاة
تجب في جملتها إن كانت تفرق على غير معينين وفي حظ كل واحد منهم إن كانوا
معينين. وهذا القول خرجناه بالقياس على ما في كتاب محمد بن المواز على ما
ذكرناه. فهذه ثلاثة أقوال في الجملة، ويأتي على التفصيل قولان في كل طرف إن
كانت تقسم على غير معينين فقيل إنه لا زكاة فيها، وقيل إنها تزكى جملتها
على ملك المحبس لها. وإن كانت تقسم على معينين فقيل إنه لا زكاة فيها، وقيل
إنها تزكى على أملاك الذين تقسم عليهم إن بلغت حصة كل واحد منهم ما تجب فيه
الزكاة.
فصل وأما زكاة الثمرة المتصدق بها والموهوبة المبتولة لعام واحد أو لأعوام
معلومة مسماة، فإن كانت على المساكين فلا اختلاف أنها مزكاة على ملك واهبها
أو المتصدق بها إن كان في جملتها ما تجب فيه الزكاة، أو لم يكن فيها ما تجب
فيه الزكاة إلا أنه إذا أضافه إلى ما بقي في ملكه وجبت فيه الزكاة. وأما إن
كانت على
(1/309)
معينين فاختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها
أنها مزكاة على ملك الواهب لها أيضا، وهو مذهب سحنون، ولا تخرج الزكاة منها
على قوله إلا بعد يمين الواهب أنه لم يرد تحمل الزكاة في ماله. والثاني
أنها مزكاة على ملك الموهوب لهم والمتصدق عليهم أو المعرين، فمن كان منهم
في حظه ما تجب فيه الزكاة وجبت عليه الزكاة، ومن لم يكن في حظه من ذلك ما
تجب فيه الزكاة لم تجب عليه الزكاة. والثالث الفرق بين الهبة والصدقة
والعرية في أن الهبة والصدقة تزكى على ملك الموهوب لهم أو المتصدق عليهم،
وإن زكاة العرية على المعري في ماله لا من العرية. وقد قيل إن العرية تؤخذ
الزكاة منها على ملك المعري لا على ملك المعرى. فإن كان أعرى جماعة خمسة
أوسق أو أقل من خمسة أوسق وفيما أبقى لنفسه تمام خمسة أوسق أخذت منها
الصدقة.
فصل ففي زكاة العرية على هذا قولان: أحدهما أنها على المعري في ماله.
والثاني أنها لا تجب إلا في ثمرة العرية. فإذا قلنا إنها لا تجب إلا في
ثمرة العرية فهل تؤخذ منها على ملك المعري أو على ملك المعرين، في ذلك
قولان، وبالله التوفيق.
[فصل في جواز إخراج الزكاة من المال قبل حلول
الحول عليه وما يتعلق بذلك]
فصل
في جواز إخراج الزكاة من المال قبل حلول الحلول عليه وما يتعلق بذلك من
ضمان زكاة ما تلف منه قبل الحول أو بعده بقرب ذلك أو أبعد منه اختلف فيمن
أخرج زكاة ماله قبل حلول الحول عليه على قولين: أحدهما أن ذلك لا يجزئه،
وهي رواية أشهب عن مالك. والثاني أنها تجزئة إذا كان بقرب ذلك. واختلف في
حد القرب على أربعة أقوال: أحدها أنه اليوم واليومان ونحو ذلك، وهو قول ابن
المواز. والثاني أنه العشرة الأيام ونحوها، وهو قول ابن حبيب في الواضحة.
والثالث أنه الشهر ونحوه وهي رواية عيسى عن ابن القاسم. والرابع أنه
الشهران فما دونهما وهي رواية ابن زياد عن مالك.
(1/310)
فصل فما أنفق الرجل من ماله قبل الحول
بيسير أو كثير أو تلف منه فلا زكاة عليه فيه، ويزكي الباقي إذا حال عليه
الحول وفيه ما تجب فيه الزكاة. وكذلك إن أخرج زكاة ماله قبل الحول بيسير أو
كثير فتلفت أو أخرجها فنفذها في الوقت الذي لا يجوز له تنفيذها فيه يزكي
الباقي إن كان بقي منه ما تجب فيه الزكاة إذا حال عليه الحول. وأما إن
أخرجها فنفذها في الوقت الذي يجوز له إخراجها فيه من القرب على الاختلاف
الذي ذكرناه على مذهب من يجيز له إخراج الزكاة قبل الحول بيسير فإنها
تجزئه.
فصل وأما ما أنفق من ماله الذي تجب فيه الزكاة بعد الحول بيسير أو كثير أو
تلف منه بعد الحول بكثير فالزكاة عليه فيه واجبة مع ما بقي له من ماله.
واختلف فيما تلف منه بعد الحول بيسير، قال في كتاب ابن المواز: مثل اليوم
وشبهه، فذهب مالك إلى أنه بمنزلة ما ذهب قبل الحول لا يحسبه لأنه لم يفرط،
ويزكي الباقي إن كان ما تجب فيه الزكاة. وقال ابن الجهم: يزكي الباقي وإن
لم يكن ما تجب فيه الزكاة، لأن المساكين نزلوا معه بعد الحول بمنزلة
الشركاء، فما ضاع منه أو تلف بقرب الحول فمصيبته منه ومنهم. وأما إن أخرج
زكاته بعد الحول ليفرقها فتلفت، فإن كان بعد محلها بالأيام اليسيرة فإنه
يضمنها، قاله مالك في كتاب ابن المواز، وهو مفسر لما في المدونة، ولو كان
بقرب الحول قبل أن يفرط. قال محمد بمثل اليوم وشبهه، فسرقت أو بعث بها إلى
من يفرقها فسقطت فلا ضمان عليه، قاله مالك في رواية ابن نافع عنه في
المجموعة. ولو بعث بصدقة حرثه أو ماشيته مع رسول لضمن، إذ الشأن فيها مجيء
المصدق. ولو عزل صدقة العين من صندوقه فوضعها في ناحية بيته فذهبت لضمن، إذ
لم يخرجها ما كانت في بيته، بخلاف الماشية إذا أخرجها فانتظر الساعي بها.
وقد وقع في مسائل هذا الباب في المدونة التباس. والذي يتحصل عندي
(1/311)
منها أن الطعام إن ضاع جميعه في الأندر في
عمله فلا ضمان عليه إذ لم يفرط. واختلف قول مالك إذا أدخله في منزله ثم تلف
ولم يفرط، إما بأنه تلف بقرب إدخاله منزله ولم يمكنه دفعه للمساكين قبل أن
يدخله منزله، أو بأنه ليس إليه تفريقه فانتظر مجيء الساعي، وإن طال
انتظاره، فمرة فرق بينه وبين الدنانير ورآه ضامنا، ومرة لم يوجب عليه
الضمان بمنزلة الدنانير. وكذلك إذا عزل العشر ليفرقه إن كان إليه تفريقه أو
لينتظر به الساعي إن لم يكن إليه تفريقه فضاع بعد أن أدخله منزله ولم يفرط،
إما بأنه تلف بقرب إدخاله منزله إن كان إليه تفريقه، وإما بأنه لم يكن إليه
دفعه فانتظر مجيء الساعي فضاع بالقرب أو بالبعد، اختلف قول مالك في ذلك
أيضا كاختلافه في المسألة الأولى، فمرة حمله محمل العين، ومرة رآه بخلاف
ذلك. وقال ابن القاسم إن كان أشهد ولم يكن إليه تفريقه فلا ضمان عليه وإن
تأخر عنه الساعي. وسواء على مذهب ابن القاسم ضاع العشر الذي عزله وأدخله
منزله أو ضاع جميع الطعام وقد أدخله منزله ولم يعزل منه شيئا لا ضمان عليه
في الوجهين جميعا ما أقام منتظرا الساعي إذا أشهد. وقول ابن القاسم خلاف
قول مالك جميعا في هذا الطرف. وانظر على مذهب ابن القاسم إذا كان ممن لا
يسعى عليه الساعي وكانت تفرقة زكاته إليه إن أدخل جميع الطعام أو عشره
معزولا منزله فضاع بالقرب من غير تفريط هل هو عنده بمنزلة العين ويسقط عند
الضمان أو هو عنده بخلاف العين ويكون ضامنا إلا أن يشهد. والأظهر عندي من
مذهبه أنه لا ضمان عليه دان لم يشهد. وقول المخزومي في الباب مثل أحد قولي
مالك إنه لا ضمان عليه وإن لم يشهد لأنه غير مفرط في انتظار الساعي وليس
عليه أكثر مما صنع. وكذلك على مذهبه إن كان ممن إليه تفرقة زكاته فضاع بعد
أن أدخله منزله بالقرب من غير تفريط. وأما إذا ضيع أو فرط حتى تلف فهو ضامن
باتفاق، سواء أدخله منزله أو لم يدخله، ضاع جميعه أو عشره، معزولا كان أو
لا، كان إليه تفريقه أو كان ممن يسعى عليه الساعي. وأشهب يفرق إذا عزل عشره
فضاع من غير تفريط بين أن يكون إليه تفرقة زكاته أو إلى الساعي، فرأى أنه
إذا كان إليه تفريق زكاته فلا ضمان عليه بمنزلة المال العين، وإذا كان إلى
الساعي فهو بينهما جميعا وله أخذ
(1/312)
عشر الباقي، كأنه يرى أنه لا يجوز مقاسمته
على الساعي. قال أبو إسحاق التونسي من رأيه: أما إذا أدخله بيته على أنه
ضامن للزكاة وأراد التصرف في ماله فهذا بين أنه ضامن إذا ضاع وعليه الزكاة،
وأما لو خشي عليه في الأندر فأدخله في بيته على باب الحرز له فضاع لم يضمن
شيئا. وهذا الذي قال أبو إسحاق كلام صحيح لا يصح أن يختلف فيه، وإنما
الاختلاف إذا لم يعلم على أي الوجهين أدخله منزله، فمرة حمله مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على الضمان فضمنه ولم يصدقه أنه فعل ذلك على
النظر وأنه أراد حرزه بإدخاله منزله، ومرة صدقه بأن فعله إنما كان منه على
النظر وأنه أراد الحرز فصار الطعام عنده على وجه الأمانة فأسقط عنه الضمان.
هذا الذي أعتقده في هذه المسألة، وهي في الكتاب مشكلة، حضرت المناظرة فيها
عند شيخنا الفقيه أبي جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فتنازعنا فيها
عنده تنازعا شديدا واختلفنا في تأويل وجوهها اختلافا بعيدا، فطال الكلام
وكثر المراء والجدال ولم أقف على اعتقاد الشيخ رحمة الله عليه ورضوانه في
جميع فروع المسألة وهذا الذي كتبته هو اعتقادي في هذا الباب والله أسأله
العون والتوفيق بعزته لا شريك له.
(1/313)
|