المقدمات
الممهدات [كتاب كراء
الدور]
الكراء: اشتراء المنافع، فهو بيع من البيوع يحله ما يحل البيوع ويحرمه ما
يحرم البيوع، ولا يجوز فيه الغرر والمجهول.
والكراء في الدور والرباع جائز عند جميع العلماء بجميع الأثمان المعلومة،
وهو يكون على وجهين، أحدهما: أن يعقده المتكاريان لمدة معينة معلومة،
والثاني: أن يسميا الكراء ويتفقا عليه ولا يتواجبان على مدة معينة معلومة.
فصل فأما الوجه الأول، وهو أن يعقد الكراء لمدة معينة معلومة، فإن ذلك جائز
بالنقد وإلى أجل قبض الدار أو لم يقبضها إلى سنة، قال ابن حبيب: أو سنتين
كالبيع؛ لأن الدور مأمونة، فإن بعد الأجل فوق ذلك، لم يكن بالكراء بأس دون
نقد.
فصل فإذا عقد الكراء لمدة معينة معلومة لزمهما جميعا ولم يكن للمكتري أن
(2/211)
يخرج، ولا لصاحب الدار أن يخرجه قبل تمام
المدة، إلا أن يشترط المكتري أن يخرج متى شاء فيجوز ذلك ما لم ينقد بشرط
ولا طواعية؛ لأنه كراء الخيار فلا يجوز فيه النقد بشرط ولا طواعية.
فصل وهذه المدة تتعين بأربعة ألفاظ، (أحدها) أن يقول: أكري منك هذه الدار
أو هذا الحانوت شهر كذا أو سنة كذا، (والثاني) أن يقول: أكري منك ذلك هذا
الشهر أو هذه السنة، فإن قال: هذا الشهر وكان ذلك أول الهلال، لزمهما
الكراء في ذلك الشهر على الهلال كل تسعة وعشرين يوما أو ثلاثين يوما، وإن
كان ذلك في بعض الشهر لزمهما الكراء في ثلاثين يوما من يوم عقداه بقران
بقية أيام هذا الشهر ثم يكملان عليهما تمام ثلاثين يوما من الشهر الذي
يليه، وكذلك إن قال: هذه السنة وهما في أول الشهر لزمهما الكراء في اثني
عشر شهرا متصلة على الأهلة كان ذلك في أول شهر المحرم أو غيره من الشهور،
ولا يقع الكراء على ما بقي من السنة، إذا قال: أكري منك هذه السنة كل شهر
بكذا وكذا وقد مضى بعضها إلا ببيان، يبين ذلك رواية عيسى عن ابن القاسم في
كتاب الصيام فيمن قال: لله علي صيام هذه السنة لسنة ست وثمانين، وقد مضى
بعضها، أن عليه صيام اثني عشر شهرا، وروايته عنه في كتاب الأيمان بالطلاق
فيمن قال: امرأته طالق ثلاثا، إن فعلت كذا وكذا هذه السنة، أنه إن كان قد
نوى ما بقي من السنة فله نيته، وإن لم ينو شيئا فليستقبل اثني عشر شهرا من
يوم حلف. وإن كان ذلك في بعض شهر، عد بقية أيام هذا الشهر ثم إحدى عشر شهرا
على الأهلة، ثم أكمل على ما كان بقي من الشهر تمام ثلاثين يوما، هذا قولهم
في الكراء والأيمان والعدد التي تكون
(2/212)
بالشهور والأيام، واستحب ابن القاسم في
العدد والأيمان، إن كان قد مضى بعض يوم أن يلغي ذلك اليوم، واختلف فيه قول
مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكان قوله أولا أن تعتد المرأة من الساعة
التي توفي فيها زوجها، إلى مثلها فتنقضي عدتها، ثم قال بعد ذلك بإلغاء بقية
ذلك اليوم، واختلاف قوله داخل في الكراء أيضا، فعلى قوله الأول يلزم
المتكاريين الكراء من الساعة التي عقدا فيها الكراء إلى مثلها من الشهر أو
من السنة، وعلى قوله الذي رجع إليه لا يلزم المتكاريين الكراء إذا عقداه
وقد مضى من النهار بعضه إلا بغروب الشمس؛ لأن الليلة أول اليوم وهي مقدمة
على النهار، (والثالث) أن يقول: أكري منك هذه الدار شهرا أو سنة، فإن السنة
أو الشهر متعينان من يوم عقد الكراء بمنزلة قوله هذا الشهر أو هذه السنة،
سواء على التفسير الذي قدمناه في ذلك مما يعد بالأيام أو يكون على الأهلة،
إلا في وجه واحد، فإنه فرق في كتاب ابن المواز فيه بينهما، فقال: إنه إذا
قال أكريك شهرا بكذا فسكن شهرا ودخل في ثان فخرج قبل تمامه، فعليه بحساب ما
أكرى ولو كان بعينه، لكان عليه في الثاني كراء المثل، وقيل: إن كان أقل لم
ينقض، وإن كان كراء المثل أكثر، حلف وأخذه على اختلاف في اليمين؛ لأنها
يمين تهمة. (والرابع) أن يقول أكتري منك إلى وقت كذا وكذا.
فصل فإذا انعقد الكراء لمدة معينة بأحد هذه الألفاظ، لزمهما جميعا ولم يكن
لأحدهما الخروج إلا أن يشترطه على صاحبه ولا ينقد فيجوز على ما قدمناه.
فصل فأما الوجه الثاني وهو أن يتفقا على الكراء ويسمياه دون أن يتواجبا على
مدة
(2/213)
يعينانها، فذلك مثل أن يقول: أكري منك
الشهر بكذا أو السنة بكذا أو في كل شهر بكذا أو في كل سنة بكذا أو كل شهر
بكذا، أو كل سنة بكذا، أو في الشهر بكذا أو في السنة بكذا، فإنه إذا وقع
الكراء على هذا كان للمكتري أن يخرج متى شاء وللمكري أن يخرجه متى شاء، كان
ذلك في أول الشهر أو آخره أو وسطه، ويؤدي من الكراء بحسبما سكن ولا يلزم
واحدا منهما الكراء في الشهر الأول ولا فيما بعده إلا أن يقع فيها بينهما
شرط أن لا يخرج أو لا يخرجه أو يعجل الكراء، فهو كالاشتراط قاله ابن حبيب،
وهو مذهب ابن القاسم، وذهب ابن الماجشون إلى أنه يلزمه الكراء في الشهر
الأول إذا قال: الشهر بكذا أو في كل شهر بكذا، وكذلك على مذهبه للسنة
الأولى إذا قال: السنة بكذا أو في كل سنة بكذا، وروى ابن أبي أويس عن مالك
في البيوت التي تكرى شهرا بشهر فيخرج قبل ذلك أن كراء ذلك الشهر عليه وإنما
يكون عليه بحساب ما سكن إذا تكارى كل يوم بدرهم.
فصل ففي كراء الدور مشاهرة على هذا ثلاثة أقوال، أحدها: قول ابن القاسم:
إنه لا يلزمه الشهر الأول ولا ما بعده وله أن يخرج متى شاء ويلزمه من
الكراء بحساب ما سكن، والثاني: قول ابن الماجشون: إنه يلزمه الشهر الأول
ولا يلزمه ما بعده، والثالث: رواية ابن أبي أويس عن مالك أنه يلزم كراء
الشهر بسكنى بعضه كان أول الشهر أو لم يكن، وكذلك الثلاثة الأقوال داخلة في
كراء الدور مساناة مثل أن يقول: السنة بكذا، أو في كل سنة بكذا أو ما أشبه
ذلك لا يلزمهما الكراء في أول سنة ولا فيما بعدها على مذهب ابن القاسم
ويلزمهما الكراء في أول سنة على مذهب ابن الماجشون لا فيما بعدها ويلزمهما
الكراء في كل سنة بسكنى بعضها على رواية ابن أبي أويس عن مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى -، فتدبر ذلك.
(2/214)
فصل ويجوز الكراء في الدور السنين ذوات
العدد، والحد في ذلك ما لا تتغير الدار إلى مثله، وذلك يختلف باختلاف إتقان
بنيانها، فإن اكتراها من المدة إلى ما لا يؤمن تغير الدار فيها، جاز العقد
ولم يجز النقد ولا ينفسخ الكراء المنعقد لمدة معينة بفوت أحد المتكاريين،
وقد اختلف؛ هل يحل الكراء المؤجل على المكتري بموته إذا مات قبل استيفاء
السكنى أو لا؟ على قولين للمتأخرين جاريين على أصل مختلف فيه بين المتقدمين
من أصحاب مالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى، وإنما ينتقض الكراء بين
المتكاريين باستحقاق الدار أو استحقاق منافعها المكتراة، أو انهدام جميع
بنيانها، فإن انهدم بعض بنيانها، ففي ذلك تفصيل وتقسيم، وهو أن الهدم في
الدار المكتراة ينقسم على قسمين: (أحدهما) أن يكون يسيرا، (والثاني) أن
يكون كثيرا، فأما إن كان يسيرا فإنه على ثلاثة أوجه: (أحدها) أن يكون لا
مضرة فيه على الساكن ولا ينقص من قيمة كراء الدار شيئا كالشرفات ونحوها،
فهذا لا خلاف فيه أن الكراء للمكتري لازم ولا يحط عنه منه شيء (والثاني) أن
يكون لا مضرة فيه على الساكن إلا أنه ينقص من قيمة كراء الدار، فهذا يلزمه
السكنى ويحط عنه ما حط ذلك من قيمة الكراء إن لم يصلحه رب الدار ولا يلزمه
إصلاحه، فإن سكت وسكن لم يكن له شيء. (والثالث) أن يكون فيه مضرة على
الساكن من غير أن يبطل من منافع الدار شيئا يلزمه الإصلاح كالعطل وشبهه،
فهذا اختلف فيه على قولين، (أحدهما) قول ابن القاسم: إن رب الدار لا يلزمه
الإصلاح إلا أن يشاء، فإن أبى كان المكتري بالخيار بين أن يسكن بجميع
الكراء أو يخرج، فإن سكت وسكن لزمه جميع الكراء. (والثاني) قول غيره: إن رب
الدار يلزمه الإصلاح، فإن سكت وسكن لزمه جميع الكراء، وأما إن كان الهدم
(2/215)
كثيرا فلا يلزم رب الدار الإصلاح بإجماع
وهو أيضا على ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يعيب السكنى وينقص من قيمة الكراء ولا
يبطل شيئا من المنافع، مثل: أن تكون الدار مبلطة مجصصة فيذهب بتبليطها
وتجصيصها، فهذا يكون المكتري بالخيار بين أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج إلا
أن يصلح ذلك رب الدار، فإن سكت وسكن لزمه جميع الكراء على مذهب ابن القاسم
في المدونة خلاف مذهبه في رواية عيسى عنه، وقد قيل: إن الحكم في هذا الوجه
كالبيت ينهدم من الدار ذات البيوت وهو بعيد. (والثاني) أن يبطل اليسير من
منافع الدار كالبيت ينهدم منها شيء وهي ذات بيوت، فهذا يلزمه السكنى ويحط
عنه ما ناب البيت المنهدم من الكراء. (الثالث) أن يبطل أكثر منافع الدار أو
منفعة البيت الذي هو وجهها أو يكشفها بانهدام حائطها وما أشبه ذلك، فهذا
يكون المكتري فيه مخيرا بين أن يسكن بجميع الكراء، أو يخرج، فإن أراد أن
يسكن على أن يحط عنه ما ينوب ما انهدم من الكراء، لم يكن ذلك له إلا أن
يرضى بذلك رب الدار، فإن رضي بذلك جرى جوازه على الاختلاف في جواز جمع
الرجلين سلعتيهما في البيع، فإن بنى المكري الدار قبل أن يخرج المكتري منها
لزمه الكراء ولم يكن له أن يخرج وإن بناها بعد أن خرج، لم يكن عليه الرجوع
إليها إلا أن يشاء وإن سكت وسكن الدار مهدومة لزمه جميع الكراء على مذهب
ابن القاسم في المدونة خلاف رواية عيسى عنه في العتبية.
فصل ويجوز أن يكري الرجل داره من مسلم ونصراني إلا أنه إذا أكراها من
نصراني فلا يخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يكريها منه على أن يسكنها أو
يبيع فيها ما يشاء من الأشربة الحلال. (والثاني) أن يكريها منه على أن يبيع
فيها خمرا أو
(2/216)
ما لا يجوز من الحرام. (والثالث) أن يكريها
منه كراء مبهما، فأما إذا أكراها منه على أن يسكنها أو يبيع فيها ما يشاء
من الأشربة الحلال، فالكراء جائز، فإن صرفها المكتري إلى بيع الخمر وما
أشبه ذلك من الحرام، فلم يمنعه من ذلك، تصدق بجميع الكراء قاله ابن حبيب،
قال بعض المتأخرين: وهذا إن كان أكراه ليسكن؛ لأن السكنى في الدار خلاف بيع
الخمر فيها، فإذا لم يمنعه، فكأنه فسخ الأول في الثاني ولو كان أكراه ليبيع
فيها الأشربة الحلال، فباع فيها الخمر والحرام فلم يمنعه من ذلك لما وجب
عليه أن يتصدق إلا بما زادت قيمة كرائها على أن يباع فيها الخمر على الكراء
الذي كان أكراها به؛ وهذه تفرقة لا وجه لها، كأنه أيضا قد فسخ الأول في
الثاني، وإن كان يشبهه في أنه بيع شراب، فالصواب أنه إذا علم فلم يمنعه
تصدق بجميع الكراء، وإذا لم يعلم تصدق بما بين الكراءين من غير تفصيل بين
أن يكون أكرى منه للسكنى أو لبيع الأشربة الحلال، ولا اختلاف إذا لم يعلم
ببيعه فيها الخمر، في أنه لا يجب عليه أن يتصدق إلا بما زادت قيمة كرائها
على أن يباع فيها الخمر على الكراء الذي أكراها به، كان أكراها لبيع
الأشربة الحلال أو للسكنى، وأما إن كان أكراها منه على أن يبيع فيها خمرا،
وما أشبه ذلك، فالكراء فاسد يفسخ إن عثر عليه قبل السكنى، فإن لم يعثر عليه
حتى فات بانقضاء أمد الكراء تصدق بجميع الكراء على المساكين كان أقل من
القيمة أو أكثر، قيل: لأنه لا يحل للمكري كثمن الخمر، وقيل: أدبا له لا من
أجل أنه حرام كعين الخمر، وظاهر ما في سماع سحنون من كتاب السلطان أن الثمن
يترك له ولا يتصدق به؛ لأنه قال فيه: فإن فات مضى، إلا أن يريد بقوله: يمضي
إذا فات أنه لا يرد إلى القيمة بعد الفوات، وذلك محتمل، وإن لم يبع المكتري
فيه خمرا وصرفه للسكنى أو لسائر الأشياء المباحة في الكراء، فقال ابن حبيب:
يسوغ الكراء للمكري إلا أن يكون يزيد في كرائها لبيع الخمر على كرائها لغير
الخمر، فيتصدق بالزيادة،
(2/217)
والقياس أن يكون فيه القيمة على ما صرفها
إليه بالغة ما بلغت سائغة للمكري؛ لأن العقد كان فاسدا، فيصحح بالقيمة إذا
فات بصرفها إلى وجه مباح، وأما إذا كان أكراها منه كراء مبهما، فقال ابن
حبيب: ذلك جائز، وإن علم أنه يبيع فيها خمرا، وله أن يمنعه من ذلك، وقال
ابن القاسم في المدونة: الكراء فاسد إن علم أنه يبيع فيها خمرا، وقد تقدم
الحكم فيه واتفقا في العنب أنه لا يجوز أن يبيعها ممن يعلم أنه يعصرها
خمرا، والفرق بينهما عند ابن حبيب أن العنب يغيب المبتاع عليه فلا يقدر
البائع على منعه من عصره بخلاف بيع الخمر في داره، واختلف إذا وقع فقيل
يفسخ فيه البيع وقيل يباع على المبتاع والله أعلم.
فصل واختلف في كراء بيوت مكة؛ فكان سفيان الثوري لا يرى أن تكرى ولا يرى
على من سكنها بأسا أن يمسك الكراء، وهو مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ
- وأكثر أصحابه؛ لأنهم ذهبوا إلى أن مكة فتحت عنوة، وذهب الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى أنها مؤمنة والأمان كالصلح، فرأى أهلها
مالكين لرباعهم، وأجاز بيعها وكراءها، ولا خلاف عند مالك وأصحابه في أنه
افتتحت عنوة، فقيل: إنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من على أهلها بها. فلم
تقسم ولا سبى أهلها لما عظم الله من حرمتها، وقيل: إنها أقرت للمسلمين،
وعلى هذا يأتي اختلافهم في جواز كرائها، فالظاهر من مذهب ابن القاسم في
المدونة إجازة ذلك، والظاهر من قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الحج
المنع في ذلك، وحكى الداودي عنه أنه كره كراءها في أيام الموسم، وقال
اللخمي: اختلف قوله في كراء دور مكة وبيعها؛ فمنع من ذلك مرة، وحكى أبو
جعفر الأبهري عنه أنه كره بيعها وكراءها، فإن بيعت أو أكريت لم يفسخ
(2/218)
ذلك؛ فيتحصل عنه في ذلك أربع روايات:
الجواز والمنع والكراهة وكراهة كرائها في أيام الموسم خاصة، وقد روي عن عبد
الله بن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل
بيع بيوت مكة ولا إجارتها» وروى ابن عباس عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: «مكة كلها مباح لا تباع رباعها ولا تؤجر بيوتها» ".
وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
(2/219)
|