المقدمات الممهدات

 [كتاب الشهادات]
قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]- أي خيارا عدولا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .

فصل وهذه الشهادة تكون في الدنيا ويوم القيامة في الأخرى- على ما أتت به الآثار عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأما كونها في الدنيا، فبيانه: ما روي «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر عليه بجنازة فقيل لها: خير وتتابعت الألسن بالخير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وجبت؛ ومر عليه بجنازة فقيل لها: شر وتتابعت الألسن بالشر؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وجبت، أنتم شهداء الله في الأرض» ، زاد في حديث آخر: «فمن أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار» ، وما روي عنه أيضا أنه قال: «إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه، فانظروا ماذا يتبعه

(2/269)


من حسن الثناء» . وأما كونها يوم القيامة، فبيانه: ما روي في الحديث أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «يدعى بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت ما أرسلت به؟ فيقول: نعم، فيقال لقومه: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال له: من يعلم ذلك؟ فيقول: محمد وأمته، فيأتون فيشهدون له بالتبليغ» .
ويروى أن الله تعالى إذا جمع عباده يوم القيامة، كان أول من يدعى إسرافيل، فيقول له ربه: ما فعلت في عهدي هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم يا رب قد بلغته جبريل؛ فيدعى جبريل فيقال له: هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول: نعم قد بلغني، فيخلى عن إسرافيل، ويقال لجبريل: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم قد بلغت الرسل، فيدعى الرسل فيقال لهم: هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون: نعم ربنا؛ فيخلى عن جبريل، ثم يقال للرسل ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون: بلغنا أممنا؛ فتدعى الأمم فيقال لهم: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذب ومنهم المصدق؛ فيقول الرسل: إن لنا عليهم شهودا يشهدون أن قد بلغنا مع شهادتك؛ فيقول: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتدعى أمة محمد، فيقال لها: أتشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليه؟ فيقولون: نعم- ربنا- شهدنا أن قد بلغوا، فتقول تلك الأمم: - ربنا- كيف يشهد علينا من لم يدركنا؛ فيقول لهم الرب: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك فقصصت علينا أنهم قد بلغوا، فشهدنا بما عهدت إلينا،

(2/270)


فيقول الرب: نعم صدقوا " فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .

فصل وهذه شهادة صحيحة، لأنهم شهدوا بما علموا بأخبار من علموا صدقه بالأدلة الظاهرة والبراهين القاطعة، ومن هذا المعنى شهادة خزيمة بن ثابت للنبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - على الأعرابي أنه اشترى منه الفرس ولم يحضر ولا شهد.

فصل وكذلك كل من علم شيئا بوجه من الوجوه التي يقع بها العلم، وجب عليه الشهادة به إذا دعي إليها؛ والعلم يدرك بأربعة أشياء فلا يصح لشاهد شهادة بشيء حتى يقع له العلم ويحصل عنده بأحدها، إذ لا تصح الشهادة إلا بما يعلم ويقطع على معرفته، لا بما يشك فيه، ولا بما يغلب على الظن معرفته. قال الله عز وجل: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] .

فصل فأحد الوجوه التي يدرك بها العلم العقل بانفراده، فإنه يدرك به بعض العلوم الضرورية، مثل أن الاثنين أكثر من الواحد، وأن السماء فوقه والأرض تحته؛ ويعلم به حال نفسه من صحته وسقمه، وإيمانه وكفره؛ وتصح بذلك شهادته على نفسه، وما أشبه ذلك.
والثاني العقل مع الحواس الخمس: حاسة السمع، وحاسة البصر، وحاسة

(2/271)


الشم، وحاسة الذوق، وحاسة اللمس؛ فيدرك بالعقل مع حاسة السمع الكلام وجميع الأصوات المسموعات؛ ويدرك بالعقل- مع حاسة البصر جميع الأجسام والأعراض والأشخاص المبصرات، ويدرك بالعقل مع حاسة الشم جميع الروائح المشمومات، ويدرك بالعقل مع حاسة الذوق جميع الطعوم المذوقات، ويدرك بالعقل مع حاسة اللمس جميع الملموسات- على اختلافها في اللين والخشونة، وما أشبه ذلك.
والثالث: الأخبار المتواترة، فإنه يعلم بها أخبار البلدان النائية، والقرون الماضية، وظهور النبي، ودعائه إلى الإسلام، وما أشبه ذلك.

فصل فالعلوم المدركة من هذه الوجوه الثلاثة: علم ضرورة يلزم النفس لزوما لا يمكنها الانفصال منه ولا الشك فيه.
والوجه الرابع: الذي يدرك به العلم هو النظر والاستدلال، والنظر والاستدلال مبني على علم الضرورة، أو على ما بني على علم الضرورة، أو على ما بني على ما بني على علم الضرورة- هكذا أبدا إلى ما أمكن ضبطه، وصح وجوده؛ مثال ذلك أن الإنسان عالم بوجود نفسه- ضرورة فهذا أصل تبنى عليه العلوم الضروريات، فإذا علمت نفسي ضرورة، نظرت هل أنا محدث أو قديم؛ فلا يصح أن أنظر هذا النظر قبل علمي بوجود نفسي، فإذا نظرت، علمت أني محدث بالنظر الصحيح، فالعلم بحدثي علم نظري، مبني على العلم بوجود نفسي الذي هو ضرورة؛ ثم لما علمت أني محدث، نظرت هل لي محدث أو ليس لي محدث؛ فعلمت بالنظر الصحيح أنه لا بد لي من محدث، فهذا أيضا علم نظري مبني على علم نظري، مبني على علم ضروري؛ ثم أنظرُ بعد ذلك أيضا في محدثي: هل

(2/272)


هو قديم أو محدث؟ فأعلم بالنظر الصحيح أنه قديم؛ فالعلم بأن محدثي قديم علم نظري مبني على العلم بأن لي محدثا الذي هو علم نظري، وهو مبني على العلم بحدثي، الذي هو أيضا علم نظري، وهو مبني على العلم بوجودي وهو ضرورة.

فصل فالعلم النظري يقع العلم به عقيب النظر، ويستوي مع الضروري في أنه معرفة المعلوم على ما هو به، فالشهادة بما علم من جهة النظر والاستدلال جائزة، كما تجوز بما علم من جهة الضرورة، وذلك مثل ما روي أن خزيمة بن ثابت شهد للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه اشترى الفرس من الأعرابي ولم يحضر ولا شهد؛ ومثل ما روي أن أبا هريرة شهد أن رجلا قاء خمرا، فقال له عمر: أتشهد أنه شربها؟ فقال: أشهد أنه قاءها، فقال له عمر بن الخطاب: ما هذا التعمق؟ فلا وربك ما قاءها حتى شربها؛ ومن ذلك: شهادة الحكماء في قدم العيوب وحدوثها، وشهادة أهل المعرفة في قدم الضرر وحدوثه؛ ومن هذا المعنى شهادة أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم القيامة للنبيين على أممهم بالبلاغ، وهذا بين من أن يحتاج إلى تبيانه؛ لأن كل مؤمن فإنما يشهد أن الله وحده لا شريك له وأنه حي، عالم، قادر، مريد، سميع، بصير، متكلم- إلى غير ذلك من الصفات التي هو عليها- لعلمه بذلك، ولا طريق له إلى العلم بشيء من ذلك إلا من جهة النظر والاستدلال.

فصل وكذلك الشهادة أيضا بما علم من جهة الأخبار المتواترة جائزة كالولاء والنسب والموت، وولاية القاضي وعزله، وضرر الزوجين، وما أشبه ذلك؛ يصح

(2/273)


للرجل إذا وقع له العلم بهذه الأمور وما أشبهها من جهة الخبر أن يشهد بذلك ويقطع عليه وتبت الشهادة عليه.

فصل فالله تبارك وتعالى شاهد على خلقه، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98] . والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهد على أمته، وأمته شاهدة على جميع الأمم - يوم القيامة، وشاهدة لله بما شهد به لنفسه، وبما شهدت له به ملائكته وأولو العلم؛ وبعضها شاهد لبعض فيما يدور بينهم في الدنيا من المعاملات والهبات، والجنايات وسائر ما يقع بينهم من الأمور الدائرات.
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] ، وقال تبارك وتعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] . وقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 106]- الآية وقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] .

(2/274)


وقال: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل» . وقال: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه» . وقال: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها، أو بخبر شهادته قبل أن يسألها» . وقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» . وقال للذي خاصم إليه: «شاهداك أو يمينه» .

فصل فاقتضت هذه الآيات الواردة في القرآن وما أوردناه من السنن والآثار خمسة فصول: أحدها: الإشهاد على الحقوق على اختلافها من البيع والنكاح والرجعة وما أشبه ذلك مما لا يتعلق به حق لسوى الشهداء، مما يتعلق فيه حق لسواهم على ما سنبينه إن شاء الله.
والثاني: القيام بالشهادة.
والثالث: صفة الشهود الذين يجب قبول شهادتهم.
والرابع: مراتب الشهود في الشهادات.
والخامس: مراتب الشهادات.

(2/275)


فصل فأما الفصل الأول- وهو الإشهاد على الحقوق على تفاصيلها- فإن منها البيع وقد أمر الله تبارك وتعالى بالإشهاد عليه فقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] واختلف أهل العلم في وجوبه، فالذي عليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور أهل العلم أن الإشهاد على البيع مندوب إليه وليس بواجب؛ وذهب أهل الظاهر إلى أنه واجب، وأصل اختلافهم في هذا، اختلافهم في الأمر الوارد إذا ورد عاريا من القرائن: هل يحمل على الوجوب أو على الندب أو على الإباحة إذ لا اختلاف بين أحد من أهل العلم أن الأمر قد يرد والمراد به الوجوب، مثل قَوْله تَعَالَى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] ، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وما أشبه ذلك. وقد يرد والمراد به الندب، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] . ومثل قوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] .
وقد يرد والمراد به الإباحة مثل قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] ، و {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] . فإذا ورد الأمر عاريا من القرائن التي تدل على الوجوب أو الندب أو الإباحة، فمن أهل العلم من قال إنها تحمل على الإباحة، ومنهم من قال إنها تحمل على الندب، ومنهم من قال تحمل على الوجوب، ومنهم من قال: يتوقف فيه ولا يحمل على ندب ولا وجوب؛ حتى يدل الدليل على المراد به، ولكل واحد منهم على مذهبه حجاج يطول ذكرها، وليس هذا موضع إيرادها، وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنه

(2/276)


محمول على الوجوب- إذا دل النظر على تعريته من القرائن التي تخرجه عن الوجوب، والذي يدل على ذلك من مذهبه أنه احتج لوجوب إتمام ما دخل الرجل فيه من القرب بظواهر الأوامر من قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] .

فصل فإذا كان مذهبه أن الأمر محمول على الوجوب إذا تعرى من القرائن، فإنما قال: إن أمر الله تعالى بالإشهاد على البيع ندب وليس بواجب، للأدلة الظاهرة على ذلك، منها قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] فلما جاز أن يترك الرهن الذي هو بدل الشهادة ويؤتمن صاحبه، جاز ترك الإشهاد، إذ يفرق المخالف بين ترك الإشهاد والرهن الذي هو بدله، بل يقول بوجوب كل واحد منهما، ومنها قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، والبيع عقد من العقود، فأمر الله تعالى بالوفاء به، دليل على جوازه بغير إشهاد؛ لأن الأمر بالوفاء مع الإشهاد لا معنى له؛ لأنه إن جحد لزمه الحق بالشهود، ومن طريق السنة «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ابتاع من أعرابي فرسه ولم يشهد، فلما نازعه الأعرابي وأنكر البيع قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: من يشهد لي؛ فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد لك، قال وبم تشهد؟ قال: أصدقك في أخبار الآخرة ولا أصدقك في أخبار الدنيا؛ فقضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه بشهادته فسمي ذا الشهادتين» ومن الدليل أيضا على ذلك: الإجماع على

(2/277)


إجازة ترك الإشهاد في القليل التافه، كابتياع البقل وما أشبه ذلك، والأدلة على ذلك كثيرة وفيما ذكرناه كفاية.

فصل فإن قال قائل: فإذا سقط الوجوب فلم لم يكن محمولا على الإباحة وحمل على الندب؟ فالدليل على ذلك أن الله تبارك وتعالى قد أمر بحفظ المال في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال تبارك وتعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] ونهى النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن إضاعته، وفي الإشهاد حفظ المال، فهذا دليل على الندب.

فصل وكذلك الدين أمر الله تعالى فيه بالكتاب والإشهاد فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ؛ الآية. وذلك مرغب فيه ومندوب إليه وليس بواجب، ومن أهل العلم من قال: إنه واجب.

فصل فإذا قلنا: إنه غير واجب فيهما، فإنه حق لكل من دعا إليه من المتبايعين أو المتداينين على صاحبه يقضى له به عليه إن أباه؛ لأن من حقه ألا يأتمنه،

(2/278)


ولذلك وجب على من باع سلعة لغيره الإشهاد على البيع، فإن لم يفعل ضمن؛ لأن رب السلعة لم يرض بائتمانه؛ وكذلك كل ما فيه حق لغائب، الإشهاد فيه واجب. قال الله- عز وجل- في الزانيين {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . فأمر بالإشهاد لما يتعلق بذلك من حق غيره، ومن ذلك اللعان لا يكون إلا بمحضر جماعة من الناس، لانقطاع نسب الولد وغير ذلك من الأحكام.

فصل وكذلك الإشهاد على عقد النكاح ليس بواجب على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإنما يجب الإشهاد عند الدخول لنفي التهمة والظنة عن نفسه، ومعنى قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل» . أي لا يكون وطء النكاح إلا باجتماع هذه الأشياء؛ لأن النكاح حقيقة إنما يقع على الوطء، وإنما سمي العقد نكاحا؛ لأن النكاح الذي هو الوطء يكون به؛ فسمي باسم ما قرب منه؛ ولا يصح أن يحمل الحديث على العقد؛ لأنه قد ذكر فيه الصداق وذلك ما لا يفتقر إليه العقد بإجماع؛ لأن القرآن قد جوز نكاح التفويض.

فصل وأما الإشهاد في الرجعة فاختلف فيه في المذهب، حكى ابن القصار في كتابه أن الإشهاد على الرجعة مستحب وليس بواجب، وحكى إسماعيل القاضي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإشهاد على الرجعة واجب؛ لرفع الدعاوى وتحصين الفروج والأنساب، وحكى عبد الحق عن بعض شيوخه القرويين أن الإشهاد على الرجعة واجب بخلاف الطلاق والبيع، وذكر الفرق في ذلك بين الرجعة والبيع أن الله قد قال في البيع: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] فدل

(2/279)


ذلك على أن الإشهاد في البيع غير واجب، وسكت عن الفرق بين الرجعة والطلاق - ولا فرق بينهما؛ لأن الله- تعالى- قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] في أول سورة الطلاق عقيب ذكره الطلاق والإمساك بالرجعة والمفارقة بانقضاء العدة، فوجب أن يرجع ذلك إلى الجميع رجوعا واحدا؛ إما وجوبا وإما ندبا، وقد قال ابن بكير: معنى ذلك أن يشهد ذوي عدل على مراجعتها إن راجعها، وعند انقضاء عدتها إن لم يراجعها- أنه قد طلقها، وأن عدتها قد انقضت- خوفا من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق، أو تموت هي فيدعي الزوج مثل ذلك، قال: وينبغي إن طلق طلاقا بائنا أن يشهد حين الطلاق أنها قد بانت منه خشية ما ذكرنا؛ لأن معنى البائن هي التي قد انقضت عدتها، فيلزم على قياس قوله أن يلزم الإشهاد في الطلاق الرجعي حين الطلاق مخافة الموت، فتدعي الميراث وتزعم أن عدتها لم تنقض.

فصل فإذا قلنا إنه واجب فمعنى ذلك أنه يكون بتركه آثما لتضييع الفروج وما يتعلق بذلك من غير أن يكون ذلك شرطا في صحة الطلاق والرجعة.

فصل وأما الفصل الثاني- وهو القيام بالشهادة - فإن الله تبارك وتعالى أمر به فقال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وقال: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] وقال: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وذلك ينقسم على وجهين:

(2/280)


أحدهما: أن يدعى ليشهد على الشهادة ويستحفظ إياها.
والثاني: أن يدعى ليشهد بما علمه- استحفظه إياه أو لم يستحفظه.

فصل فأما الوجه الأول وهو أن يدعى ليشهد ويستحفظ الشهادة فإن ذلك واجب وفرض على الجملة، يحمله بعض الناس عن بعض كالجهاد والصلاة على الجنائز وما أشبه ذلك، فإذا كان الرجل في موضع ليس فيه من يحمل ذلك عنه تعين عليه الفرض في خاصته، والدليل على ذلك؛ أن الله تبارك وتعالى أمر بالقيام بالشهادة فقال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] ، فإذا قيم بها فقد امتثل الأمر وسقط الفرض، إذ لا معنى لقيام من قام بها بعد ذلك.
وأما الوجه الثاني- وهو أن يدعى ليشهد بما علمه واستحفظ إياه فإن ذلك واجب عليه؛ لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] . وقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وقوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] .

فصل فمن كانت عنده شهادة فلا يحل له أن يكتمها ويلزمه إذا دعي إليها أن يقوم بها، وأما إن لم يدع إلى القيام بها، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها» . وهذا ينقسم

(2/281)


على وجهين:
أحدهما: أن يكون حقا لله تعالى.
والثاني: أن يكون حقا لآدمي، فأما إن كان حقا لله عز وجل، فإنه ينقسم على قسمين:
قسم لا يستدام فيه التحريم، وقسم يستدام فيه التحريم؛ فأما ما لا يستدام فيه التحريم- كالزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك، فلا يضر الشاهد ترك إخباره بالشهادة؛ لأن ذلك ستر ستره عليه؛ والأصل في ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لهزال: «يا هزال هلا سترته بردائك» . وإن علم الإمام بذلك، فقد قال ابن القاسم في المجموعة: يكتمونه الشهادة ولا يشهدوا في ذلك إلا في تجريح إن شهد على أحدث وأما ما يستدام فيه التحريم كالعتق والطلاق والأحباس والمساجد والقناطير، وما أشبه ذلك، فيلزمه أن يخبر بشهادته ويقوم بها غيره، فإن لم يخبر بشهادته سقطت شهادته؛ لأن سكوته على ذلك جرحة فيه؛ فإن هو قام بالشهادة، فاختلف هل تقبل شهادته؟ ذهب ابن القاسم إلى أنه لا تجوز شهادته إذا كان هو القائم بها.
وذهب مطرف وابن الماجشون وأصبغ إلى أن شهادتهم جائزة- وإن كانوا هم القائمين بها؛ فإن قام غيره بالشهادة، سقط عنه الفرض وكان قيامه بذلك استحبابا؛ لأن فيه عونا على إقامة الحق؛ وإن لم يقم بالشهادة سواه، تعين عليه القيام بها؛ وأما الضرب الآخر: وهو أن يكون حقا لآدمي، فيلزمه أن يخبر بشهادته صاحب الحق، فإن لم يفعل فروى عيسى عن ابن القاسم أن شهادته تبطل.
وذهب سحنون إلى أنها لا تبطل، وقد وقع في المبسوطة لأشهب ما ظاهره أن شهادته لا تبطل بالسكوت وترك الإخبار في حقوق العباد ولا في حق الله تعالى- وهو بعيد، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه واجب على كل من دعي إلى شهادة أن يجيب

(2/282)


سواء دعي إلى أن يستحفظ الشهادة أو يؤدي ما حفظ، لقول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وليس ذلك بصحيح؛ لأن الشاهد لا يصح أن يسمي هذا إلا بعد أن يكون عند علم بالشهادة؛ وأما قبل أن يعلم فليس بشاهد، ولا يدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]- وهذا بين- والحمد لله.

[فصل في صفة الشاهد الذي تقبل شهادته]
اعلم أن للشاهد في شهادته حالين: حال تحمل الشهادة، وحال أدائها. فأما حال تحملها فليس من شرط الشاهد فيها إلا أن يكون على صفة واحدة وهي الضبط والميز- صغيرا كان أو كبيرا، حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا عدلا كان أو فاسقا.
وأما حال أدائها، فمن شرط جواز شهادة الشاهد فيها أن تجتمع فيه خمسة أوصاف: متى عري عن واحد منها لم تجز شهادته، وهي: البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والعدالة.

فصل وإنما شرطنا في ذلك البلوغ؛ لأن الشاهد مأمور بأداء الشهادة والقيام بها، منهي عن كتمانها؛ والأمر والنهي لا يتوجه إلا على المكلفين، ومن لم يبلغ فليس بمكلف ومن جهة المعنى أن الشاهد يجب أن يكون ممن يخاف ويتحرج من الإثم فيشهد بالحق ويتوقى الباطل؛ والصغير لا يلحقه إثم ولا يتوقى عقوبة؛ لأن القلم مرتفع عنه، فوجب ألا تجاز شهادته، وهذا ما لا اختلاف فيه إلا ما أجيز من

(2/283)


شهادة الصبيان في الجراح والقتل - على اختلاف بينهم في ذلك ما لم يتفرقوا، أو لم يغيبوا على ما نذكر في موضعه- إن شاء الله.

فصل وإنما شرطنا في ذلك العقل؛ لأن عدمه معنى ينافي التكليف كالصغير، وإنما شرطنا في ذلك الحرية، خلافا لمن أجاز شهادة العبد لغير سيده؛ لأن ظاهر قول الله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] . وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . يدل ألا مدخل في ذلك للعبيد لأن مثل هذا اللفظ إنما يختص بالأحرار، ولا يدخل تحته العبيد إلا بدليل؛ ألا ترى أن الله تبارك وتعالى قال: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ، فلم يدخل في ذلك العبيد؛ إذ لو دخلوا فهب ذلك لكان قوله: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ، لا فائدة فيه.
ومن الدليل أيضا على أن العبيد لا مدخل لهم في الشهادة: أن الله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] ، والعبد لا يجوز إقراره على نفسه، فلما لم تجز شهادته على نفسه لم تجز على غيره، وقال تبارك وتعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، والعبد ملكه بيد سيده لا يجوز له أن يشهد إلا بإذن سيده؛ فخرج ممن خوطب بالشهادة؛ ألا ترى أن العبد لما لم يجز أن يغزو إلا بإذن سيده، لم يكن مخاطبا بالجهاد، ولم يكن له في الفيء نصيب؛ ولأن الرق نقص يمنع الميراث، فنافى الشهادة كالكفر.

فصل وإنما شرطنا في ذلك الإسلام؛ خلافا لمن أجاز شهادة الكافر في الوصية

(2/284)


في السفر- تعلقا بقول الله عز وجل: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] ؛ لأن الله قال: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، والإسلام شرط في صحة العدالة والرضا، وإنما شرطنا في ذلك العدالة لقول الله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وقد اختلف في حد العدالة والرضا الذي تجوز به شهادة الشاهد اختلافا كثيرا، وأحسن ما قيل في ذلك- عندي أنه الشاهد الذي يجتنب الكبائر ويتوقى الصغائر- على أنه لا صغيرة على الإطلاق؛ لأن كل ما عصى الله به فهو كبيرة، وإنما يقال لها صغائر بإضافتها إلى الكبائر.

فصل ومن شرط جواز شهادة الشاهد، أيضا: أن يكون من أهل اليقظة والتحرز؛ لأنه إن كان من أهل الغفلة والبله لم يؤمن عليه التميل من أهل التحيل، فيشهد بالباطل، واختلف هل من شرطه أن يكون مالكا لأمر نفسه، فروى أشهب عن مالك أن شهادة المولى عليه جائزة- إن كان عدلا، وهي رواية ابن عبد الحكم أيضا عنه. وقال أشهب: لا تجوز شهادته- وإن كان مثله لو طلب ماله أعطيه، واختار ذلك محمد بن المواز قال؛ "ولا تجوز شهادة البكر في المال حتى تعنس وإن كانت من أهل العدل ".

[فصل والشاهد ينقسم على ثلاثة أقسام]
شاهد معروف بالعدالة.
وشاهد معروف بالجرحة.
وشاهد مجهول الحال لا يعرف بعدالة ولا جرحة.
فأما الشاهد المعروف بالعدالة، فتجوز شهادته ويحكم للطالب بها بعد

(2/285)


الإعذار إلى المطلوب فيها؛ وأما الشاهد المعروف بالجرحة فلا تجوز شهادته إلا أن تثبت توبته من الجرحة التي علم بها، وسواء علم القاضي بجرحته أو ثبت عليه عنده.
وأما الشاهد المجهول الحال، فيتوقف في شهادته حتى يسأل عنها، ولا يحمل على جرحة ولا عدالة، ومن أهل العلم من رأى أنه محمول على العدالة حتى يعلم جرحته على ظاهر قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلود في حد أو مجرب عليه شهادة زور - وهو قول الحسن، ومذهب الليث بن سعد، فعلى قول هؤلاء لا يحتاج إلى التزكية، وإنما يقول القاضي للمشهود عليه: دونك فجرح إن كان عندك ما تدفع به شهادة من شهد عليك، وأجاز ابن حبيب شهادة المجهول الحال على التوسم فيما يقع بين المسافرين في السفر للضرورة إلى ذلك، قياسا على إجازة شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح.
من أصحابنا المتأخرين من أجاز شهادة المجهول الحال في اليسير جدا من المال، وهذا كله استحسان؛ والقياس ألا تجوز شهادة أحد حتى تعرف عدالته، لقول الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقد اتفقوا في الحدود، والقصاص على أن الشهادة لا تجوز في ذلك إلا بعد المعرفة بعدالة الشاهد، وهذا يقضي على ما اختلفوا فيه- إن شاء الله.

[فصل في مراتب الشهود في الشهادات على مذهب مالك]
وأما مراتب الشهود في الشهادات، فإنها إحدى عشرة مرتبة: فأولها الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة، ثم الشاهد المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، ثم الشاهد المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، ثم الشاهد المعروف بالعدالة إذا قذف قبل أن يحد، ثم الشاهد الذي يتوسم فيه العدالة، ثم الشاهد الذي لا يتوسم فيه العدالة ولا الجرحة، ثم الشاهد

(2/286)


الذي يتوسم فيه الجرحة، ثم الشاهد الذي ثبتت عليه جرحة قديمة أو يعلمها الحاكم فيه، ثم الشاهد المقيم على الجرحة المشهور بها، ثم شاهد الزور.

فصل فأما الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة، فتجوز شهادته في كل شيء وتزكيته وتجريحه، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به من ذلك كله إذا أبهمه، ولا يقبل فيه التجريح إلا بالعداوة، وقد قيل: إن التجريح لا يقبل فيه أصلا لا بعداوة ولا بغيرها، وكذلك الشاهد المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك، وأما الشاهد المعروف بالعدالة العالم بما تصح به الشهادة، فتجوز شهادته إلا في ستة مواضع على اختلاف في بعضها، وهي: التزكية، وشهادته لأخيه ولمولاه، ولصديقه الملاطف، ولشريكه في غير التجارة، وإذا زاد في شهادته أو نقص منها؛ ويقبل فيه التجريح بالعداوة وغيرها، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد فيه إذا أبهم ذلك.
وكذلك الشاهد المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك؛ وأما الشاهد المعروف بالعدالة إذا قذف قبل أن يحد، فاختلف في إجازة شهادته: لم يجزها ابن الماجشون وأصبغ - وهو مذهب الشافعي، وأجازها ابن القاسم - وهو المشهور في المذهب.
وأما الشاهد الذي تتوسم فيه العدالة، فتجوز شهادته دون تزكية- فيما يقع بين المسافرين في السفر من المعاملات على مذهب ابن حبيب، ولا تجوز فيما سوى ذلك دون تزكية.
وأما الشاهد الذي لا تتوسم فيه العدالة ولا الجرحة فلا تجوز شهادته في موضع من المواضع دون تزكية؛ إلا أن شهادته تكون شبهة في بعض المواضع، وعند بعض العلماء فتوجب اليمين وتوجب القسامة، وتوجب الحميل وتوقيف الشيء المدعى فيه؛ وأما الشاهد الذي تتوسم فيه الجرحة فلا تجوز شهادته دون تزكية، ولا تكون شبهة توجب حكما، وأما الشاهد الذي تثبت عليه جرحة قديمة أو

(2/287)


يعلمها الحاكم به فلا تجوز شهادته دون تزكية، ولا تقبل فيه التزكية على الإطلاق، وإنما تقبل ممن علم جرحته إذا شهد على توبته منها ونزوعه عنها؛ والمحدود في القذف بمنزلته على مذهب مالك؛ لأن تزكيته لا تجوز على الإطلاق، وإنما تجوز بمعرفة تزيده في الخير؛ وأما الشاهد القيم على الجرحة المشهور بها، فلا تجوز شهادته، ولا تقبل فيه التزكية- وإن زكى؛ وإنما تصح تزكيته فيما يستقبل إذا تاب؛ وأما شاهد الزور، فلا تجوز شهادته أبدا، وإن تاب وحسنت حاله؛ وروى أبو زيد عن ابن القاسم أن شهادته تجوز إذا تاب وعرفت توبته بتزيد حاله في الصلاح؛ قال: ولا أعلمه إلا قول مالك؛ فقيل: إن ذلك اختلاف من القول، وقيل: معنى رواية أبي زيد إذا أتى تائبا مبتهلا مقرا على نفسه بشهادة الزور- قبل أن يظهر عليه وهو الأظهر - والله أعلم.

فصل فإن حدثت الجرحة بالشاهد بعد أداء الشهادة لم تجز شهادته فيما يستقبل، وبطلت في هذه، وقد قيل- وهو قول ابن الماجشون: إنها لا تبطل في هذه إذا كانت الجرحة شيئا ظاهرا كالجراح، والقتل، وما أشبه ذلك؛ وأما التهمة الحادثة بعد أداء الشهادة، فلا تبطل الشهادة كالرجل يتزوج المرأة بعد أن يشهد لها، أو يقع بينه وبين الرجل خصومة بعد أن يشهد عليه.

فصل وأما التهمة الحاصلة في بعض الشهادة، فإنها تبطل جملة الشهادة على المشهور المعلوم في المذهب، مثل أن يشهد رجل أن له ولابنه أو لرجل أجنبي على فلان ألف درهم من معاملة أو سلف أو ما أشبه ذلك؛ وقد وقع في المدونة وغيرها في شهادة الشاهد يشهده أن رجلا أوصى له ولغيره بوصية مال اختلاف

(2/288)


كثير، يفتقر تحصيله إلى تفصيل وتقسيم، وذلك أنها مسألة تنقسم على قسمين كل قسم منها لا يخلو من وجهين: أحد القسمين أن يكون الموصي أشهد على وصية مكتوبة قد أوصى فيها للشاهد بوصية، والقسم الثاني: أن يكون أشهد على وصيته لفظا بغير كتاب، فيقول: لفلان كذا، ولفلان كذا، ولفلان كذا، لأحد الشهود؛ فأما القسم الأول: - وهو أن يشهد الموصي على وصية مكتوبة وقد أوصى فيها للشاهد بوصية فلا يخلو أن يكون ما سمى للشاهد فيها يسيرا أو كثيرا، فإن كان يسيرا، ففي ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أن شهادة الموصى له لا تجوز لنفسه ولا لغيره؛ لأنه يتهم في اليسير كما يتهم فيه في غير الوصية، وهي رواية ابن وهب عن مالك في المدونة.
والثاني: أن شهادته تجوز لنفسه ولغيره، فإن كان وحده حلف الموصى لهم مع شهادته أن ما شهد به من الوصية حق، وأخذ هو ماله فيها بشهادته مع أيمانهم؛ لأنه في حين التبع لجملة الوصية، وإن كان معه غيره ممن أوصي له أيضا فيها بيسير، ثبتت الوصية بشهادتهما، وأخذ كل واحد منهما ماله فيها بغير يمين؛ وإن كان الشاهد الذي معه ممن لم يوص له فيها بشيء، ثبتت الوصية أيضا بشهادتهما، وأخذ هو ماله فيها بغير يمين؛ وهذا هو قول ابن القاسم في المدونة، ورواية مطرف عن مالك في الواضحة.
والثالث: أن شهادته تجوز لغيره ولا تجوز لنفسه، فإن كان وحده حلف الموصى لهم مع شهادته واستحقوا وصاياهم ولم يكن له هو شيء، وإن كان معه غيره ممن أوصى له فيها بشيء يسير أيضا، ثبتت الوصية بشهادتهما لمن سواهما

(2/289)


فأخذوا وصاياهم بغير يمين وحلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه فاستحق وصيته؛ وإن كان معه لم يوص له فيها بشيء، ثبتت الوصية بشهادتهما لمن سواه وحلف هو مع شهادة صاحبه فاستحق وصيته، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة.
والرابع: أن شهادته تجوز له ولغيره - إن كان معه شاهد غيره فتثبت الوصية بشهادتهما ويأخذ ماله فيها بغير يمين؛ وكذلك صاحبه أيضا إن كان له فيها شيء يأخذ ماله فيها بغير يمين. وتجوز لغيره ولا تجوز لنفسه إن لم يكن معه شاهد غيره فيحلف غيره مع شهادته ويستحق وصيته ولا يكون له هو شيء؛ وهو قول يحيى بن سعيد في المدونة؛ وإن كان الذي أوصى به للشاهد كثيرا، فلا تجوز شهادته له ولا لغيره في المشهور من الأقوال، وتجوز شهادته لغيره ولا تجوز لنفسه على قياس قول أصبغ في نوازله من كتاب الشهادات في العبدين يشهدان بعد عتقهما أن الذي أعتقهما غصبهما من رجل مع مائة دينار، أن شهادتهما تجوز في المائة، ولا تجوز في غصب رقابهما؛ لأنهما يتهمان أن يريدا إرقاق أنفسهما؛ ولا يجوز لحر أن يرق نفسه؛ إذ يقوم من قوله في هذه المسألة أن الشهادة إذا رد بعضها للتهمة، جاز منها ما لا تهمة فيه- وهو خلاف المشهور المعلوم.
وأما القسم الثاني: وهو أن يشهد الموصي على وصيته لفظا بغير كتاب فيقول: لفلان كذا، ولفلان كذا، ولفلان كذا - لأحد الشهود، فلا يخلو أيضا من أن يكون الذي أوصى به لأحد الشهود كثيرا أو يسيرا، فإن كان يسيرا، فلا تجوز شهادته لنفسه باتفاق، وتجوز لغيره؛ فإن كان وحده حلف الموصى لهم مع شهادته واستحقوا وصاياهم؛ وإن كان معه غيره ممن شهد لنفسه بيسير أيضا، حلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه واستحق وصيته وأخذ من سواهما وصاياهم بشهادتهما دون يمين، وإن كان معه غيره ممن لم يشهد لنفسه بشيء حلف هو

(2/290)


معه واستحق وصيته وأخذ من سواه وصيته بشهادتهما دون يمين، وقد يقال: إنه لا تجوز شهادته لنفسه ولا لغيره - بتأويل ضعيف، وإن كان الذي شهد به لنفسه كثيرا، فلا تجوز شهادته لنفسه باتفاق، وتجوز لغيره على قول مطرف وابن الماجشون، ولا تجوز على ما في سماع أشهب من كتاب الشهادات؛ فإن لم يكن معه غيره على مذهب ابن الماجشون ومطرف، حلف الموصى لهم واستحقوا وصاياهم بأيمانهم مع شهادته وإن كان معه غيره ممن يشهد لنفسه بكثير أيضا، حلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه فاستحق وصيته إن لم تكن شهادة كل واحد منهما لصاحبه في مجلس واحد على مذهبهما في الشهود يشهد بعضهم لبعض أن شهادتهم لا تجوز إن كانت على رجل واحد في مجلس واحد، وأخذ من سواهما وصيته بشهادتهما دون يمين.

فصل فالمشهور في المذهب أن الشهادة إذا رد بعضها للتهمة، ردت كلها؛ وقد قيل: إنه يجوز منها ما لا تهمة فيه على قياس قول أصبغ الذي حكيناه، والمشهور في المذهب أيضا: أن الشهادة إذا رد بعضها للسنة، جاز فيها ما أجازته السنة، وقد قيل: إنها ترد كلها وذلك قائم من المدونة من قوله في شهادة النساء للوصي أن الميت أوصى إليه أن شهادتهن لا تجوز- إن كان فيها عتق وإيضاع النساء، وكذلك المشهور في المذهب أيضا أن الشهادة إذا رد بعضها لانفراد الشاهد بها دون غيره، أنها تجوز فيما يصح فيه شهادة الشاهد الواحد، وتبطل فيما لا يصح إلا بشهادة شاهدين، مثل أن يشهدا لرجل على وصية رجل وفيها عتق ووصايا لقوم، فإن الموصى لهم بالمال يحلفون مع شهادة الشاهد وتكون وصاياهم فيما بعد قيمة العتق، وقد قيل: إن الشهادة كلها مردودة، حكى ذلك المزني عن أشهب

(2/291)


وجميع جلسائه؛ وأما إذا لم يأت الشاهد بالشهادة على وجهها وسقط عن حفظه بعضها، فإنها تسقط كلها بإجماع، وبالله التوفيق.

[فصل في مراتب الشهادات]
فصل
في مراتب الشهادات والشهادات على مراتب أربع، إحداها: شهادة توجب الشيء المشهود به دون يمين، والثاني: شهادة توجب الشيء المشهود به مع اليمين. والثالثة: شهادة لا توجب الشيء المشهود به إلا أنها توجب حكما من الأحكام. والرابعة: شهادة لا توجب شيئا.

فصل فأما الشهادة التي توجب الشيء المشهود به دون يقين فإنها على سبعة أقسام:
أحدها: أربعة شهود في الزنا.
والثاني: شاهدان فيما سوى ذلك.
والثالث: شاهد وامرأتان في الأموال.
والرابع: شهادة امرأتين فيما لا يطلع عليه الرجال من العيوب والاستهلال، وما أشبه ذلك.
والخامس: شهادة السماع فيما جوز أهل العلم فيه شهادة السماع على الإطلاق.
والسادس: شاهد واحد فيما يبتدأ الحكم فيه بالسؤال وفيما كان علما يؤديه. والسابع: شهادة الصبيان فيما أجيزت شهادتهم فيه.

فصل وأما الشهادة التي توجب الشيء المشهود به مع اليمين، فإنها على خمسة أقسام:
أحدها: شاهد عدل وامرأتان عدلتان في الأموال.

(2/292)


والثاني: شاهد غير عدل تجب القسامة به على رواية أشهب عن مالك.
والثالث: ما يقوم مقام الشاهد من الرهن وإرخاء الستر ونكول المدعى عليه ومعرفة العفاص والوكاء واليد مع مجرد الدعوى، أو مع تكافؤ البينتين وما أشبه ذلك.
والرابع: الشهادة بغالب الظن فيما لا سبيل فيه إلى القطع.
والخامس: الشهادة على السماع في الولاء على مذهب ابن القاسم.

فصل وأما الشهادة التي توجب حكما ولا توجب الحق، فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: شهادة الشهود غير العدول في استحقاق الشيء المعين فإنها توجب توقيفه عند أصبغ.
والثاني: شهادة شاهدين أو شاهد وامرأتان أنه سرق له مثل ما يدعي أو شاهدين إذا جرحا- على اختلاف بينهم في ذلك.
والثالث: شاهد عدل وامرأتان على الطلاق والعتق، فإنها توجب اليمين عند جميعهم، أو على الخلطة، فإنها توجب اليمين عند بعضهم، أو على النكاح، فإنها تسقط الحد أو على دعوى المعروف، فإنها توجب اليمين على المدعى عليه عند من لا يرى القضاء باليمين مع الشاهد، وإذا نكل المدعي عن اليمين مع شاهده.

(2/293)