المقدمات
الممهدات [كتاب الجعل
والإجارة] [فصل في حقيقة الإجارة]
فصل
في حقيقة لفظ الإجارة..
لفظ الإجارة مأخوذ من الأجر وهو الثواب، فمعنى استأجر الرجل الرجل، أي:
استعمله عملا بأجرة، أي: بثواب يثيبه على عمله، من قولهم: أجرك الله يأجرك،
أي: أثابك يثيبك؛ قال الله عز وجل: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ}
[هود: 51] ، أي: لا أسألكم عليه ثوابا إن أرجو الثواب في ذلك إلا من الله
الذي فطرني. وقال: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]
، وقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} [آل عمران: 57] ، وقال: {وَفَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95]
{دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} [النساء: 96] ، وهذا في القرآن
كثير.
فصل في أصل جواز الإجارة من الكتاب، وأصل جواز الإجارة قول الله عز وجل:
(2/163)
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ
مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]
، يقول تبارك وتعالى: ليستسخر هذا هذا في خدمته إياه، ويعود هذا على هذا
بما في يديه من فضل الله رحمة منه لعباده ونعمة عددها عليهم بأن جعل افتقار
بعضهم إلى بعض سببا لمعاشهم في الدنيا وحياتهم فيها، حكمة منه لا إله إلا
هو.
فصل والاستئجار الذي أذن الله فيه لعباده وجعله قواما لأحوالهم وسببا
لمعاشهم وحياتهم ليس على الإطلاق، بل هو مقيد على ما أحكمته السنة
والشريعة، فمنه الجائز ومنه المحظور، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من «عمل عملا ليس على أمرنا فهو رد» .
فصل فالجائز منه يكون على وجهين، (أحدهما) بعوض، (والثاني) بغير عوض؛ فأما
ما كان منه على غير عوض، فهو هبة من الهبات لا يحل إلا عن طيب نفس من
واهبه، وأما ما كان على عوض، فإنه ينقسم على وجوه شتى، منها الجعل والإجارة
وهما قائمان من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قال الله تبارك وتعالى في الإجارة: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:
6] ، وقال تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ
اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا
جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ
لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] ، أي: ثوابا تأكله. وقال تبارك
وتعالى حاكيا عن إحدى ابنتي شعيب في قصة موسى وشعيب - عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ -: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ
خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]
(2/164)
وقوته: أنه استوهب الرعاء دلوا فوهبوه إياه
فنزعه وحده وكان لا ينزعه إلا عشرة رجال، وقيل: أربعون رجلا فدعا فيه
بالبركة فكفى ماشيتهما، فذلك قَوْله تَعَالَى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ
تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ
مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] ، وقيل: إنه رفع عن فم البئر صخرة كانت
عليه وحده وكان لا يرفعها إلا عشرة رجال، وقيل: أربعون رجلا.
وأمانته التي وصفته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها هي أنه لما
مشت أمامه خشي أن تكشف الريح عنها ثوبها فيرى بعض عورتها وكان يوم ريح،
فأمرها أن تمشي خلفه، وقال لها: دليني على الطريق وصفيه لي، قال: {إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ}
[القصص: 27] ، أي: على أن ترعى لي ماشيتي ثمانية أعوام، {فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي
إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27] ، وروي «عن ابن مسعود
أنه قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أمرنا
بالصدقة، انطلق أحدنا إلى السوق فتحامل، أي: يحمل على ظهره فيصيب المد، وإن
لأحدهم اليوم لمائة ألف» . قال الراوي عنه: ما أراه أراد إلا نفسه.
«واستأجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر رجلا
من بني الديل هاديا خريتا وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما
وواعداه غار ثور بعد ثلاث، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث» . وقال - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل
استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا له نصف
النهار فقالوا: لا حاجة لنا بأجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل. فقال
لهم: لا تفعلوا أكملوا بقية يومكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا، واستأجر
آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت
(2/165)
لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة
العصر قالوا: ما عملنا لك باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال: أكملوا
بقية عملكم فإن ما بقي من النهار شيء يسير فأبوا، واستأجر قوما أن يعملوا
له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين
كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور»
فصل والإجارة تنقسم على ثلاثة أقسام: جائزة ومكروهة ومحظورة، فالجائزة ما
يسلم من الجهل والغرر إلا اليسير منهما المغتفر، وكان في المباح من
الأعمال.
فصل فلا تجوز الإجارة إلا بأجرة مسماة معلومة وأجل معروف، أو ما يقوم مقام
الأجل من المسافة فيما يحمل، أو توفية العمل بتمامه فيما يستعمل، وعمل
موصوف أو عرف في العمل والخدمة يدخل عليه المتاجرون فيقوم ذلك مقام الصفة،
يدل على ذلك قول الله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:
27] فسمى الأجرة وضرب الأجل ولم يصف الخدمة والعمل؛ لأن العرف والعادة
أغنياهما عن ذلك، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«من استأجر أجيرا فليعلمه أجره» . وقال: «من استأجر أجيرا فليؤاجره بأجر
معلوم إلى أجل معلوم» . فأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتسمية
الأجرة وضرب الأجل، وسكت عن وصف العمل إذ قد يستغنى عن ذلك بالعرف والعادة
اللذين يقومان مقامه.
فصل وهي من العقود اللازمة تلزم المستأجرين بالعقد كالبيع سواء، وتنقسم على
قسمين، أحدهما: إجارة ثابتة في ذمة الأجير، والثاني: إجارة للذمة في عينه،
فأما
(2/166)
الإجارة الثابتة في ذمته، فحكمها حكم السلم
الثابت في الذمة في تقديم الإجارة وضرب الأجل ووصف العمل، وقال عبد الوهاب:
يجب فيها تعجيل أحد الطرفين من الأجرة أو الشروع في الاستيفاء، يريد: إذا
كان العمل يسيرا ليخرج عن الدين بالدين، فأما الإجارة اللازمة في عينه،
فإنها تنقسم على قسمين، أحدهما: أن يستأجره على عمل موصوف لا يرتبط بعين،
(والثاني) أن يستأجره على عمل موصوف يرتبط بعين، فأما القسم الأول وهو أن
يستأجره على عمل موصوف لا يرتبط بعين، فلا تنفسخ الإجارة فيه إلا بموت
الأجير، وهو على نوعين، (أحدهما) أن لا يكون له غاية كخدمة البيت ورعاية
الغنم بغير أعيانها، وحمل حمل بغير عينه، وما أشبه ذلك، (والثاني) أن يكون
له غاية معلومة كخياطة ثوب بغير عينه أو طحن قفيز قمح بغير عينه، وما أشبه
ذلك، فالأول لا بد فيه من ضرب الأجل بالأيام والشهور فيما كان من الخدمة
والعمل وتسمية المواضع والبلدان فيما كان من النقل والحملان؛ فإذا ضرب في
النقل والحملان مع تسمية المواضع والبلدان أجلا من الشهور والأيام، فسد ولم
يجز لأنه غرر؛ ومما نهي عنه من شرطين في البيع على المشهور من المذهب، وقد
قيل: إن ذلك جائز. وذلك بتأويل ما في الرواحل والدواب من المدونة، وعلى ما
وقع في أول سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة من العتبية، (والثاني)
لا يجوز فيه ضرب أجل على ما ذكرناه من المشهور في المذهب؛ وأما القسم
الثاني وهو أن يستأجره على عمل موصوف يرتبط بعين، فإنه ينقسم على خمسة
أنواع:
(أحدها) أن يستأجره على عمل في شيء بعينه لا غاية له إلا بضرب الأجل فيه،
وذلك مثل أن: يستأجره على أن يرعى له غنما بأعيانها، أو يتجر له في مال
بعينه شهرا أو سنة وما أشبه ذلك؛ فهذا اختلف في حد جواز الإجارة فيه، فقيل:
إنها لا تجوز إلا بشرط الخلف، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة وغيرها؛ وقيل: إنها تجوز بغير شرط الخلف
والحكم يوجب الخلف، وهو قول سحنون وابن حبيب وقول أشهب في رسم البيع والصرف
من سماع أصبغ من كتاب الجعل والإجارة، فهذا حكم هذا الوجه إلا في أربع
(2/167)
مسائل، فإن الإجارة تنفسخ فيها بموت
المستأجر له، (إحداها) موت الصبي المستأجر على رضاعه، (والثانية) موت الصبي
المستأجر على تعليمه، (والثالثة) موت الدابة المستأجر على رياضتها،
(والرابعة) من استأجر رجلا على أن ينزي له أكداما معروفة على رمكة، فتعف
الرمكة قبل تمام الأكدام، فإن الإجارة تنفسخ فيما بقي منها، ولا يقال
للمستأجر: جِئ بمثل الرمكة لما بقي من الأكدام.
والنوع الثاني: أن يستأجره على عمل في شيء بعينه لا غاية له إلا بتسمية
المواضع. وهو الاستئجار على حمل شيء بعينه، فهذا لا اختلاف في جواز الإجارة
فيه - وإن لم يشترط الخلف؛ واختلف إن تلف على أربعة أقوال، (أحدها) - وهو
المشهور أن الإجارة لا تنتقض وإليه ذهب محمد بن المواز، فقال: تعيين الحمل
إنما هو صفة لما يحمل، ومثله في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب
الرواحل والدواب، وفي رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل
والإجارة، وفي أول رسم من سماع أصبغ منه، (والثاني) أن الإجارة تنتقض بتلفه
- وهو قول أصبغ وروايته عن ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماعه من
كتاب الرواحل والدواب، ويكون له من كرائه بقدر ما سار من الطريق، (والثالث)
الفرق بين أن يأتي تلفه من قبل ما عليه استحمل، أو من أمر من السماء؛ فإن
أتى تلفه من قبل ما عليه استحمل، انفسخ الكراء فيما بقي له من كرائه بقدر
ما مضى من الطريق، وإن كان تلفه بأمر من السماء أتاه المستأجر بمثله ولم
ينتقض الكراء، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أول رسم من سماع أصبغ
من كتاب الجعل والإجارة، (والرابع) أنه إن كان تلفه من قبل ما عليه استحمل،
انفسخ الكراء ولم يكن له فيما مضى كراء، وإن كان تلفه بأمر من السماء أتاه
المستأجر بمثله ولم ينفسخ الكراء، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وروايته
عن مالك. (والنوع الثالث) أن يستأجره على عمل شيء بعينه له غاية مجهولة،
وذلك مثل أن يستأجره
(2/168)
على أن يبيع له هذا العبد أو هذا الثوب أو
هذه الأثواب في هذا البلد أو في بلد آخر بثمن سماه أو بما يراه، فهذا لا بد
فيه من ضرب الأجل ولا يحتاج فيه إلى اشتراط الخلف على ظاهر ما في المدونة،
والحكم يوجبه إن تلف؛ وقيل: إنه لا يجوز على مذهبه إلا بشرط الخلف إن تلف،
فإن باع العبد أو الثوب قبل تمام الأجل انفسخت الإجارة فيما بقي من الأجل،
وكان له من إجارته بحساب ما مضى منه، ولا يجوز النقد في ذلك بشرط، هذا قوله
في المدونة في هذه المسألة، والذي يأتي على مذهب سحنون فيها أن الإجارة لا
تنفسخ فيما بقي من المدة ويستعمله فيما يشبه ذلك؛ فإن اشترط أن يفسخ الكراء
فيما بقي من الشهر لم يجز عنده وإن لم ينقد ولو استأجره على أن يبيع له
الدابة أو الثوب بذلك البلد أو ببلد آخر وللقيام ببيعه غاية معلومة على أن
له أجرته باع أو لم يبع للحق بالنوع الرابع وجاز، ولا يسمي للسوق والبيع
أجلا لأن قدر ذلك معروف - قاله أشهب في آخر أول رسم من سماع أصبغ من كتاب
الجعل والإجارة.
والنوع الرابع: أن يستأجره على عمل شيء بعينه له غاية معلومة، مثل أن:
يستأجره على خياطة ثوب بعينه، أو على طحن قمح بعينه، أو على حصاد زرع
بعينه، فلا يجوز ضرب الأجل فيه؛ لأنه مدتان في مدة ويضارع ما نهي عنه من
بيعتين في بيعة إلا على ما ذكرنا من الاختلاف في ذلك القائم من كتاب
الرواحل والدواب من المدونة، ومن أول سماع ابن القاسم من كتاب الجعل
والإجارة، وتجوز الإجارة فيه دون شرط الخلف باتفاق - وإن تلف قبل العمل أو
بعد. إن مضى بعضه، فالمشهور في المذهب أن الإجارة تنفسخ فيه أو فيما بقي
منه. وهو قول مالك في رسم المحرم من سماع ابن القاسم، ويكون له فيما عمل ما
يجب له من الأجر؛ لأنه كلما عمل شيئا فالمستأجر له قابض ولا ضمان على الآجر
فيه، بخلاف الصانع الذي هو ضامن إن تلف الثوب عنده قبل فراغه من عمله وقامت
البينة على تلفه، فلا شيء له فيما عمل؛ واختلف قول ابن القاسم إن تلف ببينة
بعد تمامه من العمل قبل أن يسلمه إلى ربه، هل يجب له أجرة أم لا؟ على
قولين، وقد قيل: إن الإجارة لا تنفسخ ويستعمله في مثله. وهو قول
(2/169)
ابن القاسم في رسم الدور والمزارع من سماع
يحيى من كتاب الجعل والإجارة، والنقد في هذه الإجارة جائز؛ لأن التلف نادر
فلا يعتبر به.
والنوع الخامس: أن يستأجره على دار يبنيها في هذه البقعة أو بئر يحفرها
فيها إجارة لازمة في عينه غير ثابتة في ذمته وماله، فهذا إن استحقت البقعة
أو عرقت انفسخت الإجارة وإن أكمل البنيان وجبت له أجرته إن انهدم بعد
تمامه؛ لأن المستأجر قابض له بتمامه، واختلف إن انهدم قبل تمامه: فقال
سحنون: لا شيء له إلا بتمام العمل، وقال ابن القاسم: له من الأجر بحساب ما
عمل إلا أن تكون الإجارة فيما لا يملك من الأرضين، فاختلف في ذلك قوله في
المدونة فمرة قال: له بحساب ما عمل، ومرة قال: لا شيء له إلا بتمام العمل
كالجعل وهذا حكم الإجارة الجائزة.
فصل وأما الإجارة المكروهة فهي ما تتعارض الأدلة في صحة عقده مع السلامة من
الجهل والغرر كالإجارة على الصلاة والحج وكإجارة المسلم نفسه من الذمي أو
فيما فيه من الجهل والغرر. هل هو من قبيل اليسير المستخف أو من قبيل الكثير
الذي لا يستخف؛ وحكمها أن يرد ما لم يفت، فإن فاتت مضت بالإجارة الأجرة
المسماة. ومنها ما يفوت بالعقد ومنها ما لا يفوت إلا باستيفاء العمل على
قدر قوة الكراهية فيها.
ومن الإجارات ما يختلف فيها في المذهب هل هي مكروهة أو فاسدة محظورة
كالمسألة الواقعة في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل
والإجارة، ونصها:
قال: وسئل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن رجل شارط رجلا على عين
يحفرها على خمسة آلاف ذراع وما وجد في الأرض من صفا، فعلى صاحب العين أن
يشقه فعمل فيها فوجد في الأرض نحو مائة ذراع فشقها
(2/170)
الرجل، فلما فرغ قال له الرجل: اعمل لي
بدلها وموضعها الذي يعمل هو أكثر عملا من الموضع الذي وجد فيها الصفا؛
فقال: لقد دخلت في أمر لا خير فيه، فأرى عليك قدر ذلك الموضع الذي شقه ذلك
الرجل تغرمه، وليس عليك أن تعمل له بدله - يريد أن ينظر إلى قدر كم ذلك من
الأرض من قدر العمل فيرد منه بقدر ذلك مما أخذ؛ قال ابن القاسم: لست آخذ
فيه بقول مالك، وأرى أن يعطى أجرة مثله، قال سحنون: وهو رأيي، وقوله فيها
أفضل وأجود، هذا نص هذه المسألة وفيها التباس قد أشكل على كثير من الناس
معناها فتأولها على غير معناها، منهم ابن لبابة؛ فإنه وهم في تأويلها
فجعلها جعلا، وقال: إن مالكا تكلم على أن العامل هو الذي شق الصفا، وقد كان
شقها واجبا على رب الأرض بالشرط، وأن ابن القاسم وسحنون تأولا على مالك أنه
إنما أجاب في المسألة على أن رب الأرض هو الذي شق الصفا وقد كان شقها على
العامل، وقد بين في المسألة أن المعاملة إنما وقعت بينهما على أن يشق رب
الأرض ما وجد فيها من الصفا، وأن العامل هو الذي شق الصفا، بدليل قوله:
فلما فرغ قال له: اعمل لي بدلها، وقد سألني بعض أصحابنا عن معنى قول مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيها وتبيين ما فسره ابن القاسم من إرادته،
ووجه مخالفته إياه ومتابعته سحنون له على خلافه؛ فقلت: الذي أقول به في ذلك
- والله الموفق للصواب برحمته أن هذه المسألة محتملة لوجوه من التأويل؛ إذ
لم يبين كيف انعقد الاستئجار بينهما على حفر الخمسة الآلاف الذراع إن كان
على شرط أن يشق صاحب العين ما وجد فيها من صفا ويسقط عنه من الإجارة التي
سمياها بقدر ما ينوب ذلك منها، أو على أن يشق ما وجد فيها من صفا دون أن
يحط عنه لذلك من الإجارة شيئا، فالغرر في الإجارة على هذا بين والأظهر فيها
الفساد، وقول ابن القاسم وسحنون: إن للعامل أجرة مثله في جميع عمله، هو
القياس، ووجه قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على هذا التأويل وعلى
ما ذيله ابن القاسم من التفسير له بقوله: يريد أن ينظر إلى قدر كم ذلك من
الأرض من قدر العمل فيرد منه بقدر ذلك؛ مما أخذه هو أن مالكا - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - رأى العقد على هذا الشرط من
(2/171)
العقود التي يكرهها ابتداءً فإذا وقعت صح
العقد وبطل الشرط؛ وذلك أن العقود المقترنة بها الشروط، تنقسم على ثلاثة
أقسام؛ منها ما يبطل العقد والشرط، وهو ما كان الشرط المشترط فاسدا له
تأثير في الثمن، كالذي يبيع الدابة على أن يسافر عليها سفرا بعيدا وما أشبه
ذلك، ومنها ما يصح البيع والشرط، وهو ما كان الشرط المشترط حلال لا يئول به
البيع إلى غرر ولا فساد في ثمن ولا مثمون، كالذي يبيع الدابة على أن يركبها
اليوم واليومين وما أشبه ذلك. ومنها ما يصح البيع ويبطل الشرط وهو ما كان
الشرط فاسدا إلا أنه خفيف لا يرى أنه نقص من الثمن ولا زاد فيه من أجله
شيئا، وذلك مثل أن: يبيع السلعة على أنه إن لم يأته بالثمن إلى يومين أو
ثلاثة فلا بيع بينهما، ومثل أن: يبيع الثمرة على أن لا قيام له عليه بجائحة
إن أجيحت وما أشبه ذلك، فرأى عقد الإجارة في مسألتنا على هذا الشرط من هذا
القبيل من الشروط إذ غلب على ظنه أن العامل إنما شرط على رب العين شق ما
وجده من صفا فيها، والأغلب عندهما أنه لا صفا فيها لندور الصفا في ذلك
الموضع على ما قد علم بالاختيار، فلم يحط من الإجارة لذلك الشرط شيئا ولا
كان له تأثير فيها فأمضاها إذا وقعت وأسقط الشرط مع كراهيته لها ابتداء،
كما أمضى البيع بشرط إسقاط الجائحة إذا وقع وأبطل الشرط إذ لم ير له تأثيرا
في الثمن؛ لأن الأغلب السلامة من الجوائح وأراد العامل لما شق ما وجد في
الأرض من صفا، وقد كان اشترط ذلك على رب العين أن يحفر له رب العين بدلها
ويستحق هو إجارته كلها على ما اشترطا؛ فلم ير ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ
- وذهب إلى أن الشرط ينفسخ والعقد على ذلك مكروه ابتداء على ما بيناه، فقال
لهما: قد دخلتما في أمر لا خير فيه، فأرى عليك - يريد على صاحب العين قدر
ذلك الموضع يريد قيمة حفر ذلك الموضع الذي شقه الرجل يريد العامل ولم يكن
ذلك عليه، لاشتراطه إياه على صاحب العين؛ ومعنى ذلك على أصولهم - إن كان رب
العين ممن يستأجر على شق ذلك ولا يتولاه بنفسه وعبيده، وسكت مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - عن تمام الحكم في
(2/172)
المسألة، وفسره ابن القاسم على ما فهم من
مذهبه في إجازة العقد إذا وقع وإبطال الشرط على ما بينا، فقال: يريد أن
ينظر إلى قدر كم ذلك من الأرض من قدر العمل فيرد منه بقدر ذلك مما أخذ،
ومعنى ذلك أن ينظر ما تقع الصفا التي شقها العامل من جملة الخمسة الآلاف
الذراع فيرد من الأجرة التي قبض ذلك الجزء لإبطال الشرط مع إمضاء العقد، إذ
لا فرق بين أن يشق صاحب العين الصفا أو يشقها العامل فيأخذ حقه في شقها،
وإن كان ما وجب للعامل في شقه الصفا من جنس الأجرة التي قبض قاصه بذلك فيما
يجب عليه رده منها، فمن كان له منهما في ذلك فضل، رجع به على صاحبه وبالله
سبحانه وتعالى التوفيق.
فصل ولولا تأويل ابن القاسم على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لكان الأظهر من
قوله: قد دخلتما في أمر لا خير فيه، أن العقد فاسد ويكون للعامل أجرة مثله
في شقه الصفا وفي سائر عمله، ويرد جميع الأجرة إن كان قبضها أو تسقط إن كان
لم يقبضها؛ لأنه إنما تكلم على ما يجب للعامل في شق الصفا وسكت عن تمام
الحكم في المسألة؛ إلا أن ابن القاسم أحق بتبيين إرادة مالك في المسألة،
لمشافهته إياه فيها.
فصل وإن كانت الإجارة انعقدت بينهما على أن يشق رب العين ما وجد فيها من
صفا، ويسقط عنه من الأجرة التي سمياها ما ينوبها منها، فيتخرج جوازها بغير
اشتراط النقد على قولين، الأشهر منهما في المذهب الإجازة؛ لأن السوم معلوم
وجملة الثمن مجهول. لا يعلم حال العقد كبيع الصبرة جزافا على الكيل الذي
أجازه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه، ومنع منه عبد العزيز بن أبي
سلمة، وكاستئجار الأجير على أن يأتيه بمتاع من بلد على أنه إن وجده في
الطريق رجع وكان له بحسابه الذي أجازه مالك وابن القاسم رحمهما الله تعالى،
ومنع منه سحنون، ومن
(2/173)
ذلك أيضا اختلافهم في استئجار الأجير شهرا
على أن يبيع له ثوبا بعينه أو يرعى له غنما بأعيانها دون أن يشترط الخلف
وما أشبه ذلك؛ فمعنى ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها على هذا
التأويل، أنه كرهها ابتداء مراعاة للخلاف؛ ويحتمل أن يكون كرهها من أجل
النقد - وإن لم يكن مشترطا؛ إذ لا يصح النقد فيها بشرط إجماعا، وأجازها إذا
وقعت على أصل مذهبه وحكم للعامل بأجر مثله في شق الصفا وأوجب عليه أن يرد
من الأجرة ما يقع للصفا من جملة الخمسة الآلاف الذراع، ورأى ابن القاسم
وسحنون أنها إجارة فاسدة للعلة التي ذكرها وهي الجهل بجملة الثمن حال
العقد، فأوجبا للعامل أجرة مثله في جميع عمله، فأما سحنون فجرى في ذلك على
أصله في الذي يستأجر الكرى على أن يأتيه بمتاعه من بلد كذا، فإن وجده في
الطريق رجع وكان له بحسابه، وأما ابن القاسم فخالف أصله وذلك اختلاف من
قوله؛ وكلا التأويلين سائغان، والتأويل الأول أظهر والله أعلم.
وقد تأول بعض الناس أن مالكا تكلم على أن رب العين هو الذي شق الصفا، وأن
ابن القاسم وسحنون تكلما على أن العامل هو الذي شقها وهو بعيد من التأويل
لا معنى له؛ إذ لا تأثير لشق العامل إياها في فساد العقد، وتأول أيضا بعض
من سألني عن معنى هذه المسألة فنهجت له القول فيها بما ذكرته أن مالكا تكلم
على الوجه الآخر من الوجهين اللذين ذكرنا، وأن ابن القاسم وسحنون تكلما على
الوجه الأول وذلك محتمل أيضا، ومنهم من ذهب إلى أنهم تكلموا جميعا على
الوجه الأول. وأن إرادة مالك أن الإجارة فاسدة بدليل قوله: قد دخلتما في
أمر لا خير فيه، وأن تفسير ابن القاسم ليس بصحيح، والصواب أن تفسيره لمذهبه
صحيح، فهو أقعد بمعنى ما ذهب إليه، والله أعلم.
فصل وأما الإجارة المحظورة فتنقسم على ثلاثة أقسام، (أحدها) الاستئجار على
(2/174)
ما يجب على الأجير فعله، (والثاني)
الاستئجار على ما لا يحل له فعله، (والثالث) الاستئجار على المباح من
الأعمال بما لا يجوز من الغرر أو الحرام أو على وجه لا يجوز مما يدخله غرر
أو جهل؛ فأما الاستئجار على ما لا يجوز الاستئجار عليه لوجوب فعله على
الأجير، فينفسخ إن عثر عليه قبل العمل فإن فات بالعمل لم يكن للأجير شيء من
الأجرة، وردت كلها إلى المستأجر - إن كان قد دفعها؛ وأما الاستئجار على ما
لا يجوز الاستئجار عليه لتحريم فعله عليه، فالحكم فيه إذا وقع أن يفسخ أيضا
متى ما عثر عليه، فإن فات بالعمل لم يكن للأجير من الأجرة شيء وتصدق بها
عليه على التفصيل الذي ذكرناه في كتاب التجارة إلى أرض الحرب في بيع المسلم
الخمر من النصراني أو المسلم، وأما الاستئجار على المباح من الأعمال بما لا
يجوز أو على وجه لا يجوز، فالحكم فيه إذا وقع أن يفسخ ما لم يفت؛ فإن فات
بالعمل كانت فيه القيمة والله ولي التوفيق برحمته.
فصل
في ماهية الجعل وأصل جوازه
وأما الجعل فهو أن يجعل الرجل للرجل جعلا على عمل يعمله له إن أكمل العمل،
وإن لم يكمله لم يكن له شيء، وذهب عناؤه باطلا؛ فهذا أجازه مالك وأصحابه -
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - مما لا منفعة فيه للجاعل إلا
بتمام العمل، خلافا لأبي حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى في أحد قوليه،
وهو في القياس غرر إلا أن الشرع قد جوزه؛ والأصل في جوازه قول الله تعالى:
{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ،
وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين: " من قتل
قتيلا فله سلبه "، وقوله يوم بدر: " من فعل كذا فله كذا، ومن فعل كذا وكذا
فله كذا وكذا "، وإن كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد كره ذلك، فإنما كرهه
لئلا
(2/175)
تفسد نيات الناس في الجهاد، لا أنه عنده
حرام؛ ومن الحجة في ذلك أيضا ما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ -، أنه قال: «انطلق نفر من أصحاب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من العرب،
فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا
ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذي نزلوا عندنا لعله أن
يكون عند بعضهم شيء فأتوهم، فقالوا لهم: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وقد
سعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فهل عند أحدكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم
والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق حتى
تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، فكأنما نشط من
عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة. قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه،
فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا به،
فقدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا ذلك
له، فقال: " وما يدريك أنها رقية "؟ ثم قال: " قد أصبتم اقسموا واضربوا لي
معكم بسهم "، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وأيضا
فإن الجعل مما كان موجودا في معاملات الناس جاهلية وإسلاما، فأقر النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله - ولم يتعرض لإبطاله مع علمه
بذلك، ولا فرق بين ما يبتدئ إجازته شرعا وبين ما يقر على إجازته؛ وأيضا فإن
الضرورة تدعو إلى ذلك أشد مما تدعو إلى القراض والمساقاة، والضرورة مستثناة
من الأصول وقد مضى عمل المسلمين على ذلك في سائر الأمصار على قديم الأوقات
والأعصار.
فصل والجعل أصل في نفسه كالقراض والمساقاة، لا يقاس على الإجارة، ولا تقاس
الإجارة عليه وإن أخذ شبها منها.
(2/176)
فصل ومن شروط صحة المجاعلة أن يكون الجعل
معلوما وأن لا ينقد، وأن يكون لا منفعة فيه للجاعل إلا بتمامه، وأن لا يضرب
للعمل المجعول فيه أجلا، فإن ضرب له أجلا ولم يشترط أن يتركه متى شاء لم
يجز، واختلف إن اشترط ذلك، هذا قوله في المدونة فيمن قال: بع لي هذا الثوب
اليوم - ولك درهم - أن ذلك لا يجوز إلا أن يشترط متى شاء أن يتركه تركه،
وقد اختلف في تأويل قول سحنون في آخر المسألة، وقد قال في مثل هذا: إنه
جائز، وهو جل قوله الذي يعتمد عليه فاختصره ابن أبي زيد على أنه أجاز أن
يوقت في الجعل يوما أو يومين دون شرط، وقال أبو عمر بن القطان: يريد سحنون
أنه قال مثل قوله في الباب في مثل مسألة الباب، وهو أن يجيز الجعل ويضرب له
يوما أو يومين ويشترط عليه أنه متى شاء أن يرد رد، قال سحنون: له مثل هذا
القول وهذا القول جل قوله الذي يعتمد عليه. يريد قول الكتاب وما يشبهها
وقوله: جل قوله، يقتضي الخلاف، والخلاف موجود له في رواية عيسى عنه؛ قلت:
أرأيت إن قال جد نخلي اليوم فما جددت فبيني وبينك ومتى ما شئت أن تخرج خرجت
ولك نصف ما عملت؛ قال: لا خير فيه وتأول ابن لبابة على سحنون أنه أراد أن
ابن القاسم إنما اختلف قوله على أنها إجارة، فمرة رآها إجارة جائزة، ومرة
رآها إجارة فاسدة، وذلك كله مدخول؛ وأما قول ابن أبي زيد، فهو خطأ صراح؛
لأن الجعل إذا سمى فيه أجلا ولم يشترط أن يترك العمل متى شاء لم يجز
باتفاق، فكيف يصح أن يقال: إنه جل قوله الذي يعتمد عليه؛ وأما تأويل ابن
القطان، فهو بعيد على ظاهر لفظ الكتاب، إلا أن معناه صحيح تصح به المسألة؛
وأما تأويل ابن لبابة فهو بعيد على ظاهر اللفظ غير صحيح المعنى؛ لأنها إذا
كانت إجارة، فهي جائزة - ولا وجه لفسادها، وإنما معنى المسألة عندي أن قول
ابن القاسم اختلف إذا قال الرجل للرجل: بع لي هذا الثوب اليوم ولك درهم -
فقال في الباب: إنه جعل، ولا يجوز إلا أن يشترط متى شاء أن يترك ترك، وله
قول آخر أن ذلك جائز وهي إجارة لازمة لا جعل؛ فإن باع في بعض اليوم، كان له
من الأجرة
(2/177)
بحساب ذلك، فقال سحنون: إن هذا القول هو
الذي يعتمد عليه من قول ابن القاسم، وهذا القول لابن القاسم قائم من أول
الكتاب؛ قال في الذي يبيع من الرجل نصف الثوب على أن يبيع له النصف الآخر،
إن ذلك جائز إذا ضرب لذلك أجلا؛ لأنه إذا ضرب لذلك أجلا كانت إجارة واختار
سحنون هذا القول؛ لأنه إذا قال: بع لي هذا الثوب اليوم ولك درهم، احتمل أن
يريد على وجه الجعل فيكون جعلا فاسدا، واحتمل أن يريد على وجه الإجارة
فيكون جائزا. وإذا كان اللفظ محتملا للجواز والفساد مترددا بينهما، فهو على
مذهبه في مسائل كثيرة محمول على الجواز حتى يتبين الفساد، من ذلك من اكترى
راعيا على رعاية غنم بأعيانها، فالإجارة عنده جائزة - وإن لم يشرط الخلف
خلاف مذهب ابن القاسم في هذه المسألة مثل قوله في المسألة التي حكيناها في
أول الكتاب؛ ومثل قوله فيمن قال: بع لي هذا الثوب ولك درهم - أن ذلك جائز
فحمله على الجعل فأجازه مع احتمال أن يريد بذلك الإجارة، فتكون فاسدة إذا
لم يضرب لها أجلا؛ فلما كان هذا القول جاريا على مذهب سحنون، اختاره
واستحسنه، فقال فيه: إنه جل قوله الذي يعتمد عليه، ولو بين فقال: أستأجرك
على أن تبيع لي هذا الثوب اليوم ولك درهم جاز باتفاق، ولو بين أيضا فقال:
أجاعلك على أن تبيع لي هذا الثوب اليوم. ولك درهم. لم يجز باتفاق، إلا أن
يشترط متى ما شاء أن يترك ترك، وإذا لم يقع بيان فهي مسألة الكتاب التي
اختلف فيها قول ابن القاسم؛ فالمسألة تنقسم على هذه الثلاثة الأقسام، فهذا
أولى ما تحمل عليه هذه المسألة، ولم أره لغيري - وهو صحيح بين لا ينبغي أن
يلتفت إلى ما سواه، ومسألة نفض الزيتون من هذا الأصل فتدبر ذلك، وكذلك
الخلاف الحاصل بين ابن القاسم وأشهب فيمن باع من رجل دارا على أن ينفق عليه
حياته، جاز على هذا الأصل ومثل هذا كثير.
فصل وقد اختلف؛ هل من شروط صحته أن يكون للجاعل فيه منفعة أم لا؟ على
قولين.
(2/178)
فصل وليس من شروطه أن يكون العمل المجعول
فيه معلوما بل يجوز في المعلوم والمجهول.
فصل ولا يلزم المجعول له العمل وله أن يترك شرع فيه أو لم يشرع، ولا شيء له
إلا بتمام العمل؛ واختلف في الجاعل فقيل: إن الجعل يلزمه بالعقد وإلى هذا
ذهب ابن حبيب في أحد قوليه وهو ظاهر رواية عيسى عن ابن القاسم في الجعل
والإجارة، وقيل: لا يلزمه حتى يشرع المجعول له في العمل وهي رواية علي بن
زياد عن مالك ورواية أشهب عنه أيضا في تضمين الصناع من العتبية ومذهب سحنون
وهو أظهر القولين؛ لأنه لما كان المجعول له لا يلزمه وجب أن لا يلزم الجاعل
إلا أن يشرع المجعول له في العمل، لئلا يبطل عليه عمله، ووجه القول الأول
هو أن الجاعل لما كان ما أخرج معلوما ولم يجز أن يكن مجهولا لزمه، ولما كان
العمل الذي يخرجه العامل في الجعل يجوز أن يكون مجهولا جاز له أن يرجع عنه
متى شاء ولم يلزمه، ألا ترى أن الإجارة لما كانت معلومة في معلوم لزمتهما
جميعا، ولم يكن لواحد منهما الرجوع.
فصل فعلى هذا إذا مات الجاعل قبل أن يشرع المجعول له في العمل على قول ابن
حبيب، وظاهر رواية عيسى عن ابن القاسم أو بعد شروعه في العمل على رواية علي
بن زياد وأشهب عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يلزم ذلك ورثته، ولا
يكون لهم أن يمنعوا المجعول له من العمل؛ فإن مات المجعول له بعد أن شرع في
العمل أو قبل أن يشرع فيه على أحد القولين، نزل ورثته منزلته؛ ولم يكن
للجاعل أن يمنعهم من العمل؛ وقد روى أصبغ عن ابن القاسم خلاف هذا في
المجاعلة في
(2/179)
اقتضاء الديون، فجعل موت المجعول له كموت
المقارض - إن كان قد شرع في العمل نزل ورثته منزلته إن كانوا أمناء، وإن
كان لم يشرع في العمل ولا اقتضى منه شيئا، فلا حق لورثته، وقال: إن الجعل
ينتقض بموت الجاعل - مات قبل شروع المجعول له في العمل أو بعده، فلم يحمله
في هذا الطرف محمل القراض، ولا محمل الجعل في حق الجاعل له للزوم المجاعل
له بالعقد أو شروع المجعول له في العمل - على ما قدمناه من الاختلاف في
ذلك؛ وأما اشتراطه في موت المجعول له للأمانة في الورثة فصحيح لا ينبغي أن
يختلف في ذلك؛ لأن هذا مما ينبغي فيه الأمانة.
فصل وليس من شروط صحة الجعل أن يكون في القليل، وإن كان قد قال ذلك عبد
الوهاب وغيره، فليس بصحيح، وإنما الصحيح أنه جائز في كل ما لا يصح للجاعل
فيه منفعة إلا بتمامه كما قدمناه كان قليلا أو كثيرا؛ وغير جائز فيما يكون
للجاعل فيه منفعة قبل تمامه كان قليلا أو كثيرا؛ ولذلك قال ابن المواز: إن
الجعل على حفر الآبار لا يجوز إلا فيما لا يملك من الأرضين؛ لأن ما يملك من
الأرضين إن ترك المجعول له العمل بعد أن حفر بعض البئر، انتفع الجاعل بما
حفر منها بوجوه كثيرة من وجوه المنافع، وما لا يملك من الأرضين منفعة
للجاعل فيما حفر المجعول له منها إن لم يتم حفرها. فإذا لم يكن للجاعل في
العمل المجعول فيه منفعة إلا بتمامه، جاز الجعل قياسا على قول الله تعالى:
{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ،
لأنه إذا لم يأت المجعول له في الطلب بالمطلوب لم ينتفع الجاعل بغايته في
الطلب، وهذا بين.
فصل وقوله: إنما جوز مالك الجعل في الشيء اليسير مثل الثوب والثوبين،
وقوله: إن الكثير من السلع تصلح فيه الإجارة ولا يصلح فيه الجعل، والقليل
يصلح
(2/180)
فيه الجعل والإجارة؛ إنما يريد بذلك كله في
البيع خاصة؛ لأن الكثير من السلع إذا جاعله على بيعها ودفعها إليه إن بدا
له في بيعها وصرفها إليه كان الجاعل قد انتفع بحفظه لها مدة كونها بيده،
ولو لم يدفعها إليه، لجاز الجعل إذا جعل له في كل ثوب يبيعه منها جعلا
مسمى، ولزم الجاعل الجعل في بيع جميعها؛ ألا ترى أن الجعل في الشراء على
الثياب الكثيرة جائز؛ إذ لا يتولى حفظها، وكلما ابتاع ثوبا أسلمه إلى
الجاعل ووجب له فيه جعله؛ ولو شرط الجاعل في الشراء على المجعول له أن يمسك
الثياب وتكون في أمانته وقبضه حتى يتم شراء العدد الذي جاعله عليه، لم يجز
للعلة التي قدمنا وهذا كله بين.
فصل والأعمال تنقسم على ثلاثة، منها: ما يصح فيه الجعل والإجارة، ومنها: ما
لا يصح فيه الجعل ولا الإجارة، ومنها: ما لا يصح فيه الجعل وتصح فيه
الإجارة.
فأما ما يصح فيه الجعل والإجارة فكثير، من ذلك بيع الثوب والثوبين وشراء
الثياب القليلة والكثيرة، وحفر الآبار واقتضاء الديون، والمخاصمة في الحقوق
على أحد قولي مالك، وقد روي عنه أن الجعل في الخصومة لا يجوز. وأما ما لا
يصح فيه الجعل ولا الإجارة فنوعان، أحدهما: ما لا يجوز للمجعول له فعله،
(والثاني) ما يلزمه، وأما ما تصح فيه الإجارة ولا يصح فيه الجعل فكثير
أيضا، من ذلك خياطة الثوب وخدمة الشهر وبيع السلع الكثيرة، والسلعة الواحدة
التي تباع من جاعل ويعلم أن الثمن فيها موجود أو على أن تباع ببلد آخر، وما
أشبه ذلك مما يبقى للجاعل فيها منفعة إن لم يتم المجعول له العمل.
فصل واختلف في الجعل الفاسد إذا وقع، فقيل: إنه يرد إلى حكم نفسه فيكون
(2/181)
للمجعول له جعل مثله إن كان أتم العمل، وإن
لم يتمه فلا شيء له، وقيل: إنه يرد إلى حكم غيره وهي الإجارة؛ فيكون له
إجارة مثله - أتم العمل أو لم يتمه؛ وقيل: إنه يرد إلى تجارة مثله في بعض
المسائل وإلى جعل مثله في بعضها كالقراض الفاسدة، قيل: إنه يرد إلى حكم
نفسه وهو قراض المثل؛ وقيل: إنه يرد إلى حكم غيره وهي الإجارة، فيكون له
إجارة مثله، وقيل: إنه يرد القراض الفاسد إلى قراض مثله في بعض المسائل،
وإلى إجارة المثل في بعضها وهو مذهب ابن القاسم؛ وقد يأتي في الجعل الفاسد
أقوال خارجة عما أصلناه وهذا هو الصحيح فيها.
فصل ولا يجتمع الجعل والإجارة؛ لأن الإجارة لا تنعقد إلا معلوما في معلوم؛
والجعل يجوز فيه المجهول، فهما أصلان مفترقان لافتراق أحكامهما، متى جمع
بينهما فسدا جميعا، وقد روي عن سحنون أنه أجاز المغارسة والبيع وهو من هذا
المعنى، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
(2/182)
|