المقدمات
الممهدات [كتاب حريم
الآبار]
قال الله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا
فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] {وَالنَّخْلَ
بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] {رِزْقًا لِلْعِبَادِ
وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11] . وقال:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي
الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18] . وسئل
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن تفسير هذه الآية فقيل له: أهو الخريف فيما
بلغك؟ فقال: لا والله، بل هذا في الخريف والشتاء وفي كل شيء ينزل الله من
السماء ماء إذا شاء، ثم هو على ذهاب به لقادر، فجميع مياه الأرض من ماء
السماء أنزله الله إلى الأرض وجعله فيها ثابتا لا يزول، وهو على إزالته
قادر؛ وقال عز وجل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا
فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} [الفرقان: 50] يريد المطر، ويروى
أن في الدنيا أربعة أنهار من الجنة، وهي: النيل، والفرات، وشيحان، وجيحان.
فصل فمياه الأرض تختلف باختلاف مواضعها، ويختلف الحكم فيها لاختلافها؛
ويختلف أهل العلم في بعض وجوهها على ما سنبينه ونفصله- إن شاء الله، ولا
قوة
(2/295)
إلا بالله؛ والأصل في ذلك كله «قول رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سيل مهزور ومذينب: "يمسك
الأعلى إلى الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل» ، وقوله - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «لا يمنع نقع بئر، ولا يمنع رهو ماء» ، وقوله: «لا يمنع فضل
الماء ليمنع به الكلأ» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا
ضرر ولا ضرار» وقوله: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» .
فصل فأما مهزور ومذينب: فواديان معروفان من أودية المدينة يسيلان بالمطر
يتنافس فيهما أهل المدينة، فقضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
يمسك الأعلى إلى الكعبين، ثم يرسل على الأسفل؛ وهذا الحكم في كل ماء غير
متملك يجري على قوم إلى قوم دونهم أن من دخل الماء أرضه أولا فهو أحق
بالسقي به حتى يبلغ الماء في أرضه إلى الكعبين، ثم اختلف إذا بلغ الماء إلى
الكعبين: هل يرسل جميع الماء إلى الأسفل، أو لا يرسل إليه إلا ما زاد على
الكعبين؟ فقال مطرف وابن الماجشون، وابن وهب: يرسل على الأسفل ما زاد على
الكعبين، وقال ابن القاسم: بل يرسل جميع الماء ولا يحبس منه شيئا- والأول
أظهر، وروى زياد عن مالك أن معنى الحديث أن يجري الأول الذي هو أقرب إلى
الماء من الماء في ساقيته إلى حائطه بقدر ما يكون الماء في الساقية إلى حد
كعبيه حتى يروى حائطه، ثم يفعل الذي يليه كذلك ما بقي من الماء شيء. قال:
وهذه السنة فيهما وفيما يشبههما مما
(2/296)
لا حق فيه لأحد بعينه - أن الأول أحق
بالتبدئة، ثم الذي يليه، إلى آخرهم رجلا؛ فيحتمل أن يكون معنى رواية زياد
هذه عن مالك إذا كان ماء الوادي كثيرا فوق ما يتأتى به السقي لواحد، فلا
يكون على هذا التأويل رواية زياد مخالفة لما تقدم، والأظهر أن ذلك اختلاف
من القول، وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب البيان في رسم القسمة من سماع
عيسى من كتاب السداد والأنهار.
فصل وأما نقع البئر وهو الماء المجتمع فيها قبل السقي، وقيل: هو فضل مائها،
وقيل: الموضع الذي يلقى فيه ما يكنس منها، وقيل: مخرج مسيل مائها وهو الماء
المجتمع أيضا؛ قال الله عز وجل: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:
24] . واختلف أهل العلم في تأويل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا يمنع نقع بئر ولا يمنع رهو ماء» . فحمله جماعة من أهل
العلم على عمومه، فقالوا: لا يحل بيع الماء ولا منعه بحال- كان من بئر، أو
غدير، أو عين، في أرض متملكة، أو غير متملكة، غير أنه إن كان متملكا كان
أحق بمقدار حاجته منه، وهو قول يحيى بن يحيى في العتبية: أربع لا أرى أن
يمنعن: الماء، والنار، والحطب، والكلأ. وقال بعضهم: تأويل ذلك في مثل البئر
تكون بين الشريكين يسقي هذا يوما، وهذا يوما أو أقل، أو أكثر، فيسقي أحدهما
يومه فيروى زرعه أو نخله في بعض يومه، فيستغني عن الماء- بقية يومه، فليس
له أن يمنع شريكه من السقي في بقية ذلك اليوم؛ إذ لا
(2/297)
منفعة له في منعه ولا يضره تركه؛ وقال
بعضهم: إنما تأويل ذلك في الذي يزرع على مائه فتنهار بئره- ولجاره فضل ماء
أنه ليس لجاره أن يمنعه فضل مائه إلى أن يصلح بئره؛ والتأويلان قريبا
المعنى، والله أعلم.
وأما نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن منع فضل الماء ليمنع
به الكلأ، فإنما هو في بئر الماشية التي تحتفر في البراري والمهامه؛ لأن
المواشي لا ترعى إلا حيث تجد المياه، فإذا منعت من الماء، كان منعا لها عن
الكلأ.
[فصل المياه تنقسم على قسمين]
فصل فالمياه تنقسم على قسمين:
أحدهما: أن تكون في أرض ممتلكة.
والثاني: أن تكون في أرض غير ممتلكة.
فأما ما كان منها في أرض ممتلكة، فسواء كانت مستنبطة مثل بئر يحفرها أو عين
يستخرجها، أو مواجل يتخذها، أو غير مستنبطة، مثل عين في أرضه لم يستخرجها
أو غدير وما أشبه ذلك؛ فهو أحق به ويحل له بيعه ومنع الناس منه إلا بثمن،
إلا أن يرد عليه قوم لا ثمن معهم، ويخاف عليهم الهلاك- إن منعهم فحق عليه
أن لا يمنعهم، فإن منعهم، كان لهم مجاهدته، هذا قول ابن القاسم في المدونة؛
لأنه لم يحمل نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن منع نقع البئر
على عمومه، بل تأوله على ما تقدم، إلا أنه يستحب له ألا يمنع الشرب من
العين أو الغدير تكون في أرضه من أحد من الناس من غير حكم يحكم به عليه،
وله في واجب الحكم أن يمنع ماءه إذا شاء ويبيحه إذا شاء، واختلف في الرجل
يكون له زرع قد زرعه على بئره
(2/298)
فانهارت بئره- ولجاره فضل ماء، فقيل: إنه
يقضى له بفضل ماء بئر جاره قيل: بثمن وقيل بغير ثمن؛ فمن حمل الحديث على
عمومه، أو تأوله في هذا المعنى، قال: بغير ثمن، ومن تأول في الشريكين في
الماء قال: لا يقضى عليه إلا بالثمن؛ والقولان لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛
وأما ما كان منها في أرض غير متملكة، فلا يخلو من أن تكون مستنبطة أو غير
مستنبطة؛ فأما ما كان منها مستنبطا مثل البئر يحفرها في الصحاري والبراري
لماشيته أو المواجل، فهو أولى به حتى يروي ماشيته؛ ثم يشترك الناس في
الفضل، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنع
فضل الماء ليمنع به الكلأ» . وهذه البئر لا تباع ولا تورث على وجه الملك،
إلا أن الورثة ينزلون منزلة موروثهم في التبدئة بالشرب؛ وإن أوصى بثلث ماله
لرجل، فلا يبدؤون بالشرب ولا ينزلون منزلة الموصي في ذلك، هذه رواية أصبغ
عن ابن القاسم في العتبية.
فصل فإن تشاح أهل البئر في التبدئة، فقد قال ابن الماجشون إن كانت لهم سنة
من تقديم ذي المال الكثير أو قوم على قوم وكبير على صغير، حملوا عليها،
وإلا استهموا، وهذا- عندي إذا استوى تعددهم من حافرها، وأما إن كان بعضهم
أقرب إليه، فهو أحق بالتبدئة- قلت ماشيته أو كثرت، ولا حظ فيها لزوجة ولا
زوج بالزوجية وهما كالأجنبي إذا لم يكونا من ذلك البطن؛ والبئر والماجل
والجب في ذلك سواء عند مالك، خلاف قول المغيرة في أن له أن يمنع فضله ماء
جب الماشية، ووجه قوله أن الجب يتكلف فيه نفقة كثيرة وليس بمعين كالبئر
التي إذا نزف منها شيء عاد فيه مثله، فلا يحمل أمره على أنه أراد به الصدقة
إلا ببيان، وهو في بئر الماشية يحفرها في المهامه، - محمول على أنه إنما
أراد به الصدقة؛ فإن ادعى أنه لم يرد الصدقة، وأنه أراد أن يبيع ماءها لم
يصدق، ومنع من ذلك
(2/299)
بالحكم؛ ولو أشهد عند حفره إياها أنه إنما
يحفرها لنفسه، لوجب ألا يمنع من بيع مائها، وأن يستحقها ملكا بالإحياء على
حكم إحياء الموات؛ قال في المدونة: أكره بيع ماء بئر الماشية، وقال في
المجموعة لا يجوز ذلك؛ فقيل إنه لا اختلاف من القول، والصحيح أن ذلك إنما
يعود إلى الفرق بين أن يحفرها على وجه الصدقة، أو على غير وجه الصدقة-
والله أعلم.
فصل ووجه التبدئة في الشرب في بئر الماشية إذا اجتمع أهل البئر والمارة
وسائر الناس بمواشيهم والماء يقوم بهم: أن يبدأ أولا أهل الماء فيأخذوا
لأنفسهم حتى يرووا، ثم المارة حتى يرووا، ثم دواب أهل الماء حتى يرووا، ثم
دواب المارة حتى يرووا، ثم مواشي أهل الماء حتى يرووا، ثم الفضل لسائر
مواشي الناس. وبدأ أشهب دواب المسافرين قبل دواب أهل الماء.
فصل فأما إن لم يكن في الماء فضل وتبدئة أحدهم يجهد الآخر فإنه يبدأ
بأنفسهم ودوابهم من كان الجهد عليه أكثر بتبدئة صاحبه، فإن استووا في الجهد
تساووا، هذا مذهب أشهب، وعلى ما ذهب إليه ابن لبابة أنهم إذا استووا في
الجهد، فأهل الماء أحق بالتبدئة لأنفسهم ودوابهم؛ وأما إن قل الماء جرا أو
خيف على بعضهم بتبدئة بعض- الهلاك فإنه يبدأ أهل الماء فيأخذون لأنفسهم ما
يذهب عنهم الخوف فإن فضل فضل أخذ المسافرون لأنفسهم بقدر ما يذهب الخوف
عنهم؛ فإن فضل فضل، أخذ أهل الماء لدوابهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم؛ فإن
(2/300)
فضل فضل أخذ المسافرون لدوابهم بقدر ما
يذهب الخوف عنهم، ولا اختلاف - عندي في هذا الوجه؛ هذا الذي يتحصل عندي من
قول أشهب وابن لبابة.
فصل وأما ما كان منها غير مستنبطة مثل الأنهار والعيون والغدر، فهي لجماعة
المسلمين يشتركون في المنفعة بها فيما يحتاجون إليه من الصيد والمرور
بقواربهم لحوائجهم ومنافعهم؛ ومن كان يلي النهر من جهتيه بأرضه فله أن ينشئ
عليها رحى ويكون أحق بها؛ وأما إن كانت الضفتان لرجلين فليس لأحدهما أن
يعمل رحى في جهته وينفذ سده إلى برية صاحبه إلا بإذنه، فإن اجتمعا على عمل
الرحى فاشتركا فيها، وإلا اقتسما الماء- فأخذ كل واحد منهما نصفه فعمل فيه
رحى- إن قدر على ذلك.
فصل وذلك بخلاف الصيد ليس لمن على النهر من جانبيه أن يختص بالصيد فيما
يوازي أرضه دون جماعة الناس - لو عمل في ذلك الموضع مصائد للحوت بالقصب
والخشب وما أشبه ذلك مما يعرفه أهل الاصطياد بدءوا بالاصطياد فيها؛ فإذا
نالوا حاجتهم، خلوا بين الناس وبينها يصطادون فيها، وبهذا قال مطرف وابن
الماجشون في الواضحة؛ وذلك عندي بعد أن يصير إليهم فيما صادوا بها قدر ما
أنفقوا فيها؛ واختلف في الصيد في الغدر التي تكون في ملك الرجل؛ فقال ابن
القاسم: ليس لصاحب الأرض أن يمنع أحدا من الصيد فيها،
(2/301)
وقال مطرف وابن الماجشون وسحنون: له أن
يمنع الناس من الصيد فيها؛ وروي عن أشهب التفرقة في ذلك بين أن تكون
الحيتان تولدت فيها من الماء أو يكون طرح هو فيها حيتانا تولدت منها؛
واختلف أيضا في الخشب التي يمر بها في الأنهار فلا يقدرون على الجواز بها
إلا بخرق السداد هل لهم أن يخرقوا السداد ويجوزوا بخشبهم، أم ليس لهم ذلك
على قولين؛ ففي سماع حسين بن عاصم من كتاب السداد والأنهار من العتبية؛ أن
ذلك لهم؛ وروى مثله سحنون عن ابن القاسم في غير العتبية، وقال محمد بن
إبراهيم بن دينار المدني؛ وكتب إليه من الأندلس عن الخشب التي تقطع بالمغرب
- عندنا- فتطرح بالوادي، فربما مرت بأصحاب السداد فيمنعونهم من خرق السداد
وهم يصلحونه- كما كان؛ قال إن كان خرقهم إياه يضر بأصحاب السد لم أر أن
يخرقوا شيئا- وإن كان لا يضر بهم- وهو يصلحونه. لا يخاف عليه حالة من أجل
ما خرق صاحب الخشب بعد إصلاحهم إياه، فأرى ألا يمنعوا من خرق ما مروا به-
على ما ذكرت لك، وبالله التوفيق.
(2/302)
|