المقدمات الممهدات

 [كتاب الصيد] [فصل في إباحة الصيد]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد النبي
الأمي وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الصيد فصل
في إباحة الصيد قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] ، فالطيبات الحلال من الرزق، وكل ما لم يأت تحريمه في كتاب ولا سنة فهو من الطيبات، وهذا على مذهب من يرى أن المسكوت عنه مباح، وفي ذلك اختلاف.

فصل وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ، معناه وصيد ما علمتم من الجوارح، خرج مخرج قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، والكلام يدل على أنهم سألوا عن الصيد فيما سألوا عنه، وذلك مذكور في الحديث. روي «أن زيد الخيل وعدي بن حاتم الطائيين أتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالا: يا رسول الله إن لنا كلابا تصيد البقر والظباء فمنها ما ندركه ومنها ما يموت وقد حرم الله الميتة، فسكت عنهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(1/417)


فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] » ، الآية.

فصل والجوارح الكواسب التي يصاد بها، وهي الكلاب والفهود والبزاة والصقور وما أشبه ذلك. ومن أهل العلم من قال لا يؤكل إلا صيد الكلاب. ومنهم من رأى أنه لا يؤكل صيد الكلاب البهيم. ودليلنا عموم قول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] ، معناه: معلمين أي أصحاب كلاب قد علمتموها. وأصل التكليب تعليم الكلاب الاصطياد، ثم كثر ذلك حتى قيل لكل من علم جميع الجوارح الصيد مكلب فتكليبها تعليمها الاصطياد.
وقوله: {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4] ، فالذي علمنا الله هو ما في طبع الصغير والكبير منا من إنشاد الجوارح وتضريتها على الصيد. فتعليم الكلاب هو أن يشليه فينشلي، ويزجره فيزدجر، ويدعوه فيجيب. وكذلك الفهود وما أشبهها. وتعليم البزاة والصقور وما أشبهها هو أن يشليها فتنشلي- ويدعوها فتجيب. وأما أن يزجرها فتزدجر إذا زجرت فليس ذلك فيها ولا يمكن ذلك منها، قال ذلك ابن حبيب. وليس قوله بخلاف ما في المدونة؛ لأنه إنما أراد في المدونة إن كان يمكن من جوارح الطير أن يفقه الازدجار، وتكلم ابن حبيب على ما يعلم من حالها بالاختبار. وأما النموس فقال ابن حبيب: إنها لا تفقه التعليم ولا يؤكل ما صادت إلا أن تدرك ذكاته قبل أن تنفذ مقاتله. وروى ابن نافع عن مالك أنه قال: إن أكلت من صيدها فلا يؤكل. وقال ابن القاسم: لا أدري ما هذا، الكلاب تأكل فيؤكل صيدها، ولكن إن كانت تفقه وإلا فلا يؤكل صيدها إلا أن تدرك ذكاته قبل أن تنفذ مقاتله.

فصل وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، ظاهره أدركت ذكاته أو لم تدرك، أكلت الجوارح منها أو لم تأكل، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه. وقال

(1/418)


ناس: إنه لا يؤكل صيد الكلب إذا أكل منه؛ لأنه إنما أمسك على نفسه. والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه هو الصحيح، إذ لا فرق بين الكلب وسائر الجوارح، وقد جمع الله بينهما في كتابه. فقد أجمع أهل العلم أن قتل الكلب للصيد ذكاة له، فلا فرق في القياس بين أن يأكل من صيده بعد أن يقتله وبين أن يأكل شاة مذبوحة.

فصل واعتلال من حرم أكله بأنه إذا أكل منه فإنما أمسك على نفسه لا علينا لا يصح؛ لأن نية الكلب لا يمكننا علمها. وقد يحتمل أن يمسك على نفسه ثم يبدو له فيترك الأكل، وأن يمسك علينا ثم يبدو له فيأكل. وإذا أرسلناه لا ندري هل يمسك على نفسه أو علينا، بل المعلوم منه أنه إنما يمسك على نفسه، ولو كان شابعا ما صاد، ولذلك يجوع ثم يرسل على الصيد. فإذا أمسك على نفسه فقد أمسك علينا، إذ لا يصح أن يظن أحد أن الكلب إذا أرسله صاحبه يمضي لمرسله بنية خالصة دون نفسه؛ لأن ذلك خلاف ما في طبعه من أن يفترس لنفسه. ولو كلفنا الله تعالى في تعليم الجوارح هذا لكلفنا نقل طباعها، وذلك ما لا يصح أن يقع التكليف به. وأيضا فقد أجمع أهل العلم أن الكلب المعلم إذا قتل الصيد كان أكله جائزا من غير أن ينتظر به حتى يرى إن كان يأكل منه أو لا يأكل ليستدل بذلك إن كان أمسك على نفسه أو علينا. وفي إجماعهم على ذلك دليل على ترك الاعتبار بأكله. وقد قال بعض من ذهب إلى هذا: إنه يختبر الكلب ثلاث مرات فإن لم يأكل أكل صيده، وذلك فاسد في القياس. وما روى شعبة عن عدي بن حاتم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا أكل الكلب فلا تأكل» قد خالفه فيه همام ولم يذكر هذه الزيادة. واللفظة إذا جاءت في الحديث زائدة لم تقبل إذا كانت مخالفة للأصول. وقد روى ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تشهد الأصول بصحته، وهو أنه قال: «إذا أكل فكل» ، وقال الشافعي: البازي والصقر والعقاب والكلب واحد لا يؤكل صيد

(1/419)


واحد منهم إذا أكل منه. وروي ذلك عن الحسن وعطاء وسعيد بن جبير وعكرمة، وهو بعيد؛ لأن تعليم الجوارح من الطير إجابتها إذا دعيت لا أن تزدجر إذا زجرت، إذ لا يتأتى ذلك منها ولا يمكن، فكيف أن يترك الأكل إذا صادت.

فصل وقوله عز وجل: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] ، فيه تقديم وتأخير، وتقديره فاذكروا اسم الله عليه وكلوا مما أمسكن عليكم، فالتسمية تجب عند الإرسال على الصيد كما تجب على الذبيحة. فإن ترك التسمية عند الإرسال عمدا لم يؤكل الصيد، وإن نسي أو جهل أكل الصيد بمنزلة الذبيحة سواء.

فصل وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] ، وهذه الآية نزلت في المحرمين، فمعنى ليبلونكم ليختبرنكم فيعلم المطيع بترك الصيد في الإحرام من العاصي بالصيد فيه، أي ليعلم حصول الطاعة ووقوعها من عباده بعد تقدم علمه تعالى بما يكون منهم قبل أن يخلقهم. وقيل: معناه ليعلم ذلك عندكم، يقول: لتعلموا أن الله قد علم ذلك منكم فتجنبوه. وقوله: {مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة: 94] ، من هاهنا للتبعيض، يريد صيد البر؛ لأن الله تبارك وتعالى أباح للمحرمين صيد البحر. قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] .

فصل والذي تناله الأيدي من الصيد هو البيض والفراخ وصغار الصيد وما لا يفر ولا

(1/420)


يمتنع بنفسه، والذي تناله الرماح والأسل الظباء وبقر الوحش وما لا يوصل إليه باليد.

فصل وأباح الله تعالى الصيد للحلال عموما باليد والرماح والأسل وبما ينبغي به الصيد من الجوارح. فقال تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ، وخصص من ذلك على لسان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصيد في حرم مكة وحرم المدينة فقال: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة وأنا أحرم ما بين لابتيها» . إلا أنه لا جزاء على من قتل الصيد في حرم المدينة عند مالك وجمهور أهل العلم، وإنما عليه الاستغفار.

فصل فصيد البر مباح للحلال في الحل ومحرم على المحرم وعلى الحلال في الحرم. وكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وأكثر أهل العلم الصيد على وجه التلهي لما فيه من اللهو والعذاب وإتعاب البهائم في غير وجه منفعة، ولم ير أن تقصر الصلاة فيه. ولا بأس بالصيد لمن كان عيشه أو لمن قرم إلى اللحم. وأباحه محمد بن عبد الحكم لعموم قول الله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ، واستخف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الصيد لأهل البادية؛ لأنهم من أهله وأن ذلك شأنهم، ورأى خروج أهل الحضر إليه من السفه والخفة، والله سبحانه وتعالى أعلم وبالله التوفيق.

(1/421)