المقدمات
الممهدات [كتاب كراء
الأرضين]
قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63]
{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64] {لَوْ
نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65]
{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة: 66] {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}
[الواقعة: 67] . وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ
إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ
أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27] ، وقال
تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا
الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}
[الحج: 5] ، وقال تبارك وتعالى: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ
وَالأَنْعَامُ} [يونس: 24] ، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى
الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ
وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] ، ومثل هذا في القرآن كثير.
فصل فلما كان النبات الذي يخرج من الأرض وينبت فيها ليس بمقدرة آدمي، ولا
(2/221)
لزارعه فيه عمل ولا كسب، وإنما الله تبارك
وتعالى هو الذي يخرجه من الأرض وينبته فيها، وينقله بقدرته من حال إلى حال
حتى يصير إلى حد الانتفاع به رحمة منه تعالى بعباده؛ لم يجز لذلك كراء
الأرض بشيء مما يخرج منها وإن لم يؤكل، ولا بشيء من الطعام وإن لم يخرج
منها؛ لأنه إن كان الذي أكري به طعاما، فإنما أعطى المكتري صاحب الأرض
طعاما على أن يأخذ ما ينبته الله تعالى في أرضه من الطعام بعلاجه وعمله،
فيدخله الطعام بالطعام إلى أجل مع التفاضل فيما لا يصح فيه التفاضل؛ وبيع
الغرر والمزابنة، وهي المحاقلة التي نهى عنها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
-؛ وإن لم يكن طعاما وكان مثل الكتان والقطن وما أشبه ذلك، دخلته المزابنة،
وكان ذلك من المخابرة التي نهى عنها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأنها
مأخوذة من الخبر وهو حرث الأرض، فالمخابرة كراء الأرض ببعض ما يخرج منها.
وجاز بما سوى ذلك من الدنانير والدراهم والعروض والحيوان المعينة
والموصوفة. هذا هو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأكثر أصحابه.
فصل وقد اختلف أهل العلم في كراء الأرض اختلافا كثيرا لتعارض ظواهر الآثار
الواردة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك. من ذلك نهيه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع، روي ذلك عنه من رواية رافع
بن خديج بألفاظ مختلفة، وروي عنه من رواية «جابر بن عبد الله أنه قال:
خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "من كانت له
(2/222)
أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يؤاجرها» .
ولم يختلف عن جابر في هذا، واختلف فيه عن رافع بن خديج اختلافا كثيرا: فروي
عنه أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من
كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه أو ليدعها» ، كنحو حديث جابر؛ وروي
عنه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من كانت له أرض فليزرعها
أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا طعام» . فدليل هذا إجازة
كرائها بما عدا الطعام من الأثمان المعلومة؛ وروي عنه، عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أنه قال: «إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها، أو رجل
منح أرضا فهو يزرع ما منح، أو رجل استكرى بذهب أو فضة» . فظاهر هذا أن
كراءها لا يجوز إلا بالذهب والفضة. ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن المحاقلة والمخابرة وهي كراء الأرض بالطعام وبما يخرج منها
ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المزارعة، وهي كراء
الأرض بالجزء مما يخرج منها، وإعطاؤه يهود خيبر الأرض والنخل على أن
يعملوها ويزرعوها على شطر ما يخرج منها، معارض في الظاهر لنهيه عن
المزارعة، فقالت طائفة منهم: لا يجوز كراء الأرض أصلا بذهب ولا فضة ولا
بشيء من الأشياء؛ لأنهم حملوا ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من
النهي عن كراء المزارع على العموم واطرحوا ما خالف ظاهره من الآثار، وهو
مذهب طاوس، وإليه ذهب ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بآخرة روي عنه أنه
كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج كان يحدث «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كراء المزارع فترك كراءها» وهذا يبعد
في النظر لأن الخاص يقضي
(2/223)
على العام. فما روي عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كراء الأرض بالدنانير والدراهم يخصص عموم
نهيه عن كراء المزارع؛ وقال آخرون: لا يجوز كراء الأرض إلا بالدنانير
والدراهم خاصة، واحتجوا بما «روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من
رواية رافع بن خديج أنه قال: " إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها،
ورجل منح أرضا فهو يزرع ما منح، ورجل استكرى بذهب أو فضة» ، وقالوا: لا
يجوز أن يتعدى هذا الحديث لما فيه من البيان، وليس كما قالوا؛ لأن البيان
في الحديث إنما هو في إجازة كراء الأرض بالذهب والفضة، وأما في المنع من
كرائها بكل ما عدا ذلك فلا؛ لأن لفظة "إنما" لا ترد إلا على سبب، فهي تنفي
الحكم عن السبب الذي وردت من أجله وتحققه في المنصوص عليه، ولا تدل على
نفيه عما سواه. والدليل على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إنما الولاء لمن اعتق» ، فنفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بقوله هذا أن يكون الولاء لمن باع، واشترط الولاء على المشتري
المعتق؛ لأن ذلك كان سببه وحقق به أن الولاء للمعتق، ولم يكن في قوله بيان
أن غير المعتق لا ولاء له؛ ألا ترى أن الولاء يكون لولد المعتق وعصبته وإن
كانوا غير معتقين. ومثل ذلك أيضا قولهم: إنما النبي محمد، وإنما الكريم
يوسف، وإنما الشجاع عمرو، فلا ينفي ذلك النبوة عن غير النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -، ولا الكرم عن غير يوسف، ولا الشجاعة عن غير عمرو؛ وإنما تحقق
ذلك لهم وتنفيه عمن كان سببا لوروده، فكذلك مسألتنا. وقال آخرون: يجوز كراء
الأرض بكل شيء إذا كان معلوما عدا الطعام، وحجتهم ما روى رافع بن خديج عن
(2/224)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أنه قال: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا
ربع ولا طعام» . وهذا أيضا لا يصح في النظر؛ لأنهم أجازوا كراء الأرض بما
يخرج منها من غير الطعام، وقد ثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: نهى عن المخابرة» وهي كراء الأرض بما يخرج منها؛ لأنه يدخله
ما نهى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المزابنة والغرر؛
لأنه إذا أكرى الأرض بكتان أو قطن فقد أعطى الكتان أو القطن فيما تخرج له
الأرض من ذلك، وذلك الغرر والمزابنة التي لا تجوز. وقال آخرون: يجوز كراء
الأرض بالدنانير والدراهم والعروض والطعام وكل شيء إذا كان معلوما، وإنما
لا يجوز الجزء مما يخرج منها؛ لأنه غرر، فهي المزارعة التي نهى عنها النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهذا هو مذهب الشافعي، وهو ظاهر قول مالك في كتاب
المساقاة من الموطأ؛ لأنه قال فيه: ولا ينبغي أن يساقي الأرض البيضاء وذلك
أنه يحل لصاحبها كراؤها بالدنانير والدراهم وما أشبه ذلك من الأثمان
المعلومة، إلا أن ذلك ليس بمعلوم من مذهبه، وحجة من ذهب إلى هذا ما روي «عن
رافع بن خديج أنه سئل عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال: لا بأس بذلك، إنما
كان الناس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكرون
الأرض بما على الماذيانات وأقبال الجداول فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا،
ويهلك هذا، فلذلك زجر عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قال: " فأما شيء مضمون معلوم فلا» . وقد روي مثل هذا القول عن الليث بن
سعد، وهو غير صحيح أيضا «لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن المحاقلة
والمخابرة» : وهو استكراء الأرض بالحنطة وبما يخرج منها كان طعاما أو لم
يكن. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بالدنانير والدراهم والعروض والطعام
والجزء مما يخرج منها، وحجتهم في إجازة كراء الأرض بالجزء
(2/225)
مما يخرج منها، إعطاء رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهود خيبر الأرض والنخل على شطر ما يخرج من
ذلك، وتأولوا في المحاقلة أنها اشتراء الزرع بالحنطة وذلك لا يصح؛ لأن النص
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ورد من رواية رافع بن
خديج في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع والطعام، وحديث المساقاة يمكن
تأويله على ما تأوله عليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أن الأرض كانت
يسيرة بين أضعاف السواد. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بالجزء مما يخرج
منها، ولا يجوز بشيء مضمون مما يخرج منها، وهو مذهب الليث بن سعد. وحجة
هؤلاء «حديث ابن عمر في إعطاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يهود خيبر النخل والأرض على أن يعملوها ويزرعوها بشطر ما يخرج
منها» وقالوا: إنه حديث صحيح أصح من أحاديث رافع بن خديج؛ لأنها مضطربة
المتون؛ وقال ابن نافع من أصحاب مالك: لا تكرى الأرض بقمح ولا شعير ولا
سلت، وتكرى بما سوى ذلك على أن يزرع فيها خلاف ما تستكرى به. وقال ابن
كنانة: يجوز أن تكرى الأرض بكل شيء إذا زرع فيها لم ينبت، واختاره عيسى بن
دينار، وذلك كله معترض؛ فالقول في هذه المسألة ما قدمناه عن مالك وجمهور
أصحابه أن كراء الأرض لا يجوز بشيء مما يخرج منها وينبت فيها - كان طعاما
أو لم يكن، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
المخابرة، وهي كراء الأرض ببعض ما يخرج منها مما يزرع فيها، ولا بشيء من
الطعام وإن لم يخرج منها؛ لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
المحاقلة، وهي استكراء الأرض بالحنطة، وكذلك جميع الطعام لأنه في معنى
الحنطة، وقد روي ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نصا من رواية رافع
بن خديج أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا
طعام» . ويجوز مما عدا هذين الوجهين من الدنانير والدراهم والعروض المعينة
المعلومة والثابتة في الذمة الموصوفة؛ لأن ما روي عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من النهي عن كراء المزارع ليس على عمومه؛
لأنه خرج على سبب النهي، فهو مقصور على سببه، وذلك أن الناس كانوا على عهد
(2/226)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يكرون المزارع بالثلث والربع وبما على الماذيانات وأقبال
الجداول، فخرج نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع
على ذلك فقصر عليه، وقيل في سبب النهي غير ذلك: «روي عن زيد بن ثابت أنه
قال: يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلان من الأنصار قد اقتتلا،
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كان هذا شانكم
فلا تكروا المزارع» . فسمع رافع قوله: لا تكروا المزارع، فحدث به.
فصل وقد اختلف أهل العلم في اللفظ العام المستقل بنفسه الوارد على سبب، هل
يقصر على سببه أو يحمل على عمومه على قولين، الأصح منهما عند أهل النظر أن
يحمل على عمومه ولا يقصر على سببه؛ لأن الحجة إنما هي في قول صاحب الشرع
ليس في السبب؛ لأن السبب لو انفرد لم تكن فيه حجة؛ ولو انفرد لفظ النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوجبت به الحجة؛ وأما نهيه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع، فالأصح فيه أن يقصر على
سببه ولا يحمل على عمومه، إذ قد خص بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها ورجل منح أرضا فهو
يزرع ما منح، ورجل أكرى بذهب أو ورق» . وقد قال جماعة من أهل العلم: إن
اللفظ العام إذا خص منه شيء عاد مجملا. وسقط الاحتجاج بعمومه وإن كان ليس
هذا بمذهب مالك ولا أصحابه، فإنه يؤيد قصر النهي على سببه، وقد حكى أبو بكر
الأبهري في كتابه أن مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يقصر اللفظ العام
الوارد على سببه ولا يحمل على عمومه.
فصل فإذا قصر نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع،
على كرائها بالثلث والربع والماذيانات وأقبال الجداول لم يمنع مانع من
كرائها بالدنانير والدراهم والعروض التي لا تنبتها الأرض مع النص الوارد عن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في كرائها
(2/227)
بالدنانير والدراهم، ولو لم يقصر النهي على
سببه وحمل على عمومه فيما بعد الدنانير والدراهم المخصوصة منه بالنص عليها،
لخصصت العروض التي لا تنبت الأرض منه أيضا بالقياس على الدنانير والدراهم
لأن القياس على الخصوص جائز يخصص به العموم، ومثل هذا قول الله عز وجل:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ} [النور: 2] ؛ فكان هذا عاما في كل زان وزانية، كانا حرين أو
عبدين، ثم خص من ذلك الإماء بقوله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ
أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ} [النساء: 25] . ثم خص من ذلك العبيد بالقياس على الإماء بعلة
الرق الجامعة بينهما؛ فكذلك ما عاد إلى مسألتنا؛ فإن نهي النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كراء المزارع عام خص من ذلك الكراء
بالدنانير والدراهم بالنص، ثم خص من ذلك الكراء بالعروض التي لا تنبتها
الأرض بالقياس على الدنانير والدراهم، بالعلة الجامعة بينهما، وهي أن
الكراء بالعروض المعلومة التي لا تنبتها الأرض كراء بثمن معلوم لا غرر فيه
ولا مزابنة ولا محاقلة ولا مخابرة، فجاز أصله الكراء بالدنانير والدراهم.
فصل فما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كراء الأرض أصح أقاويل أهل
العلم في ذلك؛ لأنه استعمل الأحاديث المروية عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - في هذا الباب، ولم يحمل شيئا منها على التعارض، بل جعل بعضها
مركبة على بعض ومبينة لها، ولم يطرح شيئا منها، واستعمال الآثار عند أهل
العلم أولى من طرحها ما أمكن ذلك ووجد السبيل إليه.
(2/228)
[فصل في حد
جواز كراء الأرض وجواز النقد ووجوبه]
فصل
في حد جواز كراء الأرض وجواز النقد ووجوبه اعلم أن الأرضين تنقسم على ثلاثة
أصناف: أرض نيل، وأرض مطر، وأرض تسقى بالأنهار والعيون والآبار.
فصل والكلام في حكم هذه الأرضين على ثلاثة أوجه:
أحدها: جواز عقد الكراء فيها.
والثاني: جواز النقد فيها.
والثالث: وجوب النقد فيها.
فأما جواز عقد الكراء فيها، فإنه جائز على مذهب ابن القاسم في المدونة فيها
كلها من غير تفصيل، كانت مأمونة أو غير مأمونة للسنين الكثيرة. وتنقسم في
جواز النقد فيها - عنده - على قسمين: مأمونة، وغير مأمونة، فما كان منها
مأمونا كأرض النيل وأرض المطر المأمونة وأرض السقي بالأنهار والعيون
الثابتة والآبار المعينة، فالنقد فيها للأعوام الكثيرة جائز، وما كان منها
غير مأمون فلا يجوز النقد فيه إلا بعد أن تروى وتمكن من الحرث، كانت في أرض
النيل أو المطر أو السقي بالعيون والآبار، وتنقسم في وجوب النقد فيها على
قسمين:
أحدهما: أرض النيل، والثاني؛ أرض السقي والمطر؛ فأما أرض النيل فيجب النقد
فيها عنده إذا رويت؛ لأنها لا تحتاج إلى السقي فيما يستقبل، فبالري يكون
المكتري قابضا لما اكترى، وأما أرض السقي والمطر فلا يجب على المكتري فيها
دفع الكراء حتى يتم الزرع ويستغنى عن الماء؛ وكذلك إن كانت أرضا تزرع
(2/229)
بطونا فلا يلزمه نقد الكراء في البطن حتى
تسلم وتستغني عن الماء، ووافق ابن الماجشون ابن القاسم على مذهبه في أرض
النيل أن النقد يجب فيها إذا رويت، وفي أرض المطر وأرض السقي غير المأمون
أن النقد لا يجب فيها حتى يتم الزرع ويستغنى عن الماء؛ وخالفه في أرض السقي
إذا كان مأمونا فجعله مثل أرض النيل يجب الكراء فيه نقدا، إذا رويت؛ فأرض
النيل لا اختلاف في وجوب الكراء فيها بالري وأرض المطر، والسقي غير المأمون
لا اختلاف أن الكراء لا يجب فيها حتى يسلم الزرع ويستغني عن الماء، واختلف
في أرض السقي المأمون فجعله ابن الماجشون كأرض النيل، وجعله ابن القاسم
كأرض المطر والسقي غير المأمون؛ وتنقسم الأرضون على مذهب ابن الماجشون في
جواز عقد الكراء فيها والنقد على أربعة أقسام:
أحدها: أرض النيل المأمونة.
والثاني: أرض السقي بالأنهار والآبار.
والثالث: أرض السقي بالعيون.
والرابع: أرض المطر.
فأما أرض النيل المأمونة فيجوز الكراء فيها للأعوام الكثيرة بالنقد وبغير
النقد - قرب إبان شربها وريها - هذا قوله في المدونة.
فأما أرض السقي بالأنهار والآبار، فيجوز الكراء فيها للعشرة الأعوام لا
أكثر، والنقد فيها على مذهبه جائز، قاله الفضل.
وأما أرض السقي بالعيون، فلا يجوز كراؤها، إلا للثلاثة الأعوام والأربعة،
ولا ينقد إلا سنة بسنة، يريد أنه ينقد السنة الثانية قبل تمام الأولى بيسير
وإن لم ترو الأرض، هذا قوله ومذهبه في الواضحة.
(2/230)
وأما أرض المطر فلا يجيز الكراء فيها إلا
لعام واحد، قرب إبان ريها، ولا يجوز النقد فيها حتى تروى ريا مبلغا له أو
لأكثره مع رجاء وقوع غيره، قاله في المدونة، هذا الذي حصلت من مذهبه،
وبالله التوفيق.
[فصل في بيان مذهب ابن القاسم وغيره في الكتاب
فيمن حرث أرض رجل فتداعيا في ذلك]
فصل
في بيان مذهب ابن القاسم وغيره في الكتاب
فيمن حرث أرض رجل فتداعيا في ذلك هذه مسألة تنقسم على قسمين:
أحدهما: أن يقوم رب الأرض على الذي حرثها في إبان الزرع.
والثاني: أن يقوم عليه في ذلك بعد الإبان.
فأما القسم الأول وهو أن يقوم عليه في ذلك وهو في الإبان، فلا يخلو الذي
حرث الأرض من أربعة أوجه:
أحدها: أن يصدق رب الأرض في أنه حرثها بغير إذنه.
والثاني: أن يصدقه في أنه لم يكرها منه إلا أنه يدعي أنه حرثها بعلمه وهو
حاضر لا يغير ولا ينكر.
والثالث: أن يدعي عليه أنه أكراها منه.
والرابع: أن يدعي عليه أنه أكراها منه وأنه حرثها بعلمه وهو حاضر.
فأما الوجه الأول وهو أن يصدقه في أنه حرثها بغير علمه، فإن لصاحب الأرض أن
يأخذ أرضه ويأمر الزارع بقلع زرعه فيقلعه إن كانت له فيه منفعة، ولا يجوز
لرب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا كالبنيان؛ لأنه يدخله بيع الزرع قبل أن
يبدو صلاحه، وقد قيل: إن ذلك جائز؛ لأنه في أرض مبتاعة وبالعقد يدخل في
ضمانه فيرتفع الغرر في ذلك، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي؛ فإن لم
(2/231)
تكن له فيه منفعة لم يكن للزارع أن يقلعه
لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار»
. ويبقى لصاحب - الأرض لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «ليس لعرق ظالم حق» .
وأما الوجه الثاني وهو أن يصدقه في أنه لم يكر منه إلا أنه يدعي أنه حرثها
بعلمه فلم يغير عليه ذلك ولا أنكر، فإن اليمين يلزم رب الأرض: ما علم بحرثه
إياها إن لم يكن للذي حرث الأرض على ذلك بينة؛ فإن حلف رب الأرض على ذلك،
كان له أن يأخذ أرضه ويكون الحكم في الزرع على ما تقدم، وإن نكل عن اليمين،
حلف الذي حرث الأرض على ذلك ولم يقلع زرعه وكان عليه في الأرض كراء مثلها،
وكذلك إذا كانت للذي حرث الأرض بينة على حرثه إياها بعلمه ومعرفته.
وأما الوجه الثالث: وهو أن يدعي عليه أنه أكراها منه، فالقول قول صاحب
الأرض مع يمينه ما أكراها منه، فإن حلف على ذلك، استحق أرضه وكان الحكم في
الزرع على ما تقدم، وإن نكل عن اليمين، حلف الذي حرث الأرض لقد أكراها منه
بكذا وكذا، كان الذي ادعى من الكراء قليلا لا يشبه، أو كثيرا أكثر من كراء
المثل؛ وإنما كان القول قوله، وإن كان الذي ادعى من الكراء لا يشبه؛ لأن رب
الأرض قد مكنه من ذلك بنكوله، هذا هو المشهور في المذهب خلاف ما وقع في
كتاب القراض من المدونة إذا ادعى صاحب المال أنه دفع إليه المال على سبيل
البضاعة، وادعى العامل أنه دفع إليه على سبيل القراض، فنكل صاحب المال عن
اليمين، فقال: إن العامل يحلف إذا كان مثله يستعمل في القراض وإنما وجب
(2/232)
أن يحلف وإن كان الذي أقر به من الكراء
أكثر من كراء المثل؛ لأنه إن نكل عن اليمين وجب أن يقلع زرعه.
وأما الوجه الرابع، وهو أن يدعي عليه أنه أكراها منه وحرثها بعلمه ومعرفته،
فالقول قول صاحب الأرض يحلف على الوجهين جميعا إن لم يكن للذي حرث الأرض
بينة على ذلك، فإن حلف، كان مخيرا بين أن يأخذ منه الكراء الذي أقر به،
وبين أن يأخذ أرضه ويأمر الزارع بقلع زرعه؛ وهذا إذا كان للزارع في قلعه
منفعة، وأما إذا لم يكن له في قلعه منفعة وكان الحكم يوجب بقاءه لصاحب
الأرض، فلا يجوز أن يتركه للمكتري بما أقر به من الكراء، أو بكراء المثل؛
لأنه بيع له بما يأخذ من الكراء، وقد تقدم القول إذا كان للزارع في قلعه
منفعة فأراد رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا، وإن نكل عن اليمين حلف الذي
حرث الأرض لقد أكراها بكذا وكذا، قل أو كثر كان يشبه أو لا يشبه، وقد تقدم
وجه ذلك؛ فإن نكل عن اليمين أخذ رب الأرض أرضه وإن أبى رب الأرض أن يحلف
على الوجهين جميعا، وقال: أحلف ما علمت بحرثه إياها ولا أحلف ما أكريت منه،
لم يكن ليمينه على هذا معنى، إلا أن ينكل الذي حرث الأرض عن اليمين؛ لأنه
إن حلف لقد أكريتها بكذا وكذا أدى ما حلف عليه وإن لم يشبه ذلك كراءها؛ لأن
رب الأرض قد مكنه من ذلك بنكوله على أن يحلف ما أكريتها منه، حلف ما علم
بحرثه إياها أو لم يحلف، فإن نكل الذي حرث الأرض عن اليمين، قيل لرب الأرض
ههنا: احلف أنك ما علمت بحرثه إياها وخذ أرضك واقلع الزرع إن شئت.
فصل وإن أبى رب الأرض أن يحلف على الوجهين جميعا وقال: أحلف ما أكريت منه،
ولا أحلف ما علمت بحرثه إياها، لم يمكن من اليمين على ذلك عند ابن القاسم؛
لأنه إذا نكل عن أن يحلف ما علمت بحرثه إياها، وجب أن يحلف الذي حرث الأرض
بالله لقد علم بحرثي إياها، وإذا حلف على ذلك كان بمنزلة إذا أقام
(2/233)
على ذلك بينة أو أقر له به رب الأرض، وإذا
أقر بذلك رب الأرض أو قامت للذي في حرث الأرض بذلك بينة كانت شبهة توجب أن
يكون القول قول الذي حرث الأرض أنه اكتراها منه بكذا وكذا إذا كان يشبه أن
يكون ذلك كراء مثلها، فيحلف الذي حرث الأرض إذا نكل رب الأرض عن اليمين أنه
ما علم بحرثه إياها على الوجهين جميعا: يقول: بالله لقد علم بحرثي إياها،
ولقد اكتريتها منه بكذا وكذا إذا أشبه أن يكون ما ادعى كراءها، فإن لم يشبه
أن يكون ذلك كراءها لم يصدق في ذلك، وحلف رب الأرض ما أكراها منه واستحق
كراء مثلها، ولم يكن له أن يقلع زرعه إذا حلف الذي حرث الأرض أنه حرثها
بعلمه ومعرفته، فإن لم يحلف على ذلك ونكل عنه، كان لصاحب الأرض أن يأخذ
أرضه ويقلع الزرع.
فصل فإن كانت للذي حرث الأرض بينة على أنه حرث الأرض بعلمه ومعرفته ولم تكن
له بينة على الكراء، كان القول قوله مع يمينه في الكراء إذا أتى بما يشبه،
فإن لم يأت بما يشبه، لم يصدق وحلف رب الأرض أنه ما أكرى منه، وكان عليه
كراء المثل، فإن نكل رب الأرض عن اليمين، كان القول قول الذي حرث الأرض،
وإن أتى بما لا يشبه؛ لأن رب الأرض قد مكنه من دعواه بنكوله، وإن كان الذي
أقر به الذي حرث الأرض من الكراء، كراء المثل فأكثر، لم يكن عليه في هذا
الوجه يمين، هذا مذهب ابن القاسم في المدونة ومساواته فيها بين أن تكون
للذي حرث الأرض بينة على علمه ومعرفته، أو يأبى اليمين في أن القول قول
الذي حرث الأرض مع يمينه في الكراء، إذا أشبه، إنما يريد إذا نكل عن اليمين
- على أنه ما حرثها بعلمه ومعرفته بخاص؛ وأما إذا نكل عن اليمين على أنه لم
يكرها منه، فالقول قول الذي حرث الأرض وإن لم يشبه. ولا اختلاف في هذا
بينهم، إلا ما يقوم من مسألة كتاب القراض، وقد ذكرناها؛ وأما غير ابن
القاسم في المدونة، فلم ير حرثه الأرض بعلم ربها شبهة توجب أن يكون القول
قوله في مبلغ الكراء، وجعل قول رب الأرض مع يمينه أنه ما أكرى منه أرضه؛
فإذا حلف على ذلك، استحق كراء
(2/234)
المثل، وإن كان الذي أقر به المكتري من
الكراء أكثر من كراء المثل، فلا يكون على واحد منهما يمين، وسواء على قول
غيره هذا - علم أو لم يعلم - فلا يحلف على مذهبه إن لم يعلم بحرثه الأرض،
وإنما يحلف أنه ما أكراها منه ويستحق كراء المثل، ولو نكل عن اليمين على
ذلك، لحلف الذي حرث الأرض، وإن أتى بما لا يشبه.
فصل وأما القسم الثاني، وهو أن يقوم عليه في ذلك بعد الإبان، فإن صدقه أنه
لم يكن منه فله كراء المثل دون يمين ادعى عليه أنه حرثها بعلمه ومعرفته، أو
لم يدع ذلك عليه؛ وأما إن ادعى عليه أنه أكراها منه ولم يدع عليه أنه حرثها
بعلمه ومعرفته، فإن رب الأرض يحلف أنه ما أكراها منه ويأخذ منه كراء المثل؛
وإن نكل عن اليمين، حلف الذي حرثها على ما ادعاه من الكراء؛ وأما إن ادعى
عليه أنه أكراها منه وأنه حرثها بعلمه ومعرفته، فيحلف على الوجهين جميعا؛
فإن حلف أخذ كراء المثل؛ وإن نكل عن اليمين على الوجهين جميعا، أو على أنه
لم يكر منه، حلف الذي حرث الأرض على ما ادعى من الكراء، وإن كان الذي أقر
به من الكراء أكثر من كراء المثل، فلا يمين على واحد منهما، وإن نكل رب
الأرض أن يحلف ما حرثها بعلمه ومعرفته، حلف الذي حرث على مذهب ابن القاسم:
لقد حرثها بعلمه ومعرفته، ولقد أكريتها منه بكذا وكذا، إذا أشبه ذلك، فإن
لم يشبه، حلف رب الأرض أنه ما أكرى منه وأخذ كراء المثل، وعلى قول غيره
يحلف رب الأرض ما أكراها منه ويأخذ كراء المثل.
(2/235)
[فصل في
المغارسة]
المغارسة تنقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون على وجه الإجارة، مثل أن يقول له: اغرس لي هذه الأرض كرما
أو تينا أو فرسكا أو ما أشبه ذلك، ولك كذا وكذا، فهذا إن كانت الغروس من
عند رب الأرض، فلا إشكال في جوازه، سمى له عدد ما يغرس في الأرض أو لم
يسمه؛ لأن ذلك معروف عند الناس، ولا بد أن يصف قدر الغروس في الصغر والكبر؛
لأن المشقة في ذلك مختلفة، إلا أن يدخلا في ذلك على عرف فيستغنى به عن
الصفة؛ وأما إن كانت الغروس من عند الغارس فيدخل في ذلك ما دخل مسألة الذي
استأجر الأجير على أن يبني له دارا على أن الآجر والجص من عند البناء؛ لأنه
يجتمع في ذلك إجارة وسلم، والإجارة والسلم أحكامها مختلفة، إذا كان الأجير
بعينه؛ لأن السلم لا بد فيه من ضرب الأجل وتعجيل رأس ماله، والأجير بعينه
لا يجوز أن ينقد إجارته إلا بعد شروعه في العمل الذي قد ضرب له الأجل؛ فلا
يجوز استئجار الأجير بعينه على الغرس بشرط أن تكون الغروس من عنده إذا كانت
لها قيمة إلا بثلاثة شروط، وهي: تعجيل الإجارة، والشروع في العمل، وأن يكون
الغرس لا يتم إلا في مدة طويلة يستحق فيها ما تعجل من الغروس في جنب ما
تأخر منها؛ وأما إذا أستأجره على الغرس إجارة ثابتة في ذمته على أن الغروس
من عنده، ولها قيمة، فذلك جائز؛ لأن حكم الإجارة الثابتة في الذمة حكم
السلم، فإن قدم إليه إجارته وضرب للغرس أجلا، مثل أن يقول: أستأجرك على غرس
هذه الأرض في شهر كذا بكذا وكذا، والغروس من عندك جاز، وهو معنى قول غير
ابن القاسم في المدونة إذا كان ذلك على وجه القبالة ولم يشترط عمل رجل
بعينه، فلا بأس بذلك إذا قدم نقده.
والوجه الثاني: أن تكون المغارسة على وجه الجعل مثل أن يقول له: اغرس لي
هذه الأرض أصولا تينا أو كرما أو ما أشبه ذلك، ولك في كل ثمرة تنبت كذا
وكذا، فهذا جائز على حكم الجعل المحض.
(2/236)
والوجه الثالث: أن يغارسه في الأرض على جزء
منها فهذا أجازه أهل العلم قياسا على ما جوزته السنة من المساقاة، فليست
بإجارة منفردة ولا جعل منفرد، وإنما هي سنة على حيالها، وأصل في نفسها أخذت
بشبه من الإجارة والجعل، فهي تشبه الإجارة في لزومها بالعقد، وتشبه الجعل
في أن الغارس لا يجب له شيء إلا بعد ثبوت الغرس وبلوغه الحد المشترط؛ فإن
بطل قبل ذلك، لم يكن له شيء، ولا كان من حقه أن يعيده مرة أخرى، وقد قيل:
لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب المغارسة:
إن المغارسة في الأرض على جزء من الأرض لا تجوز إلا على وجه الجعل بأن لا
يلزم المغارس الجعل ويكون له أن يذهب ويترك العمل إن شاء، فعلى هذا لا تكون
المغارسة إلا على قسمين، وهي: الجعل والإجارة - كان له نصيب من الأرض أو لم
يكن -.
فصل واختلف إن ثبت منها يسير وبلغ الحد وبطل سائر ذلك أو بطل منه يسير وثبت
سائر ذلك، فقيل: إن القليل تبع للكثير، إلا أن يكون الذي ثبت أو بطل له قدر
وبال، وإن كان الأقل فلا يكون تبعا ويثبت حقه فيما يثبت ويبطل مما بطل، وهي
رواية حسين بن عاصم، وهو الذي يأتي على المشهور من المذهب، فإن المغارسة
على جزء من الأرض جائزة على أنها لهما جميعا لازمة، وقد قيل: إن حقه يثبت
فيما بلغ، ويبطل فيما لم يبلغ، يسيرا كان أو كثيرا، تبعا كان أو غير تبع؛
وهو الذي يأتي على القول بأن المغارسة في الأرض على جزء منها لا تجوز إلا
على وجه الجعل.
فصل ولا تجوز المغارسة على جزء من الأرض إلا على شروط قد حدها أهل
(2/237)
العلم، من ذلك: أن يكون الحد إلى ما دون
الإطعام، واختلف إن كان حدها الإطعام أو إلى أجل من السنين دون الإطعام، أو
يسكتا عن الحد في ذلك أو الأجل على قولين، وأما إن كان الحد إلى فوق
الإطعام فلا يجوز، وكذلك لا يجوز إن اشترطا أن يكون الشجر أو الغلة بينهما
دون الأصل.
فصل فإن وقعت المغارسة على شيء مما وصفنا أنه لا يجوز باتفاق أو على قول من
لا يجيزها فيما ذكرنا فيه الخلاف، فإن ذلك ينقسم على قسمين:
أحدهما: أن لا يجعل له جزءا من الأصل.
والثاني: أن يجعل له جزءا منه.
فأما إذا لم يجعل له جزءا من الأصل وإنما غارسه على أن تكون الثمرة بينهما،
أو الشجر دون موضعها من الأرض فاختلف في ذلك على قولين:
أحدهما: أنه يحكم لذلك بحكم الكراء الفاسد.
والثاني: أنه يحكم له بحكم الإجارة الفاسدة، وهذا الاختلاف مبني على ما
غرسه الغارس من الغرس هل هو على ملكه - أو ملك رب الأرض، فمن علل بأن الغرس
على ملك الغارس جعله كراء فاسدا؛ لأنه كان الغارس اكترى منه الأرض إلى أمد
غير معلوم بنصف الثمرة التي يغرسها لنفسه في الأرض، أو بنصف الشجرة التي
يغرسها فيها لنفسه على أن يدفعها إليه عند بلوغها إلى الحد الذي اشترطاه،
وكان الحكم فيه أن يكون على الغارس كراء المثل في الأرض قبل يوم أخذها، وهو
قول ابن القاسم في سماع عيسى عنه، ومعنى ذلك: إن كان أخذها منه في وقت
(2/238)
يمكنه وضع الغرس فيه فيها، وقيل: من يوم
وضع الغرس فيها وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى عنه، ومعناه عندي من يوم
يمكنه وضع الغرس فيه فيها، فلا تكون على هذا رواية يحيى مخالفة لرواية
عيسى، خلاف ما كان الشيوخ يحملونها عليه من الخلاف لها، وقد زدنا هذا
المعنى بيانا في كتاب البيان في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب المغارسة،
وقيل من يوم أثمرت الشجرة وهو قوله في سماع أبي زيد، وسماع حسين بن عاصم،
وتكون له الغلة كلها يرد عليه رب الأرض ما أخذ منها المكيلة، إن عرفت أو
خرصها إن جهلت ويقلع غرسه إلا أن يشاء رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا،
وقيل: إن له قيمة غرسه قائما، قاله يحيى في سماعه من كتاب السداد والأنهار
في المعاملة الفاسدة في بناء الأرحى ولا فرق.
فصل ومن علل بأن الغرس على ملك رب الأرض، جعله إجارة فاسدة؛ لأنه كأن رب
الأرض استأجر الغارس على أن يغرس له هذه الأرض بنصف ثمرتها أو بنصف الشجر
إذا بلغت الحد المشترط، وكان الحكم فيه أن يكون للغارس على رب الأرض قيمة
غرسه يوم وضعه في الأرض مقلوعا، وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه، وتكون
الغلة كلها لرب الأرض يرد عليه الغارس ما أخذ منها المكيلة إن عرفت أو
خرصها إن جهلت.
فصل
وأما إذا جعل له جزءا من الأرض على وجه لا يجوز في المغارسة، مثل أن يقول
له: اغرس هذه الأرض وقم على الغرس، كذا وكذا سنة، أو حتى تبلغ كذا وكذا،
لأجل واحد يكون الإطعام دونه، أو يقول له: اغرسها وقم على الغرس حتى
(2/239)
يثمر أو إلى أجل كذا وكذا مما لا يثمر
النخل دونه، أو اغرسها وهي بيني وبينك مبهما من غير حد ولا أجل على مذهب من
لا يجيز ذلك؛ ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها: أنها إجارة فاسدة يكون على رب
الأرض للغارس قيمة غرسه يوم وضعه في الأرض، وأجرة مثله في غرسه إياه وقيامه
عليه، وتكون جميع الغلة له يرد عليه الغارس ما أخذ منها المكيلة إن عرفت،
أو خرصها، إن جهلت! وهذا قول سحنون وهو يأتي على مذهب من علل بأن الغرس على
ملك رب الأرض، فكأنه استأجره على غرس جميع الأرض بنصف الأرض والغرس عند
بلوغه الحد الذي شرطاه، وبنصف ما أثمر الغرس.
والثاني: أنه بيع فاسد في نصف الأرض قد فات بالغرس فيكون على الغارس فيه
قيمته يوم غرسه، وكراء فاسد في النصف الثاني، فيكون على الغارس فيه لرب
الأرض كراء مثله يوم أخذها، أو يوم وضع الغرس فيها، أو يوم أثمرت على
الاختلاف المذكور في ذلك؛ ويقلع الغارس غرسه، إلا أن يشاء رب الأرض أن
يأخذه بقيمته مقلوعا؛ وعلى قول يحيى بن يحيى المتقدم لا يأخذه إلا بقيمته
قائما، ويكون جميع الغلة للغارس يرد عليه رب الأرض ما أخذ منها المكيلة إن
عرفت، أو خرصها إن جهلت، وهذا هو قول ابن القاسم في رواية حسين عنه، وهو
يأتي على أن الغرس على ملك الغارس.
والثالث: أنه بيع فاسد في نصف الأرض قد فات بالغرس، فيكون على الغارس فيه
قيمته يوم غرسه؛ وإجارة فاسدة في النصف الثاني، فيكون فيه على رب الأرض
للغارس قيمته مقلوعا يوم وضعه في الأرض، وأجرة مثله في غرسه وقيامه إلى وقت
الحكم! وقيل: إنه يكون عليه للغارس نصف قيمة الغرس قائما يوم
(2/240)
يحكم فيه من أجل سقيه وعلاجه، وهي رواية
عيسى عن ابن القاسم، وقيل: إنه يكون عليه للغارس قيمة نصف غرسه يوم بلغ
وتم، وأجرته من يومئذ في قيامه عليه إلى يوم يحكم فيه، وهو قول ابن حبيب في
الواضحة، والغلة بينهما في جميع ذلك على ما اشترطاه؛ والصحيح من ذلك ما
بدأنا به من أن تكون عليه نصف قيمة غرسه مقلوعا يوم وضعه في الأرض، وأجرة
مثله في غرسه وقيامه عليه إلى يوم الحكم؛ وهذا يأتي على أن الغرس نصفه على
ملك الغارس، ونصفه على ملك رب الأرض - ومن الله التوفيق والحمد لله وحده -.
(2/241)
|