المقدمات الممهدات

 [كتاب الجهاد] [فصل في معرفة اشتقاق اسم الجهاد]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وآله وسلم.
عونك اللهم لا شريك لك كتاب الجهاد فصل -
في معرفة اشتقاق اسم الجهاد الجهاد مأخوذ من الجهد وهو التعب، فمعنى الجهاد في سبيل الله المبالغة في إتعاب الأنفس في ذات الله وإعلاء كلمته التي جعلها الله طريقا إلى الجنة وسبيلا إليها. قال الله عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] .

فصل والجهاد ينقسم على أربعة أقسام: جهاد القلب، وجهاد باللسان، وجهاد باليد، وجهاد بالسيف.
فجهاد القلب جهاد الشيطان ومجاهدة النفس عن الشهوات المحرمات. قال الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] .
وجهاد اللسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن ذلك ما أمر الله به نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جهاد المنافقين، لأنه عز وجل قال:

(1/341)


{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73] فجاهد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين باللسان، لأن الله تعالى نهاه أن يعمل علمه فيهم فيقيم الحدود عليهم لئلا يتحدث عنه أنه يقتل أصحابه على ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك جاهد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين قبل أن يؤمر بقتالهم بالقول خاصة.
وجهاد اليد زجر ذوي الأمر أهل المناكر عن المناكر والأباطيل والمعاصي المحرمات، وعن تعطيل الفرائض الواجبات، بالأدب والضرب على ما يؤدي إليه الاجتهاد في ذلك. ومن ذلك إقامتهم الحدود على القذفة والزناة وشربة الخمر. وجهاد السيف قتال المشركين على الدين.

فصل فكل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله، إلا أن الجهاد في سبيل الله إذا أطلق فلا يقيم بإطلاقه إلا على مجاهدة الكفار بالسيف حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

فصل والجهاد من أفضل أعمال البر وأزكاها عند الله تعالى. روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال: "إيمان بالله وجهاد في سبيله» . وأنه قال لرجل: «لو قمت الليل وصمت النهار ما بلغت نوم المجاهد» ، وقال لرجل له ستة آلاف دينار: "لو أنفقتها في طاعة الله ما بلغت غبار شراك نعل المجاهد ". وقال: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» .

(1/342)


فصل وإنما كان الجهاد من أفضل الأعمال لأن فيه بذل النفس في طاعة الله. ومن بذل نفسه في طاعة الله فقد بلغ الغاية التي لا يقدر على أكثر منها، ولذلك جازى الله الشهداء في سبيله لما أن بذلوا حياتهم في طاعته بأن أحياهم أفضل من حياتهم التي بذلوها في طاعته فقال عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ} [آل عمران: 170 - 171] ، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي سعيد الخدري أنه قال: «الشهداء يغدون ويروحون إلى الجنة ثم يكون مأواهم إلى قناديل معلقة تحت العرش» ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] ، وروي عن ابن عباس أنه قال: لقد أغلى لهم. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 11] {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 12] {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] ،

(1/343)


ومن أحبه الله أمنه من عذابه، وأكرمه بجواره في الجنة التي أعدها الله لأوليائه. وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20] {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21] {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 22] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع» ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته أن يدخله الجنة أو يرده إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة» . يريد أجرا وغنيمة، لأن أو ها هنا بمعنى الواو، إذ لا تنفي الغنيمة الأجر. وقد تكون أو على بابها فيكون معنى الكلام مع ما نال من أجر دون غنيمة أو غنيمة مع أجر. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «والذي نفسي بيده لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل فكان أبو هريرة يقول ثلاثا أشهد لله.» ويروى أنه «ما من أحد يصير إلى خير فيود الرجوع إلى الدنيا إلا الشهيد في سبيل الله فإنه يود أن يرجع إلى الدنيا فيقاتل في سبيل الله فيقتل مرة أخرى وذلك لما يرى من كرامة الله تعالى» . وفضائل الجهاد أكثر من أن تحصى كثرة.

فصل وأول ما بعث الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدعاء إلى الإسلام من غير قتال أمره به ولا أذن له فيه ولا جزية أحلها له، فأقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك عشر سنين وهي التي أقامها بمكة، وحينئذ أنزل الله عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ،

(1/344)


وقَوْله تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] ، وقَوْله تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ، وما أشبه ذلك من الآيات. فلما هاجر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة أذن الله تعالى له وللمؤمنين بقتال من قاتلهم وأمرهم بالكف عمن لم يقاتلهم، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] ، وقال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191] ، وقال تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} [النساء: 90] فكانت هذه سيرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين منذ هاجر إلى المدينة إلى أن نزلت سورة براءة وذلك بعد ثمان من الهجرة فأمره الله تعالى فيها بقتال جميع المشركين من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ، إلا من كان له عهد عند النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فإن الله أتمه له إلى مدته فقال تعالى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] .

(1/345)


فصل وفرض الله عز وجل الجهاد حينئذ على جميع المسلمين كافة فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36] ، وقال تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 11] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: 39] الآية. وقال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120] الآية، ثم نسخ الله تبارك وتعالى ذلك فجعل الفرض يحمله من قام به من المسلمين عن سائرهم فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] ، معنى الآية على ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما كان المؤمنون لينفروا كافة إلى عدوهم ويتركوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحده، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة أي عصبة يعني السرايا ولا يخرجوا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقالوا لهم إن الله قد أنزل على نبيكم من بعدكم قرآنا قد تعلمناه فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم وتبعث سرايا أخر، فذلك قوله ليتفقهوا في الدين. وقال الحسن: المعنى فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، أي ليتفقه الذين خرجوا بما

(1/346)


يريهم الله من الظهور على المشركين والنصر وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. وقيل إن الآية نزلت في قوم كان يبعثهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى البادية ليعلموا الناس الإسلام فلما أنزل الله: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120] انصرفوا من البادية إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه وممن عني بالآية، فأنزل الله الآية وكره انصراف جميعهم من البادية إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هو المختار من التفسير.

فصل فالجهاد الآن فرض على الكفاية يحمله من قام به بإجماع أهل العلم، فإذا جوهد العدو وحميت أطراف المسلمين وسدت ثغورهم سقط فرض الجهاد عن سائر المسلمين وكان لهم نافلة وقربة مرغبا فيها، إلا أن تكون ضرورة مثل أن ينزل العدو ببلد من بلاد المسلمين فيجب على الجميع إغاثتهم وطاعة الإمام في النفير إليهم.

فصل وقد كان الله أوجب في أول الإسلام على المسلمين أن لا يفروا عن الكفار قل عددهم أو كثر، فقال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] ثم نسخ ذلك عن عباده بقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] ، وقد قيل إن هذه الآية ليست بناسخة للأولى ولكنها مبينة لها ومخصصة لعمومها، وأن الله لم

(1/347)


يوجب قط على المسلمين أن يثبتوا لأكثر من عشرة أمثالهم، ثم نسخ الله ذلك تخفيفا ورحمة فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] ، فأباح الله تعالى للمسلمين الفرار من عدوهم إذا زاد عددهم على الضعف وخشوا أن يغلبوهم. وقد اختلف في تأويل الضعف فقيل هو في العدد فيلزم المسلمين أن يثبتوا لمثلي عددهم من المشركين وإن كانوا أشد منهم سلاحا وأظهر جلدا وقوة، وهو قول أكثر أهل العلم. وقيل في تأويل ذلك في الجلد والقوة، ويلزمهم أن يثبتوا لأكثر من الضعف إذا كانوا أشد منهم سلاحا وأكثر جلدا وقوة ولا يلزمهم أن يثبتوا لهم وإن كانوا أقل من الضعف إذا كان المشركون أشد منهم سلاحا، وأكثر جلدا وقوة وخافوا أن يغلبوهم، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك. والفرار من الزحف إذا كان العدو أقل من ضعف المسلمين في العدة أو في الجلد والقوة على ما ذكرناه من الاختلاف من الكبائر على مذهب مالك وأصحابه. وقد قال ابن القاسم لا تجوز شهادة من فر من الزحف. ولا يجوز لهم الفرار وإن فر إمامهم لقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] الآية. وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا. وإن بلغ اثني عشر ألفا لم يحل لهم الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة» فإن أكثر أهل العلم خصصوا هذا العدد بهذا الحديث من عموم الآية. وروي عن مالك ما يدل على ذلك من مذهبه، وقوله للعمري العابد إذ سأله هل له سعة في ترك مجاهدة من غير الأحكام وبدلها: إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك فلا سعة لك في ذلك. وقد قيل إن قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] خاص في أهل بدر لأنهم لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع عدوه

(1/348)


وينهزموا عنه، وأما اليوم فلهم الانهزام. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن يزيد بن أبي حبيب أنه قال: أوجب الله لمن فر يوم بدر النار، ثم كانت أحد بعدها فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155] ، ثم كانت حنين بعدها فأنزل الله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25 - 26] {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 27] ، فنزل العفو فيمن تولى من بعد يوم بدر. والصحيح أن تحريم الفرار من الزحف ليس بمخصوص بيوم بدر، وأنه عام في كل زحف إلى يوم القيامة. وكان تعبد الله به نبيه موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - له، ثم لم ينسخه بعد ذلك حتى صار من شريعة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والدليل على ذلك «ما روي أن رجلا من اليهود قال لآخر: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له الآخر: لا تقل هذا النبي فإنه إن سمعها كانت له أربعة أعين. فانطلقا إليه فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تفروا من الزحف، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطانه ليقتله، وعليكم يهود أن لا تعدوا في السبت. فقالوا نشهد أنك لرسول الله. وفي بعض الآثار فقبلوا يديه ورجليه وقالوا نشهد أنك نبي» . وهذا الحديث يخرج مخرج التفسير لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] [وما روي عن ابن عباس من رواية عكرمة في تفسير قَوْله تَعَالَى تسع آيات بينات] ، فقال اليد،

(1/349)


والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، والسنون، ونقص من الثمرات، لا يصح لمعارضة هذا الحديث، وإنما يصح ذلك والله أعلم في تفسير قَوْله تَعَالَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل: 12] ، ويدل على هذا التأويل أن هذا المعنى قد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من غير رواية عكرمة في تفسير قَوْله تَعَالَى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] ، لا في تفسير قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] وقد تكون الآيات العبادات من قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] ، وتكون المعجزات من قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ، فيحمل قَوْله تَعَالَى في سورة سبحان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] على العبادات التي تعبد بها على ما في الحديث الأول، ويحمل ما في سورة النمل من قَوْله تَعَالَى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12] على المعجزات والعلامات والإنذارات التي توعدوا بها إن لم يعملوا بما تعبدوا به على ما روي عن ابن عباس من غير رواية عكرمة، فتتفق الآثار ولا تتعارض، والله سبحانه وتعالى أعلم. ومما يدل على أن الفرار من الزحف ليس بمخصوص بيوم بدر عموم ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: إن الفرار من الزحف من الكبائر.

فصل ويجاهد العدو مع كل بر وفاجر. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» .

(1/350)


فصل ولا يجاهد الابن بغير إذن أبويه، ولا العبد بغير إذن سيده. وهذا في النافلة.
وأما في الفرض الذي يتعين على الأعيان فيلزمه أن يغزو وإن لم يأذنا له، لأنه إنما يلزمه أن يطيع أبويه في ترك النافلة، وأما في ترك الفريضة فلا. وقد روي في أصحاب الأعراف الذين حبسوا دون الجنة أنهم قوم غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم فقتلوا فأعتقهم الله بقتلهم وحبسهم عن الجنة بمعصيتهم آباءهم، فهم آخر من يدخل الجنة.

فصل وكذلك من عليه دين لا يجوز له أن يغزو إلا بإذن صاحب الدين إلا أن يكون الدين لم يحل عليه ويكون له وفاء به فيوكل من يقضيه عنه عند حلوله. وأما إن كان عديما لا شيء معه فله أن يغزو بغير إذن من له عليه الدين.

فصل والشهادة تكفر كل شيء إلا الدين. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأله رجل فقال يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر أيكفر الله عني خطاياي فقال نعم. فلما أدبر الرجل دعاه أو أمر به فدعي له فقال له كيف قلت فأعاد عليه قوله فقال له نعم إلا الدين، كذلك قال لي جبريل.» وقد قيل إن ذلك كان في أول الإسلام لما روي أن الله يقضي عنه دينه يوم القيامة.

فصل وإنما يقاتل الكفار على الدين ليدخلوا من الكفر إلى الإسلام لا على الغلبة.
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» . ولهذا تجب

(1/351)


الدعوة قبل القتال ليبين لهم علام يقاتلون لا من أجل أن دعوة الإسلام لم تبلغهم. والصحيح أن دعوة الإسلام قد بلغت جميع العالم، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] ، وقوله عز وجل: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8 - 9] ، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] ، فالأصل في دعاء العدو قبل القتال إلى الإسلام «حديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذ أعطاه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الراية قال له: "اذهب حتى تنزل بساحتهم فادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله على يديك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس» .

فصل وتقدم الدعوة قبل القتال من القرآن في قصة سليمان - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مع بلقيس بنت شراحيل ملكة أهل سبأ وما كان من كتابه إليها مع الهدهد {الرَّحِيمِ} [النمل: 30] {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] .

فصل وينبغي لأمير الجيش أن يكون في آخر الناس حتى يقدم المعتل بعيره ويلحق المريض الضعيف وبالله التوفيق.

فصل ولوجوب الجهاد ست شرائط لا يجب إلا بها، متى انخرم واحد منها سقط

(1/352)


وجوبه، وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والاستطاعة بصحة البدن وما يحتاج إليه من المال. فالدليل على صحة اشتراط الإسلام في وجوبه توجه الخطاب به إلى المؤمنين دون الكفار في غير ما آية من كتاب الله تعالى، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] الآية، وقال تعالى {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] الآية. والدليل على صحة اشتراط البلوغ والعقل في ذلك قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاث، وهم الصغير حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ» . والدليل على صحة اشتراط الحرية في ذلك هو أن الجهاد من الفرائض المتوجهة إلى الأبدان المتعينة في الأموال، فإذا سقط فرض الجهاد عمن لا مال له. بقوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] الآيات إلى آخرها، فهو ساقط عن العبد إذ لا مال له يقدر على إنفاقه. قال الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل: 75] ، ومنافعه أيضا مستحقة لسيده، فالجهاد على العبد ساقط من كل وجه. والدليل على صحة اشتراط الذكورة في ذلك أن الجهاد لا يتأتى للمرأة إلا بضد ما أمرت به من الستر والقرار في بيتها. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] ، وقال عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ} [الأحزاب: 33]

(1/353)


الآية. والدليل على صحة اشتراط الاستطاعة في ذلك بصحة البدن وما يحتاج إليه من المال قوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] الآية، وقوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]
فصل ولصحته وجوازه شرط واحد متى انخرم بطل ولم يصح، وهو النية. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نية المؤمن خير من عمله» . وقال «في عبد الله بن ثابت: "إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته» . والنية في الجهاد أن يجاهد الرجل ويقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ابتغاء ثواب الله تعالى. فينبغي للمجاهد أن يعقد نيته على ذلك، فإنه إذا عقد نيته على ذلك لم تضره إن شاء الله الخطرات التي قد تقع في القلب ولا تملك. روي «عن معاذ بن جبل أنه قال يا رسول الله إنه ليس من بني سلمة إلا مقاتل، فمنهم من القتال طبيعته، ومنهم من يقاتل رياء، ومنهم من يقاتل احتسابا فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة، فقال: "يا معاذ بن جبل، من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة» . وروي «أن رجلا قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيخفيه فيطلع عليه الناس فيسره فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لك أجر السر وأجر العلانية» .

(1/354)


فصل وله فرائض يجب الوفاء بها، قيل إنها خمس وهي: الطاعة للإمام، وترك الغلول، والوفاء بالأمان، والثبات عند الزحف، وأن لا يفر واحد من اثنين، وهي إلى الخمسين أقرب لأن تجنب الفساد كله في الغزو واجب، ومن لم يجتنب الفساد في غزوه لم يرجع منه كفافا. قال معاذ بن جبل: الغزو غزوان، فغزو تنفق فيه الكريمة ويعاشر فيه الشريك، ويطاع فيه ذو الأمر ويجتنب فيه الفساد فذلك الغزو خير كله، وغزو لا تنفق فيه الكريمة ولا يعاشر فيه الشريك ولا يجتنب فيه الفساد فذلك الغزو لا يرجع صاحبه كفافا.

[فصل في القول في الغنيمة]
فصل
في القول في الغنيمة الغنيمة ما غنمه المسلمون من أموال الكفار بقتال. قال الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية. والفيء ما صار إليهم من أموال الكفار بغير قتال. قال الله عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ، وقال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] الآية. وقد قيل بعكس ذلك إن الغنيمة ما صار إليهم من أموالهم بغير قتال، وإن الفيء ما صار إليهم بقتال. وهذا محتمل في اللسان، والأول هو الصحيح الذي يقصده القرآن. واسم الفيء يجمعهما جميعا، لأن الفيء هو الرجوع والغنيمة مما أرجعها الله إلى المسلمين من أموال الكفار. وكذلك الأنفال سمى الله بها الغنائم فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] يريد

(1/355)


غنائم بدر، لأن الآية فيها نزلت لما تشاجروا في قسمتها: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] الآية وهي أيضا تستعمل على الفيء والغنيمة، لأنهما عطيتان من الله تعالى لهذه الأمة خصها بهما دون سائر الأمم. والنافلة هي العطية، قال الله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] ، وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] ، ولهذا يسمى ما يعطى الإمام من الغنيمة سوى قسم الجيش نفلا. والذي سأل ابن عباس عن الأنفال إنما سأله والله أعلم عن اشتقاق اللفظ ومعنى كونها لله والرسول، فلم يقنع بما أجابه به ما فيه شفاء لمن اعتبر وردد عليه السؤال حتى أخرجه.

فصل وقد اختلف فيما ينفله الإمام فقيل إنه لا ينفل إلا من الخمس، لأن الأربعة الأخماس للغانمين والخمس مصروف إلى اجتهاد الإمام، وهو مذهب مالك. وقيل إنه لا ينفل إلا بعد الخمس من الأربعة الأخماس، لأن الخمس عندهم قد صرفه الله تعالى إلى المذكورين في الآية فلا يخرج عنهم منه شيء. وقيل إن له أن ينفل من جملة الغنيمة قبل أن يخمسها. ولا يرى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - للإمام أن ينفل قبل القتال لئلا يرغب الناس في العطاء فتفسد نياتهم في الجهاد، فإن وقع ذلك مضى للاختلاف الواقع في ذلك والآثار المروية فيه. وأما سلب القتيل فقيل إنه لا يكون للقاتل إلا أن ينفله إياه الإمام إما من الخمس، وإما من رأس الغنيمة، وإما بعد تخميسه على ما ذكرناه من الاختلاف فيما سوى السلب. وقيل إنه للقاتل حكم من النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لا يحتاج فيه إلى استئناف أمر من الإمام. وقيل إن الإمام يخمسه ولا يكون له منه إلا أربعة أخماسه. وقد قيل إن الإمام لا ينفل إلا من خمس الخمس، وهذا يرده حديث ابن عمر في السرية التي بعثها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(1/356)


قبل نجد [فغنموا إبلا كثيرة] فكانت سهامهم اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا.

فصل والفيء والخمس سواء لأن الله تعالى ساوى بينهما في كتابه فقال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] وقال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] . وقد اختلف في كيفية قسمتهما على ستة أقوال: أحدها أنهما لجميع المسلمين يوضعان في منافعهم ويقسمان عليهم ولا يختص بذلك الأصناف المذكورون في الآيتين، لأنهم إنما ذكروا فيها تأكيدا لأمرهم، وهذا هو مذهب مالك. والثاني أنه يقسم ذلك بالاجتهاد بين الأصناف المذكورين في الآيتين. والثالث أنه يقسم على ستة أسهم بالسواء بينهم: سهم لله يجعل في سبيل الخير، وسهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسهم لقرابته، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. والرابع أنه تؤخذ منه قبضة فتجعل في الكعبة ويقسم الباقي بالسواء على الخمسة الأصناف المذكورين. والخامس أنه يقسم على خمسة أسهم بالسواء ويجعل سهم الله مفتاح السهام لأن الدنيا وما فيها لله. والسادس أنه يقسم على أربعة أسهم بالسواء لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ويكون معنى قوله فلله وللرسول أن لهما الحكم في قسم ذلك بين من سمي في الآيتين. وقد اختلف الذين رأوا أن الخمس يقسم على خمسة أسهم في سهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسهم قرابته بعد وفاته، فقالت طائفة منهم يجعل في الكراع والسلاح، وقالت طائفة يكون سهم رسول الله للخليفة بعده، وسهم قرابته لقرابة الخليفة. وقالت طائفة منهم يقسم سهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سائر الأصناف، ويكون سهم قرابته باقيا عليهم إلى يوم القيامة. واختلف في قرابته الذين جعل الله لهم سهما من الفيء والغنيمة وحرم عليهم الصدقة اختلافا

(1/357)


كثيرا قد ذكرته في غير هذا الموضع. ومن ذهب إلى أن سهم قرابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسقط بوفاته لم يحرم عليهم الصدقة، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.

فصل وثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس أرض خيبر وقسمها بين الموجفين عليها بالسواء» وأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أبقى سواد العراق ومصر وما ظهر عليه من الشام ليكون ذلك في أعطيات المقاتلة وأرزاق المسلمين ومنافعهم، فقيل إنه استطاب أنفس المفتتحين لها، ومن شح بترك حقه منها أعطاه فيه الثمن، فعلى هذا لا يخرج فعله عما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأرض خيبر. وإلى هذا ذهب بعض أهل العراق وقال إن أقر أهلها فيها لعمارتها كانت ملكا لهم أسلموا أو لم يسلموا يجري عليها الخراج إلى يوم القيامة، على ما روي أن عمر وضع على مساحة جريب البر كذا، وعلى مساحة جريب الشعير كذا وعلى مساحة جريب التمر كذا. ومن جعل على مساحة جريب التمر خراجا معلوما في كل عام استدلوا على أنها ملك لهم، إذ لو كانت ملكا للمسلمين لكان ذلك بيع التمر قبل أن يخلق. وقيل إنه أبقاها بغير شيء أعطاه الموجفين عليها وأنه تأول في ذلك قَوْله تَعَالَى في آية سورة الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقد اختلف على هذا في آية الفيء هذه وآية الغنيمة التي في سورة الأنفال، فقيل إنهما محكمتان على سبيل التخيير، فالإمام مخير بين أن يقسم أرض العنوة على ما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض خيبر مبينا لعموم آية سورة الأنفال أنها على عمومها، وبين أن يبقيها كما أبقاها عمر على ما استدل به من آية الحشر، وإلى هذا ذهب أبو عبيد. وقيل إن آية

(1/358)


الحشر ناسخة لآية الأنفال، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين بفعله في أرض خيبر أنها على عمومها في جميع الغنائم من الأرض وغيرها، فنسخت آية الحشر من ذلك الأرض خاصة، وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي. وقيل إن آية الحشر مخصصه لآية الأنفال ومفسرة لها ومبينة أن المراد بها ما عدا الأرض من الغنائم، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قسم أرض خيبر لأن الله تعالى وعد بها أهل بيعة الرضوان فقال: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح: 20] فهي مخصصة بهذا الحكم دون سائر الأرضين المغنومة.

فصل وإذا أبقى الإمام أرض العنوة وأقر أهلها فيها لعمارتها ضربت عليهم الجزية على ما فرض عمر، وسوقوا في السواد، ووضع عليهم الخراج في البياض بقدر اجتهاد الإمام. وهذا وجه قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة: لا علم لي بجزية الأرض وأرى أن يجتهد في ذلك الإمام ومن حضره إن لم يجد علما يشفيه لأنه إنما توقف في مقدارها، وقيل إنما توقف هل عليها جزية أو لا جزية عليها وتترك لهما فيستعينون بها على أداء الجزية دون خراج، وقيل إنه إنما توقف فيما يوضع عليها من الخراج هل يسلك بها مسلك الفيء أو مسلك الصدقة، قال ذلك الداروردي. وحكي عن ابن القاسم أنه قال: والذي ينحو إليه مالك أنه يسلك به مسلك الفيء. واختلف على المذهب فيهم، فقيل إنهم عبيد للمسلمين، وقيل إنهم أحرار لأن إقرارهم لعمارة الأرض من ناحية المن الذي قال الله عز وجل فيه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] وعلى هذا الاختلاف يجري الاختلاف فيما عدا الأرض من أموالهم، فمن رآهم عبيدا جعل أموالهم

(1/359)


للمسلمين إذا أسلموا إن شاؤوا انتزاع ذلك منهم ولا يكونون أحرارا بإسلامهم. وعلى هذا تأتي رواية سحنون عن ابن القاسم. ومن رآهم أحرارا قال تكون لهم أموالهم إذا أسلموا لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء فهو له» وعلى هذا يأتي ما في سماع عيسى عن ابن القاسم من كتاب التجارة إلى أرض الحرب. وتفرقة ابن المواز بين ما كان بأيديهم يوم الفتح وبين ما استفادوه بعد الفتح ليست جارية على قياس. وأما الأرض التي أقروا فيها لعمارتها فلا حق لهم فيها إلا عند بعض أهل العراق على ما قد ذكرته وبالله التوفيق.

(1/360)


[القول فيما حازه المشركون من أموال المسلمين]
اختلف أهل العلم فيما حازه المشركون من أموال المسلمين هل يملكونه بحيازتهم إياه أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها أنهم لا يملكونه بحيازتهم إياه. والثاني أنهم يملكونه بحيازتهم إياه. والثالث الفرق بين ما غلبوا عليه أو أبق إليهم.

فصل فعلى القول بأنهم لا يملكونها بحيازتهم إياها لا يرتفع ملك أربابها عنها، فإن غنمها المسلمون لم تقسم في المغانم وردت على أربابها إن علموا، ووقفت لهم إن جهلوا. وإن لم يعلم أنها كانت للمسلمين حتى قسمت فجاء أربابها أخذوها بغير ثمن على حكم الاستحقاق، وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأحد قولي الأوزاعي وجماعة من أهل العلم سواهم. والحجة لهم من طريق الآثار «حديث عمران بن حصين في ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العضباء إذ أغار عليها المشركون في سرح المدينة فنجت عليها امرأة ونذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها فلما قدمت بها المدينة عرفت الناقة وأتي بها النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فأخذها على ما جاء في بعض الآثار وأخبرته المرأة بنذرها فقال بئسما جزيتها لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم.» وموضع الحجة من الحديث أن المشركين لو ملكوا الناقة

(1/361)


لكانت للمرأة التي نجت عليها ويلزمها النذر فيها. والحجة لهم من طريق النظر أنهم لما أجمعوا على أنهم لا يملكون رقابنا وجب أن لا يملكوا أموالنا، لأن النظر يوجب أن لا يفرق بين أموالنا ورقابنا في أنهم لا يملكونها، كما لا يفرق بين رقابهم وأموالهم في أنا نملكها.

فصل وعلى القول بأنهم يملكونها بحيازتهم إياها يرتفع ملك أربابها عنها، فإن غنمها المسلمون كانت غنيمة للجيش ولم يكن لأربابها أخذها قبل القسم ولا بعده. وقيل إن لهم أن يأخذوها إن أدركوها قبل القسم، فإن قسمت لم يكن لهم إليها سبيل. وقيل إن لهم أن يأخذوها بعد القسم بالثمن، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه على الآثار الواردة في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عباس وتميم بن طرفة، الطائي، وهو على قياس القول بأن الغانمين لا يتقرر ملكهم على الغنيمة إلا بالقسم، فيحد منهم من وطئ جارية منها، ولا يجوز عتقه فيها.

فصل ولا يخلو ما يحوزه أهلك الحرب عن المسلمين من ستة أشياء: أحدها أحرار المسلمين. والثاني أحرار أهل الذمة. والثالث أموال المسلمين وأهل الذمة لأن الحكم في ذلك سواء. والرابع أمهات أولاد المسلمين. والخامس مدبروهم ومعتقوهم إلى أجل. والسادس مكاتبوهم.
ولا يخلو ما حازوه من ذلك كله من ستة أحوال: أحدها أن يبيعوه في بلادهم. والثاني أن يقدموا به بأمان. والثالث أن يغنمه المسلمون. والرابع أن يسلموا عليه. والخامس أن يصالحوا على هدنة وهو في أيديهم. والسادس أن يصالحوا على أداء جزية وذلك في أيديهم، فهذه ست وثلاثون مسألة، لأن لكل شيء من الستة الأشياء التي حازوها ستة أحوال كما ذكرنا، وكل مسألة تختص منها بأحكام نذكر منها ما يدل على باقيها إن شاء الله تعالى.

(1/362)


فصل فأما إذا حاز أهل الحرب أحرار المسلمين وباعوهم فذلك فداء يكون للمشتري الفادي أن يتبع المفدي بما فداه به إلا أن يكونا زوجين فيفدي أحدهما صاحبه وهو عالم به بغير أمره فلا يتبعه بشيء. واختلف إن كان المفدي ممن يعتق على المفدي فقيل إنه لا يتبعه بما فداه به علم أو لم يعلم، وهو قول ابن حبيب. وقيل إنه لا يتبعه إذا علم، وهو الذي يأتي على ما في المدونة. واختلف إن كان ذا محرم منه إلا أنه لا يعتق عليه فقيل إنه كالزوجة لا يتبعه إذا علم إلا إذا فداه بأمره. وقيل إنه كالأجنبي يتبعه في كل حال. وأما إن كان من ذوي رحمه لا من ذوي محارمه فلا اختلاف في أنه كالأجنبي يتبعه في كل حال.
وإن قدموا بهم بأمان لم يفادوا منهم إلا عن طيب أنفسهم، وإن أبوا إلا الرجوع بهم إلى بلادهم كان ذلك لهم عند ابن القاسم خلاف ما حكى ابن حبيب عن مالك وأصحابه سواء. وإن غنمهم المسلمون كانوا أحرارا ولم يكن عليهم شيء إلا أن يباعوا في المقاسم فلا يدعوا شيئا وهم ممن يجهل أن ذلك لا يجب عليهم فإنهم يتبعون بالأثمان على أحد قولي ابن القاسم في العتبية،. وإن أسلموا عليهم أطلقوهم ولم يكن لهم عليهم سبيل. وإن صالحوا على هدنة لم يفادوا منهم إلا عن طيب أنفسهم. وإن صالحوا على أداء جزية فروى يحيى عن ابن القاسم أنهم لا ينزعون منهم، وروى عنه سحنون أنهم يؤخذون منهم بالقيمة، وهو الصواب الذي لا يصح سواه، لأن الذمي إذا أسلم عبده يباع عليه ولا يقر بيده، فكيف بأحرار المسلمين.

فصل وأما إذا حازوا أحرارا من أهل الذمة فإن باعوهم ردوا إلى ذمتهم وتبعهم المشتري بالثمن، وإن قدموا بهم بأمان لم يكن لأحد عليهم فيهم سبيل، إن شاءوا

(1/363)


باعوا وإن شاءوا رجعوا بهم إلى بلادهم، ولا خلاف في هذا أعرفه. فإن غنمهم المسلمون ردوا إلى ذمتهم ولم يكن عليهم شيء إلا أن يباعوا وهم ساكتون غير جاهلين بأن ذلك لا يجب عليهم فعلى ما تقدم من خلاف ابن القاسم في المسألة التي قبلها. وإن أسلموا عليهم فقال في المدونة إنهم يكونون رقيقا لهم، وقال ابن حبيب يردون إلى ذمتهم، وهو اختيار إسماعيل. وإن صالحوا على هدنة لم يعرض لهم، وإن صالحوا على أداء جزية تخرج ذلك على قولين في المذهب لابن القاسم وبالله التوفيق.

[فصل في الرباط]
فصل
في الرباط والرباط شعبة من شعب الجهاد، وهو ملازمة الثغور لحراسة من بها من المسلمين، وهو مأخوذ من الربط لأنه إذا لازم الثغر فكأنه قد ربط نفسه به. قال الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] والأجر فيه على قدر الخوف من ذلك الثغر وحاجة أهله إلى حراستهم من العدو. وقد روي أن عبد الله بن عمر قال: فرض الجهاد لسفك دماء المشركين، والرباط لحقن دماء المسلمين فحقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين، فقيل إن ذلك إنما قاله حين دخل الجهاد ما دخل، فقد قال عمر بن الخطاب اغز ما دام الغزو حلوا خضرا قبل أن يكون مرا عسيرا ثم يكون ثماما ثم يكون رماما ثم يكون حطاما. فإذا انتطت المغازي وكثرت العزائم واستحلت الغنائم فخير جهادكم الرباط. والثمام: الرطب من النبات،

(1/364)


والرمام: اليابس. والحطام: الذي يتحطم ويتكسر. وقوله انتطت يعني تباعدت. وقوله العزائم يريد حمل السلطان شدة الأمر عليهم والعزم فيما يشق عليهم لبعد المغزى أو قلة عونه لهم وغير ذلك. فدل ذلك من قوله على أن الجهاد على السنة أفضل من الرباط. وكذلك روى ابن القاسم عن مالك في جهاد المستخرجة. والأظهر في تأويل ذلك عندي أن معناه عند شدة الخوف على أهل ذلك الثغر وتوقع هجوم العدو عليهم وغلبته إياهم على أنفسهم ونسائهم وذراريهم، إذ لا شك أن إغاثتهم في ذلك الوقت وحراستهم مما يتوقع عليهم أفضل من الجهاد إلى أرض العدو، فلا يصح أن يقال إن أحدهما أفضل من صاحبه على الإطلاق، وإنما ذلك على قدر ما يرى وينزل. وذلك قائم من قول مالك في سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور: ويستحب الرباط أربعين ليلة، لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تمام الرباط أربعون ليلة» . وفضائل الرباط المروية كثيرة. منها ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رباط ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقوم ليلها ويصوم نهارها لا يفطر» وأنه قال: «من رابط فواق ناقة حرمه الله على النار» . قال ابن حبيب: هو قدر ما تحلب فيه. وليس من سكن الثغر بأهله وولده مرابطا، وإنما المرابط من خرج من منزله معتقدا الرباط في موضع الخوف وبالله التوفيق.

[فصل في الحكم في الأسرى]
فصل
في الحكم في الأسرى قال الله عز وجل: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57] وقال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]

(1/365)


وقال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67] فذهب مالك وجمهور أهل العلم إلى أن الإمام مخير في الأسرى بين خمسة أشياء: إما أن يقتل، وإما أن يأسر ويستعبد، وإما أن يمن فيعتق، وإما أن يأخذ فيه الفداء، وإما أن يعقد عليه الذمة ويضرب عليه الجزية، لأنه استعمل الآيات كلها وفسر بعضها ببعض ولم ير فيها ناسخا ولا منسوخا، لأن الآية الأولى قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] الآية توجب قتل الأسير وألا يستحيى عموم يحتمل الخصوص، فخصصتها الآية الثانية قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] وبينت أن المراد بذلك قبل الإثخان، وأن الحكم فيها بعد الإثخان شد الوثائق للمن والفداء. أو بينت الآية الثالثة قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] أن شد الوثائق بالمن والفداء،، المذكور في الآية الثانية آية سورة القتال إنما هو على التخيير لا على الإلزام وتحريم القتل، لأن تقدم الحظر على الأمر قرينة تدل على أن المراد به الإباحة لا الوجوب. وقد كان الأسر محظورا قبل الإثخان، فدل ذلك على أن قوله: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] معناه إن شئتم، مثل قوله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] بعد قوله عز وجل: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ومثل قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] بعد قوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] .

(1/366)


فصل وقولنا إن تقدم الحظر على الأمر قرينة تدل على أن المراد به الإباحة ليس بإجماع. قد قيل إن ذلك لا يدل على الإباحة. فإذا قلنا بهذا فالدليل على أن المراد بذلك التخيير بين القتل وإباحة الأسر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل صبرا من أساري بدر عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث» .

فصل والتخيير في الأسرى ليس على الحكم فيهم بالهوى، وإنما هو على وجه الاجتهاد في النظر للمسلمين، كالتخيير في الحكم في حد المحارب. فإن كان الأسير من أهل النجدة والفروسية والنكاية في المسلمين قتله الإمام ولا يستحييه، وإن لم يكن على هذه الصفة وأمنت غائلته وله قيمة استرقه للمسلمين وقبل فيه الفداء إن بذل فيه أكثر من قيمته، وإن لم تبذل فيه قيمة ولا فيه محمل لأداء الجزية أعتقه كالضعفاء والزمنى الذين لا قتال عندهم ولا رأى لهم ولا تدبير. فمن الضعفاء والزمنى الذين لا يقتلون المعتوه والمجنون واليابس الشق باتفاق، والأعمى والمقعد على اختلاف. والاختلاف في هذا على اختلافهم في وجوب السهم لهم من الغنيمة، وفي جواز إعطائهم من المال الذي يجعل في السبيل، وإن لم تكن له قيمة وفيه محمل لأداء الجزية عقد له الذمة وضربت عليه الجزية. واختلف قول مالك إذا لم يعرف حاله، فمرة قال إنه لا يقتل إلا أن يكون معروفا بالنجدة والفروسية، ومرة قال إنه يقتل، وهو الذي ذهب إليه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في كتابه إلى عماله أن يقتلوا من جرت عليه المواسي ولا يسبوا من علوجهم أحدا.

فصل وإن رأى الإمام باجتهاد مخالفة ما وصفناه من وجوه الاجتهاد كان ذلك له، مثل أن يبذل الفارس المعروف بالنجدة والفروسية في نفسه المال الواسع الكثير

(1/367)


فيرى الإمام أخذه أولى من قتله بما ظهر إليه في ذلك من النظر للمسلمين والاستعانة بما يأخذ منه على المشركين وما أشبه ذلك من وجوه الاجتهاد. هذا تحصيل القول في حكم الأسرى. وحكى الداروردي في كتاب الأموال أن أكثر أصحاب مالك يكرهون فداء الأسرى بالمال ويقولون إنما كان ذلك ببدر لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه سيظهر عليهم وساق القصة في ذلك. قال وإنما يتفق على جواز فدائهم بأسرى المسلمين والذي ذكرته هو الصحيح.

فصل ومن أهل العلم من جعل الآية الأولى ناسخة للآيتين الثانية والثالثة فقال: إن الأسير يقتل على كل حال ولا يجوز استحياؤه. وممن قال بذلك قتادة وجماعة من المفسرين. ومنهم من حمل قَوْله تَعَالَى في الآية الثانية {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] على الإلزام لا على التخيير، وجعلها ناسخة للآية الأولى في إيجاب القتل، وللآية الثانية فيما يقتضيه من التخيير فقال إن الأسير لا يقتل صبرا. وممن ذهب إلى هذا عبد الله بن عمر، والحسن، وعطاء. وهذا كله بعيد، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل وأسر فوقع فعله موقع البيان لما في القرآن، والله المستعان.

[فصل في الجزية]
فصل
في الجزية والجزية ما يؤخذ من أهل الكفر جزاء على تأمينهم وحقن دمائهم مع إقرارهم على كفرهم، وهي على وجهين: عنوية وصلحية. وأما الصلحية فلا حد لها إذ لا يجبرون عليها ولأنهم منعوا أنفسهم وأموالهم حتى صالحوا عليها فإنما هي على ما يراضيهم عليه الإمام من قليل أو كثير على أن يقروا في بلادهم على دينهم إذا كانوا بحيث تجري عليهم أحكام المسلمين وتؤخذ منهم الجزية عن يد وهم صاغرون. كذا نص ابن حبيب في الواضحة. وعنده أن الجزية الصلحية لا حد لها إلا ما صولحوا عليه من قليل أو كثير، وهو كلام فيه نظر. والصحيح أنه لا حد لأقلها يلزم أهل الحرب الرضا به لأنهم مالكون لأمرهم، وأن لأقلها حدا إذا بذلوه لزم الإمام

(1/368)


قبوله وحرم عليه قتالهم لقول الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ولم أر لأحد من أصحابنا في ذلك حدا. والذي يأتي على المذهب عندي أن أقلها ما فرض عمر على أهل العنوة، فإذا بذل ذلك أهل الحرب في الصلح على أن يؤدوه عن يد وهم صاغرون لزم الإمام قبوله وحرم عليه قتالهم. وله أن يقبل منهم في الصلح أقل من ذلك وإن كانوا أغنياء وقال الشافعي: أقل الجزية دينار، ولا يتقدر أكثرها لأنه إذا بذل الأغنياء دينارا حرم قتالهم وهذا نص منه على أن أقل الجزية دينار، ولا يتقدر أكثرها معناه أنه ليس لكثرة ما يبذلونه في الصلح حد لا يجوز للإمام أن يتجاوزه، بخلاف أهل العنوة الذي لا يجوز للإمام أن يتجاوز فرض عمر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل وهي على ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون الجزية مجملة عليهم، والثاني أن تكون مفرقة على رقابهم دون الأرض، والثالث أن تكون مفرقة على رقابهم وأرضهم أو على أرضهم دون رقابهم، مثل أن يقول على كل رأس كذا وكذا، وعلى كل زيتونة كذا وكذا وعلى كل بيدر قفيز من الأرض كذا وكذا. ولكل وجه من هذه الوجوه أحكام تختص به.

فصل فأما إذا كانت الجزية مجملة عليهم فذهب ابن حبيب إلى أن الأرض موقوفة للجزية لا تباع ولا تورث ولا تقسم ولا تكون لهم إن أسلموا عليها، وأن مال من مات منهم لوارثه من أهل دينه إلا أن لا يكون له ورثة من أهل دينه فيكون للمسلمين. وذهب ابن القاسم إلى أن أرضهم بمنزلة مالهم يبيعونها ويرثونها ويقتسمونها وتكون لهم إن أسلموا عليها، وإن مات منهم ميت ولا وارث له من أهل دينه فأرضه وماله لأهل مواده ولا يمنعون من الوصايا وإن أحاطت بأموالهم إذ لا ينقصون من الجزية شيئا لموت من مات.

(1/369)


فصل وأما إن كانت الجزية مفرقة على رقابهم فلا اختلاف أن لهم أرضهم ومالهم يبيعون ويورثون وتكون لهم إن أسلموا عليها، ومن مات منهم ولا وارث له من أهل دينه فأرضه وماله للمسلمين، ولا تجوز وصيته إلا في ثلث ماله.

فصل وأما إن كانت الجزية مفرقة على الجماجم والأرض أو على الأرض دون الجماجم فاختلفوا في جواز بيع الأرض على ثلاثة أقوال: أحدها أن البيع لا يجوز، وهي رواية ابن نافع عن مالك في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة. والثاني أن البيع جائز ويكون الخراج على البائع وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها. والثالث أن البيع جائز ويكون الخراج على المبتاع ما لم يسلم البائع، وهو مذهب أشهب وقوله في المدونة ولا اختلاف أنها تكون لهم إن أسلموا عليها وأنهم يورثونها بمنزلة سائر أموالهم قرابتهم من أهل دينهم أو المسلمون إن لم يكن لهم قرابة من أهل دينهم.

فصل فإن صالحوا على الجزية مبهمة من غير بيان ولا تحديد وجبت لهم الذمة وحملوا في الجزية محمل أهل العنوة في جميع وجوهها على ما سنفصله إن شاء الله تعالى.

فصل وأما الجزية العنوية، وهي الجزية التي توضع على المغلوبين على بلادهم المقرين فيها لعمارتها، فإنها عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على ما فرضها عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق، مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام، إلا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى رأى أن توضع عنهم الضيافة إذ لم يوف لهم بالعهد على وجهه. ومعنى ذلك أنه لا يسوغ لأحد ممن مر بهم أن يطالبهم بالضيافة إذا علم أنه لم يوف لهم بالعهد. وكذلك من

(1/370)


استؤمنوا على أن يكونوا من أهل ذمة المسلمين حكمهم حكم أهل العنوة في الجزية. هذا حد الجزية عند مالك لا يزاد فيها على الغني لغناه ولا ينقص عن الفقير لفقره إذا كانت له قوة على احتمالها. واختلف إن ضعف عن حمل جملتها فقيل إنها توضع عنه، وهو الظاهر من مذهب ابن القاسم، وقيل إنه يحمل منها بقدر احتماله، قال القاضي أبو الحسن، ولا حد لذلك. وقيل إن حد أقل الجزية دينار أو عشرة دراهم.

فصل فيتحصل في حد الجزية في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها أن حدها ما فرض عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لا يزاد عليه ولا ينقص منه. والثاني أن حد أكثرها ما فرض عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ولا حد لأقلها، وإلى هذا ذهب القاضي أبو الحسن. والثالث أن حد أكثرها ما فرض عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وحد أقلها دينار أو عشرة دراهم، وهو مذهب أبي حنيفة، إلا أن الدينار عنده باثني عشر درهما، فقال إنه يؤخذ من الغني أربعة دنانير إن كان من أهل الذهب وثمانية وأربعون درهما إن كان من أهل الورق، ومن المتوسط الحال نصف ذلك، ومن الفقير ربع ذلك دينار أو اثنا عشر درهما.

فصل ولا تؤخذ الجزية إلا من الرجال الأحرار البالغين لأنها ثمن لتأمينهم وحقن دمائهم، والصبي والمرأة لا يقاتلان، والعبد مال من الأموال. واختلف فيه إذا أعتق على ثلاثة أقوال: أحدها أن عليه الجزية لأنه حر له ذمة المسلمين فوجبت عليه الجزية لهم. الثاني أنه لا جزية عليه لأنه كان مؤمنا محقون الدم، والجزية إنما هي ثمن لحقن الدم. والثالث الفرق بين أن يعتقه مسلم أو كافر، وهذا قول ابن القاسم وروايته عن مالك. وهذا الاختلاف إنما هو إذا أعتق في بلاد الإسلام، وأما إذا أعتق في دار الحرب فتكون عليه الجزية على كل حال.

فصل وتؤخذ الجزية من أهل الذمة عند وجوبها. واختلف في حد وجوبها فقيل إنها

(1/371)


تجب بأول الحول حين تعقد لهم الذمة، ثم بعد ذلك عند أول كل حول، وهو مذهب أبي حنيفة. وقيل إنها لا تجب إلا بآخر الحول، وهو مذهب الشافعي، وليس عن مالك وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى في ذلك نص. والظاهر من مذهبه وقوله في المدونة أنها تجب بآخر الحول، وهو القياس، لأنها إنما تؤخذ منهم سنة بسنة جزاء على تأمينهم وإقرارهم على دينهم يتصرفون في جوار المسلمين وذمتهم آمنين، يقاتل عنهم عدوهم ولا يلزمهم ما يلزم المسلمين، فهي عليهم بإزاء الزكاة على المسلمين، غير أنها تؤخذ منهم على وجه الذلة والصغار، وتؤخذ الزكاة من المسلمين تطهيرا لهم وتزكية. ألا ترى أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كان يأخذ من نصارى العرب في جزيتهم الزكاة مضاعفة إكراما لهم فوجب أن تجب بمرور الحول كالزكاة. وتحرير قياس ذلك أن الجزية حق في المال فيتعلق وجوبه بالحول، فوجب أن يؤخذ في آخره كالزكاة.

فصل وكذلك الحكم في الجزية الصلحية إذا وقعت مبهمة من غير تحديد كما ذكرنا. وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن هذا الاختلاف إنما هو في الجزية الصلحية، وأن الصحيح فيها من القولين أن تؤخذ معجلة عند أول الحول لأنها عوض عن تأمينهم وحقن دمائهم وترك قتالهم، وقد وجب لهم ذلك بعقد الصلح وتقرر، فوجب أن يتنجز منهم العوض قياسا على سائر عقود المعاوضات. واستدل على ذلك أيضا بقول الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] وقال إن لفظ الإعطاء إذا أطلق فالظاهر منه قبض العطية دون إيجابها. ولو كان محتملا للوجهين احتمالا واحدا لكان قَوْله تَعَالَى عن يد دليلا على أن المراد به القبض، لأن من قال أعطيت فلانا عن يد يفهم منه تعجيل العطاء ودفعه إلى المعطى، قال وهو الذي يأتي على مذهب مالك لأنه قال في تجار الحربيين أن يؤخذ منهم ما صالحوا عليه باعوا أو لم يبيعوا، فوجب أن يؤخذ منهم ما صالحوا عليه بحصول التأمين لهم وإن لم يحصلوا على ما أملوه من الانتفاع بالبيع والشراء. وإن الجزية

(1/372)


العنوية تؤخذ في آخر الحول بلا خلاف لأنهم عبيد للمسلمين، وما يؤخذ منهم في الجزية كالخراج، فوجب أن يؤخذ منهم بعد استيفاء المنفعة وانقضاء المدة. وفي هذا كله نظر.
أما قوله في الجزية الصلحية إنها عوض عن تأمينهم وترك قتالهم وحقن دمائهم وقد وجب لهم ذلك وتقرر بعقد الصلح فوجب أن يتنجز منهم العوض قياسا على سائر عقود المعاوضات فليس ذلك بصحيح، لأنها إنما هي عوض عن تأمينهم وحقن دمائهم على التأبيد، فإن كان قد وجب لهم الأمان وتقرر بعقد الصلح فلم يحصل لهم بعد ولا استوفوه، وإنما يحصل الاستيفاء بمرور المدة عاما بعد عام لجواز الخفر بهم فيما يأتي من المدة. وإنما ذلك في القياس بمنزلة من أسكن رجلا داره أعواما على أن يؤدي إليه في كل عام كذا وكذا فلا يجب على المسكن أن يؤدي واجب كل عام إلا في آخره، [لأن السكن إن كان قد وجب له وتقرر بالعقد فلم يقبضه بعد ولا استوفاه] .

فصل وأما استدلاله على ذلك بظاهر قول الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] وقوله إن لفظ الإعطاء عن يد إذا أطلق الأظهر منه التعجيل وإن كان يحتمل أن يراد به التأخير فلا يصح، بل الآية حجة لنا ودلالة على صحة قولنا، لأنه قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] فعم بالجزية ولم يخص منها شيئا دون شيء، فوجب بحق الظاهر أن تكون كلها معجلة، فيكون معنى الإعطاء القبض والدفع، أو تكون كلها مؤجلة فيكون الإعطاء بمعنى الإيجاب دون الدفع والقبض، من قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] فلما بطل أن تكون كلها معجلة للإجماع على أن جزية العام الثاني وما بعده من الأعوام لا تقبض في أول العام الأول صح أنها كلها مؤجلة لا يتنجز قبض شيء منها ولا يصح في عقل عاقل أن يقول إن

(1/373)


ظاهر لفظ الإعطاء قبض بعض المعطى وإيجاب بعضه. وإذا لم يصح ذلك فقول الله عز وجل لا دليل فيه على أن مراده بيعطوا الجزية تنجز القبض وإنما معناه على ما قيل عن غلبة وقهر، لأن الأيد القوة. قال الله عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] أي بقوة وقدرة. وليل يعطونها بإنعام عليهم لأن [قبولها منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم إذ] ، اليد تكون عند العرب بمعنى النعمة. وقيل معناه أن يدفعوها عند وجوبها عليهم بأيديهم لا يرسلوا بها كما يفعل الجبارون المتكبرون. ويؤيد هذا التأويل قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .

فصل وأما استدلاله على أن مذهب مالك تنجز قبض الجزية عنا أول العام من قوله في تجار الحربيين إنه يؤخذ منهم ما صالحوا عليه باعوا أو لم يبيعوا فلا دليل له في ذلك على ما ذهب إليه، بل يدل ذلك من قوله - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على أن الجزية لا تؤخذ إلا في آخر الحول على ما عزينا إليه وتأولناه عليه، لأنه لم يقل أن يؤخذ منهم ما صولحوا عليه عند عقد الصلح معهم قبل أن يدخلوا للتجارة، وإنما قال إنه يؤخذ ذلك منهم إذا دخلوا وأقاموا للتجارة القدر الذي صولحوا على إقامته، فهم لو شاءوا أن يبيعوا باعوا، فليس تركهم لبيع سلعهم باختيارهم بالذي يسقط الحق الواجب عليهم في دخولهم بلاد المسلمين ومقامهم فيها في جوارهم وتحت ذمتهم.

فصل وكذلك قوله إن الخلاف غير داخل في الجزية العنوية لا يصح، لأن العلة التي اعتل بها من أن أخذ الجزية في أول الحول وهي الانتفاع بالعقد لإيجابه لهم الذمة والأمان موجودة في هؤلاء لإيجابها لهم البقاء في بلاد المسلمين أحرارا أو بمنزلة الأحرار وهم على كفرهم آمنون.

(1/374)


فصل واختلف فيمن أسلم بعد وجوب الجزية عليه إما بأول الحول وإما بآخره على الاختلاف المتقدم في ذلك هل تسقط عنه الجزية أم لا على قولين: فذهب الشافعي إلى أنها لا تسقط عنه ويؤخذ بها بعد إسلامه، وذهب أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أنها تسقط عنه بإسلامه، وهو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه. والدليل على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا جزية على مسلم» . وكتب عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون، لأن الوضع لا يكون إلا فيها قد وجب. وأما سقوطها عنهم فيما يستقبل بعد إسلامهم فليس مما يشكل حتى يحتاج عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلى كتابه بذلك إلى عماله فلا يصح أن يحمل كلامه على ذلك.

فصل والكفار في أخذ الجزية منهم على أربعة أصناف: صنف تؤخذ منهم الجزية باتفاق. [وصنف لا تؤخذ الجزية منهم باتفاق] . وصنف تؤخذ الجزية منهم على اختلاف. وصنف اختلفوا فيما يؤخذ منهم في الجزية.

فصل فأما الذين تؤخذ منهم الجزية باتفاق فأهل الكتاب والمجوس من العجم.
تؤخذ من أهل الكتاب بنص القرآن قال الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ومن المجوس العجم وهم ما عدا أهل الكتاب فتؤخذ منهم بالسنة والقياس، فأما السنة فقوله في حديث عبد الرحمن بن عوف «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» يريد في الجزية،

(1/375)


«وأخذه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزية من مجوس البحرين» . وأما القياس فهو أن الجزية إذا كانت تؤخذ من أهل الكتاب إذلالا وإصغارا مع أنهم أقرب إلى الحق لإقرارهم بالنبوة والشريعة المتقدمة فالمجوس أحرى بذلك منهم، إذ لا يقرون بشيء من ذلك. وقد قيل في المجوس إنهم أهل كتاب، روي ذلك عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» معناه على قوله الذين يعلم كتابهم على ظهور واستفاضة.

فصل وأما الذين لا تؤخذ منهم الجزية باتفاق فكفار قريش والمرتدون. أما المرتدون فلأنهم ليسوا هم على دين يقرون عليه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاضربوا عنقه» . وأما كفار قريش فقيل إنما لم تؤخذ منهم الجزية لأنه لا يجوز أن يجري عليهم ذلة ولا صغار لمكانهم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإن كانوا من أهل الكتاب تخصصوا من عموم الآية بالإجماع ولم يجز في أمرهم إلا الإسلام أو السيف، وهذا الإجماع حكاه ابن الجهم. وقال القزويني إنما لم تؤخذ الجزية من كفار قريش لأن جميعهم أسلم يوم الفتح، فلا يكون قرشي كافرا إلا مرتدا والمرتد لا تؤخذ منه الجزية لأنه ليس على دين يقر عليه ولا يسترق.

فصل وأما الذين تؤخذ منهم الجزية على اختلاف فمشركو العرب ومن دان بغير الإسلام [من العرب و] ليس من أهل الكتاب ولا المجوس. أما مشركو العرب

(1/376)


فذهب مالك إلى أن الجزية تؤخذ منهم، وقال الشافعي وأبو حنيفة لا تؤخذ الجزية منهم، والى هذا ذهب ابن حبيب، وهو قول ابن وهب من أصحابنا. قال ابن حبيب إكراما لهم فعلى قوله تؤخذ الجزية من غير المجوس إذا لم يكن من العرب ودان بغير الإسلام. وقيل إن ذلك ليس من جهة الإكرام لهم، وإنما ذلك على جهة التغليظ عليهم لبعدهم من الحق إذ ليسوا بأهل كتاب، وهذا يأتي على مذهب الشافعي لأن المجوس عنده أهل كتاب ولا تؤخذ الجزية عنده إلا من أهل الكتاب. فعلى قوله لا تؤخذ الجزية من غير المجوس وأهل الكتاب وإن لم يكونوا من العرب.

فصل وأما الذين يختلف فيما يؤخذ منهم في الجزية فنصارى العرب، ذهب مالك إلى أن الجزية تؤخذ منهم، وحجته قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه كان يأخذ منهم في جزيتهم الصدقة مضاعفة إكراما لهم. وقيل بل كان يأخذ ذلك باسم الجزية والله أعلم.

فصل فالذي يتحصل في الجزية ثلاثة أقوال: أحدها أن الجزية تؤخذ ممن دان بغير الإسلام بدين يقر عليه من جميع الأمم حاشا كفار قريش. والثاني أنها تؤخذ ممن دان بغير الإسلام بدين يقر عليه حاشا كفار قريش ومشركي العرب. والثالث أنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس، وهذا قول الشافعي. والقولان الأولان في المذهب، وقد تقدم ذكر ذلك وبالله التوفيق.

(1/377)