المقدمات
الممهدات [كتاب التجارة
إلى أرض الحرب] [ما جاء في التجارة إلى
أرض الحرب ووجه الكراهية في ذلك عند أهل العلم]
ما جاء في التجارة إلى أرض الحرب، ووجه الكراهية في ذلك عند أهل العلم.
كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - الخروج إلى بلاد الحرب للتجارة في البر
والبحر كراهية شديدة، قال في سماع ابن القاسم وقد سئل عن ذلك، فقال: قد جعل
الله لكل نف5554س أجلا تبلغه ورزقا ينفذه، وهو تجرَى عليه أحكامهم فلا أرى
ذلك. وأصل الكراهية لذلك، أن الله تعالى أوجب الهجرة على من أسلم ببلاد
الكفر، إلى بلاد المسلمين حيث تجرى عليه أحكامهم؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ
قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] ، نزلت هذه الآية - فيما قال ابن عباس
وغيره من أهل التأويل والتفسير - في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا
بالله ورسوله فتخلفوا عن الهجرة معه حين هاجر فعرضوا على الفتنة فافتتنوا
وشهدوا مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول
(2/151)
معذرتهم التي اعتذروا بها؛ حيث يقول مخبرا
عنهم: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] ، أي: فتتركوا هؤلاء
الذين يستضعفونكم، {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}
[النساء: 97] ، ثم أنزل الله تعالى عذر أهل الصدق، فقال: {إِلا
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا
يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] ، أي: لا
يهتدون سبيلا يتوجهون إليه لو خرجوا لهلكوا، {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ
أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 99]- يعني: في إقامتهم بين ظهراني
المشركين.
فصل فكانت الهجرة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل فتح
مكة على من أسلم من أهلها واجبة مؤبدة، افترض الله عليهم فيها البقاء مع
رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حيث استقر، والتحول معه حيث تحول، لنصرته
ومؤازرته وصحبته، وليحفظوا عنه ما يشرعه لأمته، ويبلغوا ذلك عنه إليهم ولم
يرخص لأحد منهم في الرجوع إلى وطنه، وترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ألا ترى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال في حجة الوداع: «لا يقيمن مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق
ثلاث» .
خص الله بهذا من آمن من أهل مكة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهاجر إليه؛ ليتم له بالهجرة إليه والمقام معه وترك العودة إلى
الوطن - الغاية من الفضل الذي سبق لهم في سابق علمه، وهم الذين سماهم الله
بالمهاجرين، ومدحهم بذلك فلا ينطلق هذا الاسم على أحد سواهم.
فصل فلما فتح الله مكة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «مضت الهجرة لأهلها» ، أي فازوا بها وحصلوا عليها وانفردوا بفضلها دون
من بعدهم، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هجرة بعد الفتح
ولكن جهاد ونية، فإذا استنفرتم فانفروا» أي: لا يبتدئ أحد من أهل مكة
(2/152)
ولا غيرهم هجرة بعد الفتح، فينال بذلك درجة
من هاجر قبل الفتح، ويستحق أن يسمى باسمهم ويلحق بجملتهم؛ لأن فرض الهجرة
منسقط، بل الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيامة، واجب بإجماع المسلمين على
من أسلم بدار الكفر: أن لا يقيم بها حيث تجرى عليه أحكام المشركين، وأن
يهاجر ويلحق بدار المسلمين حيث تجرى عليه أحكامهم، قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا بريء من كل مسلم مقيم مع المشركين» ،
إلا أن هذه الهجرة لا يحرم على المهاجر بها الرجوع إلى وطنه، إن عاد دار
إيمان وإسلام، كما حرم على المهاجرين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجوع إلى مكة للذي ذخره الله لهم من الفضل في ذلك.
فصل فإذا وجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر
ويلحق بدار المسلمين ولا يثوي بين المشركين ويقيم بين أظهرهم، لئلا تجرى
عليه أحكامهم، فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلادهم؛ حيث تجرى عليه أحكامهم في
تجارة أو غيرها، وقد كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن يسكن أحد
ببلد يسب فيه السلف، فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن وتعبد فيه من دونه
الأوثان، لا تستقر نفس أحد على هذا إلا وهو مسلم سوء مريض الإيمان.
فصل ولا يجوز لأحد من المسلمين دخول أرض الشرك لتجارة ولا لغيرها إلا
لمفاداة مسلم، فإن دخلها لغير ذلك طائعا غير مكره كان ذلك جرحة فيه تسقط
إمامته
(2/153)
وشهادته؛ قال ذلك سحنون، وينبغي أن يحمل
قوله على التفسير لما في كتاب الولاء والمواريث من المدونة من إجازة
شهادتهم، لاحتمال أن يكونوا لم يدخلوا بلاد الشرك طائعين، وإنما ردتهم
الريح إليها وهم يريدون غيرها، وإن كان تكلم على أنهم دخلوا طائعين، فلعله
إنما أجاز شهادتهم بعد أن تابوا وظهر صلاحهم، وهذا محتمل يتناول قوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه يبعد أن تجاز شهادة من سافر إلى
أرض الحرب للتجارة وطلب الدنيا - وهو عارف بأن ذلك لا يجوز له، وأن أحكام
الشرك تجري عليه، وبما هو أدنى من هذا يجرح الشاهد وتسقط شهادته.
فصل فواجب على والي المسلمين أن يمنع من الدخول إلى أرض الحرب للتجارة ويضع
المراصد في الطرق والمسالح لذلك، حتى لا يجد أحد السبيل إلى ذلك، لا سيما
إن خشي أن يحمل إليهم ما لا يحل بيعه منهم مما هو قوة على أهل الإسلام
لاستعانتهم به في حروبهم.
فصل وأما مبايعة أهل الحرب ومتاجرتهم إذا قدموا بأمان، فذلك جائز، روي «عن
عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: بينما
نحن عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاء رجل مشرك
مشعار طويل بغنم يسوقها، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: أبيعا أم عطية أم هبة؟ فقال: بل بيع، فاشترى - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها شاة»
بوب البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على هذا الحديث: باب البيع
والشراء مع المشركين وأهل الحرب.
فصل إلا أنه لا يجوز أن يبايعوا شيئا مما يستعينون به في حروبهم من كراع أو
سلاح أو حديد، ولا شيئا مما يرهبون به على المسلمين في قتالهم مثل الرايات
وما يلبسون في حروبهم من الثياب فيباهون بها على المسلمين، وكذلك النحاس؛
لأنهم يعملون منه الطبول فيرهبون بها على المسلمين، ولا يجوز أن يباع منهم
العبد النصراني؛ لأنه يكون دليلا على المسلمين وعورة عليهم.
(2/154)
فصل وإنما يجوز أن يباع منهم من العروض ما
لا يتقوى به في الحرب ولا يرهب به في القتال، ومن الكسوة ما يقي الحر
والبرد لا أكثر، ومن الطعام ما لا يتقوت به مثل الزيت والملح وما أشبه ذلك،
وقد اختلف فيما يتزينون به في كنائسهم وأعيادهم مثل الثياب، هل يجوز أن
يباع منهم ذلك أم لا؟ على قولين؛ ففي سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد تخفيف
ذلك، وحكى ابن المزين عن أصبغ، أن ذلك لا يجوز؛ وجائز أن يعطوا ذلك في فداء
المسلمين باتفاق.
وكذلك الخيل والسلاح إذا لم يقبلوا في الفداء غير ذلك فلا بأس أن يفادى
بها. قال ابن حبيب: مثل الرجل والرجلين والشيء بعد الشيء في الفرط، وأما
الشيء الكثير الذي تكون فيه القوة الظاهرة في العدد الكثير فلا يجوز، وأجاز
ذلك سحنون إذا لم يرج فداؤه بالمال وذلك ما كان الأسير في بلادهم؛ وأما إن
قدموا به بأمان للفداء، فلا يفادى منهم بالسلاح، فإن أبوا إلا ذلك أخذ منهم
بالقيمة صاغرا قمئا، ولم يترك والرجوع به إلى بلده، قال ذلك ابن حبيب في
الواضحة، وانظر هل يأتي هذا على مذهب ابن القاسم أم لا؟ فإن مذهبه أن من
أسلم من عبيدهم لا يباعون عليهم ويتركون وللرجوع بهم إلى بلادهم، وقد
اختلفت الروايات عن ابن القاسم في هذا في العتبية، وجائز أن يفادى منهم
المسلمون بالعبد النصراني، وبأم ولد المسلم النصرانية؛ قال ابن أبي زيد:
على أن لا يسترقوها؛ وبالذمي على شرط أيضا أن لا يسترق - قاله سحنون؛ فأما
مفاداتهم بالخمر والخنازير، فقال أشهب في العتبية: لا يجوز؛ لأنه لا يحل
الدخول في نافلة من الخير بمعصية، وأجاز ذلك سحنون قال: لأنها ضرورة، وقد
روي عن ابن القاسم أن ذلك أخف من الخيل والسلاح يريد لما على المسلمين من
الضرر في فادئهم بالخيل والسلاح.
(2/155)
فصل وجائز لنا أن نشتري منهم أولادهم
وأمهات أولادهم إذا لم تكن بيننا وبينهم هدنة تمنعنا من ذلك؛ وأما ما قدموا
به من أموال المسلمين التي حازوا في أوان حربهم، فقال في المدونة: لا أحب
شراء ذلك منهم، وقال محمد بن المواز: لا بأس بشراء ذلك منهم، فإن جاء صاحبه
كان له أخذه بالثمن، قال: واشتراء العبد المسلم منهم إذا باعوه أفضل من
تركه، وكذلك الأمتعة عندي.
فصل وكذلك معاملة أهل الذمة جائزة أيضا وإن كانوا يستبيحون بيع الخمر
والخنازير ويعملون بالربا، كما قال الله تعالى عنهم: {وَأَخْذِهِمُ
الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] ، لأن الله تبارك وتعالى قد
أباح أخذ الجزية منهم وقد علم ما يفعلون وما يأتون وما يذرون، ولأنهم لو
أسلموا لأحرزوا بإسلامهم ما بأيديهم من الربا، ومن الخمر والخنازير؛ لقول
الله عز وجل: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ
مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] ، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء فهو له» ، إلا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ
- كره أن يباع منهم بالدنانير والدراهم المنقوشة، لما فيها من اسم الله
تعالى، وكره أيضا أن يبيع الرجل من الذمي سلعة بدينار أو درهم يعلم أنه
أخذه في خمر أو خنزير، ولم ير بأسا أن يأخذ ذلك منه في دين له عليه؛ وهذا
على طريق التنزه والتورع؛ وأما في القياس وما يوجبه النظر، فهو جائز لأنه
ماله وملكه لا
(2/156)
يصح لنا نزعه من يده، ولو أسلم عليه، لساغ
له ملكه ولم يكن عليه أن يتنحى عن شيء منه، وذلك إذا باع بذلك الدينار
الخمر من ذمي؛ وأما إن باعها به من مسلم، فهو أشد؛ لأن سحنون يرى أن يتصدق
به على المساكين وإن قبضه، خلافا لابن القاسم، فعلى قول سحنون لا يجوز أن
يبيعه بذلك الدينار شيئا إذا علم أنه ثمن الخمر التي باعها من المسلم، إلا
على تأويل ضعيف؛ وهو أن الدينار لا يتعين للمساكين على مذهب من يرى أن
العين لا تتعين.
فصل وقد اختلف أصحابنا إذا لم يقبض ثمن الخمر والخنازير، وكان قد باع ذلك
من نصراني حتى أسلم، هل يصح له قبضه بعد إسلامه أم لا على قولين، (أحدهما)
أنه لا يصح له قبضه قياسا على ما كان له من الربا لم يقبضه، وهو قول ابن
دينار وابن أبي حازم، (والثاني) أنه يجوز له قبضه بعد إسلامه وهو قول أشهب
والمغيرة والمخزومي، وهو مذهب أكثر أصحابنا.
فصل وفي هذا خمس مسائل:
(إحداها) أن يسلم إليه دينارا في دينارين، (والثانية) أن يسلم إليه دينارا
في دراهم أو دراهم في دينار، (والثالثة) أن يبيع منه خمرا بدنانير أو
دراهم، (والرابعة) أن يسلم إليه دنانير في خمر أو خنزير، (والخامسة) أن
يقرضه خمرا أو خنازير فيسلمان جميعا أو أحدهما؛ فأما المسألة الأولى وهي أن
يسلم إليه دينارا في دينارين، فإن أسلما جميعا أو أسلم الذي أسلم الدينار،
فليس للمسلم إلا ديناره الذي دفع؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ
فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:
279] ، وأما إن أسلم المسلم إليه فقال مالك في المدونة: لا أدري أخاف إن
قضيت عليه برد الدينار أن أظلم الذمي، وله في كتاب ابن المواز
(2/157)
أنه يغرم الدينارين إلى النصراني، ومثله
لابن القاسم في سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، خلاف قوله في
المدونة: إنه يقضى عليه برد الدينار - كما لو أسلما جميعا، وأما الثانية
وهي أن يسلم إليه دينارا في دراهم أو دراهم في دينار، فإن أسلما جميعا رد
المسلم إليه ديناره الذي قبض منه أو دراهمه، وكذلك إن أسلم أحدهما على مذهب
ابن القاسم في المدونة؛ وأما على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -،
فإن أسلم المسلم فتؤخذ الدراهم من النصراني المسلم إليه فيبتاع فيها للمسلم
دينارا، فإن فضل فضل رد على النصراني، وإن لم يكن فيها دينار يبتاع له بها
منه ما بلغ ولم يكن على النصراني أكثر من ذلك، وأما إن أسلم المسلم إليه
فيؤدي الدراهم التي عليه للنصراني - على رواية عيسى عن ابن القاسم، وما في
كتاب ابن المواز؛ لأنها نظير المسألة التي توقف فيها مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى -.
وأما الثالثة وهي أن يسلم إليه دينارا في خمر أو خنازير، فإن أسلما جميعا
أو أسلم المسلم إليه فإنه يرد إليه ديناره، وكذلك إن أسلم المسلم على مذهب
ابن القاسم في المدونة، وأما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فتوقف
فيها، وقال: لا أدري أخاف أن أظلم الذمي إن قضيت عليه برد الدينار وعليه
خمر أو خنازير، وله في كتاب ابن المواز أن الخمر تؤخذ من النصراني فتهراق
على المسلم، ومثله في سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب.
وأما الرابعة وهي أن يبيع منه خمرا - بدنانير أو دراهم، فالثمن ثابت على
المبتاع في كل حال أسلما جميعا أو أحدهما في قول أشهب والمخزومي، وعلى ذلك
يأتي قول غير ابن القاسم في كتاب النكاح الثالث من المدونة، وقيل: إنه يبطل
الثمن عنه إذا أسلما جميعا، أو أسلم البائع، وهو قول ابن أبي حازم وابن
دينار؛ وعليه يأتي قول ابن القاسم في كتاب النكاح الثالث من المدونة.
وأما إن أسلم المبتاع، فعليه أن يؤدي الثمن إلى النصراني ولا أعلم في هذا
الوجه نص خلاف؛ إلا أنه يتخرج فيه على المذهب قولان سوى هذا القول،
(أحدهما) أن الثمن يبطل عنه، (والثاني) أن عليه قيمة الخمر يوم قبضها
وانتفع بها.
وأما الخامسة وهي أن يقرض النصراني النصراني الخمر أو الخنازير؛ فإن أسلما
جميعا سقط القرض،
(2/158)
وإن أسلم المقترض، فقيل: إن القرض يسقط عنه
وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الواضحة، وقيل: إن القيمة تلزمه
للمقرض وهي رواية عيسى عن ابن القاسم، وأما إن أسلم المقرض، فقال ابن
القاسم في سماع عيسى: أحب إلي أن تؤخذ الخمر من النصراني فتهراق، والخنازير
فتطرح.
فصل فمعاملة الذمي على كل حال أخف من معاملة المربي؛ لأن المربي، إذا تاب
لم يحل له ما أربى فيه ووجب عليه رده إلى صاحبه إن عرفه، والصدقة به عنه إن
لم يعرفه، وقد قال أصبغ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مال المربي وعاصر الخمر
والغاصب والظالم وتارك الزكاة: إنه فاسد كله لا يجوز أن يؤكل منه شيء دون
شيء ولا يشرب، وما لا يؤكل ولا يشرب، فلا يجوز أن يباع ولا يشترى. فلا
يبايع به ولا يعامل، وإن عامله فيه أحد رأيت أن يخرجه كله ويتصدق به، وقد
قيل: إن مبايعة من استغرق الحرام ماله جائزة إذا بايعه بالقيمة ولم يحابه،
وأما هبته وصدقته ومعروفه فلا يجوز؛ لأنه كمن استغرق الدين ماله فلا يجوز
له فيه معروف إلا بإذن أهل الدين، وأما الميراث فلا يطيب المال الحرام
للوارث، هذا هو الصحيح الذي يوجبه النظر، وقد روي عن بعض من تقدم أن
الميراث يطيبه للوارث وليس ذلك بصحيح.
فصل ولا يجوز بين المسلم والذمي في التعامل إلا ما يجوز بين المسلمين، فإن
تعاملا بما لا يجوز بين المسلمين لم يخل ذلك من ثلاثة أوجه:
(أحدها) أن يبيع منه ما لا يجوز بيعه ويجوز ملكه كتراب الصواغين، والعبد
الآبق والحمل الشارد، وما أشبه ذلك، (والثاني) أن يبيع منه ما يجوز ملكه
وبيعه بيعا فاسدا، (والثالث) أن يبيع منه ما لا يجوز ملكه كالخمر والخنزير
والحر والدم والميتة، وما أشبه ذلك. فأما الوجه الأول والثاني فالحكم فيهما
إذا وقعا كالحكم فيما بين
(2/159)
المسلمين؛ وأما الوجه الثالث فالحكم فيه
إذا وقع بين المسلم والذمي بخلاف الحكم فيه إذا وقع بين المسلمين في بعض
المواضع، وبيان ذلك أن المسلم إذا باع الخمر من المسلم أو النصراني فعثر
على ذلك والخمر بيد البائع قد أبرزها ولم يدفعها إلى المشتري بعد - كسرت
عليه وانتقض البيع وسقط الثمن عن المشتري إن كان لم يدفعه، وإن كان قد دفعه
رد إليه في قول وتصدق به على المساكين أدبا له في قول؛ وإن لم يعثر على ذلك
حتى قبضها المبتاع، فقيل: إنها تكسر على البائع أيضا وينتقض البيع ويكون
الحكم في الثمن على ما تقدم من الاختلاف؛ وقيل: إنها تكسر على المبتاع
ويمضي البيع أو يتصدق بالثمن على المساكين قبض أو لم يقبض، إذ لا يحل
للبائع ولا يصح تركه للمشتري، وأما إن لم يعثر على ذلك حتى استهلك المبتاع
الخمر، فههنا يفترق الحكم بين أن يكون المبتاع مسلما أو نصرانيا، فإن كان
مسلما تصدق بالثمن على المساكين قبض أو لم يقبض قولا واحدا؛ إذ لا سبيل إلى
نقض البيع بإغرام المسلم ثمن الخمر التي استهلكها وكسرها على البائع. وإن
كان نصرانيا، فقيل: إنه يغرم مثل الخمر وتكسر على البائع فينتقض البيع
ويسقط الثمن عنه إن كان لم يدفعه، وإن كان قد دفعه رد إليه أو تصدق به على
المساكين أدبا له على الاختلاف المذكور، وقيل: إنه يمضي البيع ويتصدق
بالثمن على المساكين قبض أو لم يقبض، وأما إذا باع النصراني خمرا من مسلم
فعثر على ذلك والخمر قائمة بيد البائع النصراني قد أبرزها للمسلم، فإنها
تكسر على البائع وينفسخ البيع ويسقط الثمن عن المبتاع المسلم إن كان لم
يدفعه إلى البائع، وإن كان قد دفعه إليه، فقيل: إنه يرد إلى المبتاع وهو
قول ابن حبيب في الواضحة، وقيل: إنه لا يرد إليه ويتصدق به عليه أدبا له،
وهذا يأتي على ما في المدونة، وإن لم يعثر على ذلك حتى قبضها المبتاع،
فقيل: إنها تكسر على البائع ويرد الثمن إلى المبتاع. إن كان قد دفعه ويسقط
عنه إن كان لم يدفعه، روي ذلك عن مالك بن أبي أويس وغيره، وقيل: إنها تكسر
على
(2/160)
المبتاع ويتصدق بالثمن إن لم يقبضه البائع
أدبا له وإن قبضه ترك له عند ابن القاسم، وعند سحنون يتصدق به قبضه البائع
أو لم يقبضه أدبا له، وقيل: إنها تكسر على البائع وينفسخ البيع ويسقط الثمن
عن المبتاع إن كان لم ينقده، فإن كان نقده كسرت على المبتاع ومضى الثمن
للبائع ولم يؤخذ منه، وهذا قول ابن أبي حبيب في الواضحة؛ وإن لم يعثر على
ذلك حتى قبض المسلم الخمر وفاتت في يده أخذ منه الثمن وتصدق به على
المساكين إن كان لم يدفعه إلى النصراني أدبا له، وإن كان قد دفعه إليه ترك
له ولم يؤخذ منه عند ابن القاسم وابن حبيب، وعند سحنون يتصدق به على كل حال
أدبا له.. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
(2/161)
|