المقدمات
الممهدات [كتاب الأيمان
والنذور] [فصل فيما يباح من النذر ويلزم
الوفاء به من النذور]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله كتاب
النذور والأيمان فصل
فيما يباح من النذر ويلزم الوفاء به من النذور
أباح الله تبارك وتعالى لعباده النذر في غير ما آية من كتابه فقال تعالى:
{فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ
الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] ، وقال تعالى: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ
لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35] . وأوجب تعالى الوفاء به فقال: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، يريد
عقد النذر وعقد اليمين وسائر العقود اللازمة في الشرع. وقال تعالى:
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}
[الإنسان: 7] ، وقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ
عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76]
{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا
أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:
77] .
(1/403)
فصل فأمر الله تعالى بالوفاء بالنذر عموما
وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك ليس على عمومه
فقال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» . ولا
خلاف بين أحد من الأمة أن السنة تبين القرآن وتخصص عمومه. وإنما اختلف أهل
العلم في جواز نسخ القرآن بالسنة، أعني بالسنة المتواترة التي توجب العلم
وتقطع العذر. وأما السنة الواردة من طريق الآحاد فلا خلاف في أن نسخ القرآن
بها لا يجوز بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل فالنذر ينقسم على أربعة أقسام: نذر في طاعة يلزم الوفاء به. ونذر في
معصية يحرم الوفاء به، ونذر في مكروه يكره الوفاء به، ونذر في مباح يباح
الوفاء به وترك الوفاء به.
فصل فالنذر اللازم هو أن يوجب الرجل على نفسه فعل ما في فعله قربة لله
تعالى وليس بواجب، أو ترك ما في تركه قربة لله تعالى وليس بواجب، لأن
الطاعة الواجبة لا تأثير للنذر فيها، وكذلك ترك المعصية المحرمة لا تأثير
للنذر فيها لوجوب ترك ذلك عليه بالشرع دون النذر. وإنما يلزم من التروك
بالنذر الترك المستحب، مثل أن ينذر الرجل أن لا يكلم أحدا بعد صلاة الصبح
إلى طلوع الشمس وما أشبه ذلك.
فصل والنذر اللازم فيما فيه لله طاعة ينقسم على قسمين: نذر مستحب، وهو
المطلق الذي يوجبه الرجل على نفسه شكرا لله على ما أنعم به عليه فيما مضى
أو لغير سبب. ونذر مباح وهو المقيد بشرط يأتي.
فالنذر المستحب المطلق أن يقول الرجل: لله علي نذر كذا وكذا أو نذر أن
(1/404)
أفعل كذا وكذا أو نذر أن لا أفعل كذا وكذا،
أو لا يلفظ بذكر النذر فيقول: لله علي كذا وكذا أو ألا أفعل كذا وكذا أو أن
أفعل كذا وكذا شكرا لله تعالى. الحكم في ذلك كله سواء على مذهب مالك. ومن
أهل المذهب من ذهب إلى أنه إذا قال لله علي كذا وكذا ولم يقل نذرا فذلك لا
يلزمه لأنه إخبار بكذب. والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
هو الصحيح. وذلك أن الذي يقول لله علي كذا وكذا لا يخلو من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يريد بذلك النذر. والثاني: أن يريد بذلك الإخبار. والثالث: أن لا
تكون له نية. فإن أراد بذلك الإخبار فلا اختلاف في أن ذلك لا يلزمه. وإن
أراد بذلك النذر فلا يصح أن يحمل على الإخبار، ولو جاز ذلك لجاز أن يحمل
قوله علي نذر كذا وكذا على الإخبار. وإن لم تكن له نية كان حمله على النذر
الذي له فائدة وفيه طاعة أولى من حمله على الكذب الذي لا فائدة فيه بل هو
معصية.
فصل والنذر المباح المقيد بشرط يأتي، مثل أن يقول الرجل لله علي كذا وكذا
إن شفاني الله من مرضى أو قدم غائبي وما أشبه ذلك مما لا يكون الشرط من
فعله، إلا أن يكون شيئا يوقته أبدا فإن مالكا كرهه.
فصل وأما إن قيد ما أوجب على نفسه من ذلك بشرط من فعل يقدر على فعله وتركه،
مثل أن يقول: إن فعلت كذا وكذا أو إن لم أفعل كذا وكذا فعلي كذا وكذا فليس
بنذر وإنما هي يمين مكروهة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» ، إلا أنها لازمة عند
مالك فيما يلزم فيه النذر من الطاعات، وفي الطلاق وإن لم تكن لله فيه طاعة،
لأن الحالف بالطلاق مطلق على صفة، ويقضي به عليه وبالعتق المعين، بخلاف ما
سوى ذلك من المشي والصدقة لمعين أو لغير
(1/405)
معين والعتق الذي ليس بمعين إلا أن يخرج
ذلك من تقييده مخرج النذر، مثل أن يقول: إن فعلت كذا وكذا أو إن أفعل فلله
علي كذا وكذا فلا يلزمه في الطلاق إذ ليس لله فيه طاعة، ويلزمه فيما عدا
ذلك من الطاعات دون أن يقضى عليه في شيء من ذلك وإن كان عتقا بعينه.
فصل وإنما لم يقض عليه بالنذر وإن كان لمعين؛ لأنه لا وفاء فيه إلا مع
النية، ومتى قضي عليه بغير اختياره لم تصح منه نية فلم يكن فيه وفاء. وهذا
إذا سمى النذر. وأما إن لم يسمه وإنما قال علي نذر إن فعلت كذا وكذا فهو
كالحالف بالله سواء في اللغو والاستثناء وفي جميع وجوهه، ولا كراهية فيه.
وكذلك إن قال: لله علي نذر أو لله علي نذر إن فعل الله بي كذا وكذا فعليه
كفارة يمين.
فصل والأيمان تنقسم على ثلاثة أقسام: مباحة، ومكروهة، ومحظورة.
فالمباحة الحلف بالله تعالى أو باسم من أسمائه الحسنى أو بصفة من صفاته
العلى. قال الله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ}
[فاطر: 42] . وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ
جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109] ، «وكان النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرا ما يحلف لا ومقلب القلوب، لا
والذي نفسي بيده» ائتساء بما أمر الله به من الحلف باسمه حيث يقول في سورة
يونس:
(1/406)
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ
إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] ،
وفي سورة التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ
بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ
وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] ، وفي سورة سبأ: {وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ
فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا
أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3] ، وهي التي أمر الله تعالى
بحفظها فقال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] ، وأوجب الكفارة
فيها بقوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ
إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ
أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}
[المائدة: 89] معناه: فحنثتم، ذلك مفهومه.
والمكروهة الحلف بغير الله تعالى، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -:
«إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» .
وهي تنقسم إلى قسمين: قسم لا يلزم، وقسم يلزم. فاللازمة أن يوجب على نفسه
طلاقا أو عتقا أو ما كان في معناهما أو شيئا يتقرب به إلى الله تعالى إن
فعل شيئا أو إن لم يفعله. والتي لا تلزم أن يوجب على نفسه معصية أو ما ليس
لله بطاعة ولا معصية إن فعل شيئا أو إن لم يفعله. مثل قوله علي شرب الخمر
أو قتل فلان أو المشي إلى السوق وما أشبه ذلك إن فعلت كذا أو إن لم أفعله.
أو أن يحلف بحق غير الله تعالى مثل قوله والمسجد والرسول ومكة والصلاة
والزكاة وما أشبه ذلك.
(1/407)
والمحظورة أن يحلف باللات والعزى والطواغيت
أو بشيء مما يعبد من دون الله تعالى؛ لأن الحلف بالشيء تعظيم له، والتعظيم
لهذه الأشياء كفر بالله تعالى.
فصل والأيمان التي تنعقد وتلزم فيها الكفارة إن حنث ما لم يستثن هو ما كان
على المستقبل من الأمور، مثل قوله والله لا أفعل ووالله لأفعلن. وأما ما
كان على الماضي فلا كفارة فيه حلف على حق يعلمه أو على شيء يستيقنه فانكشف
على غير ما حلف عليه، أو على الكذب متعمدا، أو على الشك إلا أنه يأثم في
بعض هذه الوجوه ولا يأثم في بعضها على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله
تعالى.
فصل وللحالف نيته التي أرادها وعقد عليها يمينه وإن كانت مخالفة لظاهر
لفظه، لا اختلاف في ذلك من قول مالك ولا من أحد من أصحابه. ودليلهم قول
الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ
يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» . وإنما اختلفوا إذا لم تكن
له نية وكان ليمينه بساط أو عرف من مقاصد الناس في أيمانهم خلاف ظاهر لفظه
هل تحمل يمينه على البساط أو ما عرف من مقاصد الناس في أيمانهم أو على ظاهر
لفظه على ثلاثة أقوال معلومة في المذهب.
أحدها: وهو الأشهر منها، مراعاة البساط ومقصد الناس بأيمانهم. فاليمين على
هذا القول تحمل على نية الحالف، فإن لم تكن له نية فبساط يمينه، فإن لم تكن
له نية ولا كان ليمينه بساط فما عرف من مقاصد الناس بأيمانهم. وإن لم يعلم
في ذلك للناس مقصد حملت يمينه على ما يوجب ظاهر لفظه في حقيقة اللغة. فإن
كان محتملا لوجهين فأكثر فعلى أظهر محتملاته، فإن لم يكن أحدهما أظهر من
(1/408)
صاحبه واستويا في الاحتمال دون مزية جرى
ذلك على الاختلاف [المتعارف] في المجتهد تتعارض عنده الأدلة ولا يترجح
أحدها على صاحبه. فقيل: إنه يأخذ بما شاء من ذلك، وقيل: إنه يأخذ بالأثقل،
وقيل: إنه يأخذ بالأخف. فكذلك هذا يأخذ بالبر على قول. ووجه ذلك في الطلاق
تيقن العصمة وفى اليمين بالله براءة الذمة. ويأخذ بالحنث على قول. ووجه ذلك
الاحتياط وأن لا يستباح الفرج إلا بيقين. ويأخذ بما شاء من ذلك في قول.
ووجهه أن المجتهد لما كان مأمورا بالحكم ممنوعا من التقليد على الصحيح من
الأقوال كان استواء الأدلة عنده دليلا على التخيير، كما يخير المكفر في
الكفارة بين العتق والإطعام والكسوة، وكما يخير واطئ الأختين في تحريم
أيتهما شاء وما أشبه ذلك.
والثاني: أنه لا يراعى في اليمين البساط ولا مقصد الناس في أيمانهم وتحمل
اليمين على ظاهر اللفظ إن لم تكن للحالف نية. من ذلك ما وقع في سماع سحنون
من قول ابن القاسم وروايته عن مالك؛ لأن البساط مقدم على العرف، فإذا لم
يراع البساط فأحرى أن لا يعتبر العرف. وهذا الاختلاف جار عندي على اختلافهم
في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يحمل على عمومه أو يقصر على سببه.
والثالث: أنه يعتبر البساط في اليمين ولا يعتبر فيها العرف. وهذا القول
قائم من المدونة؛ لأنه لم يعتبر في بعض مسائلها العرف. من ذلك مسألة من حلف
أن لا يأكل بيضا فأكل بيض الحوت، أو حلف أن لا يأكل رؤوسا فأكل رؤوس السمك.
واعتبره في بعضها. من ذلك مسألة من حلف أن لا يدخل بيتا فدخل المسجد.
فصل وهذا فيما كان العرف والمقصد فيه مظنونا. وأما ما كان العرف والمقصد
فيه متيقنا معلوما فلا اختلاف في الاعتبار به. وذلك مثل أن يقول الرجل
والله لأقودن فلانا كما يقاد البعير ولأعرضن على فلان النجوم في القائلة،
فهذا يعلم أن المقصد، خلاف اللفظ، فيحمل على ما علم من مقصده به بلا خلاف.
والدليل على
(1/409)
صحة ذلك كتاب الله تعالى وسنة نبيه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال الله عز وجل: {فَاعْبُدُوا مَا
شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] ، وقال: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] ، وقال: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ
الرَّشِيدُ} [هود: 87] ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» . ومثل هذا كثير.
فصل وهذا كله في الحلف على نفسه بما لا يقضى به عليه أو بما يقضى به عليه
إذا أتى مستفتيا ولم تقم عليه بينة بيمينه. وأما الحلف لغيره في حق أو
وثيقة باستحلافه إياه أو متطوعا له باليمين من غير أن يستحلفه بما يقضى به
عليه أو بما لا يقضى به عليه فاختلف في ذلك اختلافا كثيرا. فقيل: إن اليمين
على نية الحالف. وقيل: إنها على نية المحلوف له. وقيل: إن كان مستحلفا
فاليمين على نية المحلوف له، وإن كان متطوعا باليمين له فاليمين على نية
الحالف [وقيل بعكس هذه التفرقة إن كان مستحلفا فاليمين على نية الحالف وإن
كان متطوعا فاليمين على نية المحلوف له] ، وهذه رواية يحيى عن ابن القاسم
في الأيمان بالطلاق. والأول قول ابن الماجشون وسحنون. وقيل: إنما يفترق أن
يكون مستحلفا أو متطوعا باليمين فيما يقضى به عليه، وأما فيما لا يقضى به
عليه فلا يفترق ذلك، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب النذور.
فصل وهذا ما لم يقتطع بيمينه حقا لغيره، وأما إذا اقتطع بها حقا لغيره فلا
ينفعه في ذلك نية إن نواها. وهو آثم حانث في يمينه، عاص لله عز وجل في
فعله، داخل تحت الوعيد. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله
(1/410)
عليه الجنة وأوجب له النار، قيل وإن كان
شيئا يسيرا يا رسول الله قال: وإن كان قضيبا من أراك قالها ثلاثا» . فلا
اختلاف في هذا الوجه عند أحد من الأمة.
فصل والحنث يدخل بأقل الوجوه، والبر لا يكون إلا بأكمل الوجوه. والأصل في
ذلك أن الله تعالى أباح المطلقة ثلاثا بعد زوج فقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا
فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:
230] ، فلا تحل له بالعقد عليها دون الدخول على ما ثبت في السنة عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه قال لامرأة رفاعة بن سموأل: لا
تحل له حتى تذوق العسيلة» .
فصل وحرم ما نكح الآباء والأبناء من النساء فقال تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا
مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]
، وقال تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ}
[النساء: 23] . فحرمت على الأب زوجة الابن بأقل ما يقع عليه اسم نكاح وهو
العقد دون الدخول، وعلى الابن زوجة الأب بمثل ذلك بإجماع الأئمة. فتبين
بذلك أن ما يباح به الشيء أقوى مما يحظر به. فمن حلف أن لا يأكل هذا الرغيف
يحنث بأكل بعضه إلا أن تكون له نية أو بساط يدل على أنه إنما أراد استيعاب
جميعه. ومن حلف ليأكلن هذا الرغيف لم يبر إلا بأكل جميعه إلا أن تكون له
نية أو بساط يدل على أنه إنما أراد أكل بعضه. وعلى هذا فقس ما شابه هذه
المسائل.
فصل والنية تكون بالقلب دون تحريك اللسان. ومن شرطها أن يعقد عليها يمينه،
(1/411)
فإن استدركها بعد أن فرطت منه اليمين لم
ينتفع بها وان وصلها باليمين. وذلك مثل أن يقول: والله إن كنت رأيت اليوم
قرشيا وهو يريد فلانا لرجل بعينه؛ لأنه قد رأى غيره من القرشيين. فإن قال:
والله رأيت اليوم قرشيا ولا نية له ثم نوى في نفسه فلانا بعد تمام اليمين
لم ينتفع بذلك وإن وصل النية باليمين، بخلاف الاستثناء.
فصل والاستثناء على وجهين: استثناء لا يخرج من الجملة بعضها وهو الاستثناء
من غير الجنس، واستثناء يخرج من الجملة بعضها وهو الاستثناء من الجنس. فأما
الاستثناء الذي لا يخرج من الجملة بعضها فاختلف في جوازه، والأصح أنه جائز.
قال الله عز وجل: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}
[طه: 1 - 2] {إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 3] ، وقال: {وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] .
وقال النابغة:
وما أحد بالربع إلا الذي أرى
وهذا الاستثناء يقدر بلكن.
فصل وأما الاستثناء الذي يخرج من الجملة بعضها فإنه ينقسم على وجهين:
أحدهما: أن يستثنى أكثر الجملة. والثاني: أن يستثنى أقلها. فأما إذا استثنى
أكثر الجملة فاختلف في جواز ذلك على قولين، أصحهما الجواز. والدليل على
جوازه قَوْله تَعَالَى: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:
82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] ، وقَوْله تَعَالَى:
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] ، فلا بد أن يكون أحد الاستثناءين أكثر من
الجملة وأما إذا استثنى أقل من الجملة فإن ذلك جائز باتفاق. وهو على وجهين:
بحرف الاستثناء، وبغير حرف الاستثناء.
(1/412)
فأما الاستثناء بحرف الاستثناء فإنه أيضا
على وجهين: أحدهما الاستثناء بإلا أو بما كان في معناها من حروف الاستثناء.
والثاني الاستثناء بأن وبإلا أن. فأما الاستثناء بإلا فالمشهور في المذهب
أنه لا بد فيه من تحريك اللسان. وقد روى أشهب عن مالك في كتاب النذور أن
النية تجزئ في ذلك، وقاله ابن حبيب في الذي يحلف بالحلال علي حرام ويستثني
في نفسه إلا امرأته. وأما الاستثناء بأن وبإلا أن فلا تجزئ فيه النية ولا
بد من تحريك اللسان ولا خلاف في ذلك أعلمه.
وأما الاستثناء بغير حرف الاستثناء فهو أن يقيد العموم بصفة؛ لأن ذلك يقتضي
إخراج من ليس على تلك الصفة من ذلك العموم فهو استثناء بالمعنى وله حكم
الاستثناء في أن لا ينفع إلا بتحريك اللسان واتصاله بالكلام. مثل ذلك أن
يقول والله ما رأيت اليوم قرشيا عاقلا؛ لأنه بمنزلة أن يصل بها إلا أحمق،
وذلك منصوص في رواية ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في كتاب
الأيمان بالطلاق في الذي يسأل الرجل عن وديعة قد كان استودعه إياها فيحلف
بالطلاق إن كانت في بيته فيلقنه رجل في علمك فيقول: في علمي إنه استثناء،
ينفعه إن كان الكلام نسقا ولم يكن بينهما صمات. ومثله في سماع أشهب عن مالك
في كتاب النذور في الرجل يحلف ويستثني فيقول: في علمي أن ذلك له؛ لأن قوله:
امرأتي طالق إن كانت الوديعة في بيتي في علمي بمنزلة قوله: امرأتي طالق إن
كانت الوديعة في بيتي، إلا أن أكون غير عالم بها، فهو استثناء بالمعنى. فإن
قال الرجل امرأتي طالق إن كانت الوديعة في بيتي ولا نية له يصح الاستثناء
بأن يقول في علمي أو بأن يقول إلا أن أكون غير عالم بها إذا وصل ذلك بيمينه
ولم يكن بينهما صمات. ولا ينفعه أن ينوي ذلك بعقب اليمين، وإنما تنفعه
النية إذا عقد عليها يمينه من أول ما حلف. فافهم هذا المعنى وقس عليه فإنه
جيد خفي جدا.
فصل والاستثناء لا يكون إلا من وجهين: أحدهما العدد المسمى. والثاني اللفظ
الذي يقتضي العموم وهو يحتمل الخصوص.
(1/413)
فأما العدد المسمى فلا يصح استدراك
الاستثناء فيه إذا لم يعقد عليه يمينه، وإنما يصح إذا عقدها عليه. مثال
ذلك: أن يقول والله لأعطين فلانا ثلاثة دراهم إلا درهما، فإن كان أراد أن
يحلف ليعطينه درهمين فعبر عنهما بثلاثة دراهم إلا درهما صح استثناؤه، وإن
كان إنما أراد أن يحلف ليعطينه ثلاثة دراهم فلما أكمل اليمين ولفظ بالثلاثة
الدراهم بدا له فاستدرك الأمر واستثنى الدرهم الواحد لم ينفعه وإن كان
الاستثناء متصلا باليمين. ومثل ذلك: قول الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا
واحدة ففي هذا المعنى اختلاف يقوم من المدونة.
وأما اللفظ الذي يقتضي العموم وهو يحتمل الخصوص فيصح استدراك الاستثناء فيه
إذا وصله باليمين بغير صمات. وقال ابن المواز: لا بد أن ينوي الاستثناء قبل
آخر حرف من تمام اليمين. مثال ذلك: أن يقول والله لأعطين فلانا ثلاثة دراهم
إن شاء الله أو إن شاء زيد، فهذا الاستثناء ينفعه وإن لم يعقد عليه يمينه
إذا استدركه فوصله باليمين من غير صمات. وعلى مذهب ابن المواز لا ينفعه إلا
أن ينويه قبل أن يلفظ بالميم من ثلاثة دراهم. هذا معنى قوله: وإرادته عندي
وإن كان قد قال: إن من حلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة
واستثنى لا ينفعه الاستثناء إلا أن ينويه قبل أن يلفظ بالهاء من الشهادة
فإنما هو تمثيل، ومعناه: أن ينوي الاستثناء قبل أن يلفظ بآخر حرف من تمام
كلامه.
فصل وأما ما نص عليه بالتسمية فلا يصح فيه استثناء لاستحالة الكلام لو قال
والله لأعطين فلانا وفلانا كذا وكذا درهما إلا فلانا منهم، لم يكن كلاما
مستقيما.
فصل ويصح الاستثناء بمشيئة مخلوق في اليمين بالله وفي اليمين بالطلاق وفي
الطلاق المجرد؛ لأنه طلاق على صفة. وأما الاستثناء بمشيئة الله تعالى فإنما
يصح في اليمين بالله ولا يصح في الطلاق المجرد. واختلف هل يصح في اليمين
(1/414)
بالطلاق صرف الاستثناء إلى الفعل، على
قولين، الأصح منهما في النظر أنه يصح فيه إذا صرف الاستثناء إلى الفعل لا
إلى نفس الطلاق؛ لأنه إذا صرف الاستثناء إلى الفعل فقد بر ولم يكن طلاق؛
لأنه علق الطلاق بصفة لا يصح وجودها وهي أن يفعل الفعل والله لا يشاء أن
يفعله، وذلك مستحيل إلا على مذهب القدرية مجوس هذه الأمة. فعلى قول ابن
القاسم في قوله: إن الاستثناء لا ينفعه وإن صرفه إلى الفعل درك عظيم. وإن
لم تكن له نية في صرفه إلى الفعل ولا إلى نفس الطلاق فلا أعرف في ذلك نص
رواية. والذي يوجبه النظر عندي أن يكون مصروفا إلى الفعل إذا قصد به حل
اليمين ولم يقل ذلك لهجا به دون القصد إلى الاستثناء؛ لأن صرفه إلى نفس
الطلاق لغو لا معنى له، كما لو حلف بالله واستثنى فرد الاستثناء إلى اسم
الله تعالى المحلوف به. وصرف الاستثناء إلى الفعل المحلوف عليه له معنى
صحيح بين على ما ذكرناه. وحمل الكلام إذا عري عن النية على ما له وجه ومعنى
أولى من حمله على ما لا وجه له ولا معنى.
وقولنا: إن الاستثناء بمشيئة الله لا يصح في مجرد الطلاق إنما معناه أنه لا
يسقط عنه الطلاق؛ لأنه إذا قال امرأتي طالق إن شاء الله فقد علمنا أن الله
قد شاء ذلك، إذ لا يستطيع أن يطلق امرأته بقوله امرأتي طالق إلا بمشيئة
الله، فوجب أن يلزمه الطلاق، كما لو قال امرأتي طالق إن علم الله طلاقي؛
لأنه إذا طلق امرأته بقوله امرأتي طالق فقد شاء الله طلاقها وعلم ذلك. وقول
من قال: إن الطلاق إنما لزمه من أجل أن مشيئة الله لا تعلم قول منكر؛ لأن
مشيئة الله تعلم بوقوع الفعل، إذ لا يصح أن يقع من مخلوق فعل مع عدم مشيئة
الله تعالى والله سبحانه وتعالى أعلم، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى أقوم
طريق.
(1/415)
|