المقدمات الممهدات

 [كتاب الأقضية] [ما جاء في الأقضية]
ما جاء في الأقضية انفرد الله تبارك وتعالى بالحكم والقضاء بين عباده في الآخرة، فقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: 20] . وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل: 78] . وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93] . وقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس: 54] . وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] .
وصرف - تبارك وتعالى - الحكم والقضاء بينهم في الدنيا إلى من استخلفه في الأرض عليهم من الأنبياء، ومن بعدهم من الخلفاء وأولي الأمر من القضاة والحكام والعلماء، وفرض عليهم العدل بينهم في الحكم، وألا يتبعوا الهوى، ولا يشتروا بآياته ثمنا قليلا، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] .

(2/253)


وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] . وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] . وقال: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] . وقال: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] . وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] .

فصل وفرض لهم على الناس التسليم والطاعة والانقياد، فقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] الآية. وقال تعالى:

(2/254)


{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، فقارن - تعالى - طاعته بطاعة رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وبطاعة أولي الأمر من عباده. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني» .

فصل فمن عصى إماما أو قاضيا أو حكما من الحكام فيما أمر به من الحق أو حكم فيه بوجه العدل، فقد عصى الله ورسوله، وتعدى حدوده، وأما إن قضى بغير العدل، أو أمر بغير الحق، فطاعته غير لازمة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ، إلا أن يخشى أن تؤدي مخالفته إلى هرج أو فساد، فتجب عليه الطاعة على كل حال.

فصل فالحكم بين الناس بالعدل من أفضل أعمال البر وأعلى درجات الأجر. قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المقسطون على منابر من نور يوم القيامة على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» . فبدأ بالإمام العادل، وظل الله في هذا الحديث رحمته وجنته.

(2/255)


قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] ، وقال: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] ؛ ومن كان في ظل الله ورحمته يوم القيامة فهو آمن من هول الموقف وشدته، سالم مما يلحق الناس فيه من الشدة والضيق، وهذه نهاية في الأجر والثواب.

فصل والجور في الأحكام واتباع الهوى فيها من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، قال الله عز وجل: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] . وقال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أعتى الناس على الله وأبغض الناس إلى الله وأبعد الناس من الله يوم القيامة: رجل ولاه من أمة محمد شيئا ثم لم يعدل فيهم» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من أحد أقرب من الله يوم القيامة بعد ملك مصطفى أو نبي مرسل من إمام عادل، ولا أبعد من الله من إمام جائر يأخذ بحبه» أي يحكم بهواه.

فصل فالقضاء محنة، ومن دخل فيه فقد ابتلي بعظيم؛ لأنه قد عرض نفسه للهلاك، إذ التخلص منه على ما ابتلي به عسير؛ روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: وددت أن أنجو من هذا الأمر كفافا لا لي ولا علي. وروي عن أبي

(2/256)


هريرة أنه قال: من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين. وقال أبو قلابة: مثل القاضي العالم كالسابح في البحر، فكم عسى أن يسبح حتى يغرق. وكتب سلمان إلى أبي الدرداء بلغني أنك جعلت طبيبا تداوي، فإن كنت تبرئ، فنعما لك وإن كنت متطببا فاحذر أن تقتل إنسانا فتدخل النار فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما فقال: ارجعا إلي أعيدا علي قصتكما- متطبب والله.

فصل فالهروب عن القضاء واجب، وطلب السلامة منه لا سيما في هذا الوقت لازم؛ وقد روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دعا رجلا ليوليه فأبى، فجعل يديره على الرضى فيأبى حتى قال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أي ذلك تعلم خيرا لي؟ قال: ألا تلي، قال: فاعفني. قال: قد فعلت. وقال مالك: قال لي عمر بن حسين: ما أدركت قاضيا استقضى بالمدينة إلا رأيت كآبة القضاء وكراهيته في وجهه، إلا قاضيين سماهما.

فصل وطلب القضاء والحرص عليه حسرة وندامة يوم القيامة، روي عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ستحرصون على الإمارة وتكون حسرة وندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة. فمن طلب القضاء وأراده وحرص عليه، وكل إليه وخيف فيه الهلاك عليه، ومن لم يسأله وامتحن به، وهو كاره له خائف على نفسه فيه، أعانه الله عليه» . روي عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من طلب القضاء أو استعان عليه وكل إليه، ومن لم يطلبه ولا استعان عليه،

(2/257)


أنزل الله ملكا يسدده» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسل الإمارة فإنك إن تؤتها من غير مسألة، تعن عليها، وإن تؤتها عن مسألة توكل إليها» .
فصل فيجب ألا يولى القضاء من أراده وطلبه، وإن تجمعت فيه شروط القضاء مخافة أن يوكل إليه فلا يقوم به ولا يقوى عليه. قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا لا نستعمل على عملنا من أراده» ، ونظر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى شاب في وفد وَفَد عليه فاستحلاه وأعجبه، فإذا هو يسأله القضاء، فقال له عمر: كدت أن تغرنا من نفسك إن الأمر لا يقوى عليه من يحبه.

فصل وللقضاء خصال مشترطة في صحة الولاية، وخصال ليست مشترطة في صحة الولاية، إلا أن عدمها توجب عزل القاضي عن الولاية، وخصال ليست مشترطة في صحة الولاية ولا يوجب عدمها عزل القاضي عن الولاية إلا أنها مستحبة فيها، ويستحب بعدمها عزله عنها، فأما الخصال المشترطة في صحة الولاية، فهي أن يكون حرا مسلما بالغا ذكرا عاقلا واحدا، فهذه الستة خصال لا يصح أن يولى القضاء على مذهبنا إلا من اجتمعت فيه، فإن ولي من لم تجتمع فيه، لم تنعقد له الولاية، وإن انخرم شيء منها بعد انعقاد الولاية، سقطت الولاية، وقال أبو حنيفة: يجوز أن تلي القضاء المرأة في الأموال دون القصاص، وقال محمد بن الحسن، ومحمد بن جرير الطبري: يجوز أن تكون المرأة قاضية على كل حال؛ وأما الخصال التي ليست مشترطة في صحة الولاية إلا أن عدمها يوجب فسخ الولاية،

(2/258)


فهي أن يكون سميعا بصيرا متكلما عدلا؛ فهذه الأربع خصال لا يجوز أن يولى القضاء إلا من اجتمعت فيه؛ فإن ولي من لم تجتمع فيه، وجب أن يعزل متى عثر عليه، ويكون ما مضى من أحكامه جائزة إلا الفاسق الذي ليس بعدل، فاختلف فيما مضى من أحكامه، فقيل: إنها جائزة وهو قول أصبغ، وقيل: إنها مردودة، وهو المشهور في المذهب؛ فعلى هذا القول العدالة مشترطة في صحة الولاية كالإسلام والحرية والبلوغ والعقل والذكورة، على مذهبنا والتوحد.
وأما الخصال المستحبة فكثيرة، منها أن يكون من أهل البلد، ورعا، عالما، يسوغ له الاجتهاد غنيا ليس بمحتاج ولا مديان، معروف النسب ليس بابن لعان ولا ولد زنا، جزلا نافذا، فطنا غير مخدوع لغفلة، ولا محدود في زنا ولا قذف، ولا مقطوع في سرقة، وروي عن عمر بن عبد العزيز منها خمس خصال، وهي: أن يكون عالما بالفقه والسنة، ذا نزاهة عن الطمع، مستخفا بالأئمة. يريد أنه يدير الحق على من دار عليه ولا يبالي بمن لامه على ذلك، وقيل: باللائمة يريد أنه يقضي بالحق ولا يهابهم فيه، والأول آمن، حليما عن الخصم، مستشيرا لأولي العلم.
وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يصلح أن يلي القضاء إلا من كان حصيف العقل، شديدا في غير عنف، لينا في غير ضعف، قليل الغرة، بعيد الهيبة، لا يطلع الناس منه على عورة؛ ومن الخصال المستحبة على ما يوجبه مذهبنا: ألا يكون أميا، وليس لأصحابنا في ذلك نص، ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان، أحدهما: المنع، والآخر: الجواز، والأظهر عنده الجواز؛ لأن إمام المسلمين وسيد المرسلين وأفضل الحاكمين كان أميا، ومن طريق المعنى أنه لا يلزمه قراءة العقود ويجوز أن ينوب عنه في ذلك وفي تقييد المقالات غيره، وأن للمنع من ذلك وجها، لما فيه من تضييق وجوه الحكم، والنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليس كغيره؛ لأنه معصوم؛ فهذه الخصال المستحبة ينبغي توخيها وبعضها آكد من بعض، فيقدم الذي يجتمع فيه منها آكرها، وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أرى

(2/259)


خصال القضاء تجتمع اليوم في أحد، فإذا اجتمع فيه منها خصلتان، رأيت أن يولى العلم والورع. قال ابن حبيب: فإن لم يكن علم فعقل وورع، فبالعقل يسأل وبالورع يقف، وإذا طلب العلم وجده وإن طلب العقل لم يجده. يريد بالعقل العقل الحصيف.
وأما العقل الذي يوجب التكليف، فإنما هو مشترط في صحة الولاية على ما قدمناه. قال ابن حبيب: ويكون عالما بالسنة والآثار ووجه الفقه الذي يؤخذ منه الكلام. حكي ذلك عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، قالوا: ولا يصلح أن يكون صاحب رأي لا علم له بالسنة ولا بالآثار، ولا صاحب حديث ولا علم بالفقه والرأي؛ لأنه يخاف من الجهل مثل ما يخاف من الجور.
قال أصبغ: ويعزل الجاهل إلا ألا يوجد غيره، فيقر ويؤمر أن يستكثر من المشورة، ويتفقد أمره في كل حين. قال: وإذا لم يجد الإمام إلا رجلين، أحدهما عدل مأمون لا علم له بالقضاء والسنة، والآخر عالم وليس مثل الآخر في العدالة، فإن كان العالم لا بأس بحاله وعفافه، وإن كان دون الآخر، فليول هذا، وإن كان غير مرضي ولا موثوق به في عفافه وصلاحه، ولعله يقارب ما لا ينبغي، فلا يولى هذا ولا هذا إلا ألا يوجد غيرهما فإن لم يجد غيرهما ولي العدل القصير العلم، وليجتهد وليستشر، وإن وجد من يجمع العلم والعدل، فلا يولى غيره وإن لم يكن من أهل البلد؛ وقال سحنون: وإن كان الرجل العالم فقيرا وهو أعلم من بالبلد وأرضاهم، استحق القضاء، ولكن لا ينبغي أن يجلس حتى يغنى ويقضي عنه دينه، قال: ولا بأس أن يستقضى ولد الزنا ولا يحكم في الزنا، كما أن القاضي لا يحكم لابنه.

فصل فالقضاة ثلاثة كما روي عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، وأما الذي في النار فرجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى بين الناس

(2/260)


على جهل فهو في النار» ، وروي عنه- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «الحكام ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، حكم جهل فخسر فأهلك أموال الناس وأهلك نفسه ففي النار، وحكم علم فهزل - يعني جار- فأهلك أموال الناس وأهلك نفسه ففي النار، وحكم علم فعدل وأحرز أموال الناس وأحرز نفسه ففي الجنة» . وروي عن ابن عمر أنه قال: بلغني «أن القضاة ثلاثة، رجل جار فهو في النار، ورجل تكلف فقضى بما لا يعلم فهو في النار، ورجل علم فاجتهد فذلك ينجو كفافا لا له ولا عليه» .
وهذا يرده الحديث، قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» . وقال إياس بن معاوية للحسن: بلغني أن القضاة ثلاثة، فذكر فيهم: رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، فقال الحسن: إن فيما قضى الله علينا من نبأ داود وسليمان ما يرد قول هؤلاء الناس. يقول الله سبحانه: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ، فأثنى على سليمان ولم يذم داود.
وقد روي في حديث معاذ بن جبل أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أذن له أن يجتهد رأيه فيما لم يكن في الكتاب والسنة، قال له لما بعثه إلى اليمن: "كيف تقضي؟ " قال له: أقضي بما في كتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ "، قال: ففي سنة رسوله، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: أجتهد رأيي، فقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي رسوله» .

(2/261)


فإذا اجتهد الحاكم فله أجر الاجتهاد وإن أخطأ باجتهاده. روي عن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» .

فصل وهذا إذا كان من أهل الاجتهاد، وأما إن لم يكن من أهل الاجتهاد، فهو آثم وإن أصاب باجتهاده لتقحمه وجرأته على الله في الحكم بغير علم.

فصل
فيحكم الحاكم بما في كتاب الله، فإن لم يكن، ففيما جاء عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صحبته الأعمال؛ فإذا كان خبرا صحبت غيره الأعمال، قضى بما صحبته الأعمال، وهذا معلوم من أصول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العمل مقدم على أخبار الآحاد، وكذلك القياس عنده مقدم على أخبار الآحاد، على ما ذهب إليه أبو بكر الأبهري، فإن لم يجد في السنة في ذلك شيئا، نظر في أقوال الصحابة فقضى بما اتفقوا عليه، فإن اختلفوا قضى بما صحبته الأعمال من ذلك فإن لم يصح عنده أيضا اتصال العمل بقول بعضهم، تخير من أقوالهم ولم يخالفهم جميعا.
وقد قيل: إن له أن يجتهد وإن خالفهم جميعا، وكذلك الحكم في إجماع التابعين بعد الصحابة، وفي كل إجماع ينعقد في كل عصر من الأعصار إلى يوم القيامة؛ لقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] . ولقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تجتمع أمتي على ضلالة» ، وأنه قال: «يد الله على الجماعة» .

(2/262)


فإذا تضمن الله حفظ الجماعة، لم يجز عليها الغلط والسهو، فإن لم يجد في النازلة إجماعا، قضى فيها بما يؤديه النظر والاجتهاد في القياس على الأصول بعد مشورة أهل العلم، فإن اجتمعوا على شيء، أخذ به، وإن اختلفوا نظر إلى أحسن أقوالهم عنده، وإن رأى خلاف رأيهم قضى بما رأى، إذا كان نظيرا لهم، وإن لم يكن من نظرائهم، فليس له ذلك، قاله ابن حبيب، وهو قول فيه اعتراض.
والصحيح أنه إذا كان من أهل الاجتهاد، فله أن يقضي بما رأى، وإن كانوا أعلم منه؛ لأن التقليد لا يصح للمجتهد فيما يرى خلافه بإجماع، وإنما يصح له التقليد على مذهب من يرى التقليد ويقول به ما لم يتبين له في النازلة حكم، فإنما الخلاف هل للمجتهد أن يترك النظر والاجتهاد، ويقلد من قد نظر واجتهد أم لا على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك له.
والثاني: أن ذلك ليس له.
والثالث: أن ذلك ليس له إلا أن يخاف فوات النازلة، وأما إن لم يكن من أهل الاجتهاد ففرضه المشورة والتقليد، فإن اختلف عليه العلماء، قضى بقول أعلمهم، وقيل بقول أكثرهم على ما وقع في المدونة في الحكاية عن الفقهاء السبعة، والأول أصح. وقيل: إن له أن يحكم بقول من شاء منهم، إذا تحرى الصواب بذلك ولم يقصد الهوى، وله أن يكتفي بمشورة واحد من العلماء، فإن فعل ذلك فالاختيار أن يشاور أعلمهم، فإن شاور من دونه في العلم وأخذ بقوله، فذلك جائز إذا كان المشاور أهل النظر والاجتهاد.

(2/263)


فصل والاجتهاد بذل الوسع في طلب صواب الحكم، وهذا على مذهب من قال: إن الحق في طرف واحد، وإن المكلف إنما كلف طلب الحق ولم يكلف إدراكه، وهذا مذهب جماعة من أهل العلم؛ وقد استدل جماعة من أصحابنا على أن هذا هو مذهب مالك بقوله: - لما سئل عن اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مخطئ ومصيب، وهذا لا دليل فيه، لاحتمال أن يريد اختلافهم فيما طريقه العلم، مثل ما وقعت بينهم فيه الحروب، أو يكون معنى قوله: إن منهم من أصاب النص، ومنهم من أخطأه باجتهاده فيما طريقه الاجتهاد، والأول أظهر - والله أعلم.
وأما عن مذهب من قال: إن كل مجتهد مصيب، فالاجتهاد عنده بذل الوسع في إدراك صواب الحكم، وإلى هذا ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحكى أن هذا هو مذهب مالك واستدل على ذلك من مذهبه بأن المهدي أمره أن يجمع مذهبه في كتاب يحمل عليه الناس، فقال له مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد تفرقوا في البلاد، وأخذ أهل كل ناحية عمن وصل إليهم، فدع الناس وما هم عليه؛ فلولا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - رأى أن كل مجتهد مصيب، لما رأى أن يقرهم على ما هو الخطأ عنده، وعلى هذا أصحاب الشافعي.
وقد روي عن أبي حنيفة القولان جميعا، وكذلك فقد روي عن أبي الحسن الأشعري - رَحِمَهُ اللَّهُ - القولان جميعا، والصحيح عنه أن كل مجتهد مصيب- وهو الحق والصواب؛ لأن المجتهد إذا اجتهد فيما لا نص فيه ولا إجماع، فأداه اجتهاده إلى تحليل أو تحريم، يعلم قطعا أنه متعبد بما أداه اجتهاده إليه، من ذلك مأمور به، ولا يصح أن يأمره الله تعالى بشيء ويتعبده به وهو خطأ عنده، وقد استدل بعض من ذهب إلى أن الحق في واحد باختلاف المجتهدين في طلب سمت القبلة وهذا غلط بين، إذ ليس اختلاف المجتهدين في الأحكام كاختلاف المجتهدين في طلب سمت القبلة؛ لأن الكعبة في موضع واحد، فمن وافق جهتها باجتهاده فهو مصيب، ومن لم يوافق جهتها فهو مخطئ، لاستحالة كون الكعبة في موضعين، وليس كذلك ما عاد إلى

(2/264)


مسألتنا؛ لأن المجتهدين إذا اختلفا في اجتهادهما فأدى أحدهما اجتهاده إلى تحليل، والثاني إلى تحريم، فكل واحد منهما متعبد في نفسه بما أداه إليه اجتهاده، وليس في ذلك وجه من وجوه الاستحالة؛ لجواز ورود النص من عند الله تعالى به. فإذا جاز ورود النص به من عند الله لامتناع الاستحالة، وقام الدليل على أنه لا يجوز أن يأمر الله أحدا بشيء ويتعبده به- وهو خطأ عنده، وجب القول بتصويب المجتهدين وإن كان من أخطأ سمت القبلة باجتهاده فصلى إلى تلك الناحية مخطئ الكعبة فهو مصيب عند الله- وإن وقعت صلاته إلى غير القبلة؛ لأن غرضه إنما هو الاجتهاد في طلب السمت لا إدراكه؛ فالمختلفون باجتهادهم في طلب سمت القبلة مصيبون عند الله على هذا المعنى، وهذه جملة كافية لمن بصره الله وأفهمه في بيان صحة القول بتصويب المجتهدين، وهي من المسائل القطعيات.

فصل فإذا صح القول بتصويب المجتهدين واستحال أن الحق في واحد بقيام الأدلة على ذلك، وجب أن يتأول قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر» على ما لا ينافي الدليل، فيقول ليس معنى قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث: أخطأ أي أخطأ الحق عند الله؛ لأن الحق عنده في جهة ما تعبده به أو إنما معناه أخطأ النص إن كان قد ورد في ذلك نص لم يعلم به، أو أخطأ في الحكم بالمال لمن لم يجب له في باطن الأمر، وذلك ممكن مع الحكم بالنص لا بالاجتهاد، وذلك مثل أن يكون لرجل على رجل حق بشهادة شاهدين عدلين فيهبه له أو يقبضه منه- ولم يعلم الشهود بذلك، ثم يقوم عليه بحقه أو على ورثته بشهادة شهيديه، فإن الحاكم يحكم له بشهادتهما ويعديه بحقه، فيكون مصيبا في الحكم عند الله بحكمه بنص الكتاب مخطئا في دفع المال إلى من لم يجب له فيه حق في باطن الأمر، وإذا احتمل الحديث هذه الوجوه، بطل الاحتجاج به في أن الحق واحد، وكذلك سائر ما يحتجون به ينفصل عنه بوجوه كثيرة من الانفصالات، وليس هذا موضع ذكرها.

(2/265)


فصل وحكم الحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا على من علمه في باطن الأمر؛ لأن الحاكم إنما يحكم بما ظهر- وهو الذي تعبد به ولا ينقل الباطن عند من علمه عما هو عليه من تحليل أو تحريم، قال الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار» . وهذا إجماع من أهل العلم في الأموال، واختلفوا في حل عصمة النكاح أو عقدها بظاهر ما يقضي به الحكم وهو خلاف الباطن، فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي وجمهور أهل العلم إلى أن الأموال والفروج في ذلك سواء، لأنها حقوق كلها تدخل تحت عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار» .
فلا يحل منها القضاء الظاهر ما هو حرام في الباطن. وقال أبو يوسف وأبو حنيفة وكثير من أصحابه: إنما ذلك في الأموال خاصة؛ فلو أن رجلين تعمدا لشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأته فقبل القاضي شهادتهما لظاهر عدالتهما عنده- وهما قد تعمدا الكذب أو غلطا ففرق بشهادتهما بين الرجل والمرأة، ثم اعتدت المرأة، أنه جائز لأحد الشاهدين أن يتزوجها وهو عالم بأنه كاذب في شهادته؛ لأنها لما حلت للأزواج بالحكم في الظاهر، كان الشاهد وغيره سواء؛ لأن قضاء القاضي وحكمه فرق بينها وبين زوجها وقطع العصمة بينهما؛ ولولا ذلك ما حلت لزوج غيره؛ واحتجوا بحكم اللعان وقالوا: معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب الذي لو علم الحاكم كذبها فيه، ما فرق بينها وبين زوجها، ولحكم فيه بغير ذلك من وجوب

(2/266)


الحد عليها أو الرجم. قالوا: فلم يدخل هذا في معنى قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا» . قالوا: ألا ترى أن من شهد عليه بالنكاح أو بالطلاق وقضى القاضي عليه بذلك، لم يكن له الامتناع منه وجاز الحكم بشهادة الشهود عليه. ولزمه التسليم له كانت فرقته في الظاهر فرقة عامة، فلما كان ذلك دخل فيه الشاهد وغيره، ولهم في ذلك احتجاجات كثيرة لا تصح، والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي رحمهما الله ومن قال بقولهما.

فصل ويستحب للقاضي الجلوس للحكم في رحاب المسجد الخارجة عنه من غير تضييق عليه في جلوسه في غيرها، ليصل إليه اليهودي والنصراني والضعيف وهو أقرب للتواضع، ولا ينبغي له أن يجلس الفقهاء معه في مجلس قضائه، ولكن يتخذهم مستشارين إذا ارتفع عن مجلس قضائه؛ وهكذا كان عمر بن الخطاب يفعل بأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذا قول ابن حبيب في الواضحة.
واستحب أشهب ألا يقضي إلا بحضرة أهل العلم؛ لكي إن أخطأ في حكمه رد مكانه قبل أن يفوت القضاء به، فلا يقدر على رده إلا أن يخاف الحصر من جلوسهم عنده، أو يشتغل قلبه بهم وبالحذر منهم، وهو اختيار ابن المواز؛ ولا ينبغي للقاضي أن يقضي بين الخصمين- وبه من الضجر أو الغضب أو الجوع أو الهم ما يخاف على فهمه منه الإبطاء والتقصير، وما كان من ذلك كله خفيفا لا يضر به في فهمه، فلا بأس أن يقضي وذلك به.

فصل ويلزم القاضي تحري العدل بين الخصمين عنده فيكون مجلسهما منه واحدا ونظره إليهما سواء، وقد تكلم الناس في آداب القضاة وما يلزمهم أن يلتزموه في أنفسهم وأعوانهم، وبسطوا ذلك في كتبهم، فأغنانا ذلك عن ذكره، وكتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أصل في الأحكام فيجب تحفظه والوقوف عليه، وهو: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى

(2/267)


عبد الله بن قيس؛ سلام عليك، أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، وانفذ إذا قضيت، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا؛ لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة- أمرا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة، أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية؛ فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى؛ المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان، وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم، والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن عليه الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه، شانه الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته- والسلام ".

(2/268)