المقدمات الممهدات

 [كتاب الرواحل والدواب]
قال الله عز وجل: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7] ، وقال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] ، وقال: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] ، وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: 79] {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر: 80] ، وقال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] ، وقال:

(2/183)


{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} [يونس: 22] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء: 70] .
فصل فملكنا الله تعالى الأنعام والدواب وذللها لنا وأباح لنا تسخيرها والانتفاع بها رحمة منه تعالى بنا وما ملكه الإنسان وجاز له تسخيره من الحيوان، فكراؤه له جائز بإجماع أهل العلم لا اختلاف بينهم في ذلك.

فصل والكراء من العقود اللازمة يلزم المتكاريين الكراء بالعقد ولا يكون لأحدهما خيار في حله، إلا أن يشترط أحدهما الخيار لنفسه كالبيع سواء؛ لأنه ثمن ومثمون، فلا يجوز فيه الغرر والمجهول، ولا يصح إلا معلوما في معلوم، ولا بد فيه من تسمية الكراء وضرب الأجل إن اكترى الدابة مدة ما أو تسمية المسافة، إن أكراها إلى موضع ما، ولا بد من تسمية ما يحمل على الدابة أو ما يسخرها فيه، إلا أن يدخلا على عرف قد علماه فيقوم العرف في ذلك مقام التسمية.

فصل فإن أكرى الدابة وضرب لكرائها أجلا وسمى موضعا أو عين عملا، كان ذلك من باب مدتين في مدة فضارع ما نهى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيعتين في بيعة، ومن شرطين في بيع، وجرى على قولين، أحدهما: أن الكراء فاسد يفسخ، فإن مات كان للمكري كراء مثله على سرعة السير وإبطائه. والثاني: أن الكراء جائز لا يفسخ ويكون للمكري الكراء المسمى إن بلغ الموضع الذي سمياه في الأجل الذي وقتاه، وكراء مثله إن لم يبلغ إليه في الأجل، وهذا إذا كان الأجل واسعا يعلم أنه يدرك الوصول إلى الموضع الذي سمياه فيه، إلا أن يقصر أو يفرط، وأما إن كان

(2/184)


الأجل ضيقا يمكن أن يصل فيه إلى ذلك الموضع، وألا يصل، فلا يجوز الكراء باتفاق، وكذلك إذا قال له: إن بلغت إليه إلى أجل كذا وكذا، فلك كذا وكذا، وإن لم تصل إليه إلا إلى أجل كذا وكذا فلك كذا وكذا، لا يجوز باتفاق، ويفسخ؛ فإن فات بالمسير، كان له كراء مثله بالغا ما بلغ على سرعة السير وإبطائه عند ابن القاسم، وعلى قول غيره في كتاب الجعل والإجارة لا ينقص من الأقل ولا يزاد على الأكثر، وللشيوخ في قول غيره المذكور ثلاثة وجوه من التأويل، (أحدها) أنه لا ينقص من الأقل ولا يزاد على الأكثر، سواء بلغ في الأجل أو لم يبلغ. (والثاني) أنه إن بلغ في الأجل وكان كراء مثله أقل من أقل الكراءين، لم ينقص من أقل الكراءين، وإن كان له كراء مثله أكثر من أكثر الكراءين، كان له ذلك. وإن لم يبلغ في الأجل وكان كراء مثله أكثر من أكثر الكراءين، لم يزد على أكثر الكراءين؛ وإن كان كراء مثله أقل من أقل الكراءين لم يكن له إلا ذلك، وهذا تأويل ابن أبي زمنين. (والثالث) أنه إن بلغ في الأجل لم ينقص من أكثر الكراءين، إن كانت القيمة أقل منه ولا يزيد عليه إن كانت أكثر منه، وإن لم يبلغ في الأجل، لم ينقص من أقل الكراءين إن كانت القيمة أقل منه، ولا زيد عليه إن كانت القيمة أكثر منه.

فصل وكراء الرواحل والدواب على وجهين، أحدهما: أن يكون مضمونا، والثاني: أن يكون معينا؛ فأما المعين فهو أن يقول: أكتري منك دابتك هذه أو راحلتك هذه، قال بعينها أو لم يقل، أو دابتك الفلانية أو راحلتك الفلانية، وذلك جائز بالنقد وإلى أجل، إذا شرع في الركوب أو كان إنما يركب إلى الأيام القلائل العشرة ونحوها، قاله مالك، وقال ابن القاسم: لا يعجبني إلى عشرة أيام يريد إذا نقد، وهذا إذا كانت الدابة أو الراحلة حاضرة، وأما إن كانت غائبة فلا يجوز تعجيل النقد؛ لأن النقد لا يصلح في شراء الغائب، وأما إن اكترى الراحلة بعينها على أن

(2/185)


لا يركبها إلى فوق العشرة الأيام، قال في المدونة: إلى ثلاثين يوما أو نحوها، فلا يجوز الكراء بالنقد، ويجوز بغير النقد، وقال غيره: لا يجوز الكراء وإن لم ينقد لأنه من التحجير.

فصل وهذا الكراء المعين ينفسخ الكراء فيه بموت الراحلة أو الدابة، فإن ماتت في بعض المسافة فأراد أن يعطيه دابة أخرى بعينها يبلغ عليها إلى منتهى غايته، فإن كان لم ينقد فذلك جائز؛ لأنه كراء مبتدأ، كان قد نقده لم يجز؛ لأنه فسخ الدين في الدين: فسخ ما يجب له الرجوع به من بقية رأس ماله قي راحلة يركبها، إلا أن يكون ذلك في مفازة حيث لا يجد الكراء، فيجوز ذلك للضرورة؛ قال ابن حبيب: كما يجوز للمضطر أكل الميتة، وهذا على مذهب ابن القاسم، وأما على مذهب أشهب فذلك جائز؛ لأنه يجوز له أن يتحول من دين له إلى خدمة عبد بعينه أو كراء دابة بعينها، ولا يرى ذلك من فسخ الدين في الدين؛ لأنه إنما تحول إلى الانتفاع بشيء معين فجعل قبضه إياه لاستيفاء المنافع منه قبض لجميع المنافع، ولا يجوز له أن يكري منه بما يجب له به الرجوع عليه من الكراء كراء مضمونا باتفاق من ابن القاسم وأشهب وغيرهما.

فصل فإن فلس رب الراحلة في الكراء المعين، فالمكتري أحق بها إلى منتهى غايته قبضها أو لم يقبضها نقد الكراء أو لم ينقد.

فصل وأما كراء الدابة المضمونة أو الراحلة المضمونة وهو أن يقول: أكرني دابة أو

(2/186)


راحلة فإنه يجوز أيضا بالنقد وإلى أجل إذا شرع في الركوب، وأما إن لم يشرع في الركوب، وإنما تكارى كراء مضمونا إلى أجل كالمتكاري إلى الحج في غير إبانه، فالقياس أنه لا يجوز إلا بتعجيل الكراء؛ لأنه كالسلم الثابت في الذمة فلا يجوز إلا بتعجيل رأس المال، إلا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد خفف، أن يعربن الدينار إلى أن يأتي الكري بظهره؛ لأن الأكراء قد قطعوا بالناس وقال: كم من كري قد هرب وترك أصحابه، فأجاز تأخير الكراء لهذه الضرورة، واستحب أن ينقد أكثر الكراء أو نحو ثلثيه.

فصل ولا ينفسخ الكراء بموت الدابة في الكراء المضمون، إلا أن الكري إذا قدم إلى المكتري دابة فركبها فليس له أن يبدلها تحته إلا برضاه؛ وإن فلس الكري كان المكتري أحق بها إلى منتهى غايته إذا كان قبضها وإن كان يبدل دوابه تحته فهو أحق بما كان تحته يوم التفليس، وإن كانت يوم التفليس قد نزل عنها وأخرجت إلى المرعى، فليس ذلك بمانع له من أن يكون أحق بها من الغرماء قاله ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب المديان، وغمز محمد بن المواز قول ابن القاسم هذا وقال: إنما يجب أن يكون أحق بها إذا كانت معينة، وهو معنى قول غير ابن القاسم في الكتاب ليس الراحلة بعينها كالمضمون، وقد تؤول أن معنى ذلك في اختلافهما في الكراء لتقدم المسألتين جميعا واحتمال إعادة قوله المذكور على كل واحد منهما.

فصل وأما إن فلس الكري قبل أن يقبض المكتري الدابة في الكراء المضمون، فهو أسوة الغرماء يحاصهم بقيمة الكراء يوم الحصاص لا يوم الكراء، فما صار له

(2/187)


أكرى له به وما بقي اتبعه به دينا في ذمته، قال محمد: وسواء نقد الكراء أو لم ينقد، إلا أنه إن لم ينقد غرم الكراء ثم حاص فيه الغرماء وفي سائر ماله، فإن صار له نصف الكراء اتبعه بنصف الحمولة وليس بالثمن.

فصل فإذا قلنا: إن الكراء على وجهين: مضمون ومعين، فلا يخلو عقد الكراء من ثلاثة أوجه، أحدها: أن يقع على معين ببيان ونص، وذلك أن يقول: أكتري منك دابتك هذه أو دابتك الفلانية، قال: بعينها أو لم يقل، الحكم في ذلك سواء؛ والثاني: أن يقع على مضمون ببيان، وذلك أن يقول: أكر مني دابة بغلا أو حمارا أو راحلة صفة كذا وكذا من غير أن يسميها أو يشير إليها. والثالث: أن يعرى العقد في ذلك من البيان، وذلك أن يقول: أكتري منك دابتك بغلك أو حمارك أو راحلتك ولا يزيد على ذلك؛ فأما الوجهان الأولان، فلا كلام فيهما لهما في المضمون حكم المضمون، وفي المعين حكم المعين، على ما تقدم، وأما الوجه الثالث: إذا قال: أكتري منك بغلك أو راحلتك، ولم يزد على ذلك، فهي على أنها مضمونة غير معينة حتى يعينها بالتسمية لها أو بالإشارة إليها، روى ذلك ابن القاسم عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في كتاب الرواحل والدواب، وإليه ذهب ابن حبيب، قال في الصانع: إذا استعمله الرجل عملا فهو عليه مضمون في ماله إن مات قبل أن يتم ما استعمل إلا أن يشترط عمل يده أو يكون إنما قصده لرفقه وإحكامه، وحكي ذلك عن أصبغ وأنه مذهب قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وروى أيضا ابن القاسم عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نحوه في أول سماعه من كتاب الجعل والإجارة، وهو الذي يأتي على ما في كتاب النذور من المدونة، قال في الذي يحلف أن لا

(2/188)


يدخل دار فلان: إنه يجوز له أن يدخلها إذا خرجت عن ملكه ما لم يقل دار فلان هذه، فيعينها بالإشارة إليها، ومثله أيضا في سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق فرق بين أن يحلف الرجل، فيقول: لا دخلت جنانك أو لا دخلت هذه الجنان. وفي سماع عيسى عن ابن القاسم في الكتاب المذكور في الذي يحلف أن لا يستخدم عبد فلان فيعتق فلان عبده ذلك، أنه لا يجوز له أن يستخدمه بعد العتق وإن لم يقل هذا العبد، فيدخل الاختلاف في هذه الرواية بالمعنى في مسألة الكراء، والأول هو المشهور المنصوص عليه.

فصل وهذا إذا اتفقا على الإبهام وتصادقا عليه ولم يدعيا البيان، وأما لو ادعيا البيان واختلفا، فقال أحدهما: مضمونا، وقال الآخر: معينا، لوجب أن يتحالفا ويتفاسخا إن كان المكتري لم يقبض؛ لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه، وأما إن قبض المكتري الدابة ثم اختلفا، فقال المكتري: هذه الدابة التي قبضت هي التي اكتريت بعينها، وقال رب الدابة: لم أكرها بعينها وإنما أكريت منك كراء مضمونا أو ادعى المكتري أنه اكترى إكراء مضمونا، وقال رب الدابة: ما أكريت منك إلا تلك التي دفعت إليك بعينها، فالقول قول الذي ادعى تعيين الدابة المدفوعة مع يمينه منها إن فاتت الدابة، وأما إن كانت الدابة قائمة لم تفت ولا دخلها عيب، فلا معنى ليمين من ادعى التعيين؛ إذ لا تفيد يمينه في هذه الحالة شيئا؛ لأنه إن كان الذي ادعى التعيين هو المكتري، فإنه يقول للمكري: هب الأمر كما تقول إنها مضمونة قد دفعت إلي هذه الدابة فليس لك أن تنزعها مني، وإن كان الذي ادعى التعيين هو رب الدابة فإنه يقول للمكتري: هب الأمر كما تقول إنها مضمونة ليس لك أن تلزمني بدلها ما لم تمت أو يدخلها عيب أو مرض. وبالله التوفيق.

(2/189)


فصل
في التداعي
الأصل في التداعي من كتاب الله عز وجل قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] ، وقَوْله تَعَالَى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ؛ فوجب بهذا على كل من ابتدأ قولا وابتدع مذهبا أن يأتي بالدليل على صدق قوله، والبرهان على صحة مذهبه، وعلى من ادعى على أحد دعوى في مال أو دم أو عرض أو غير ذلك، أن يأتي بالبينة على دعواه، وقد بين ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعموم قوله: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» . وبقوله للرجل الذي خاصم إليه في الأرض التي زعم أنه انتزى عليها في الجاهلية فأنكر ذلك من دعواه: «شاهداك أو يمينه» .

فصل فوجه معرفة الفصل في الحكم بين المتداعيين تمييز المدعي الذي يكلف إقامة البينة على دعواه ولا يمكن من اليمين من المدعى عليه الذي يمكن من اليمين ولا يكلف إقامة البينة بالوقوف على العلة المفرقة بينهما الموجبة لتبدئة المدعى عليه باليمين دون المدعي، إذ قد يكون القول قول المدعي إذا كان في معنى المدعى عليه وتكون على المدعى عليه إقامة البينة إذا كان في معنى

(2/190)


المدعي؛ لأن المدعى عليه لم يكن القول قوله من أجل أنه مدعى عليه، ولأن المدعي لم يكلف إقامة البينة على دعواه من أجل أنه مدع، إذ ليست الأحكام للأسماء، إنما هي للمعاني، فالمعنى الذي من أجله كان القول قول المدعى عليه هو أن له سببا يدل على صدقه دون المدعي في مجرد دعواه وهو كون السلعة بيده إن كانت الدعوى في شيء بعينه، أو كون ذمته بريئة على الأصل في براءة الذمم إن كانت الدعوى فيما في ذمته، والمعنى الذي من أجله وجب على المدعي إقامة البينة على دعواه هو مجرد دعواه من سبب يدل على صدقه فيما يدعيه، فإن كان له سبب يدل على تصديق قوله أقوى من سبب المدعى عليه، كالشاهد الواحد، أو الرهن، أو ما أشبه ذلك من إرخاء الستر، وجب أن يبدأ باليمين دون المدعى عليه، فإن لم يكن لواحد منهما سبب يدل على صدقه كالسلعة يتداعيانها وليست بيد واحد منهما، أو كان لكل واحد منهما سبب مكافئ لسبب صاحبه لا مزية له عليه، كتكافؤ البينة وليست السلعة في يد واحد منهما، لم يبدأ أحدهما باليمين دون صاحبه، ووجب أن يحلفا جميعا ويقسما السلعة بينهما.

فصل والأصل في هذا أن المبدأ باليمين من المتداعيين هو من كان منهما أشبه بالدعوى بسبب يدل على تصديقه، كان المدعي أو المدعى عليه؛ لأن المدعي والمدعى عليه متداعيان في الحقيقة، مثال ذلك: أن من ادعى دارا في يد رجل هما متداعيان فيها؛ لأن كل واحد منهما يدعيها لنفسه دون صاحبه فيستويان في الدعوى، وفضله الذي في يده الدار باليد، فكان أشبه بالدعوى، فجعل القول قوله لهذا المعنى، لا من أجل كونه مدعى عليه.

(2/191)


فصل وقول سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أيما رجل عرف المدعي من المدعى عليه لم يلتبس عليه ما يحكم به بينهما، فالمدعي أن يقول: الرجل قد كان، والمدعى عليه أن يقول: الرجل لم يكن ليس على عمومه في كل موضع، وإنما يصح إذا تجردت دعوى المدعي في قوله قد كان من سبب يدل على تصديق دعواه، فإن كان له سبب يدل على تصديق دعواه أقوى من سبب المدعى عليه القائل لم يكن برئ عليه باليمين، مثال ذلك: أن من حاز شيئا مدة تكون فيه الحيازة عاملة في وجه المدعى فادعى الشراء، كان القول قوله مع يمينه في ذلك، وهو مدع يقول: قد كان، والمدعى عليه يقول: لم يكن، وكذلك المودع يدعي رد الوديعة، القول قوله وهو مدع، يقول: قد كان، والودع: يقول لم يكن، ومثل هذا كثير.

فصل يتبين بهذا الذي قلناه أن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» عام في جميع الدعاوى من الأموال والدماء وغير ذلك، وخاص فيما تجردت دعواه من المتداعيين عن سبب يدل على صدق قوله، والله أعلم.
فصل وهذه جملة لا اختلاف بين أحد من أهل العلم فيها وما يوجد من الاختلاف بينهم في التداعي ليس بخارج عن هذا الأصل، إنما هو اختلافهم في قوة السبب الدال على تصديق أحد المتداعيين وضعفه على ما يؤديه الاجتهاد إلى كل واحد منهم.

فصل والاختلاف بين المتكاريين كالاختلاف بين المتبايعين؛ لأن الكراء بيع من

(2/192)


البيوع، والأصل في ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما بيعين تبايعا فالقول ما قال البائع أو يترادان» .

فصل واختلافهما لا يخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يختلفا في المسافة، (والثاني) أن يختلفا في الكراء، (والثالث) أن يختلفا في الأمرين جميعا. فأما اختلافهما في المسافة فإنه على وجهين، (أحدهما) أن يختلف في غايتها، مثل أن يقول المكري: أكريت منك إلى قرمونة، ويقول المتكاري: بل اكتريت منك إلى إشبيلة، (والثاني) أن يختلفا في جملتها، مثل أن يقول المكري: أكريت منك إلى إشبيلة، ويقول المتكاري: إنما تكاريت منك إلى غرناطة، وما أشبه ذلك.
وأما اختلافهما في الكراء، فإنه على ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يختلفا في نوعه مثل أن يقول أحدهما: دنانير، والآخر: دراهم أو طعام أو عروض وما أشبه ذلك، (والثاني) أن يختلفا في الصفة، مثل أن يقول أحدهما: دنانير هاشمية، ويقول الآخر: عتق سليمانية، أو يقول أحدهما: وازنة، ويقول الآخر: ناقصة، أو يقول أحدهما: دراهم سود، ويقول الآخر: بيض، وما أشبه ذلك، أو يقول أحدهما: قمح على صفة كذا وكذا، ويقول الآخر: بل على صفة كذا وكذا، وما أشبه ذلك؛ (والثالث) أن يختلفا في قلته وكثرته، مثل أن يقول المكري: أكريت منك بعشرة دراهم أو عشرة أرادب، ويقول المكتري: اكتريت منك بثمانية دراهم، أو ثمانية أرادب وما أشبه ذلك.

فصل فأما إذا كان اختلافهما في جملة المسافة أو في نوع الكراء، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان من غير تفصيل.

(2/193)


فصل وصفة أيمانهما أن يحلف المكري في اختلافهما في جملة المسافة ما أكرى منه إلى بلد كذا وكذا وليس عليه أن يزيد في يمينه، ولقد اكترى منه إلى بلد كذا وكذا إلا أن يشاء رجاء أن ينكل صاحبه عن اليمين، فلا يحتاج إلى يمين أخرى، وإن شاء أن يقول: ما أكريت منه إلا إلى بلد كذا وكذا فيجمع المعنيين في لفظ واحد، ثم يحلف المكتري بالله ما اكتريت منه إلى موضع كذا ولا يزيد في يمينه ولقد اكتريت منه إلى بلد كذا، إذ لا فائدة له في ذلك؛ لأن المكري قد نفاه بيمينه إلا أن يكون هو المبدأ باليمين على غير الاختيار في تبدئة البائع باليمين، وعلى ما كان الشيوخ يتأولون على رواية يحيى من جامع البيوع من العتبية وليس بتأويل صحيح، فيزيد ذلك في يمينه إن شاء، أو يقول ما اكتريت منه إلا إلى موضع كذا وكذا رجاء أن ينكل المكري عن اليمين، فلا يحتاج إلى يمين أخرى، وعلى هذا فقس أيمان المتبايعين والمتكاريين حيثما وجب التحالف والتفاسخ بينهما.

فصل فإن نكل أحدهما وحلف الآخر، كان القول قول الحالف منهما، ولا بد أن يحلف ههنا على المعنيين جميعا أو يجمعهما، إن شاء في لفظ واحد على ما تقدم.

فصل واختلف إن حلفا جميعا هل يقع الفسخ بينهما بتمام التحالف أم لا؟ على أربعة أقوال، (أحدها) أن الفسخ يقع بينهما بتمام التحالف وهو قول سحنون وظاهر

(2/194)


ما في كتاب الشفعة من المدونة؛ (والثاني) أنه لا يقع الفسخ بينهما بتمام التحالف وهو مذهب ابن القاسم في السلم الثاني من المدونة، (والثالث) أن ذلك إن كان بحكم وقع الفسخ بتمام التحالف، وإن لم يكن بحكم لم يقع الفسخ إلا بتراضيهما عليه بعد الأيمان، (والرابع) أن ذلك إن كان بحكم من الحاكم لم يقع الفسخ حتى يحكم به الحاكم بينهما، وإن كانت أيمانهما دون حكم وقع الفسخ بتمام التحالف، بعكس القول الثالث، ووجه هذا القول أن رضاهما بالتحالف دون الحكم رضا منهما بالفسخ، وهذان القولان للمتأخرين من أصحابنا.

فصل فإذا قلنا: إن البيع والكراء لا ينفسخ بينهما بتمام التحالف حتى يفسخه الحاكم بينهما، ففي ذلك اختلاف، قال في المدونة: إن للمبتاع أن يأخذ بما قال البائع، وظاهره: أن ليس للبائع أن يلزمها المبتاع بما قال، وقال محمد بن عبد الحكم: إن للبائع أن يلزمها المبتاع بما قال، فظاهره أيضا أنه ليس للمبتاع أن يأخذها بما قال البائع، وقد قيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول، وإنما تكلم في المدونة على المبتاع وسكت عن البائع؛ وتكلم محمد بن عبد الحكم على البائع، وسكت عن المبتاع، فيجمع بين القولين بأن القول إن أراد المبتاع أن يأخذ بما قال البائع، لزم ذلك البائع، وإن أراد البائع أن يلزمها المبتاع بما قال، لزم ذلك المبتاع، وهذا هو الذي حملناه عن الشيخ أبي جعفر بن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإنما يصح ذلك إذا كان اختلافهما في القلة والكثرة أو في غاية المسافة، وأما إن كان اختلافهما في الأنواع أو في جملة المسافة فلا يصح أن يحمل عليه إلا على أنه اختلاف من القول؛ إذ لا يصح أن يجمع بينهما في ذلك، فيكون على مذهب ابن القاسم للمكتري أن يركب إلى البلد الذي قال المكري إن كان اختلافهما في جملة المسافة، وأن يركب النوع الذي قال المكري إن كان اختلافهما في

(2/195)


الأنواع ويكون على مذهب محمد بن عبد الحكم للمكري أن يلزم المكتري الركوب إلى البلد الذي ادعى إن كان اختلافهما في جملة المسافة، وأن يلزمه الركوب بالنوع الذي ادعى إن كان اختلافهما في الأنواع.

فصل واختلف أيضا إذا نكلا جميعا، فذهب ابن القاسم إلى أن ينزل نكولهما جميعا بمنزلة حلفهما جميعا، وهو قول شريح في كتاب الخيار من المدونة: إن حلفا ترادا، وإن نكلا ترادا، وذهب ابن حبيب إلى أنهما إن نكلا كان القول قول البائع، وحكى نحو ذلك عن مالك في مسألة الوكيل، هكذا أتت الرواية عنه مجملة دون تبيين، وذهب بعض أهل العلم إلى أن معنى ذلك بعد أن يحلف، ووجه ما ذهب إليه أن اليمين التي نكل عنها إنما هي قوله: إني ما أكريت إلى مكان كذا وكذا، وما أكريت بكذا وكذا، وأما زيادته في يمينه ولقد أكريت إلى موضع كذا وكذا ولقد أكريت بكذا وكذا، فلم ينكل عنه إذ لم يجب عليه اليمين بذلك ولا كلف إياه، وإنما هو أمر طاع بالحلف عليه رجاء أن ينكل صاحبه عن اليمين على ما قدمناه. فوجب أن لا يعتبر بنكوله عن يمين لم تجب عليه، ولا يستحق بها ما حلف، ولا يصح أن يكون القول قول من نكل عن اليمين إذا ردها على صاحبه فنكل عنها، إلا إذا كانت يمينا واجبة عليه لو حلف بها لاستحق بيمينه ما حلف عليه، كمن أقام شاهدا على حقه فنكل عن اليمين، فردها على المدعى عليه فنكل عن اليمين، فإن المدعي يأخذ ما ادعى بلا يمين؛ لأنه لو حلف لأخذ ما ادعى بيمينه، أو كمن وجب له على المدعى عليه اليمين فنكل عنها فردها على المدعي فنكل عن اليمين، فإن المدعى عليه تسقط عنه الدعوى دون يمين؛ لأنه لو حلف لسقطت عنه يمينه، وأما من نكل عن يمين غير واجبة عليه، فلا يستحق بنكوله ما نكل عنه إذا نكل صاحبه، أصل ذلك من ادعى على رجل دعوى فقال المدعى عليه للمدعي: أنا أبرئك باليمين احلف وخذ ما ادعيت، فقال المدعي: لا أحلف

(2/196)


قد رددت عليك اليمين، احلف أنت وابرأ، فقال: لا أحلف ونكل عن اليمين، لم يستحق المدعي ما نكل عنه، وهو لو حلف عليه لاستحق، إذ لم تجب عليه اليمين التي نكل عنها، فأحرى أن لا يستحق في مسألتنا بنكوله ما نكل عنه إذا نكل صاحبه إذ ما نكل عنه لم يجب عليه، وإذ لو حلف عليه لما استحقه وهذا بين.

فصل فإذا قلنا: معنى ما ذهب إليه ابن حبيب أن القول قول البائع مع يمينه، فهو أظهر من قول ابن القاسم؛ لأن البائع إذا نكل أولا عن اليمين، فمن حجته أن يقول إذا نكل المبتاع، أنا أحلف لقد بعت سلعتي بكذا وكذا؛ لأنني في ذلك مدع على المبتاع، فلما نكل عن اليمين وجب لي أن أحلف وآخذ على حكم المدعي والمدعى عليه، ولو كان من حقي أن أحلف وآخذ ما حلفت عليه لم أنكل عن اليمين، فإن نكل البائع على هذا عن اليمين بعد نكول المبتاع حلف المبتاع وأخذ السلعة لما حلف عليه، وهذا كله بين؛ لأن البائع في التمثيل مدع على المبتاع أنه ابتاع بعشرة، فلما نكل عن اليمين وجب أن يحلف هو ويستحق العشرة، والمبتاع مدع على البائع أنه باع بثمانية، فلما نكل عن اليمين وجب أن يحلف هو ويستحق السلعة بثمانية، وكذلك على هذا إذا اختلف المتكاريان في عدد الكراء أو في نوعه وجملة المسافة، أو في غايتها فنكلا عن اليمين يكون القول قول المكري مع يمينه، فإن نكل عن اليمين، كان القول قول المكتري مع يمينه إلا في اختلافهما في جملة المسافة، فيأتي على هذا أنه إن نكل كل واحد منهما عن الحلف على تكذيب قول صاحبه، حلف كل واحد منهما على ما ادعى واستحقه على صاحبه، فلزم المكتري أن يمضي مع المكري إلى البلد الذي حلف عليه، ولزم المكري أن يمضي مع المكتري إلى البلد الذي حلف عليه أيضا، فلو قال قائل: إن معنى قول ابن القاسم إن نكلا ترادا، أما وإن كل واحد منهما نكل عن اليمين قبل نكول صاحبه، وبعد نكوله وأبى من اليمين جملة، لقلت له: ما أبعدت في التأويل، ولقد قلت قولا

(2/197)


وسطا نفيت به الاعتراض عن ابن القاسم والاختلاف بينه وبين ابن حبيب، وحمل الروايات على الاتفاق ما أمكن، أولى من حملها على الخلاف. لا سيما إذا كان في حملها على ظاهرها من الخلاف اعتراض على أحد القولين، كمسألتنا هذه.
وأما من حمل قول ابن حبيب على ظاهره في أن القول قول البائع بلا يمين إذا نكلا عن اليمين يعد قوله مثل قول أهل العراق في القضاء بالنكول دون رد اليمين ولم يمكنه الجمع بين مذهبه ومذهب ابن القاسم، فالتأويل الأول أظهر، والله أعلم.

فصل واختلف إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة وأتى أحدهما بأشبه مما أتى به صاحبه، هل يتحالفان ويتفاسخان، أو يكون القول قول من أتى منهما بالأشبه، فالمشهور من المذهب الصحيح من الأقوال أنهما يتحالفان ويتفاسخان، ولا ينظر في ذلك إلى الأشبه من غيره، وذهب ابن وهب إلى أن القول قول من أتى منهما بما يشبه، وقاله ابن حبيب في بعض مسائله، منها إذا ادعى أحدهما حلالا والآخر حراما، ومنها إذا اختلفا في صفة النقد، وقاله ابن القاسم في سماع عيسى في الكرى، يقول: أكريت منك إلى المدينة، ويقول المكتري: اكتريت منك إلى مكة، وذلك في أيام الحج، وقاله أيضا في سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات في الذي يبيع الأرض وفيها الماء، فيقول: أنا بعت الأرض دون الماء بشرط وبيان، ويقول المبتاع: بل اشتريت الأرض بمائها، وأقام ذلك القاضي أبو الوليد الباجي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من كتاب الرواحل والدواب من المدونة، ولا يصح ما ذهب إليه من ذلك؛ لأن الذي في المدونة إنما هو مع الفوات.

فصل فأما مسألة الكراء والأرض والماء والاختلاف في صفة النقد فيجري ذلك على الاختلاف، وأما مسألة الاختلاف في الحلال والحرام، ففيه تفصيل، وذلك

(2/198)


أن السلعة لا تخلو من أن تكون قائمة أو فائتة، فإن كانت قائمة وكان اختلافهما لا يؤدي إلى اختلاف في الثمن ولا في المثمون، فإن القول قول من يدعي الصحة والحلال منهما، وإن كان اختلافهما يؤدي إلى اختلاف في الثمن والمثمون جرى ذلك على اختلافهم في مراعاة دعوى الأشباه مع القيام، فيكون القول قول مدعي الصحة على مذهب من يراعي دعوى الأشباه مع القيام، إلا أن يكون العرف الحرام، فيكون القول قول مدعي الحرام، وروى أبو زيد عن ابن القاسم أن القول قول من ادعى العرف منهما، فإن كان الناس يتعاملون بالحلال والحرام أحلفا وفسخ الأمر بينهما، فلم ير في هذه الرواية لمدعي الحلال مزية في دعواه على مدعي الحرام، وبناها على مراعاة دعوى الأشباه مع القيام، ويتحالفان ويتفاسخان على مذهب من لا يراعي دعوى الأشباه، كذا أتت الرواية أنهما يتحالفان ويتفاسخان، والذي ينبغي أن يكون القول قول مدعي الفساد بائعا كان أو مبتاعا، فإن حلفا انفسخ البيع ولا معنى ليمين صاحبه؛ لأن البيع يفسخ حلف أو نكل إذا حلف مدعي الفساد فإن نكل، حلف مدعي الصحة وثبت البيع، وأما إن كانت السلعة قد فاتت وكان اختلافهما لا يؤدي إلى اختلاف في الثمن ولا في المثمون، أو يؤدي إلى اختلاف في قلة الثمن وكثرته، أو في صفته دون نوعه، فإن القول قول مدعي الحلال منهما وإن كان اختلافهما في الأنواع، جرى ذلك على الاختلاف في مراعاة دعوى الأشباه مع القيام، هذا الذي يتحصل عندي في هذه المسألة على أصولهم.

فصل وقد كنا ذكرنا في أول المسألة أن المتكاريين إذا اختلفا في جملة المسافة، أو في نوع الكراء، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان من غير تفصيل، ومضى القول في حكم التحالف والتفاسخ في ذلك، وكذلك يتحالفان ويتفاسخان أيضا إذا اختلفا في عدد الكراء قبل الركوب أو بعد الركوب بشيء يسير لا ضرر فيه في

(2/199)


الرجوع عليهما تعد أو لم نقد إلا على مذهب أشهب الذي يرى التحالف والتفاسخ في القيام والفوات، فيتحالفان ويتفاسخان ركب أو لم يركب نقد أو لم ينقد، وكذلك الحكم إذا اختلفا في صفة الكراء إلا ما حكيناه، عن ابن حبيب من مراعاة العرف في اختلافهما في صفة النقد، وقلنا: إن ذلك من قوله يأتي على مراعاة الأشباه مع القيام في موضع التحالف والتفاسخ، وكذلك يتحالفان ويتفاسخان أيضا إذا اختلفا في غاية المسافة قبل الركوب أو بعد الركوب بشيء يسير لا ضرر فيه عليهما في الرجوع منه نقد أو لم ينقد على مذهب ابن القاسم، وقال غيره: إذا نقد فالقول قول المكري، وعلى قول أشهب يتحالفان ويتفاسحان ركب أو لم يركب نقد أو لم ينقد.

فصل وأما إن اختلفا في عدد الكراء أو في صفته بعد أن سارا من الطريق ما عليهما في الرجوع منه ضرر.. فالقول قول المكتري نقد أو لم ينقد أشبه ما قال المكري أو لم يشبه، فإن نكل عن اليمين، كان القول قول المكري - أشبه ما قال أو لم يشبه. وإن لم يشبه ما قال المكتري وأشبه ما قال المكري، كان القول قوله، وإن لم يشبه ما قال أيضا تحالفا وكان عليه كراء المثل ولم يفسخ الكراء لما عليهما من الضرر في الرجوع، وكذلك إن نكلا جميعا، وأما إن حلف أحدهما ونكل الآخر، فالقول قول الحالف منهما مع يمينه، وإن لم يشبه كانت الراحلة بعينها أو لم تكن على مذهب ابن القاسم، وقال غيره في المدونة ليس الراحلة بعينها كالضمون يريد أن المضمون ينفسخ الكراء فيه بينهما إذا تحالفا ولا يلزمه أن يبلغه إلى المسافة بخلاف المعين.

فصل وأما إن كان اختلافهما في غاية المسافة بعد الركوب الكثير بلغا إلى الغاية التي اتفقا عليها أو لم يبلغا وقبل النقد فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه، (أحدها)

(2/200)


أن يشبه قولهما جميعا أو يشبه قول المكتري ولا يشبه قول المكري، (والثاني) أن لا يشبه قول واحد منهما، (والثالث) أن يشبه قول المكري دون المكتري، فأما الوجه الأول وهو أن يشبه قولهما جميعا، أو قول المكتري دون المكري، فإنهما يحلفان جميعا وينفسخ الكراء في الغاية التي اختلفا فيها ونقض الكراء على الجميع، فيكون للمكري منه ما ناب الغاية التي اتفقا عليها ويركب المكتري إليها إن كان اختلافهما قبل الوصول إليها، بخلاف المتكاريين في وجيبة كراء الدار، وكذلك الحكم إن نكلا جميعا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف منهما، فإن كان المكتري هو الذي نكل عن اليمين، كان الكراء كله للمكري فيما أقر به من المسافة، وإن كان المكري هو الذي نكل، كان للمكتري الركوب إلى حيث ادعى، وأما الوجه الثاني وهو أن لا يشبه قول واحد منهما، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان في المسافة التي اختلفا فيها، ويكون للمكري في المسافة التي اتفقا عليها كراء مثلها، وكذلك الحكم أيضا إن نكلا جميعا؛ فإن نكل أحدهما وحلف الآخر، كان القول قول الحالف منهما وإن لم يشبه؛ لأن صاحبه قد مكنه من دعواه بنكوله عن اليمين، وأما الوجه الثالث وهو أن يشبه قول المكري دون المكتري فالقول قوله مع يمينه على دعوى المكتري، فإن نكل المكري عن اليمين كان القول قول المكتري ويركب إلى حيث ادعى وإن لم يشبه؛ لأن المكري قد مكنه من ذلك بنكوله.
33355 -
فصل وأما إن كان اختلافهما في ذلك بعد النقد فلا يخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يشبه قولهما جميعا أو قول المكري الذي انتقد، (والثاني) أن لا يشبه قول واحد منهما، (والثالث) أن يشبه قول المكتري ولا يشبه قول المكري، فأما الوجه الأول وهو أن يشبه قولهما أو قول المكري الذي انتقد، فالقول قوله مع يمينه، فإن نكل حلف المكتري وكان القول قوله في الركوب بما نقد إلى الغاية التي ادعى، وأما الوجه الثاني وهو أن لا يشبه قول واحد منهما، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان في

(2/201)


المسافة التي اختلفا فيها ويكون للمكري في المسافة التي اتفقا عليها كراء مثلها، فإن كان ذلك أكثر مما قبض وفاه المكتري الزيادة، وإن كان أقل مما قبض رد الزيادة، وكذلك إن نكلا جميعا، فإن حلف أحدهما ونكل الأخر، كان القول قول الحالف منهما، وأما الوجه الثالث وهو أن يشبه قول المكتري ولا يشبه قول المكري، فإنهما يتحالفان على مذهب ابن القاسم ويفض الكراء المنقود على المسافتين، فما ناب المسافة التي اتفقا عليها، كان للمكري، وما ناب المسافة التي اختلفا فيها صرفه المكري على المكتري، وكذلك إن نكلا جميعا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف منهما.

فصل وعلى هذا فقس اختلافهما في الوجهين جميعا الكراء وغاية المسافة القول قول المكري أبدا في غاية المسافة أشبه أو لم يشبه على مذهب ابن القاسم. وفيما قبض من الكراء أنه إنما قبضه إلى الغاية التي يقر بها، والقول قول المكتري أنه لم يكتر إلا بكذا وكذا لما يقر به وفي أنه إنما اكتري به إلى الغاية التي يدعيها إن كان لم ينقدها ويفض الكراء على الغايتين جميعا عليه من ذلك ما ناب الغاية الأولى، ومن أتى منهما بما لا يشبه لم يصدق وكان القول قول صاحبه إن أتى بما يشبه إلا المكري في غاية المسافة على ما قدمناه، وإن أتيا جميعا بما لا يشبه حلفا وكان على المكتري كراء المثل في المسافة الأولى، وكذلك إن نكلا جميعا، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف منهما أشبه أو لم يشبه، ولا بد من ركوب المكتري إلى الغاية الأولى للضرر الداخل عليه في فسخ الكراء دونها في الطريق، ولو كان اختلافهما قبل الركوب أو بعد ركوب شيء يسير لا ضرر عليهما في الرجوع منه، تحالفا وانفسخ الكراء في الجميع، والله أعلم وبه التوفيق.

فصل
في الإقالة في الكراء وما يجوز منها مما لا يجوز. الإقالة في الكراء

(2/202)


المضمون كالإقالة في العروض المسلم فيها يعتبر الفساد فيها في وجهين: أحدهما: أن تنعقد الإقالة بمجردها على ما لا يجوز، والثاني: أن تكون الإقالة بمجردها لا مكروه فيها إلا أنك إذا أضفتها إلى الصفة الأولى، ظهر المكروه فيها، فاتهما على القصد إلى ذلك والعمل عليه، فمنعا من ذلك حماية للذرائع، وأما الكراء المعين، فاختلف في الإقالة فيه على قولين، أحدهما: أن ذلك كالسلم الثابت في الذمة يعتبر فيها الوجهان جميعا، والثاني: أن ذلك كالإقالة من العروض المعينات لا يعتبر فيها إلا انعقادها بمجردها على ما لا يجوز.

فصل وبيان هذه الجملة: أن الرجل إذا اكترى كراء مضمونا ثم تقايل مع صاحبه على زيادة فلا يخلو ذلك من وجهين، أحدهما: أن تكون الزيادة من قبل المكتري، والثاني: أن تكون الزيادة من قبل المكري، فأما الوجه الأول، وهو أن تكون الزيادة من قبل المكتري، فإن ذلك ينقسم على قسمين، أحدهما: أن يكون ذلك قبل النقد، والثاني: أن يكون بعد النقد قبل الافتراق والغيبة على النقد أو بعده، إذ لا فرق في زيادة المكتري إذا نقد قبل أن يغيب المكري على النقد أو لا يغيب، وفي كل وجه من هذين الوجهين ست مسائل، إذ لا تخلو الزيادة أن تكون ذهبا أو ورقا أو عرضا نقدا، فهذه ثلاث مسائل، أو تكون مؤجلة فهذه ثلاث مسائل أخر تتمة ست مسائل، فيأتي اثنا عشر سؤالا في زيادة المكتري، وكذلك تنقسم الزيادة من المكري إلى قسمين، إلا أن أحدهما أن يكون ذلك قبل النقد أو بعده وقبل الغيبة عليه، إذ لا فرق في زيادة المكري بين أن يكون لم ينقد أو قد انتقد ولم يغب على النقد، والثاني: أن يكون ذلك بعد النقد والغيبة عليه، وفي كل وجه من هذين الوجهين ست مسائل أيضا على التقسيم المذكور في زيادة المكتري.

فصل فإذا استقال المكتري المكري في الكراء المضمون قبل النقد بزيادة، فإن كانت الزيادة مؤجلة، فلا يجوز باتفاق؛ لأن الكراء تحول من الكراء الذي وجب له

(2/203)


على المكتري إلى الركوب الذي عليه وإلى الزيادة المؤجلة، فيدخله فسخ الدين في الدين إن كانت الزيادة عرضا، وإن كانت دنانير دخله عرض وذهب بذهب إلى أجل، وإن كانت دراهم، دخله الصرف المتأخر، وإن كانت الزيادة دنانير معجلة أو عروضا معجلة، جاز ذلك، وإن كانت الزيادة دراهم معجلة والكراء بدنانير، لم يجز ذلك على مذهب ابن القاسم، إلا أن يكون أقل من صرف دينار، وقيل: إن ذلك جائز وإن كان أكثر من صرف دينار، وذلك يأتي على مذهب من يجيز البيع والصرف ويرى انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وقيل: إن ذلك لا يجوز وإن كان أقل من صرف دينار وذلك يأتي على مذهب من يرى انحلال الذمم بمنزلة انعقادها، وهو قول أشهب وابن نافع، فيدخله الصرف المتأخر على مذهبهما، وذهب الفضل إلى أن الصرف المتأخر لا يدخله على مذهبهما، إلا أن يكون الكراء مؤجلا لم يحل، ولا فرق عندي في الكراء المضمون بين أن يحل أو لا يحل؛ لأنه وإن حل فلا يمكن المكتري قبضه إلا شيئا فشيئا، وذهب ابن لبابة إلى أن الإقالة في الكراء المضمون قبل النقد لا يجوز أصلا، وشبه ذلك بالإقالة من السلعة الغائبة قبل النقد. وقوله على قياس القول بأن انحلال الذمم بمنزلة انعقادها.

فصل وإن كان استقاله بزيادة بعد النقد قبل أن يغيب عليه أو بعد أن غاب عليه وكانت الزيادة ذهبا، فلا تجوز إلا أن تكون مقاصة من الكراء الذي نقد على ما نص عليه في المدونة، وإن كانت دراهم فعلى الثلاثة الأقوال المتقدمة: الجواز، والمنع، والفرق بين أن تكون الدراهم أقل من صرف دينار أو أكثر.
وإن كانت عروضا جاز أن تكون معجلة ومؤجلة؛ لأن المكتري باع الركوب الذي وجب له والعرض الذي دفع معجلا أو مؤخرا بالكراء الذي يسترجعه، وذلك جائز، فهذا وجه القول في الاثنتي عشرة مسألة في استقالة المكتري بزيادة.

(2/204)


فصل وأما إن كان المكتري هو المستقيل بزيادة ولم ينتقد أو انتقد ولم يغب على النقد، فذلك جائز، إن كانت الزيادة معجلة دنانير كانت أو دراهم أو عروضا؛ لأن المكتري باع الركوب الذي وجب له على المكري بالزيادة التي أخذها معجلة وبالكراء الذي استرجعه من المكري إن كان قد نقده إياه أو بسقوطه عن ذمته إن كان لم ينقده إياه، فلا وجه من المكروه في ذلك، وإن كانت الزيادة مؤجلة لم تجز على حال ودخله فسخ الدين في الدين.

فصل وأما إن كان المكري هو المستقيل بزيادة بعد أن انتقد وغاب على النقد، فلا يجوز على حال كانت الزيادة معجلة أو مؤخرة ما كانت وتدخله الزيادة في السلف؛ لأنهما يتهمان على إظهار الكراء والإقالة ليجيزا بينهما السلف على الزيادة إلا أن يكون قد سار من الطريق ما يرفع التهمة عنهما، فيجوز إن كانت الزيادة نقدا، ولا يجوز إن كانت إلى أجل؛ لأنه يكون من الدين بالدين، ألا ترى أن المكتري تحول من الركوب الذي كان له على المكري في ذمته إلى زيادة مؤجلة، فهذا وجه القول في الاثنتي عشرة مسألة التي في استقالة المكري بزيادة.

فصل قال في المدونة: وهذا خلاف البيوع، يريد أن الكراء المضمون بخلاف السلم الثابت في الذمة في جواز الإقالة في الكراء بعد الركوب والمنع منها في

(2/205)


السلم بعد قبض السلم بزيادة معجلة يزيدها المسلم إليه والمكري بعد أن انتقد وغاب على النقد خلاف مذهب أشهب في مساواته بين الوجهين، ويحتمل أن يريد أن الكراء المعين بخلاف بيع السلع المعينات في أن الإقالة بزيادة المكري بعد الغيبة على النقد لا تجوز كانت الزيادة معجلة أو مؤجلة، بخلاف الإقالة في السلع المعينات بعد الغيبة على الثمن بزيادة معجلة أو مؤجلة، وهذا على القول الذي حكم فيه للكراء المعين بحكم الكراء المضمون، ويحتمل أن يريد أن حكم الكراء المضمون الثابت في الذمة بخلاف البيع في السلع المعينات في أنه لا يجوز لمن أكرى كراء مضمونا أن يستقيل بعد النقد بزيادة معجلة ولا مؤجلة، إلا أن يكون قد سار من الطريق ما يرفع التهمة عنهما، فيجوز بزيادة معجلة، ويجوز لمن باع سلعة أن يستقيل بعد أن غاب على النقد بزيادة مؤخرة ومعجلة.

فصل وأما إن كان الكراء في دابة معينة؛ فإن ذلك ينقسم على وجهين: (أحدهما) أن يكون الكراء مؤخرا بشرط أو عرف أو حكم. (والثاني) أن يكون الكراء نقدا بشرط أو عرف، فأما الوجه الأول وهو أن يكون الكراء مؤخرا فإن ذلك ينقسم على وجهين، (أحدهما) أن يكون المكتري هو المستقيل بزيادة. (والثاني) أن يكون المكري هو المستقيل بزيادة، ففي كل وجه من هذين الوجهين ست مسائل على ما ذكرناه في الكراء المضمون.

فصل فإن استقاله المكتري بزيادة وكانت الزيادة عرضا، جاز ذلك نقدا ولم يجز إلى أجل، فإن كانت الزيادة ذهبا والكراء بذهب لم يجز إلا إلى محل أجل الكراء على المقايضة ولا يجوز نقدا لأنه يدخله "ضع وتعجل"، ولا إلى أجل سوى

(2/206)


محل أجل الكراء، وإن كانت الزيادة دراهم لم يجز نقدا ولا إلى أجل؛ لأنه يدخله الصرف المتأخر وهذا كله على مذهب ابن القاسم الذي يرى انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وعلى مذهب أشهب أيضا الذي يرى انحلال الذمم بمنزلة انعقادها، ويجيز التحول من الدين في كراء شيء بعينه، وأما على مذهب من يرى انحلال الذمم بمنزلة انعقادها ويقول بقول ابن القاسم إن من كان له دين على رجل، لا يجوز له أن يحوله في ركوب دابة بعينها؛ فلا تجوز الإقالة على حال؛ لأن المكري تحول من الكراء الواجب له على المكتري هي ركوب لا يتنجز قبضه، فيدخله فسخ الدين في الدين.

فصل فإن استقاله المكتري بزيادة وكانت الزيادة عرضا جاز إن كان معجلا ولم يجز إن كان مؤجلا؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين، وكذلك إن كانت الزيادة ذهبا والكراء بذهب، يجوز إن كانت معجلة ولا يجوز إن كان مؤجلة؛ لأنه إن كانت معجلة فالمكتري تحول من الركوب الذي له على المكري إلى الكراء الذي عليه وإلى الذهب الذي يزيده إياها المكري معجلة، فلم يكن بذلك بأس، وإن كانت مؤجلة دخله فسخ الدين في الدين؛ لأن المكتري تحول من الركوب الذي له على المكري إلى الكراء الذي له عليه، وإلى الزيادة المؤجلة التي يزيده إياها، وهذا على مذهب ابن القاسم الذي يرى انحلال الذمم بخلاف انعقاد، وعلى مذهب أشهب أيضا الذي يرى انحلال الذمم بمنزلة انعقادها ويجيز التحول من الدين في كراء شيء بعينه، وأما على مذهب من يرى انحلال الذمم كانعقادها ولا يجيز التحول من الدين في كراء شيء بعينه، فلا تجوز الإقالة بحال، وإن لم يزد أحدهما صاحبه شيئا؛ لأن كل واحد منهما يتحول بماله على صاحبه في شيء لا يتنجز قبضه.

(2/207)


فصل وأما الوجه الثاني، وهو أن يكون الكراء نقدا بشرط أو عرف، فإنه ينقسم على وجهين: (أحدهما) أن يكون لم ينقد، (والثاني) أن يكون قد نقد غاب على النقد أو لم يغب إن كان المكتري هو المستقيل بزيادة، وإن كان البائع هو المستقيل بزيادة قلت فيه: إنه ينقسم على وجهين: (أحدهما) أن يكون لم ينقد أو نقد ولم يغب على النقد. (والثاني) أن يكون قد نقد وغاب على النقد، وتتفرع هذه الأربعة الأقسام على أربعة وعشرين سؤالا على التفسير الذي قسمناه في الكراء المضمون وشرحنا وجوهه، فما كان منها لا يجوز بفسخ الكراء في زيادة مؤجلة يزيدها المكتري للمكري فلا يجوز أيضا في الكراء المعين، كذلك ما كان منها لا يجوز بفسخ الركوب المضمون في زيادة مؤجلة يزيدها المكري للمكتري قبل النقد، وما كان منها لا يجوز لزيادة يزيدها المكري للمكتري معجلة أو مؤجلة بعد الغيبة على النقد، فيتخرج ذلك على قولين على ما أصلناه في أول الباب وأحكمنا القول فيه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل وحكم الإقالة في كراء الدار كحكم الإقالة في كراء الراحلة المعينة في جميع الوجوه حاشا وجه واحد سأذكره إن شاء الله، فإذا اكترى الرجل الدار ثم استقال منها أو أقال بزيادة ما كانت وممن كانت، فعلى القول بأن كراء الدار كالسلم الثابت في الذمة المضمون، لاقتضاء المنافع شيئا شيئا يعتبر الفساد في ذلك باجتماع الصفقتين من طريق التهمة حماية للذرائع كبيوع الآجال، وفي الإقالة بمجردها، وعلى القول: إن ذلك كالسلع المعينات لا يعتبر الفساد في ذلك إلا في الإقالة بمجردها أن تنعقد على ما لا يجوز من فسخ الدين في الدين، أو الصرف المتأخر أو ما أشبه ذلك مما لا يجوز في البيوع، وبيان هذه الجملة، أن الرجل إذا اكترى الدار

(2/208)


ثم تقابل مع صاحبه على زيادة، فلا تخلو الزيادة أن تكون من المكتري أو من المكري، فإن كانت من المكتري فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يكون الكراء مؤجلا، (والثاني) أن يكون الكراء بنقد ولم ينقد. (والثالث) أن يكون بنقد وقد نقد غاب على النقد أو لم يغب ذلك سواء، وفي كل وجه من هذه الأوجه الثلاثة ست مسائل؛ إذ لا تخلو الزيادة أن تكون ذهبا أو ورقا أو عروضا معجلة، فهذه ثلاث مسائل أخر تتمة ست مسائل، فيتحصل في زيادة المكتري على هذا التفريع ثماني عشرة مسألة، وفي زيادة الكري مثلها أيضا؛ لأن ذلك لا يخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يكون الكراء مؤجلا، (والثاني) أن يكون بنقد فلم ينقد أو نقد ولم يغب على النقد، (والثالث) أن يكون قد نقد وغاب على النقد، وفي كل وجه منها ست مسائل أيضا على حسبما ذكرناه في زيادة المكتري فأما إن كانت الزيادة من المكري والكراء مؤجلا بدنانير فلا يجوز أن يزيده دنانير نقدا، ولا إلى دون الأجل؛ لأنه ضع وتعجل، ولا إلى أبعد من الأجل؛ لأنه بيع وسلف، ويجوز إلى أجل على المقاصة، ولا يجوز أن يزيده دراهم نقدا ولا إلى أجل، ويجوز أن يزيده عروضا نقدا لا إلى أجل، وهذا كله على مذهب ابن القاسم الذي يرى انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وأما على مذهب من يرى انحلالها كانعقادها ويقول بقول ابن القاسم إن كان له دين على رجل، لا يجوز أن يحوله في كراء دار، فلا تجوز له الإقالة على حال عنده؛ لأن المكري تحول من الكراء الواجب له على المكتري إلى كراء دار، فيدخله فسخ الدين في الدين ويجوز أن يزيده دنانير، وأما إن كانت الزيادة من المكتري أيضا والكراء بنقد ولم ينقد، فلا يجوز أن يزيده شيئا إلى أجل؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين، ويجوز أن يزيده دنانير معجلة أو عروضا معجلة على القول بأن انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وإن زاده دراهم نقدا تخرج ذلك على ثلاثة أقوال، قد ذكرناها في استقالة المكتري في الكراء المضمون؛ وأما إن كانت الزيادة من المكتري أيضا وقد نقد الكراء فإن زاده ذهبا لم يجز إلا أن تكون مقاصة من الكراء، وإن زاده دراهم تخرج ذلك أيضا على

(2/209)


ثلاثة أقوال، وإن زاده عروضا، جاز أن تكون معجلة ومؤجلة؛ لأن المكتري باع الركوب الذي وجب له بالذي دفع معجلا أو مؤخرا بالكراء الذي يسترجعه وذلك جائز، وأما إن كانت الزيادة من المكري والكراء مؤجل، فإن كانت الزيادة معجلة جاز ذلك كانت دنانير أو دراهم أو عروضا على القول بأن انحلال الذمم بخلاف انعقادها، وإن كانت مؤجلة لم يجز على حال ويدخله فسخ الدين في الدين، وكذلك إن كان الكراء نقدا ولم ينقد أو نقد ولم يغب على النقد يجوز أن تكون الزيادة معجلة ما كانت على حال، ولا يجوز أن تكون مؤجلة وأما إن كانت الزيادة من المكتري بعد أن انتقد وغاب على النقد، فعلى القول بأن الكراء في الإقالة كالسلم الثابت في الذمة لا يجوز ذلك ما كانت الزيادة على حال، وإن كان قد مضى بعض المدة بخلاف كراء الدابة، إذا كان قد سار من المسافة ما تسقط التهمة به، وعلى القول بأنه كالسلع المعينات يجوز إن كانت الزيادة معجلة، ولا يجوز إن كانت مؤجلة.

فصل وحكم الإقالة في كراء الأرض كحكم الإقالة في كراء الدار، إلا أن تكون غير مأمونة، فإن تقايلا فيها والزيادة من المكري في الموضع الذي تصح فيه الإقالة على أن الزيادة منه لم يجز أن ينقد الزيادة وتكون موقوفة عينا كانت أو عرضا إلا أن تكون الأرض مأمونة؛ لأن المكري يحصل في الإقالة مكتريا، فإن لم ترو الأرض انفسخ الكراء الأول ولم تصح الزيادة.

فصل فتنحصر مسائل الإقالة في الكراء إلى ستين مسألة تنتهي إليها لا تزيد عليها: أربعة وعشرون في الكراء المضمون، وست وثلاثون في الكراء المعين على ما بان بما قسمناه ولخصنا القول فيه وأحكمناه، وبالله التوفيق.

(2/210)